مقدمة (1)
مقدمة (2)
مقدمات تمهيدية
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
انتشار الإسلام
الخلفاء الراشدون
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
دولة بني أمية
بنو العباس
الدولة الأموية في الأندلس
الدولة الفاطمية
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
الدولة الإسلامية
مناصب الدولة الإسلامية
الخلافة
مبايعة الخلفاء
علامات الخلافة
شارات الخلافة
ولاية الأعمال
الوزارة وما يتبعها
الجند وتوابعه
ديوان الجند
بيت المال
البريد
القضاء
ديوان الإنشاء
الحجابة
النقابة
مشيخة الطرق الصوفية
مقدمة (1)
مقدمة (2)
مقدمات تمهيدية
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
انتشار الإسلام
الخلفاء الراشدون
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
دولة بني أمية
بنو العباس
الدولة الأموية في الأندلس
الدولة الفاطمية
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
الدولة الإسلامية
مناصب الدولة الإسلامية
الخلافة
مبايعة الخلفاء
علامات الخلافة
شارات الخلافة
ولاية الأعمال
الوزارة وما يتبعها
الجند وتوابعه
ديوان الجند
بيت المال
البريد
القضاء
ديوان الإنشاء
الحجابة
النقابة
مشيخة الطرق الصوفية
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة (1)
لا مشاحة في أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث، فيه انتهى التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث، وقد علقنا بدرس هذا التاريخ منذ أعوام، وكنا نغتنم ساعات الفراغ من إنشاء «الهلال» ونعلق ما يبدو لنا من حقائقه على أمل التفرغ لتأليف تاريخ مطول فيه، وقد أعلنا عزمنا على ذلك غير مرة، ولا نزال على هذا العزم بعون الله.
ونظرا لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم - لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم - وما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه في حينه مما يتعلق بهذا التاريخ، وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعا في «الهلال»، لأن مطالعة التاريخ الصرف تثقل على جمهور القراء وخصوصا في بلادنا، والعلم لا يزال عندنا في دور الطفولة، فلا بد لنا من الاحتيال في نشر العلم بيننا بما يرغب الناس في القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية.
وقد صدر من تلك السلسلة إلى الآن ست حلقات تتضمن وصف أهم وقائع التاريخ الإسلامي إلى مقتل ابن الزبير وخلوص الخلافة لعبد الملك بن مروان،
1
وقد آنسنا من جمهور القراء شوقا إلى التوسع في هذا التاريخ واستطلاع كنه التمدن الإسلامي، ورأينا في أفاضل كتابنا تطلعا إلى البحث في هذا التمدن والنظر في علاقته بالتمدن الأوربي الحديث، وكتب إلينا غير واحد من أهل الأدب يسألوننا رأينا في ذلك، فرأينا أن نجعل تتمة السنة العاشرة من الهلال كتابا في هذا الموضوع نبين فيه تاريخ هذا التمدن ونستطرد مع الكلام إلى علاقته بالتمدن الإفرنجي.
وتاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، لا تاريخ حروبها وفتوحها، وخصوصا على ما تعوده مؤرخو العرب في تاريخ الإسلام، فإنهم يسردون الوقائع على علاتها، وقلما يشيرون إلى الأسباب التي تربط تلك الوقائع بعضها ببعض بحيث يرتاح العقل إلى تعليلها والنظر فيها وترسخ في ذهنه حقيقة تلك الأمة، على أننا نظنهم معذورين في ذلك باعتبار ما كانت تدعوهم إليه الحال من تجنب الخوض في أسباب تلك الوقائع، وأكثرها لا ينجو الباحث فيه من الانتصار لأحد الجانبين وهم يتجنبون ذلك، ولعل لهم عذرا آخر.
أما الآن فليس هناك ما يمنعنا من الخوض في هذا العباب، وقد حاول غير واحد من المستشرقين - من الإفرنج وغيرهم - استطلاع كنه ذلك التمدن، فلم يجدوا في كتب القوم ما يشفي غليلا، لتشتت تلك الحقائق وتبعثرها، ولذلك لما نشرنا في العام الماضي عن عزمنا على تأليف هذا الكتاب، كتب إلينا جماعة من هؤلاء الأفاضل يستغربون إقدامنا على ركوب هذا المركب الخشن.
والحق يقال إننا أعلنا هذا العزم ونحن لا نتوقع العثور على ما يزيد على صفحات تتمة السنة العاشرة من مجلة «الهلال» (160 صفحة) فشمرنا عن ساعد الجد وبذلنا جهد المستطاع في مطالعة ما كتبه العرب في الأدب والتاريخ والسياسة وسائر العلوم فيما وفقنا إليه من الكتب المطبوعة والمخطوطة ...
ومن أمثلة ما قرأناه من كتب التاريخ والفتوح والتقاويم مؤلفات البلاذري والمسعودي وابن الأثير وابن خلكان وأبي الفدا وابن خلدون وابن طاطبا والسيوطي والمقري من المؤرخين، وابن خرداذبة والأصطخري وياقوت الحموي من الجغرافيين، ومن كتب الأدب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكشكول، والمستطرف، للإبشيهي، وسراج الملوك للطرطوشي، وغيرها، ومن كتب التفسير والحديث والفقه تفسير الرازي والزمخشري وصحيح البخاري ومشكاة المصابيح والهداية وغيرها.
ومن كتب السياسة والإدارة كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الخراج وصنعة الكتابة لقدامة بن جعفر، والأحكام السلطانية للماوردي والعقد الفريد للملك السعيد، ومقدمة ابن خلدون، وغير ذلك من الكتب في موضوعات أخرى لا يخطر للمطالع أنها تفيد في هذا الموضوع، وقد عثرنا فيها على فوائد جمة، مثل حياة الحيوان للدميري، وعجائب المخلوقات للقزويني، وغيرهما، فضلا عن المعاجم والفهارس مثل كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وكتاب كشف الظنون لحاجي خليفة، وكليات أبي البقاء، وغيرها، وكل ذلك في اللغة العربية ...
ثم طالعنا ما يستطاع الوصول إليه مما ألفه الإفرنج في الإسلام وتاريخه وآدابه في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، مثل كتاب جستاف لوبون الفرنسي في تمدن العرب
2
وكتاب ليبو في تاريخ الدولة الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية
3
ومقالات في المجلة الآسيوية الفرنسية،
4
وكتاب فون كريمر بالألمانية في تاريخ تمدن المشرق،
5
وكتاب مولر الألماني في تاريخ الإسلام في الشرق والغرب،
6
وكتاب ستانلي لين بول الإنجليزي في الدول الإسلامية
7
وكتاب إدوارد جيبون الإنجليزي في اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها
8
وغيرهم.
وقد زاد عدد ما طالعناه من الكتب العربية والإفرنجية على مائتي مجلد ... عدا ما راجعناه من القواميس العامة والموسوعات على اختلاف اللغات والموضوعات، مع ما رسخ في ذهننا من مطالعة تاريخ المشرق بتوالي الأعوام، فوفقنا بعد كل ما تقدم إلى ما يملأ أضعاف الكتاب المطلوب من الأبحاث الفلسفية في تاريخ ذلك التمدن العجيب، من الوجوه السياسية والإدارية والعلمية والأدبية والأخلاقية، فلم نر بدا من تقسيم الموضوع إلى أجزاء نصدر الجزء الأول منها الآن، ثم نصدر ما يليه من الأجزاء تتمة للسنين التالية من الهلال إن شاء الله.
فالجزء الأول، وهو هذا، أساس ما يليه من الأجزاء، وقد صدرناه بمقدمات تمهيدية في العرب والتمدن وحال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة قبيله، والحكومة في الجاهلية وتاريخ الكعبة وقريش إلى ظهور الدعوة الإسلامية وكيفية ظهور هذه الدعوة، وانتشار الإسلام والفتوح الإسلامية إلى قيام الدولة الأموية فالعباسية فالأموية الأندلسية فالفاطمية فغيرها، وقد نظرنا في كل ذلك نظر الناقد، فلم نذكر حادثة إلا أسندناها إلى عللها وأسبابها وبينا ما نتج عنها وذكرنا علاقتها بما بعدها ... وخصوصا فيما ساعد العرب على فتح المملكتين الفارسية والرومية (البيزنطية) مع قلة عددهم وضعف معداتهم، وهو بحث فلسفي لم يستوفه أحد في لغة من اللغات على ما تعلم - إلا ما قد تراه في كتب الباحثين من الإفرنج وأكثره مختصر لا يروي غليلا - ولا يعابون في ذلك والموضوع بعيد عنهم ولا علاقة له بأحوالهم ولا بأديانهم ولا بآدابهم ولا بتاريخهم إلا قليلا - وإنما اللوم علينا نحن أبناء هذا اللسان - وقد سبقنا الإفرنج إلى البحث في تاريخ بلادنا وأمتنا وآدابنا وأخلاقنا.
وعمدنا بعد تلك المقدمات إلى النظر في المملكة الإسلامية في إبان عزها وفي إحصائها، ثم في الدولة الإسلامية وإدارتها وكيف نشأت وتشعبت إلى الوظائف المتعددة كالخلافة وما يتبعها والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم ذكرنا تاريخ كل هذه الإدارات والوظائف وما تفزع منها أو ألحق بها، وقد عانينا المشاق الكبرى في استخراج حقائق تلك التواريخ من كتب القوم، فربما قرأنا المجلد الضخم فلا نستفيد إلا فقرة أو فقرتين، وقد لا تتم الحقيقة الواحة إلا بمطالعة المجلدين أو الثلاثة.
ومن أمثلة ما اتفق لنا من هذا القبيل أننا بعدما كتبنا تاريخ ولاية الأعمال وتاريخ القضاء في الدولة الإسلامية، عمدنا إلى البحث عن رواتب العمال ورواتب القضاة في زمن الخلفاء الراشدين، فوجدنا في فتوح البلدان للبلاذري أن عمر بن الخطاب «بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة وجيوشهم، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، إلخ» لكنه لم يذكر مقدار عطاء أحد منهم، ثم وجدنا في كتاب سراج الملوك للطرطوشي في باب سيرة السلطان في الإنفاق من بيت المال وسيرة العمال قوله «ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى على عمار ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه، وعبد الله بن مسعود مائة درهم كل شهر، إلخ» ولم يذكر منصب عمار ولا منصب ابن مسعود، ولكننا جمعنا بين الروايتين فاستنتجنا منهما أن راتب من يتولى الجيوش والصلاة في عمل من الأعمال، كان على عهد عمر بن الخطاب ستمائة درهم، وراتب القاضي مائة درهم في الشهر، وعلمنا من قرائن أخرى أن الذي يتولى الصلاة والجيوش في أيام عمر هو العامل، ومن قرائن أخرى أن عمارا كان عاملا لعمر على الكوفة، فتحققنا من مجموع ما تقدم أن راتب العامل كان على عهد عمر ستمائة درهم وراتب القاضي مائة درهم - وقس على ذلك.
وسنبحث في الجزء الثاني عن ثروة المملكة الإسلامية وغنى أهلها وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء في مجالسهم وألعابهم واهتمامهم بالعلم والعملاء والشعر والشعراء والدخول عليهم وجلوسهم للناس وقصورهم وبذخهم وركوبهم وضيافتهم وكرمهم والأبنية الإسلامية والمدن الإسلامية إلخ ...
والجزء الثالث يبحث في العلوم والآداب والشعر والصناعة وحالها في الشام والعراق قبل الإسلام، وكيف ارتقى إليها المسلمون وتاريخ ذلك الارتقاء ومقداره.
والجزء الرابع يبحث في الآداب الاجتماعية في تلك العصور الزاهرة على ما يقتضيه المقام.
9
وسنختم المقام ببيان نسبة التمدن الإفرنجي الحديث إلى التمدن الإسلامي، ويكون الكلام في ذلك جليا واضحا بعد تفصيل عوامل هذا التمدن في الأجزاء السابقة.
10
فترى مما تقدم أن الموضوع شاق ووعر، فضلا عن حداثته في عالم التأليف مع قصورنا في هذا الشأن، وفي ذلك تمهيد للعذر على ما قد يشوب هذا الكتاب من النقص، ونتقدم إلى أهل الفضل أن يؤازرونا بملاحظاتهم وآرائهم للانتفاع بها فيما سيصدر من الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
مقدمة (2)
ظهر هذا الكتاب منذ بضع عشرة سنة، فتناوله الأدباء والعلماء بالتقريظ والانتقاد في الصحف العربية وغيرها، وجاءتنا كتب أهل العلم من أقطار العالم الإسلامي ينشطوننا ويستحثوننا، وفيهم من جاهر صريحا أنه لم يكن يظن تأليف مثل هذا الكتاب ممكنا، لقلة المآخذ المساعدة على ذلك، فزادنا تنشيطهم ثباتا على هذا العمل حتى ظهر الكتاب في أجزائه الخمسة.
وكان له وقع خاص عند أدباء اللغات الأخرى، فأخذوا في نقله كله أو بعضه إلى ألسنتهم، فنقل إلى أهم اللغات الشرقية - نعني الفارسية والأوردية والتركية، ظهر مطبوعا فيها كلها - ونقل إلى أهم لغات أوربا - نعني الإنجليزية والفرنسية - وقد ظهر جزؤه الرابع في الأولى وسيظهر جزؤه الأول في الثانية، وتضاعف الإقبال على الطبعة العربية حتى نفذت نسخ هذا الجزء منذ بضعة أعوام، ونحن نتحين الفرص لإعادة طبعه، فلم نتمكن من ذلك إلا الآن.
وما برحنا منذ صدور الطبعة الأولى ونحن نجمع ما يمر بنا من الفوائد التي يحسن إدخالها في هذا الكتاب عند إعادة طبعه، فاجتمع لدينا من ذلك شيء كثير أضفناه إلى هذه الطبعة، ونظرنا فيما وصل إلينا من انتقادات المنتقدين أو ملاحظات الملاحظين مما نشر في الصحف أو الكتب أو جاءنا في الكتب الخصوصية، وتدبرناها كلها بإخلاص وروية فأصلحنا ما صح عندنا وأغفلنا الباقي - وهو الأكثر - وإنما توهم المنتقدون خطأه، لأنهم نظروا فيه من وجه غير الذي نظرنا منه نحن، أو أننا اطلعنا عليه في مصادر لم يطلعوا عليها، فاكتفينا في هذه الحال يذكر المصدر الذي عولنا عليه في ذيل الصفحة.
فجاءت هذه الطبعة أكبر من الأولى وأوفر مادة وأحسن ترتيبا وأكثر صورا وأشكالا، وفي ما أضفناه له من الصور أو الخرائط ما يزيد البحث إيضاحا، فعسى أن يقع عملنا هذا موقع الاستحسان، وحسبنا أننا قمنا ببعض الواجب في سبيل آداب هذا اللسان.
مقدمات تمهيدية
البحث في تمدن الأمة يتناول النظر فيما بلغت إليه من سعة الملك والعظمة والثروة ووصف ما رافق تمدنها من أسباب الحضارة وثمارها، ويدخل في ذلك تاريخ العلم والأدب والصناعة ولوازمها، كالمدارس والمكاتب والجمعيات، وبسط حال الدولة ومناصبها وما انتهت إليه من الرخاء، وما هو مقدار تأثير ذلك في هيئتها الاجتماعية، وذلك يستلزم وصف عادات الأمة وآدابها الاجتماعية ومناحيها السياسية وإسناد ذلك إلى أسبابه وبواعثه.
غير أن النظر في هذا التمدن على هذه الصورة، لا يكون واضحا وافيا إلا إذا تقدمه البحث عن حال تلك الأمة في بداوتها، وكيف تدرجت إلى الحضارة وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك، والبحث المشار إليه ضروري خصوصا في تاريخ التمدن الإسلامي، لأن فيه عوامل خاصة به لا وجود لها في تمدن الأمم الأخرى.
وبناء على ذلك لم نر بدا من تصدير هذا الكتاب بمقدمات تمهيدية، نبسط فيها حال العرب قبل الإسلام ونسبتهم إلى التمدن وما تقدم الدعوة الإسلامية من أحوال تلك الأمة ... وكيف كانت جزيرة العرب عند ظهور الدعوة، وكيف كانت حال الروم والفرس يومئذ ... وما الذي ساعد هؤلاء العرب على فتح تينك المملكتين مع قلة عددهم وضعف معداتهم ... وكيف نشأت الدولة الإسلامية وارتقت من حالها الدينية في أيام الراشدين إلى حالها السياسية في أيام الأمويين فالعباسيين فالفاطميين فغيرهم.
فإذا فرغنا من ذلك، عمدنا إلى الكلام في سعة المملكة وتاريخ إداراتها ومناصبها وغير ذلك.
فنبدأ بوصف حال العرب قبل الإسلام. (1) العرب والتمدن
زعم بعض الكتاب من الإفرنج أن العرب لا فضل لهم في تمدنهم الإسلامي، لأنهم أنشأوه على أنقاض التمدنين البيزنطي والفارسي، فالتمدن الإسلامي عندهم عبارة عن مزيج من ذينك التمدنين، مع بعض التعديل، وأن العرب من فطرتهم بعيدون عن الحضارة، لأنهم لم ينشؤوا تمدنا من عند أنفسهم في عصر من العصور الجاهلية ولا الإسلامية، وعندنا أن العرب أكثر الأمم استعدادا للحضارة وسياسة الملك، لا يقلون في ذلك عن سواهم من الأمم التي تمدنت قديما أو حديثا وإليك البيان. (1-1) قدماء العرب
المشهور عند المؤرخين أن العرب يقسمون إلى قسمين كبيرين العرب البائدة كعاد وثمود، والعرب الباقية، وأن العرب الباقية يقسمون إلى القحطانية سكان بلاد اليمن وما جاورها، وهم ينتسبون إلى قحطان أو يقطان بن عامر وينتهي بأرفخشاد إلى سام، والإسماعيلية أو العدنانية وهم سكان الحجاز ونجد وما جاورهما من أواسط جزيرة العرب، وينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل من امرأته هاجر، ويسمون أيضا مضرية ومعدية لمثل ذلك السبب.
وقد بينا في كتابنا «العرب قبل الإسلام» ما كان للعرب من الدول القديمة فيما بين النهرين قبل الميلاد ببضعة وعشرين قرنا ... نعني دولة حمورابي واضع أقدم الشرائع الإنسانية التي وصلت إلينا، وقد أتينا من هناك بالأدلة التي ترجح كون دولته عربية، وبينا أن تلك الأمة كان لها تمدن عظيم وآداب راقية، وكانت للمرأة فيها منزلة وحرية، حتى تقلدت المناصب السياسية والقلمية
1
وتفرع من الحمورابيين بعد ذهاب دولتهم دول العمالقة المختلفة، ومن فروعهم عاد وثمود والأنباط وعرب تدمر وغيرها.
ويلي الحمورابيين عرب اليمن وهم القحطانية، وقد تمدنوا قبل العرب الإسماعيلية، لأن بلادهم أقرب إلى الخصب والرخاء من بلاد هؤلاء، فنشأت منهم دول قديمة عاصرت الفراعنة وملوك بابل وأشور، وقد ظهروا بعد الحمورابيين بعدة قرون، ذكرنا منهم الدول المعينية والسبئية والحميرية، أصحاب مأرب وصنعاء وغيرهما.
أما العرب الإسماعيلية وهم أهل الحجاز ونجد فأكثرهم أهل البادية، وقد ظهر منهم دول قبل الميلاد وبعده، أشهرها دول القبائل صاحبة الوقائع التي جرت بينهم قبيل الإسلام والتي تعرف بأيام العرب.
ثم إن العرب ليس في أرومتهم ما يمنع استعدادهم للحضارة، لأنهم إخوان الأشوريين والكلدانيين والفينيقيين ولهم استعدادهم وأهليتهم ... فالذين أقاموا منهم في بلاد مثل بلاد ما بين النهرين أدهشوا العالم بمدنيتهم، والمقيمون في جزيرة أكثر بقاعها جرداء لا أنهر فيها ولا جداول، وإنما يستقون من مياه المطر، قضوا قرونا في البداوة ... فلما أتيحت لهم الإقامة في البلاد الخصبة بعد الإسلام، لم يكن تمدنهم فيها يقصر عن تمدن أولئك.
حمورابي ملك بابل واقفا بين يدي إله الشمس.
فالتمدن الإسلامي ليس أول عهد العرب بالحضارة فقد كان المعينيون والسبئيون والحميريون واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، لتوسط بلاد اليمن بين الممالك المتمدنة في ذلك الحين فكانت تجارات الهند تحمل في البحر الهندي إلى بلاد اليمن وحضرموت، فيحملها أهل اليمن إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب، وكذلك كان الإسماعيليون ينقلون التجارة من اليمن ومواني بحر العرب إلى بلاد الشام.
زينوبيا (الزباء) ملكة تدمر.
وساعد العرب على التوسع في وسائل التجارة - فضلا عن توسط بلادهم - أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الأمم المتمدنة في ذلك الحين، لأن اللغات السامية كانت يومئذ لا تزال متقاربة لفظا ومعنى، فالعربي والكلداني والأشوري والعبراني والحبشي والفينيقي كانوا يتفاهمون بلا واسطة، لقرب عهد تلك اللغات بالتشعب بما يشبه حال اللغات العامية العربية المتشعبة من اللغة الفصحى الآن، فكان العربي من حمير أو مضر إذا جاء العراق لا يحتاج في مخاطبة الكلداني أو الأشوري إلى ترجمان، وكذلك إذا يمم فينيقية أو الحبشة فإنه يفهم لسان أهلهما كما يفهم الشامي لسان أهل مصر اليوم، ويؤيد ذلك ما جاء في التوراة عن إبراهيم الخليل فإنه نزح من بلاد الكلدان في نحو القرن العشرين قبل الميلاد واجتاز سوريا وفينيقية وبلاد العرب وخالط أهلها ولم يفتقر في مخاطبتهم إلى مترجم، وكذلك بنو إسرائيل في تيههم حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فإنهم قضوا أربعين سنة في أعالي جزيرة العرب ولم يحتاجوا إلى مترجم بينهم وبين أهلها.
والمسافر في بلاد العرب اليوم يجد أكثرها رمالا قاحلة، لكنه لو نقب تحت تلك الرمال في بعض المواضع، لوقف على آثار القصور وغيرها من بقايا المدنية، روى مؤرخو العرب البائدة عما خلفه العاديون من الأبنية الفخمة هناك ما نعده من الخرافات، لخروجه عن المألوف عندنا، مثل حديثهم عن مدينة إرم ذات العماد التي زعموا «أن شداد بن عاد بناها في الأحقاف في بقعة مساحتها عشرة فراسخ في عشرة، فجعل جدرانها من الجزء اليماني وغشاها بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وبنى داخل المدينة مائة ألف قصر على عمد من الزبرجد واليواقيت، طول كل عمود مائة ذراع، وأجرى في وسطها أنهارا وعمل فيها جداول إلى تلك القصور، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت، إلى غير ذلك مما يفوق طور الإمكان، لكنه يشف عن حقيقة مهما قيل في تحقيرها، فإنها تدل على أن بعض أبنية العرب البائدة كانت مرصعة في بعض جدرانها أو أساطينها بالحجارة الكريمة، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه البذخ والترف، ولا يكون ذلك إلا في إبان المدنية. (1-2) عرب اليمن
أما عرب اليمن القحطانية، فقد تمدنوا تمدنا لا تزال آثاره مطمورة تحت الرمال في حضرموت ومهرة واليمن، وأشهر دولهم عند العرب حمير وسبأ وكهلان، وتاريخ هذه الدول أقرب عهدا من عاد وثمود، وقد اكتشف البحاثون بعض آثارهم، وأكثر ما اكتشفوه أنقاض بعض الأبنية في صنعاء وعدن وحضرموت، فاستخرجوا منها ألواحا مكتوبة بالقلم الحميري «المسند» أكثرها دعاء ديني أو نحوه، ولم يتمكنوا من التنقيب عن الدفائن المهمة في داخلية البلاد لمشقة الوصول إليها، ناهيك بما ذكره مؤرخو العرب عن أبهة تلك الدول وكانت قد انحلت قبل الإسلام، لكن أخبارها كانت إلى ذلك العهد لا تزال مألوفة وفيها ما يدل على تمدن قديم لا يقل عن تمدن الأشوريين والمصريين والفينيقيين، فقد أنشأوا المدن وعمروا القصور وغرسوا الحدائق ونحتوا التماثيل وحفروا المناجم ونظموا الجند وفتحوا البلاد ووسعوا التجارة وأتقنوا الزراعة، وقد ذكرهم هيردوتس الرحالة اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد فقال «إن في جنوبي بلاد العرب وحدها البخور والمر والقرفة والدار صيني واللاذن» وعدها من أغنى ممالك العالم في زمانه.
الحروف الحميرية «المسند» وما يقابلها في العربية.
ومن آثار العرب في اليمن، ما لا يزال التاريخ يلهج بذكره ويعد من عجائب الأبنية، نعني بذلك السد المشهور بسد مأرب، بنوه نحو القرن الثاني قبل الميلاد كما بنى محمد علي «باشا» القناطر الخيرية في رأس الدلتا، وكما بنت الحكومة المصرية خزان أسوان.
سد مأرب
وسد مأرب هذا، عبارة عن حائط موصل بين جبلين يحجز الماء الذي يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما، جعلوا فيه شعبا وأقنية وساقوا إليه سبعين واديا تصب مياهها فيه، فمثل هذا السد العظيم يحتاج إلى مهارة في الهندسة وهمة عالية، وهو أقدم خزان للماء ذكره التاريخ، وعرب اليمن أسبق الأمم إلى هذه الهندسة، وكان بناؤه متينا صبر على صدمات الماء وتأثيرات الهواء بضعة قرون، ولما ضعفت الدولة عن تجديده وأحسوا بقرب تهدمه أخذوا في المهاجرة من جواره، في أواسط القرن الثاني للميلاد، وتفرقوا في البلاد، والمشهور عند العرب أن الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، والأوس في المدينة، والأزد في منى وخزاعة بجوار مكة منهم «أي من عرب الجنوب»، ثم انفجر السد وطغت المياه فهاجر من بقي، وذلك ما يعبرون عنه بسيل العرم.
وذكر إسترابون الرحالة اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، أن مأرب كانت في زمانه مدينة عجيبة، سقوف أبنيتها مصفحة بالذهب والعاج والحجارة الكريمة، وفيها الآنية الثمينة المزخرفة مما يبهر العقول، وذلك يهون علينا سماع ما ذكره العرب عن إرم ذات العماد.
وفي اعتقادنا أنهم لو بحثوا في أنقاض مأرب وصنعاء وغيرهما من عواصم ملوك سبأ وحمير لعثروا على أحافير ثمينة تكشف للعالم عن تاريخ جديد كما كشفت آثار وادي النيل عن تاريخ الفراعنة، وكما كشفت آثار وادي الفرات عن أخبار ملوك أشور وبابل، ولا يتأتى ذلك إلا بإرسال البعثات العلمية للحفر والتنقيب. (1-3) الأنباط
ومن الأمم العربية التي تمدنت قبل الإسلام الأنباط أصحاب مدينة بطرا
بين فلسطين وشبه جزيرة سيناء وقد امتدت سيطرتهم على تلك الجزيرة وما جاورها من جزيرة العرب إلى الحجاز، وكان الأنباط واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، وقد عاصروا الرومان في إبان مجدهم وكثيرا ما كانوا عونا لبعض قوادهم في الحروب حتى تأتى لأحدهم وهو الملك الحارث الثالث أن يتولى دمشق برهة قصيرة في القرن الأول للميلاد قبل عهد الغساسنة بأجيال، وقد ضرب النقود باسمه واسم الحاكم الروماني هناك، وما زالت دولة الأنباط سائدة إلى أوائل القرن الثاني للميلاد فدخلت في حوزة الروم وضاعت فيها ولا تزال أنقاضها في بطرا وعليها الكتابة النبطية يقرأونها كما يقرأون الكتابة الحميرية.
2
نقود الحارث الثالث وأسكاوروس.
ومن الأمم العربية التي تمدنت قديما العمالقة، وقد تفرعوا من الحمورابيين على ما نظن وهم مشهورون بشدة البطش، ومنهم الملوك والرعاة الذين فتحوا مصر وتولوها عدة قرون، غير مستعمرات العرب في مشارف الشام والعراق ومن مدنهم بصرى في حوران للغساسنة، والحيرة في العراق للمناذرة ...
أيقال بعد ما تقدم أن العرب بعيدون بفطرتهم عن الحضارة؟ (1-4) التمدنان اليوناني والفارسي
مسكوكات نبطية.
على أننا لا ننكر أن التمدن الإسلامي قام على أنقاض التمدنين اليوناني والفارسي، لكن شأن العرب في ذلك مثل شأن اليونان والرومان والفرس وسائر الدول العظمى ... لأن اليونان اقتبسوا أكثر عوامل تمدنهم من المصريين وزادوا فيها ووسعوها على مقتضى مؤثرات الطبيعة، حتى صار تمدنا معروفا بهم، فأخذ عنهم الرومان وعدلوا فيه تعديلا طفيفا جدا، وكذلك الفرس فإن تمدنهم قام على أنقاض تمدن الأشوريين والبابليين والكلدانيين قبلهم وأخذوا أيضا عن اليونان.
على أن تلك الأمم لم تستطع الظهور في عالم الحضارة إلا بعد أجيال متوالية، أما العرب فلم يمض على نشوء دولتهم قرن حتى ظهر تمدنهم وبانت ثمار عقولهم، وفي القرنين الثاني والثالث الهجري ملأوا الأرض علما وأدبا ومدنية وحضارة.
وزد على ذلك أن الجرمان الذي نشأ منهم فيما بعد عدد من أعظم دول الأرض، قضوا أجيالا متطاولة وهم يغيرون على الدولة الرومانية قبل الإسلام وبعده، وفتحوا كثيرا من مدنها ودخل بعضهم رومية نفسها ولم يكن من ثمار فتوحهم في القرون الأولى غير النهب والقتل، واعتبر ذلك في غزوات الهون في القرن الخامس للميلاد، فإنهم اكتسحوا شمالي الدولة الرومانية وشرقيها، وفتحوا المجر ورومانيا وسائر شرق أوروبا، وأنشأوا هناك دولة عرفت بدولة الخاقانات حكمت مائتي سنة - كما فعل العرب باكتساح سوريا ومصر والعراق - لكن الهون لم ينشؤوا تمدنا ولا خلفوا حضارة مع أنهم أقرب إلى مركز التمدن اليوناني من العرب. وغزا الصقالبة في القرن السادس للميلاد الدولة الرومانية الشرقية حتى طرقوا أبواب القسطنطينية ثم عادوا ولم يتمدنوا. ألا يدل ذلك على أن في العرب استعدادا خاصا للحضارة؟ (2) الحجاز في العصر الجاهلي
لجاهلية العرب عصران الجاهلية الأولى في عهود من ذكرنا من أمم العرب البائدة ومن خلفهم في اليمن وغيرها، والجاهلية الثانية نريد بها حالة جزيرة العرب ولا سيما الحجاز قبل الإسلام بعدة قرون، وللحجاز شأن خاص في ذلك، ففي الجاهلية الثانية تمدن العرب في جنوبي جزيرة العرب وفي شماليها وظل أهل الحجاز في أواسطها على بداوتهم، لجدب أرضها وجفاف تربتها مع بعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضرة، لتوسطها في الصحراء ووعورة المسالك إليها، حتى امتنعت على الفاتحين العظام مثل رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبله، وإيليوس غالوس على عهد يوليوس قيصر في القرن الأول للميلاد، وامتنعت أيضا على ملوك الفرس في إبان دولتهم فآل امتناعهم هذا إلى اطمئنانهم وسكونهم، والإنسان لا ينزع إلى الإصلاح إلا مضطرا، بخطر أو نحوه، ولكنه مفطور على الأثرة والمنافسة، فقامت المنازعات بين العرب أنفسهم وأصبحت مصادر الارتزاق فيها الغزو والنهب ... فشغلهم ذلك عن الالتفات إلى المصادر الأخرى.
على أنهم كانوا على جاهليتهم أهل أنفة وذمام وكرم ووفاء، مما يدل على استعدادهم لمستقبل عظيم.
قضى أهل الحجاز في جاهليتهم الثانية قرونا لا يعلم مقدارها إلا الله وهم في حال البداوة، إلا ما اقتبسوه ممن هاجر إليهم من جالية اليمن جيرانهم، أو من لجأ إلى بلادهم من اليهود، وخصوصا في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده، فرارا من اضطهاد حكامهم الرومانيين ولا سيما بعد خراب بيت المقدس، وربما هاجر إليهم أيضا قوم من الأنباط وهم أهل تمدن كما تقدم، فجعلوا مكة والمدينة والطائف دار هجرتهم بعد استبداد الرومان بهم، أما اليهود فكانوا يقيمون في يثرب على الأكثر. (2-1) مكة
وكان لليهود تأثير عظيم على عرب الحجاز من حيث الآداب الدينية وطقوسها، فاقتبس العرب منهم أمورا كثيرة كانوا يجهلونها، كالحج والذبائح والزواج والطلاق والكهانة والاحتفال بالأعياد ونحوها، وعلموهم بعض أقاصيص التوراة وفصولا من التلمود، ونشروا بينهم كثيرا من تقاليدهم وعاداتهم، وقد يكون بعض تلك الآداب أو الطقوس متسلسلا إليهم مما كان عند أسلافهم في الجاهلية الأولى، فضلا عمن هاجر إلى الحجاز من أهل اليمن وغيرهم من الأمم التي كانت تحيط بجزيرة العرب، كالكلدان والمصريين والأحباش وغيرهم، فأصبح أهل الحجاز بعد ذلك الاختلاط فئتين أهل البادية الباقين على الفطرة وهم العرب الرحل، وأهل المدن المقيمين في مكة والطائف والمدينة وهم الحضر.
مكة ومسجدها وفي وسطه الكعبة في القرن الثامن عشر للميلاد.
وكانت مكة أشهر مدن الحجاز لاتخاذها محجا يؤمه الناس من أقاصي البلاد لزيارة الكعبة، فأصبحت بتوالي الأجيال مركزا للتجارة لمن يتوافد إليها من الحجاج في المواسم كل عام، فطمحت إليها أنظار أهل السلطة من القبائل القوية، وكانت في أوائل أزمانها في حوزة الحجازيين بني إسماعيل وهم سدنة الكعبة أي حجابها، ثم نزح إليها بنو خزاعة من اليمن بعد سيل العرم نحو القرن الثاني للميلاد وتسلطوا عليها، وغلبوا الحجازيين عليها بما تعودوه من السيادة في عهد دولتهم باليمن، وكان الإسماعيليون (أو العدنانيون) يومئذ ضعافا لا يقوون عليهم، ولكن ناموس الاجتماع قضى عليهم كما قضى على سواهم فدارت الدائرة بعد عدة أجيال على بني خزاعة وضعف أمرهم، وقوي أمر العدنانية، فتفرع منهم كنانة وتشعب من كنانة قريش.
قصي بن كلاب والكعبة
ففي نحو القرن الخامس للميلاد كان سيد قريش ورئيسها قصي بن كلاب بن مرة، وكان حكيما عاقلا ذا سياسة ودهاء، فتزوج ابنة ولي الكعبة (وهو من خزاعة)، طمعا في السدانة، فولد له أولاد اعتز بهم، واشتغل بالتجارة حتى صار غنيا، ولما اقترب أجل حميه أوصى بسدانة الكعبة لابنته زوجة قصي فاعتذرت بأنها لا تستطيع فتح الباب وإغلاقه - وهو عمل سادن البيت عندهم - فأوصى بالولاية لابن له اسمه المحترش أو أبو غبشان، وكان ضعيفا فابتاع قصي ذاك المنصب منه بزق من الخمر.
3
فشق ذلك على خزاعة، وحدثت بسببه حروب بينهم وبين قريش ثم تداعوا إلى الصلح والتحكيم، فحكموا بينهم رجلا من قريش فقضى لقصي، وما زالت سدانة الكعبة في قريش حتى جاء الإسلام.
وكانت سدانة الكعبة تستلزم السيادة على مكة، فجمع قصي أهله من قريش في مكة، وحولها فملكوه عليهم، فقسم مكة أرباعا بينهم، فبنوا المساكن وعمرت بهم وأصبح هو سيدهم في كل شيء، وخلفه بعده ابنه عبد مناف، وكان في جملة أولاد عبد مناف ولدان هاشم، وعبد شمس، فلما دنت وفاة عبد مناف أوصى بالسدانة لهما ثم انفرد بها هاشم، وكان لعبد شمس ابن اسمه أمية (جد بني أمية) حسد عمه على الرئاسة، فآل ذلك إلى المنافرة، فكره هاشم أن ينافر ابن أخيه فلم تتركه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشرين سنة، فرضي أمية وجعلا الكاهن الخزاعي حكما بينهما، فاستفتياه فقضى لهاشم بالغلبة فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشرين سنة على حسب الشرط، وكانت تلك أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارثها أعقابهما إلى أيام الإسلام، وتولى الكعبة بعد هاشم ابنة عبد المطلب جد النبي صاحب الشريعة الإسلامية.
وكانت منزلة قريش من سائر قبائل العرب مثل منزلة اللاويين من بني إسرائيل، ولهم مثل امتيازاتهم، وهي تشبه امتيازات الكهنة في النصرانية، وكانوا لا يؤدون إتاوة ولا يتكلفون دفاعا ... يحكمون على الناس ولا يحكم عليهم أحد ... وكانوا يتزوجون من أية قبيلة شاءوا ولا شرط عليهم في ذلك، وكانوا لا يزوجون أحدا إلا اشترطوا عليه أن يكون متحمسا لدينهم - «التحمس التشدد في الدين»
4 - وقد فرضوا فروضا ألزموا الناس باتباعها. (3) حكومة العرب في الجاهلية
ونريد بالعرب خاصة عرب الحجاز وبالأخص قريش، لأن منها ظهر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
والحكومة في الجاهلية متشابهة عند سائر أهل البادية، فإن المناصب التي تعد عند أهل العالم المتمدن بالعشرات، تجتمع عندهم في شخص شيخ القبيلة، فالشيخ هو الملك، والقاضي، وصاحب بيت المال، وقائد الجند وكل شيء، وكانوا يختارون لهذه الرياسة أقواهم عقلا وأكثرهم دهاء وسياسة بلا تواطؤ أو تعمد، وإذا تساوى عدة منهم في القوة والدهاء اختاروا أكبرهم سنا وأوسعهم جاها، وإذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعا، اقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرج سهمه رأسوه، كبيرا كان أو صغيرا.
ذلك كان شأن العرب الرحل أهل الغزو والسطو، أما الحضر وهم أهل مكة فقد كانت السيادة فيهم لسادن الكعبة، ولما أفضت السدانة إلى قريش، صارت السيادة لهم في كل شيء. (3-1) الكعبة والتجارة وقريش
كانت قريش كما قدمنا حضرا أهل تجارة، وتجارتهم قائم أكثرها على الحجاج الذين يردون مكة في المراسم، فكان من مقتضيات مصلحتهم تسهيل طرق القدوم وترغيب الناس في الحج، وفي جملة ما بعث القبائل على زيارة الكعبة، أنه كان لكل قبيلة منها صنم خاص بها، تأتي في المواسم لزيارته والذبح له حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على ثلثمائة صنم وفيها الكبير والصغير، ومنها ما هو على هيئة الآدميين أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات.
سوق عكاظ
وكان على مقربة من الطائف سوق يجتمع إليها الناس في الأشهر الحرم، فينصبون خيامهم بين نخيله، يبيعون ويشترون ويتبادلون، وهي سوق عكاظ المشهورة، وكان للعرب أسواق أخرى في أماكن أخرى، ولكن هذه كان يجتمع فيها أهل البلد المجاور لها ... وأما عكاظ فكان يتوافد إليها العرب من كل جهة، وزادت قريش في بواعث الاجتماع إليها بأنهم جعلوها مسرحا للأدب والشعر، تتسابق فيه القبائل إلى إظهار نوابغها من الشعراء والخطباء، فيتناشدون ويتحاجون ويتفاخرون، ومن كان له أسير سعى في فدائه، وكان لعكاظ في أيام الموسم رجل يولونه الحكومة للفصل في ما قد يقع من الخلاف أو نحوه، وكان الغالب أن يكون ذلك الحاكم من بني تميم، ومتى فرغ الناس من سوق عكاظ، وقفوا في عرفة، ثم يأتون مكة فيقضون مناسك الحج ويرجعون إلى موطنهم.
وكان رجال قريش يرحلون للتجارة رحلتين في العام رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران بضواحي الشام، فكانت مكة وسط عقد التجارة، بين اليمن والشام، وكانت طرق التجارة خطرة، إلا عليهم، لحفظ العرب حرمتهم، لأنهم ولاة الكعبة، وكانوا كثيرا ما يسافرون إلى بلاد فارس أو إلى الشام، فيأتون من الشام بالأنسجة والأطعمة، ويحملون من فارس السكر والشمع وغيرهما.
فالكعبة كانت مصدر رزق أهل مكة، ولولاها لما استطاعوا المقام في ذلك الوادي وهو غير ذي زرع، على أن أسفارهم ومخالطتهم العالم المتمدن في أطراف العراق والشام، جعلتهم أوسع العرب علما، وأكثرهم خبرة ودراية، ونظرا لعلاقة الكعبة بأسباب معائشهم بذلوا العناية في القيام على شؤونها، وسهلوا على الناس القدوم إليها، فأنشأوا فيها أماكن للسقاية وأخرى للطعام وجعلوا ما يجاورها حرما لا يجوز فيه القتال، وتولى بعضهم السقاية وبعضهم الرفادة وبعضهم غير ذلك، وما زالت تلك المناصب تتعدد حتى أصبحت قبيل الإسلام بضعة عشر منصبا، هي عبارة عن مناصب الدولة في ذلك العهد اقتسمتها قريش في بطونها، وأشهرها عشرة أبطن هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، لكل من هذه البطون منصب أو أكثر، وإليك هي:
مناصب القرشيين (1)
السدانة:
وهي الحجابة وصاحبها يحجب الكعبة وبيده مفتاحها ... يفتح بابها للناس ويقفله، ولها المقام الأول عندهم، ومثل هذا المنصب قديم عند اليهود فقد كان عندهم كاهن خاص لحراسة الهيكل يسمونه حافظ الباب، وقد جعل صاحب «العقد الفريد» السدانة والحجابة منصبين. (2)
السقاية:
وصاحبها يتولى سقاء الحجاج لقلة الماء في مكة فينشئ حياضا من الجلد، توضع في فناء الكعبة تنقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب، وما زال ذلك شأنهم حتى حفرت زمزم وكانت السقاية في بني هاشم. (3)
الرفادة:
وهي خرج كانت تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى صاحب الرفادة فيصنع منه طعاما يأكله الفقراء، وأول من أشار بالرفادة قصي المتقدم ذكره، وكانت الرفادة في بني نوفل ثم في بني هاشم. (4)
الراية:
كانت لقريش راية تسمى «العقاب» فكانوا إذا أرادوا الحرب أخرجوها، فإذا اجتمع رأيهم على واحد سلموه إياها وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها وكانت الراية لبني عبد الدار. (5)
القيادة:
وهي إمارة الركب، وصاحبها يسير أمام الركب في خروجهم للقتال أو التجارة، وكانت القيادة في بني أمية، وصاحبها منهم في أول الإسلام أبو سفيان والد معاوية. (6)
الأشناق:
وهي الديات والمغرم وصاحبها إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه فيه، وكانت لتيم. (7)
القبة:
هي قبة كانوا إذا خرجوا إلى حرب ضربوها وجمعوا فيها ما يجهزون الجيش به، أشبه بما يسمى عندنا بالمهمات الحربية. (8)
الأعنة:
وهي أعنة الخيل وصاحب هذا المنصب يتولى خيل قريش ويدبر شؤونها في الحرب. (9)
الندوة:
وهي دار بناها قصي بجانب الكعبة للشورى فيجتمع فيها كبار قريش للمشاورة، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين من عمره، وكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا يعقد لواء الحرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك في بناتهم إذا بلغن الحلم، وكانت دار الندوة في أيدي بني عبد الدار. (10)
المشورة:
وصاحبها يستشار في الأمور الهامة، وكانت في بني أسد، فلم تكن قريش يجتمعون على أمر حتى يعرضوه عليهم. (11)
السفارة:
هي أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم من القبائل حرب، وأرادوا المخابرة بشأن الصلح بعثوا سفيرا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا السفير منافرا ورضوا به، وكان آخر سفراء قريش في الجاهلية عمر بن الخطاب قبل أن يسلم. (12)
الأيسار:
وهي الأزلام التي كانوا يستقسمون بها للاستخارة ونحوها إذا هموا بأمر عام من سفر أو قتال، فكانوا يستقسمون بالأزلام بما يشبه سحب القرعة عندنا، وكان يتولى ذلك رجل من بني جمح. (13)
الحكومة:
وهي عندهم الفصل بين الناس إذا اختلفوا، وتشبه القضاء في الإسلام أو التحكيم. (14)
الأموال المحجرة:
وهي أموال كانوا يسمونها لآلهتهم، وفيها النقد والحلي وربما أشبهت بيت المال، وكانت ولايتها في بني سهم. (15)
العمارة:
ويراد بها أن لا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته.
5
فترى مما تقدم أن بعض هذه المناصب لا أهمية لها على الإطلاق، ولكن يظهر أنهم أكثروها ليرضوا كل بطون قريش، خوفا من التحاسد وإجلالا لقدر الكعبة والمبالغة في تعظيمها.
وترى أيضا أنهم جمعوا بها بين السياسة والدين والإدارة والحرب، ولكنهم اقتسموها فيما بينهم بما يشبه الجمهورية، أو هو نوع من الحكومة لا ترى له شبيها بين الأمم المتمدنة، وربما أشبهت الحكومة الشورية من بعض الوجوه، إلا أن للشورى رئيسا كالملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وليس في هذه شيء من ذلك إلا ما قد يكون لصاحب دار الندوة أو السدانة من الرياسة. (3-2) النهضة العربية قبل الإسلام
إذا تدبرت تاريخ العرب قبل الإسلام على غموضه وإبهامه، تبين لك أمور تدعو إلى الاعتبار وإعمال الفكرة، منها أن العرب على اختلاف القبائل والبطون، قلما نبغ فيهم شاعر أو خطيب أو حكيم أو كاهن في عصورهم الجاهلية الثانية إلا بعد دخولهم في القرن الأول قبل الهجرة، ولا يعترض بضياع أخبار من ظهر منهم قبل ذلك التاريخ، فقد حفظوا أخبار عاد وثمود وصالح وهود قبل ذلك يقرون متطاولة، وذكروا بضعة شعراء ظهروا قبل القرن الأول المذكور، فلو نبغ غيرهم من الشعراء أو الخطباء لما ضاع ذكرهم ضياعا تاما، وأما تاريخهم في جاهليتهم الأولى وهم في بابل أو اليمن، فلم يصلنا منه ما يشفي الغليل.
فتكاثر الشعراء والخطباء والحكماء في القرن الأول قبل الإسلام دفعة واحدة هو ما عبرنا عنه بالنهضة العربية أو الأدبية، على أنها لم تكن تقتصر على الأدب والشعر ولكنها شملت الدين أيضا، فقد كان هناك نهضة دينية اضطربت فيها الأفكار واختلطت الاعتقادات، وأصبح أهل الجاهلية لا يعرفون لمن يصلون ولا إلى من يتوسلون، يذبح أحدهم للصنم ويدعو إلى الله، وفيهم عبدة الحجارة وعبدة النار وعبدة الأصنام، وفيهم الموحدون والمشركون وغير ذلك من أنواع العبادات المتضاربة، وقد ظهر في أثناء ذلك الاضطراب من حرم الخمر ورفض الأصنام، وأصبح الناس يتوقعون الفرج من باب النبوة، وكان ذلك حديث الناس في مجالسهم، فادعى النبوة غير واحد من قبائل مختلفة وهم بعضهم بادعائها مما يدل على تنبه الأذهان إلى أمر الدين والتفكير في عواقب الأعمال.
سبب تلك النهضة
بينا في ما تقدم استعداد العرب العدنانية للنهوض وأهليتهم للتمدن، لما فطروا عليه من صفاء الذهن وسرعة الخاطر، ولكنهم لم يكونوا يستخدمون تلك القوى لاشتغالهم بالغزو وقعودهم عن طلب العلا مع بعدهم عن العالم المتمدن، والإنسان تظهر قواه بالاحتكاك أو الضغط شأن القوى الطبيعية، فالفرد لا يسعى في طلب العلا غالبا إلا إذا عضه الفقر فأحوجه الرزق أو نافسه منافس في أمر يبعث إلى الاستئثارية.
أما الأمم فإنما يدعوها إلى طلب العلا الحروب الخارجية أو الثورات الداخلية، والأولى أكثر تأثيرا لما يرافقها غالبا من الاختلاط بالأمم الأخرى، وفي ذلك من الاحتكاك ما يدعو إلى الاقتباس والمنافسة، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
غزو الحبشة
ومن هذا القبيل ما أصاب العرب في القرنين الأخيرين قبل الإسلام، كان عرب الحجاز قبل الإسلام يدينون بالطاعة لدولة حمير اليمنية، وكانوا يؤدون لها الإتاوة، ثم غزا الأحباش اليمن في القرن الرابع للميلاد وبعده، وتغلبوا على الحميريين فقلت هيبتهم في قلوب العدنانيين.
لكن هؤلاء ظلوا على الطاعة بعامل الاستمرار، فاتفق أن الحميريين شددوا في طلب الإتاوة في سنة جدب وضيق فضاق العدنانيون ذرعا وتحدثوا في الخروج عن الطاعة، وأول من فعل ذلك قبيلة ربيعة في أواخر القرن المذكور واقتدى بها غيرها
6
فكان ذلك من بواعث استنهاض الهمم.
خرطوش بحرف المسند ... فيه أسماء أبرهة وأراحميس وزبيمان من قواد الأحباش في اليمن.
ثم غزا الأحباش الحجاز في أواسط القرن السادس للميلاد، يريدون فتح مكة والاستيلاء على الكعبة، وكانت سدانتها يومئذ إلى عبد المطلب جد النبي فجاء الأحباش بأفيالهم ورجالهم وعدتهم، وأهل مكة لم يتعودوا شيئا من ذلك، لما للكعبة من المنزلة الرفيعة في نفوس القبائل وغيرهم، فلما رأوا الأحباش قادمين شعروا بما يهددهم من الخطر، وأحسوا بافتقارهم إلى الاتحاد لدفع الأجانب عنهم، فدفعوا الأحباش وقد تنبهت أذهانهم وأخذت مواهبهم في الظهور.
ومما يدل على شدة تأثير ذلك الهجوم في نفوسهم أنهم جعلوا يؤرخون به وهو ما يسمونه عام الفيل، وكانوا قبل ذلك يؤرخون بموت الوليد بن المغيرة من مخزوم، أو هشام بن المغيرة،
7
ولم يقتصر تأثير ذلك الاحتكاك على تلك النهضة الأدبية أو الدينية، لكنها أنتجت رجالا نبغوا في السياسة والقيادة والإدارة وكانوا من أهم العوامل تأثيرا في سرعة انتشار الإسلام، كما أنتجت الثورة الفرنسية بونابرت ورجاله.
ومهما يكن من السبب فإن بلاد العرب كانت قبل الإسلام في نهضة أدبية دينية تمهيدا لقبول الدعوة الإسلامية والقيام بنصرتها، ومثل هذه النهضة تتقدم الدعوات الدينية في الغالب، استعدادا لقبولها.
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
فرغنا من المقدمات التمهيدية في حال بلاد العرب قبل الإسلام، فنتقدم بعد ذلك إلى الكلام في نشوء الدولة الإسلامية وكيف تكونت وتطورت، حتى صارت على ما عرفناه منها في أوج التمدن الإسلامي. (1) الدعوة الإسلامية (1-1) نشأة النبي الأولى
تلك كانت حالة العرب في الحجاز لما ظهر النبي صاحب الشريعة الإسلامية ودعا الناس إلى التوحيد وأظهر دعوته سنة 609 للميلاد وعمره أربعون سنة، ولا يتسع المقام لتفصيل سيرته، وإنما نذكر هنا ما يتعلق بالموضوع لبيان الأسباب التي رافقت ظهور الدعوة وساعدت على انتشارها.
ولد صاحب الدعوة الإسلامية وقد مات أبوه، وبعد ست سنوات ماتت أمه فكفله جده عبد المطلب، وكانت له السقاية والرفادة من مناصب الكعبة وكان له مقام رفيع في قريش، لكنه توفي بعد سنتين، فكفله عمه أبو طالب وكان وجيها محترما، فشب محمد في بيته كأحد أولاده، وكان أبو طالب صاحب تجارة مثل سائر قريش، فكان إذا خرج في تجارة اصطحبه في أسفاره، فاشتهر منذ حداثته بالحصافة والذكاء وصدق السريرة حتى لقبوه بالأمين واشتهر في مكة بهذا اللقب، فعرفت بأمره خديجة بنت خويلد وكانت ذات ثروة وتجارة فعهدت إليه في الاتجار بمالها فاتجر وربح فازدادت إعجابا به، فعرضت عليه الزواج بها فتزوجها فاتسعت حالة وأصبح من أهل الرخاء واليسار والكل يحبونه ويحترمونه. (1-2) الدعوة
ولما بلغ الأربعين من عمره مال إلى الخلوة والاعتزال عن الناس فأوى إلى الجبال والشعاب كما يفعل النساك، وأول ما ابتدئ به «الرؤيا الصالحة»، وفي رمضان من تلك السنة (يناير 611 ميلادية) كان معتزلا بنفسه في غار حراء بجبل النور على ثلاثة أميال من مكة،
1
فنزل عليه الوحي وقرأ عليه أول سورة من سور القرآن ودعاه إلى أن يرددها وراءه، فرددها، وأصابه الروع، وأسرع إلى زوجته خديجة وأنبأها بما وقع وقال إن الملك أمره أن يقول «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الآية، فقرأها، وإنه خرج إلى وسط الجبل فسمع صوتا من السماء يناديه «يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل» فذعر وأسرع إلى خديجة فأخبرها، وكان لها ابن عم اسمه ورقة بن نوفل قرأ الكتب ونظر فيها وخالط أهل التوراة والإنجيل وسمع أقوالهم، وكان مشهورا في مكة بسعة العلم في الدين والنبوات، فذهبت إليه وأخبرته بما كان فقال «والذي نفس ورقة بيده، لئن صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه نبي هذه الأمة».
فرجعت خديجة إليه وأخبرته بقول ورقة فاطمأن باله، ولكنه لم ير إظهار دعوته، لعلمه بما سيكون لها من ثقل الوطأة على قريش، لما فيها من تعييب آلهتهم وتحقير أصنامهم، وفي ذهاب تلك الأصنام ذهاب تجارتهم وأموالهم وكل آمالهم، ولم يكن من الجهة الأخرى يتوقع إذا أنبأهم برسالته أنهم يصدقونه فعمد إلى بث دعوته سرا بين أقرب الناس إليه، قضى في ذلك ثلاث سنين فاجتمع حوله نفر قليلون في جملتهم ابن عمه علي بن أبي طالب وكان لا يزال غلاما وأبو بكر الصديق وكان من وجهاء قريش وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم، فهم بدعوة الناس جهارا وبدا بعشيرته الأقربين فكلف ابن عمه عليا أن يصنع لهم طعاما يدعو أهله إليه وفيهم عمومته بنو عبد المطلب وأولادهم وهم نحو أربعين رجلا، فدعاهم إلى بيت أبيه أبي طالب، فلما فرغوا من الطعام هم محمد بالكلام وكان أهله قد سمعوا بدعوته سرا واستخفوا بها، فلما هم بالكلام علموا أنه سيدعوهم إلى ترك الأصنام وعبادة الله فابتدره عمه أبو لهب وكان أشدهم وطأة عليه فأسكته فسكت وتفرقوا ولم يقل شيئا.
لكنه لم يفشل ولا ضعفت عزيمته فأعاد الوليمة ثانية وقد صمم على التصريح بما في ضميره فلما فرغوا من الطعام قال «ما أعلم أن إنسانا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، فقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني في هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟»
2
فظلوا ساكتين وكان سكوتهم استخفافا، فتقدم علي ابن عمه وقال «أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم» فأخذ النبي برقبته وقال «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه» ثم انصرفوا. (1-3) النبي وقريش
على أن استخفافهم هذا لم يقعده عن عزمه ولا أبعده عن قومه، فبدلا من وقوفه عند ذلك الحد، تهيبا وحذرا جاهر بسب الأصنام ونسب أهله وآباءهم إلى الكفر والضلال، فلما علموا بمجاهرته بسب الأصنام أجمعوا على عداوته ومقاومته وتعمدوا أذاه، لكنهم لم يروا سبيلا إلى ذلك وهو في كفالة عمه أبي طالب ... فجاءوا عمه وفيهم أبو سفيان فقالوا له «يا أبا طالب إن ابن أخيك عاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فانهه عنا أو خل بيننا وبينه» فردهم أبو طالب ردا حسنا ووعدهم خيرا.
ثم رأوه لا يزال ماضيا في سب آلهتهم فعادوا إلى أبي طالب وقد اشتد بهم الغيظ وقالوا له «إن لم تنه ابن أخيك وإلا نازلناك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين» فعظم ذلك على أبي طالب وأدرك عاقبة الأمر فلما عادوا من عنده قال لابن أخيه «يا ابن أخي إن قومك قالوا كذا وكذا» فظن أن عمه يخذله فشق عليه ذلك وقال «يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر» وبكى وهم بالانصراف فناداه عمه وقال له «قل ما أحببت، فوالله لا أسلمك أبدا».
وكانت دعوته في أثناء ذلك تذيع على مهل، وقد أسلم جماعة من خيرة الناس كان لهم شأن عظيم في التاريخ الإسلامي منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وحمزة بن عبد المطلب (عمه) وعمر بن الخطاب، وكان لإسلام هذين الأخيرين وقع حسن عند النبي، لأنهما كانا من أهل الوجاهة والقوة.
أما سائر أعمامه وأهله فلما يئسوا من وساطة عمه أبي طالب، رأوا أن يحتالوا في استرضائه بالحسنى، فبعثوا إليه وقد اجتمع كبارهم في ندوة ... فجاء فاستقبلوه بالترحاب وقالوا له «يا محمد إنا قد بعثنا إليك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك».
فقال لهم «ما بي ما تقولون وما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
فلما لم يروا سبيلا إليه جعلوا يعذبون الذين أسلموا وصدقوا دعوته والمسلمون صابرون على ذلك العذاب، حتى إذا اشتد أذى قريش لهم وضاقوا ذرعا عن تحمل ما كانوا يسومونهم من سوء العذاب والإهانة، أشار النبي على الذين ليس لهم عشيرة تحميهم أن يخرجوا من مكة إلى أرض الحبشة، فهاجروا إليها تباعا فبلغ عدد المهاجرين 83 رجلا ما عدا النساء والأولاد، وهي الهجرة الأولى، ولا يخفى ما تقتضيه الأسفار من مكة إلى الحبشة من المشقة، لما في ذلك من ركوب البحر وخصوصا في تلك الأزمان مع ما حملوه معهم من النساء والأطفال، فيدل ذلك على ما كان عليه هؤلاء من الاعتقاد المتين بالإسلام.
ويليق بنا الوقوف هنيهة في هذا المقام لإبداء ما ارتسم في مخيلتنا من أمر هذه الدعوة على أثر مطالعتنا الطويلة في تاريخها فنقول:
هل كان يعتقد صدق رسالته؟
زعم بعض الكتاب من غير المسلمين أن صاحب الشريعة الإسلامية إنما قام بهذه الدعوة، طمعا في السيادة ورغبة في ملاذ الدنيا.
وأما نحن فلا نرى مسوغا لهذا القول وتاريخ الدعوة يدل دلالة صريحة على أنه إنما قام بها عن صدق وإخلاص، فلم يدع الناس إلى الإسلام إلا وهو يعتقد اعتقادا متينا بصحة رسالته وأن الله أرسله لبث تلك الدعوة، ولولا هذا الاعتقاد لم يصبر على ما ناله من الاضطهاد وضروب العذاب، وقد رأيت أنه كان قبل ظهوره بالدعوة موضع احترام أهل مكة كافة، وأهله يحبونه ويكرمونه وهو في عيش هنيء، لما اكتسبه من أسباب اليسار بزواجه بخديجة واتجاره بأموالها، فأصبح بعد ظهوره بالدعوة وقد ناصبه أهل مكة العداء وساموه أنواع العذاب وأهانوه، حتى نقموا على بني هاشم، لأنهم أهله فتعاقدوا أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم وكتبوا بذلك صحيفة أودعوها في جوف الكعبة، فاضطر بنو هاشم أن ينفروا إلى الجبال فأقاموا في الشعب ثلاث سنين لا ينزلون مكة إلا خفية - إلا من جاهرة بعداوته للمسلمين كأبي لهب ونحوه.
ولا يعترض على ما تقدم بأنه لم يثبت إلا لاحتمائه بعمه أبي طالب، لأننا رأيناه بعد وفاة عمه أكثر ثباتا منه في حياته، مع أن الناس أصبحوا أكثر اضطهادا له مما كانوا قبل وفاته، وخصوصا بعد وفاة خديجة وقد ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين، فتتابعت بموتهما المصائب عليه، واستبدت به قريش ولا سيما عمه أبو لهب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط، لأنهم كانوا جيرانه بمنزله، فكانوا يلقون الأقذار في طعامه، ويرمونه بها وقت صلاته.
حتى إذا لم يعد يستطيع صبرا على هذا الضيم لجأ إلى الطائف، لعله يلقى فيها من ينصره ويؤمن بدعوته، فلم يلق إلا الإعراض والأذى، فعاد وقد يئس منهم لكنه لم يرجع عن حرف من دعوته، ولم يكتف أهل الطائف بإعراضهم عنه بل أغروا بعض سفهائهم وعبيدهم أن يسبوه ويصيحوا به ففعلوا حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى الحائط وردوا السفهاء عنه فرجعوا، فأحس عندئذ بما هو فيه من ضيق فشكا أمره إلى الله ، وعاد إلى مكة ولم يغير ذلك شيئا من عزيمته، فلقيه قومه هناك وهم أشد وطأة عليه مما كانوا من قبل.
فاعتبر حاله بعد ذلك الرجوع وقد نبذه الناس قريبهم وبعيدهم مع علمه أنه إذا رجع عن دعوته لقي منهم ترحابا وإكراما كما صرحوا له جهارا، ولكنه لم يكترث لشيء من ذلك ولا أهمه أمر الدنيا.
فلولا اعتقاده المتين بصدق الدعوة التي قام بها وأنه منتدب لهذه الرسالة من الله سبحانه وتعالى لما صبر على ذلك كله. (1-4) أهل المدينة والدعوة
ولما يئس من أهله ومواطنيه جعل يعرض نفسه على القبائل في أيام الحج لعله يلقى من يصغي إليه وأهله يعترضونه ويقفون في سبيله، وخصوصا عمه أبو لهب فإنه كان إذا رآه في جماعة يخاطبهم في شأن الإسلام اعترضه وقال للناس «إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه»، ولكن ذلك لم يقعده من دعوة الناس وما زال يعرض نفسه عليهم في المواسم، حتى بايعه نفر من أهل يثرب كانوا وسيلة لنشر الإسلام في تلك المدينة في برهة قصيرة.
ولعل السبب في سرعة انتشار الإسلام هناك كثرة من في المدينة من اليهود وهم أهل كتاب يعتقدون الوحي ويدركون معنى النبوة، وليس فيهم من يخاف على تجارته إذا بطلت عبادة الأصنام، بل هم يفضلون إبطالها لتسقط مكة وتنهض مدينتهم وخصوصا إذا هاجر إليها صاحب الدعوة نفسه وصارت مركزا للدين الجديد يحج إليها الناس بدلا من حجهم إلى مكة واليهود كما لا يخفى أهل النظر في التجارة وأصحاب فراسة في أبواب الكسب، ناهيك بما كان بين تينك المدينتين من المنافسة والمسابقة والتحاسد، لتباعدهما في الأنساب، لأن أهل مكة من العدنانية وأهل المدينة من القحطانية عرب اليمن، فنشطه أهل يثرب ودعوه إليهم على أن ينصروه، فهاجر إليهم سنة 622 للميلاد، وهاجر معه من بايعه من قبيلته وهم «المهاجرون»، تمييزا لهم عن الفئة الأخرى من الصحابة وهم «الأنصار» أهل يثرب، سموا بذلك، لأنهم نصروا النبي في مدينتهم، وبهذه الهجرة يؤرخ المسلمون وقائعهم إلى الآن، وقد سميت يثرب - عندما عم الإسلام أهلها - بمدينة النبي، تم اختصر إلى المدينة، ولزمها هذا الاسم إلى الآن. •••
ولقي المسلمون في المدينة ترحابا عظيما فاشتد أزرهم وتحولوا إلى محاربة أهل مكة، فجعلوا يناوئونهم في أثناء مرورهم بتجارتهم بين الشام ومكة وفي أماكن أخرى، ووقعت بين الجانبين وقائع كثيرة هي الغزوات المشهورة، أعظمها غزوة بدر الكبرى التي انتصر المسلمون فيها وكانت فاتحة انتصاراتهم في الغزوات الأخرى، حتى أخضعوا جزيرة العرب كلها وفتحوا مكة وأسلم القرشيون كافة، فوجه النبي التفاته إلى العالم الخارجي وخاطب الملوك يدعوهم إلى الإسلام كما سيأتي.
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
(1) الروم
تأسست رومية (روما) سنة 753 قبل الميلاد وقامت معها الدولة الرومانية، وظلت رومية كرسي تلك الدولة عشرة قرون ونصف قرن، وقد فتحت العالم المعمور يومئذ كله، وفي مايو سنة 330 أصبح انقسام الدولة الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي، حقيقة واقعة بعد أن كان مجرد تقسيم إداري منذ سنة 295 ميلادية، ذلك أن قسطنطين اتفق مع زميله ليسينيوس على اقتسام الدولة، وتولى هو القسم الشرقي واتخذ بيزانطيوم عاصمة له، وسماها القسطنطينية، هيأ لها كل مقومات العواصم الرومانية، حتى لقد نقل إليها أعدادا من سكان روما وأعضاء مجلس الشيوخ.
وبعد وفاته سنة 337م اختلف أولاده الثلاثة، ثم انفرد بالأمر أحدهم وهو قسطنطيوس، ولكنه لم يستطع الاستمرار، وصار الأمر إلى واحد منهم توفي سنة 360م، فخلفه يوليان ثم جوفيان سنة 264م، ثم توفي هذا بعد بضعة أشهر، فانتخب الرومان إمبراطورا اسمه فالنتيان، وبعد قليل نصب فالنتيان أخاه فالنس إمبراطورا على رومية، وتم انفصال المملكة الرومانية على أثر ذلك إلى مملكتين إحداهما شرقية عاصمتها القسطنطينية والأخرى غربية عاصمتها رومية، وكانت الأولى أسعد حظا وأطول عمرا فأصبحت القسطنطينية مبعث العلم ومركز السلطنة ومرجع الدين للجزء الشرقي من الدولة الرومانية القديمة.
وكانت حدود الدولة الرومانية الشرقية في القرن الخامس للميلاد غير ثابتة، ولكننا نستطيع القول بصورة عامة أنها كانت تنتهي في الغرب بالبحر الأدرياتي وفي الشرق بضفاف دجلة، وتمتد حدودها الشمالية إلى جنوبي ما يعرف اليوم بروسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وتنتهي في الجنوب إلى بلاد النوبة، وأرقى عصور هذه الدولة بعد قسطنطين الكبير عصر جستنيان (من سنة 527-565م) تولاها 37 سنة، قضى الخمس الأولى منها في محاربة الفرس الساسانية، وانتهت الحرب بمعاهدة سموها «معاهدة الصلح الدائم» لكنها لم تدم، ومن حسن حظ هذا الإمبراطور أنه رزق بقائدين من أشهر قواد العصور الوسطى هما بليزاريوس ونارسيس فتحا له إيطاليا ورفعا أعلامه فوق أسوار روما شمالي إفريقية وغيرها، وكانا عونا له في سائر فتوحه وساعده الأقوى في توسيع نطاق مملكته. (2) الفرس
والعداوة بين الفرس والروم (اليونان) قديمة ربما تجاوزت القرن الخامس قبل الميلاد، وسببها التنازع على السيادة في العالم، لأنهما كانتا أعظم دول الأرض، في تلك العصور، فأرادت كل منهما الاستئثار بالسلطان دون الأخرى، واتصلت تلك العداوة إلى زمن الإسكندر الكبير ثم اتصلت في عصور الرومان إلى أيام الإسلام.
القائد بليزاريوس يقود جنوده في إحدى المعارك ضد الفرس.
وأفضى عرش الفرس في أيام جستنيان المذكور إلى كسرى أنوشروان المشهور بالعادل، فلم تعجبه مصالحة الروم فحمل عليهم بخيله ورجله، ففتح سوريا وأحرق أنطاكية ونهب آسيا الصغرى، فبعث جستنيان إليه بليزاريوس فحاربه ورده على أعقابه، ثم عاد وعادوا وتوالت الحروب بين الدولتين نحو عشرين سنة (من سنة 541 إلى 561م) وقد مل الملكان وشاخا فتوافقا على صلح قضي فيه على جستنيان بجزية سنوية مقدارها 30000 دينار، وظلت حدود المملكتين كما كانت قبل الحرب.
وللإمبراطور جستنيان ذكر مجيد في تاريخ الدولة البيزنطية، بسبب اتساع حدودها على أيامه واستعادتها للكثير مما كانت قبائل الجرمان قد استولت عليه من ولايات الدولة الرومانية، وبسبب ما قام به من أعمال خلدت ذكره على مدى التاريخ، منها اجتهاده في تكوين مجموعات القوانين الرومانية المعروفة وأشهرها المجموعة المعروفة إلى اليوم بمدونة جستنيان التي كانت أساسا لما وضع بعدها من القوانين في أوربا إلى اليوم، وقد أدخل صناعة الحرير إلى أوربا وبنى الكنائس والمعاقل والقصور، وأشهر ما يذكر به كنيسة أيا صوفيا، التي جعلها العثمانيون عند فتح القسطنطينية جامعا لا يزال معروفا بهذا الاسم إلى اليوم.
كنيسة أيا صوفيا التي بناها جستنيان، وهي الآن جامع.
ولكن الدولة المطلقة إنما يكون حظها من السعادة أو الشقاء كما يكون ملكها فإن كان عظيما عظمت أو كان حقيرا حقرت، فلما توفي جستنيان خلفه أناس لا يليقون بالملك فلم تعد تعرف السعادة بعده - خلفه ابن أخيه جستين الثاني ثم طيباريوس ثم الإمبراطور موريس «موريقوس» وقد ضعف أمر الدولة، فأراد هذا الإمبراطور أن يقويها بفتح الشرق فناصب الفرس وحاربهم سبع سنين، وقد توفي كسرى أنوشروان سنة 579، وخلفه ابنه هرمز الرابع، وكان عاتيا فثار عليه رعاياه، فاشتغل بإخماد ثورتهم، والروم يوغلون في بلاده من العراق، والتركمان يسطون عليها من الشمال والشرق حتى كادت تذهب فريسة الفاتحين لو لم يقيض لها الله قائدا شهيرا يعرف ببهرام فحارب العدوين وأنقذ البلاد منهما، فمال الفرس إليه فأنزلوا هرمز وسملوا عينيه وملكوا عليهم ابنه كسرى أبرويز، فلم يقبل بهرام، وأذله ففر أبرويز إلى القسطنطينية واستنجد الإمبراطور موريس، فأنجده بجيش تغلب به على بهرام واستعاد الملك، فعرف أبرويز ذلك الفضل لموريس وما زال على ولاء الروم إلى وفاة موريس.
أما هذا الأخير فقد مات مقتولا سنة 602م وخلفه الإمبراطور فوقاس، وكان فوقاس جلفا جاهلا فأبغضته الرعية والتمسوا من ينقذهم منه، وكان من جملة ولاة الأمور يومئذ وال على إفريقية اسمه هراكليوس «هرقل» فاستنجده أهل القسطنطينية، فأنفذ إليهم عمارة بحرية تحمل جيشا يقوده ابنه، وكان يسمى هرقل أيضا، فقتل فوقاس وتربع في دست الإمبراطورية مكانه سنة 610 وفي أيامه ظهر الإسلام. (3) بين الروم والفرس
ورأى أبرويز بابا لمناوأة الروم فادعى أنه يريد الانتقام من قتلة صديقه موريس فزحف بجنده على سوريا سنة 614م وناصره يهودها على البيزنطيين ففتحها وفتح مصر واستولى على أنطاكية ودمشق وبيت المقدس ومدن أخرى من سوريا وفلسطين، ثم أباح لجنده نهب أورشليم «بيت المقدس» فنهبوها وأحرقوا القبر المقدس وكنيسة القيامة وسلبوا خزائنها وحملوا بطريركها والصليب الحقيقي إلى بلادهم، وواصلوا القتل والنهب في سوريا سنة 616م فكان عدد الذين قتلوا من المسيحيين 90000 نفس، وأرسلوا جندا آخر إلى آسيا الصغرى ففتحوها وكان النصر حليفهم حيثما حلوا حتى كادوا يطأون شواطئ البوسفور.
كل ذلك والإمبراطور هرقل معتزل في قصره وقد انغمس في اللهو والقصف والترف لا يبالي بما يهدد مملكته، وكأنه لما تحقق وقوع الخطر نفض غبار الخمول عن عاتقه وخرج للدفاع، ولم يكن عنده مال ينفقه في التجنيد فاقترض أموال الكنائس على أن يعيدها بعد الحرب مع رباها، وحشد جنده وركب البحر إلى كليكيا في آسيا الصغرى واحتل إيسوس فلقيه الفرس هناك فحاربهم وغلبهم سنة 622م، وفي هذه السنة هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة.
هرقل ملك الروم وحاشيته.
قضى هرقل في محاربة الفرس ثلاث سنين متوالية حتى أوغل في بلادهم واضطر أبرويز أن يسحب جنده للدفاع عن قلب مملكته.
أما هرقل فإنه حاربه مرة أخرى سنة 627م فأجهز على قواته وانكسر الفرس انكسارا عظيما، وبلغت جنود الروم نينوى عاصمة الأشوريين القديمة وهي أول مرة وطئ الروم فيها تلك المدينة، وكان أبرويز قد أصبح شيخا طاعنا في السن فأوصى بالملك لابنه مردز، وكان له ابن آخر اسمه شيروبه حسد أخاه وعمد إلى الكيد له ولأبيه، فاستعان ببعض الناس حتى قبض على من بقي من أولاد أبرويز وهم ثمانية عشر ولدا فقتلهم جميعا بين يدي أبيه وزج أباه في السجن حتى مات.
وبموت كسرى أبرويز انقضى مجد الدولة الساسانية ولم يعش ابنه شيرويه بعده إلا ثمانية أشهر فأصبحت حكومة الفرس فوضى، وادعى الملك تسعة ملوك في أربع سنوات، فساد الفساد وتمكن الاختلال فيها فجاءها المسلمون وهي في تلك الحال.
ناهيك بما كان يهدد الروم في أوربا من هجمات برابرة القوط، وكان هؤلاء في أوائل الإسلام قد استولوا على غربي هنجاريا «المجر»، وزد على ذلك أن الهون كانوا في أثناء ذلك يهددون مملكة الروم من جهة الشرق. (4) الانقسامات الدينية
ولم يكن الاختلال في دولتي الروم والفرس مقصورا على الوجهة السياسية والإدارية، ولكنه كان يتناول الأحوال الاجتماعية والدينية بما تفاقم فيها من الانقسامات المذهبية مما هو مشهور، فقد كان الروم حوالي القرن السادس للميلاد في منتهى التضعضع، لتعدد الفرق وتشعب المذاهب وخصوصا فيما يتعلق بالطبيعة والطبيعتين والمشيئة والمشيئتين، وأكثر اختلافهم على الألفاظ، والجوهر واحد.
فكان الإمبراطور وأهل دولته يقولون إن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، وأما رعيته في مصر والشام فكان أكثرهم يقولون بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وهم اليعاقبة، وفي زمن هرقل سعى البطريرك إثناسيوس بطريرك اليعاقبة في منبج في التوفيق بين الطائفتين، فخاطب الإمبراطور في ذلك وذهب مذهبا متوسطا بين القولين، وهو أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة، فوافقه الإمبراطور واستمهله ريثما يخابر بطريق القسطنطينية بيروس وهو سوري الأصل، وكان إثناسيوس قد اتفق معه على ذلك قبل مخاطبة الإمبراطور، فنشر الإمبراطور بهذا المعتقد منشورا قبله أكثر الأساقفة الشرقيين إلا صفرونيوس بطريق بيت المقدس وبعض الأساقفة، وفي مقدمتهم أسقف عمان وسائر أهل الكنيسة الملكية، فشق ذلك على الإمبراطور فعمل على الانتقام من الذين لم يقبلوا منشوره وفيهم جانب عظيم من الروم، فأصبح الانقسام مزدوجا الإمبراطور وبطارقة القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية حزب يقول بطبيعتين ومشيئتين، واليعاقبة ومنهم الأقباط وأهل حوران وسائر أهل داخلية سوريا ومصر حزب آخر، والنساطرة وهم أهل العراق والجزيرة حزب ثالث، فضلا عن طوائف أخرى غير هذه منهم الخياليون الذين يقولون إن المسيح لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل آخر مكانه، والإكيفاليون القائلون بعدم الخضوع للرؤساء وهم يشبهون الخوارج، ثم إن اليعاقبة أيضا كانوا أقساما مما يطول شرحه.
وكان لهذه الانقسامات تأثير شديد في السياسة لاختلاط السياسة عندهم بالدين، حتى آل ذلك أحيانا إلى خروج أمم بأسرها من حوزة الروم إلى الفرس، كما حصل للأرمن فإنهم لما حرم مجمع القسطنطينية بدعة الطبيعة الواحدة جعل الإمبراطور يشدد النكير على متبعيها، والأرمن منهم، فأفضت بهم الحال إلى تسليم بلادهم إلى الفرس، وكذلك فعل القبط بمصر يوم جاءهم عمرو بن العاص، فقد كانوا عونا له في فتحها للسبب عينه. (5) التناقض بين الروم واليهود
ولا بد من الإشارة هنا إلى ما كان بين اليهود والروم من تباغض قوي بسبب ما جرى عليه أباطرة الدولة الرومانية من اضطهاد اليهود في تلك الأيام، وقد بلغ هذا التباغض حده في أيام هرقل فثار اليهود في أنطاكية وقتلوا بطريقها ومثلوا بجثته تمثيلا قبيحا، فأرسل إليهم هرقل فقتل منهم جمعا غفيرا، وثاروا في صور عاصمة فينيقية وقتلوا واليها، وتآمر يهود صور ويهود فينيقية وفلسطين على أن يدخلوا مدينة صور ليلا ويقتلوا النصارى، فاطلع مطران صور على المكيدة وأخبر الوالي بها فأمر الوالي الحامية والبوابين والحراس بأن يكونوا تلك الليلة على حذر، ولما جن الليل هجم اليهود من خارج السور فردهم الجند على أعقابهم، فرجع اليهود إلى الأديرة والكنائس القائمة بجوار المدينة فهدموها وسلبوا آنيتها، وفعلوا مثل ذلك فيما جاورها من القرى، فعاقبتهم الحكومة بقتل كل يهود صور.
وحدث مثل ذلك في قيسارية فلسطين فأرسل الملك أخاه ثاودورس فقتل من كان فيها من اليهود، فاشتد غيظهم على المملكة في كل أنحائها، وزاد الروم خوفا من اليهود وحذرا منهم أن بعض أهل التنجيم أنبأوا الملك أن رجلا من أهل الختان سيأخذ المملكة منه، ويقول العرب إن المراد بأهل الختان المسلمون، ومما فعله اليهود من الفظائع نكاية في الروم، أنهم اشتروا من الفرس ثمانين ألفا من أسرى النصارى وذبحوهم.
ولم يكن التباغض مقصورا على ما بين اليهود والروم، لكنه كان بينهم وبين النصارى على الإجمال، وكانت حكومات النصارى إذا سنت قانونا خصصت بنودا منه لليهود لمعاملتهم بالاحتقار، كما فعل القوط حكام إسبانيا قبيل زمن الفتوح الإسلامية فقد سموا اليهود أعداء الحكومة القوطية، وكانت المجالس الملية في تلك المملكة قد قررت إلغاء الديانة الإسرائيلية فأمرت الحكومة بمنع اليهود من الاحتفال بأعيادهم، وأجبرتهم على النصرانية وضيقت عليهم تضييقا شديدا حتى اضطروا للتظاهر بالنصرانية وقلوبهم ما زالت يهودية تكاد تنفجر حقدا وكظما على ما نالهم من صنوف العذاب، ولم يكن القوط يجهلون تكتمهم ولذلك لم يكونوا يعاملون المتنصرين منهم معاملة المسيحيين الأصليين، بل حرموهم من كل الحقوق المدنية وحظروا عليهم اقتناء العبيد وتمادوا في إذلالهم حتى منعوهم من القراءة، فهل نستغرب بعد ذلك إذا كان اليهود عونا للعرب المسلمين على حكامهم المسيحيين ...؟ (6) حالة الفرس الداخلية
أما الفرس فقد كانت حالتهم الاجتماعية في غاية الانحطاط قبل الإسلام بمدة طويلة لانشقاق عصاهم بتشعب المذاهب عن ماني ومزدك، ومن غريب دعوى هذا الأخير أن إلهه بعثه ليأمر بشيوع النساء والأموال بين الناس على السواء، لأنهم أخوة أولاد أب واحد، وتبع هذا المذهب قباذ أحد ملوكهم، فجاء بعده من نقضه وأقام غيره وتشعبت الآراء هناك وفسدت الأخلاق، وفيما كان الروم والفرس على ما ذكرناه من الانحلال كان العرب في إبان نهضتهم، وقد اجتمعت كلمتهم واشتد أزرهم بمن كان يهاجر إليهم من رجال الروم والفرس أنفسهم، فرارا من تغالب الأحزاب أو ضعف الحكام.
انتشار الإسلام
يبدأ تاريخ الإسلام بالهجرة، فقد هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة، فرارا مما كان القرشيون يسومونهم إياه من الخسف والإهانة وهم قليلون لا يقوون على دفعهم، وقد رأوا من أهل المدينة مؤازرة ونصرة بما أظهروه من البيعة المعروفة ببيعة العقبة فأمر النبي المسلمين بالهجرة إلى المدينة فلاقاه أصحابه هناك بالترحاب وأنزلوه وأنزلوا الذين هاجروا معه على الرحب والسعة. (1) التعاهد بين المهاجرين والأنصار
وأول عمل باشره بعد نزوله هناك المعاهدة بين أصحابه المسلمين (المهاجرين والأنصار) وبين اليهود من أهل يثرب على الاتحاد والتكاتف في الدفاع عن المصالح العامة، وكتب بين الفريقين كتابا يعترفون فيه أنهم أمة واحدة، وقد أورد ابن هشام نص ذلك الكتاب ثم خص المهاجرين من قريش والأنصار من يثرب بعهود أخرى سموها المؤاخاة، فآخى بين أصحابه المهاجرين والأنصار بعهد وثيق، هذا هو الحجر الأول من أساس الدولة الإسلامية والمسلمون يومئذ بضع عشرات، وفرضت الزكاة والصيام وأقيمت الحدود وفروض الحلال والحرام وغير ذلك من دعائم الإسلام، ثم انضم إلى المسلمين بعض وجهاء المدينة فتأيد الإسلام بهم كما تأيد من قبل بحمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب. (2) الغزوات
فلما فرغوا من ذلك فكروا في ما بينهم وبين أهل مكة من العداء ، فعمدوا إلى مقاتلتهم، لنصرة الإسلام فحدثت الغزوات المشهورة - وهي أول الحروب الإسلامية - بدأت بالغزو والقتال على عادة العرب في جاهليتهم وانتهت بفتح المدن والممالك، وأشهر الغزوات وأهمها غزوة بدر الكبرى، لأن فوز المسلمين فيها قوى عزائمهم ونشطهم على موالاة الغزو. (2-1) غزوة بدر الكبرى
بدر آبار بين مكة والمدينة، تنزل عندها القوافل التجارية المسافرة بين مكة والشام، وكان القرشيون أهل تجارة تسير قوافلهم إلى الشام تحمل إليها البضائع - كما تقدم - فعلم المسلمون في السنة الثانية للهجرة أن قافلة من القرشيين أهل مكة، قادمة من الشام ومعها الأموال يخفرها ثلاثون رجلا يرأسهم أبو سفيان بن حرب كبير أهل مكة يومئذ، فانتدب النبي أصحابه لغزو القافلة وأخذ أموالها، فبلغ أبا سفيان ذلك فعجل بإرسال رسول يطلب النجدة من أهل مكة، فجاءه منهم 950 رجلا فيهم مائة فارس، وخرج المسلمون وهم 313 رجلا منهم 70 من المهاجرين والباقون من الأنصار، ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون جملا، وبلغهم بعد خروجهم من المدينة أن قافلة قريش قاربت آبار بدر، فسبقهم المسلمون إلى المكان وبنوا للنبي عريشا جلس فيه ومعه أبو بكر، وتهيأ أصحابه للحرب.
ثم رأوا قريشا مقبلين وهم نحو ثلاثة أمثالهم، وفيهم نخبة رجال مكة الذين قاوموا الإسلام وأهانوا النبي وفي جملتهم أبو جهل بن هشام، وعلم النبي أن هذه الواقعة حد الفصلين إما أن ينتصر المسلمون ويتأيد الإسلام إذا غلبوهم، وإما أن تعود العائدة عليهم إذا غلبوا، فلما رأى القرشيين قادمين في مثل هذا العدد نظر إلى أصحابه فإذا هم قليلون فقال «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
وباشروا القتال بالمبارزة على جاري العادة، ثم قتل أبو جهل فجاءوا برأسه إلى النبي فسجد وشكر الله، ودارت رحى الحرب فكان النصر للمسلمين، وقد قتل منهم أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من القرشيين سبعون رجلا وفيهم من أشراف بطون قريش كلها، وخصوصا بني أمية وبني مخزوم وبني أسد، وأسر منهم سبعون رجلا فيهم عقبة بن أبي معيط فأمر بقتله، لما كان من أذاه النبي بمكة، وكان أكثر المسلمين جهادا في تلك الواقعة علي بن أبي طالب ابن عم النبي وحمزة بن عبد المطلب عمه، وفر من بقي من القرشيين وفيهم أبو سفيان بن حرب رئيسهم وعمرو بن العاص الذي صار من أكبر قواد الإسلام فيما بعد، ساروا يطلبون مكة وغادروا الأموال والأمتعة فاستولى المسلمون عليها وتنازعوا في تفريقها، ففرقها النبي عليهم بالسواء ولم يأخذ لنفسه شيئا، ثم بعث القرشيون يفتدون أسراهم، فاجتمع من ذلك مال كثير، وقد عاد أهل مكة مخذولين، فانكسرت شوكتهم وعظم أمر المسلمين، ومما زادهم تأييدا أن أبا لهب المشهور بمقاومة الإسلام، لم يخرج يوم بدر من مكة، لكنه أرسل من يحارب عنه على جاري عادتهم في من يتخلف عن الحرب، فلما أخبروه بفشل القرشيين اشتد به الحزن حتى مات بعد بضعة أيام، ولواقعة بدر شأن عظيم في تاريخ الإسلام، لأنها كانت فاتحة الانتصارات الأخرى. (2-2) واقعة أحد
ثم إن القرشيين عادوا بعد هذه الكسرة فاجتمعوا في السنة التالية، وقائدهم أبو سفيان وعددهم ثلاثة آلاف فيهم 700 دارع و200 فرس، وتهيأوا للأخذ بثأر قتلاهم في بدر، وساروا لمهاجمة المدينة ومعهم النساء يضربن الدفوف ويندبن قتلى بدر ويحرضن الناس على مقاتلة المسلمين، وكان في جملة رجال الحملة خالد بن الوليد الذي اشتهر بين قواد المسلمين بعد ذلك، فلما أقبلوا على المدينة تشاور النبي وأصحابه فكان رأيه البقاء في المدينة للمدافعة، ورأى مثل ذلك أيضا رجل من الصحابة اسمه عبد الله بن أبي بن سلول، ولكن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج عليهم، فأطاع النبي الأكثرية وخرج في ألف منهم حتى توسطوا بين المدينة وجبل أحد، وباسم هذا الجبل سميت هذه الواقعة «غزوة أحد»، وكان ابن أبي هذا قد غضب، لأن النبي خالف رأيه وأطاع الآخرين، فلما توسطوا الطريق تقهقر هو وثلث الرجال، وأشاع القرشيون في الجند أن محمدا قتل، ففشل المسلمون ولم يظفروا في هذه الواقعة، وقتل منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي، وكان قتله سببا في زيادة الفشل كما كان إسلامه مؤيدا للإسلام، وبلغت جملة قتلى المسلمين سبعين رجلا، وأصيب النبي نفسه بضربة شجت رأسه ودخل بعض حلق المغفر «الدرع» في الشجة فسال الدم، ومثل القرشيون بقتلى المسلمين تمثيلا شنيعا، فقطعوا الآذان والأنوف حتى إن هندا بنت عتبة امرأة أبي سفيان «وأم معاوية» شقت بطن حمزة وأخرجت كبده ولاكتها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها.
وكانت هذه الواقعة أشد ما أصاب المسلمين إلى ذلك الحين، لكنهم كانوا قد ذاقوا لذة النصر فنسبوا هذا الفشل إلى خيانة عبد الله بن أبي المتقدم ذكره، وعادوا إلى مواصلة الغزو حتى كانت واقعة الخندق. (2-3) واقعة الخندق
وذلك أن قبائل العرب لما رأوا انتصار القرشيين في أحد تحزبوا لأهل مكة وانضموا إليهم، وفيهم قريش وغطفان وسائر قبائل العرب وبنو النضير من اليهود - وكان المسلمون قد أجلوهم عن أماكنهم كما سيأتي فحرضوا قريشا على الحرب - وحملوا على المدينة في بضعة عشر ألفا ونحو أربعمائة فرس وألف بعير، وهم الأحزاب وبهم تعرف الواقعة أيضا، وكان المسلمون لا يزيد عددهم على ثلاثة آلاف، فاضطربوا وخافوا، وقد تعلموا من الواقعة الماضية أن لا يخرجوا من المدينة.
وكان في جملة الصحابة يومئذ رجل من فارس له خبرة بفنون الحرب اسمه سلمان الفارسي، فأشار على النبي بحفر الخندق - وكان العرب لا يعرفون ذلك من قبل - فقال له سلمان «كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، فإن ذلك من مكايد الحرب» فاستحسن النبي ذلك وأمر بالحفر، وكان هو نفسه يشتغل معهم بحمل التراب، ولم يكن عندهم العدد اللازمة فاستعاروا بعضها من بني قريظة، فاحتفروا الخندق حول المدينة في بضعة عشر يوما.
وأقامت الأحزاب حول المدينة وحاصروها والخندق يمنعهم من مهاجمتها، فقضوا بضعة وعشرين يوما لا يقاتلون إلا بالمراماة بالنبال والحصي، وقد هالهم أمر الخندق وعلموا أنها مكيدة جديدة، على أن بعضهم حاول الوثوب بفرسه من فوق الخندق فسقط فيه واندقت عنقه، فزاد الرعب في قلوب الأحزاب، فلما طال بهم الانتظار عمدوا إلى البراز، فخرج أحدهم وطلب البراز فخرج إليه علي بن أبي طالب فغلبه علي، واتفق على أثر ذلك سقوط الأمطار وهبوب الرياح ، فأثرت في خيام الأحزاب وكفأت قدورهم، وأهل المدينة في منازلهم قلما أثرت فيها الأنواء، فتشاءم أولئك وعادوا على أعقابهم، فزال عن المسلمين عار أحد بهذه الهزيمة. (3) الفتوح
كل ما تقدم من الحروب لا شيء من الفتح فيه وإنما هو غزو ومقاتلة، وأما الفتوح الإسلامية فأولها فتح أرض بني النضير وهم يهود، حدث حادث دعا إلى مطالبتهم بالجلاء عن بلادهم فطلب النبي أن يجلوا عنها فحاصرهم ستة أيام «سنة 4ه»، فطلبوا إليه أن يخلي سبيلهم على أن يحملوا معهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فأجابهم إلى ذلك فخرجوا وظل ما بقي من أموالهم فيئا للنبي خاصة يعطي منه من يشاء، وكذلك حصل في قريظة وخيبر، وكان لخيبر حصون كثيرة فتحوها تباعا.
حصن خيبر.
أما القرشيون بعد واقعة الخندق فقد هان عليهم مهادنة المسلمين، فعقدوا معهم صلحا في نحو السنة السادسة للهجرة مفاده «أن من شاء من أهل المدينة أن يقدم مكة للحج أو العمرة أو أن يجتاز بها إلى اليمن أو الطائف فهو آمن، ومن قدم من أهل مكة أو من معهم من أهل الشام والمشرق ومر بالمدينة فهو آمن». (3-1) واقعة مؤتة
فتفرغ المسلمون لنشر الدعوة الإسلامية، وكان لفشل الأحزاب مع كثرة عددهم تأثير شديد على قبائل العرب وعظم الإسلام في نفوسهم، فجعلوا يفدون إلى المدينة لقبول الدعوة من تلقاء أنفسهم، وفي جملة الوافدين رجلان لهما شأن عظيم في تاريخ الإسلام، هما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وكلاهما من أشهر القواد، فاعتز المسلمون بهم واتسعت آمالهم، فأرسل النبي في السنة التالية رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، في جملتها كتاب إلى المقوقس وإلى مصر، وبعث «سنة 8ه» جندا لمحاربة الروم في الشام، فحاربوهم في قرية من قرى البلقاء في حدود الشام مما يلي حوران اسمها مؤتة، وتلك أول حروبهم مع الروم، والعرب لم يجربوا الجنود المنظمة بعد، فلم يفلحوا فعادوا إلى المدينة وقد قتل منهم بضعة من خيرة الصحابة فيهم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب أخو علي.
كتاب النبي إلى المقوقس عثر عليه بعض الفرنسيين سنة 1275ه. (تفصيل ذلك في الهلال صفحة 103 و160 سنة 13).
وحدثت في أثناء ذلك حادثة أفضت إلى نقض الصلح بين المسلمين وقريش، فرأى أبو سفيان أنهم لم يعودوا يقوون على مناوأة المسلمين، فجاء بنفسه إلى المدينة لتجديد العهد، وأدرك المسلمون ضعف عدوهم فلم يغفلوا عن هذه الفرصة، فلما سألهم عن الصلح لم يجيبوه جوابا صريحا عن قبولهم إياه،
1
فلما عاد إلى مكة تجهزوا على عجل لكي يباغتوها قبل أن يتأهب أهلها للدفاع، فساروا حتى أقبلوا عليها وهم عشرة آلاف وفيهم المهاجرون والأنصار وقبائل من العرب المحالفة، وكان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا من مكة يتجسسون، فلقيهم العباس بن عبد المطلب عم النبي، فسأله أبو سفيان عما هنالك، فأخبره العباس بقوة جندهم واعتزاز أمرهم، فقال أبو سفيان «لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيما» فأشار عليه العباس أن يستأمن، فلم ير لنفسه خيرا من ذلك، فجاء معه إلى معسكر المسلمين، فأكرم النبي وفادته ومنع الصحابة من إيذائه، لأنهم كانوا ينوون الإيقاع به، وزاد في تعظيمه حتى جعل كل من يدخل بيته من أهل مكة يوم الفتح آمنا مثل من يدخل المسجد.
مسجد مكة وفي وسطه الكعبة.
فعاد أبو سفيان وأخبر أهل مكة بما كان، فاستضعفوه وخذلوه وشتموه حتى إن امرأته هند بنت عتبة أخذت بشاربيه وقالت «اقتلوا الحميت الدسم الأحمس ... قبحه الله من طليعة قوم» فلم يبال.
ثم دخل المسلمون مكة وفتحوها، وسار النبي توا إلى الكعبة فكسر الأصنام التي كانت في المسجد حولها وفي جوفها، ونزع ما كان على جدرانها من صور الملائكة وغيرها، وكان ذلك آخر عهد مكة بالوثنية، وتحولت الكعبة من ذلك الحين إلى مسجد يعبد فيه الله، وأسلم أهل مكة كافة وفيهم أبو سفيان وأولاده، وفي جملتهم معاوية
2
بن أبي سفيان مؤسس دولة بني أمية. (3-2) المؤلفة قلوبهم وغزو الطائف
وسمى النبي أشراف مكة الذين أسلموا بعد الفتح «المؤلفة» أو «المؤلفة قلوبهم»، إشارة إلى تأليف قلوبهم لتتألف بهم قلوب أقوامهم، تعزيزا للإسلام، وفي السيرة الحلبية أن من المؤلفة قلوبهم من تألفهم النبي ليسلموا مثل صفوان بن أمية، ومن تألفهم لدفع شرهم، وكان يتألفهم جميعا بالعطاء فيميزهم به عن سائر الصحابة كما سترى، وفي ذلك من حسن السياسة والحلم وسعة الصدر ما فيه.
وبعد فتح مكة بعث النبي سراياه إلى ما حولها يدعو الناس إلى الإسلام، ثم غزا حنينا والطائف، وشتان بن مجيئه إلى الطائف الآن ومجيئه في أول دعوته، لقد جاءهم يومئذ مستنصرا وجاءهم الآن فاتحا، فغلبهم وغنم غنائم بلغ مقدارها 24000 من الإبل و40000 من الغنم و4000 أوقية من الفضة، فلما عمد إلى تفريقها في أصحابه بدأ بالمؤلفة قلوبهم فأعطى أبا سفيان مائة بعير وأعطى ابنه معاوية مائة بعير وابنه يزيد مائة بعير وأعطاهم الفضة، فكان جملة ما أخذه أبو سفيان وأولاده ثلاثمائة بعير ومائة وعشرين أوقية من الفضة، فقال أبو سفيان «بأبي أنت وأمي يا رسول الله لأنت كريم في الحرب وفي السلم». (3-3) عتب المهاجرين والأنصار
وفعل النبي نحو ذلك في سائر الأشراف مثل الحارث بن هشام أخي أبي جهل المشهور وصفوان بن أمية وغيرهما، فشق ذلك على المهاجرين والأنصار وهم دعامة الإسلام وأهل السابقة، فكيف يتركون وتفرق الغنائم في من لم يسلموا إلا مكرهين بعد أن غلبوا على مدينتهم؟ فتشاكى الصحابة في ما بينهم وقالوا «كيف يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا لا تزال تقطر من دمائهم؟» فبلغ ذلك النبي فجمعهم وسألهم فاعترفوا له بما قالوا فصوب قولهم ولكنه قال لهم «إني لأعطي رجالا حديثي عهد بالكفر أتألفهم ليحسن إسلامهم ويسلم غيرهم تبعا لهم، وأما أنتم فوكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يتزلزل، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ ...» وقال مثل ذلك للمهاجرين فارتضوا.
ثم عادوا إلى المدينة في نحو السنة التاسعة للهجرة وقد اعتز جانبهم وذاع أمر سلطانهم في كل جزيرة العرب ، فجعل الناس يفدون على المدينة يدخلون في الإسلام. (3-4) محاولة فتح الشام
فلما اعتز المسلمون ودانت لهم جزيرة العرب كلها تقريبا، عادوا إلى توسيع دائرة الفتح، فأمر النبي سنة 9ه بالتجهز لإعادة الكرة على الروم، فجهزوا جندا عدده ثلاثون ألفا فيهم عشرة آلاف فارس، وتلك أكبر حملة استطاعها المسلمون إلى ذلك الحين بذلوا فيها كل ما في وسعهم من المال والرجال، ولكنهم لقوا في الطريق شدة عظيمة من العطش، فنزلوا قرية بين المدينة والشام اسمها تبوك وهم يظنون الروم يجتمعون إليها ومعهم عرب لخم وجذام، فجاءهم صاحب أيلة «وهي مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام في رأس خليج العقبة» فصالحهم على الجزية، وفي أثناء هذه الحملة سطا خالد بن الوليد على صاحب دومة الجندل بين المدينة ودمشق، على سبع مراحل من هذه وهو عربي نصراني من كندة، فأخذه خالد وقتل أخاه وأخذ منه قباء من ديباج مخوصا بالذهب وأرسله إلى المسلمين، فلما رأوه تعجبوا منه لأنه أول عهدهم بمثل هذه الملابس، ثم عادوا إلى المدينة ولم يفتحوا شيئا من بلاد الروم.
وفي السنة الحادية عشرة للهجرة توفي صاحب الشريعة الإسلامية، والإسلام لا يزال حديثا، فسعى الذين حط الإسلام من نفوذهم أو وقف في سبيل أغراضهم فارتدت معظم قبائل العرب عنه، إلا أهل المدينة ومكة والطائف، وأصبح الإسلام في خطر شديد، لو لم يتداركه أبو بكر.
الخلفاء الراشدون
(1) الخلاف بين المهاجرين والأنصار
كان النبي في أثناء حياته أمير المسلمين وقائدهم في الحرب، وإمامهم في الصلاة، وقاضيهم في سائر الأحوال، فلما مات ولم يخلف ذكرا ولا أوصى بالخلافة لأحد - وأما قوله لعلي المتقدم ذكره أنه وصيه فالأئمة مختلفون فيه - اختلفوا عند موته فيمن يخلفه، وأولى الناس بخلافته أصحابه وهم المهاجرون والأنصار، فقال المهاجرون نحن أحق بالخلافة، لأننا أهل النبي وأصحابه وقد تركنا أهلنا وبلدنا وهاجرنا معه. وقال الأنصار بل نحن أحق بذلك، لأننا آويناه ونصرناه. واشتد الجدال بينهما حتى كاد يفضي إلى النزاع، فذكرهم أبو بكر بحديث كان النبي قد قاله على مسمع منهم وهو «قريش ولاة هذا الأمر» فأذعنوا وتراجع الأنصار.
ولكن الخطر ما زال يهدد الإسلام من اختلاف المهاجرين على من يختارونه لذلك المنصب العظيم، فأحس عمر بن الخطاب رجل المسلمين بذلك، وخاف الفشل، لأن الإسلام قام على الاتحاد، فبادر إلى أبي بكر فبايعه والناس ينظرون، وهم إنما كانوا يخافونه إذا طلب الخلافة لنفسه، لشدة بطشه وقوته، فلما رأوه سبقهم إلى مبايعة أبي بكر بايعوا معه وانفض المشكل. (2) خلافة أبي بكر
أما مبايعتهم أبا بكر دون سائر المهاجرين وفيهم العباس عم النبي وعلي بن أبي طالب ابن عمه وغيرهما من بني هاشم أهل بيته ففيه نظر، والظاهر من أقوال عمر وغيره في مواقف مختلفة أنهم رأوا بني هاشم قد اعتزوا بالنبوة، لأن النبي منهم فلم يستحسنوا أن يضيفوا إليها الخلافة، ولعلهم فعلوا ذلك اقتداء بالنبي نفسه، لأن عمه العباس طلب إليه مرة أن يوليه عملا فأبى، وصرح بذلك بنو هاشم أنفسهم وفي مقدمتهم الحسن بن علي لما تنازل عن الخلافة لمعاوية فقال «أبى الله أن يجمع النبوة والخلافة فينا».
ومما ساعد على اختيار أبي بكر دون سائر المهاجرين من غير بني هاشم - مثل عمر وعثمان وطلحة والزبير - أنهم اعتبروا السبق في الإسلام، لأن أبا بكر أسبق رجالهم إليه جميعا، وهناك سبب آخر ذو شأن عند العرب من عهد جاهليتهم وهو السن، ولفظ الشيخ يدل عندهم على الشيخوخة والسيادة معا، وكانوا إذا تساوت المناقب في من يترشحون للإمارة فضلوا كبيرهم سنا مع ملاحظة المقام الأدبي - كذلك فعلت قريش في حرب الفجار الثاني فإنها جمعت بطونها وعلى كل بطن رئيس ورأسوا عليهم جميعا حرب بن أمية، قال ابن الأثير «وولوه عليهم جميعا لمكانه من عبد مناف سنا ومنزلة»، وقد جمع أبو بكر الامتياز بالسن والوجاهة على سائر قريش، وفوق كل ذلك فإن النبي لما مرض أنابه للصلاة في المسلمين وهي من حقوق الإمامة، فضلا عما امتاز به من العلم وصدق العزيمة وقوة التدبير وعلو الهمة وغير ذلك من المناقب.
بقايا إيوان كسرى في المدائن.
وأول خطبة قالها أبو بكر بعد المبايعة تمثل حقيقة الإسلام، وتبين السر الذي ساعد على سرعة انتشاره وتأييد سلطانه وهي «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم». (2-1) الردة
تسلم أبو بكر الخلافة والإسلام في غاية الاضطراب بسبب الردة التي أشرنا إليها، ومن أسبابها أن بعض القبائل دانت للإسلام ولم يتمكن الإسلام من عقولهم وقلوبهم، فلما مات النبي تبادر إلى أذهانهم أن الدعوة إلى النبوة أمر هين وظنوا أنفسهم يستعينون على تأييد دعواهم بقبائلهم وهي أكثر رجالا من قريش، فكيف يستطيع هؤلاء السيادة على جزيرة العرب كلها وهم قليلون؟ فادعى النبوة غير واحد، وفيهم طليحة الأسدي من بني أسد، وسجاح التميمية من تميم، ومسيلمة من بني حنيفة في اليمامة، وغيرهم، واستعان كل منهم بقبيلته وأنصاره، فدعا ذلك إلى اضطراب الأحوال في سائر القبائل، فمنهم من رفض الإسلام وتابع أولئك الدعاة، ومنهم من اكتفى بالامتناع عن أداء الزكاة، والزكاة من دعائم الإسلام الأولية، ولها شأن المال في الدولة، والمال ضروري لقيام الدول في كل زمان ومكان، وبعض العرب امتنعوا عن الزكاة، لأنهم عدوها من قبيل الإتاوة التي كانوا يدفعونها في جاهليتهم.
واشتد أمر الردة واستفحل المرتدون، حتى حمل بعضهم على المدينة نفسها وهي عاصمة المسلمين، فهاجموها وكادوا يأخذونها لو لم يدافعهم أبو بكر دفاعا جميلا، وقد تصرف في محاربة المرتدين تصرف الرجل الحكيم الحازم، وبين يديه نخبة القواد وأهل الحزم، فعقد لهم الألوية للقتال، وبلغ عدد ما عقده منها أحد عشر لواء عقدت لأحد عشر قائدا في جملتهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص.
فلم تمض على ذلك سنتان حتى استتب الأمر لأبي بكر، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه وسكنت الأحوال، فحول التفاته إلى الشام والعراق ، اقتداء بما أراده النبي، فوجه إليهما الجنود فجرت واقعة اليرموك الشهيرة سنة 13ه وكانت سببا في فتح الشام، واشتد أزر المسلمين بها كما اشتد أزرهم بواقعة بدر الكبرى. (3) خلافة عمر
وتوفي أبو بكر في تلك السنة وقد أوصى بالخلافة لعمر بن الخطاب، وليس هو أكبر سائر المهاجرين سنا، لكن الصحابة لم يكونوا مخيرين في خلافته، لأن أبا بكر أوصى له بها، وكان عمر رجلا حازما عادلا شديدا في الحق، وفي أيامه تم فتح الشام والعراق وأهم وقائعها واقعة القادسية سنة 14ه وهي من أشهر الوقائع الرئيسية التي فاز فيها المسلمون، وفي أيامه فتح بيت المقدس واشترط أهلها أن يأتي عمر بنفسه لعقد الصلح على يديه، وفتحت المدائن عاصمة الفرس سنة 16ه ثم أوغلت جنود المسلمين في فارس، وفتحت الجزيرة وأرمينيا سنة 17ه، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص، ثم فتحت برقة.
وهو الذي دون الدواوين ووضع الأعطية كما سنفصله، وفي أيامه بنيت الكوفة والبصرة والفسطاط، وبنى المسجد الحرام بمكة ووسع فيه فأضاف إليه ما كان يخاوره من الأرض، ابتاعها من أصحابها.
وقتل الإمام عمر سنة 23ه وخلفه عثمان بن عفان، ونظرا لكثرة الفتوح في أيامه نذكر الأسباب التي ساعدت عليها.
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
للكتاب وأهل النقد بحث طويل وجدال عنيف في الأسباب التي ساعدت العرب على فتح بلاد الروم والفرس، وقهر القياصرة والأكاسرة برجال يكاد لا يزيد عددهم على عدد حامية مدينة من مدن أولئك، مع ما كان عليه العرب يومئذ من سذاجة المعيشة وقلة الدربة في فنون الحرب وضيق ذات اليد وضعف العدة، والروم والفرس أعظم دول الأرض يومئذ وعندهما العدة والرجال والحصون والمعاقل، وزد على ذلك أن العرب فضلا عن قلتهم وسذاجة أحوالهم جاءوا مهاجمين في بلاد لا يعرفونها ولا نصير لهم فيها، وأغرب من ذلك كله أنهم فتحوا تينك المملكتين في مدة لا تتجاوز بضع عشرة سنة، فكيف تأتى لهم ذلك؟
أشهر أقوال أهل النقد في هذا الشأن أن العرب لم يستطيعوا فتح تينك المملكتين إلا لما كان فيه الروم والفرس من التضعضع والضعف، على أثر ما كان من الحروب بينهما قبيل الإسلام مما بيناه في فصل سابق، وعندنا أن ذلك التضعضع لم يكن وحده علة ذلك النصر، وإلا لكانت إحدى الدولتين أولى بالاستيلاء على جارها وعدوتها من أمة صغيرة قليلة العدد ضعيفة العدة غلبت الدولتين جميعا، على أننا لا ننكر ما كان لتضعضع الروم والفرس من التأثير في تسهيل الفتح ولكنه لم يكن هو علته، وهناك أسباب أخرى سيأتي بيانها. (1) ما الذي جرأ العرب على الفتح؟
لنبحث أولا في الأسباب التي جرأت العرب على مهاجمة تينك المملكتين، وهم أهم بادية ما برحوا من أجيال متطاولة ينظرون إلى الروم والفرس نظر الاحترام والتهيب، يضربون الأمثال بضخامة ملكهما ويخافون اسميهما، فكيف تتجرأ شرذمة منهم على مناوأتهما ببضعة آلاف ليس على أبدانهم إلا غليظ الكساء، وأكثر طعامهم الشعير، وعدتهم الرماح مشدودة بعصب والسيوف معلقة بخرق؟ ولماذا لم يفعلوا ذلك قبل الإسلام؟ والجواب على ذلك أن العرب أصبحوا بعد الإسلام غير ما كانوا عليه قبله كانوا قبائل مشتتة متباغضة فأصبحوا أمة واحدة بقلب رجل واحد، وهذا وحده لا يكفي لإقدامهم على هذا الأمر العظيم، وإنما ساعدهم على ذلك اعتقادهم صدق الدعوة التي دعوا إليها، اعتقادهم أنهم إنما يفتحون الدنيا في سبيل الدين، وأن الله يدعوهم إلى نشر الإسلام في الأرض، وأن من مات منهم مات شهيدا، وأن العالم الآتي خير وأبقى، هذا الاعتقاد هو الذي جرأ العرب على ركوب هذا المركب الخشن، غير ما ذاقوه من حلاوة النصر في غزواتهم وسراياهم في أيام النبي، والإنسان إذا خدمه التوفيق في أمر هانت عليه المخاطر بكل ما له في سبيله. (1-1) الاتحاد بالإسلام
أما الاتحاد بالإسلام فإنه ظاهر في كل أعمالهم، يشهد بذلك ما قدمناه من أمر المعاهدة والمؤاخاة في أول سنة للهجرة، ويؤيده أن الإسلام عنوان التوحيد كما يتضح من مراجعة القرآن والحديث، ولا تكاد تخلو خطبة من خطب الخلفاء أو الأمراء في صدر الإسلام من الإشارة إلى تلك الوحدة، وتذكير المسلمين بما كان عليه آباؤهم في الجاهلية من التفرق والتشتت، وما يدعوهم إليه الإسلام من نزع العصبية وتوحيد الكلمة، وقد زاد متانة تلك الوحدة اجتماعهم خمس مرات في اليوم للصلاة خلف الإمام أو من يقوم مقامه، وفي ذلك من توطيد عرى الاتحادة والإجماع على الطاعة ما لا يخفى، ذكر البلاذري أن أبا سفيان لما جاء المسلمين قبل الفتح - وهو لم يسلم بعد - رآهم قائمين للصلاة إذا ركع النبي ركعوا وإذا سجد سجدوا فقال «تالله ما رأيت كاليوم طواعية قوم جاءوا ههنا وههنا ولا فارس الكرام والروم ذات القرون». (1-2) اعتقادهم صدق الدعوة
وأما اعتقاد العرب صدق الدعوة وأنهم كانوا يعملون لآخرتهم لا لدنياهم فظاهر من أقوالهم وأعمالهم في أثناء الفتح، كقول المغيرة لما قال له رستم القائد الفارسي في أثناء واقعة القادسية «إنكم تموتون في ما تطلبون» فقال المغيرة «يدخل من قتل منا الجنة، ومن قتل منكم النار، ويظهر من بقي منا على من بقي منكم»، وكقول عبادة بن الصامت للمقوقس صاحب مصر، لما خوفه بجموع الروم وأنهم لن يقدروا عليهم وهم محاصرون حصن بابل فقال عبادة:
يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأننا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعضر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولإنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله - عز وجل - قال لنا في كتابه
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وما منا رجل إلى ويدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الشهادة وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك إننا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا! فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه ...
حصن بابليون الذي فتحه عمرو بن العاص.
وأمثال ذلك كثير في تاريخ الإسلام حتى لقد كان المسلم يقاتل أباه وأخاه إذا كانا مشركين ولا يبالي ... بل هو يعتقد أنه يفعل خيرا، ويؤيد ذلك ما جاء في تواريخ الأديان الأخرى فإن الإنسان لا يستهلك في أمر ويعرض حياته للخطر من أجله إلا إذا كان من قبيل الدين، وفي أحاديث الشهداء عند النصارى وسائر الأديان الأخرى ما يكفي. (1-3) خصب البلاد المفتوحة
وقد زاد في رغبة العرب في فتح الشام والعراق ومصر ما علموه من خصب تلك الأرضين وكثرة خيراتها، وبلادهم قاحلة لا تفي بمطالبهم بعد تلك النهضة الدينية، وكانت بعض القبائل التي دخلت الإسلام، تحارب لمجرد الكسب من الأسلاب والغنائم، يستدل على ذلك مما أظهروه بعد غزوة حنين والطائف، فقد كانت الأموال كثيرة والغنائم غزيرة - كما تقدم - فلما فرغوا من الحرب ورد السبايا «ركب (النبي) وتبعه الناس يقولون يا رسول الله قسم علينا فيأنا من الإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا». (2) ما الذي ساعدهم على الفتح؟
ذلك ما جرأ العرب على الفتح، أما ما ساعدهم عليه فهاك تفصيله: (2-1) نشاطهم وخفة أحمالهم
لأنهم أهل بادية تعودوا خشونة العيش فأصبحوا لا يبالون بالجوع ولا العطش، إذا سافر أحدهم إلى حرب لا يحمل معه شيئا يثقل كاهله أو يشغل بعيره، وقد لا يحملون طعاما وإنما يقتاتون بما يكسبونه بالغزو في أثناء الطريق.
وللإبل فضل كبير في تغلب العرب، لأنها كانت تقوم عندهم مقام المركبات والخيول والماشية عند الروم، فالعربي يركب ناقته ويحمل عليها أثقاله ويغتذي من لبانها ويستريح في ظلها، وهي تقتات بالعشب في الصحراء ولو كان يابسا، وتصبر على الجوع وتحتمل الظمأ أياما، وأما الرومي أو الفارسي فلا يستطيع الانتقال إلى الحرب إلا بالأحمال والأثقال من المؤونة والذخيرة مما لا يقوى على حمله إلا المركبات، والمركبات تحتاج في جرها إلى دواب، والدواب تحتاج إلى طعام ومياه، ويذكرنا ذلك بما شاهدناه في حرب الإنجليز وعرب السودان في أثناء الحملة النيلية التي أنفذوها سنة 1884 لإنقاذ غردون باشا من الخرطوم، فقد كان الإنجليزي لا يستطيع الانتقال إلا ومعه الأحمال من البقسماط واللحوم المطبوخة والسكر والشاي والبن والشمع وفناطس الماء وأحمال الخيم والأمتعة وأطعمة الخيل، وغير ذلك مما يحتاج إلى الدواب الكثيرة، فكان رجال حملة «المتمة» 1400 وجمالها أربعة آلاف ومعها الجمالة والخدم، وهي عبء ثقيل على كاهل الحملة، وأما السوداني فقد كان في غنى عن كل ذلك بجراب فيه شيء من الذرة الناشفة يتأبطه ويمشي. (2-2) اعتقادهم بالقضاء والقدر
وأن الإنسان لا يموت إلا إذا جاء أجله، فإذا أتت ساعته مات ولو كان على فراشه، وإذا تأخرت فلا يصاب بسوء ولو كان تحت مراهف السيوف، وكان هذا الاعتقاد متمكنا فيهم وهو علة معظم ما كان يبدو من بسالتهم في وقائعهم المشهورة، وفي تاريخ الفتح شواهد كثيرة على ذلك. (2-3) مهارتهم في ركوب الخيل ورمي النبال
فقد كانوا أمهر من الروم والفرس فيهما، وخيل العرب أنجب من خيول أولئك، وكانت أكثر وقائعهم بالمبارزة بين الأفراد على جاري العادة في تلك العصور، فيختارون فارسا من كل جند فيتبارزان، فمن غلب كان أصحاب الغالبين، وكان العرب يغلبون في المبارزة على الأكثر، وكثيرا ما كان نصرهم متوقفا على غلب في مبارزة أو رمي بنبلة صائبة إذا أصابت رئيس الجند أحبطت رجاله، وسيأتي تفصيل ذلك في كلامنا عن السلاح. (2-4) رجال صدر الإسلام
اختص صدر الإسلام برجال توفرت فيهم خصال النصر، وقد امتاز ذلك العصر بنبوغ الرجال العظام كما امتاز عصر نابليون الكبير بقواد لم تلد فرنسا مثلهم، وقد نبغ قواد نابليون على أثر الثورة الفرنسية، كما نبغ قواد الصدر الأول للإسلام على أثر واقعة الفيل التي سطا بها الأحباش على الكعبة، وحركت ساكن العرب فأظهرت قواهم بالضغط والاحتكاك كما تقدم، فكأن الله قدر للعرب النصر فاختصهم بقواد من نخبة رجال العالم في الحرب والسياسة والدهاء والحكمة، كخالد بن الوليد وخالد بن سعيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ويزيد بن أبي سفيان وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، ممن تغلب عليهم البسالة ويحسنون قيادة الجند، ومثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه من أهل الدهاء والسياسة، وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب من أهل الحزم والتقوى وصدق العزيمة.
فنبوغ هؤلاء الرجال وأمثالهم في أوائل الإسلام، كان من أكبر العوامل في سرعة نجاحه، وكان المسلمون يعلمون ذلك حتى إن النبي نفسه قال في أول ظهور الدعوة «اللهم أيد الإسلام بأبي جهل بن هشام» ولما أسلم حمزة وعمر بن الخطاب قال «قد تأيد الإسلام بحمزة وعمر»، وأمثال أبي بكر وعمر وعلي وابن العاص ومعاوية وخالد لو ظهروا اليوم لكانوا من عظماء الناس الذين يمثلهم العالم المتمدن بعظمتهم، كما يتمثل الإفرنج ببونابرت وكرومويل وبسمارك وغلادستون وغيرهم، غير من ظهر من رجال الإسلام في عصر الأمويين والعباسيين. (2-5) الصبر والمطاولة
أصبح العرب بعد فشلهم في واقعة مؤتة وقد عرفوا قوة الروم وخبروا كثرتهم، وعلموا أن قتالهم غير قتال أهل البادية الذين كانوا يغزونهم ببلاد العرب، فلما تحققوا من ذلك جعلوا عمدتهم في حروبهم الصبر والمطاولة، والصبر هين عليهم لاكتفائهم بالشيء اليسير من الطعام واللباس كما تقدم، وإذا قل زادهم عمدوا إلى الغزو واقتاتوا بما تصل إليه أيديهم من الماشية أو الحنطة أو غيرهما.
وكانت حروبهم في أول خروجهم إلى الشام والعراق أشبه بالغزو منها بالفتح، بل تلك كانت قاعدتهم في أكثر فتوحهم، كانوا يرسلون جماعة منهم لغزو البلد الذي يريدن فتحه - وقد لا يكون قصدهم الفتح في بادئ الرأي - فيحومون حول البلد يغزون وينهبون حتى تتاح لهم فرصة للفتح فيغتنمونها، كذلك فعلوا في كثير من فتوحهم في صدر الإسلام وبعده، فإن موسى بن نصير إنما أرسل طارقا إلى سواحل إسبانيا سنة 92ه غازيا لا فاتحا، فاتفقت له أسباب ساعدته على الفتح تشبه الأسباب التي ساعدت العرب على فتح الشام فدخل طارق الأندلس، فلما بلغ موسى ذلك استغربه وشق عليه أن لا يكون هو الفاتح فبعث يستوثق منه، إلى آخر ما كان بينهما، هكذا كان شأنهم قبل ذلك في فتح إفريقية وما يليها. (2-6) نجدة العرب
كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية، والمسلمون هم العرب حتى أصبح اللفظان مترادفين في كثير من الأحوال، وكان العرب أقرب الأمم للدخول في الإسلام لما اختصهم به دون غيرهم من الافتخار، وتمكن ذلك من الأذهان خصوصا لما أمر عمر بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب.
خريطة مشارف الشام والعراق.
والمسلمون لم يهاجموا مدن الشام والعراق رأسا، ولكنهم قضوا زمنا طويلا يغزون ضواحيهما مما يلي البادية، وسكان تلك البادية عرب مثلهم وفيهم الغساسنة في بصرى وغيرها من حوران على حدود الشام، والمناذرة بنو لخم في الحيرة على حدود العراق، وكان الغساسنة عمال الروم في الشام، وبنو لخم عمال الفرس في العراق، ولم يكن هؤلاء العرب يحبون الروم ولا الفرس، وإنما كانوا يخضعون لهم قسرا أو طمعا في الغنائم إذا حاربوا معهم، وخصوصا بنو لخم، فقد كان بينهم وبين الفرس ضغائن على أثر مقتل النعمان بن المنذر الملقب أبا قابوس، فإن كسرى أبرويز قتله وحصلت بسبب قتله واقعة شهيرة بين الفرس والعرب في مكان يقال له «ذو قار» وبه تعرف الواقعة، فيها انهزم الفرس شر هزيمة، وهي أعظم واقعة انتصف فيها العرب من العجم، ومن غريب الاتفاق أنها حدثت في السنة التي جرت فيها واقعة بدر الكبرى، والعرب فازوا في كلتيهما.
وظلت الضغائن بين المناذرة والفرس حتى جاءهم المسلمون، وعرض عليهم خالد بن الوليد الإسلام أو الجزية أو السيف، فاختاروا الجزية وصالحوه على مال يدفعونه كل عام، ووقع نحو ذلك في بصرى وغيرها من بلاد العرب والنصارى في ضواحي الشام، وفي غيرها من بلاد العرب في حدود البادية بين العراق والشام، كعين التمر وفيها قوم من كندة وإياد، وقراقر وهو ماء لبني كلب، وغيرهم من القبائل التي حاربها خالد في أثناء قدومه من العراق إلى الشام، فكانت العرب أقرب سائر الأمم إلى نجدة الإسلام للأسباب التي قدمناها، ولأسباب أخرى تختص بكل قبيلة على حدة، كحقد عرب اليمن على الفرس منذ فتحوا بلادهم وحكموهم قبل الإسلام، ثم تقلص ظلهم عنهم وانحسر إلى البحرين، وكانت ربيعة تقيم في الجزيرة ببلاد الفرس، وكانوا عونا للعرب المسلمين على الفرس، نكاية في هؤلاء.
وكثيرا ما كان هؤلاء العرب وغيرهم من أهل الشام الأصليين يضافرون المسلمين على الروم فرارا من أداء الجزية، كما فعل الجراجمة في جبل اللكام، فإن حبيب بن مسلمة الفهري غزاهم فبادروا بطلب الأمان، فصولحوا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل اللكام وأن لا يؤخذوا بالجزية ... ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم من أهل القرى في هذا الصلح فسموا الرواديف. (2-7) خط الرجعة
ثم إن العرب كانت قاعدتهم في حروبهم هناك المحافظة على خط الرجوع، فلا يقاتلون الفرس أو الروم إلا وهم في حيطة، وكان حفظ ذلك الخط هينا عليهم، لأنهم كانوا يجعلون الصحراء وراءهم وهي ملجأهم، فإذا اندحروا لا يستطيع الروم أو الفرس اللحاق بهم إليها ولا يهمهم ذلك اللحاق، ومتى عاد الروم إلى مساكنهم عاد العرب عليهم، وهكذا حتى يقلقوا راحتهم ويضعفوهم بالمطاولة والصبر، ولو كانوا أقل عددا منهم، وشأنهم في ذلك مثل شأن البوير مع دولة الإنجليز لما حاربوها سنة 1902، كانوا نفرا قليلين فأقلقوا راحة الجيوش الإنجليزية بضع سنوات، وهؤلاء أكثر عددا وعدة وعندهم الحصون والمعاقل، ولكن البوير إنما أتعبوهم بالمطاولة بالسطو حينا بعد حين، ثم الرجوع إلى مكامنهم بين الجبال حيث لا يستطيع الإنجليز الذهاب إليها إلا تحت الخطر الشديد.
وكانت هذه القاعدة مرعية عند العرب يحرضون بعضهم بعضا عليها، ومن هذا القبيل قول المثنى بن حارثة الشيباني، أحد قواد العرب لما علم بقدوم المسلمين لمحاربة الفرس في العراق، فبعث إليهم يقول «قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، ولا تقاتلوهم بمقر دارهم، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم، وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فيئة ثم يكونون أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم».
ويؤيد ذلك رغبة الخليفة عمر في بقاء المواصلة بين مركز الخلافة في المدينة وبين سائر أطراف المملكة الإسلامية بحيث لا يكون بينه وبين سائر المسلمين ماء، فقد كتب إلى قواده في الأطراف بعد فتح فارس ومصر - وكان سعد بن أبي وقاص مقيما في مدائن كسرى وعمرو بن العاص في الإسكندرية - «لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت» فتحول سعد إلى الكوفة وتحول عمرو إلى الفسطاط، فأقاما بجندهما في مضارب الخيام، ثم صارت تلك المضارب مدنا بعد ذلك. (2-8) واقعة اليرموك وواقعة القادسية
تلك كانت القاعدة في حروب العرب بالشام والعراق، ثم جرت واقعة اليرموك الشهيرة (13 رجب 15ه/20 أغسطس 636م) التي بدأت في حياة أبي بكر، واليرموك واد بناحية الشام بجوار بصرى يسيل فيه الماء حتى يصب قرب بحيرة طبرية واسمه اليوناني
Hieromax
1
عربه العرب «يرموك»، وعلى ضفاف ذلك الماء حصلت تلك الواقعة الهائلة وهي ذات شأن عظيم في فتوح الشام، لأن فوز المسلمين فيها نشطهم على مواصلة الفتح وأضعف عزائم الروم.
وإذا تأملت في تفاصيلها رأيت سبب الفوز فيها سداد رأي عمرو بن العاص وشجاعة خالد بن الوليد، وذلك أن الروم لما رأوا ما كان من مناوأة العرب لهم في ضواحي الشام ومطاولتهم، جمعوا قواتهم وعزموا على الفتك بهم دفعة واحدة، وكان المسلمون متفرقين في ضواحي الشام والعراق، فتكاتبوا بشأن ذلك فقال عمرو بن العاص «إن الرأي عندي لمثلنا الاجتماع، فإننا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة وإن تفرقنا لا تقوم كل فرقة بمن استقبلها، لكثرة عدونا» فكتبوا إلى أبي بكر بذلك فأجاب مثل جواب عمرو، فاجتمع جند المسلمين من العراق والشام فلاقاهم الروم في اليرموك، وعددهم على قول ابن الأثير 240 ألفا والمسلمون 50 ألفا بقيادة خالد بن الوليد، فخطب خالد فيهم خطابا حرضهم فيه على الثبات وجعل الجند كراديس على كل كردوس قائد، ولم تكن الحرب بالكراديس معروفة عند العرب كما سترى، والظاهر أن خالدا عبأ الجند تلك التعبئة، لمقاومة الروم بمثل نظامهم.
وشعر خالد بتهيب المسلمين وخوفهم من كثرة الروم، وسمع أحدهم يقول «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!» فقال له «ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان»، وبينما هم في القتال جاءهم الخبر بموت أبي بكر، فكتموه وصبروا صبر الرجال، لعلمهم أن الفشل في تلك الواقعة يذهب بكل أعمالهم، فقاتلوا قتالا شديدا حتى إن النساء كن يقاتلن بالعصي، فانتصر المسلمون، وكان هذا النصر مقدمة سائر ما نالوه في الشام. وكذلك واقعة القادسية في العراق، فقد كانت فاتحة نصرهم على الفرس، وقد صبروا في هذه الواقعة صبرا جميلا وطال أمرها كثيرا. (2-9) نقمة الرعايا على حكامهم
قد علمت ما كان من انقسام الروم والفرس فيما بينهم، وانحطاط الحالة الاجتماعية في بلادهم، فضلا عما كان من الشحناء بين الرعية أهل البلاد الأصليين وحكامهم، وخصوصا في مصر والشام، فإن المصريين الأصليين وهم الأقباط كانوا قد عانوا سلطة الأجانب أجيالا متطاولة (الفرس فاليونان فالرومان) وهان عليهم الانتقال من سلطان إلى سلطان، فرارا من الظلم أو الضغط، وكذلك أهل الشام، وهم أخلاط الآراميين والسريان والأنباط واليهود وغيرهم، وكان حظهم من ذلك مثل حظ جيرانهم المصريين وقد يئسوا من الاستقلال مثلهم، فلا يهمهم إذا كان حاكمهم روميا أو عربيا وإنما يهمهم أن يكون لهم راحة تحت سلطانه، وربما فضلوا العرب، لأنهم أقرب إليهم لغة ونسبا وأخلاقا، وزد على ذلك أن المرء من طبعه يرجو النفع من البعيد أكثر من القريب، ويتوسم الخير في القادم المجهول أكثر مما يتوسمه في الحاصل المعلوم، وعلى الخصوص إذا كان الفرق بينهما ظاهرا مثل ظهوره بين الروم والعرب، فالروم كانوا يومئذ في دور انحطاطهم وقد فسدت أحكامهم وآدابهم، والعرب في دور نموهم وفي إبان نهضتهم وقد جعلوا العدل والمساواة وجهتهم، فضلا عما كان بين أهل هذين القطرين وبين حكامهم الروم من الانقسامات الدينية التي قدمناها، حتى هان عليهم الرضوخ لأية دولة كانت، ولم يروا بأسا في أن يكونوا عونا لها على حكامهم. (2-10) اليهود
كان الروم مع انقسامهم إلى طوائف وأحزاب قد أجمعوا على اضطهاد اليهود - كما تقدم - ولما جاء المسلمون لفتح الشام كانت البغضاء قد بلغت أقصاها حتى هان على اليهود أن يخسروا أموالهم - مع رغبتهم في الأموال - في سبيل الانتقام من الروم، وفي الواقع أنهم كثيرا ما كانوا عونا للعرب عليهم وكانوا يدلونهم على عورات المدن ويدخلونهم إليها، كذلك فعلوا بقيسارية بعد أن حاصرها المسلمون سبع سنين ولم يقووا عليها، لقوة جندها، ومناعة حصونها، فكان يحرس أسوارها كل ليلة مائة ألف جندي، وكان قائد المسلمين هناك يومئذ معاوية بن أبي سفيان، فجاء يهودي من أهلها اسمه يوسف دلهم على طريق في سرب فيه ماء إلى حقو الرجل على شرط أن يؤمنوه وأهله، فدخل المسلمون المدينة وفتحوها.
وقس على ذلك مدنا أخرى سلمها اليهود نكاية في الروم حكامهم، وخصوصا في الأندلس للأسباب التي قدمناها. (2-11) عدل المسلمين ورفقهم وزهدهم
كان لتلك المناقب تأثير عظيم في من يدخل تحت سلطان المسلمين من رعايا الروم أو الفرس، وتلك كانت الوصية الأولى التي يتزودون بها إذا خرجوا للفتح، وإليك وصية أبي بكر لأسامة يوم خروجه بالمسلمين إلى الشام قال «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كيبرا، ولا تعقروا نخلا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».
وفي حكاية بناء الفسطاط ورفق عمرو بن العاص باليمام الذي كان معششا في فسطاطه ما يدل على رغبتهم في الرفق. (2-12) التسوية بين الناس
ومن هذا القبيل التسوية بين طبقات الناس، رفيعهم ووضيعهم، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما كان من أمر جبلة بن الأيهم ملك غسان لما أسلم في زمن عمر بن الخطاب وجاء المدينة بخيله ورجله، وقد فرح عمر بإسلامه وخرج أهل المدينة للنظر إلى موكبه وفيه الخيول المعقودة أذنابها وفي أعناقها سلاسل الذهب وعلى رأس جبلة تاج مرصع بالجوهر، على أن ذلك لم يمنع عمر من إقامة الحد عليه، لما وطئ أحد بني فزارة إزاره وهو يطوف بالكعبة فرفع جبلة يده وهشم أنف الفزاري، فاشتكاه الفزاري إلى عمر فبعث إلى جبلة فأتاه فقال له «ما هذا؟» قال «نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف»، فقال عمر «قد أقررت على نفسك، فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقيده منك فآمره بهشم أنفك كما فعلت به» فقال «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك؟!» فقال «الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقى والعافية» فلم ير جبلة مخرجا من حكم عمر إلا بالفرار، فهرب إلى القسطنطينية ولم يرجع إلى بلاد العرب.
ومثلها حكاية القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص وذهب إلى عمر بن الخطاب في المدينة فاستعاذ به، فبعث عمر إلى عمرو فاستقدمه وابنه، فلما جاء أعطى الخليفة القبطي سوطا وأمره أن يضرب ابن عمرو فضربه، وأراد أن يضرب أباه عمرا فقال عمرو «إنما ابني الذي ضربه»، فقال له «يا عمرو، منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟».
ولا يخفى ما كان لهذه المناقب من التأثير في تعجيل الفتح، لأن أهل الشام والعراق ومصر كانوا يشكون استبداد حكامهم فيهم واحتقارهم إياهم، فلما علموا بعدل المسلمين ورفقهم مالوا إليهم. (2-13) استبقاء الناس على أحوالهم
كان العرب إذا فتحوا بلدا أقروا أهله على ما كانوا عليه من قبل لا يتعرضون لهم في شيء من دينهم أو معاملاتهم أو أحكامهم المدنية أو القضائية أو سائر أحوالهم، كذلك فعلوا بمصر لما فتحها عمرو بن العاص، فإنه جعل أمور الأقباط لأنفسهم يحكم في مصالحهم قضاة منهم، وفعلوا مثل ذلك في معظم ما فتحوه من البلاد.
وكان المسلمون يفرضون على من يقبل البقاء على دينه من أهل البلاد المفتوحة ضريبة تسمى الجزية في مقابل حمايتهم وتأمينهم، وكان الروم قد تعودوا أداء مثل هذا المال للعرب المقيمين في حدود الشام من الغساسنة وغيرهم، يبتاعون به نصرتهم على الفرس، كما كان الفرس يؤدون المال إلى عرب العراق لينصروهم على الروم.
وأما العرب فقد اشترطوا مع دفع المال الخضوع لهم عملا بنص الآية
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وكانوا مع ذلك يتعهدون بحماية الذين يدفعون الجزية أي يعتبرونهم في ذمتهم، ولهذا فقد سموا أهل الذمة، والغالب أن يراد بها حماية أهل البلاد الأصليين من حكامهم الروم، لأنهم كانوا يريدون الخروج من طاعتهم وهم يخافون سطوتهم.
وترى ذلك واضحا في كلام عبادة بن الصامت للمقوقس حاكم مصر ولسائر القبط لما دعاهم إلى الإسلام فقد قال لهم «وإن أبيتهم إلا الجزية فأدوها إلينا عن يد وأنتم صاغرون، وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وتعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا ... إلخ»، ومثله كتاب خالد بن الوليد إلى ابن نسطونا في العراق، وغيره من كتب العهود لأهل الذمة وهي كثيرة، ويؤيد ذلك أن المسلمين لما دعوا إلى الاجتماع في اليرموك، وكانت حمص في ذمتهم، ردوا إلى أهلها ما كانوا أخذوه منهم من الجزية وقالوا «قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم»، فقال أهل حمص «لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم» وكثيرا ما كانوا يعفون غير المسلمين من الجزية إذا تعهدوا بالقتال معهم، وأكثر ما يكون ذلك مع العرب النصارى، ولكنه وقع مع غير العرب كالجراجمة وغيرهم.
فلم يكن استيلاء المسلمين ثقيلا على الناس، بل كان الأهالي كثيرا ما يفضلونهم على حكامهم الأصليين، والجزية التي كانوا يتكفلون دفعها إلى المسلمين أقل كثيرا من مجموع الضرائب التي كانوا يؤدونها إلى الروم أو الفرس. (2-14) الخلاصة
وجملة القول أن المسلمين لم يجزئهم على الفتح ويساعدهم عليه إلا الدين وشدة الاعتقاد بالنصر، مع ما كان من مهارتهم في الفروسية ورمي النبال، وقوة أبدانهم ونشاطهم من عيشة البداوة، مع المطاولة في الحرب ونبوغ أفراد منهم في الرأي والشجاعة، فضلا عن عدلهم ورفقهم واختلال أحوال الروم والفرس، فلم تمض بضع عشرة سنة حتى فتحوا الشام وفلسطين ومصر والعراق وفارس في زمن عمر بن الخطاب، وتواصل الفتح في أيام عثمان بن عفان ومن بعده. (3) عود إلى الخلفاء الراشدين (3-1) الفتنة
وفي زمن عثمان حدثت الفتنة، ثم استشرى أمرها بمقتله سنة 35ه فغيرت طور التاريخ الإسلامي، وسببها أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة سنة 23ه وأحس بدنو الأجل أهمه أمر المسلمين بعده، فعمد إلى طريقة لانتخاب من يتولاهم بعده بالأكثرية، فسمى نفرا من الصحابة فيهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وأوصاهم أن يجتمعوا في بيت عائشة زوج النبي ويختاروا واحدا منهم يتولى الخلافة بعده، فاختاروا عثمان بن عفان وهو من بني أمية وأكبرهم سنا.
وكان بنو أمية أوفر بطون قريش عددا وقوة، لكن أكثرهم لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد فتح مكة وبعد أن أسلم أبو سفيان زعيمهم، فلم يكن لهم جهاد في الغزوات التي قامت عليها دعائم الدولة الإسلامية، فلما تولى أبو بكر لم يولهم الأعمال، إلا قليلا منهم، وربما كان السبب في ذلك أنه لم يكن يثق بصدق إسلامهم، لحداثة عهدهم فيه، أو لأنهم أسلموا مضطرين، فطالبوه بزيادة نصيبهم في الولايات فقال لهم «أدركوا إخوانكم في الجهاد» وأنفذهم لحروب الردة، ثم بعثهم عمر لحروب الشام، وهم مع ذلك يرون أنهم أولى بطون قريش بالسلطة، لأنهم أعز من بني هاشم جانبا وأكثر عددا، وكانت القيادة في الحروب قبل الإسلام إليهم كما رأيت في كلامنا عن مناصب الجاهلية، وزاد نفوذهم بعد موت أبي طالب عم النبي، وكانت بين الهاشميين والأمويين منافسة متصلة بزمن الجاهلية.
فلما تولى عثمان بن عفان اعتزوا به، وكان رجلا صالحا لكنه كان يؤثر أقرباءه فجعل يوليهم الأعمال في الأمصار ويعهد إليهم بمصالح الدولة، فشق ذلك على الصحابة الذين كانت الأعمال إليهم من قبل، وحدثت أسباب أخرى يطول شرحها آلت إلى نقمة أهل الأمصار على عثمان، فجاءوا إلى المدينة وفيهم أهل مصر والكوفة وأهل البصرة وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، فأبى فقتلوه وهو يقرأ القرآن فتلطخ قميصه بالدم. (3-2) علي وطلحة والزبير
فلما قتل عثمان اختلفوا في من يخلفه من كبار الصحابة، وكان غرض أهل مصر في علي بن أبي طالب، وغرض أهل البصرة في طلحة بن عبيد الله، وغرض أهل الكوفة في الزبير بن العوام - وهم أكثر الصحابة تطلعا إلى الخلافة - وكان أكثر مسلمي الشام مع بني أمية، وهم يريدونها لعثمان أو من يخلفه منهم، وأما أهل المدينة فكانوا يريدونها لعلي بن أبي طالب، جريا على عادتهم في نصرة بيت النبي منذ هاجر النبي إليهم، وانضم إلى أهل المدينة في نصرة علي ربيعة واليمن وغيرهما، فكان دعاة علي أكثر عددا من سائر الأحزاب، لكنهم كانوا لفيفا من قبائل شتى وأكثرهم من المدينة، وبين أهل مكة والمدينة منافسة قديمة تمكنت بعد الإسلام، لما رأيته من نصرة أهل المدينة للمسلمين بعد الهجرة، حتى تأيد أمرهم بهم وعادوا ففتحوا مكة، وسارت المدينة عاصمة المسلمين وتحولت إليها التجارة والنفوذ وضعف أمر مكة، فلما بايع أهل المدينة عليا بايعه أيضا طلحة والزبير مكرهين، وخرجا إلى مكة فنصرهما أهلها، نكاية في أهل المدينة، ثم شخصا إلى العراق للاعتزاز بأحزابهما هناك فتبعهما علي بجنده، فجرت بين الجيشين واقعة الجمل الشهيرة بجوار البصرة، فقتل فيها طلحة والزبير وخلصت الخلافة لعلي، فنقل عاصمة المسلمين من المدينة إلى الكوفة، وقد أخطأ في تخليه عن أحزابه بالمدينة واعتماده على أهل العراق. (3-3) علي ومعاوية
وظن علي أن الجو قد خلا له، وما درى أن في الشام رجلا عظيما يطلب البيعة لنفسه - نعني معاوية بن أبي سفيان - وقد رأيت أن أبا سفيان وأولاده لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد أن يئسوا من الفوز، فلما قتل عثمان كان معاوية بالشام وحوله نخبة الرجال من قريش، وكلهم يستهلكون في سبيل نصرته، لما ذكرناه من كثرة بني أمية وقوتهم من أيام الجاهلية، وقد شق عليهم في أول الإسلام أن تكون النبوة في بني هاشم فنقموا عليهم، ولما خرج بنو هاشم من مكة بالهجرة خلا الجو في مكة لبني أمية، وسارت الرياسة إليهم في أثناء محاربتهم المسلمين في وقائعهم المشهورة في بدر وغيرها، ورئيسهم في كل ذلك أبو سفيان والد معاوية، ولما تولى أبو بكر وأرسلهم للجهاد تولى ولاية الشام منهم يزيد بن أبي سفيان، ثم مات فخلفه أخوه معاوية في زمن عمر، فلما تولى عثمان أقره عليها ومعظم جنده من قريش، فاتصلت رياسة بني أمية - وخصوصا بيت أبي سفيان - على قريش في الإسلام كما كانت قبله، واستقل بنو هاشم بأمر النبوة ونبذوا الدنيا. (3-4) التحكيم
فلما قتل عثمان رأى معاوية سبيلا لالتماس الخلافة، فعرض قميص عثمان الملطخ بالدم في مسجد دمشق ودعا الناس للمطالبة بثأره، لأنه من رهطه، واتهم عليا وأصحابه بقتله، ثم رأى الحرب منتشبة في العراق بين علي وطلحة والزبير، فظن هذين يكفيانه مؤونة الحرب، فلما قتلا وفاز علي عمد معاوية للمطالبة بدم عثمان، واستنجد رجالا من دهاة العرب فيهم عمرو بن العاص، وكان عثمان قد عزله عن مصر، فاستدناه معاوية ووعده بولاية مصر إذا هو فاز، فحارب معه في واقعة صفين الشهيرة سنة 37ه وكادت رجال علي تظفر بمعاوية وأصحابه فيها، فاستنبط ابن العاص حيلة أخرجت الخلافة من أهل البيت إلى بني أمية.
وذلك أنه أمر رجال معاوية برفع المصاحف على أسنة الرماح، إشارة إلى طلب الهدنة للمخابرة، فانخدع أصحاب علي بذلك فألحوا عليه أن يوقف القتال ففعل، وبعد المخابرة توافقوا على التحكيم، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار أصحاب علي أبا موسى الأشعري، وشتان بين الرجلين في الدهاء والذكاء، ورضي الفريقان بما يحكم به هذان وعينوا يوما لسماع الحكم، فاحتال عمرو على أبي موسى حيلة غلب بها على عقله، أظهر أنه يريد خلع علي ومعاوية معا ليختار المسلمون واحدا سواهما، فقبل أبو موسى ذلك، لكن عمرا طلب إليه أن يتكلم قبله، لأنه أرفع منه منزلة وأكبر سنا، فانخدع أبو موسى فوقف وقال «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليا فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتهموه أهلا».
ثم وقف عمرو وقال «إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان والمطالب بدمه وأحق الناس بمقامه».
فلما سمع الناس ذلك أيقنوا أنها حيلة قد عملت، ولو أنها آلت إلى خلافة معاوية فقط لهان أمرها، ولكنها أوجبت انقسام رجال علي عليه، لأن بعضهم لاموه على قبول التحكيم وخرجوا من حكمه وهم الخوارج، فأصبح علي بين عدوين، والخوارج أشدهما خطرا عليه، لأنه قتل بطعنة من أحدهم في السنة 40 للهجرة في مسجد الكوفة.
فبايع أهل الكوفة ابنه الحسن، ومعاوية لا يزال يطالب بالخلافة لنفسه فرأى الحسن أنه لا يقوى على حربه فتنازل له عنها، حقنا للدماء، فبويع معاوية في الشام وانتقل كرسي الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وكان ذلك آخر العهد بدولة الخلفاء الراشدين. (4) أحوال الخلفاء الراشدين
نرى مما تقدم أن دولة الخلفاء تأسست على التقوى وشيدت بالعدل، وكان خلفاؤها في أبسط أحوال العيش، وكانت الخلافة على عهدهم أشبه بالرتب الدينية منها بمصالح الدولة، وكان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس الغليظ (الكرباس القطن الأبيض) وفي رجليه نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعية، وإذا كلم أدنى الناس سمع منه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدون ذلك من قبيل الدين ويحكمون الناس بالتقوى والعدل والقدوة الحسنة.
وكان طعامهم أدنى من أطعمة فقرائهم، وهم لم يتقللوا منه لفقر أو عجز، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك مواساة للفقراء من رعيتهم، فقد كان لعلي بن أبي طالب دخل طائل من أملاكه يخرجه جميعه على الفقراء.
ولم يكونوا يعبأون بالمال، وكان ذلك شأن سائر الصحابة في أيامهم، ولعل السبب في ذلك قربهم من عهد النبوة ولا تزال رهبتها آخذة بمجامع قلوبهم، فلما بعد عهدها زالت تلك الرهبة من قلوبهم فعكفوا على مطالب الدنيا، ويظهر أن ذلك بدأ فيهم في أواخر عهد الراشدين، فقد ذكر المسعودي أنه «في أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور، فكان لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف إبلا وخيلا كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا، وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار، وبنى الزبير داره بالبصرة وبنى أيضا بمصر والكوفة والإسكندرية، وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج، وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرافات، وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن، وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلثمائة ألف درهم».
وكانت مدة حكمهم نحو ثلاثين سنة اتسعت فيها الفتوح الإسلامية، حتى وطئت خيل العرب ما بين إفريقية في الغرب إلى أقاصي خراسان في الشرق وعبرت النهر إلى سمرقند .
دولة بني أمية
بينا في أواخر كلامنا عن الخلفاء الراشدين كيف انتقلت الخلافة إلى بني أمية وأولهم معاوية بن أبي سفيان، وتمتاز الخلافة في عهد بني أمية بأنها سلطنة دنيوية يحكمها خليفتها بالدهاء والسياسة، ويستدني الناس بالإرهاب ويؤيد سلطانه ببذل الأموال، والسبب في ذلك أن مؤسس هذه الدولة لم يستطع تأييدها لولا ما في الشام من الخير الكثير والأموال الطائلة، فلما خلصت له الخلافة عمد إلى التوسعة على الناس ببذل الأموال، وكان يبذلها خصوصا لبني هاشم، تخفيفا لما في أنفسهم من النقمة عليه، لانتزاعه الخلافة من أيديهم، وكان إذا وفد أحدهم عليه بالغ في إكرامه وإرضائه وقضاء حوائجه، وكثيرا ما كانوا وهم في حضرته يذكرون حقهم بالخلافة ويعرضون باغتصابه إياها، وهو يغضي عن ذلك ويقطع ألسنتهم بالمال والحلم مما هو مأثور عنه.
واقتبس معاوية من الروم أسباب البذخ ودواعي الترف وقلدهم في أبهة الملك، فأقام الحرس يحملون الحراب بين يديه إذا مشى أو قام للصلاة، وبنى لنفسه قصرا نصب فيه السرير وأوقف الحاجب ببابه، وبنى مقصورة في المسجد إذا جاء للصلاة صلى فيها، ولعله اتخذ هذه الوسائل خوفا من أن يغتاله أحد كما اغتالوا عليا وكادوا يغتالونه هو، وقلد الروم في لبس الخز والديباج، وهو الذي وضع البريد على مثال ما كان عند الفرس والروم وأنشأ ديوان الخاتم، مما سيأتي تفصيله.
ومما استحدثه معاوية في الإسلام أنه جعل الخلافة وراثية في نسله، بعد أن كانت انتخابية، وهو أول من استطاع ذلك من المسلمين، فبايع لابنه يزيد وحمل الناس على بيعته بولاية العهد، ولا عبرة في بيعة الحسن بعد أبيه علي، فإن الناس بايعوه من عند أنفسهم ولم يوص له أبوه بالخلافة. (1) الخلافة وبنو أمية
ولا بد من النظر في الأسباب التي أعانت معاوية على إخراج الخلافة من أهل البيت وحصرها في قبيلته، وكان هو وكل الذين بايعوه يعتقدون أن أهل البيت أحق بها منه، والأسباب عديدة ذكرنا بعضها في ما تقدم، ومنها أيضا أن معاوية استخدم في شد أزره رجالا هم أشهر دهاة الإسلام استدناهم إليه بالأطماع، منهم عمرو بن العاص فقد أطمعه بمصر فساعد على مبايعته كما قد رأيت، ومنهم زياد بن أبيه وهو رجل لا يعرف أبوه ولكنه ذو دهاء وسياسة فانتحل معاوية حكاية استلحقه بها بنسبه وزعم أنه أخوه من أبيه أبي سفيان وسماه زياد بن أبي سفيان، فكان زياد هذا من أكبر أعوان معاوية وله فضل كبير في تأييد هذه الدولة في العراق وغيره، وابنه عبيد الله بن زياد هو الذي قتل الحسين بن علي قتلته المشهورة على يده، وما زال آل زياد يعدون من قريش حتى رد نسبهم الخليفة المهدي (سنة 195ه) إلى رجل اسمه عبيد الرومي من ثقيف، وممن استخدمهم معاوية في تأييد خلافته المغيرة بن شعبة، وهو الذي شجعه على مبايعة ابنه يزيد بالخلافة وحصر الخلافة في نسله وساعده أيضا في استدناء زياد بن أبيه.
والمؤرخون يعدون هؤلاء الأربعة أعظم دهاة العرب، ومن ذلك قول أحدهم «ما رأيت أثقل حلما ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرا بعلانية من زياد، ولو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها».
ومما ساعد معاوية على الفوز أن عليا لم يكن يرى الاحتيال في الملك ولا يعرف الدهاء في السياسة، يدلك على ذلك ما فرط منه من هذا القبيل لما بويع بعد مقتل عثمان، فجاءه المغيرة يومئذ وأشار عليه باستبقاء معاوية وسائر العمال، كما كانوا في زمن عثمان حتى يستتب له الأمر وتجتمع على بيعته القلوب وتتفق الكلمة، ثم يفعل بعد ذلك ما شاء وهو رأي رجل حازم، فعده علي من قبيل المداهنة في الدين فلم يعمل به، ونصحه أيضا مثل هذه النصيحة ابن عمه عبد الله بن عباس فأبى، فقال له ابن عباس «يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول الحرب خدعة؟» فلم يقتنع
1 ... أما المغيرة فلما رأى ضياع نصيحته معه عمد إلى مسايرته وعاد إليه في الغداة وحسن له ما رآه، ولو عمل علي برأي المغيرة وابن عباس لما نقم هؤلاء عليه ولا خرج المغيرة ولا غيره من أحزابه ولا كانت واقعة الجمل، وربما لم يصل الأمر إلى بني أمية. (1-1) بذل المال
وهناك عامل ذو تأثير عظيم استخدمه معاوية وسائر بني أمية في تأييد سلطانهم، نعني به «المال»، فقد كانوا يصطنعون به الأحزاب ويستدنون به الأعداء، فيبذلون للشعراء والوافدين، ففازوا به على علي بن أبي طالب وأولاده وأحفاده، على حين أن هؤلاء كانوا يعدون استخدام المال في هذا السبيل رذيلة يجلون أنفسهم عنها، ويعتقدون أن الحق وحده يكفي لتأييد دعوتهم، وقد صح زعمهم هذا في أوائل الإسلام والناس في دهشة النبوة قبل أن تغلب عليهم أهواؤهم، فلا نظن أهل الكوفة نكثوا بيعة الحسين إلا بالمال، حتى آل الأمر إلى قتله فكأنهم قتلوه بالمال، وهم لم يقتلوا عبد الله بن الزبير إلا بالمال، ولو بذل عبد الله هذا المال مثلهم لكانت الخلافة في نسله لا في بني أمية، ولكنه استنكف أن يعطي الناس من أموال الكعبة فأضر بنفسه، وقد صرح بذلك خصمه عبد الملك فقال وهو على فراش الموت «ما أعلم أحدا أقوى على هذا الأمر (الخلافة) مني، إن ابن الزبير طويل الصلاة كثير الصيام، لكنه لبخله لا يصلح للسياسة».
وكان أخوه مصعب بن الزبير مع ذلك ينفق الأموال الطائلة على نفسه وأهله، حتى إنه بذل مليون درهم في زواج سكينة بنت الحسين، وكان الجند في ضيق يطلبون مالا ولا يعطي لهم، فكتب عبد الله بن همام إلى عبد الله بن الزبير يقول:
بلغ أمير المؤمنين رسالة
من ناصح لك لا يريد خداعا
يضع الفتاة بألف ألف كامل
وتبيت سادات الجنود جياعا
ولو لأبي حفص أقول مقالتي
وأبث ما أبثثتكم لارتاعا
وقد كان عبد الملك من أكثر بني أمية بذلا للمال في سبيل تأييد سلطانه، فإن عامله الحجاج بن يوسف لما حاصر الكعبة وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيبوا، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك» ففعلوا.
وكثيرا ما كان عبد الملك يرد أذى الأحزاب عنه بالمال، ينشره على الناس فيشتغلون به عنه، ومن ذلك ما فعله مع رجال عمرو بن سعيد بن الأشدق لما طمح بالشام دونه وخاف عبد الملك على نفسه فأمنه، واحتال في استحضاره إلى ديوانه وقتله غدرا، ثم علم أصحابه بمقتله فتجمهروا حول المجلس، وخاف عبد الملك العاقبة فأمر رجلا أن يرمي رأس عمرو إلى الناس، وأخذ ابنه عبد العزيز المال في البدر وجعل يلقيها إليها، فلما رأى الناس الرأس والأموال اشتغلوا بالأموال وتفرقوا.
وكان للمال تأثير أعظم من ذلك في أيام العباسيي، فإن سلطانهم كان يقوى ويضعف بنسبة ما يبذله الخليفة من الأموال للجند، وخصوصا لما استبد الأتراك في أمور الدولة فكانوا يبيعون نصرتهم بالمال، وكان إذا تولى الخليفة طالبوه بحق البيعة وقد يفرضون عليه رزق سنة أو غير سنة. (1-2) الدهاء والحزم
ومن الأسباب التي أيدت سلطان بني أمية أنهم كانوا يعولون في تأييده على الدهاء والسياسة والحزم، ولو كان فيها خرق لحرمة الدين أو إهانة لأهله، فإنهم قتلوا ابن بنت النبي، وضربوا الكعبة بالمنجنيق، ولعنوا ابن عم النبي وصهره على المنابر، وقتلوا من لم يلعنه، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكان آخر. (2) خلفاء بني أمية
قلنا إن معاوية جعل الخلافة وراثية في نسله، لكنها لم تتعد أولاده ولم يخلفه منهم إلا يزيد الذي بويع بولاية العهد في حياته، ولم يحكم إلا بضع سنين ارتكب في أثنائها أمورا كبارا في جملتها مقتل الحسين بن علي، ولما مات يزيد اختلف الناس على البيعة، وكان له ابن اسمه معاوية (الثاني) ولوه وهو لا يرى الخلافة حقا لهم، ومات بعد قليل، فبايع بنو أمية شيخا أمويا من غير بيت معاوية اسمه مروان بن الحكم سنة 65ه، تولى الخلافة بضعة أشهر ومات، ثم انحصرت الخلافة في نسله، وكل خلفاء بني أمية بعده من ولده أشهرهم عبد الملك بن مروان المتقدم ذكره تولاها من سنة 65-86ه. (2-1) عبد الملك بن مروان وابنه الوليد
ولعبد الملك ذكر حسن في تاريخ التمدن الإسلامي، لأنه عمم اللغة العربية في دواوين الممالك الإسلامية، وكانت لا تزال إلى أيامه تكتب بلغات أهلها ويتولاها أناس من الوطنيين فالديوان المصري كان يكتب بالقبطية ويتولى أعماله جماعة من قبط مصر، والشامي يكتب باليونانية وأموره بأيدي أناس من نصارى الشام، والعراق بالفارسية ويكتبه بعض أهل العراق، فأمر عبد الملك أن تكون كلها بالعربية وسلم مقاليدها إلى المسلمين، ولا يخفى ما كان لهذا العمل من التأثير العظيم في تأييد الدولة الإسلامية، لأنه جعل اللسان العربي لسانا عاما في سائر أنحاء المملكة، فأصبح أهلها بتوالي الأجيال وقد نسوا جنسياتهم وصاروا يعدون أنفسهم عربا، وساعد على ذلك أن العربية هي لغة الدين أيضا.
2
ومن أعمال عبد الملك أنه ضرب النقود الذهبية بالعربية، ونقل الطراز من الرومية إلى العربية، وسيأتي تفصيل ذلك. وكان عامل عبد الملك على العراق الحجاج بن يوسف المشهور بدهائه وغلظته، وكان نصيرا له على تأييد دولته فحارب عبد الله بن الزبير، وكان هذا يدعو الناس إلى بيعته دون بني أمية فحاصره الحجاج في مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق، ثم قتله واستخلص الخلافة لعبد الملك.
قال ابن الأثير «وهو (عبد الملك) أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه».
3
ومنهم الوليد بن عبد الملك (سنة 86-96) وفي أيامه فتحت الأندلس وامتدت فتوحاته من جهة تركستان وبعض جزائر البحر المتوسط، واتسعت حال بني أمية في بناء القصور واتخاذ المصانع والضياع. (2-2) عمر بن عبد العزيز
ومن أشهر خلفاء بني أمية عمر بن عبد العزيز بن مروان (حكم سنة 99-101ه) وكان أقربهم جميعا إلى سيرة الخلفاء الراشدين، ولعله كان كذلك لقرابته من عمر بن الخطاب، لأنه ابن حفيدته، فلما تولى الخلافة جعل جده عمر قدوته بالزهد والعدل، وكان بنو أمية منذ جاهروا بطلب الخلافة فرضوا لعن علي على المنبر فرأى عمر أن ذلك لا يوافق روح الإسلام فأمر بإبطاله
4
فلم تقع أعماله هذه موقعا حسنا لدى بني أمية، وخصوصا لأنه منعهم من اقتناء الأملاك، وكان عمر بن الخطاب قد نهاهم عن ذلك فلم يسمعوا فأعاده هو، فخافوا إذا طال حكمه أن يخرج الخلافة منهم فعجلوا به. (2-3) يزيد بن عبد الملك
وخلفه ابن عمه يزيد بن عبد الملك، وكان من أهل اللهو والطرب فشغل عن مصالح الدولة بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة، وتسلطت حبابة على عقله وقلبه فأصبحت المملكة طوع إرادتها، تولي من شاءت وتعزل من شاءت، وهو لا يعرف من أمور الدنيا شيئا، فلامه أخوه مسلمة وقال له «توليت هذا الأمر بعد عمر بن عبد العزيز وعدله، فتشاغلت بهذه الجارية عن النظر في الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون وأنت غافل عنهم» فتأثر لقوله وقال «صدقت» وهم بترك الشراب ولم يجتمع بحبابة أياما، فاشتاقت هي له فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها «إن خرج أمير المؤمنين للصلاة فأعلميني» فلما أراد الخروج أعلمتها فتلقته والعود في يدها وغنت:
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
فغطى يزيد وجهه وقال «مه، لا تفعلي»، ثم غنت:
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
فلم يتمالك أن عدل إليها وقال «صدقت والله ... قبح الله من لامني فيك! يا غلام، مر مسلمة أن يصلي بالناس»، وأقام معها يشرب وتغنيه وعاد إلى ما كان عليه.
5
وما زال يزيد في ذلك حتى مات بعد موتها حزنا عليها، وخبر موتهما أنه نزل ببيت رأس بالشام ومعه حبابة وقال في نفسه «زعموا أنه لا تصفو عيشة لأحد يوما إلى الليل إلا كدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك»، ثم قال لمن معه «إذا كان غد فلا تخبروني بشيء ولا تأتوني بكتاب»، وخلا هو وحبابة وأتيا بما يأكلان ويشربان، فأكلت حبابة رمانة فشرقت بحبة منها فماتت.
فأقام يزيد ثلاثة أيام لا يدفنها حتى تغيرت وأنتنت، وهو يشمها ويرشفها، ولم يتركها حتى عابه أهله وعاتبوه فأذن بدفنها، ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوما ثم مات ودفن بجوارها سنة 105ه. (2-4) هشام وبقية خلفاء بني أمية
وتولى الخلافة بعده أخوه هشام (من سنة 105-125ه) وكان غزير العقل لكنه كان بخيلا، والبخل مضر في دولة تأسست بالكرم.
وخلفه الوليد بن يزيد، وكان قبل الخلافة منهمكا في اللهو والشراب والغناء مثل أبيه وله أشعار في ذلك، فلما أفضت الخلافة إليه زاد انهماكا في اللذات واستهتارا بالمعاصي، وزاد على ذلك أنه أغضب أهله وأساء إليهم فهجموا عليه مع أعيان رعيته فقتلوه وبايعوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك.
وكان يزيد هذا عاقدا النية على إصلاح الأحوال، ولكن الأمر كان قد استفحل وبدأت الدعوة العباسية واضطرب حبل بني أمية.
وفي أيام خلفه مروان بن محمد بن مروان خرجت الخلافة من أيديهم سنة 132ه رغم ما كان عليه مروان هذا من الرغبة في استبقائها والهمة في سبيل الدفاع عنها، لكنه جاء متأخرا وقد قضي عليها بالزوال.
بنو العباس
(1) الدعوة العباسية
قلنا في عرض كلامنا عن خلافة أبي بكر أن المسلمين لم يشاءوا أن يجمعوا في بني هاشم النبوة والخلافة فبايعوا غيرهم من قريش، وأما بنو هاشم فكانوا يعدون ذلك عدولا عن الحق وأنهم أولى الناس بذلك الأمر وجعلوا يسعون في سبيله، والهاشميون المطالبون بالخلافة أصناف منهم العلويون من أعقاب علي بن أبي طالب، وهم فئتان إحداهما تدعو لنسل فاطمة الزهراء، والأخرى تدعو لمحمد ابن الحنفية (ابن علي من غير فاطمة)، ومنهم العباسيون سلالة العباس عم النبي، وكان كل من هؤلاء يدعو الناس إلى نفسه فيبايعونه سرا ويظل صاحب الدعوة مستترا لا يظهر، فلما ظهر ضعف بني أمية واضطرابهم هان على الناس الخروج من طاعتهم، وخصوصا لأنهم لم يخضعوا للأمويين إلا طعما أو خوفا وأكثرهم يعتقدون أن بني هاشم أولى بالخلافة منهم.
ووفق العباسيون يومئذ إلى رجل فارسي من أهل خراسان ذي بطش وبسالة اسمه أبو مسلم الخراساني، فأنفذوه في طلب البيعة لهم في خراسان، لبعدها عن مركز الخلافة الأموية فوفق إلى ذلك توفيقا عجيبا، فحارب وجاهد حتى أدنى الخلافة من بني العباس وسلم أزمتها إلى أبي العباس السفاح أول خلفائهم سنة 132ه، ولأبي مسلم فضل في تأسيس الدولة العباسية أعظم من فضل عمرو بن العاص في خلافة معاوية، لأن عمرا نصر معاوية برأيه، وأما أبو مسلم فإنه نصر العباسيين بسيفه وقومه. (2) الدولة العباسية
مهما قيل في دولة بني أمية فهي تمتاز عن دولة بني العباس بأنها عربية حقيقية، لأن عمالها وقضاتها وسائر رجالها كانوا عربا، إلا بعض الكتبة والأطباء ونحوهم، وأما بنو العباس فقد غلب في العصر الأول من دولتهم العنصر الفارسي، لأن الفرس هم الذين سلموا إليهم مقاليد الأحكام - كما رأيت - فاتخذوا منهم الوزراء، وهم أول من اتخذ الوزراء، اقتبسوا هذا المنصب من الفرس كما سيأتي.
أول خلفائهم أبو العباس السفاح، وكان له عدة إخوة وأعمام استخدمهم في تأييد سلطانه، وكان مقر السفاح في الأنبار على الفرات غربي بغداد، وما زال فيها حتى مات ولم يحكم إلا بضع سنين. (2-1) المنصور وخلفاؤه
فخلفه أخوه أبو جعفر المنصور سنة 136-157ه وهو من أعظم رجال الإسلام دهاء وسياسة وشجاعة، بنى مدينة قرب الكوفة سماها الهاشمية ثم اتفق له فيها حرب مع جماعة يقال لهم الراوندية فكرهها لذلك ولقربها من الكوفة، وكان يخاف أهل الكوفة، لأنهم قتلوا عليا والحسين، فخرج منها وبنى مدينة بغداد وهي أشهر عواصم المسلمين، ثم رأى أن بقاء أبي مسلم يجعل مركزه في خطر، لأنه أقدر الناس على إخراج الملك من أيدي العباسيين كما سلمه إليهم فقتله غيلة، وعذره في ذلك أنه كان عقبة في سبيله فأزالها، كما فعل محمد علي بالأمراء المماليك، وكما فعل السلطان محمود الثاني بالإنكشارية بعد ذلك بأحد عشر قرنا. وأيام المنصور كلها حروب وفتوح.
وخلفه ابنه محمد الهادي فهارون الرشيد ثم ابنا الرشيد الأمين فالمأمون، وفي أيام الرشيد والمأمون بلغت الدولة العباسية أوج مجدها ومعظم سلطانها، وزهت فيها العلوم والمعارف وترجمت الكتب وتفجرت ينابيع الثروة مما سنأتي على تفصيله في أماكنه.
قتل المنصور أبا مسلم الخراساني، خوفا من طمعه في السلطة وهو فارسي، لكنه استخدم في بلاطه رجالا من الفرس، وفعل خلفاؤه مثله وقدموهم في مناصب الدولة ومنها الوزارة وهي أرفع هذه المناصب عندهم، فآل ذلك إلى استفحال أمرهم في أيام الرشيد وزاد سلطان البرامكة، فلما رآهم الرشيد يستبدون بمصالح الدولة دونه نكل بهم كما هو مشهور. (2-2) المعتصم والأتراك
وخلف المأمون المعتصم بالله سنة 218ه فأكثر من استخدام الأتراك، وكان صبيان الأتراك يحملون إلى بلاد الخلفاء في أوائل الدولة العباسية هدايا من عمال الأمصار في تركستان، وكان الخلفاء ينتقون أحسنهم خلقا وأقواهم بنية، لاستخدامهم في قصورهم وكانوا يسمونهم المماليك، وكانوا يدخلون في الإسلام ويتعلمون ويتثقفون فظهرت مواهبهم فولاهم الخلفاء كثيرا من مناصب الدولة، وأخذوا يرتقون بحسب اقتدارهم حتى وصلوا إلى أعلى مناصب الإمارة والجند، فأصبحت مقاليد السلطة تتنازعها قوتان متوازنتان الترك، والفرس - وسنعود إلى تفصيل ذلك.
واصطنع المعتصم قوما من أهل الحوف بمصر (الشرقية والدقهلية) واستخدمهم في جنده وسماهم المغاربة، وجمع خلقا من سمرقند وأشروسنة وفرغانة سماهم الفراغنة فكانوا من أصحابه وحاشيته، فضلا عما كان عنده من الجند العربي، واصطنع غيره بعده أناسا آخرين من أمم أخرى، فتعددت العناصر وكثرت الأيدي الأجنبية المتعارضة، فآل ذلك إلى ضعف الخلفاء واستبداد العمال في الولايات واستقلالهم. (2-3) تفرع الدولة العباسية
وجعلت سلطة الخلفاء تتقلص حتى اقتصرت على السواد بين الفرات ودجلة، ولم يكد يدخل القرن الرابع للهجرة حتى انحصرت سلطتهم في مدينة بغداد، وإليك فروع المملكة الإسلامية على عهد الراضي بالله (934/322-940/329):
الولايات
حكامها
البصرة
في يد محمد بن رائق بالإضافة إلى إمرة الأمراء.
خوزستان، الأهواز
في يد أبي عبد الله البريدي.
فارس
في يد عماد الدين أبي الحسن علي بن بويه.
كرمان
في يد أبي علي محمد بن إلياس.
الري وأصفهان والجبل
في يد ركن الدولة أبو علي حسن بن بويه وغيره.
الموصل وديار بكر ومضر وربيعة
في يد بني حمدان.
مصر والشام
في يد محمد بن طغج الإخشيد.
خراسان وما وراء النهر
في يد السامانية.
طبرستان وجرجان
في يد الديلم.
البحرين واليمامة
في يد القرامطة. (2-4) استبداد الجند والخدم
ومما زاد الأمر استفحالا أن الخدم والأجناد أصبحوا مطلقي الأيدي في قصور الخلفاء، يستبدون في أعمالها ويسومون الخلفاء أصناف الإهانة وأنواع العذاب، كما فعل جند المغاربة والأتراك في المعتز سنة 225ه لما خلعوه، لأنه قصر في عطائهم، فإنهم دخلوا حجرته وجروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأوقفوه في الشمس، فكان يرفع رجلا ويضع الأخرى لشدة الحر، وبقي بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة وأحضرا ابن أبي الشوارب القاضي وجماعة فأشهدوهم على خلعه ثم سلموه إلى من يعذبه ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سردابا وجصصوه عليه فمات،
1
ومع كل ما لحق الخلفاء من الذل والضعف لم يخطر للفرس ولا للأتراك ولا لغيرهم من عرب قريش أن ينزعوا الخلافة من أعناق بني العباس.
فما زالت الخلافة العباسية في بغداد حتى جاءها التتر من مفازة الصين فافتتحوها وقتلوا خليفتها سنة 656ه ففر من بقي من أهله إلى مصر والتجأوا إلى سلاطينها المماليك فأنزلوهم على الرحب والسعة إلى أن فتح السلطان سليم العثماني مصر سنة 923ه فأخذ الخلافة منهم، وبلغ عدد الخلفاء العباسيين جميعا نيفا وخمسين خليفة، منهم 37 في العراق، أولهم السفاح وآخرهم المستعصم، والباقون في مصر.
الدولة الأموية في الأندلس
أول من دخل بلاد الأندلس من المسلمين طريف بن زرعة ثم أعقبه طارق بن زياد وموسى بن نصير سنة 92ه في عهد الدولة الأموية بالشام، فافتتحاها وتولاها الأمراء باسم الخلفاء الأمويين، فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس وأعمل أبو العباس السفاح السيف في بني أمية قتلهم جميعا إلا نفرا قليلا منهم فيهم شاب اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك نجا وفر إلى بلاد المغرب واجتاز البحر إلى الأندلس، وكان عليها أمير اسمه عبد الرحمن بن يوسف الفهري، فامتلكها منه وخطب فيها للسفاح زمنا قصيرا
1
ثم قطع الدعوة عن العباسيين ودعا لنفسه سنة 138ه وأقام في قرطبة عاصمة الأندلس في ذلك الحين، وخلفه حكام من بيته كانوا يلقبون أنفسهم بالأمراء إلى آخر القرن الثالث، حتى صار الأمر إلى عبد الرحمن الثالث المعروف بالناصر فسمى نفسه خليفة سنة 317ه وهو أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس: حارب الإفرنج مرارا وردهم على أعقابهم، فلما مات خلفه بضعة عشر خليفة ليس فيهم من يعدل به.
حكم الناصر خمسين سنة تعد العصر الذهبي للسلطان السياسي للإسلام في الأندلس، وقد ساد عبد الرحمن شبه الجزيرة الأيبيرية كلها ودانت له بالطاعة الممالك والإمارات التي قامت في شمال شبه الجزيرة وشمالها الشرقي، ونشر سلطانه على شمالي مراكش الحالية وراسله أباطرة الدولتين البيزنطية والأتونية في ألمانيا.
وخلفه في الحكم المستنصر، وهو أعلم خلفاء بني أمية الأندلسيين، عني بالعلوم والآداب، وأنشأ مكتبة القصر التي تعد أعظم مكتبة عامة أنشئت في العصور الوسطى.
وبعد الحكم المستنصر صار الأمر إلى ابنه هشام الثاني الملقب بالمؤيد، وكان شابا ضعيفا خامل الذهن محدود الذكاء، فسيطر عليه الحاجب أبو محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور وأصبح صاحب السلطان الأعلى في البلاد، ويعتبر المنصور من أعظم السياسيين ورجال الحكم الذين أنجبهم الإسلام في شتى عصوره، وقد ارتقى من صفوف الشعب إلى أعلى المناصب بالذكاء وسعة الحيلة وبعد النظر والمثابرة والدأب على العمل، وجمع زمام الأمور كلها في يده وحرص على أن يواصل نشاط الحملات على الممالك والإمارات الإسبانية الشمالية حتى كاد يقضي عليها، وقد تمتع الأندلس في عهده برخاء لم يعهده في أي عهد مضى.
وعندما مات خلفه ابنه عبد الملك المعروف بالمظفر، فسار على سيرة أبيه دون أن تكون له كفايته، ولكنه استطاع أن يحتفظ بما خلفه له أبوه سبع سنوات، وعاجلته المنية سنة 1008 فخلفه أخوه عبد الرحمن ولقب نفسه المأمون، وكان شابا مضطرب العقل مستغرقا في هواه، لم يكتف بأن يحكم باسم الخليفة هشام المؤيد، وأراد أن يجعل نفسه وليا للعهد، فبدأت سحب الثورة تتجمع في سماء الأندلس، ثم انفجرت دفعة واحدة فأطاحت بملك بني عامر، وبدأت الفتنة العامة التي تسمى في تاريخ الأندلس بالفتنة الكبرى.
أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس كما صوره الإسبان.
بدأت هذه الفتنة التي قصمت ظهر الأندلس من أوائل القرن الخامس الهجري، فانقسمت الأندلس إلى إمارات يتولاها رؤساء أو أمراء أشهرهم بنو حمود في مالقة والجزيرة الخضراء (408 / 1017-449 / 1057) وبنو عباد في إشبيلية (414 / 1023-484 / 1091) وبنو زيري في غرناطة (403 / 1012-483 / 1090) وبنو جهور في قرطبة (422 / 1030-461 / 1068) وبنو ذي النون في طليطلة (427 / 1035-478 / 1085) والصقالبة العامريون في بلنسية (412 / 1021-478 / 1085) وبنو هود في سرقسطة (410 / 1019-536 / 1141) وبنو مجاهد العامريون في دانية (408 / 1017-468 / 1075)، ويعرف هؤلاء الرؤساء بملوك الطوائف، وتنازعوا وتغالبوا فيما بينهم وحاربهم الإفرنج، لأنهم طمعوا فيهم على أثر ذلك الانقسام.
وضاق بنو عباد ذرعا في حرب ألفونس السادس ملك ليون، فاستنجدوا ملك المرابطين من المغرب، فأقبلوا بقيادة يوسف بن تاشفين اللمتوني، وانضم إليهم عدد كبير من ملوك الطوائف وجنودهم وتمكنوا من الانتصار على ألفونس السادس في موقعة الزلاقة عام 478 / 1086 انتصارا حاسما أنقذ دولة الإسلام في الأندلس إلى حين، ثم عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب حاسبا أن أمراء الطوائف سيصلحون من أحوالهم، ولكنه تبين أنهم عادوا إلى ما كانوا فيه، فرجع إلى الأندلس مرة أخرى واستنزل ملوك الطوائف جميعا عن عروشهم، عدا بني هود أصحاب سرقسطة، وجعل ما بقي بيد المسلمين من الأندلس جزءا من دولة المرابطين، وظل الأمر على ذلك حتى سنة 540 / 1145 عندما تغلب الموحدون على المرابطين في المغرب وأزالوا ملكهم وحلوا محلهم، وأنشأوا إمبراطورية واسعة شملت المغرب الإسلامي كله وما بقي بأيدي المسلمين من البلاد الأندلسية.
ونشأت في نهاية العصر الموحدي إمارات صغيرة في بلنسية ومرسية وغيرهما من قواعد الأندلس، أهمها في غرناطة الدولة النصرية أو دولة بني الأحمر، نسبة إلى مؤسسها أبي عبد الله محمد بن نصر الملقب بابن الأحمر ... وكان في أول أمره فارسا يعمل في خدمة بني هود أصحاب شرق الأندلس، ثم ضبط قاعدة أرجونة وحصنها وانتهز فرصة ضعف بني هود فاستقل عنهم، وأخذ يوسع حدود مملكته، فاستولى على جيان وأطاعته بياسة ووادي آش ومالقة وغرناطة، ثم نقل مركز دولته إلى ذلك البلد الأخير، واختار ضاحية من ضواحي غرناطة تقوم على تلال حمراء على ضفة نهر حداره أحد نهيرات نهر شنيل المتفرع من الوادي الكبير، وهناك أنشأ حصونا وقصورا وزودها بكل ما يلزم المدن، وتلك هي المعروفة بالحمراء، ونقل إلى الحمراء مركز الحكم، وأدار عليها وعلى غرناطة سورا، وتكشف عن كفاية إدارية وعسكرية مكنت له من تدعيم أسس الدولة التي أنشأها وقدر لها أن تكون آخر معاقل الإسلام في إسبانيا، واستمرت تقاوم عناصر الفناء المحيطة بها والمتأصلة في كيانها 254 سنة ابتدأت من سنة 1238 وانتهت في يناير سنة 1492، وانتهى معها سلطان الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية بعد أن دام 781 سنة.
وقد زهت الأندلس في أيام بني نصر وظهر فيها الشعراء والأدباء على نحو ما كانت عليه في أيام عبد الرحمن الناصر، لكن الإسبان ما زالوا يهاجمون المسلمين ويناوئونهم وهم يدافعونهم إلى أواخر القرن التاسع للهجرة فهاجم غرناطة فرديناند وإيزابلا سنة 897 / 1492 ففر ملكها أبو عبد الله وهو محمد الحادي عشر من تلك الدولة، فانقضت بفراره دولة المسلمين في الأندلس.
وللأندلس شأن عظيم في التاريخ الإسلامي، فقد نبغ فيها العلماء والشعراء وأنشئت فيها المدارس والمكاتب وشيدت الأبنية والقصور، وسنأتي على كل شيء في موضعه.
الدولة الفاطمية
نشأت هذه الدولة في بلاد المغرب، وهي تنتسب إلى السيدة فاطمة بنت الرسول
صلى الله عليه وسلم
عن طريق جعفر الصادق، وأول من ظهر بالدعوة منهم عبيد الله المهدي في أواخر القرن الثالث للهجرة، ولذلك فهي تسمى أيضا العبيدية، وقد أعانهم على نيل الخلافة رجل اسمه أبو عبد الله الشيعي نحو ما فعل أبو مسلم مع العباسيين، فلما استتب لهم الأمر قتلوه كما فعل المنصور بأبي مسلم، وامتد سلطانهم في أواسط القرن الرابع إلى مصر على يد القائد جوهر الصقلي، وكانت مصر في حوزة العباسيين ففتحها جوهر الصقلي وبنى فيها مدينة القاهرة نحو سنة 360ه وسميت القاهرة المعزية، نسبة إلى المعز لدين الله أول من جاء مصر من الخلفاء الفاطميين، وتناوبها خلفاؤه بعده حتى أصابهم ما أصاب الدولة العباسية في بغداد من الاستكثار من جند الأتراك والمغاربة والسودان ومن إليهم.
باب النصر من أبواب القاهرة.
وقد بدأ الفاطميون حكمهم في مصر بدءا طيبا وعرفت في أيام المعز لدين الله (341 / 952-365 / 975) والعزيز بالله (365 / 975-386 / 996) والحاكم بأمر الله (386 / 996-411 / 1020) رخاء عظيما واستقرارا لم تعرفه منذ سنوات طويلة، واتسعت حدودها حتى شملت الشام والحجاز واليمن وبرقة، بالإضافة إلى إفريقية (تونس) التي كانت تدين بالولاء للفاطميين، وقد استمر هذا الازدهار حتى منتصف خلافة المستنصر بالله (427 / 1035-487 / 1094)، ثم توالت عليها الأزمات والمتاعب بسبب سوء السياسية الاقتصادية التي جرى عليها الفاطميون من ناحية، ثم إسرافهم في استخدام جند الأتراك والمغاربة والسودان، وتنازع طوائفهم فيما بينهم، حتى انتهت البلاد إلى حال من الضعف والاضطراب لم تعرفه فيما سلف من عصورها الإسلامية، وأضيفت إلى ذلك كوارث طبيعية كانخفاض مستوى الفيضان سنين متوالية، مما ذهب بالرخاء جملة، فتوالى الغلاء والمجاعات، وعجز الناس عن دفع الضرائب وازدادت مطالب الجنود وفتك بعضهم ببعض، مما هوى بالبلاد إلى درك سحيق من الفوضى والفقر البالغ.
قلعة القاهرة
واحتاجت الدولة إلى من يضبط الأمر، فاستعان الخليفة المستنصر ببدر الجمالي والي عكا، وكان من أصل أرمني، فأقبل وتولى الأمور، وأظهر كفاية عظيمة، وضرب على أيدي الجند، وساعفته المقادير، فتحسنت حالة الفيضان، وبدأت البلاد تخرج بفضل حزمه وإدارته الرشيدة من الهاوية التي تردت فيها.
بيد أن الخلافة الفاطمية أخذت تتلاشى شيئا فشيئا؛ فقد انتقل السلطان بصورة نهائية إلى الوزير ومن يستعين بهم في ضبط الأمور، وتعاقب الوزراء على السلطان واتخذوا لقب الوزراء العظام، وأولهم الأفضل بن بدر الجمالي وآخرهم صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وكان معظم أولئك الوزراء على جانب كبير من المهارة والقدرة، ولكن أكبر جانب من اهتمامهم كان منصرفا إلى المحافظة على مراكزهم بالاستكثار من الجند المرتزقة، وإرهاق الأهالي بالضرائب حتى يستطيع دفع رواتب الجنود، ووجد خلفاء الفاطميين بعد المستنصر أن سلطانهم قد تلاشى تماما، فمضوا يكيدون للوزراء ويدبرون المؤامرات للقضاء عليهم كما فعل الخليفة الآمر، إذ دبر اغتيال الأفضل بن بدر الجمالي، واستعان بنفر من الباطنية على ذلك، وتم اغتياله عام 515 / 1121 وتولى الوزارة بعده كبير المتآمرين المأمون البطالحي، واستمر النزاع بين الخلفاء والوزراء إلى آخر أيام الدولة الفاطمية، وقد خسر الخلفاء المعركة وفقدوا كل سلطان ابتداء من عهد الخليفة الظافر 544 / 1149-549 / 1154، بل إن أحدهم وهو طلائع بن رزيك اتخذ لنفسه لقب الملك الصالح، وهو أمر له دلالته.
وآخر خلفاء الفاطميين هو العاضد الذي بدأ حكمه باغتيال طلائع بن رزيك سنة 556 / 1161 وأقام مقامه أبا شجاع العادل، وفي سنة 558 / 1163 نازعة في الوزارة شاور والي الوجه القبلي وغلبه وقتله وتولى الأمر مكانه، ولم يدم له الأمر، إذ نافسه فيه ضرغام، وكان أميرا لفرقة من الجند تسمى البرقية، وطال النزاع بين الرجلين، فاستنجد شاور بنور الدين محمود واستنجد ضرغام بعموري ملك بيت المقدس، وانتهى الأمر باستيلاء نور الدين على مصر وتعيينه أسد الدين شيركوه وزيرا، فلما مات خلفه ابن أخيه صلاح الدين، فوزر لنور الدين السني وللعاضد الشيعي في وقت واحد، ولكنه تمكن بحسن سياسته من التخلص من العاضد، واستخلاص مصر لنفسه بعد موت نور الدين المبكر، وقد مات العاضد في سنة 567 / 1171 وبذلك انتهت الدولة الفاطمية وبدأت الدولة الأيوبية.
وتعتبر الدولة الأيوبية من أقصر الدول التي حكمت مصر عمرا، فلم تتعد مدة حكمها واحدا وثمانين عاما (567 / 1671-648 / 1250) ولكنها تعد من أخطرها شأنا، لأن الذي أنشأها كان صلاح الدين الأيوبي أعظم شخصية سياسية وعسكرية في تاريخ مصر الإسلامية، ولأنها نجحت في الخلاص بمصر والدولة الإسلامية عموما من أكبر خطر تهددها خلال هذه العصور وهو خطر الصليبيين.
كانت الدولة الأيوبية دولة عسكرية في طبيعتها ووظيفتها، وقد قامت للغرض الواحد الكبير الذي ذكرناه وانتهت بتلاشي الخطر، وقد دفعتها الظروف التي عاشت في ظلالها إلى طلب الجند بأي ثمن والاستكثار من المماليك، وخاصة في أيام سابع سلاطينها الصالح نجم الدين أيوب، فقد اشترى منهم آلافا أسكنهم بجزيرة الروضة فسموا لذلك بالبحريين، وكان من الطبيعي أن يحوزوا الدولة عندما ضعف أمر السلاطين، وهذا هو الذي حدث بعد موت الصالح نجم الدين أيوب ومقتل ابنه توران شاه، إذ عجزت عصمة الدين أم خليل شجر الدر عن مدافعة المماليك، فغلبها أيبك التركماني وتولى السلطنة سنة 648 / 1250، وبدأت بذلك دولة المماليك الأولى المعروفين بالمماليك البحرية وقد حكموا 136 سنة (648 / 1250-784 / 1382) وأعظمهم عز الدين أيبك وسيف الدين قطز وركن الدين بيبرس والمنصور سيف الدين قلاوون، وكان البحريون على الجملة قوادا عسكريين ممتازين وإداريين قادرين، وقد علا اسم مصر في أيامهم واتسعت إمبراطوريتها وزاد رخاؤها وأصبحت مركز العلوم والآداب في العالم الإسلامي كله.
وأعقب المماليك البحرية على ملك مصر مماليكهم المعروفون بالبرجية، وأولهم الملك الظاهر أبو سعيد برقوق وآخرهم طومان باي الثاني، وقد حكموا مصر 139 سنة من 784 / 1382 إلى 923 / 1517 وكانوا قادة عسكريين ممتازين، ولكنهم لم يظهروا أي كفاية إدارية أو مالية، وقد ضعفت مصر في أيامهم شيئا فشيئا، واضطربت ماليتها بعد تحول التجارة إلى رأس الرجاء الصالح، وأظهروا قصر نظر مخجل فيما يتعلق بموقفهم من الخطر العثماني، مما انتهى بسقوط مصر في أيدي الأتراك العثمانيين سنة 923 / 1517.
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
ولو أردنا ذكر الدولة الإسلامية التي نشأت في العالم لطال بنا الكلام، فنكتفي بجدول نبين فيه أسماء الدولة الإسلامية وعواصمها وعدد ملوك كل منها وسني ولايتهم، وإليك هو:
جدول الدولة الإسلامية منذ ظهور الإسلام إلى سنة 1914.
اسم الدولة
كرسي ملكها
عدد ملوكها
سنة نشأتها ه
سنة انقضائها ه
الخلفاء الراشدون
المدينة
4
11
40
الدولة الأموية بالشام
دمشق
14
41
132
العباسية «في بغداد»
بغداد
37
132
656
العباسية «في مصر»
القاهرة
17
659
923
الأموية بالأندلس
قرطبة
16
138
422
بنود حمود العلويون
مالقة (الأندلس)
9
407
449
بنو حمود العلويون
الجزيرة (الأندلس)
2
431
450
بنو عباد
إشبيلية (الأندلس)
3
414
484
بنو زيري
غرناطة (الأندلس)
5
403
483
بنو جهور
قرطبة (الأندلس)
3
422
461
بنو ذي النون
طليطلة (الأندلس)
3
427
478
الصقالبة العامريون
بلنسية
5
412
483
بنو تجيب وبنو هود
سرقطسة ولاردة (الأندلس)
9
410
536
وتطيلة (الأندلس)
مجاهد العامري وأولاده
دانية والجزائر الشرقية (الأندلس)
2
408
468
بنو نصر «بنو الأحمر»
غرناطة (الأندلس)
21
629
897
بنو صمادح
ألمرية
2
433
480
الأدارسة
وليلى ثم فاس «بمراكش الحالية»
12
172
375
الأغالبة
القيروان والمهدية ورقادة
11
184
296
بنو زيري الصنهاجيون
القيروان
8
362
543
بنو حماد بالمغرب الأوسط
قلعة بني حماد
9
398
547
المرابطون
مراكش
6
448
541
الموحدون
شمالي إفريقية
13
524
668
بنو حفص
تونس
24
625
981
بنو زيان
تلمسان بالمغرب الأوسط «الجزائر الحالية»
25
633
962
بنو مرين
فاس
27
592
831
الشرفاء ثم السعديون
مراكش
25
955
لا تزال
الطولونيون
القطائع «مصر»
5
254
292
الإخشيدية
الفسطاط «مصر»
5
323
358
الفاطمية
القيروان والقاهرة
14
297
567
الأيوبيون في مصر
القاهرة
9
564
648
الأيوبيون في دمشق
دمشق
12
582
658
الأيوبيون في حلب
حلب
5
579
634
المماليك البحرية
القاهرة
25
648
792
المماليك البرجية
القاهرة
24
784
922
أسرة محمد علي
القاهرة
10
1220
1371
بنو زياد
زبيد «اليمن»
9
204
412
بنو يعفور
صنعاء «اليمن»
10
247
387
بنو نجاح
زبيد وجند «اليمن»
7
412
553 / 554
الصليحية
صنعاء وغيرها «اليمن»
3
429
492
الهمدانيون
صنعاء وغيرها «اليمن»
8
492
569
بنو مهدي
زبيد «اليمن»
3
554
569
الزريعية
عدن «اليمن»
8
476
569
الرسولية
زبيد وغيرها «اليمن»
13
626
858
بنو طاهر
عدن وزبيد «اليمن»
4
850
923
الأئمة من بني رسى
صعدة وصنعاء«اليمن»
17
280
700
الحمدانيون في الموصل
الموصل «سوريا»
9
293
323
المرداسيون في حلب
حلب «سوريا»
7
332
406
العقيليون
الموصل وغيرها «سوريا»
5
386
448
المروانية
ديار بكر «سوريا»
5
380
489
المزيدية
الحلة «سوريا»
8
403
545
بنو دلف
كردستان (فارس)
6
210
285
بنو الساج
الري (فارس)
2
306
314
العلوية «الزيدية»
آمل وسادية في طبرستان (فارس)
2
250
270
خراسان
6
205
261
بنو طاهر
نيسابور (فارس)
5
261
395
السامانية
الري وشيراز بخراسان
12
204
308
خانات أيلك «آل أفرازياب»
تركستان
27
315
607
الزيارية
جرجان وغيرها
10
315
471
بنو حسنوية
كردستان
3
348
406
بنو بويه
بغداد
11
334
513
بنو كاكويه
أصبهان وهمدان
5
398
443
السلاجقة وفروعهم
أصبهان وإيران والعراق والشام وكرمان
31
429
619
الدانشمندية
سيواس وملطية
12
455
567
الأتابكة من بني بوري
دمشق
6
497
564
الأتابكة الزنجيون
الموصل ودمشق وحلب
20
516
660
بنو بكتكين
أربل
3
539
630
بنوارتق
حصن كيفا وآمد وخرتيرت وماردين
30
495
811
شاهات أرمن
خلاط بأرمينية
8
493
604
أتابكة أذربيجان
أردبيل
5
531
622
بنو سلغر
فارس
11
543
686
بنو هزراسب
لورستان
14
543
740
شاهات خوارزم
خوارزم
8
470
628
الخانات القتلغية
كرمان
8
619
703
آل عثمان
الآستانة وغيرها
35
699
1922
خانات المغول
زنقارية وغيرها
34
603
1092
مغول الفرس
فارس
17
654
754
خانات العشائر الذهبية
قاراخيتاي
40
621
907
خانات القرم
القرم
45
823
1197
خانات جاغتاي
تركستان
44
624
978
آل جلائر
العراق وغيرها
9
736
827
المظفريون
فارس وكردستان وكرمان
7
713
795
السربداريون
خراسان ودامغان
13
737
783
آل كرت عمال دنيسابور
هراة وبلخ وسرخس
8
643
791
أمراء القراقيوتلو
أذربيجان (تبريز)
6
780
873
أمراء آق قيوتلو
الموصل وبغداد ثم أذربيجان
12
780
908
شاهات العجم
إيران وغيرها
31
907
لا تزال
التيموريون
سمرقند
13
771
906
الشيبانيون
سمرقند
13
832
1007
المنغيتيون
بخارى
10
1170
1329
خانات خيوه
خوارزم
35
921
1290
خانات خوقند
خوارزم
17
1112
1293
الجانيون
بخارى (استراخان)
11
1009
1200
الغزنويون
أفغانستان وبنجاب
21
351
582
الغوريون
أفغانستان وهندستان
14
493
658
سلاطين دهلي
هندستان
38
602
975
حكام البنغال وسلاطينها
البنغال (الهند)
55
599
984
ملوك الشرق بجونبور
بيهار أوذوقنوج، بهرايج، جونبور (الهند)
6
796
881
ملوك مالوا
مالوا (الهند)
10
804
968
ملوك كجرات
كجرات (الهند)
14
793
991
الفاروقيون ملوك خاندش
برهان بور (خاندش) (الهند)
13
801
1008
البهمنيون
الدكن (الهند)
18
748
933
بنو عماد شاه
برار (الهند)
5
890
980
بنو نظام شاه
أحمد نجر (الهند)
10
896
1004
بنو بريد شاه
بيدر (الهند)
7
895
1097
بنو العادل شاه
بيجابور(الهند)
8
895
1097
بنو قطب شاه
كولكندا (الهند)
7
918
1098
أباطرة المغول
هندستان (الهند)
17
932
1274
ولاة المغول العظام
بنغالة (الهند)
23
984
1088
أمراء وملوك أفغانستان
أفغانستان
15
1160
لا يزالون
وخلاصة ذلك أن الدول الإسلامية التي ظهرت من أول الإسلام إلى الآن نيف ومائة دولة عدد رؤسائها نحو 1200 رئيس، فيهم الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والأتابكة والإخشيدية والخديويون والشرفاء والبايات والدايات وغيرهم، ومن عواصمهم المدينة والكوفة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة والآستانة وصنعاء وعمان ودهلي وغيرها.
هذه مقدمات تاريخية في كيفية تأسيس الدولة الإسلامية وإنشاء التمدن الإسلامي، تمهيدا لما سيأتي من تاريخ ذلك التمدن.
وقد رأيت أنهم أنشأوا دولا كثيرة تمدنت في عصور مختلفة، ولما كانت الدولة العباسية أشهرها جميعا وأسبقها إلى المدنية فسنجعل ما يأتي من وصف التمدن خاصا بها على الأكثر.
الدولة الإسلامية
سعتها وأعمالها
تأسست الدولة الإسلامية في المدينة في السنة الأولى للهجرة والمسلمون قليلون وكل أرض خارج حدود المدينة لا تدخل في زمامهم وكل رجل من غير الصحابة والمهاجرين والأنصار عدو لهم، وحدود تلك الدولة محصورة بيثرب وبعض ضواحيها، وكانت دار الحكومة والقضاء يومئذ المسجد أو بيت النبي أو بيوت الصحابة، وما زال ذلك شأنها إلى السنة الرابعة للهجرة فأضافوا إليها أرض بني النضير، وفي السنة التالية أرض خيبر ثم فدك، فوادي القرى فتيماء، ثم فتحوا مكة فالطائف فتبالة فجرش، ثم مدوا حدودهم شمالا إلى تبوك وأيلة وجنوبا إلى نجران فاليمن فعمان فالبحرين فاليمامة.
ولما توفي النبي سنة 10 للهجرة كانت سطوة الإسلام قد أظلت كل جزيرة العرب، وشاهد النبي دولة الإسلام تمتد من تبوك وأيلة شمالا إلى شواطئ اليمن جنوبا ومن خليج العجم شرقا إلى بحر القلزم غربا. (1) سعتها في زمن الخلفاء الراشدين
فلما تولى أبو بكر وفرغ من الردة بعث الجند لفتح الشام والعراق، وأتم فتحهما عمر بن الخطاب وفتح مصر، وكانت أكثر الفتوح في عصره، وخلفه عثمان ففتح بلادا أخرى، وشغل المسلمون عن الفتوح بعد مقتله بالفتنة التي شبت بينهم، حتى إذا انقضى عصر الخلفاء الراشدين وضع معاوية يده على أزمة الخلافة ورايات المسلمين تخفق على الشام ومصر والنوبة وإفريقية والعراق وفارس وأرمينية وأذربيجان وجرجان وطبرستان والأهواز وغيرها.
وكان الخليفة يقيم في المدينة (أو الكوفة) ويرسل عماله إلى الأعمال (الولايات)، وأكبر أعمال المملكة الإسلامية يومئذ الشام وتحتها أجناد حمص وقنسرين والأردن وفلسطين والثغور، ثم العراق وأعظم أعماله السواد وهو ما بين دجلة والفرات وعاصمته الكوفة على الفرات، وما عدا السواد البصرة وقرقيسية والري وأصفهان ونهاوند وأذربيجان وحلوان وهمدان وغيرها، وفي بلاد العرب مكة والطائف والبحرين وعمان وصنعاء، وفي قارة أفريقيا مصر وما يتبعها من أفريقية في بلاد المغرب والنوبة في أعالي وادي النيل، وكان الخلفاء يرسلون عمالهم إلى هذه الأعمال رأسا من المدينة (أو الكوفة)، إلا الشام فقد كان عاملها يقيم في دمشق وهو يولي عمالا على ما تحتها من الأجناد، وكذلك مصر، كان عاملها في الغالب يرسل العمال من تحت إمرته إلى أفريقية والنوبة.
وكان عامل الشام في أيام عمر بن الخطاب إلى آخر عصر الخلفاء الراشدين معاوية بن أبي سفيان، ثم صار خليفة ونقل مركز الخلافة إلى دمشق كما تقدم، وتخلفت جزيرة العرب كلها عن بيعته وظلت على بيعة علي ثم أولاده، وبعد مقتل الحسين ظلت الجزيرة على بيعة ابن الزبير، حتى قتله الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان سنة 72ه فانضمت إلى دولة بني أمية. (2) سعتها في أيام بني أمية
شارل مارتل يحارب العرب بين تورس وبواتييه بفرنسا.
في أيام بني أمية زادت الدولة الإسلامية اتساعا ففتحت الأندلس وسائر المغرب غربا، وأوغل بنو أمية في أوربا من وراء إسبانيا فقطعوا جبال ألبرت - وهي المعروفة بالبرانس - ودخلوا فرنسا وأوغلوا فيها إلى نهر الرون سنة 114ه، فارتعد الإفرنج لذلك وخافوا أن يصيبهم ما أصاب إسبانيا، فتكاتفوا لدفعهم بكل جهدهم، فحصلت بين الفريقين وقائع دموية دامت بضعة أيام والحرب سجال، وانتهت بهزيمة العرب في مكان يسمى بلاط الشهداء بين بلدتي تور وبواتييه في وسط فرنسا الحالية، ولم يذكر العرب من أخبار هذه الوقائع إلا إشارات مختصرة، وأما الإفرنج فإنهم فصلوها مع ما يقتضيه المقام من إعجابهم بالعرب وبسالتهم، وإن كانت الوقائع كما سجلها مؤرخوهم مضطربة أسطورية الطابع، وكان يقود الفرنجة في معركة بلاط الشهداء ملكهم شارل مارتل جد الإمبراطور شارلمان، ولم ينسحب العرب من غالة (وهي فرنسا الحالية) بعد موقعة بلاط الشهداء، وإنما ظلوا مسيطرين على جزء كبير من الجنوب نحو 30 سنة بعد هذه الموقعة (سنة 732) وكانت عاصمتهم في هذه الناحية مدينة أربونة (نربون) حتى تخلوا عنها سنة 133 / 751.
وقد ورد في تاريخ ابن الأثير ذكر هذه الحروب فقال: إن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس خرج غازيا سنة 114ه (وهي تقابل سنة 732 تقريبا) ببلاد الإفرنج فقتل هو ومن معه شهداء. وهذه هي الحملة التي حاربها شارل مارتل المذكور.
ومما يستدعي الاعتبار والتأمل أن العرب لو فازوا في هذه الواقعة لانتشر الإسلام في فرنسا ثم سائر أوربا، لأن الفرنجة - سكان غالة إذ ذاك وهي فرنسا الحالية - كانوا أقوى أمم أوروبا النصرانية على مدافعة العرب يومئذ، ولانتشرت اللغة العربية في تلك القارة كما انتشرت في قارتي آسيا وأفريقيا وسائر العالم الإسلامي.
وامتدت فتوح الأمويين في بلاد فارس فخراسان وما وراءها إلى حدود الهند، وهاك أقسام المملكة الإسلامية في زمن بني أمية: (3) أعمال المملكة الإسلامية في زمن بني أمية (1)
الشام وتقسم إلى أربعة أجناد. (2)
الكوفة. (3)
البصرة وتشمل فارس وسجستان والبحرين وعمان. (4)
أرمينية. (5)
مكة. (6)
المدينة. (7)
إفريقية. (8)
مصر. (9)
اليمن. (10)
خراسان. (4) أعمالها في زمن العباسيين
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس ترتبت الولايات على هذه الصورة: (1)
الكوفة والسواد. (2)
البصرة ومهرجان قباد إلى كور دجلة وما وراءها جنوبا إلى البحرين فعمان. (3)
الحجاز واليمامة. (4)
اليمن. (5)
الأهواز (خوزستان). (6)
فارس. (7)
خراسان. (8)
الموصل. (9)
الجزيرة (بين النهرين وأرمينية وأذربيجان). (10)
الشام. (11)
مصر وإفريقية. (12)
السند في حدود الهند. (13)
الأندلس.
ثم اتسع نطاق المملكة الإسلامية على عهد العباسيين حتى صارت إلى أوسع ما بلغت إليه في زمن الإسلام حتى الآن، ولا عبرة بخروج بعض الأعمال من سيطرة العباسيين كالأندلس، لما تولاه بنو أمية، واستقلال بعض الدول الثانوية كالطاهرية والسامانية والأغلبية والطولونية ونحوها، فقد كان أمراء هذه الدولة كلها يخطبون للخليفة العباسي (إلا الأندلس) ومهما اختلفت الدول فالمملكة إسلامية وحكامها مسلمون.
وقد بلغت حدود هذه المملكة شمالا إلى أعالي تركستان في آسيا وجبال ألبرت (وهي المعروفة اليوم بالبرانس) في شمال إسبانيا، وجنوبا إلى بحر العرب والمحيط الهندي وقاصية الصحراء الإفريقية الكبرى، وشرقا إلى بلاد السند والبنجاب من بلاد الهند، وغربا المحيط الأطلنطي، وزادت مساحتها بذلك على ضعفي مساحة أوربا.
ولبيان عظمة تلك المملكة الواسعة نأتي بأسماء أعمالها ثم نبين مقدارها:
السواد
مهرجان قذق
الموصل
الأهواز
الأبغارين
ديار ربيعة
فارس
قم وقاشان
أرزن ومياقارقين
كرمان
أذربيجان
طوران
مكران
الري
طريق الفرات
أصبهان
قزوين
قنسرين والعواصم
سجستان
طبرستان
حمص
خراسان
تكريت
دمشق
همذان
شهر زور
الأردن
ماسبذان
الدامغان
فلسطين
مصر
حلوان
أرمينية
جيلان
الكوفة
آمد
برقة
البصرة
ديار مضر
إفريقية
زنجان
اليمن
الجزيرة والديارات
قومس
اليمامة والبحرين
والفرات وموقان وكرخ
جرجان
عمان
مكة والمدينة
هذه أعمال الدولة الإسلامية العباسية ما عدا مملكة بني أمية في الأندلس، وكانت معاصرة لها وقد فتحت صقلية ومالطة وغيرهما من جزر البحر المتوسط، وكان على كل عمل من هذه الأعمال وال أو عامل يوليه الخليفة أو وزيره أو نائبه كما سترى، فبلغ عدد هذه الأعمال - أو الولايات في اصطلاح هذه الأيام - 48 ولاية، لكل منها بيت مال وديوان خراج وقاض أو أكثر، وسكانها هم أمم العالم المتمدن في ذلك الحين، وفيهم العرب والفرس والأتراك والأكراد والمغول والتتر والأفغان والهنود والأرمن والسريان والكلدان والروم والقوط والقبط والنوبة والبربر وغيرهم، وكانوا يتكلمون العربية والفارسية والبهلوية والهندية والرومية والسريانية والتركية والكردية والأرمنية والقبطية والبربرية وغيرها، فمنهم من أصبحت اللغة العربية لغتهم وضاعت لغاتهم الأصلية كأهل الشام ومصر والمغرب والعراق، ومنهم من اختلطت العربية بلغاتهم الأصلية كأهل فارس وتركستان والهند والأفغان وغيرها، ولا تزال كثير من أمم آسيا وأفريقيا تكتب لغاتها بالحروف العربية إلى الآن، أثرا لذلك التمدن العظيم. (4-1) إحصاؤها
وكان يحسن بنا في هذا المقام النظر في إحصاء هذه البلاد في تلك الأيام، ولكن ذلك غير مستطاع، لأن العرب قلما اهتموا بتعداد سكان ممالكهم، وإنما ننظر في إحصاء سكان هذه البلاد اليوم فنأتي بما يقابلها واسم الدولة التي هي تابعة لها وعدد سكانها ثم نقابل بين أحوالها سنة 1914 وأحوالها في تلك الأيام، وهذا هو إحصاؤها:
أسماء البلاد
الدولة التابعة لها
عدد سكانها
95276000
إيران كلها
مستقلة
9500000
أفغانستان
مستقلة
4500000
السند وبلوخستان
إنجلترا
3500000
تركستان
روسيا
6000000
القوقاز
روسيا
11000000
أرمينية وكردستان
تركيا
2500000
العراق والجزيرة
تركيا
2500000
سوريا وفلسطين
تركيا
3765000
جزيرة العرب
تركيا
5000000
القطر المصري
تركيا
12000000
النوبة وبعض السودان
السودان
2000000
طرابلس الغرب
إيطاليا
1000000
جزائر الغرب
فرنسا
5231000
تونس
فرنسا
1500000
مراكش
مستقلة
5000000
إسبانيا
مستقلة
20000000
قبرص
إنجلترا
260000
كربد
تركيا
310000 (5) مقدار العمارة
هذا هو تعداد سكان تلك البلاد لغاية سنة 1914 ولكن كثيرا من المدن الإسلامية أصبح خرابا بعد ذلك، في أواخر العصور الوسطى بالقياس إلى ما كان عليه في عهد الدولة الإسلامية، وخصوصا العراق أو السواد، وعلى الأخص بغداد والبصرة والكوفة وسائر مدن العراق، وقد وصف الأصطخري مدينة البصرة وصفا يمثل ما كانت عليه أرض العراق من العمارة في عصره قال: (5-1) البصرة «البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم وإنما مصرها العرب ... وليس فيها مياه إلا أنهارا، وذكر بعض أهل الأخبار أن أنهار البصرة عدت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على مائة ألف نهر وعشرين ألف نهر يجري فيها الزوارق، وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال، حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددا من الأنهار صغارا تجري في كلها زوارق صغار، ولكل نهر اسم ينسب به إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها ... فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها».
فاعتبر المسافة التي تحفر فيها 120000 نهر أو ترعة كم يمكن أن يكون سكانها؟ وهذا مستغرب عند أهل هذا الزمان لكنه يدل على كل حال على عمران تلك الأرض. (5-2) بغداد
وناهيك ببغداد مدينة الخليفة ودار السلام، فقد ذكر الأصطخري أيضا في وصفها كما شاهدها في أيامه في القرن الرابع للهجرة، قال: «وتفترش قصور الخلافة وبساتينها من بغداد إلى نهر بين فرسخين على جدار واحد، حتى تتصل من نهر بين إلى شط دجلة، ثم يتصل البناء بدار الخلافة مرتفعا على دجلة إلى الشماسية نحو خمسة أميال، وتحاذي الشماسية في الجانب الغربي الحربية فيمتد نازلا على دجلة إلى آخر الكرخ، إلخ.
بغداد وجسرها ممتد فوق دجلة.
ثم قال: «وبين بغداد والكوفة (أو بين دجلة والفرات) سواد مشتبك غير مميز تخترق إليه أنهار من الفرات» ثم عدد الأنهر التي تمتد من الفرات إلى دجلة.
فأين هذه العمارة صارت إليه بغداد عند اضمحلالها إبان العصر التركي؟ فإن إحصاء ولاية البصرة كلها قبيل الحرب العالمية الأولى 200000 نفس، وتعداد ولاية بغداد 850000، ونظن إحصاء الولايتين جميعا كان إذ ذاك أقل كثيرا مما كانت تحويه مدينة بغداد وحدها.
وقس على ذلك مدينة دمشق وغيرها من المدن التي ضعف أمرها اليوم وهناك مدن أخرى كانت يومئذ في إبان مجدها فأصبحت الآن اسما بلا مسمى، مثل الفسطاط في مصر، والكوفة في العراق، والقيروان في إفريقية، وبصرى في حوران، وغيرها مما لا محل للكلام فيه هنا. (5-3) مصر
وأما مصر فيؤخذ من كلام مؤرخي العرب أنها لما فتحها المسلمون كان عدد الذكور فيها ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك «ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ» ثمانية آلاف ألف (8000000) منهم في الإسكندرية وحدها 300000، فإذا أضفنا إلى ذلك عدد الإناث والأطفال والشيوخ زادت جملته على 30000000 وهو نحو ثلاثة أمثال سكانها اليوم.
وقد يطعن في صحة هذه الرواية، ولكن يستدل من مجمل أقوالهم في مصر أنها كانت في رغد ورخاء، وكان عمرانها بالغا حد النهاية.
وذكر ياقوت في معجم البلدان «أن المقوقس قد تضمن مصر من هرقل بتسعة عشر ألف ألف دينار، وكان يجبيها عشرين ألف ألف دينار، وجعلها عمرو بن العاص عشرة آلاف دينار أول عام، وفي العام الثاني اثني عشر ألف ألف دينار، ولما وليها في أيام معاوية جباها تسعة آلاف ألف دينار، وجباها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أربعة عشر ألف دينار،
1
وقد أجمع المؤرخون المحدثون تقريبا على تقدير سكانها في تلك الأيام بنحو 20000000 نفس.
قال المقريزي: «إن هشام بن عبد الملك (سنة 107ه) أمر عبيد الله بن الحبحاب عامله على خراج مصر أن يمسحها، فمسحها بنفسه فوجد مساحة أرضها الزراعية مما يركبه النيل 30000000 فدان»
2
مع أن مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل (1914) مع ما تبذله الحكومة في العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستة ملايين فدان كثيرا، ومساحة وادي النيل كلها أي الوجه البحري والصعيد على جانبي النيل لا تزيد على هذا القدر إلا قليلا، فيستحيل أن تكون مساحتها في أوائل الإسلام خمسة أضعاف ذلك.
ولكن يظهر أن العرب زرعوا ما يجاور هذا الوادي من الشرق نحو البحر ومن الغرب إلى وادي النطرون، لأن مساحة مصر بما فيها من الواحات في صحراء ليبيا والأرض بين النيل والبحر الأحمر وبينه وبين بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) إلى العريش تزيد على 4000000 ميل مربع وذلك يساوي نحو 187 مليون فدان، فلا غرابة إذن أن يكون العامر منها 30 مليون فدان، وأن يكون سكانها 30 مليون نفس.
ويؤيد ذلك أن مؤرخي العرب كانوا يقدرون مساحة مصر نحو ما تقدم تقريبا، قال المقريزي: «وآخر ما اعتبر حال أرض مصر فوجد مدة حرثها ستين يوما ومساحة أرضها 180000000 فدان، يزرع منها في مباشرة ابن المدبر (في أواسط القرن الثالث للهجرة) 24000000 فدان، وأنه لا يتم خراجها حتى يكون فيها 480000 حراث يلزمون العمل بها دائما ...» إلخ.
3
واعتبر نحو هذا العمران أيضا في مدن الإسلام الكبرى في الأندلس، مثل قرطبة وغرناطة وطليطلة، وفي العراق والشام بلاد لا تحصى كانت في تلك الأيام مدنا كبرى وأصبحت الآن قرى صغيرة.
فإذا اعتبرنا كل ما تقدم لا نستبعد أن يكون إحصاء المملكة الإسلامية في إبان عمرانها نحو 250000000 نفس إلى 300 مليون وهو نحو تعداد سكان أوربا كلها الآن، وسنعود إلى ذلك في كلامنا عن ثروة المملكة.
مناصب الدولة الإسلامية
انتهينا من الكلام في نشوء الدولة الإسلامية وتكونها فننتقل إلى الكلام في تنظيمها الإداري ودواوينها وإدارات حكوماتها وتاريخ كل منها، وخصوصا الكلام في كيفية نموها وتفرعها إلى تلك المناصب. (1) نمو الدولة الإسلامية
نشأت الدولة الإسلامية في المدينة في السنة الأولى للهجرة، والمسلمون يومئذ من الصحابة لا يزيد عددهم على بضع عشرات، بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، فجعلوا أساسها المساواة والمؤاخاة والتعاون، فقد ذكرنا أن النبي آخى بين المسلمين ومكن المؤاخاة بأن جعل أموالهم واحدة ومصالحهم واحدة كما يستدل من قوله: «من ترك كلا
1
فإلينا ومن ترك مالا فلورثته»، وقد كان الاشتراك في المصالح داعيا إلى زيادة الاتحاد، وأعمال الدولة يومئذ محصورة في النبي وتشمل السياسة والإدارة والدين، ففرضت الصلاة والزكاة وغيرهما من الفروض التي تعد من قبيل الدين، ولا نبحث فيها إلا من حيث دخلها في تأسيس الدولة.
أما صلاة الجماعة فكانت تبعث على الاتحاد والنظام والطاعة للنظام العام من الناحية الاجتماعية، وأما الزكاة فقد كانت من أول الأمر مظهرا من مظاهر التساند الاجتماعي بين طبقات الأمة، ولم تعتمد عليها الدول الإسلامية كمصدر رئيسي من مصادر الدخل، فقد تركت الدول أمرها للناس ولم تجمعها للخزانة، إلا في حالات قليلة.
ولا يخفى أن للدول نظما مختلفة، ففيها الملكي والجمهوري والمطلق والمقيد، ولكل دولة قوانين تختلف عما للأخرى مما لا يحصره وصف، ولكنها ترجع كلها إلى أمرين أساسيين تشترك فيهما جميعها، وهما المال والجند، وما من دولة مهما كان نوع نظامها إلا وفيها الجندية والمالية، إذ لا قوام لها بدونهما، وربما كانت الحاجة إليهما في أوائل الدولة أشد مما بعدها، والمسلمون هم الجند، والزكاة والضرائب المختلفة التي تقررت شيئا فشيئا هي الموارد المالية التي تقوم بتكاليف الدولة فكان أساس الدولة الإسلامية هذه الآية:
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . (1-1) الزكاة
الزكاة توطد عرى الاتحاد بين أفراد المجتمع الإسلامي، والاتحاد هو أساس الإسلام، وذلك لأنها تؤخذ من أغنياء المسلمين مما يزيد من أموالهم وتعطى للفقراء منهم، وتسمى الزكاة في كثير من الأحيان صدقة، وقد بدأ المصطلحان بمعنى واحد، ثم اختلف استعمالهما بعض الشيء فيما بعد، وللأئمة والفقهاء في ذلك آراء تعني من يدرسون الأصول، ولكن المؤرخ يهتم بناحية الزكاة الاجتماعية وبأهميتهما كمورد من موارد الدخل الاجتماعي للدول الإسلامية، وقد أشار إلى معناها الاجتماعي رسول الله عندما قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، إذ قال له «إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
وفي فرض الزكاة على الأغنياء وإعطائها للفقراء حكمة عالية، لأنها تسترضي الفقراء وهم الجمهور الأكبر وخصوصا في عصور الجاهلية أيام الاستبداد والاستئثار، وقد جاء الإسلام لنصرة الضعيف والمساواة بينه وبين القوي، ولذلك كان خصوم الدعوة المحمدية من كبار القوم الذين ساءهم أن يشاركوا فقراءهم بأموالهم وأن يكونوا إخوة لهم.
وبعد واقعة بدر الكبرى سنة 2ه حدثت الغنائم والجزية كما سيأتي، فأصبحت موارد الدولة في العهد النبوي وعهد أبي بكر منحصرة في الزكاة التي تجمع من أغنياء المسلمين وتفرق في فقرائهم، والغنائم المكتسبة بالغزو وتقسم في المحاربين، وما فرضوه على من دخل في ذمتهم من اليهود والنصارى في بلاد العرب من الجزية ونحوها، ويتولى ذلك كله النبي أو خليفته، وكانت الأموال التي ترد من الغنائم تفرق فيهم على السواء، الصغير والكبير، الحر والعبد، الذكر والأنثى، فإذا جاء المدينة مال من بعض البلاد أحضر إلى المسجد وفرق على ما يراه النبي أو الخليفة بلا قيد ولا ضبط ولا يبقى منه باق. (1-2) الديوان
ولما فتحت البلاد في زمن عمر بن الخطاب، واختلط العرب بالروم والفرس، واتسع سلطان المسلمين وكثرت وارداتهم وتعددت مصادر الدخل، اضطروا إلى ضبط ذلك وتقييده وتعيين ما يدخل وما يخرج منه، فرأى عمر أن يضبط الوارد في الدفاتر، فيدفع منه رواتب معينة في العام إلى كل على قدر استحقاقه، والذي يبقى من الأموال يحفظ للانتفاع به عند الحاجة، فشرع في ذلك في السنة العشرين للهجرة (وقالوا في السنة الخامسة عشرة) وهو ما يعبر عنه بالديوان، اقتداء بما كان عند الفرس والروم.
ونظر عمر فيمن حوله من المسلمين فإذا هم طبقات ودرجات، باعتبار أدوارهم في إنشاء هذه الدولة وتوسيع سلطانها، فرأى أن يجعل عطاء كل واحد منهم على قدر خدمته، ولكنه اعتبر أيضا القرابة من النبي فميز أهله بشيء خاص كما سنفصله، واستناب عنه في تدوين ذلك كاتبا يتولى ضبطه.
ولما تكاثرت موارد المال إلى المدينة أنشأ عمر خزانة أو دارا سماها «بيت المال»، وهو أول من فعل ذلك من الخلفاء، وإن كنا نرى ذكر بيت المال في عهد أبي بكر فما هو إلا من قبيل القياس، لأن أبا بكر لم يكن يفضل عنده مال يحفظه في خزانة أو بيت.
فانقضت دولة الخلفاء الراشدين (سنة 40ه) وأصحاب المناصب فيها: (1)
الخليفة. (2)
عماله في الأمصار. (3)
كاتب يكتب له الكتب ويتولى أمر الديوان. (4)
خادم خاص كانوا يسمونه الحاجب.
2 (5)
خازن يتولى بيت المال. (6)
قاض يقضي في الخصومات.
فلما أفضت الخلافة إلى بني أمية وأصبح الأمر ملكا سياسيا وكثرت مخالطة المسلمين للأعاجم، جعلت تلك الإدارات تتفرع وتتوسع، عملا بناموس الارتقاء العام، وأضافوا إليها مناصب اقتبسوها من الروم والفرس، وقضى عليهم الترف وأبهة الملك أن يتخذوا الخدم والحشم والحجاب والحراس، فحدث في عهد بني أمية الحرس وديوان الخاتم والبريد وديوان الخراج مما سيأتي بيانه.
ولما آل الأمر إلى بني العباس زادت عوامل الاختلاط وزاد ميل الخلفاء إلى الترف والرخاء، فاستنابوا من يقوم مقامهم في مباشرة الأعمال، فاستحدثوا منصبي الوزارة والحسبة وغيرهما، وتفرعت المناصب الأولى وتشعبت على مقتضيات الأحوال، ثم أحدثت كل دولة من دول الإسلام مناصب اقتضتها أحوالها ، فاختلفت في بغداد عما في قرطبة، وفيهما عما في القاهرة مما لا محل لتفصيله. (2) تشعب المناصب
كان الخليفة في عهد سذاجة الدولة هو الذي يراقب أعمال الدواوين بنفسه، وكان عماله لا يزالون من أهل الزهد والتقوى لا يحتاجون إلى من يراقب أعمالهم أو يستطلع خفاياهم، ولم يكن للخليفة أموال خاصة ولا ضياع تحتاج إلى كتاب أو حساب، وكان إذا كتب إلى أحد عماله كتابا ختمه بخاتمه بيده، وربما كتب الكتب بيده، فلما اتسع سلطانهم، وتبدلت وجهة الخلافة من الدين إلى السياسة، ومال الخلفاء إلى التقاعد وتقليد القياصرة والأكاسرة، استخدموا من يقوم بتلك الأعمال، فأقاموا من يباشر أمور الدولة عنهم وهم الوزراء، ومن يراقب تصرف العمال في الأمصار وهو صاحب ديوان البريد، ومن يتولى ختم الرسائل وتقييدها وهم أصحاب ديوان التوقيع أو الخاتم، ومن يتولى النظر في ضياعهم وأملاكهم وهم عمال ديوان الضياع، ومن ينظر في حسابات حاشيتهم وخدامهم وهم عمال ديوان الخاص، واقتضت حضارتهم أن يضربوا النقود ويتخذوا الطراز، فأنشأوا دار الضرب وديوان الطراز، ودواوين أخرى بعضها لعرض الرسائل وبعضها لغير ذلك، مثل ديوان الترتيب وديوان العزيز، وهذا ما كان يشبه الباب العالي.
وكان الكاتب في عهد الخلفاء الراشدين هو الذي يتولى الديوان على ما وضعه عمر، فيدون ما يرد من أموال الخراج والجزية وغيرهما، وما ينفق على الجند والعمال والقضاة وغيرهم، ويتولى مكاتبة العمال، فلما اتسعت أعمال الدولة تشعب ذلك الديوان إلى ما يختص بحسابات الخراج والجزية وهو ديوان الخراج، وإلى ما يختص بالنفقة على الجند وغيرهم وهو ديوان الزمام والنفقة، وإلى ما يتعلق بغير ذلك مثل ديوان الإقطاع وديوان المعادن، وإلى ما يختص بتدوين أسماء الجند وطبقاتهم ورواتبهم وهو ديوان الجند، وتفرع من ديوان الجند ديوان الأساطيل وديوان الثغور وغيرهما، وأفردوا لمراسلات العمال وغيرهم ديوانا خاصا هو ديوان الرسائل أو الإنشاء.
وكان بيت المال مخزنا عاما لكل أموال المسلمين، فتفرع في أيام الأمويين والعباسيين إلى عدة فروع، بعضها لأموال الصدقات، وبعضها لأموال المظالم، وبعضها لأموال الورثة، وبعضها لغير ذلك، وعلى هذا النمط تشعبت المناصب الأخرى، فتفرع من القضاء ديوان المظالم والحسبة والشرطة ونحو ذلك مما لا يمكن حصره.
وشأننا في هذا المقام النظر في نشأة الدواوين الأساسية وتاريخها وسائر أحوالها، ولا ينجلي ذلك إلا إذا نظرنا في أصولها وكيف تكونت وتفرعت، والأحوال التي دعت إلى ذلك، فنبدأ بالخلافة وتوابعها وملحقاتها ، فولاية الإقليم، فالوزارة، ثم نفرد لكل من الجند والمال وغيرهما بابا خاصا.
الخلافة
(1) ماهيتها
الخلافة ضرب من الملك خاص بالإسلام لم يكن في سواه من قبل، وهي من قبيل السلطة الملكية المطلقة، ولكنها تمتاز عن سلطة القياصرة والإمبراطورين والأكاسرة بأن الخلافة تشمل السلطتين الدينية والدنيوية، فتحمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وأما تلك فتنحصر في حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية.
وقد يظهر الفرق بين السلطتين كبيرا ومرجعهما إلى مبدأ واحد، لأن الذي يتأتى له أن يتولى أمور الناس ويحكم فيهم حكما مطلقا، إما أن يسير بهم على قانون مفروض، أو على مقتضى ميوله وأغراضه، وأكثر حكام العالم المتمدن يحكمون بقوانين سياسية وضعها عقلاء الأمة وأكابر الدولة، يطيعها الناس ويجرون على أحكامها، كذلك كان الفرس والروم قبل الإسلام، وكان هذا شأن الملوك المطلقين في أوربا إلى عهد قريب، بل كذلك شأن الديموقراطيات التي يتولى الحكم فيها ملك يرث العرش عن آبائه، أو رئيس جمهورية ينتخبه الشعب وفق قواعد مقررة في الدستور، ويقوم بالحكم في حدود يعينها الدستور أيضا.
وأما الخلافة فإنها مقيدة بقوانين دينية شرعية يسوس الخليفة بها أمته ويحمل الناس على أحكامها بالنيابة عن النبي صاحب تلك الشريعة، ومن هذا القبيل اشتمال الخلافة على الإمامة، وقد سموا الخليفة إماما، تشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به. (2) شروط الخلافة
للخلافة أربعة شروط يشترط توفرها في الخليفة، وهي: العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس، واختلفوا في شرط خامس هو النسب القرشي أي أن لا يقوم خليفة إلا من قبيلة قريش، فامتنع حينئذ أن يتولى أمور المسلمين أعجمي باسم الخليفة، وأصل هذا الشرط حديث، احتجت به قريش لما طلب الأنصار الخلافة لهم كما تقدم في الكلام على بيعة أبي بكر، وكان هذا الشرط مرعيا كل الرعاية في سائر أحوال الدولة الإسلامية، والخلافة لم يتطلبها غير القرشيين قط، ومع كل ما انتاب الخلفاء في أواخر الدولة العباسية من الضعف واستبداد الأمراء فيهم حتى جردوهم من كل قوة دنيوية وأنشأوا الدول دونهم ولقبوا أنفسهم بالسلاطين، رغم ذلك كله لم يخطر لأحد منهم أن يدعي الخلافة أو أن ينصب نفسه خليفة.
هذه دول بني بويه والسلاجقة والغزنوية والطاهرية والأيوبية وغيرهم، قد استقلوا في الأحكام، وفيهم من غلب على الخلفاء، ولكنهم لم يسموا أنفسهم إلا سلاطين، بل كانوا يتزلقون إلى الخلفاء، ليثبتوهم في الحكم وكذلك فعل صلاح الدين الأيوبي في مصر، فإنه تناول أزمة الملك في مصر من آخر خليفة فاطمي - وليس من يطالبه أو ينافسه على السلطة وبيده مقاليد البلاد - فلما أراد الاستقلال بالملك دعا على المنابر للخليفة العباسي، ولم يسم نفسه خليفة بل اكتفى بلقب السلطان، وأول من تولى الخلافة الإسلامية من غير قريش السلطان سليم الفاتح العثماني سنة 923ه، وحجة الأئمة الحنفية في صحة خلافة بني عثمان أن الخليفة يتولى الخلافة بخمسة حقوق وهي:
حقوق الخليفة عند الحنفية (1)
حق السيف:
ومعنى ذلك أن طالب الخلافة يجب أن يقوم بدعوته أنصار لا يقوى عليهم مناظر آخر على وجه الأرض، وقد كان ذلك شأن السلطان سليم يوم التمس الخلافة بعد فتح مصر. (2)
حق الانتخاب:
أي مصادقة أهل العقد، وهو مجلس من الأئمة والعلماء، وحجتهم في ذلك أن هذا المجلس كان في أول عهد الإسلام بالمدينة ثم نقل إلى دمشق، ثم إلى بغداد، ونقل من بغداد إلى القاهرة، فيجوز أيضا نقله من القاهرة إلى القسطنطينية، فلما فتح السلطان سليم مصر حمل معه جماعة من علماء الأزهر، وأضاف إليهم عدة من علماء الأتراك، وألف من الفئتين مجلسا صادق على انتخابه وسلموه السيف، وكانت هذه هي العادة الجارية في تقليد الخلفاء العثمانيين السيف من أيدي العلماء، وكانوا يفعلون ذلك في جامع أيوب بضواحي الأستانة. (3)
الوصاية:
وهي وصاية الخليفة لمن يخلفه بعد موته، وقد أوصى المتوكل آخر الخلفاء العباسيين بمصر يوم فتحها الأتراك للسلطان السليم بالخلافة. (4)
حماية الحرمين:
فقد كان السلاطين العثمانيون حماة الحرمين - إلا سبع سنوات تولاهما فيها أئمة صنعاء في القرن العاشر، وسبع سنوات أخرى تولاهما فيها الوهابيون. (5)
الاحتفاظ بالأمانات:
وهي المخلفات النبوية المحفوظة في الآستانة، وهم يقولون: إن الآثار النبوية سلمت من اغتيال التتر في بغداد، فحملها الخلفاء العباسيون معهم في القاهرة، ما زالت فيها حتى نقلها السلطان سليم إلى القسطنطينية، وهي محفوظة إلى الآن في صندوق من الفضة في غرفة بالسراي القديمة «طوبقبيو» سيأتي ذكرها.
مبايعة الخلفاء
(1) نوع المبايعة
لم تجر ولاية الخلافة على عهد الخلفاء الراشدين على نظام واحد، فقد كان المفروض أن تكون انتخابية، ولهذا لم يوص رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بمن يخلفه، بل ترك الأمر في ذلك للمسلمين، فاختاروا أبا بكر، ولم يشأ أبو بكر أن يدع الأمر للناس ليختاروا من يشاؤون، فأوصى لعمر بن الخطاب، وعندما حضرت عمر الوفاة لم يدعها شورى خالصة، ولا انتخابية خالصة، بل أوصى لستة نفر من كبار الصحابة ليجتمعوا ويختاروا الخليفة من بينهم، وسمى ابنه عبد الله في جملتهم ولكنه نهى عن انتخابه، فاختاروا عثمان بن عفان، فلما قتل دون أن يوصي اختار الناس عليا بلا شورى، فشق ذلك على كثيرين من كبار الصحابة، لأنهم كانوا وقت مقتل عثمان متفرقين في الأمصار لم يشهدوا بيعة علي، فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس، ثم كان ما كان من أمر الفتنة المشهورة.
فلما قتل علي أرادت شيعته حصر الخلافة في نسله، باعتبار أنهم بضعة من النبي، فسألوه وهو على فراش الموت «أنبايع الحسن؟» فقال: «لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»، أما هم فبايعوا ابنه الحسن، وهذا تنازل عنها لمعاوية بن أبي سفيان، فصارت في بني أمية.
فطريقة الخلفاء الراشدين في انتخاب الخلفاء من أفضل ما بلغ إليه جهد المتمدنين حتى الآن، وهي جامعة بين الجمهورية والملكية والشورى، أما الجمهورية فلأن الخليفة كان ينتخب من جمهور القرشيين بلا حصر ولا تعيين، وهي شورية، لأن الانتخاب يكون بالشورى، وهي مطلقة، لأن الخليفة إذا قبض على أزمة الملك كان مطلق التصرف، فإذا أضفت إلى ذلك شروطها الأربعة التي ذكرناها كانت أفضل أنواع الحكومات على الإطلاق، لأن الحاكم المطلق إذا كان عادلا مع علم وكفاية وسلامة الحواس لم يكن أقدر منه على النهوض بأعباء المملكة وتوسيع نطاقها والتوفيق بين رعاياه، هذا إلى جانب ما في طريقتهم هذه من أدلة التقوى والزهد في الدنيا، كما يتضح ذلك من مراجعة سير الخلفاء الراشدين.
فلما أفضى الأمر إلى بني أمية واختلطوا بالروم في الشام، واطلعوا على طرق الحكومات عندهم، وفي جملتها توالي الملك في الأعقاب، رأى معاوية أن يجعله كذلك في نسله، ولكنه تهيب، لعلمه بما فيه من مخالفة في سنة الراشدين، فاستشار بعض خاصته، فشجعه المغيرة بن شعبة.
وقد زاده إقداما ما خافه من افتراق الكلمة إذا ترك الأمر بعده فوضى فيتطلبه بنو هاشم، ولا يرضى بنو أمية تسليمه إلى سواهم، فيؤول ذلك إلى الفتنة بعد ذهاب دهشة النبوة، وتغلب طبيعة الملك ورجوع الناس إلى العصبية، فتجنبا للفتنة بايع ابنه يزيد، وخوفا من الافتنان عليه بعد موت معاوية طلب له البيعة في حياته، وتربص ليرى ما يبدو من الناس فلم ير شرا، وجرى على ذلك خلفاؤه بعده - إلا عمر بن عبد العزيز - فإنه أراد الرجوع إلى طريقة الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، لتغلب العامة عليه، فلم تطل مدته، فعادوا إلى طريقة معاوية.
وأراد مثل ذلك أيضا المأمون في الدولة العباسية، فعهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق من نسل الإمام علي وسماه «الرضا»، فعظم ذلك على بني العباس ونقضوا بيعة المأمون وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، ولو لم يبادر المأمون إلى ملافاة الأمر لخرجت الخلافة من يده، فعاد إلى الخلافة بالإرث، وجرى عليها العباسيون والفاطميون وغيرهم من خلفاء المسلمين. (2) البيعة
البيعة هي العهد على الطاعة ، فإذا بايع الرجل أميرا كأنه عاهده وسلم إليه النظر في أمر نفسه لا ينازعه في شيء من ذلك، وإنه يطيعه فيما كلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكان العرب إذا بايعوا أميرا جعلوا أيديهم في يده، تأكيدا للعهد بما يشبه فعل البائع والمشتري، فسمي «بيعة» مصدر «باع»، وصارت البيعة مصافحة الأيدي، وهو مدلولها بعرف اللغة أيضا، وأقدم بيعة في الإسلام بيعة العقبة، ومنها أيمان البيعة التي كان الخلفاء يستحلفونها على العهد ويستوعبون الأيمان كلها.
وكانت العادة إذا هموا بمبايعة خليفة بايعه أولا كبار الدولة، ثم من يليهم من أصحاب المناصب، وفي الدولة العباسية كان أول من يبايع الخليفة الجند والقواد وقضاة بغداد، وكان كاتب الجيش هو الذي يتولى استحلافهم على الغالب، ويدعوهم بأسمائهم، ويقف الوزير أو من يقوم مقامه فيعمم الخليفة بيده ويلبسه البردة، ومتى تمت المبايعة يعرضون على الخليفة ألقابا فيختار لقبا منها، وهذه الألقاب حادثة في الإسلام، وكانت في أوائل الدولة العباسية بسيطة، كالأمين والمأمون والرشيد، فلما كانت أيام المعتصم أضاف اسم الجلالة إلى لقبه فسموه «المعتصم بالله»، وصارت تلك عادة في من خلفه من بني العباس.
فإذا بويع في داره جاؤوه بموكب الخلافة، وهي أفراس مسرجة ولكل دابة سائس بالألبسة الفاخرة، فيركب الخليفة وحوله الفرسان من كبار الدولة، ويمشي بين يديه رجل بالحربة، ويصف الجنود في الطريق صفين يسير الموكب بينهما إلى دار الخليفة، وهي دار العامة في بغداد، ثم ترد عليه وفود المهنئين من الأمصار على مقتضى الأحوال. (3) يمين البيعة
يختلف نص يمين البيعة باختلاف الدول والأحوال، وإن كان مرجعها واحدا، فلما بايع الأنصار النبي بالعقبة قالوا «يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصير إلى دارنا، فإذا وصلت فإنك في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا». وهناك نص آخر تمت به البيعة بالعقبة يعرف ببيعة النساء، وهي «بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن خشيتم من ذلك شيئا، فأمركم إلى الله - عز وجل - إن شاء عذب، وإن شاء غفر».
ويمين بيعة بني العباس منذ طلبها لهم أبو مسلم الخراساني هي:
أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام على أن لا تسألوا رزقا ولا طعما حتى يبتدئكم به ولاتكم.
وقد اختلفوا في نص يمين البيعة وفي كيفية الاحتفال بالمبايعة باختلاف الدول، ولكن الجوهر واحد، وهو تبادل العهود بين الخليفة ورعيته بالسير على ما يقتضيه الكتاب والسنة ونحو ذلك، وكان شأنهم في المبايعة الاختصار كما تكون الدول في أبسط أحوالها، وكانت البيعة تتلى شفاها ثم صارت تكتب وتحفظ، وكانت كلمات قليلة فصارت سطورا عديدة بما أدخلوه فيها من الحشو والإطناب، لما اقتضاه استغراق القوم في الترف من الميل إلى التفخيم والتبجيل والتطويل، شأن الدول في أيام بذخها.
وقد تغيرت صورتها، فبعد أن كان الرجل يخاطب الخليفة بالبيعة، أصبح أحد الوزراء ممن يأخذون البيعة للخلفاء يخاطبون المبايع ويشترطون عليه الشروط، كما فعل أبو مسلم، وهذا نص بيعة الخلفاء العباسيين في أواسط دولتهم، وفي نشرها ما يغني عن الإسهاب:
نبايع عبد الله الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار، ورضا واختيار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويتك، وصدق من نيتك، وانشراح من صدرك، وصحة من عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرا بفضلها، مذعنا بحقها، ومعترفا ببركتها، ومعتدا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها، وفي توكيدها من صلاح الكافة، واجتماع كلمة العامة والخاصة، ولم الشعث وأمن العواقب، وسكون الدهماء، وعز الأولياء، وقمع الأعداء - على أن فلانا عبد الله وخليفته، المفترض عليك طاعته، الواجب على الأمة إمامته وولايته، اللازم لهم القيام بحقه، والوفاء بعهده، لا تشك فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن بأمره ولا تميل. وإنك ولي أوليائه، وعدو أعدائه من خاص وعام، وقريب وبعيد ، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهود وذمة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وضميرك فيه وفق ظاهرك، على أن إعطاءك هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إياها في عنقك لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، في أن لا تتأول عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها ، ولا تقعد عن نصره في الرخاء والشدة، ولا تدع النصح له في كل حال راهنة أو حادثة، حتى تلقى الله موفيا بها، مؤديا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر خلفاء الله في الأرض إنما يبايعون الله، ويد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، عليك بهذه البيعة التي طوقت بها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت فيها صفقتك، وما شرط عليك فيها من وفاء وموالاة ونصح ومشايعة وطاعة وموافقة واجتهاد ومبالغة، عهد الله إن عهده كان مسؤولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله - عليهم السلام - وعلى من أخذ من عباده من مؤكدات مواثيقه ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسك بها فلا تبدل، وتستقيم فلا تميل، وإن نكثت هذه البيعة، ومتى بدلت شرطا من شروطها، أو عفيت رسما من رسومها، أو غيرت حكما من أحكامها، معلنا أو مسرا أو محتالا أو متأولا، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يحقر الإمامة، ويستحل الغدر والخيانة، ولا يستجيز حل العقود وختل العهود، فكل ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو سائمة أو زرع، أو غير ذلك من صنوف الأملاك والأموال المدخرة، صدقة على المساكين يحرم عليك أن ترجع شيئا من ذلك إلى مالك بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الإيمان، وكل ما تستفيده في بقية عمرك من مال يقل خطره أو يجل فصدقة في سبيل الله، إلى أن تتوفاك منيتك ويأتيك أجلك، وكل مملوك لك اليوم من ذكر أو أنثى وتملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله، ونساؤك يوم يلزمك الحنث ومن تتزوج بعده في مدة بقائك طوالق ثلاثا طلاق الحرج والسنة لا مبتوتة ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة حافيا راجلا لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله لك صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج إليه وبرأك من حوله وقوته وألجأك إلى حولك وقوتك، والله - عز وجل - بذلك شهيد وكفى بالله شهيدا.
1
وبلغت المبايعة التي كتبت للحاكم بأمر الله العباسي في أواسط القرن الثامن للهجرة بمصر ما يملأ أربع صفحات من هذا الكتاب، ونشر السيوطي في حسن المحاضرة مبايعة أحد الخلفاء العباسيين بمصر في سبع صفحات كبار.
2 (4) بيعة ولي العهد
ذكرنا في كلامنا على الخلافة بعد أن صارت وراثية أن الخلفاء كانوا يبايعون لأولادهم بولاية العهد أو لغيرهم من ذوي قرابتهم، وكانوا يحتفلون بذلك مثل احتفالهم بمبايعة الخلفاء، وكثيرا ما كانوا يعرضون عزمهم في ذلك على أهل الرأي، كما فعل المنصور لما أراد البيعة لابنه المهدي، وكان جعفر يعترض عليه في ذلك فأمر المنصور بإحضار الناس، وقامت الخطباء فتكلموا وقامت الشعراء فأكثرت في وصف المهدي فرجحت بذلك بيعة المهدي.
وكانوا إذا رأوا غير واحد من أولادهم أو إخوتهم أهلا للخلافة بايعوا لأحدهم وشرطوا أن يخلفه فلان أو فلان، كما فعل يزيد بن عبد الملك لما أراد أن يبايع بولاية العهد، وكان ابنه لا يزال صغيرا فبايع أخاه هشاما على أن يخلفه ابنه الوليد بن يزيد، وكثيرا ما كانوا يغيرون في شروط المبايعة بعد حين إذا رأوا لزوما لذلك، وقد يبايع الخليفة بولاية العهد لأحد أولاده ويذكر من يخلفه ويخيره في استخلافه، كما فعل الرشيد لما كتب بولاية العهد لابنه المأمون ومن بعده للقاسم وجعل أمره للمأمون إن شاء أقره وإن شاء خلعه.
والعهد كتاب يكتبه الخليفة أو من يكتب له، ويختمه بخاتمه وخواتم أهل بيته، ويدفعه إلى ولي العهد أو من يتولى أمره فيحفظه إلى حين الحاجة، وقد يحفظه في مكان أمين في خزانة أو مسجد أو في الكعبة، كما فعل الرشيد بالكتابين اللذين كتبهما لأولاده بولاية العهد، أحدهما للأمين والآخر للمأمون وبعد هذا للقاسم.
ويدعى لولي العهد على المنابر بعد الدعاء للخليفة، فيقولون بعد الدعاء للخليفة «اللهم وبلغه الأمل في ولده فلان ولي عهده في المسلمين، اللهم وال من والاه من العباد وعاد من عاداه في الأقطار والبلاد، وانصر من نصره بالحق والسداد، واخذل من خذله بالغي والعناد ، اللهم ثبت دولته وشعاره، وانبذ من نابذ الحق وأنصاره».
علامات الخلافة
علامات الخلافة ثلاث: البردة، والخاتم، والقضيب. (1) البردة
أما البردة فهي بردة النبي، وما زال النبي يلبسها حتى أعطاها إلى كعب بن زهير بن أبي سلمى الشاعر المشهور، وكان كعب قد هجا النبي وفر من وجه المسلمين، فلما فتح المسلمون مكة كتب له أخوه بجير بن زهير: «أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش قد هربوا في كل وجه، فإن كانت في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا»، فلم ير كعب مفرجا إلا رجوعه وتوبته، فجاء المدينة وسلم نفسه إلى النبي ومدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبول».
فأكرمه النبي، وأراد بعض الصحابة قتله فمنعهم، وبالغ في إكرامه فخلع عليه بردته، فظلت البردة عند أهل كعب حتى اشتراها منهم معاوية بن أبي سفيان في أثناء خلافته بأربعين ألف درهم «1600 جنيه» وتوارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون، وذكر أبو الفداء أنها انتقلت من العباسيين إلى التتر، لكنها الآن في جملة المخلفات النبوية في السراي القديمة في الأستانة، ولعل أبا الفداء وهم بما علمه من غزو التتر بغداد وفرار العباسيين إلى مصر، فظن البردة كانت في جملة ما انتهبوه من قصر الخليفة، والظاهر أن العباسييون حملوا البردة معهم إلى مصر فأخذها السلطان سليم مع الخلافة. (2) الخاتم
وأما الخاتم فقد اتخذه الخلفاء تشبها بالنبي، لأنه لما أراد أن يكتب إلى قيصر وكسرى يدعوهما إلى الإسلام قيل له إن العجم لا يقبلون كتابا إلا أن يكون مختوما . فاتخذ خاتما من فضة ونقش عليه «محمد رسول الله»، وانتقل هذا الخاتم إلى أبي بكر، ثم إلى عمر، ثم إلى عثمان، ووقع من يد عثمان في بئر أريس ولم يعثروا عليه بعد ذلك، فاصطنع عثمان خاتما مثله، وكان كل من ولي الخلافة بعده يصطنع له خاتما يختمون به الكتب في أسفل الكتابة وفي أعلاها بالطين أو المداد، ثم صاروا يختمون به الرسائل بالشمع بعد طيها، وأول من فعل ذلك معاوية، تجنبا للتزوير، لأنه كتب مرة إلى زياد بن أبيه عامله بالكوفة أن يدفع لعمر بن الزبير مائة ألف درهم وسلم الكتاب إلى عمر ليحمله إلى زياد، فجعل عمر المائة مائتين فدفعهما زياد له، ولما رفع حسابه إلى معاوية بان التزوير، فأمر من ذلك الحين بحزم الكتب وختمها على طرفيها بعد طيها أو لفها.
وذكر البلاذري أن زيادا أول من اتخذ من العرب ديوان زمام وخاتم في أثناء ولاية العراق، امتثالا لما كانت الفرس تفعله، وإنه كان لملوك الفرس قبل الإسلام عدة خواتم يستخدم كل منها لغرض: خاتم للسر، وخاتم للرسل، وخاتم للسجلات والإقطاعات، وخاتم للخراج، وكان الذي يتولاها يسمى صاحب الزمام.
وما زال ديوان الخاتم معدودا من الدواوين الكبرى من أيام معاوية إلى أواسط دولة بني العباس فأسقط، لأن مباشرة الأعمال تحولت إلى الأمراء والوزراء والسلاطين وغيرهم، ولما أراد الرشيد أن يستوزر جعفر بن يحيى بدل الفضل أخيه قال لأبيهما يحيى: «يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي» فكني بالخاتم عن الوزارة.
وكان لخاتم الخلفاء عندهم مقام عظيم، إذا تناوله الوزير أو غيره ليختم به كتابا وقف على رجليه تعظيما للخلافة، وكانوا إذا ختموا كتابا دافوا الطين أو المداد وطبعوه على صفح القرطاس أو على جسم لين كالشمع حتى ترتسم صورة الختم عليه، وقد يكون ذلك في آخر الكتاب أو في أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو اسم الخليفة أو شيء يعنونه، ويكون ذلك إشارة إلى صحة ذلك الكتاب ويكون الكتاب بدونه ملغيا، ويسمون الختم أيضا علامة.
ولما نشأت السلطنات جعل السلاطين علامة السلطنة مثل علامة الخلافة، وسموها الطغراء، وهي نقشة تكتب بقلم غليظ وفيها ألقاب الملك، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب ويستغنى فيها عن علامة السلطان بيده، وكانت الدولة السلجوقية تسمي ديوان الإنشاء ديوان الطغراء.
والطغراء سمي بها الحسين أبو إسماعيل الطغرائي صاحب لامية العجم المشهورة، كان وزيرا للسلطان مسعود السلجوقي وكان خطه جميلا ويكتب تلك الطغراء بخط جميل فلقبوه بها، ويقال: إنه أول من كتبها (قتل 51ه).
ولم يكن الخلفاء ينقشون على خواتمهم أسماءهم، ولكنهم كانوا ينقشون عليها عبارات فيها مواعظ وحكم، فقد كان نقش خاتم أبي بكر «نعم القادر الله» وخاتم عمر «كفى بالموت واعظا يا عمر» وخاتم عثمان «لتصبرن أو لتندمن» وخاتم علي «الملك لله»، وجرى على نحو ذلك خلفاء بني أمية وبني العباس، ولكل منهم فقرة خاصة نقشها على خاتمه، والغالب أن يكون بينها وبين اسمه مناسبة معنوية، فقد كان نقش خاتم المأمون «عبد الله يؤمن بالله مخلصا»، وختم الواثق «الله ثقة الواثق»، وختم المتوكل «على الله توكلت»، والمعتمد «اعتمادي على الله وهو حسبي»، وقس على ذلك.
وكانوا يعبرون عن علامات الخلافة أيام الخلافة العثمانية بالمخلفات النبوية، وكانت محفوظة في الأستانة في صندوق من الفضة في غرفة بقصر طوب قبو، وهي: البردة، وسن من أسنان النبي، وشعرات من شعره، ونعاله، وبقية من العلم النبوي، وإناءان من حديد يقال: إن إبراهيم الخليل كان يشرب بهما من بئر زمزم، وجبة الإمام أبي حنيفة، وذراع سيدنا يحيى، ويحتفلون بزيارة هذه المخلفات في 15 رمضان من كل سنة، فيخرج السلطان بموكبه إلى السراي المذكورة، فيؤدي فروض الزيارة والتبرك بها ومعه كبار رجال الدولة، وقد وصفنا هذه الغرفة في السنة الثامنة عشرة من الهلال ورسمها في الصفحة المقابلة.
أما القضيب فهو ثالث علامات الخلافة، وإذا تولى الخليفة جاؤوه بالبردة والخاتم والقضيب، وظل الأمر على ذلك في بني أمية وبني العباس.
شارات الخلافة
وشارات الخلافة أيضا ثلاث: الخطبة، والسكة، والطراز. (1) الخطبة
هي الدعاء للخلفاء على المنابر في الصلاة، وأصلها أن الخلفاء كانوا يتولون إمامة الصلاة بأنفسهم فكانوا يختمون فروض الصلاة بالدعاء للنبي والرضا عن الصحابة، فلما فتحوا البلاد وبعثوا إليها العمال، صار الولاة يتولون إمامة الصلاة في ولايتهم، فكانوا إذا صلوا ختموا الصلاة بالدعاء للخلفاء، وأول من فعل ذلك منهم عبد الله بن عباس لما تولى البصرة على عهد الإمام علي، فإنه وقف على منبر البصرة وقال: «اللهم انصر عليا على الحق»
1
واتصل العمل على ذلك فيما بعد، وصار الدعاء للخليفة في بلاده علامة سلطانه عليها، ولما ضعف شأن الخلفاء في بغداد كان المتغلبون من السلاطين أو الأمراء يشاركون الخلفاء بذلك فيذكرون أسماءهم بعدهم، ثم صار السلاطين يستقلون في الدعاء لأنفسهم، ولا يزال الدعاء على المنابر لأولي الأمر إلى اليوم. (2) السكة والنقود
ومن شارات الخلافة - أو هي شارات الملك على الإطلاق - الختم على النقود بطابع من حديد ينقش فيه اسم الخليفة أو السلطان ويقال لها السكة، وهي لازمة للدولة وإليك خلاصة تاريخها. (2-1) نقود العرب قبل الإسلام
كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر، وهي الدراهم والدنانير، وكانت الدنانير على الإجمال نقودا ذهبية، والدراهم نقودا فضية بما يقابل الجنيه والريال عندنا، وكانوا يعبرون عن الذهب بالعين، وعن الفضة بالورق، وكان عندهم أيضا نقود نحاسية، منها الحبة والدانق، ومرجع قيمة هذه النقود إلى الوزن، لأن المراد بالدينار قطعة من الذهب وزنها مثقال عليه نقش الملك أو السلطان الذي ضربه، والمراد بالدرهم وزن درهم من الفضة، ويسمونه الوافي، ويقدرون الدينار اليوم بثمانية وأربعين قرشا مصريا، وكان الدينار عندهم عشرة دراهم، وربما اختلفت قيمته إلى 13 أو 15 درهما أو أكثر، على حسب الأحوال، فكان الدرهم يقابل أربعة قروش ونصف في المتوسط.
الدراهم
وقد ذكر صاحب الأحكام السلطانية أن الدراهم الفارسية كانت ثلاثة أوزان منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطا وهي الدراهم البغلية، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، وذكر غيره دراهم وزن الواحد منها ستة مثاقيل ويسمونها الدراهم السمرية الثقال، ودراهم وزنها خمسة مثاقيل وهي السمرية الخفاف، وكلها فارسية.
الدنانير
وكانت الدنانير عند العرب قبيل الإسلام صنفين: دنانير هرقلية أو رومية ودنانير كسروية أو فارسية، وكذلك كانت الدراهم، ولكن الغالب أن تكون معاملتهم بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية، ولذلك كانت الهرقلية أعز عندهم وأرغب، حتى ضربوا المثل بجمالها وزهوها.
الدينار الرومي.
والدينار لفظ لاتيني، والأصل فيه الدلالة على قطعة من الفضة تساوي عشرة آسات، والآس درهم من دراهم الروم، والدينار ضرب أولا لهذه الغاية، وهو مشتق عندهم من
Deni
أي عشرة، وكان وزنه سبع الأوقية الرومانية أو جزء من مائة من الرطل «الليبرة»، أي أنهم كانوا يقسمون الليبرة من الفضة إلى مائة دينار، ثم ضربوه مع الذهب، فصار عندهم ديناران: الواحد من الفضة، والآخر من الذهب، وعنهم أخذ الفرس فضربوا نقودا مثلها وسموها باسمها.
الدينار الفارسي. (2-2) النقود الإسلامية
وما زال العرب يتعاملون بالنقود الرومية والفارسية، حتى ظهر الإسلام وافتتحوا البلاد وأسسوا الدولة الإسلامية فعمدوا إلى إنشاء تمدنهم، فكان في جملة عوامله السكة، فضربوا الدراهم والدنانير أولا مشتركة بينهم وبين الروم والفرس، منها قطعة ضربها خالد بن الوليد في طبرية في السنة الخامسة عشرة للهجرة، وهي على رسم الدنانير الرومية تماما بالصليب والتاج والصولجان ونحو ذلك، وعلى أحد وجهيها اسم خالد بالأحرف اليونانية
Xaved
وهذه الأحرف (Bou) ، ويظن الدكتور مولر المؤرخ الألماني ناقل هذا الاسم أنها مقتطعة من «أبو سليمان» كتبه خالد بن الوليد.
نقود خالد بن الوليد.
وهناك قطعة أخرى ضربت باسم معاوية، ولكنها على مثال دينار من دنانير الفرس برسمه وشكله إلا اسم معاوية عليه، وقد نقلنا رسمه عن الدكتور مولر المشار إليه أيضا.
نقود معاوية بن أبي سفيان.
وذكر الدميري في كتاب «حياة الحيوان» ضربا من النقود يقال لها البغلية، قال إن «رأس البغل» ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي: كل هنيئا.
وذكر المرحوم جودت (باشا) أنه رأى نقودا ضربها الأمراء والولاة في عهد الخلفاء الراشدين، أقدمها ضرب سنة 28ه في قصبة هرتك طبرستان، وعلى دائرها بالخط الكوفي «بسم الله ربي»، ورأى نقدا مضروبا سنة 38ه على دائرته هذه العبارة أيضا، ونقدا ضرب سنة 61ه في يزد على دائرته «عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين» بخط بهلوي، وقال المقريزي:
وأول من ضرب المعاملة في الإسلام عمر بن الخطاب في سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها «الحمد لله محمد رسول الله»، وفي بعضها «لا إله إلا هو» وعلى جزء منها اسمه «عمر»، وعبد الله بن الزبير ضرب بمكة دراهم مستديرة، وهو أول من ضرب هذه الدراهم ونقش بدائرها «عبد الله» وبأحد الوجهين «محمد رسول الله» وبالآخر «أمر الله بالوفاء والعدل». (2-3) عبد الملك والنقود
على أن هذه المسكوكات لم تكن تعتبر رسمية في الدول الإسلامية، بل كانت أكثر معاملاتهم بالنقود الرومية والفارسية، فاتفق في أيام عبد الملك بن مروان «سنة 65-86ه» أن هذا الخليفة أراد تغيير الطراز من الرومية إلى العربية كما سيجيء، فشق ذلك على ملك الروم، فبعث إليه يهدده بأن ينقش على دنانيره شتم النبي فعظم هذا الأمر على عبد الملك، فجمع إليه كبار المسلمين واستشارهم، فأشار عليه أحدهم بمحمد الباقر أحد الأئمة الاثني عشر من الشيعة وكان يقيم في المدينة، فلم يشأ عبد الملك أن يستنجد أحد أئمة بني هاشم - وهم مناظروه في الملك - لكنه لم ير بدا من استقدامه فكتب إلى عامله في المدينة أن «أشخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكرما ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه و30000 لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج من أصحابه»، فلما قدم محمد إلى دمشق استشاره عبد الملك فيما ينويه ملك الروم في الإساءة بالإسلام، فقال محمد «لا يعظم هذا عليك، ادع هذه الساعة صناعا فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد وذكر رسول الله «ص» أحدهما في وجه الدرهم أو الدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا - من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا واحدا وعشرين مثقالا - فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة مثاقيل، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل».
ففعل ذلك عبد الملك، وبعث نقوده إلى جميع بلدان الإسلام، وتقدم إلى الناس في التعامل بها، وهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل تلك وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكة الإسلامية.
هذا ما قاله الدميري، ولكن ابن الأثير ينسب هذا الرأي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، وغيره ينسبه إلى غيره، وتسمى دنانير عبد الملك الدنانير الدمشقية، وأمر الحجاج عامله في العراق أن يضرب الدنانير على 15 قيراطا من قراريط الدنانير، ثم صار أمراء العراق يضربون النقود لبني أمية في الأكثر. (2-4) نقش النقود
ونقش نقود بني أمية على أحد الوجهين في الوسط «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وحول ذلك «بسم الله ضرب هذا الدرهم في بلد كذا سنة كذا» وفي الوجه الآخر بالوسط «الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» وحولها «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون» وكانت هذه الكتابة تنقش على الدينار والدرهم على السواء.
نقود عبد الملك بن مروان.
وأبطل المسلمون استخدام النقود الرومية والفارسية وغيرها من ذلك الحي، وأجود نقود بني أمية الهبيرية التي ضربها لهم عمر بن هبيرة، والخالدية نسبة إلى خالد بن عبد الله البجلي، واليوسفية التي ضربها يوسف بن عمر، وكلهم من عمال العراق لبني أمية، فلما أفضت الخلافة لبني العباس لم يكن المنصور يقبل في الخراج من نقود بني أمية سواها.
نقود إسلامية صقلية.
وللنقود الإسلامية تاريخ طويل لا محل له هنا، وفي كتابنا «تاريخ مصر الحديث» رسوم أكثر النقود الإسلامية وأسماء ضاربيها، ولكننا نقول بالإجمال إن المسكوكات الإسلامية ضربت في كل عواصم الإسلام وفي أشهر مدنها في العراق والشام والأندلس وخراسان وصقلية والهند وغيرها، وهي تختلف رسما وسعة ونصا باختلاف الدول والعصور.
وكانت الكتابة على النقود تنقش بالحرف الكوفي، ثم تحولت إلى الحرف النسخي الاعتيادي سنة 621ه في أيام العزيز محمد بن صلاح الدين الأيوبي بمصر.
نقود العزيز بن صلاح الدين.
ويظهر أنهم لم يكونوا يذكرون اسم البلد الذي ضربت النقود فيه إلى أوائل القرن الثاني للهجرة، وكانوا إذا ذكروا تاريخ الضرب سبقوه بلفظ «الستة» ثم أبدلوها بلفظ «عام»، وكثيرا ما كانوا يقولون شهور سنة كذا أو شهور عام كذا أو في أيام دولة فلان، وكان يكتب التاريخ أولا بالحروف على حساب الجمل ثم كتب بالأرقام، وأقدم ما عثروا عليه مؤرخا بالأرقام سنة 614ه. (2-5) دار الضرب
وكانت دار الضرب ضرورية للدولة كما نراها ضرورية في هذه الأيام، إذ لا تخلو دولة من دول الأرض المتمدنة من دار تضرب فيها النقود، وكان ذلك شأن الدول الإسلامية في كل أدوارها، ولم تكن تخلو عاصمة أو قصبة من دار للضرب، في بغداد والقاهرة ودمشق والبصرة وقرطبة وغيرها شيء كثير، وكان لدار الضرب ضريبة على ما يضرب فيها من النقود يسمونها ثمن الحطب وأجرة الضراب، ومقدار ذلك درهم عن كل مائة درهم أي واحد في المائة، وربما اختلفت هذه الضريبة باختلاف المدن، فكان للدولة من ذلك دخل حسن.
وأما مقدار ما كان يضرب في الدولة من النقود فيختلف كثيرا، ويتعذر تقديره لاختلاف أحوال السكة عندهم، فقد يمر على الدولة أعوام وهي تتعامل بنقود دولة أخرى ولا دار للضرب عندها، أو ربما كانت تضرب نقودا في عاصمتها وتتعامل بنقود غيرها أيضا مما لا يمكن ضبطه، ولكننا نأتي بما اتصل بنا من هذا القبيل على سبيل المثال، فقد ورد في نفح الطيب للمقري أن دار السكة في الأندلس بلغ دخلها من ضرب الدراهم والدنانير على عهد بني أمية في القرن الرابع للهجرة 200000 دينار في السنة وصرف الدينار 17 درهما، فإذا اعتبرنا هذا الدخل باعتبار واحد في المائة عن المال المضروب، بلغ مقدار ما كان يضرب في الأندلس وحدها من ممالك الإسلام 20000000 دينار أو نحو عشرة ملايين جنيه، وذلك نحو ضعفي ما كانت تضربه إنجلترا قبل الحرب العالمية الأولى وهي في إبان قوتها الاقتصادية وثبات عملتها، فإذا أضيف إليها ما كان يضرب في القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية، وفي بغداد عاصمة الدولة العباسية، وفي غيرها من المدن الإسلامية يومئذ، كان مبلغ ذلك شيئا كثيرا.
وكانت صناعة ضرب النقود في تلك العصور لا تزال في أبسط أحوالها، وهي عبارة عن طابع من حديد تنقش فيه الكلمات التي يراد ضربها على النقود مقلوبة، ثم يقسمون الذهب أو الفضة أجزاء بوزن الدنانير أو الدراهم، ويضعون الطابع فوق تلك القطعة ويضربون عليها بمطرقة ثقيلة حتى تتأثر وتظهر الكتابة عليها، وكانت هذه الحديدة تسمى أولا «السكة»، ثم نقل هذا المعنى إلى أثرها في النقود وهي النقوش، ثم نقل إلى القيام على ذلك العمل والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علما عليها، ويدخل في دار الضرب كثير من الوظائف، وفيها عدد كبير من العمال، من الوازن والضارب وصاحب العيار وغيرهم. (3) الطراز
ومن شارات الخلافة أيضا الطراز، وهو قديم في الدول من عهد الفرس والروم، وذلك أن يرسم الملوك والسلاطين أسماءهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم، كأنها كتابة خطت في نسيج الثوب لحاما وسدى بخيط من الذهب، أو بما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب، ما يحكمه الصياغ بحيث تصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز، للدلالة على أن لابسها من أهل الدولة من السلطان فما دونه، كما هي الحال في لباس أجناد هذه الأيام، فترى على بعضهم شرائط القصب والأزرار الصفراء ونحوها من علامات الرتب، كرسوم التيجان والسيوف والنجوم ونحوها.
وكان ملوك الفرس والروم يجعلون رسم ذلك الطراز بصور ملوكهم وأشكالهم، أو صور أخرى تشير إلى الملك، فلما استقر المسلمون على عرش الأكاسرة والقياصرة وعظمت دولتهم أحبوا الاقتداء بهم، ولم يستحسنوا اتخاذ الصور فاعتاضوا بكتابة أسمائهم وكلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو الدعاء. (3-1) الطراز العربي
وأول من نقل الطراز إلى العربية من ملوك المسلمين عبد الملك بن مروان الأموي، لأن الخلفاء الراشدين ظلوا على سذاجة البداوة كما تقدم، فلما أفضت الخلافة إلى بني أمية وخالطوا الروم، وساروا على خطواتهم في أكثر شؤون دولتهم، وكان في جملة ذلك الطراز على أثوابهم وستور منازلهم وقراطيسهم «والقراطيس برد مصرية كانوا يحملون بها الآنية والثياب» فاتخذ المسلمون الطراز كما كان عند الروم والكتابة عليه بالرومية، وظلوا على ذلك أيام عبد الملك بن مروان فجعله في العربية، وبدأ بالقراطيس وكانت تنسج بمصر، وأكثر من في مصر لا يزال على النصرانية، فكانوا يطرزونها بالرومية وطرازها «بسم الآب الابن والروح القدس»، فظهر الإسلام وفتحت مصر والشام والطراز باق على ما كان عليه، وكيفية تنبه عبد الملك لذلك، أنه كان يوما في مجلسه فمر به قرطاس فرأى عليه الطراز بالرومية، فلاح له أن يستطلع فحواه فأمر أن يترجم بالعربية، فلما وقف على الترجمة أكبر أمرها وقال «ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل مصر تدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت على هذه الصورة»، ثم كتب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان عامله على مصر بإبطال ذلك الطراز، على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وغير ذلك، وأن يستبدلوا تلك العبارة بصورة التوحيد «لا إله إلا هو» ففعل، وظل هذا طراز القراطيس في سائر أيام الدول الإسلامية، ولم يغير شيء من جوهره، وكتب عبد الملك إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من يخالف ذلك بالضرب الوجيع والحبس الطويل.
فلما حملت هذه القراطيس إلى بلاد الروم، وعلم الإمبراطور بخبرها وعلم ترجمة ما فيها أنكره واستشاط غيظا، فكتب إلى عبد الملك «إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ولم يزل يطرز بطرازهم، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر إحدى الحالتين» وبعث إليه بهدية يسترضيه بها للرجوع إلى الطراز، فرد عبد الملك الهدية وأخبر الرسول أن لا رد عنده، فأعاد إليه أضعافها وطلب الجواب، فلما لم يرد عليه جوابا غضب الإمبراطور وبعث يهدد بنقش سب النبي على النقود، فكان ذلك داعيا إلى تنبه عبد الملك إلى ضرب النقود الإسلامية الحقيقية كما تقدم.
ذلك ما كان من أمر القراطيس، والظاهر أن المسلمين تنبهوا للطراز على الأثواب من ذلك الحين، فجعلوا على ملابس أجنادهم ورجال دولتهم شارة الخلافة، وهي اسم الخليفة أو لقبه أو نحو ذلك، وبقاء هذا الطراز على شارات الدولة وبنودها وكسائها يدل على بقاء سلطانها، فإذا أراد أحد الولاة الخروج من طاعة الخليفة قطع الخطبة له وأسقط اسمه من الطراز، كما فعل المأمون لما بلغه وهو على خراسان أن أخاه الأمين نكث بيعته. (3-2) دور الطراز أو الكسوة
وأنشأ الخلفاء للطراز دورا في قصورهم تسمى دور الطراز، لنسج أثوابهم وعليها تلك الشارة، وكان القائم على النظر فيها يسمى «صاحب الطراز»، وهو ينظر في أمور الصياغ والآلة والحاكة فيها ويجري عليهم أرزاقهم ويشارف أعمالهم، وبلغت تلك الدور أفخم أحوالها في أيام الدولتين الأموية والعباسية، وكانوا يقلدون أعمال هذه الدور لخاصة دولتهم وثقات مواليهم، وكذلك كانت الحال في دولة بني أمية بالأندلس، وفي الدولة الفاطمية بمصر، ومن كان على عهدهم من ملوك العجم.
ومن هذا القبيل ما كان يسمى في الدولة الفاطمية بدار الكسوة، وكان يفصل فيها جميع أنواع الثياب والبز وقيمة ما كان يخرج منها من الكسي 600000 دينار في العام، وكانت خلعهم على الأمراء الثياب الديبقي والعمائم بالطراز الذهب، وكانت قيمة طراز الذهب والعمامة خمسمائة دينار، وكانوا يفرقون الكسوات مرتين في العام، مرة لتفريق كسوة الصيف، ومرة لتفريق كسوة الشتاء، على جميع أهل الدولة من الخدم والحواشي من العمامة إلى السراويل، وقدروا عدد القطع التي صدرت منها سنة 516ه فبلغت 14305 قطع، وفي المقريزي فصل خاص في تعداد ضروب الألبسة التي كانت تفرق في تلك الدار.
وما زالت دور الطراز في الدول الإسلامية على نحو ما تقدم، حتى ضاق نطاق تلك الدولة وضعف أمرها وتعددت فروعها، فتعطلت هذه الوظيفة من أكثرها، ولكن الطراز نفسه لم يبطل في ملابسهم، على أنهم لم يعودوا يصنعونه في دورهم، بل صاروا ينسجون ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير أو من الذهب الخالص، ويسمونه المزركش ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه، كذلك فعل السلاطين المماليك بمصر، ويشبهه في الدولة العثمانية رسم الطغراء العثمانية، والشرائط المزركشة على ألبسة الضباط وغيرهم من رجال الدولة، والعلامات الأخرى في الدول الأخرى.
وأما الهلال في الدولة العثمانية فلم نقف على ما يقابله في دول الخلفاء سوى ما كان يؤخذ من ألوان الرايات عندهم، واختصاص كل لون بدولة كما سيجيء، والظاهر أنهم كانوا يطرزون أسماء الخلفاء أو ألقابهم على راياتهم وأسلحتهم، كما كانوا يضربونها على نقودهم.
فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة العزيز بالله الفاطمي، أن مملكته اتسعت وفتحت له حمص وحماه وشيزر وحلب، وخطب له المقلد بن المسيب صاحب الموصل بالموصل وضرب اسمه على السكة والبنود. وفي كلام أبي الفداء عن استيلاء بجكم على بغداد أنه اتصل بخدمة ابن رايق وانتسب إليه حتى كتب على رايته «الرايقي»، فالظاهر أن تطريز الاسم على الرايات والبنود بعد أن كان خاصا بالخلفاء في أوائل الإسلام شاع في أواخر الدولة بين الأمراء وكل ذي سلطان.
اسم السلطان بيبرس.
وكانوا يعدون من قبيل شارات الملك أيضا السرير والمنبر والتخت والكرسي، وذكروا من شارات الخلافة الآلة وهي الألوية «وهي الأعلام» الرايات والموسيقى. سيأتي الكلام عليها في باب الجند.
ولاية الأعمال
(1) الولايات قبل الإسلام
يراد بالولاية الإمارة على البلاد، فيولي السلطان أو الملك من يقوم مقامه في حكومة الولايات، وهي الأعمال في اصطلاحهم، وهذا النوع من الحكومة قديم، وكانت الشام لما فتحها المسلمون واحدة من ولايات الروم يسمونها ولاية الشرق، وتقسم إلى 11 إقليما تحت كل إقليم عدة بلاد ولكل إقليم قصبة، وهاك أسماءها وأسماء قصباتها وعدد المدن التابعة لها:
أسماء الأقاليم
عدد بلادها
اسم قصبتها (1) سوريا الأولى
9
أنطاكية (2) سوريا الثانية
7
حماه (3) سوريا الثالثة
13
منبج (4) فينيقية الأولى أو البحرية
12
صور (5) فينيقية الثانية
13
دمشق (6) بلاد العرب حوران
14
بصرى (7) الجزيرة أو بين النهرين
13
ديار بكر (8) أسروانا
12
أورفا (9) فلسطين الأولى
قيسارية (10) فلسطين الثانية
6
بيسان (11) فلسطين الثالثة
بطرا
وكان لكل إقليم حاكم أو عامل، والغالب أن يكون بطريقا، والبطريق
عند الروم غير البطريرك، وإنما هو لقب جماعة من شرفاء المملكة الرومانية نشأوا بنشوء مدينة رومية، وكان لهم نفوذ عظيم في دولة الرومان قد انحط شأنهم ولم يعد لهم عمل في الحكومة، فلما امتدت تلك المملكة إلى إفريقية وسائر المشرق، رأت الحكومة أن هذه الولايات البعيدة تحتاج إلى من يتولاها ويكون له هيبة وسطوة، فجعلوا يولونهم الحكومات في تلك المستعمرات، وفي جملتها الشام ومصر وما يليها.
فكان على كل إقليم من أقاليم الشام حاكم يقيم في قصبته ومعه الجند في القلاع، وكان على كل من هذه الأقاليم حاكم عام يقيم في أنطاكية، ولهذا الحاكم أن يولي ويعزل من يشاء من حكام الأقاليم، وهو يتولى جباية الخراج والإنفاق على الجند وسائر أعمال الولاية، وكانت مصر أيضا على نحو هذا النظام من حيث الانقسام إلى أقاليم وبلاد، وحاكمها العام كان يقيم في الإسكندرية.
وكانت العراق وبلاد فارس هكذا أيضا، وربما كان ولاتها أكثر تقيدا من ولاة الشام ومصر، لقرب دار الملك منهم. (2) الولايات في الإسلام
فلما ظهر الإسلام ونهض المسلمون للفتح، كانوا إذا أرسلوا قائدا إلى فتح بلد ولوه عليه قبل خروجه لفتحه، أو شرطوا عليه إذا فتحه فهو أمير عليه، وكان ذلك شأنهم من أيام النبي، فإنه أرسل في السنة الثامنة للهجرة أبا زيد الأنصاري وعمرو بن العاص ومعهما كتاب منه يدعو الناس إلى الإسلام وقال لهما «إن أجاب القوم إلى شهادة الحق وأطاعوا الله ورسوله فعمرو الأمير وأبو زيد على الصلاة وأخذ الإسلام على الناس وتعليمهم القرآن والسنن»، وكان كذلك.
1
فلما تولى أبو بكر وبعث البعوث لفتح الشام، كان إذا عقد لأحدهم لواء على بلد أو إقليم ولاه قبل ذهابه لفتحه، هكذا فعل في أول بعث بعثه وولى عليه ثلاثة من كبار قواد الدولة إذ ذاك، فعقد لواء لعمرو بن العاص وأمره أن يسلك طريق أيلة عامدا إلى فلسطين، وعقد لواء آخر ليزيد بن أبي سفيان وأمره أن يسلك طريق تبوك إلى دمشق، وعقد لشرحبيل بن حسنة على أن يسير في طريق تبوك أيضا إلى الأردن، وولى كل واحد منهم البلد الذي هو سائر لفتحه وقال لهم «إذا كان بكم قتال فأميركم الذي تكونون في عمله».
ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة ولى أبا عبيدة بن الجراح أمر الشام كله وإمرة الأمراء في الحرب والسلم، فأشبه عمله هذا ما كانت عليه الشام قبل فتحها، وهي أن يكون على كل إقليم عامل، وعلى عمال الأقاليم وال عام كما رأيت، ولكن حاكم الروم العام كان يقيم في أنطاكية، فاختار المسلمون دمشق بدلا منها، لبعدها عن البحر، وقربها من بلاد العرب، عملا برغبة عمر بن الخطاب أن لا يقيم المسلمون في مكان يحول بينه وبينهم ماء كما تقدم. (2-1) الاحتلال العسكري
وكانت ولاية الأعمال في بادئ الرأي أشبه بالاحتلال العسكري منه بالتملك، وكان العمال، أو الولاة، عبارة عن قواد الجند المقيم بضواحي البلاد المفتوحة بما يعبرون عنه بالرابطة أو الحامية، وكانت الجنود الإسلامية تنقسم إلى قوات تقيم في قواعد عسكرية بأماكن أقرب إلى طريق الصحراء منها إلى السواحل للأسباب التي قدمناها.
وكانت كل قاعدة عسكرية تسمى جندا، فيقال جند دمشق وجند قنسرين وجند الأردن، وكان سلطانها يشمل زماما واسعا يعادل زمام الولاية الرومانية أو البيزنطية التي تقع فيها القاعدة، ومن هنا فقد أطلق على هذه الولايات التي يحكمها قائد قاعدة عسكرية: الجند، فالجند على هذا الاعتبار هي الولاية العسكرية، وكانت أكثر ما تكون على الحدود.
فكانت عساكر الشام أربعة أجناد تقيم في دمشق وحمص والأردن وفلسطين ومنها تسمية هذه الأقاليم بالأجناد ، وقوات العراق كانت تقيم في الكوفة والبصرة، وقوات مصر في الفسطاط وضواحي الإسكندرية ... ولم يكونوا يسكنون القرى ولا المدن ولا يختلطون بالأهلين أول الأمر، وقد منعهم الخليفة عمر بن الخطاب من اتخاذ الزرع، وشدد عليهم في ذلك، فكانوا يقيمون في معسكراتهم إلى زمن الربيع، فيسرحون خيولهم بالمرعى في القرى يسوقها الأتباع ومعهم طوائف من السادات، وكانوا كثيري العناية بتربية خيولهم وأسمائها، ومن أقوال عمرو بن العاص لجنده في مصر «لا أعلمن - ما أتى - رجلا قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك». (2-2) انتشار الإسلام في البلاد المفتوحة
وكان عمرو بن العاص إذا جاء الربيع كتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا، فتتفرق العرب في القرى على حسب راياتهم وقبائلهم، وخصوصا في منوف وسمنود وأهناس وطحا، وكانت قرى مصر كلها في جميع الأقاليم يسكنها القبط والروم، ولم ينتتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة الأولى من تاريخ الهجرة، ثم تضاعف في أواسط المائة الثانية، ولم يقووا إلا في المائة الثالثة - يؤيد ذلك أن المسلمين لم ينشئوا في القرى مساجد قبل ذلك الحين، وأن القبط كانوا إذا انتقضوا أتعبوا المسلمين ولا يهون على هؤلاء إخضاعهم، وما زالوا في ذلك حتى أوقع المأمون بهم سنة 216ه وجعل الإسلام ينتشر في القرى.
وقس على ذلك حال الأندلس لما فتحها المسلمون سنة 92ه، فإنهم أقروا أهلها على ما كانوا عليه إداريا وسياسيا ودينيا، وتركوا لهم أعمال الحكومة وإدارة شؤونها، وإنما أبقوا لأنفسهم الرئاسة العامة وقيادة الجند. هكذا كانت حال الأعمال الإسلامية في أوائل الإسلام، إلا ما قرب منها من مركز الخلافة كالشام في أيام بني أمية، والعراق في أيام بني العباس.
فكان العمال في عهد الخلفاء الراشدين قواد الجند الذين افتتحوا تلك الأعمال، وواجباتهم الرئيسية مراقبة سير الأحكام في البلاد التي افتتحوها وإقامة الصلاة واقتضاء الخراج، وقد رأيت في غير هذا المكان أن أعمال الحكومة في البلاد المفتوحة في مصر والشام والعراق ظلت سائرة على ما كانت عليه قبل الفتح، إلى أواسط أيام بني أمية، وبدأت ولايات الأعمال تتحول إلى حكومات محلية من أواخر دولة الراشدين، حتى كانت أيام عبد الملك بن مروان، فأتم السيطرة الإسلامية بنقل الدواوين إلى اللغة العربية، وأخرج منها من لم يعرف لغة العرب فاجتهد أهل البلاد في تعلم اللغة العربية حتى يحتفظوا بهذه الوظائف، وبذلك كان هذا الإجراء الذي قام به عبد الملك بن مروان من أهم ما قام به خلفاء الإسلام، فقد كان له أثر حاسم في تعريب إدارة الدولة الإسلامية وفي نشر اللغة العربية، ثم تنوعت الولايات وصارت درجات متفاوتة، على ما اقتضاه الزمان والمكان، ولكنها ترجع إلى إمارتين: إمارة عامة، وإمارة خاصة، والإمارة العامة ضربان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. (3) الإمارة العامة (3-1) إمارة الاستكفاء
فإمارة الاستكفاء أو إمارة التفويض، هي التي كان يعقدها الخليفة لمن يختاره من رجاله الأكفاء، فيفوض إليه إمارة الإقليم على جميع أهله، ويجعله عام النظر في كل أموره، ويشتمل نظره فيه على سبعة أمور: (1)
تدبير الجيوش، وترتيبهم في النواحي، وتقدير أرزاقهم (إلا إذا كان الخليفة قدرها). (2)
النظر في الأحكام، وتقليد القضاة والحكام. (3)
جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتقليد العمال فيهما وتفريق ما استحق منهما. (4)
حماية الدين والدفاع عن الحريم. (5)
إقامة حدود الشرع. (6)
الإمامة في الصلوات. (7)
تيسير الحج.
وإذا كان الإقليم المشار إليه متاخما لعدو، ترتب على العامل أمر ثامن هو جهاد ذلك العدو، وقسمة الغنائم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس، كما هو مفصل في باب الجند والمال.
وكان أكبر ولايات الإسلام على هذه الصورة، وخصوصا لما بعد منها عن مركز الخلافة، كالعراق في بني أمية ومصر والشام في بني العباس وخراسان في كليهما.
عمال الاستكفاء في زمن بني أمية
ومن عمال الاستكفاء في أيام بني أمية في العراق زياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، وبشر بن مروان، والحجاج بن يوسف، ويزيد بن المهلب، ومسلمة بن عبد الملك، وعمر بن هبيرة، وخالد بن عبيد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عمر بن هبيرة، وكانت تسمى إمارة كل منهم «إمارة العراقين»، لاشتمالها على الكوفة والبصرة.
فكان كل أمير من هؤلاء يتصرف في إمارته تصرف الملوك المستقلين بالكيفية التي قدمناها، فيعين العمال على البلاد تحت إمارته وسائر عمال حكومته، ويجبي الأموال فينفق منها على جنده وفي ما تقتضيه العمارة من إصلاح الجسور وحفر الترع ونحو ذلك ، ويرسل ما يبقى عنده إلى بيت المال في الشام.
وكانت الحال نحو ذلك في مصر، فقد كان عاملها من عمال الاستكفاء من عهد عمرو بن العاص فما بعده، وربما كان عامل مصر أكثر استقلالا من سواه، وخصوصا عمرو بن العاص لما تولاها المرة الأخيرة بأمر معاوية بعد أن نصره على علي، وربما فعل معاوية مثل ذلك بزياد بن أبيه لما ولاه خراسان، وبالمغيرة بن شعبة لما ولاه الكوفة، رغبة منه في إرضاء أطماع هؤلاء كما تقدم.
عمال الاستكفاء في أيام العباسيين
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس ساروا على نحو هذه الخطة، لكنهم قلما كانوا يجعلون أمر العراق مفوضا للعمال، لقربه من مركز الخلافة، على أنهم كانوا يفوضون العمال في الأقاليم البعيدة، كالشام ومصر وخراسان وسائر ما وراء العراق نحو الشرق إلى أقصى بلاد الترك وما وراء النهر، ولما تمكن البرامكة من الدولة وغلب نفوذهم فيها، ولى الرشيد أحدهم - جعفر بن يحيى - الغرب كله، من الأنبار إلى إفريقية، وقلد أخاه - الفضل بن يحيى - الشرق كله، من شروان إلى أقصى بلاد الترك سنة 176ه، فأقام جعفر بمصر، وأرسل العمال بأمره إلى الشام وإفريقيا وغيرهما، وأما الفضل فإنه سار إلى عمله حتى وصل إلى خراسان، فأصلح وبدل واستخلف عمالا، وعاد إلى العراق.
وكثيرا ما كان الخلفاء يفوضون إلى بعض خاصتهم عملا من الأعمال، فيرسل هذا من يقوم مقامه في ذلك العمل، ويبقى هو في بلاد الخليفة، وأكثر ما كان يقع ذلك في الدولة العباسية، في عصرها الثاني.
وكانت إمارة الاستكفاء هذه من جملة الأسباب التي ساعدت على تشعب المملكة العباسية إلى دول مستقلة ... لأن الوالي كان يقيم في ولايته كأنه ملك مستقل، إلا فيما يتعلق بإرسال فضلات الخراج إلى الخليفة، والخطبة له، وضرب النقود باسمه، وأمور أخرى لا تضغط على إرادته، فإذا كان الوالي ذا دهاء وآنس من الخليفة ضعفا، جمع أهل الإقليم على ولائه واستقل بعمله، إما استقلالا تاما وإما على مال معين يبعث به إلى الخليفة ببغداد، أو على شروط أخرى ، وعلى نحو هذا النمط استقل الأغالبة في إفريقية، وبنو طاهر في خراسان، وابن طولون في مصر، ولكن تلك الأقاليم ظلت تعد إمارات عباسية من الناحية النظرية على الأقل. (3-2) إمارة الاستيلاء
ويراد بإمارة الاستيلاء أن يعقد الخليفة لأمير على إقليم اضطرارا، بعد أن يستولي الأمير على ذلك الإقليم بالقوة، فكان الخليفة يثبته في إمارته، ويفوض إليه تدبير سياسته فيكون الأمير باستيلائه مستبدا بالسياسة والتدبير، ويكون الخليفة بإذنه منفذا لأحكام الدين، ولهذه الإمارة شروط تفرض على الأمير في مقابل ذلك وهي: (1)
حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة وتديبر أمور الملة. (2)
إلزام الناس بالتزام أشراط العقيدة. (3)
جمع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون للمسلمين يد على من سواهم. (4)
أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة والأحكام فيها نافذة. (5)
أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها. (6)
أن تكون الحدود مستوفاة بحق وقائمة على مستحق. (7)
أن يهتم الأمير في حفظ الدين.
ولأمير الاستيلاء أن يستخدم الوزراء وغيرهم، ومن هذه الإمارات ما انتهت إليه الدولة العباسية من التشعب وظهور الدول الصغرى فيها، كالدولة الحمدانية والبويهية والغزنوية والإخشيدية وغيرها، وكلها كانت إمارات مستقلة تدعو للخليفة على المنابر، وتضرب السكة باسمه، وترسل إليه مالا معينا في السنة يتم الاتفاق عليه، وهو الذي يثبت أمراءها، ويكون الحكم متسلسلا في أعقابهم. (4) الإمارة الخاصة
وأما الإمارة الخاصة، فهي أن يكون الأمير فيها مقصورا على تدبير الجيش، وسياسة الرعية، وحماية البيضة، والدفاع عن الحرية ضمن حدود معينة، وليس له أن يتعرض للقضاء أو الأحكام أو لجباية الخراج أو الصدقات في شيء حتى الإمامة في الصلاة، فربما كان القاضي أولى بها منه، والخليفة يعين لهذه الإمارة قضاة وجباة من عنده، فالجباة يجمعون الخراج لحساب بيت المال المركزي، وهم يؤدون أعطيات الجند وغيرها مما يجمعونه، والإمارات الخاصة كانت قليلة في إبان الدولة العباسية. (5) رواتب العمال
أما رواتب العمال فقد قدرها عمر بن الخطاب، بعد تدوين الدواوين وتعيين أرزاق الجند، وأول ما فعل ذلك لما وجه عمار بن ياسر إلى الكوفة وولاه صلاتها وجيوشها ، فجعل له ستمائة درهم في الشهر، وعين الرواتب لولاته وكتابه ومؤذنيه ومن كان يقوم بالأمر معه، فبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وعبد الله بن مسعود على قضاء الكوفة، وشريحا على قضاء البصرة، وأجرى على عثمان ربع شاة وخمسة دراهم كل يوم، وجعل عطاءه خمسة آلاف درهم في السنة، وأجرى على عبد الله مائة درهم في الشهر وربع شاة في اليوم، وأجرى على شريح مائة درهم وعشرة أجربة في الشهر، فترى مما تقدم أنه فضل عمار بن ياسر عليهم أجمعين، لأنه كان على الصلاة والجند وهي الإمارة يومئذ، ولما ولى عمر معاوية بن أبي سفيان على الشام، جعل له ألف درهم كل سنة، وكان عمر يشدد في محاسبة العمال، فإذا رآهم ربحوا مالا من شيء قاسمهم وأخذ النصف لبيت المال.
وأما بنو أمية فقد نال عمال الأقاليم في أيامهم امتيازات كثيرة، منحهم إياها معاوية، ترغيبا لهم في البقاء على ولائه، فولى زياد بن أبيه البصرة وخراسان وسجستان ووسع له بما يريد، وفعل نحو ذلك مع عمرو بن العاص بمصر.
وجرى العباسيون على نحو ذلك، فلما ولى المأمون الفضل بن سهل على الشرق جعل له 3000000 درهم في السنة، وكانت رواتب العمال تختلف باختلاف نوع العمل وسعته وأهميته.
الوزارة وما يتبعها
(1) الوزارة
الوزارة أسمى الرتب السلطانية، وليست من محدثات الإسلام بل هي فارسية الأصل اتخذها المسلمون في عهد الدولة العباسية، أما إذا أريد بالوزارة استعانة الخليفة بمن يشد أزره أو يعاونه في الحكم، فهي تتصل بصدر الإسلام، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويختص أبا بكر بخصوصيات أخرى، حتى إن العرب الذين خالطوا الروم والفرس قبل الإسلام كانوا يسمون أبا بكر وزيره، وكذلك كان شأن عمر مع أبي بكر، وشأن علي وعثمان مع عمر، ولكن لفظ الوزير لم يكن يعرف بين المسلمين في سذاجة الدولة.
على أن بني أمية لما جعلوا الخلافة ملكا، وأصبح معولهم في استبقاء ملكهم على السياسة والدهاء، احتاجوا إلى من يستشيرونهم ويستعينون بهم في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم واصطناع الأحزاب منهم، فاستخدموا أناسا لنحو ذلك الغرض وهي الوزارة بمعناها ولكن يظهر أنهم لم يكونوا يسمون صاحب هذه الرتبة الوزير، فانقضت دولة بني أمية دون أن يتخذ الخلفاء وزراء، ودون أن تظهر الوزارة في نظم الإسلام.
ولكن دولة بني أمية عرفت نظام الكتاب أو كتاب الخلفاء، ووظيفة الكاتب هي الأصل الذي تطور فيما بعد إلى وظيفة الوزير، وقد عرف الإسلام الكتاب من أول أمره، وكتب لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
نفر من الصحابة وكان لكل واحد من الخلفاء الراشدين كاتب أو أكثر يكتب عنه، وعلى هذا النظام مضى بنو أمية.
ولم يكن الكاتب أول الأمر كاتب الدولة بل كاتب الخليفة، أي أمين سره وصاحب ديوانه وسجلاته، ثم صار مع الزمن كاتبا للدولة أي أمينا عاما لها، وقد حدث هذا التطور على أيام عبد الملك بن مروان.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، واستفحل الملك وعظمت مراتبه، عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد، وأضيف إلى الوزارة النظر في ديوان الحساب، ثم النظر في المكاتبات، لصون أسرار الخليفة، فأصبحت الوزارة شاملة لخطتي السيف والقلم.
وأول وزراء بني العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال وزير أبي العباس السفاح وهو أول من سمي وزيرا في الإسلام، قال ابن خلكان: «ولم يكن قبله من يعرف بهذا النعت لا في دولة بني أمية ولا في غيرها»، وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، كما يسمى أبو مسلم الخراساني أمير آل محمد، وكلاهما فارسيان، والعباسيون أول من عول على الوزراء، فسلموا إليهم أمور الدولة، وأكثرهم من الفرس، وأشهر وزرائهم البرامكة، وقد استفحل أمرهم في الدولة حتى اضطر الرشيد إلى الفتك بهم في نكبتهم المشهورة.
وتقلبت على الوزارة أحوال شتى في أيام بني العباس، ففي القرن الرابع للهجرة أضيف إلى اسم الوزير لقب «صاحب»، وأول من لقب به منهم أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس، وكان أولا وزير مؤيد الدولة بن بويه وعرف بالصاحب، وصار كل من تولى الوزارة بعده يسمى الصاحب ...
وأخذ نفوذ الوزارة في بني العباس يتقلص بتقلص نفوذ الخلفاء، حتى استبد العمال في الأعمال، وتفرعت المملكة العباسية، فأصبحت الوزارة كالخلافة اسما بلا مسمى، فأسقطوها وأبدلوها بإمرة الأمراء. (2) أمير الأمراء
عندما عجز خلفاء بني العباس عن ضبط الأمور، بسبب استبداد أمراء النواحي بما تحت أيديهم وضعف الخلفاء عن السيطرة على جندهم، بسبب قلة الجباية والتوقف عن دفع الأعطيات، أخذوا يستبدلون الوزراء واحدا بواحد، باحثين عن شخصيات تستطيع القيام بشئون الدولة ومواجهة المشاكل العسيرة التي واجهتها، وقد عين الخليفة الراضي سنة (322 / 934-329 / 940) خمسة وزراء واحدا بعد الآخر، وكان آخرهم سليمان بن الحسن بن مخلد، وعندما ضاقت به الحيل اتجه ببصره إلى أكبر القواد العسكريين في أيامه، وهو ابن رائق، وكان واليا على واسط والبصرة، فاستدعاه وسلم إليه مقاليد الأمور ولقبه أمير الأمراء.
فاستحدث بذلك وظيفة كبرى كانت قاضية على الوزارة، وكان لها أثر بعيد في الهبوط بمستوى الخلافة، وفي ذلك يقول ابن طباطبا: «واستبد ابن رائق أمير الأمراء بالأمور، ورد الحكم في جميع الأمور إلى نظره، ولم يبق للوزير سوى الاسم» - (الفخري، ص253).
ويقول مسكويه إن الراضي «عرفه أنه قلده الإمارة ورياسة الجيش، وجعله أمير الأمراء، ورد إليه تدبير أعمال الخراج، والضياع وأعمال المعادن في جميع النواحي، وفوض إليه تدبير المملكة، وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر في الممالك ...» - (تجارب الأمم، ج1 ص356).
ويبدو أن ابن رائق لم يكن أول من تلقب بأمير الأمراء، فقد ذكر مسكويه أن الخليفة المقتدر منح هذا اللقب لمولاه مؤنس الخادم، ولقبه بمؤنس المظفر، ولكن هذه الوظيفة لم تأخذ مظهرها الحقيقي إلا في أيام ابن رائق، وعندما استبد بنو بويه بأمور الخلافة على يد معز الدولة بن بويه ابتداء من سنة 320 / 932 انتقل إليهم هذا اللقب.
وما زال هذا اللقب في بني بويه إلى سنة 449ه، فانتقل إلى السلاجقة الأتراك وأولهم طغرل بك، ثم صار خلفه ألب أرسلان من أعظم ملوك زمانه، وظل هذا اللقب في السلاجقة إلى سنة 547ه وسقط بسقوط دولتهم في بغداد.
وكان بنو بويه لما استفحل أمرهم يولون أمير الأمراء من عند أنفسهم، ولم يتركوا للخلفاء إلا نائبا يسمى «رئيس الرؤساء»، ثم عاد الخلفاء في أيام السلاجقة إلى تولية أمير الأمراء.
ومن يتدبر تاريخ منصب الوزارة في الدولة العباسية، يتبين له أنها كانت من جملة أسباب انحلال هذه الدولة، لأن الخلفاء سلموا مقاليد الحكومة إلى وزرائها وتقاعدوا عن أمور السياسة، فأصبحوا بتوالي الأجيال عاجزين عنها.
وأما الدول الأخرى، فالدولة الفاطمية بمصر أول وزرائها يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله سنة 363ه، والدولة الأموية في الأندلس كانت الوزارة فيها كما كانت في أيام أمويي الشام: كانت مشتركة في جماعة يعينهم الخليفة للإعانة والمشاورة، ويخصهم بالمجالسة ويختار منهم شخصا لمكان النائب المعروف بالوزير في دولة بني العباس، فيسميه الحاجب ثم سمي الوزير، وكانت هذه الرتبة عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة، كما كان شأن البرامكة في بغداد. (3) وزارة التفويض
كانت الوزارة وزارتين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ مثل إمارة الأعمال، فوزارة التفويض أن يستوزر الخليفة رجلا يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، فيتولى الوزير كل شيء يمضيه عن الخليفة إلا ثلاثة أشياء: (1)
ولاية العهد فإن للخليفة أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير. (2)
للخليفة أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الخليفة. (3)
للخليفة أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير.
ومن وزراء التفويض آل برمك، ويحيى بن أكثم، وابن الفرات وغيرهم في الدولة العباسية، وأمير الجيوش في الدولة الفاطمية، وقد بلغ من تفويض بني العباس لوزرائهم أنهم كثيرا ما كانوا يسلمون إليهم خاتم الخلافة يختمون به الكتب دونهم، وفي حكاية الرشيد مع جعفر والفضل يوم أخذ الخاتم من جعفر وسلمه إلى الفضل دليل على مقدار نفوذهم.
وناهيك بحكاية جعفر بن يحيى البرمكي مع عبد الملك بن صالح دليلا على ذلك كان جعفر في مجلس فدخل عبد الملك بن صالح (ابن عم الرشيد) عليه وهم في الطرب، فقال له جعفر «هل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة على ما صنعت؟»، قال «بلى، إن في قلب أمير المؤمنين تغيرا علي فتسأله الرضا عني»، فقال جعفر «قد رضي عنك أمير المؤمنين»، قال «وعلى عشرة آلاف دينار» فقال جعفر «هي حاضرة لك من مالي، ولك من مال أمير المؤمنين مثلها»، قال «وأريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة أمير المؤمنين»، قال «قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية»، قال «وأحب أن تخفق الولاية على رأسه»، قال «قد ولاه أمير المؤمنين مصر»، ثم انصرف عبد الملك، وقد أقدم جعفر على ذلك كله من غير استئذان!
وفي الغد دخل جعفر على الرشيد فقال له الرشيد «كيف يومك يا جعفر بالأمس؟»، قال جعفر «فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح، وكان الرشيد متكئا فاستوى جالسا وقال «لله أبوك! ما سألك؟»، قلت «سألني رضاك عنه يا أمير المؤمنين»، قال «قد رضيت عنه، ثم ماذا؟»، قلت «وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار فأجبته قد قضاها عنك أمير المؤمنين»، قال «قد قضيتها عنه، ثم ماذا؟»، قلت ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه، فقلت له قد زوجه أمير المؤمنين ابنته الغالية»، قال «قد أجبته إلى ذلك، ثم ماذا؟»، قلت «قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه، فقلت قد ولاه أمير المؤمنين مصر»، قال «لقد وليته إياها»، ثم أنجز له جميع ذلك من ساعته.
وكثيرا ما كان الخلفاء يقلدون وزراءهم مع الوزارة منصبا آخر مهما، كما تقلد الفضل بن سهل رئاسة السيف مع الوزارة، فسموه ذا الرئاستين. (4) وزارة التنفيذ
أما وزارة التنفيذ فالنظر فيها مقصود على تنفيذ ما يراه الخليفة، فيكون الوزير واسطة بين الخليفة وبين الرعية، فيمضي ما يأمره الخليفة به من تقليد الولاة، وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم، خلافا لوزير التفويض، فإنه يولي ويعزل كما يشاء، يقضي ويمضي بلا حد ولا قياس، ويجوز للخليفة أن يستوزر وزيري تنفيذ: أحدهما للحرب مثلا والآخر للخراج، ولكنه لا يستوزر إلا وزيرا واحدا تفويضيا. (4-1) راتب الوزير
أما راتب الوزير فقد كان يختلف باختلاف العصور واختلاف الأشخاص، ولكن الوزراء لم تكن نفقاتهم تقتصر على رواتبهم، لأن الخلفاء كانوا يفرضون الرواتب لإخوتهم وأولادهم وحواشيهم، وقد فرض المقتدر بالله العباسي لوزيره علي بن عيسى خمسة آلاف دينار في الشهر، وإليك راتب الوزير في الدولة الفاطمية وما يلحقه من رواتب أهله وأتباعه:
الوزير راتبه في الشهر 5000 دينار.
لكل واحد من أولاده وإخوته راتبه في الشهر من 200-300 دينار.
لكل واحد من حواشيهم راتبه في الشهر من 300-500 دينار.
ما عدا الإقطاعات وما كان يدفع إليهم في المواسم من الهدايا وما يخلع عليهم من الخلع في الأعياد ونحوها فربما بلغ راتب الوزير وتوابعه بما يلحقهم من الإقطاع نحو 100000 دينار في السنة، وسنعود إلى الرواتب في الجزء الثاني من هذا الكتاب في الكلام عن مالية الدولة. (4-2) السلطان
كان هذا المنصب في أوائل أمره لقبا لوزراء الدولة العباسية، يلقبون به على سبيل التفخيم بأمر الخلفاء كما تقدم، وذكر ابن خلدون أن جعفر بن يحيى دعي سلطانا، ويظهر من مجمل ما نقرأه من كتبهم أنهم يطلقون لفظ السلطان على والي بغداد أو والي الشام، ولعله رئيس الشرطة أو ما يشبه المحافظ اليوم، وقد يريدون بالسلطان الخليفة نفسه، وكل ذلك على سبيل المجاز، ولم تصر السلطنة رتبة رسمية إلا في أيام محمود الغزنوي ابن سبكتكين، وهو أول سلطان في الإسلام، سمي به في أواخر القرن الرابع للهجرة بدلا من لقب أمير الأمراء الذي ذكرناه، وكأنه ابتذل كما ابتذل اسم الوزير قبله، فأبدلوه بلقب سلطان، وصار بعد ذلك لقبا لملوك الأتراك والأكراد والجراكسة، وغيرهم من السلاجقة والأيوبية والمماليك والعثمانيين، والوزارة لم يكن الإرث شرطا فيها، فلما صارت إلى السلطنة صار الإرث شرطا فيها، والسلطان يعهد إلى ولي عهده قبل موته.
وذكر ابن خلكان في ترجمة الرازي الطبيب أن الملوك السامانية كانوا يسمون ملكهم «سلطان السلاطين»
1 - والملوك السامانية قبل الغزنوي - فالظاهر أن هذا اللقب كان معروفا من قبل، فإذا صح ذلك كان لقب الغزنوي موروثا عنهم، ولكننا رأينا لبعض الباحثين كلاما في شأن هذا اللقب يرجح قولنا الأول، وإلا فربما كان ذلك اللقب عند السامانية قبل اعتناقهم الإسلام، فيكون محمود أول سلطان في الإسلام، والله أعلم.
وكان الخلفاء هم الذين يولون السلاطين، وإن كانت القوة في أيدي هؤلاء، ولكنهم كانوا يعتبرون ذلك من وجهه الديني، وكانوا يحتفلون بتولية السلطان احتفالا شائقا، فيخلع عليه الخليفة سبع خلع، ويلبسه طوقا وتاجا وسوارين، ويعقد له اللواء، ويقلده السيف، ويخطب له.
ومن أمثلة ذلك احتفال الخليفة المستظهر بالله بتولية محمد بن ملكشاه في بغداد بحضور أخيه سنجر،
2
فإن الخليفة جلس لهما في قبة التاج على سدته، وعلى كتفه بردة النبي، وعلى رأسه العمامة، وبين يديه القضيب، وأفاض على محمد بالخلع وألبسه الطوق والتاج والسوارين، وعقد له اللواء بيده وقلده سيفين وأعطاه خمسة أفراس بمراكبها، وخطبوا له بالسلطنة في جامع بغداد.
وكانوا يلقبون السلاطين يوم الاحتفال بتوليتهم ألقابا تشير إلى تأييد الخلافة بهم، مثل ناصر الدولة وسيف الدولة وعضد الدولة ونحو ذلك.
الجند وتوابعه
تاريخ الجند (1) أصل الجند ونظامه
كان الناس في أوائل أدوار تمدنهم قبائل جندها رجالها، إذا احتاجت إلى قتال اجتمع الرجال من كل قبيلة بلا نظام ولا ترتيب، وينال كل واحد من الغنيمة ما يستطيع الحصول عليه بنسبة شجاعته وقوة بطشه، فلما تحضر الناس وتقاسموا الأعمال ونشأت الدول كان من أقدم المهن عندهم الكهانة والجندية.
وأول دولة نظمت الجند الدولة المصرية الفرعونية، فقد جندت جيشا من الزنوج والأحباش حوالي القرن العشرين قبل الميلاد، أخضعت بهم سكان سواحل البحر الأحمر، ثم انتشر أمر التجنيد في الدول القديمة في آشور وبابل وفينيقية واليونان والرومان والإسلام.
فالفراعنة أسبق الأمم إلى تنظيم الجند، وكان نظامه عندهم الصفوف المتعاقبة المتراصة، وعلى آثارهم كثير من صور هذه الصفوف، والمشهور أن رمسيس الثاني هو منظم الجند المصري على النظام المعروف، لأنه كان يحب الحرب، وبلغ عدد جنده إلى 600000 راجل و24000 فارس و27000 مركبة وعمارة بحرية، واقتبس البابليون والفرس هذا النظام مع بعض التعديل على مقتضيات الأحوال، وبه تغلب قورش وقمبيز في حروبهما مع اليونان وغيرهم. (2) جند الروم
وأما اليونان فإنهم اقتبسوا نظام الجند المصري ونوعوه، فأنشأوا الكتائب ويعبر عنها في لسانهم بلفظ
وهو أن تتراص الجنو صفوفا متعاقبة، وكانت الكتيبة تتألف من 4000 رجل، يصطف رجالها الواحد بجانب الآخر على بضعة أقدام في صفوف متعاقبة، الواحد وراء الآخر ... فجعلها فيليب المقدوني ضعفي ذلك، ثم جعلها ابنه الإسكندر أربعة أضعافه، وقارب ما بين الرجال حتى كادت تتماس أكتافهم وتترابط تروسهم، واصطنع لهم رماحا طول بعضها 23 قدما، وتكون رماح الصف الأمامي قصيرة، ورماح ما وراءه أطول فأطول، حتى تبرز رماح الصف الخامس ثلاثة أقدام نحو الأمام، وكان فيليب قد نظم فرقة من الفرسان، فأضاف ابنه إليها آلات الحرب وفي جملتها المنجنيق، وبهذا النظام تغلب الإسكندر على العالم في القرن الرابع قبل الميلاد.
كتيبة الإسكندر في أثناء المعركة وقد فتكت رماحها بالأعداء. (3) جند الرومان
فلما نشأت دولة الرومان اقتبست نظام الكتائب عن اليونان وأدخلته في جندها، وكان الجيش الروماني في إبان الدولة مؤلفا من فرق عدد رجال كل منها 6000 تتألف من ثلاث طبقات من الرجال: (1)
الشبان ومنهم يتألف الصف الأول من الكتيبة في الحرب. (2)
الكهول في الصف الثاني. (3)
أهل الدربة والحنكة ويتألف منهم الصف الثالث.
وكان يلحق كل فرقة عندهم كوكبة من الفرسان تتقلد السهام والمقاليع والمزاريق لمشاغلة الأعداء عن حرب المشاة.
قواد الروم وأجنادهم وآلاتهم وأسلحتهم.
ثم قسم الرومان الفرق إلى كراديس بلا تقييد بالصف، فجعلوا الفرقة عشرة كراديس، والكردوس ثلاثة أقسام ، وكل قسم فصيلتين عدد رجال كل منهما مائة رجل، وهذا النظام يخالف نظام الكتائب المتقدم ذكره بأن لا يتقيد الجند بصف واحد أو كتيبة واحدة، بل يكون عدة كتائب كل كتيبة منها كردوس، وظل نظام الجند الروماني في حروبه على هذه الصورة إلى الفتح الإسلامي.
ولما ظهر الإسلام كانت جنود الروم 120000 يقود كل عشرة آلاف منها قائد يغلب أن يكون بطريقا، وتحت البطريق ضابطان يسمى كل منهما طومرخان يتولى قيادة 5000، وتحت الطومرخان خمسة طرنجارية
Drungari
كل واحد يقود ألف رجل، وتحته خمسة قوامس واحدهم قومس
Comes
يتولى قيادة 200 جندي، وتحت القومس قمطرخ
Centuriones ، وتحته الدمرداخ، وهذا تحته عشرة رجال، وترى في هذا النظام مشابهة كلية بنظام جند هذه الأيام.
وأما الفرس فقد كان جندهم أربع طبقات: الأولى طبقة القواد العظام ويسمى واحدهم ميرميران، تحته أربعة قواد يسمى كل منهم أصفهبذ، وتحت كل أصفهبذ أربعة مرازبة، وتحت كل مرزبان أربعة سالارية، وتحت كل سالار عشرة أساورة (وهم الفرسان المفردة) وخمسة من الرجال المشاة ويسمونهم البيادة. (4) جند العرب
أما العرب قبل الإسلام فقد كانوا أهل بداوة لا نظام للجند عندهم، وإنما كانوا قبائل إذا أرادت إحداها حربا جردت رجالها، وفيهم الفرسان، والمشاة ومعهم الأسلحة المعروفة في الجاهلية، كالقوس والرمح والسيف ... إلا ما كان من نظام الجند في الدول العربية التي تمدنت قبل الإسلام، كالتبابعة ملوك حمير والمناذرة ملوك الحيرة، فقد ذكروا للمناذرة كتيبتين من الجند تسمى إحداهما الدوسر والأخرى الشهباء، وأما عرب الحجاز فقد كانوا قبل الإسلام على الفطرة البدوية كما قدمنا.
فلما ظهر الإسلام انفرد المسلمون عن سائر العرب، واتحدوا بجامعة الدين يدا واحدة في محاربة أعدائهم، فكانوا كلهم جندا كبيرهم وصغيرهم، وأول جنود المسلمين المهاجرون، فلما جاءوا المدينة اتحدوا بالأنصار وصاروا جميعا جندا واحدا قائدهم النبي بنفسه، ورابطتهم المعاهدة والمؤاخاة وعددهم يومئذ قليل جدا. (4-1) جند العرب في دولة الراشدين
ثم جعلوا يزدادون بالفتح والغزو في أيام النبي وأبي بكر، بمن انضم إليهم من قبائل العرب في الحجاز واليمن ونجد واليمامة كبارا وصغارا، تجمعهم جامعة الإسلام، حتى تكاثروا فتكاتفوا وحملوا على الشام والعراق ومصر، ففتحوا البلاد ومصروا الأمصار، وانقسموا إلى أجناد يقيم بعضها في مصر وبعضها في الشام وبعضها في العراق، في محطات خاصة بهم، وكان جند كل محطة ينقسم باعتبار القبائل والبطون، فكان جند البصرة مثلا خمسة أقسام تسمى الأخماس، يقيم في كل خمس منها قبيلة من قبائل المسلمين وهم: الأزد وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية «قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة » وكانوا يسمون أهل العالية والكوفة أهل المدينة، وكان على كل خمس أمير من أمراء تلك القبائل، وقس على ذلك سائر أجناد المسلمين في الكوفة والفسطاط مما مصره المسلمون، أو في غيرهما من مدن العراق والشام ومصر، فقد كان لهم في كل إقليم جند ينقسم على نحو هذه الكيفية.
كل ذلك والمسلمون كلهم جند محارب لا يعمل أحد منهم عملا، وقد نهاهم عمر بن الخطاب عن الزرع، كأنه رآهم بعد أن فتحت لهم الأمصار ورأوا خصب الأرض قد مالوا إلى الرخاء والتقاعد عن الحرب، فأمر مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدمون إلى الرعية أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائر فلا يزرعون، ولعله أراد بذلك أن لا يتوطنوا في بلد، إذ ربما مست الحاجة إلى تجنيدهم لنجدة إخوانهم في بلاد أخرى أو لحماية بعض الأمصار فلا يثقل عليهم ذلك. (4-2) تنظيم جند العرب في أيام بني أمية
أما تنظيم الجند فئة خاصة دون سائر فئات المسلمين، فقد بدأ في أيام عمر عند تدوين الدواوين كما سيأتي، وتم في أيام بني أمية، ويظهر أن التجنيد الإلزامي بدأ في أواسط هذه الدولة، وكان الناس من قبل يذهبون إلى الحرب جهادا في سبيل الله فيصيبون الغنائم والفيء، فلما قامت الفتنة بعد مقتل عثمان (سنة 35ه) اشتغلوا بالحرب فيما بينهم مدة، وكل طائفة تندفع إلى ذلك دفاعا عن رأيها واعتقادا بأنها تدرأ عن الحق، فلما أفضى الأمر إلى بني أمية، وصار المسلمون دولة واحدة، وضعفت قوة الأحزاب بتغلب العنصر الأموي، لم يعد الناس يرون ما يدفعهم إلى الحرب طوعا، فجعلوا يتقاعدون فاضطر الخلفاء إلى التجنيد بالإلزام.
ولعل أول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف على عهد عبد الملك بن مروان، وكانت الدولة الأموية قد بلغت ذروة مجدها، وكثر المسلمون ومالوا إلى العمل في الأرض وأطلق لهم السراح، وكانوا قد هموا بالتقاعد عن الحرب في أيام معاوية، فغلبهم بدهائه وعطائه، فلما تولى ابنه يزيد، ثم معاوية الثاني، ثم مروان بن الحكم - ولم يكن فيهم من يملك القلوب أو الأعناق - تجرأ الجند على التقاعد، فتولى عبد الملك الخلافة والجند على ما تقدم لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع صاحب شرطته فقال له «يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلا لو قلده أمير المؤمنين عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج بن يوسف» فأطاعه عبد الملك وقلد الحجاج أمر العسكر.
وكان الحجاج شديدا عاتيا، فلم يعد أحد يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف الحجاج عليهم يوما وقد رحل الناس وهم على طعام، فقال لهم «ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟» فقالوا له «انزل يا ابن اللخناء فكل معنا!» فقال «هيهات! ذهب ما هنالك!».
ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوقهم في العسكر وأمر بفساطيط روح نب زنباع فأحرقت بالنار، فدخل روح بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيا فقال له «ما لك؟» فقال «يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي»، قال «علي به»، فلما دخل عليه قال «ما حملك على ما فعلت؟»، قال «ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين»، قال «ومن فعله؟»، قال «أنت والله فعلته! إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين إلا أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين وللغلام غلامين ولا يكسرني فيما قدمني له» فأخلف الخليفة لروح بن زنباع ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف عن كفايته.
فيشبه أن يكون ذلك أول تاريخ التجنيد الإلزامي، ثم صار التجنيد سنة وأصبح الجند الإسلامي فئتين: المرتزقة والمتطوعة، وكلاهما عرب يرجعون في أنسابهم إما إلى قحطان وهم اليمنية، أو إلى عدنان وهم المضرية، وفيهم جماعة من الموالي أو العبيد. (5) جند الأعاجم في الإسلام (5-1) في الدولة العباسية
فلما تولى بنو العباس واحتاجوا إلى مؤازرة الأعاجم في تأييد سلطانهم، دخل في جند العرب جماعات منهم، وأول من دخل في الجند الإسلامي منهم آل خراسان، لأنهم هم الذين نصروا العباسيين في دعوتهم ، وسلموا إليهم أزمة الخلافة بقيادة أبي مسلم الخراساني، فكانت فرق الجند في أيام المنصور ثلاثا: اليمنية، والمضرية، والخراسانية، ثم أضيف إليها فرقة رابعة هي فرقة الحرس الخاص، اتخذها الخلفاء خوفا مما كانوا ينصبونه لهم من الحبائل أو يقيمونه عليهم من الثورات، ومن غريب هذه الأعمال أن الأمر الذي أراد الخلفاء أن يحفظوا سلطانهم به كان علة خروج ذلك السلطان من أيديهم ...
ولما أفضت الخلافة إلى المعتصم بالله (سنة 218ه) كانت العناصر الأجنبية قد تمكنت من الدولة، وزاد الخلفاء خوفا على أنفسهم، فخاف المعتصم من جنده على نفسه، فاصطنع قوما من الحوف بمصر (الشرقية والدقهلية) استخدمهم في حاشيته، وسماهم المغاربة - لأن مصر غربي بغداد - ولعل فيهم بعض أهل المغرب، وجمع خلقا من أشروسنة وسمرقند وفرغانة ابتاعهم من أسواق بغداد تدريجا وجند منهم جندا سماه جند الفراغنة ثم سموا الأتراك، وقد كانوا أشد خطرا على الدولة العباسية من سائر فرق الجند، وآل الأمر بهم إلى الاستبداد بأهل الدولة، واحتقار الجند العربي الأصلي وإساءة سائر أهل بغداد، حتى إنهم كثيرا ما كانوا يركبون الدواب في شوارع بغداد ويركضونها، فيصدمون الرجل والمرأة والصبي، فتأذى الناس وشكوا أمرهم إلى المعتصم، فلم ير سبيلا إلى تلافي ذلك إلا بإخراج جنده من بغداد، فبنى لهم سامراء (سنة 221) وأقام معهم فيها.
وكانت خلافة المعتصم بدء نفور العرب من خلفائهم وشكواهم منهم، وكانوا يعبرون بالجند يومئذ عن الأتراك وغيرهم من الأعاجم، «وبالحربية» عن جند العرب وكلهم مشاة، ثم المتطوعة وهم الذين يقدمون على الحرب من تلقاء أنفسهم، ويغلب أن يكون المتطوعة في الحروب خارج حدود المملكة الإسلامية، وكان من فرق الجند عند الخلفاء النشابون الذين يرمون النشاب، والنفاطون الذين يرمون النفط لإحراق حصون الأعداء، والمنجنيقيون رماة المنجنيق وهم مثل مدفعية هذه الأيام، والعيارون وهم رماة الحجارة من المخالي، وكان للجند أطباء وصيادلة يرافقونهم في الحرب والسلم، كما تفعل الدول المتمدنة اليوم.
جند من المسلمين بأعلامهم وأبواقهم في القرن الثامن للهجرة نقلا عن مخطوط قديم.
ثم نشأت فرق أخرى من جند الأتراك وجعلوا يتنازعون النفوذ في الدولة، وكان في جملة تلك الفرق فرقة الشاكرية ... ظهرت في أيام المهتدي واستفحل أمرها في أيام المستعين بالله، ونشأ في أثناء ذلك ضرب من الحرس الخاص في قصور الخلفاء يسمونهم الغلمان الحجرية، وكان في دولة الفواطم بمصر فرقة منهم، وتحول قسم كبير من جند المشاة العرب إلى فرقة عرفت بالرجال المصافية، ثم تشكلت فرقة عرفت بالفرقة الساجية، نسبة إلى ابن الساج أحد عمال المقتدر بالله، وهناك فرق أخرى من الأتراك وغيرهم تقرأ أسماءهم عرضا في تاريخ الدولة العباسية كالبلالية والسعدية وغيرهما، وكانت كل فرقة تستعمل نفوذها في الدولة على ما يبلغ إليه جهدها، وكثيرا ما كانت تقوم الفتن فيما بينها أو بينها وبين حرس الخلفاء، حتى آل الأمر إلى خروج الأحكام من العرب على الإجمال، ونسي أمر قريش والعرب - كما سيأتي - وصارت الأحكام إلى الأتراك ونحوهم، فنشأت منهم الدولة المشهورة، وتقلبت نظم الجند بعد قيام دول الأتراك الكبرى على أحوال شتى، نذكر منها نظامهم في زمن السلاطين المماليك بمصر ثم العثمانيين. (5-2) جند السلاطين المماليك بمصر
كان جند المماليك أخلاطا من الأتراك والجركس والروم والأكراد، وأكثرهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات أعلاها الأمراء ومن يليهم إلى الجندي البسيط، وأما الأمراء فهم كالضباط في هذه الأيام، ومنهم من له إمرة مائة فارس أو أكثر إلى ألف فارس، وهؤلاء من الأمراء يسمون أكابر النواب، وتحتهم أمراء الطبلخانات ولكل منهم إمرة أربعين فارسا إلى السبعين، ولا تكون الطبلخانة لأقل من 40 فارسا، يليهم أمراء العشرات من عشرة إلى أربعين، ثم جند الحلقة وهؤلاء لكل أربعين منهم مقدم ليس له حكم عليهم إلا إذا خرج العسكر، وكانت قيادتهم إليه وكانت رواتبهم تعطى بالإقطاع كما سيجيء.
خوذة أحد السلاطين المماليك بمصر.
وكان لهم في الجند مناصب تتفاوت رفعة ونفوذا، أهمها أمير السلاح وصاحبها يتولى حمل السلاح للسلطان، والدوادار لتبليغ الرسائل عن السلطان وهو من أمراء المئين، والحاجب يقف بين الأمراء والأجناد، وأمير جاندار كالمتسلم للباب ومن أراد السلطان قتله كان على يده ، والأستاذ دار يتولى أمر بيوت السلطان ونفقاتها، ونقيب الجيش لإحضار من يطلب السلطان إحضارهم، والوالي وهو صاحب الشرطة،
1
وقد تولدت هذه المناصب في دولة المماليك بالتدريج حسب الأحوال، ومن أكثر السلاطين عملا في ذلك السلطان ركن الدين بيبرس البندقداري، فإنه من كبار المؤسسين لهذه الدولة.
ولهم في تدريب ذلك الجند طرق خاصة بهم، يبدأون به منذ دخول المملوك في ملك السلطان: إذا قدم تاجر عرض مملوكا على السلطان يشتريه ويجعله في طبقته، ويسلمه إلى الطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن، وكانت كل طائفة لها فقيه يأتيها كل يوم، ويأخذ في تعليمها القرآن ومعرفة الخط، والتمرن بآداب الشريعة الإسلامية وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الشائع إذ ذاك أن لا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك علمه الفقيه شيئا من الفقه وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذ في تعليمه فنون الحرب من رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كل طائفة معلم حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم، فينقل عند ذلك إلى الخدمة وينتقل في أطوارها رتبة بعد رتبة، إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتد ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح ومرن على ركوب الخيل.
ولما فتح السلطان سليم مصر سنة 923 ضعف أمر المماليك، لكنهم ما زالوا محافظين على جنديتهم يتوارثون تقاليدها أجيالا، حتى تولى محمد علي ففتك بالمماليك في قلعة القاهرة سنة 1811 وأباح قتلهم حيثما وجدوا، فلم ينج من أمرائهم إلا مملوك اسمه أمين بك وثب بجواده من أمام باب القلعة في أثناء المذبحة فقتل جواده ونجا هو، وانقرض المماليك وجندهم من ذلك الحين،
2
وكان جند محمد علي من الألبانيين، ثم اتخذ الجند النظامي من المصريين. (5-3) الجند العثماني الإنكشارية
وللجند العثماني تاريخ طويل ، يبدأ منذ تأسيس الدولة العثمانية، وقد بني على نظام جند السلاجقة، ثم نشأ جند الإنكشارية المشهور، أنشأه قره خليل أحد كبار رجال الدولة العثمانية في زمن السلطان أورخان، وقد نظر في تنظيمه إلى خلوه من عصبية تبعثه على التمرد
3
وكان العثمانيون يومئذ يفتحون البلاد وأكثر أهلها مسيحيون، فيدخل في حوزتهم جماعة من غلمان النصارى الذين قتل آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم ولا مرجع لآمالهم، فارتأى أن يربى أولئك الغلمان تربية إسلامية، ويدربهم على الفنون الحربية، ويجعلهم جندا دائما لا يخشى منه التمرد، لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة، ولا عملا غير الجندية، ولا دينا غير الإسلام، فجندهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية، ليدعو لهم، فدعا لهم وسماهم «يكى جرى» أي الجند الجديد.
ولم يكن قره خليل هذا أول من جند غلمان النصارى، كما يظن أكثر مؤرخي الأتراك، فإن الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر فعل ذلك قبل تأسيس الدولة العثمانية، وهو متوجه إلى دمشق سنة 565ه لملاقاة عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، فنزل بلدا اسمه قارا بين دمشق وحمص، فأمر بنهب أهلها النصارى وقتل كبارهم، لأنهم كانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم سرا للصليبيين، وأخذ صبيانهم مماليك رباهم بين الأتراك في الديار المصرية، فنشأوا على الإسلام وتجندوا في الجيش التركي.
على أن قرة خليل جعل شروطا للإنكشارية لم يسبق لها مثيل، فقسمهم إلى وجاقات، واحدها وجاق، والوجاق يقسم إلى أورط، إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به، ولبعضها أسماء خاصة، ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب العصور من 100 إلى 500، ويختلف عدد الأورط في الوجاق، وعدد الوجاقات بمقتضى ذلك، وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «آغا»، تحته سكبان باشي، تحته غيره فغيره، على هذه الصورة:
الآغا:
قائد الوجاق، يقابل اللواء في هذه الأيام.
سكبان باشي:
ينوب عن الآغا في الآستانة، ويقابل القائمقام اليوم.
قول كخيا أو كخيا بك:
نائب الآغا أو السكبان باشي.
سمسونجي باشي:
قائد أورطة رقم 71.
زغرجي باشي:
قائدالأورطة رقم 64.
محضر أغا:
ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
خصكي:
ينوب عن الأغا في القيادة على الحدود.
باشجاويش:
قائد الأورطة الخامسة.
كخيايري:
ينوب عن الوجاق لدى الأغا.
الأفندي:
الكاتب.
ولكل أورطة ضباط يقتسمون قيادتها وإدارة شئونها على هذه الصورة: (1)
الجوربجي:
رئيس الأورطة، يشبه الكولونيل. (2)
أوده باشي:
نائب الجوربجي في المناورات العسكرية وغيرها. (3)
وكيل الخرج:
يولى أمر الطعام والشراب. (4)
بيرقدار:
يتولى الإعلام والبيارق. (5)
باش اسكي:
يتولى قيادات القراقولات. (6)
اشجي:
الطاهي.
قوانين الإنكشارية
قد رأيت أن جند الإنكشارية تشكل في زمن السلطان أورخان، لكن الفضل الأكبر في تنظيمه وترتيبه للسلطان مراد الأول (تولى سنة 761ه) وهذه خلاصة قوانينهم: (1)
الطاعة المطلقة لقوادهم وضباطهم أو من ينوب عنهم. (2)
الاتحاد بين سائر الفرق كأنها فرقة واحدة وتكون مساكنها متقاربة. (3)
التجافي عن كل ما لا يليق بالجندي الباسل من الإسراف أو الانغماس، ويكون معولهم على البساطة في كل شيء. (4)
الإخلاص في الانتماء إلى الحاج بكطاش من حيث الطريقة، مع القيام بفروض الإسلام. (5)
لا يقبل في سلك الإنكشارية إلا الذين يشبون من غلمان الأسرى على التربية الخاصة بين الغلمان الأعاجم.
إبراهيم بن محمد علي في ثوبه العسكري عند أول تشكيل الجند النظامي. (6)
أن الحكم عليهم بالإعدام ينفذ بشكل خاص. (7)
يكون الترقي في المراتب على حسب الأقدمية. (8)
لا يجوز أن يوبخ الإنكشارية ولا يعاقبهم غير ضباطهم. (9)
إذا عجز أحدهم عن العمل يحال على المعاش. (10)
لا يجوز لهم إرسال لحاهم. (11)
لا يجوز لهم أن يتزوجوا. (12)
لا يجوز لهم الابتعاد عن ثكناتهم. (13)
لا يجوز لهم أن يتعاطوا عملا غير الجندية. (14)
يقضون أوقاتهم في الرياضة البدنية والتمرين بالحركات العسكرية.
فإذا تدبر هذه القوانين، هان عليك تصور الأعمال العظيمة التي أتاها هذا الجند في مصلحة الدولة العثمانية من الفتوح العظام، وقد يتبادر إلى الذهن، لأول وهلة، ترفع الناس عن الانتظام في هذا الجند، لأنه مجموع لقطاء لا يعرف لأحد منهم أب ولا أم، لكنك تفهم من البند الخامس من قوانينهم أنهم كانوا يحظرون على غير اللقيط أو المملوك الانتظام في جندهم، وكان السلاطين يتوخون تعظيم هذا الأمر في عيونهم.
وما زال جند الإنكشارية معول الدولة العثمانية في حروبها، حتى صار عقبة في سبيل أعمالها لتمكنه من النفوذ، وقاسى السلاطين منه عذابا شديدا، إلى أن فتك به السلطان محمود الثاني في أوائل القرن الماضي، وتم تشكيل الجند النظامي.
ديوان الجند
تأسس ديوان الجند في المدينة، أسسه عمر بن الخطاب ودون فيه أسماء الرجال وفرض أعطياتهم، ولم يكن هذا الديوان يومئذ يعرف بديوان الجند، لكنه كان يسمى «الديوان» فقط، وكان يشمل أسماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ومن تابعهم، ومقدار أعطياتهم تبعا للنسب النبوي والسابقة في الإسلام، وكان لكل مسلم راتب يتناوله لنفسه، ورواتب لأهله وأولاده، فكأنه ديوان المسلمين، باعتبار أن المسلمين كانوا كلهم جندا في ذلك الحين، وظل العطاء باعتبار النسب والسابقة، حتى انقرض أهل السوابق، وصار الجند فئة من المسلمين قائمة بنفسها، فترتب الجند باعتبار الشجاعة والبلاء في الحرب.
وكان عندهم لاختيار الجند من بين الناس شروط، منها أن من أراد الانتظام في الجندية يقدم طلبا إلى صاحب ديوان الجند، وهو ينظر في أهليته لها، ولا يكون أهلا لذلك إلا إذا كان حرا، بالغا، مسلما، سليما، مقداما، فإذا استوفى هذه الشروط قبل، ودون اسمه في دفاتر الجيش، مع نسبه وقده ولونه وملامحه وسائر ما يتميز به على غيره، لئلا تتفق الأسماء. (1) طبقات الجنود
أما ترتيب الجنود في الديوان، فظلوا يراعون فيه ما وضعه عمر من السابقة والنسب، فيترتب الجند أولا باعتبار القبائل والأجناس، حتى تتميز كل قبيلة من غيرها، وكل جنس من غيره، فلا يخلو الجند من أن يكونوا عربا أو عجما، فإن كانوا عربا تترتب قبائلهم على حسب القربى من النبي، فيبدأ بالترتيب بأصل النسب النبوي، ثم بما يتفرع عنه، فالعرب مثلا عدنان وقحطان، فيقدمون عدنان على قحطان، لأن النبوة فيهم، وعدنان يجمع ربيعة ومضر، فتقدم مضر على ربيعة، لأن النبوة فيهم، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فتقدم قريش، لأن النبوة فيهم، وقريش تجمع بني هاشم وبني أمية وغيرهم، فيقدم بنو هاشم لأن النبوة فيهم، فكان بنو هاشم قطب الترتيب ، ثم من يليهم من أقرب الأنساب كما تقدم، وإن كانوا عجما لا يجتمعون على نسب، فكانوا يجمعونهم على الجنس، كالترك والهند، أو على البلد كالخراسانيين والفراغنة والمغاربة، ثم إذا كان لهؤلاء الأعاجم سابقة، ترتبوا عليها في الديوان، وإلا فيترتبون بالقرب من ولي الأمر، فإن تساووا في ذلك، ترتبوا بالسبق إلى طاعته، وكان لديوان الجند فروع، بعضها للمراسلة وبعضها للعطاء وبعضها للنفقات، أو لغير ذلك مما يختلف باختلاف الأحوال والأزمان. (2) أعطيات الجند (2-1) في دولة الراشدين
ويراد بأعطيات الجند رواتبهم التي يستولون عليها في أوقات معينة من العام، وكانت تلك الأعطيات في أيام النبي غير محدودة، فتتبع ما يقع في أيديهم من الغنائم أو الفيء، فكان يفرد خمسه لله، ويتولى رسول الله إنفاقه في مصالح الجماعة الإسلامية حسبما يرى، ويفرق الأربعة الأخماس الباقية في الصحابة على السواء، بلا تمييز في السابقة أو النسب، وجرى على ذلك أبو بكر، فلما تولى عمر ووضع الديوان، ميز الناس في العطاء باعتبار النسب والسابقة، فرتبهم طبقات، وقد ميز راتب كل منهم باعتبار نسبه من النبي، أو سابقته في الإسلام، أو غير ذلك على ما تراه في هذه الجريدة، وهي عبارة عن رواتب الجند السنوية في صدر الإسلام:
درهم
لكل من المهاجرين والأنصار الذين شهدوا واقعة بدر الكبرى
5000
لكل من المهاجرين والأنصار الذين لم يشهدوا بدرا
4000
لكل من أزواج النبي
12000
العباس عم النبي
12000
الحسن والحسين
5000
عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن الخليفة
3000
كل من أبناء المهاجرين والأنصار
2000
كل واحد من أهل مكة
800
كل واحد من سائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم
300-500
لكل من نساء المهاجرين والأنصار
200-600
تلك هي أعطيات المسلمين، أو رواتب الجند - على عهد عمر - مع اختلاف طفيف ببعض الروايات،
1
فإذا اعتبرت مقادير هذه الرواتب وقابلتها برواتب هذه الأيام، رأيت الفرق عظيما، فإذا قدرنا الدرهم بأربعة قروش ونصف القرش - وهي قيمة على وجه التقريب - كان راتب أعظم رجال الإسلام لا يزيد على خمسة آلاف درهم، أي نحو مائتي جنيه في السنة، وإذا اعتبرنا المسلمين كلهم جندا ، كان المهاجرون والأنصار ضباط ذلك الجند ومنهم عمر نفسه، وأما الجنود فهم الذين عبرنا عنهم «بسائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم»، ورواتب هؤلاء أقل كثيرا من رواتب أولئك، فإنها تختلف من ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، باختلاف بعض الاعتبارات من حيث القبيلة وجهادها ومقدار فضلها في الإسلام، وبناء عليه تكون رواتب ضباط الجند الإسلامي - على عهد عمر - من أربعة آلاف إلى خمسة آلاف درهم في العام، ورواتب العساكر من ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، غير ما كان يدفع لنسائهم وأولادهم، وما فرض لهم من الحنطة، وهو جريبان لكل واحد في الشهر، والجريب 3600 ذراع مربع، ويراد به ما ينبت في تلك المساحة. وخلاصة ذلك أن رواتب صغار الجند في أوائل الإسلام كانت تزيد على رواتب أنفار جنود هذه الأيام، وبعكس ذلك رواتب ضباطهم. (2-2) أعطيات الجند في الدولة الأموية
وظلت أعطيات الجند على هذا القدر في أيام الراشدين، فلما طمع بنو أمية في الملك واحتاج معاوية إلى الاعتزاز بالعرب، كان في جملة ما استخدمه في سبيل اجتذابهم إلى جانبه المال، فزاد أعطيات الجند، وكان جنده ستين ألفا، ينفق عليهم ستين مليون درهم في العام، فيلحق كل رجل ألف درهم، وذلك أكثر من ضعفي ما فرضه عمر.
وكان في مقدمة القبائل التي أخذت بيده وحاربت عنه وأيدت دعوته قبائل اليمن، وهي إنما فعلت ذلك رغبة في العطاء، لأنه كان يحارب بهم عربا آخرين، فلم يكن الجهاد دافعهم إلى الانضمام إليه، فجعل معاوية اليمنية فرقة قائمة بنفسها وعدتهم ألفا فارس ، وفرض لهم عطاء مضاعفا، وجعلهم جندا مستقلا لا يختلطون بسواهم، وكان يستشير أمراءهم ويقربهم، فاستفحل أمر اليمنية حتى عرضوا بذكر فضلهم على دولة بني أمية، وأنهم لو شاءوا لأخرجوا المضرية من الشام (وفيهم بنو أمية) فندم معاوية على اختصاصهم بذلك الامتياز، وقرب منه القيسية وأعطاهم مثل عطائهم، وصار يغزو البحر باليمنية والبر بالقيسية، فشق ذلك على اليمنية، لأن القيسية من مضر، فعاتبوه فجمع بين القبيلتين وأغزاهم معا.
ولم يكن معاوية يعتمد على المال في استرضاء الجند فقط ، بل كان يستخدمه في اصطناع الأحزاب وتخفيف ويلات المتعصبين عليه، فكان كثيرا ما يأمر عماله بزيادة أعطيات أناس يعرض أنهم على غرض علي، وكان عماله لا ينفذون أوامره لقصور إدراكهم عن غرضه، ومن هذا القبيل أن أهل الكوفة كانوا من أشد الناس تعصبا لعلي، فأمر معاوية عامله عليها - النعمان بن بشير - أن يزيد في أعطيات أهلها عشرة دنانير، فأبى النعمان أن ينفذها لهم فلم ينفعه ذلك.
وظل هذا شأن العطاء أيام يزيد ومروان وعبد الملك، وكان عبد الملك يبالغ في الإنفاق، تأييدا لأحزابه في مقاومة دعاة الخلافة في أيامه، فإن الحجاج سير الجند إلى رتبيل بإذن عبد الملك، وكان عددهم أربعين ألفا أنفق عليهم مليوني درهم سوى أعطياتهم، فضلا عما أعطاه لكبارهم، ولما تولى الوليد بن يزيد زاد العطاء عشرة دراهم يوم خلافته، ولعله فعل ذلك إرضاء للجند، لما كان هو فيه من الاعوجاج والإسراف، وفي أواخر دولة بني أمية قلت الرواتب، حتى صارت في آخرها خمسمائة درهم. (2-3) أعطيات الجند في الدولة العباسية
فلما آلت الخلافة إلى بني العباس جعل السفاح رزق الجندي ثمانين درهما في الشهر (960 درهما في السنة) فكأنه أرجعه إلى ما كان عليه في أوائل بني أمية، وكان للفارس ضعفا هذا الراتب لينفق نصفه على فرسه، ويظهر أن الرواتب لم ترتفع بارتقاء الدولة العباسية بل هي أخذت في التناقص، فصارت في أيام المأمون عشرين درهما في الشهر للراجل وأربعين للراكب، فكان جيش عيسى بن محمد بن أبي خالد عام 201ه 125 ألف فارس، فأعطى الفارس أربعين درهما والراجل عشرين، وزد على ذلك أن قيمة الذهب كانت قد ارتفعت عما كانت عليه في أوائل الإسلام، وكان الدينار في أيام عمر يساوي عشرة دراهم فأصبح في أيام المأمون يساوي 15 درهما.
فرأيت مما تقدم أن الرواتب زادت في دولة بني أمية عما كانت عليه في أيام الراشدين، ثم نقصت في أيام بني العباس، والسبب في ذلك أن بني أمية زادوها ترغيبا لقبائل العرب في خدمتهم، لتأييد سلطانهم كما تقدم، وأما في أيام بني العباس فكان العرب قد انتشروا في أنحاء البلاد واختلطوا بالأعاجم، وعمل العباسيون على الاستكثار من هؤلاء، لأنهم ساعدوهم على إنشاء دولتهم، فأصبحت الدولة العباسية مخيرة في استخدام من شاءت من الفئتين في جندها، وكان الأعاجم يرضون بالراتب القليل، ومع ذلك فهو أضعاف ما كان يدفعه الروم لجندهم إذا صح ما نقله ابن خرداذبه، فقد ذكر أن راتب الجندي عندهم كان يختلف من 18 إلى 12 دينارا في السنة، وكانوا لا يستولون على رواتبهم إلى كل ثلاث سنوات أو أربع، وأما رواتب الجند العرب فقد كانت تدفع في أوقاتها، إلا في أواخر الدولة العباسية فقد كانت تتأخر وتتراكم، ويفوز بالخلافة من يتمكن من إرضاء الجند، شأن الدول في دور انحطاطها. (2-4) عطاء الجند في الدولة التركية
وما زال العطاء يدفع نقدا إلى أيام الدولة السلجوقية، فصار يعطى إقطاعا، وأول من فعل ذلك نظام الملك الطوسي وزير آل سلجوق (توفي سنة 485ه) وكان رجلا عظيما وزر للدولة السلجوقية وأدخل فيها إصلاحات جمة، وهو أول من أنشأ المدارس في بغداد، وله فيها المدرسة التي تعرف باسمه (المدرسة النظامية)، وكان وزيرا لألب أرسلان ثم لابنه ملك شاه المشهور، فصار أمر الدولة كله لنظام الملك وليس للسلطان إلا التخت والصيد، فأقام على ذلك عشرين سنة، وكان عاقلا حسن القصد، ورأى الدولة السلجوقية قد اتسع نطاقها فأحب أن يحفظها بالإقطاع، فحولها إلى إقطاعات سلمها إلى الجند، لاعتقاده أن تسليم الأرض إلى المقطعين يضمن عمارتها لاعتناء مقطعيها بأمرها، بخلاف ما إذا شمل جميع أعمال المملكة ديوان واحد، فإن الخرق يتسع ويدخل الخلل في البلاد، ففعل نظام الملك ذلك، وعمرت المملكة وكثرت الغلات، واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك والسلاطين، إلى أوائل القرن الماضي.
واختلفت غلات الأمراء من إقطاعاتهم، فقد بلغت غلة إقطاع بعض أكابر أمراء المئين في دولة المماليك نحو 200000، ويليهم من غلتهم نصف ذلك أو ربعه، وأما أمراء العشرات فنهايتها سبعة آلاف دينار، إلى ما دون ذلك، أما جند الخليفة فمنهم من يبلغ إقطاعه 1500 دينار وما دون ذلك إلى 250 دينارا،
2
وسيأتي الكلام في الإقطاع. (3) عدد الجند
قلنا إن المسلمين كانوا في صدر الإسلام كلهم جندا، فعددهم يومئذ هو عدد الجند الإسلامي، فالجند كانوا في السنة الأولى للهجرة لا يزيد على بضع عشرات يقيمون في المدينة، ثم ازدادوا بمن اعتنق الإسلام من قبائل العرب، وفي حديث أخرجه البخاري أن النبي قال «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتبنا له ألفا وخمسمائة».
وفي غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة - وهي آخر الغزوات - بلغ عدد المسلمين ثلاثين ألفا، ومعهم عشرة آلاف فرس، فذلك عدد جند العرب في أواخر أيام النبي، ثم تزايد عددهم في أيام أبي بكر وعمر، حتى زادوا على مائة وخمسين ألفا، وتضاعف ذلك العدد في أواخر أيام الراشدين.
وفي أوائل بني أمية بلغ عدد من في البصرة والكوفة من الرجال فقط 140000، منهم 80 ألفا في البصرة و60 ألفا في الكوفة، ومعهم من العيال 200000 بين نساء وأولاد، وكان في مصر أربعون ألفا ما عدا العيال، وكان جند الشام نحو ذلك، غير من في فارس وغيرها. (3-1) الإحصاء في الإسلام
وكان للخلفاء في صدر الإسلام عناية في إحصاء المسلمين، اقتداء بما فعله النبي، فجعلوا على كل قبيلة من قبائل العرب رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول «هل ولد الليلة فيكم مولود، وهل نزل بكم نازل؟» فيقال «ولد لفلان غلام، ولفلان جارية» فيكتب أسماءهم. ويقال «نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله» ويسميه وعياله، فإذا فرغ من ذلك عاد إلى الديوان وأثبت الأسماء فيه.
وكانوا يجددون التدوين (الإحصاء) كل مدة في كل ولاية على حدة، وأول تدوين في مصر مثلا دونه عمرو بن العاص، ثم دون عبد العزيز بن مروان (تولى إمارة مصر من سنة 65-86ه)، ثم دون قرة بن شريك (سنة 90-96ه)، ثم بشر بن صفوان (سنة 101ه)، وآخر إحصاء أحصوا به العرب في الأمصار على ما تقدم كان في خلافة هشام بن عبد الملك (سنة 105-127ه)، ولكن تلك الإحصاءات لم تصل إلينا، فقد ضاعت في جملة ما ضاع من آثار بني أمية.
فلما تولاها بنو العباس أهملوا أمر العرب، وبذلوا عنايتهم في اصطناع الأعاجم في الفرس والترك وغيرهما - كما قدمنا - حتى إذا بويع المعتصم بالله سنة 218ه بعث إلى عماله في الأمصار أن يسقطوا من في دواوينهم من العرب ويقطعوا العطاء عنهم، فشق ذلك على العرب وثاروا، ولكنهم لم ينالوا وطرا، فانقضت دولة العرب من ذلك الحين، وصار جند الدولة العجم والموالي، ولذلك لما مات المعتصم وتولى بعده الواثق، كان دعبل الخزاعي الشاعر المشهور في الصميرة، فلما جاءه نعي المعتصم وقيام الواثق أنشد هذين البيتين:
الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد
وأما عدد الجند في أثناء دولة بني أمية وبني العباس فمما لا يتيسر الوقوف عليه، لكننا نستدل من عدد ما كانوا يجندونه إلى الحرب أنه كان كثيرا، فلما حمل يزيد بن المهلب على جرجان وطبرستان جرد إليهما 120000 من الجند المرتزقة، سوى الموالي والمتطوعة، وحمل الرشيد على هرقلة بجند عدده 135000 من المرتزقة، ما عدا الأتباع والمتطوعة، وكان جند محمد بن طغج مؤسس الدولة الإخشيدية بمصر (سنة 323-334ه) 400000 جندي وثمانية آلاف مملوك، يحرسه منهم ألفان كل ليلة على التناوب، وروى ابن خلدون أن المعتصم نازل عمورية في جند عدده 900000، ولا غرابة في ذلك إذا اعتبرنا عدد الحامية في الثغور الدانية والقاصية شرقا وغربا، فضلا عن المصطنعين والموالي والخاصة، فقد أحصيت خاصة المأمون من بني العباس وحدهم فبلغوا 33 ألفا. (3-2) رتب الجند وأصنافهم
لم يكن للعرب في الجاهلية جند، فلم تكن له عندهم رتب، ولكنهم كانوا يولون على القبيلة أكبر رجالها سنا أو أعظمهم حسبا، ويسمونه الشيخ أو الأمير، فإذا احتاج الأمير إلى من ينوب عنه على فصيلة يرسلها إلى غزو أو نحوه، ولى رجلا كانوا يسمونه المنكب، وتحت المنكب العريف، والمنكب يكون على خمسة عرفاء، والعريف يكون على نفير أو نفر.
وظل العرب في أوائل الإسلام على نحو ما كانوا عليه في الجاهلية، فقسموا الجند إلى عرفاء، تحت كل عريف عشرة رجال، وسلموا القيادة إلى أناس من أهل السابقة، وكذلك كان نظامهم في أثناء الفتوح، ثم جعلت العرفاء أسباعا، وجعلوا مائة عريف بعضهم على ثلاثين أو أربعين رجلا، وبعضهم على عشرين على حسب طبقات الجند من حيث السابقة ونحوها، وكان على العرفاء أمراء يقال لهم أمراء الأسباع، يتولون تفريق العطاء في العرفاء، والعرفاء يفرقونه في الجند.
وقلما حدث تغيير في رتب الجند في أيام بني أمية، أما في الدولة العباسية فكانت رتب الجند أن على كل عشرة رجال «عريفا»، وعلى كل خمسين «خليفة»، وعلى كل مائة «قائد»، ثم تنوع الترتيب فصار العريف على عشرة، وعلى كل عشرة عرفاء (أو مائة نفر) «نقيب»، وعلى كل عشرة نقباء (أو 10000 رجل) «أمير»، ولا يخلو الأمر من وقوع التبديل في هذا النظام بالنظر إلى الدول.
ولا بد من أن يكون لكل رتبة علامة تميزها عن سواها، كما يتميز الضباط اليوم بعضهم عن بعض وعن العساكر، لكننا لم نعثر على شيء صريح بهذا الشأن، وقد تقدم لنا كلام بهذا الموضوع في بحثنا عن الطراز، ومن هذا القبيل ما كانوا يسمون به الخيل لتمتاز خيول الدولة عن سواها، وكان لكل دولة سمة خاصة، وسمة خيل بني أمية لفظ (عدة) كانوا يطبعونها على الخيول كيا بالنار، كما كان العرب يفعلون بإبلهم في عصور جاهليتهم، فقد كان عندهم لكل قبيلة ميسم يميز إبلها عن إبل غيرها، ووسم الدواب شائع في الدول المتمدنة اليوم . (4) استعراض الجند
استعراض الجند قديم في الدول المتمدنة قبل الإسلام: كان الإسكندر يستعرض جنده بنفسه ويتفقدهم ويتفقد سلاحهم وخيولهم، ولما ظهر الإسلام كان الفرس يعرضون جنودهم في مواقيت معينة من السنة، وكان رسمهم في ذلك أن يمر الفارس الذي هو في الطبقة الأولى على حصانه، ومعه الغلام والدرع والمغفر والكفوف الزرد والرانات والتجافيف للخيل ويسمى بركستوان والترس والرمح والسيف والدبوس والسكين الكبيرة والحبل والمخالي والسكك الحديد والمقاود وكبة خيوط ومخصف ومقص ومطرقة وكاز ومسل وإبر وخيوط وزناد وطرطور ولباد وقوسان موتوران ووتران زائدان، خوف الانقطاع، وجعبتان للنشاب، إحداهما معه، والأخرى مع غلامه.
ولما تمدن العرب وجندوا الجنود اتخذوا هذه العادة على نحو ما كانت عند الفرس، لكن يظهر أنهم كانوا يستعرضون رجالهم قبل تمصير الأمصار وتجنيد الجنود، فإن النبي نفسه كان يستعرض أصحابه، وقد جاء في السير أنه استعرضهم يوم بدر الكبرى (سنة 2ه) فجعلهم صفوفا، وأخذ يعدل صفوفهم وفي يده سهم بلا ريش، فمر برجل اسمه سواد كان مستنثلا من الصف فطعنه النبي في بطنه وقال له «استو يا سواد بن غزية» وبعد أن عدل الصفوف عاد إلى العريش الذي كانوا نصبوه له هناك.
3
وكان الخلفاء الراشدون يعرضون الجند على نحو ذلك، ثم بنو أمية، وكان الحجاج إذا عرض الجند يسأل عن رجل رجل من هو، وما هي قبيلته، وعن حاله وسلاحه.
وكان الاستعراض في الدولة العباسية أقرب إلى عادة الفرس، لأن العباسيين اقتبسوه منهم، فكان الخليفة، أو وزيره، يجلس لعرض الجند، وربما جلس الخليفة وعليه الدرع والخوذة كأنه في استعداد للحرب، فينادي المنادي بأسماء القواد فيمرون أولا، فيتفقد أفراسهم وعدتهم، فإذا رأى كل شيء حسنا تاما صرف لهم أرزاقهم، وهي جائزة يمنحونها يوم العرض، وقد يستنكف القائد الكبير أن ينتفع بتلك الجائزة فيهبها لبعض أتباعه.
ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله عمرو بن الليث على عهد الخليفة المعتمد (سنة 271ه) فإنه نال حظوة لدى الخليفة، وتمكن من قوانين المملكة، وتولى النظر في الجند، وكان ينفق لهم مرة كل ثلاثة أشهر ويحضر بنفسه على ذلك، وكان عارض الجيش يقعد والأموال بين يديه والجند كلهم حاضرون، وينادي المنادي أولا باسم عمرو بن الليث، فتقدم دابته إلى العارض بجميع آلة الفرس، فيتفقدها ويأمرون بوزن ثلاثمائة درهم باسم عمرو فتحمل إليه في صرة، فيأخذ الصرة فيقبلها ويقول «الحمد لله الذي وفقني لطاعة أمير المؤمنين حتى استوجبت منه الرزق»، ثم يضعها في خفه فتكون لمن ينزع خفه ثم يدعى بعد ذلك بأصحاب الرسوم على مراتبهم، فيتعرض لآلاتهم التامة ولدوابهم الفره، ويطالبون بجميع ما يحتاج إليه الفارس والراجل من صغير آلة وكبيرها ، فمن أخل بإحضار شيء منها حرموه رزقه، فاعترض يوما فارس كانت له دابة في غاية الهزال فقال له عمرو «يا هذا! تأخذ مالنا تنفقه على امرأتك فتسمنها وتهزل دابتك التي عليها تحارب وبها تجد الأرزاق؟ امض فليس لك عندي شيء!».
فقال له الجندي «جعلت لك الفداء ... لو اعترضت امرأتي لاستسمنت دابتي!».
فضحك عمرو وأمر بإعطائه وقال: «استبدل بدابتك». (5) مساكن الجند
كان المسلمون في صدر الإسلام (وهم الجند) إذا فتحوا بلدا جعلوا مساكنهم في بعض ضواحيه، وكانوا لا يقيمون في مكان بينه وبين المدينة بحر أو نهر، عملا يوصيه عمر بن الخطاب كما تقدم، ولذلك لم يقم جند مصر في الإسكندرية عاصمة الديار المصرية، بل أقاموا في الخيام قرب حصن بابل، في بقعة عرفت بعد ذلك بالفسطاط، ولم يقم جند العراق في المدائن عاصمة كسرى، بل أقاموا على ضفاف الفرات مما يلي بادية الشام، في البصرة والكوفة، وفعل ذلك غيرهم في سائر الأقاليم التي فتحت في صدر الإسلام، فأقاموا في ضواحي البلاد المفتوح لمجرد حمايتها كما قدمنا في كلامنا عن ولاية الأعمال، ولكنهم كانوا ينتقلون للحرب يومئذ بنسائهم وأولادهم، فإذا فتحوا بلدا أقاموا فيه جميعا، فأصبحت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال مدنا عامرة.
ولما تمدن العرب صاروا يذهبون إلى الحرب دون نسائهم، ولكنهم ظلوا على إنشاء المعسكرات خارج المدن، وكثيرا ما كانت هذه المعسكرات تتحول إلى مدن بتوالي الأجيال، كما حصل في الفسطاط والكوفة والبصرة: كانت الفسطاط مضرب خيام حول فسطاط عمرو بن العاص، ثم عمرت وصارت مدينة سميت الفسطاط، وبعد عمرانها بقرن وبعض القرن، لما قام العباسيون للمطالبة بالخلافة، فر مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ولجأ إلى مصر، فتعقبه العباسيون بقيادة صالح بن علي وعسكروا بضواحي الفسطاط وسموا مقامهم «العسكر» أي المعسكر، ثم بنى الناس هناك وصار المكان مدينة مثل الفسطاط اسمها العسكر.
وبعد ذلك بقرن وبعض القرن سنة 257ه تولى مصر أحمد بن طولون وأكثر من الجند والحاشية والآلات، فضاقت الفسطاط دونه، فأنشأ معسكرا بجوار جبل المقطم، وبنى لنفسه فيه قصرا وميدانا، وتقدم إلى غلمانه وأتباعه أن يبنوا، فبنوا حتى اتصل البناء بالفسطاط وصار المكان مدينة سميت القطائع، وفعل مثل ذلك جوهر قائد الفاطميين، لما جاء لفتح مصر بعد قرن وبعض القرن سنة 365ه فإنه أنزل جنده بسفح المقطم خارج القطائع والفسطاط، ولما فتح البلاد أنشأ في ذلك المعسكر مدينة القاهرة الباقية إلى الآن، ويقال نحو ذلك في سائر المدن الإسلامية، فإن المنصور إنما بنى بغداد حصنا له ولجنده، وكذلك فعل ابنه المهدي ببناء العسكر خارجها.
وقس عليه غيره من المعسكرات الإسلامية، فإنهم كانوا ينشئونها خارج المدن بعيدا عن بيوت الناس، ولذلك لما أنزل الحجاج جنده في بيوت أهل الكوفة، بعد واقعة الجماجم، نقم عليه أهلها وعدوا ذلك عتوا منه، وخصوصا لأن الأمراء الذين جاءوا بعده كانوا كثيرا ما يعملون عمله. (6) اللواء أو الراية (6-1) تاريخ الألوية
اللواء والراية شيء واحد، وربما كان اللواء أصغر من الراية، أو أن الراية تسمى لواء إذا عقدت للحرب، وهي الأعلام، أو البنود، أو البيارق في اصطلاح هذه الأيام، والراية قديمة في التاريخ، اتخذها المصريون القدماء ومن عاصرهم أو أخذ عنهم، وكانت شائعة في العرب الجاهلية قبيل الإسلام، وكان لكل قبيلة راية تجتمع تحتها.
وللراية شأن كبير في الحرب، لأن الناس إنما يؤتون من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، وقد رأيت، في كلامنا عن حكومة الجاهلية، أنه كان في جملة مناصب قريش منصب اللواء، ويسمونه «العقاب» باسم رايتهم يومئذ، وكانوا إذا خرجوا إلى حرب أخرجوا الراية، فإذا اجتمع رأيهم على أحد سلموه إياها، وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها، وكان مرة من بني أمية ومرة من بني عبد الدار، ولعلهم سموا رايتهم «العقاب» اقتباسا من الروم، لأن العقاب أو النسر شارة الرومان، يرسمونها على أعلامهم وينقشونها على أبنيتهم، فاقتبسها العرب منهم.
وفي السيرة الحلبية أن المسلمين في غزوة بدر الكبرى كانت لهم ثلاث رايات: إحداها بيضاء دفعها النبي إلى مصعب بن عمير، والأخريان سوداوان إحداهما حملها علي بن أبي طالب، ويقال لها العقاب صنعت من مرط لعائشة (والمرط كساء من صوف أو خز تضعه المرأة على رأسها أو تأتزر به) والأخرى مع رجل من الأنصار، وأن أبا سفيان كان يحمل راية الرؤساء في تلك الواقعة، واسمها أيضا راية العقاب، فالظاهر أن العقاب كان اسما لصنف من الرايات، فقلدوا الروم بها وليس اسم واحدة منها.
ولما جاء الإسلام، وانتشر العرب في أنحاء الشام وفارس ومصر، وتعددت دولهم وقبائلهم، كثرت ضروب الألوية عندهم، وتنوعت أشكالها وتعددت ألوانها وأطالوها، وسموها بأسماء مختلفة: عقد أبو مسلم الخراساني عند قيامه بالدعوة العباسية لواء بعث به إليه إبراهيم الإمام يدعى «الظل» على رمح طوله أربعة عشر ذراعا، وعقد راية كان قد بعث بها إليه اسمها «السحاب» على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا، إرهابا للناس، ولما عقد المتوكل البيعة لبنيه سنة 235ه عقد لكل واحد منهم لواءين أحدهما أسود وهو لواء العهد والآخر أبيض وهو لواء العمل، ولما ولى المأمون الفضل بن سهل على المشرق كله وسلم إليه رئاسة الحرب والقلم وسماه ذا الرئاستين عقد له لواء على سنان ذي شعبتين. وجملة القول أن أشكال الألوية تعددت بتوالي الأزمان وتفاخر الخلفاء والسلاطين بتعدادها، فقد بلغ عدد رايات العزيز بالله الفاطمي لما خرج إلى فتح الشام 500 راية و500 بوق، وربما نقشوا على الرايات أسماء الخلفاء أو السلاطين أو الأمراء الذين يتولون قيادة الجند، كما كتب ابن بجكم على رايته «الرائقي» نسبة إلى ابن رائق . (6-2) ألوان الرايات
لا نعرف ماذا كانت ألوان الرايات في الجاهلية سوى راية «العقاب»، فقد تقدم أنها كانت سوداء، وكذلك كانت راية النبي، وذكر صاحب «آثار الأول» أنه كانت له أيضا ألوية بيضاء، أما الراية الإسلامية، فقد كانت ألوانها تختلف باختلاف الدول، فكانت أعلام بني أمية حمراء، وكل من دعا إلى الدولة العلوية فعلمه أبيض، ومن دعا إلى بني العباس فعلمه أسود، والسواد شعار العباسيين على الإطلاق، اتخذوه حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بني أمية في قتلهم، ولهذا سموا المسودة، ولما افترق الهاشميون وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك، فاتخذوا الرايات بيضاء وسموا المبيضة، والظاهر أن شعار دعاة بني هاشم من الشيعة كان الخضرة، لأن المأمون لما بايع لعلي بن موسى بولاية العهد أمر جنده بطرح السواد ولبس الثياب الخضر، حتى إذا رجع عن البيعة عاد إلى السواد.
راية الناصر الموحدي في موقعة العقاب.
وأما ملوك البربر في المغرب، من صنهاجة وغيرها، فلم يختصوا في راياتهم بلون واحد بل وشوها بالذهب، واتخذوها من الحرير الخالص ملونة، وفي دير بظاهر مدينة برغوس في الأندلس راية من الحرير الأحمر المطرز بالنقوش الجميلة، وعليها كتابات كثيرة وآيات قرآنية، وقد نشرها غستاف لوبون في كتابه «تاريخ تمدن العرب» وسماها: راية الموحدين، لكن صديقنا المأسوف عليه روحي بك الخالدي بعث إلينا بنسخة من صورة هذه الراية سنة 1907 وقال في جملة وصفها: «وأظن هذه الراية كانت بابا لخيمة المنصور، لأنها أشبه بباب الخيمة منها بالراية».
وأما دول الأتراك في المشرق فكانوا يتخذون راية واحدة للسلطان، في رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم، ثم تعددت الرايات، ويسمونها سناجق واحدها سنجق وهو الراية في لسانهم، والراية العثمانية حمراء عليها صورة الهلال، واختلفوا في أصل هذه الشارة بين أن يكون الأتراك اقتبسوها من الروم بعد فتح القسطنطينية، أو أنهم جاءوا بها من بلادهم من تركستان. (6-3) عقد اللواء
كان الخلفاء في صدر الإسلام إذا وجهوا جيشا إلى حرب عقدوا له الألوية وسلموها إلى الأمراء، لكل أمير راية قبيلته، ويدعون لهم بالنصر ويوصونهم بالصبر والجلاد، وكان عمر بن الخطاب إذا عقد لواء يقول وهو يعقده «بسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله، وما النصر إلا من عند الله ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات».
وكان لكل خليفة أسلوب في الدعاء والوصاية، والمرجع واحد فيها كلها، وكانوا يعقدون الألوية أيضا للعمال إذا ولوهم الأمصار، وخصوصا في أوائل الإسلام، لأن العامل كان قائد الجند، وكانوا يعقدونها على حساب النجوم، فيختارون أحد الاقترانات على زعمهم، وكان العباسيون إذا عقدوا لواء لقائد أو صاحب جند أو صاحب ثغر، خرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو من داره، في موكب من أصحاب الرايات والطبول، حتى لا يميز بين موكب العامل وموكب الخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها، أو بما اختص به الخليفة من الألوان لراياته.
وكان للدولة الفاطمية بمصر دار يقال لها «خزانة البنود» كانوا يختزنون فيها الأعلام والرايات والدرق، وكانوا ينفقون عليها 80 ألف دينار كل سنة، ظلوا على ذلك قرنا كاملا، وكل ما صنع من الأعلام بقي متراكما فيها ومعه الأسلحة بأنواعها، والسروج واللجم، وفيها المفضض والمذهب، ثم احترقت الخزانة فاحترق كل ما كان فيها من هذه الأمتعة والآلات، وكان يقدر بثمانية ملايين دينار، ولم يستطيعوا إخراج غير القليل منها، وفي جملة ذلك لواء كانوا يسمونه «لواء الحمد». (7) الموسيقى
واتخاذ الموسيقى في الجند قديم، والأصل في اتخاذه إثارة حاسات الجند في أثناء الحرب، أو صرف أذهانهم عن الاشتغال بالأخطار التي يتوقعونها، ومن هذا القبيل الغناء أو النشيد أمام الجند، فإنه من قبيل الموسيقى وكان العرب في جاهليتهم لا يعرفون من هذه الآلات غير الطبل، وكان المسلمون في صدر الإسلام يتجافون عن اتخاذ الأبواق والطبول، تنزها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله، فلما انقلبت الخلافة ملكا، وتبحبحوا في زهرة الدنيا، ولابسهم الموالي من الفرس والروم وأهل الدول السالفة، وأروهم ما كان أولئك يتحلون به من مذاهب البذخ والترف، كان في جملة ما اقتبسوه منهم الموسيقى، وأذنوا لعمالهم في اتخاذها، تنويها بالملك وأهله، ثم جعلوا يستكثرون منها، وهي مقصورة على الطبل والبوق، وربما كان في الجند مئات من الأبواق والطبول. (8) السلاح
أشهر أسلحة العرب في جاهليتهم السيف والرمح والقوس والترس، وكانت لهم عناية كبرى في استخدامها، لأنهم كانوا يحمون بها أعراضهم ويستجلبون بها معاشهم ، وخصوصا القوس. (8-1) القوس
كان لهم بالقوس مهارة عظمى، لحدة أبصارهم، نتيجة لسكنى البادية ولأنهم أحوج إليها من سائر الأسلحة، فقد كانوا يستخدمونها في صيد الغزلان، فضلا عن الحرب والطعان، وبلغ من مهارتهم في النزع بالقوس ما يكاد يفوق طور التصديق، حتى ولو أراد أحدهم أن يرمي إحدى عيني غزال دون العين الأخرى لرماها، ولذلك سموا مهرة الرمي «رماة الحدق» وكان أحدهم يعلق ضبا بشجرة، ثم يرميه بالنبال فيصيب أي عضو شاء من أعضائه، حتى يرمي فقراته فقرة فقرة فلا يخطئ واحدة منها.
4
فلما جاء الإسلام كانت مهارتهم هذه من جملة ما ساعدهم على غلبة الروم، لأن هؤلاء لم يكونوا يحسنون رميها، وقد بينا ذلك في كلامنا عن الفتوح الإسلامية، ولم يكن قواد المسلمين يجهلون فضل النبال في نصرتهم، فكانوا يحرضون رجالهم على إتقان الرمي بها، وكان النبي يقول «اركبوا وارموا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»، ومن أقواله «كل لهو المؤمن في ثلاث تأديبه فرسه، ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته فإنه حق، إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد عامله المحتسب والرامي في سبيل الله»، ومن أقواله وهو قائم على المنبر «أعدوا ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».
وكان الخلفاء والقواد بعد النبي يستحثون رجالهم على إتقان الرماية، كما يحرضونهم على العناية بخيولهم، لأن العرب أهل فروسية ، وخيول العرب مشهورة بخفتها وسرعتها وسهولة قيادها، وكان القواد يوصون رجالهم أن يعتنوا بأفراسهم مثل عنايتهم بنسائهم، وقد تقدم لنا كلام في ذلك.
وتفنن المسلمون بالرمي في العصور الوسطى، حتى اصطنعوا من الأقواس آلات مركبة، ولعلهم أخذوا بعضها عن الفرس، كالمجراة التي استنبطها العجم لما حاربوا التتر، وهي عبارة عن أنبوب من حديد أو خشب، فيه شق يوضع السهم فيه ويقذف قذفا شديدا، كما نقذف الرصاصة بالبندقية اليوم، وتكون الأسهم قصيرة، واصطنعوا لرمي السهام ضروبا من المجانيق، توضع في الواحد منها عدة سهام، وترمى عنها بالأقواس. (8-2) السيف
وكان العرب يعدون السيوف أشرف الأسلحة، وكانوا يستجلبونها من الخارج، وأشهرها السيوف اليمانية والهندية والسليمانية والخراسانية، وتعرف كلها بالسيوف العتيقة، وكان لكل منها شكل مخصوص أو علامة يمتاز بها: فاليمانية العتق مثلا التي صنعت في الجاهلية، كانت تمتاز بثقبين في سنبل السيلان (والسيلان أصل مقبض السيف)، وثقب السنبل من إحدى وجهتيه أوسع من الوجهة الأخرى، أو الوجهتان متساويتان ووسطه أضيق، وكان من السيوف اليمانية سيوف يقال لها المحفورة، وشطبها شبيه بالأنهار، وقد حفر بمبرد مدور، ومنها ذات حفر مربع، ومنها ذات شطب، وقلما تسلم اليمانية من العروق، وقد تنقش عليها تماثيل، أو يكتب عليها، أو يصور عليها صورة.
غير أن هذه السيوف أكثر قطعها في اللين، فإذا صادفت الحديد أو اليابس تقصفت، وكانت أسياف الروم أمتن منها، لأنهم كانوا يجيدون سقايتها حتى تبري الحديد، ولذلك كان العرب إذا أصابوا سيفا قاطعا تناقلوا خبره وأطروه، وقد اشتهر في أوائل الإسلام سيف ذي الفقار لعلي بن أبي طالب، وسيف الصمصامة لعمرو بن معدي كرب وغيرهما، ولعلهما في الأصل من أسياف الروم، ولذي الفقار شأن كبير في تاريخ الإسلام، توارثه آل أبي طالب، ثم أخذه المهدي العباسي، ثم صار إلى الهادي فالرشيد، ويقال إنه سمي ذا الفقار، لأنه كان به ثماني عشرة فقرة. وفي المتحف البريطاني أمثلة من السيف الهندي والسيف الدمشقي، شاهدناه في رحلتنا إلى لندن سنة 1912. (8-3) الرماح
أكثر ما يكون استخدام الرمح على الخيل ، ولكنهم لم يكونوا يأمنون له خوف انكساره، ومن وصاياهم في استخدام الرمح في الحرب قول صاحب «آثار الأول» في طرائق حركات الرمح وتصرفاته، قال «واللعب به في الميادين وبين يدي الملوك غير التحرك به في الحروب منها المواجهة، وهي أن تحمل على مبارزك وقد أخذت الرمح تحت إبطك وجعلته بين أذني فرسك، وتقصده مستويا حتى تقرب منه، فإن رأيته قد طرح رمحه يمنة فاطرح رمحك يسرة، وإن طرحه يسرة فاطرح رمحك يمنة، واجتهد أن تبدأ بالحمل عليه وأنت مسدد، وتحول الرمح يمنة أو يسرة كي تدهشه، فلا يدري من أين يجيئه، فإذا دنوت منه دخلت عليه من الخلل الذي لا يكون رمحه فيه، وإذا أردت أن تبتدئ بالخروج، فخذ أسفل الرمح بيدك اليمنى ورأسه إلى الهواء وهو على عاتقك الأيمن، وتحمل على قوتك وأنت كذلك، وإن شئت قربت منه حتى لا يدري من أي وجه يلقاك ... وإن خرجت إلى فارسين وتفرقا فاحمل على الأدنى، وإذا كان قريبين فأر أحدهما أنك تريد رفيقه، واحمل عليه ولا تتم حملتك ثم اعدل إلى الآخر واصدقه الحملة، وإن حذقا ورأيتهما يفترقان عليك فتطرف ولا تتوسط واحمل على الأدنى إليك، فإن تساويا فأدهش الأضعف، واحمل على الأقوى، فإن تساووا وكانوا جماعة فامتد أمامهم حتى يتبعوك، ثم كر على الأدنى منك فاطعنه، وإن دخلت مضيقا فتلقاك فارس برمح، فإياك والمصادمة بل انزل إلى الأرض واطعنه، وإن كان خلفك فارس وقدامك فارس في مضيق، فانزل وتحيل واقصد أقربهما إليك، وتترس من الآخر بدابتك ... إلخ».
الترس الغرناطي.
وكانت أسنة الرماح عندهم تختلف شكلا، بين المشعب والعريض والرفيع والمستوي والمموج وغير ذلك. (8-4) الترس
وكان الترس عند العرب على أصناف، كل منها يصلح لشيء: فمنها المسطح والمستطيل المحفر الوسط، والمقبب، فالمقبب المنحني الأطراف. ولكل ترس فائدة: فالمقبب المنحني الأطراف لا يتقى به الرمح، لأنه متى طعن ثبت الرمح فيه، وإنما يتقى به النشاب والحجارة والسيف، والترس المسستطيل يتقى به النشاب، لأن رأسه يستر رأس الفارس، وطوله يقيه لأنه ينظر بإحدى عينيه من التخصير، ولا يكشف رأسه، والمسطح ينقى به الرمح، وقد يشترك رجلان في الطعان فيترس أحدهما للآخر.
وتفنن المسلمون في اصطناع الأتراس، ونقشوا عليها الآيات والحكم والأشعار، وتميزت أتراس كل بلد بشكل خاص، ومنها الترس الدمشقي والترس العراقي والغرناطي وغيرها. (8-5) الدرع
الدروع كثيرة عند العرب، ومنها الحديد والفولاذ والكتان، يسمون درع الكتان «دلاص»، ولم يكن يقتني الدروع من العرب غالبا إلا الفرسان، وهي من صنع الروم أو الفرس في الغالب، وعندهم دروع مشهورة بأسماء معينة، مثل درع خالد بن جعفر، فقد كانوا يسمونها ذات الأزمة، لأنها كانت لها عرى تعلق إذا أراد لابسها أن يشمرها.
درع أبي عبد الله آخر ملوك الأندلس.
وكانت الدروع مؤلفة من الجزء الذي يقي الصدر وهو الجوشن، والبيضة، والخوذة، والمغفر للرأس، ومنها أجزاء للساعدين، والساقين، والكفين.
تلك كانت أسلحة العرب في أوائل الإسلام، ثم أضافوا إليها شيئا من أسلحة الأعاجم، كالخناجر والطبر والفاس وغيرها، وتفننوا في صنعها تبعا للزمان والمكان، فترى السيف الدمشقي يختلف عن السيف العراقي، والدرع المصرية تختلف عن الدرع الأندلسية. (9) آلات الحصار
لم يكن للعرب آلات للحصار، لأنهم لم يكونوا يحاصرون، وإنما كانت منازلهم الخيام مطلقة لا يحميها سور ولا خندق، وأول خندق بناه العرب خندق المدينة يوم حرب الأحزاب (سنة 5ه) أشار به سلمان الفارسي كما قدمنا، فلما اختلطوا بالأعاجم كان في جملة ما اقتبسوه منهم آلات الحصار، وأهمها المنجنيق والدبابة والكبش والنار اليونانية. (9-1) المنجنيق
هو آلة قذافة استخدمها الفنيقيون قديما، ومنهم أخذها اليونان والإسرائيليون، وورد ذكرها غير مرة في سفر المكابيين، وانتشرت بواسطة اليونان في سائر دول الأرض، فاستخدمها الفرس وعنهم أخذها العرب بعد الإسلام.
والمشهور أن العرب لم يستخدموا هذه الآلة إلا في أواسط القرن الأول للهجرة، بعد مخالطتهم الروم والفرس، ولكننا رأينا في السيرة الحلبية أنهم استخدموها في حصار الطائف، أرشدهم إليها سلمان الفارسي في جملة ما أرشدهم إليه من فنون الحرب الفارسية، ويقال إنه صنعه لهم بيده، وذكر صاحب هذه السيرة أيضا أن المسلمين لما فتحوا حصن الصعب في خيبر، وجدوا فيه منجنيقات ودبابات.
والمنجنيق أصناف كثيرة، منها الكبير والصغير، ومنها ما يشد بلوالب وأقواس، أو ما يدار شبه المقلاع، وهي تستخدم إما لرمي السهام أو الحجارة أو قدر النفط أو العقارب، أو نحوها من آلات الأذى، فإن كانت المقذوفات خفيفة ثقلوها بالرصاص، وإن كانت من السوائل كالنفط ونحوه، اتخذوا لها كفة كالكأس علقوها بسلاسل.
وفي الشكل صورة منجنيق روماني كانوا يرمون به السهام، فترى السهام مشكوكة في القائمتين (ب وج) ورؤوسها متجهة نحو العدو، وترى الرجلين يديريان البكرة (د) وهي تدير البكرة المسننة (ن) ويلف عليها حبل ممتد من طرف القائمة (أ) بالبكرة (س) والبكرتين (ف) بحيث تشد طرف القائمة (أ) نحو الوراء، وهي مصنوعة من قطع متصلة بجلد أو حديد، حتى تصير مرنة كالأقواس، بحيث إذا أطلقت بعد شدها ارتدت على أطراف السهام بعنف، فترسلها إلى مسافة بعيدة.
منجنيق روماني لرمي السهام.
وفي الشكل الآخر صورة منجنيق لرمي الحجارة، عبارة عن عمود في رأسه معلق شبه المقلاع، يوضع فيه الحجر ويشد العمود بالأمراس نحو الوراء، وهو متصل من أسفله بقوس مرنة، فإذا شد العمود جيدا ثم أطلق بغتة وقع على السطح المائل بعنف، وانطلق الحجر من المقلاع إلى مسافة بعيدة، وهناك أشكال أخرى للمنجنيق تندرج تحت هذين.
منجنيق لرمي الحجارة.
فكانوا يستخدمون المنجنيق لهدم الحصون بالحجارة الضخمة، أو لرمي الأعداء بالنبال، أو لإحراق أماكن العدو بالنفط ونحوه، فيرسلون به نفطا مشتعلا بالنار، يقذفونه بواسطة كفة من الزرد، يجعلون بها الأوعية المملوءة بالنفط كالقدور ونحوها، أو يرسلونها بمنجنيق رمي الحجارة أو غيرها.
وكانت المجانيق تتفاوت في أقدارها، وكثيرا ما كانوا يسمون كلا منها باسم يدل على بعض أوصافه، على نحو ما يسمون السفن والمدافع الكبرى في هذه الأيام، فقد كان عند الحجاج بن يوسف منجنيق اسمه «العروس»، كان يمد به خمسمائة رجل، أرسله محمد بن القاسم لمحاربة ملك الهند سنة 89ه وهدم به صنما من أصنامهم. (9-2) الدبابة
هي آلة متحركة تتخذ من الخشب السميك، وتغلف باللبود أو الجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستديرة، وتحرك فتنجر، وقد يجعلونها برجا من خشب بمثل هذا التدبير، ويدفعها الرجال فتندفع على البكر، ويصعد الرجال في أعلاها ويستعلون على السور وينزلون فوقه، وهي أقدم من المنجنيق، استخدمها المصريون القدماء والآشوريون فاليونان فالرومان والفرس فالمسلمون، وهي عبارة عن قلعة سائرة على العجل، يهجمون بها على الأسوار لمحاربة المحاصرين من أعلى السور.
وقد يستخدمون الدبابة لهدم الأسوار، فيسيرونها ويحتمون بجدرانها ويجعلون رأسها محددا يصدمون به الأسوار حتى تهدم. (9-3) الكبش
هو كالدبابة، لكن رأسه في مقدمته مثل رأس الكبش، ويتحصن الرجال في داخله ويستخدمون الكبش لهدم الأسوار، والرأس المذكور متصل في داخل الدبابة بعمود غليظ، معلق بحبال تجري على بكر معلقة بسقف الدبابة لسهولة جرها، فيتعاون الرجال من داخل الدبابة وورائها على ضرب السور بها حتى يخرقوه.
رأس الكبش.
كبش روماني في فتح القدس.
وفي الشكل صورة كبش روماني يهاجم أسوار البرطيين وقد خاف البرطيون وأتوا بأعلامهم يلتمسون الأمان ويسلمون.
واستخدم المسلمون الدبابة والكبش في كثير من حروبهم، لتسلق الأسوار وهدمها أو خرقها، وكانوا يجعلون في الجيش عدة دبابات، أكثرها صغير الحجم تسع الواحدة بضعة رجال تتفرق حول الأسوار، واستخدم الخليفة المعتصم بالله الدبابات في فتح عمورية، فعمل منها دبابات تسع كل واحدة عشرة رجال.
وكيفية استخدام الدبابات في تسلق الأسوار أنهم كانوا يركبون الدبابة ويدحرجونها إلى السور، فإن كان هناك خندق يمنعهم من الوصول إليه طرحوا الأخشاب على الخندق مثل الجسور، فإذا كان الخندق عريضا، طرحوا فيه الحطب والزرجون والتراب وغيره، مما يحملونه معهم في الدبابة لهذه الغاية حتى يمتلئ الخندق، كل ذلك وأهل الدبابة يحمون الصناع بالجفان، فيجرون الدبابة إلى السور وينقبونه ويدعمونه بالأخشاب، ثم يخرقونه ويلتصقون بالسور، فإذا لم يدركوا سطحه صعدوا إليه بالسلالم، ونزلوا منه إلى المدينة إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا وإلا تحاربوا.
دبابة لتسلق الأسوار.
وكان عندهم ضرب من الدبابات أو الأبراج المسيرة على العجل، في أعلاها مواقف للرجال، إذا اقتربت من السور ولم تستطع خرقه، ألقى أصحابها من أعلى الدبابة سلالم مشوا عليها إلى داخل السور. (10) النار اليونانية
عرب يستخدمون النار اليونانية (نقلا عن مخطوط قديم).
ومما اقتبسه العرب من الروم النار اليونانية، وهي في الأصل من اختراع المشارقة، فقد كان هؤلاء يستخدمون في حروبهم مزيجا سريع الاشتعال لم يعرفه أهل أوربا إلا في القرن السابع عشر للميلاد، والمظنون أن رجلا من أهل الشام اسمه كالينكوس نقله إليهم، وكان الروم يومئذ في إبان حاجتهم إليه ليردوا به هجمات العرب عن القسطنطينية وغيرها من مدنهم في أوربا وآسيا، وقد فازوا بغرضهم منه، لأن العرب حاصروا القسطنطينية مرارا ولم يستطيعوا فتحها، وبالغ الروم في كتمان أسماء المواد التي يتألف منها ذلك المزيج، فظل سر هذه النار مكتوما حتى اطلع عليه العرب، فإذا هي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والأدهان، في شكل سائل يطلقونه من أسطوانة نحاسية مستطيلة كانوا يشدونها إلى مقدم السفينة، فيقذفون منها السائل مشتعلا، أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتاب المتلوث بالنفط، فيقع على السفن أو البيوت فيحرقها، والظاهر أن المقذوفات التي احترقت بها الكعبة في حصار الحصين بن نمير لعبد الله بن الزبير سنة 64ه كانت من هذه النار.
وفي المكتبة الأهلية بباريس مسودة خطية قديمة عليها صور رجال من العرب بعضهم على الخيول والبعض مشاة، وفي أيديهم خرق مبسوسة بالنار اليونانية يرمون بها الأعداء، وكانوا يسمون النار اليونانية «النفط القاذف». (11) اختراع البارود
وهناك اختراع ذو بال ينسب فضله إلى الإفرنج، وهو للعرب - نعني اختراع البارود - فالمشهور عند الإفرنج أن مخترع البارود اسمه شوارتز سنة 1320م (719ه) ولكن راهبا إنكليزيا اسمه (Roger Bacon)
روجر باكن من أهل القرن الثالث عشر للميلاد أشار إلى مزيج من قبيل البارود كان شائعا في أيامه، الصحيح أن العرب أسبق الناس إلى استخدام البارود وإذا لم يكونوا اخترعوه فلا أقل من أنهم أوصلوه إلى ما عرف به في الأجيال الوسطى، فقد ذكر كوندي المستشرق الإسباني المتوفى سنة 1820 أن أهل مراكش استخدموا الأسلحة النارية في محاربتهم سرقوسة سنة 1118م.
وزد على ذلك أن تواريخ العرب تشير إلى استخدام هذه الأسلحة في القرن الثالث عشر للميلاد في حرب المسلمين بالمغرب، ونرى ذلك صريحا في كلام ابن خلدون عن قدوم أبي يوسف سلطان مراكش لفتح سجلماسة سنة 762ه 1273م، قال:
ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب ... وجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فنازلها، وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزنة أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة باريها، فأقام عليها حولا كريتا يغاديها القتال ويراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوه عنوة من تلك الفرجة.
وفي هذا القول شاهد صريح على أن البارود كان معروفا عند العرب، وكانوا يستخدمونه في حروبهم قبل شوارتز بنحو نصف قرن.
اختراع العرب للأسلحة النارية.
أدوات النفط.
وفي مكتبة بطرسبرج مسودة عربية قديمة، فيها صور رجلين من العرب يشتغلان في الأسلحة النارية، أحدهما إلى اليمين يحمل ما يشبه البندقية وفيها القنبلة والبارود داخلها، وقد أدناها من لهيب أمامه حتى يولع البارود ويقذف القنبلة.
وهناك أيضا صورة فارس يحمل قناة ملفوفة بقماش، ذات أهداب تلت بالنفط وترمى على الأعداء حين الاقتضاء، وبجانبي الفارس رجلان ماشيان، على بدنيهما وبدنه وبدن فرسه نسيج ذو أهداب يستخدم للنفط عند الحاجة. (12) المدافع
هي أنابيب ترسل بها المقذوفات كما ترسل بالمنجنيق، لكنها في هذا ترسل بحركات ميكانيكية كالمقاليع والأتار ونحوها، وأما في المدافع فإنها تقذف بالبارود.
وأول من أتقن استخدام المدافع في الدول الإسلامية الدولة العثمانية، وبها استعانوا على فتح القسطنطينية سنة 1453، وفي كثير من الفتوح والحروب، فأصبح الجند المحاصر لبلد ينصب حوله المدافع بدل المجانيق، يفرقها مع جنده حول المكان المراد محاصرته، وكانوا في أول شيوع المدافع يستخدمون معها سائر آلات الحصار القديمة، من الأبراج والدبابات وغيرها، لأن المدافع لم تكن في أول أمرها تقذف قنابلها إلى مسافات بعيدة، وكان المحاصرون من الجهة الأخرى يحيطون معسكراتهم أو قلاعهم بالأسوار العالية والخنادق العميقة، على أشكال مختلفة، ويجعلون السور مضاعفا أو مثلثا ينصبون عليه آلات الدفاع كالمدافع وغيرها.
وكان المحاصرون يبنون على الأسوار أبراجا، يجمعون فيها الحامية للدفاع بآلات القذف المختلفة، ويبذل المحاصرون جهدهم في أخذ الأبراج. (13) تعبئة الجيوش
قلنا في كلامنا عن تاريخ الجند أن نظامه كان عند الأمم المتمدنة الصفوف والكتائب، وأما العرب في جاهليتهم فقد كانوا على غير نظام، وكانت حروبهم من النوع الذي يعبرون عنه بالكر والفر، واسمه يدل عليه، وذلك أنهم كانوا إذا هموا بالقتال كروا على عدوهم، فإذا أحسوا بضعف فروا، ثم يعودون فيكرون وهكذا، بلا نظام ولا قاعدة، فلما ظهر الإسلام كان في جملة أوامره ترتيب الناس صفوفا في الحرب، عملا بالآية:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ، وفي الحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». وبناء على ذلك كانت حروب المسلمين في أيام النبي صفوفا، وهو ما يعبرون عنه بالزحف فكانوا يسوون كما تسوى الصفوف للصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما واحدة.
فحاربوا البدو بنظام لا يعرفونه، وكان ذلك من جملة أسباب نصرتهم على قبائل العرب أهل الكر والفر، واعتبر ذلك في تراجم الفاتحين العظام كالإسكندر والسلطان سليم العثماني وبونابرت وغيرهم، فإنهم إنما غلبوا العالم بنظام جديد أدخلوه في جنودهم، أو بأسلحة جديدة تفردوا بها دون أعدائهم.
وكان أهل الكر والفر يمنعون رجالهم عن الفرار بإبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، فيصفونها وراءهم فتكون فيئا لهم ويسمونها «المجبوذة»، وهي التي تثبت أقدامهم في الحرب، أما المسلمون فكانوا مع ثباتهم بالزحف يجعلون وراءهم الإبل والنساء والولدان والأحمال، فيزيدهم ذلك استماتة في الحرب وصبرا على القتال.
كان الجند في أيام النبي يترتب صفا أو صفين، تبعا للكثرة والقلة، فلما تكاثر المسلمون في أيام الخلفاء الراشدين صاروا يجعلونه صفوفا يرتبونها باعتبار أسلحتها والأحوال المحيطة بها، وإليك طرفا من وصية علي بن أبي طالب لجنده، يوم واقعة صفين سنة 37ه فإنها تنطوي على خلاصة نظام الجند في الحرب أيام الراشدين، قال: ... فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر. (13-1) الكراديس
ثم تكاثر جند العرب واختلطوا بالأعاجم في أيام بني أمية، فعمدوا إلى «التعبئة»، وهي ترتيب الكتائب كراديس، كما بيناه في تاريخ الجند، وذلك أن الروم كانوا إذا نشبت الحرب قسموا جنودهم إلى أقسام يسمونها كراديس
Koortis (كورتيس في اليونانية ومعناها الكتلة أو الكتيبة)، ويسمون كل كردوس كتيبة بصفوفها، فيجعلون الملك أو القائد العام وحاشيته وراياته وشعاره كتيبة تقوم في الوسط ويسمونها القلب، وأمامها كتيبة يغلب أن تكون من الفرسان وهي المقدمة، ويقيمون كتيبة أخرى عن يمين كتيبة الملك يسمونها الميمنة، وأخرى إلى يساره يسمونها الميسرة، وكتيبة وراءه يسمونها ساقة الجيش على هذه الصورة:
المقدمة
الميمنة
قلب الجيش
الميسرة
الساقة
وترى التعبئة على هذه الكيفية خمسة أجزاء، ومنها تسمية الجيش بالخميس، ويتقدم الخميس كوكبة من الفرسان يقال لها: «الطليعة»، لأجل الاستكشاف على مواقف العدو، فإذا ترتب الجيش على هذه الصورة زحف على العدو زحفا، وربما جعلوا وراءهم ما يثبتهم في زحفهم كما كان الفرس يفعلون، فإنهم كانوا يتخذون الفيلة في الحروب، يحملون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصروح، مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات، ويضعونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بها نفوسهم، وربما جعلوا ملجأهم الأسرة، فينصبون للملك سريره في حومة الحرب وراء المقاتلة، ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه، وترفع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة، يعظم هيكل السرير ويصير فيئا للمقاتلة وملجأ لهم.
وكثيرا ما كانت العجم تحارب بالكر والفر، وتجعل مثل ذلك الملجأ وراء جندها مما لا يقع تحت حصر، فاضطر العرب في كثير من وقائعهم مع الفرس والروم في صدر الإسلام أن يحاربوا بالكراديس، كما فعل خالد بن الوليد في واقعة اليرموك سنة 13ه فعبأ تعبئة لم تعبئ العرب مثلها قبلها، فجعل جيشه 36 كردوسا إلى الأربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وأقام عليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبي سفيان إلخ ... وكذلك فعل سعد بن أبي وقاص في القادسية سنة 14ه.
ولكن يظهر أنهم فعلوا ذلك اضطرارا، لمحاربة الروم بمثل نظامهم، ولم يجعلوا التعبئة قاعدة حروبهم إلا سنة 128ه على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فإنه أبطل الصفوف ونظم الكراديس، فحارب بها الضحاك الخارجي ثم الخبيري، ولما بطلت الصفوف تنوسي الزحف، ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما دخل الدولة من الترف، ولم يعودوا يحملون نساءهم وأولادهم معهم إلى الحرب.
وهاك ما قاله عبد الحميد كاتب محمد بن مروان يوصي ولي عهد الخلافة بتعبئة الجيوش، وهي صورة من صورها في زمن بني أمية، قال:
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربا وقد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجزة وأعد إعداد الحذر واكتب خيولك وعبئ جنودك، وإياك والمسير إلا مقدمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة ونشروا البنود والأعلام، وعرف جندك مراكزهم، سائرين تحت ألويتهم، قد أخذاو أهبة القتال واستعدوا للقاء، ملحين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم عن مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترجلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم ومراكزهم، وعرف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة، لازمين لها غير مخلين بما استنجدتهم له ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه، حتى تكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها كأنه عسكر واحد، في اجتماعها على العدة وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها، إن ضلت دابة عن موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها، فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها، فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له اطراح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة، ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضاء في العامة وإنصافا من نفسه للرعية وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته، آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال وشبيها بك في الشرف وعديلا في المواضع ومقاربا في الصيت، ثم اكتشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح، ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن زحفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة، من غير أن تأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة، ثم تقدم إليه محذرا ومره زاجرا وانهه مغلظا بالشدة على من مر به منصرفا عن عسكرك من جندك بغير جوارك شادا لهم أسرا وموقرهم حديدا ومعاقبهم موجعا، أو موجههم إليك فتنهكهم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة ... إلخ.
على أن بعض دعاة الخلافة من أهل البيت اعتبروا العدول عن الصف إلى الكراديس بدعة في الإسلام، فظلوا على الزحف صفوفا ولو أدى بهم إلى الخطر، كما فعل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، لما بعث المنصور عيسى بن موسى لمحاربته، فالتقيا عند باخمرا على 16 فرسخا من الكوفة، فأشار عليه بعض أصحابه أن يجعل جنده كراديس، «لأن الكراديس أثبت في الحرب، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، أما الصف فإذا انهزم بعضه تداعى سائره»، فقال إبراهيم وسائر من معه: «لا نصف إلا صف أهل الإسلام»، يعني الآية:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا
إلخ، فدارت الدائرة على إبراهيم ...
وبعد رسوخ المسلمين في المدنية تفننوا في تعبئة الجيوش، بما اقتبسوه من فنون الحرب عند القدماء بعد ترجمة كتبهم أو دراستها، وتعددت ضروب التعبئة عندهم حتى صارت سبع تعبئات، وإن كانوا لا يستعملونها كلها، ولكنهم أدخلوها في فنونهم الحربية: التعبئة الأولى أن ترتب الجيوش بشكل الهلال، قالوا إن الفرس المتقدمين ذكروه. وهو نوعان: الهلال المرسل أو الحاد وهو البسيط مثل هلال السماء والهلال المركب وهو أن يكون إلى جانبي الهلال شبه هلالين كأنهما جناحان، وهي التعبئة الثانية، والتعبئة الثالثة المربع المستطيل، والتعبئة الرابعة الهلال المقلوب، والخامسة أن ينظم الجيش في شكل المعين أو المربع المنحرف، والسادسة المثلث، والسابعة الدائرة المزدوجة، وهي: دائرتان إحداهما داخل الأخرى، وكانوا يعمدون إلى هذا الضرب من التعبئة إذا كان جندهم قليلا وجند عدوهم كثيرا، وهو يشبه آخر ما بلغ إليه المتمدنون من التفنن في التعبئة - نعني مربع بونابرت الذي دوخ به الممالك، وهو عمدة الجنود المنظمة إلى اليوم، فكان المسلمون إذا عبأوا الجيش إلى الحرب، نظموه إما كراديس أو مربعات أو مثلثات أو جعلوا بعضه كراديس وبعضه مربعا أو هلاليا أو معينا أو مثلثا، على ما تقتضيه الأحوال. (14) المعسكر
أما تنظيم المعسكر فلم يكن له علم خاص في أوائل الإسلام، بل كان العرب يجرون في نصب خيامهم وترتيبها على ما كانوا في جاهليتهم فيكون فسطاط الأمير في الوسط، وحوله فساطيط الأمراء والخاصة، وإذا كانت النساء والأولاد معهم، جعلوها وراء المعسكر، ولما أبطلوا حمل العيال معهم - كما تقدم - جعلوا يقلدون الروم والفرس في مضاربهم، وتفننوا في ذلك على ما اقتضته الأحوال، فلما تعددت فرق الجند، وكثرت الحاشية والمماليك والخدمة، صار المعسكر أشبه ببلد، فيه الكتاب والفقهاء والأطباء والكحالون وأصحاب الطبول والأتباع وغيرهم، فضلا عن أصناف الجند، كما ترى في الصفحة التالية، وهو أرقى ما بلغ إليه نظام المعسكر في الإسلام.
معسكر روماني (له أربعة أبواب:
A في مقدمه و
R في مؤخره و
C و
D في الجانبين، كل باب منها خاص بطبقة من الجند. وقد ترتبت الكتائب أو الكراديس في ستة صفوف مزدوجة بينها طرق طولية، ويقطعها عرضا شارع واحد. وأمام الكتائب خيم كبار القواد 1 و2 و3 وإلى جانبها 4 و5 خيم المتطوعين. وأمامها في أول المعسكر 6 و7 جند المتطوعة وبعدها على الزاويتين 8 المساعدون من جند الأجانب). (15) مناداة الجند
كانوا في أوائل الإسلام إذا تهيأ الجيش للقتال نادى قواده «النفير النفير» وهي علامة الهجوم عندهم، تقابل نداء قواد الجند الآن في مصر «هجوم حاضر ال» ثم «هجوم!» وإذا أرادوا إرجاعهم قالوا «الرجعة الرجعة!» وهي مثل قولهم اليوم «جريه!»، وكانوا إذا أرادوا أن يركب الفرسان للحرب نادوا «الخيل الخيل!» ويقال لمثل ذلك في الجيش المصري: «بين ما به حاضر ال!» ثم «بين!» وإذا أرادوا أن يترجلوا قالوا «الأرض الأرض!»، ومثلها في مصر «أين مايه حاضر ال!» ثم «أين!».
ولما تمدن المسلمون وتعددت أجزاء جندهم وتنوعت حركاتهم، جعلوا لكل حركة نداء خاصا يدل لفظه على المراد به، وهذه أسماؤها: (1)
الميل. (2)
الانقلاب. (3)
الانفتال. (4)
تسوية الانفتال. (5)
استدارة صغرى.
معسكر إسلامي كامل نحو القرن الثامن للهجرة في أرقى ما بلغ إليه نظام الجند عندهم. (6)
استدارة كبرى. (7)
تقاطر. (8)
اقتران. (9)
رجوع إلى الاستقبال. (10)
استدارة مطلقة. (11)
أضعاف. (12)
أتباع الميمنة. (13)
أتباع الميسرة. (14)
جيش منحرف. (15)
جيش مستقيم. (16)
جيش مورب. (17)
رض. (18)
تقدم. (19)
حشو. (20)
رادفة. (21)
ترتيب بعد ترتيب.
فكانوا إذا أراد قائد الجند أن يميل جنده إلى جهة، أو يتخذ شكلا خاصا من هذه الأشكال، أو حركة من هذه الحركات، ناداه بكلمة من هذه الكلمات، وهم قد تدربوا على المراد من كل منها، فيميلون كما يشاء على مثال الحركات العسكرية في جنود هذه الأيام، ثم اختصروا ذلك في كلمتين هما: «هوا جوا!» و«هو برا!» واستعانوا على إتمام المراد بالإشارات، ولذلك كان على الجند أن يراعوا الرئيس بأعينهم، حتى إذا مال إلى جهة مالوا معه، وفسروا هذين اللفظين بأن المراد بهو جوا أن تقبل الوجوه تجاه بعضها بعضا، وعكس ذلك هو برا. (16) شعار الجند
كان للعرب في جاهليتهم ألفاظ يتعارفون بها في أثناء الحرب يسمونها الشعار، وليست هي ألفاظا معينة، ولكنهم كانوا يصطلحون عليها على مقتضى الأحوال، كان شعار الأحزاب في غزوة أحد «يا للعزى يا لهبل»، وكان شعار تنوخ في الحيرة «يا آل عباد الله»، وجعل النبي لكل من المهاجرين والأنصار شعارا، فكان شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن»، وشعار الأوس «يا بني عبيد الله»، وشعار الخزرج «يا بني عبد الله»، وسمى خيله «خيل الله»، وكان المسلمون بعد ذلك يجعلون لجنودهم شعارا يتعارفون به، على نحو ما تقدم. (17) الثغور والعواصم
ويراد بها حدود المملكة الإسلامية برا وبحرا، فقد رأيت فيما تقدم أن العرب لما جاءوا لفتح الشام إنما بدأوا ببرها من جهة حوران مما يلي الصحراء، لأن قوات الروم كان معظمها في مدن السواحل، فجعلوا فتوحهم تمتد من البر نحو البحر، ومن العرب وأهل البلاد الأصليين إلى الروم، فبعد أن فتحوا دمشق ساروا نحو السواحل، وفي مقدمتهم يزيد بن أبي سفيان وأخوه معاوية، وكان ذلك في أيام أبي عبيدة عامر بن الجراح على دمشق، جاءوا بيروت وصيدا وجبيل ففتحوها فتحا يسيرا، ثم عاد الروم بعدئذ فاسترجعوها، لأن قواتهم في البحر كانت كبيرة، وما زالت في أيدي الروم حتى تولى الخليفة عثمان، ومعاوية عامله على الشام، ففتحوا طرابلس وغيرها، وكانت لمعاوية رغبة في غزو البحر، وعثمان يخافه كما كان عمر يخافه من قبل، وما زال معاوية يلح على عثمان حتى أذن له، فسلمت ثغور الشام عندئذ للمسلمين، فجعل الناس ينتقلون إليها من كل ناحية، فعمرت بهم.
وكانت ثغور الشام في أيام الخللفاء الراشدين أنطاكية، وغيرها من السواحل التي سماها الرشيد عواصم، فكان المسلمون يغزون ما وراءها، وكان للروم بقية في بعض المسالح بين الإسكندرونة وطرسوس، فلما تولى بنو أمية أتموا فتحها، وزادت عمرانا في أيام بني العباس، وجعلوا فيها الحامية والسلاح لدفع غارات الروم، لأنهم كانوا لا ينفكون عن مناداة العرب، فبنى العرب حصونا هناك، ورمموا الحصون التي كان الروم قد بنوها، وجعلوا لأهلها عطاء كبيرا وأمروهم بالغزو.
وفعلوا نحو ذلك في حدود المملكة الإسلامية من جهة البر، فاتخذوا مدنا حصينة جعلوها ثغورا يقيمون فيها الجند والسلاح في قلاع لدفع العدو أو لغزو بلاده.
وبناء على ذلك فإن تخوم المملكة الإسلامية بعضها من جهة البر، والبعض الآخر يتصل إليه بالبر والبحر معا.
والحدود البحرية هي على الإطلاق ثغور الشام ومصر، فإذا عددنا الثغور الشامية من الشمال كان أولها طرسوس فأدنة فالمصيصة وعين زربة والكنيسة والهارونية وإياس ونقابلس، وارتفاعها - أي دخلها - نحو 100000 تنفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها، من نفقات الحامية والترميم والمخائض والحصون وغير ذلك، لا يرد منها شيء إلى بيت المال، بل قد ينفق عليها بيت المال ورواتب الجنود، وثغور مصر منها رفح والعريش ودمياط والإسكندرية.
ويلي ثغور الشام من الشمال الثغور التي سموها الجزرية، نسبة إلى جزيرة العراق، وأولها مرعش ثم الحدث ثم حصون متتابعة إلى ثغر شميشاط ثم ملطية، وارتفاع هذه الثغور مع ملطية 70000 دينار، يصرف في مصالحها 40000 ويبقى 30000، ويحتاج لنفقة الأولياء والصعاليك 170000 دينار تضاف إلى تلك البقية، فيكون المجموع مئتي ألف دينار سوى نفقات المغازي، والثغور المذكورة هي الواسطة التي منها كانت المغازي، وعواصم هذه الثغور دلوك ورعبان ومنبج، ناهيك بالثغور التي تحاذي بلاد الهند في الشرق، مما يطول شرحه. (18) الغزوات
فالثغور المذكورة هي حدود المملكة الإسلامية، وهي التي عزلها هارون الرشيد سنة 170ه عن الجزيرة وقنسرين وسماها العواصم، وكان المسلمون يخرجون منها كل سنة للغزو في البحر والبر، جهادا في سبيل الإسلام، وكان الجهاد فرضا على المسلمين يحرضهم الخلفاء عليه، كما رأيت في قول أبي بكر يوم تولى الخلافة «لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل»، أما غزو البحر فقد كانت مراكبهم تجتمع في سواحل الشام ومصر، حتى تلتقي في جزيرة قبرص، وعددها ما بين 80-100 مركب، ويسمى ما يجتمع منها هناك الأسطول، وكان يتولى قيادة الأسطول صاحب مراكب الثغور الشامية، وكانت تبلغ النفقة على هذه المراكب، إذا غزت مصر والشام، مائة ألف دينار.
وكانت غزواتهم تعين باعتبار الفصول، فمنها غزوة صيفية وتسمى صائفة، أو شتوية وتسمى شاتية، أو ربيعية تقع في العاشر من شهر أيار (مايو) أي بعد أن يكون المسلمون قد أربعوا دوابهم وحسنت أحوال خيولهم، فيقيمون في الغزوة ثلاثين يوما أي إلى العاشر من حزيران (يونيو) فكأنهم يجدون الكلأ حينئذ في بلاد الروم ممكنا، فترتبع دوابهم ربيعا ثانيا، ثم يقفلون فيقيمون 25 يوما أي إلى 5 تموز (يوليو) حتى تقوى الخيول فيجتمون لغزو الصائفة أي الصيف، ثم يغزون لعشر تخلو من تموز، فيقيمون إلى وقت قفولهم ستين يوما، وكانوا في بعض السنين يغزون صائفتين، يسمونهما الصائفة اليمنى والصائفة اليسرى.
أما في الشتاء فغزواتهم قليلة ولا يبعدون فيها أكثر من عشرين ليلة، ويكون ذلك في آخر شباط (فبراير) فيقيم الغزاة إلى أوائل أذار (مارس) ثم يرجعون ويربعون دوابهم.
فترى مما تقدم أن الخلفاء لم يقتصروا على حفظ مملكتهم، بل جعلوا غزو الممالك الملاصقة لها فرضا واجبا عليهم، وهو من قبيل الجهاد في سبيل الله - كما قدمنا - وكان من أكثر الخلفاء رغبة في ذلك بنو العباس، فإنهم لما استتب لهم الأمر ودانت لهم المملكة الإسلامية تحولوا إلى الغزو، فكانوا في أوائل دولتهم يرسلون بعض القواد لغزو الروم كل سنة، كما يرسلون من يحج بالناس، ثم صاروا يغزون بأنفسهم، فقد غزا المهدي سنة 163ه الروم بنفسه، وسير ابنه الرشيد سنة 165ه لغزوهم ومعه 95930 رجلا، فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا خليج القسطنطينية، بعد أن مروا بمسالح الروم في طريقهم، فاسترضاهم صاحبها بمال مقداره: 193450 دينارا و21140800 درهم.
فلما وصل الرشيد إلى القسطنطينية خافه أهلها، وكان على كرسي القسطنطينية الإمبراطورة إيريني، فصالحته على فدية مقدارها سبعون ألف دينار تدفعها له كل سنة، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق، وطول الهدنة ثلاث سنين، وبلغ مقدار ما غنمه المسلمون في أثناء تلك الغزوة غير ما تقدم 5643 رأسا من السبي، وعشرين ألف رأس من الدواب، ومائة ألف رأس غنم وبقر، وقتلوا من الروم في تلك الغزوة وحدها 54 ألف نفس، ما عدا الأسرى، ومن ذلك يتبين لك ما كان يزيد المسلمين رغبة في الغزو. (19) الأساطيل (19-1) ركوب البحر
لم يركب العرب البحر قبل الإسلام، إلا ما كان من سفائن حمير وسبأ في أيام التبابعة، لأنهم كانوا أهل تجارة في البر والبحر، وأما عرب الحجاز فإنهم كانوا يخافون البحر ولا يجسرون على ركوبه - وذلك شأن البدو إلى هذا اليوم، فلما ظهر الإسلام وخفقت أعلام المسلمين على سواحل الشام ومصر، رأوا سفن الروم وشاهدوا حروبها فيها فتاقت أنفسهم للغزو في البحر، وأول من ركب البحر منهم العلاء بن الحضرمي، وكان عاملا على البحرين في أيام عمرو بن الخطاب، فأحب أن يفتح سواحل فارس وبينه وبينها خليج فارس، فعبر إليها في المراكب ولم يستأذن عمر، ولم يفلح في غزوته.
فشق ذلك على عمر، فجعل قصاصه أن يكون تحت إمرة سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة يومئذ، وشدد عمر في منع المسلمين من ركوب البحر، وكان معاوية قد تولى جند دمشق والأردن، وهو رجل المطامع البعيدة، فراقه ركوب بحر الروم لغزو ما وراءه، فبعث إلى عمر يستأذنه فأبى، فألح عليه ورغبه في الكسب، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص أمير مصر يطلب إليه أن يصف له البحر فأجابه «يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ... ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه دود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق»، فلما جاءه الكتاب بعث إلى معاوية «والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا».
أسطول عربي يحارب الروم وهم يرمونه بالنار اليونانية.
فلما كانت خلافة عثمان أطاع معاوية لشدة إلحاحه، ولكنه شرط عليه أن يجعل الغزو في البحر اختياريا، فمن اختار ركوبه حمله وأعانه، فركب معاوية في البحر إلى قبرص سنة 28ه فصالحه أهلها على 7200 دينار يدفعونها له كل سنة، وهي أول غزوة غزاها المسلمون في البحر، وراقهم النصر فازدادوا رغبة في غزوه فجعلوا ذلك في أوقات معينة من الصيف والشتاء كما تقدم. (20) الأساطيل في الإسلام
ولم يكن للعرب معرفة في الملاحة، فاستخدموا أولا من كان في حوزتهم من الروم، وفيهم أهل الصناعة والنواتية، فأنشأوا لهم السفن والشواني، وشحنوها بالرجال والسلاح، وأركبوها العساكر والمقاتلة لغزو ما وراء البحر، وسموا مجمع السفن أسطولا، وهو لفظ يوناني (Stolos)
عربوه، وجعلوا مقر أساطيلهم بحر الروم خاصة، واشترك في ملاحة البحر منهم أهل الشام وأفريقية والأندلس، وأنشأوا دور الصناعة (الترسانة) في تلك البلاد لبناء السفن وإعداد معداتها، وأول دار للصناعة في الإسلام بنيت في تونس على عهد عبد الملك بن مروان، فأمر عامله على إفريقية حسان بن النعمان بذلك ففعل، وأنشأ السفن وجهزها بالعدة والسلاح، وبعث فيها المقاتلة لغزو صقلية (سيسيليا) فلم يتيسر لهم فتحها إلا في أيام الأغالبة، ففتحها أسد بن الفرات على عهد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وفتح أيضا قوصرة فازداد المسلمون رغبة في غزو البحر، فبالغوا في إنشاء الأساطيل في إفريقية والأندلس، فبلغ عدد سفن أسطول الأندلس في أيام عبد الرحمن الناصر في أواسط القرن الرابع للهجرة مائتي سفينة، وكان أسطول إفريقية نحو ذلك، وأشهر مرافئ الأندلس بجانة وألمرية، وكانت دور الصناعة قد تعددت هناك، وكل دار تبني أسطولا عليه قائد ورئيس، فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتليه، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجاديف، فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو أو غرض آخر عسكرت بمرفئها المعلوم، وجعلوا النظر فيها كلها لأمير واحد من أعلى طبقات المملكة.
وأما مصر فقد أنشئت فيها دور الصناعة في أواخر القرن الأول للهجرة كما سيأتي، وأول من أنشأ الأسطول فيها عنبسة بن إسحق أميرها من قبل الخليفة المتوكل على الله العباسي، وسبب ذلك أن الروم نزلوا دمياط سنة 238ه وملكوها، وقتلوا وسبوا، فعظم الأمر على أمير مصر فأمر بإنشاء الشواني للأسطول، وجعل للبحر غزاة مثل غزاة البر، وجعل أرزاقهم مثل أرزاقهم، فاجتهد الناس في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القواد العارفين وشحنه بالرجال والسلاح، وأرسله لغزو الروم في جملة أساطيل إفريقية والأندلس والشام، فكانت الحروب بين المسلمين والروم سجالا، يأسر بعضهم بعضا، فاحتاج الخلفاء إلى افتداء أسراهم بالمال، فوضعوا ما يسمونه الفداء. (21) الفداء
وأول من افتدى أسرى المسلمين بالمال هارون الرشيد العباسي سنة 189ه، وكان الفداء قبله يقع بالمبادلة: النفر بالنفر، وأشهر الأفدية 13، وكلها في أيام بني العباس، آخرها جرى في أيام المطيع لله سنة 335ه، وبلغ عدد الذين افتداهم الخلفاء في هذه المدة نحو 50 ألف نفس، وكان الفداء يقع غالبا على ضفتي نهر اللامس من سواحل بحر الروم قريبا من طرسوس، ويحضر الفداء جمهور من المسلمين والروم فيقضون في الافتداء بضعة عشر يوما إلى بضع عشرات، وشهد الفداء الأول نحو 50000 نفس من المسلمين، بأحس ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة، حتى ملأوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء، وجاءت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزي ومعهم الأسرى، وكان عدد الذي فودوا فيه 3700 نفس، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يخاطب الرشيد من أبيات:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها
محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها
وقالوا سجون المشركين قبورها (22) الأساطيل المصرية
ولما دخلت مصر في حوزة العبيديين (الفاطميين) ملوك إفريقية، بذلوا عنايتهم في إنشاء الأساطيل في الإسكندرية ودمياط ومصر، وبلغت الجنود البحرية في أيامهم خمسة آلاف لهم الرواتب المعينة، منهم عشرة قواد راتب كل واحد منهم من 10 إلى 20 دينارا، ومنهم أقل من ذلك إلى دينارين وهي أقلها، ولهم إقطاعات كانوا يسمونها أبواب الغزاة، وكانوا ينتخبون أحد هؤلاء القواد رئيسا للأسطول، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو آمرهم وناهيهم، ومع هذا الرئيس أمير كبير من أمراء الدولة، وأما النفقة على غزاة الأساطيل فكان الخليفة يتولى تفريقها بنفسه بحضور الوزير، مبالغة في إكرام رجال البحر ورفع منزلتهم، وبلغت المراكب في أيام المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين بمصر 600 قطعة، ثم نقصت بعده حتى أصبحت مائة قطعة.
وكانوا يحتفلون في إخراج الأسطول إلى الغزو احتفالا شائقا يحضره الخليفة، فيجلس في منظرة معدة له على ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة لوداع الأسطول، فيجيء القواد بالمراكب إلى هناك، وهي مزينة بأسلحتها وبنودها، وفيها المنجنيقات فيرمي بها فتنحدر المراكب وتقلع، وتفعل ما تفعله لو كانت في حرب، وهو ما يعبرون عنه اليوم بالمناورة، ثم يحضر الرئيس والمقدم بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو لهما، ويعطى المقدم 100 دينار والرئيس 20 دينارا، ويحتفلون مثل هذا الاحتفال عند عودتهم من الغزو، وفي أيام صلاح الدين أنشئ للأساطيل ديوان خاص سموه ديوان الأسطول، وعينوا الأموال للنفقة عليه. (23) فتوح المسلمين البحرية
وكان للأساطيل تأثير كبير في توسعة المملكة الإسلامية، لأنهم فتحوا بها أشهر جزر بحر الروم، ومنها سردينية «سردينيا» وصقلية «سيسيليا» ومالطة وأقريطش «كربد» وقبرص وغيرها، وفتحوا كثيرا من شواطئ هذا البحر مما يلي أوربا، وسارت أساطيلهم فيه جائية ذاهبة، وعليها العساكر الإسلامية تجوز البحر من صقلية إلى بر إيطاليا في الشمال، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، وخصوصا في أيام بني الحسين الكلابيين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوى الفاطميين، فانحاز الإفرنج بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من هذا البحر، وملك المسلمون سائره بمراكبهم وأساطيلهم، وصاروا سلاطين البحر كما كانوا سلاطين البر، وضعف أمر الإفرنج إلى أن أدرك الدولة العبيدية بمصر والأموية بالأندلس الفشل، وطرقها الاعتلال بحكم ناموس الاجتماع، وأفاق الإفرنج وعادوا إلى استرجاع بلادهم فاسترجعوها، وسطوا على بلاد المسلمين نفسها، وكان ما كان من الحروب الصليبية على ما هو مشهور.
وكان المسلمون قد أهملوا أمر الأساطيل، وقل تجنيدهم لها وبطل ديوانها، وبعد أن كان جند البحر عندهم يلقبون بالمجاهدين في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله ويتبرك بدعائهم الناس، أصبح «أسطولي» بمصر لقب إهانة، وصارت خدمة الأساطيل عارا عندهم، وظل ذلك شأنهم حتى تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلطان المماليك الشهير، فأعاد شأن الأساطيل، لكنها لم تعد إلى ما كانت عليه في عز الإسلام، على أنهم بذلوا جهدا كبيرا في دفع الصليبيين عن مصر، وكان الصليبيون يأتون غالبا من جهة النيل، وكان المماليك يبنون على ضفتي النيل أبراجا من الخشب يوصلون بينها بسلاسل الحديد، لتمنع سفن الإفرنج من المرور في النيل.
بربروسا أو خير الدين باشا.
انحط شأن الأساطيل في مصر والشام، وبقي في الأندلس وإفريقية، وبقيت دولة المغرب مختصة بها، وظل ذلك شأنهم إلى أواخر دولتهم وكان عدد أساطيلهم في العدوتين «أوربا وإفريقية» - على ما رواه ابن خلدون - مائة أسطول، وفي أثناء ذلك نبغ أحمد الصقلي قائد أساطيل المغرب في القرن السادس للهجرة، وانتهت أساطيل المسلمين في أيامه إلى ما لم تبلغ قبله ولا بعده، ثم انحطت بانحطاط الدولة حتى انقضت بانقضاء الإسلام في الأندلس، ثم عاد الأسطول الإسلامي إلى الظهور في عهد الدولة العثمانية، واشتهر من قواده بربروسا خير الدين باشا في القرن التاسع للهجرة. (24) دار الصناعة
يراد بدار الصناعة عندهم ما نعبر عنه اليوم بالترسانة أو الترسخانة، وهما منقولتان عن تلك الكلمة، لأن الإفرنج لما فتحوا بلاد العرب كان في جملة ما اقتبسوه عنهم صناعة المراكب، كما اقتبسها العرب من أسلافهم ، وسمى الإسبان دار الصناعة
Darsina ، وأخذتها عنهم سائر لغات أوربا، فتقلبت بالنحت حتى صارت أرسنال
Arsenal ، وأخذها العرب عن الإسبان
Tarsanah
بطريق التركية، فظنوها تركية فعربوها ترس خانة أو ترسانة، وهي أولى أن تسمى دار الصناعة، وقد يقال ذلك في اشتقاق لفظ «أميرال»
Amiral
الإفرنجية عن «أمير البحر» العربية.
وكانت دور الصناعة في بلاد الإسلام كثيرة في الأندلس وإفريقية وفي الشام ومصر، وأول دار بنيت بمصر لهذه الغاية أنشئت في جزيرة الروضة تجاه الفسطاط في القرن الأول للهجرة، ثم عني أحمد بن طولون بتوسيعها وتحسينها، ثم نقلت إلى الفسطاط في أيام الإخشيد في أول القرن الرابع للهجرة، حتى لا يكون بينها وبين الفسطاط بحر، ثم أنشأ الفاطميون دارا للصناعة في المقس بقرب مدينتهم «القاهرة» وكانت تصنع في هذه الدور المراكب على أنواعها ومنها النيلية والبحرية، فالنيلية كانوا ينشئونها لتمر في النيل من أعلى الصعيد إلى مصاب النيل تحمل الغلال وغيرها، والحربية هي مراكب الحرب لحمل المقاتلين للجهاد، وهي التي يقال لمجموعها: الأسطول. (25) أشكال السفن ومعداتها
وكانت المراكب الحربية أنواعا تتفاوت شكلا وجرما وقوة، منها «الشونة» وهي مراكب كبيرة كانوا يقيمون فيا أبراجا وقلاعا للدفاع، و«الحراقة» كانوا يحملون فيها منجنيقات يرمى بها النفط المشتعل على الأعداء - ويسمون المنجنيق عرادة - و«الطرادة» سفينة صغيرة سريعة الجري، و«العشاريات» مراكب يسار بها في النيل، وهناك سفن أخرى لأغراض أخرى مثل الشلنديات والمسطحات وغيرها، وكانوا يبنون سفنهم على مثال سفن اليونان والرومان، لأنهم أخذوا هذه الصناعة عنهم وعدلوها.
سفينة عربية (نقلا عن نسخة مخطوط قديمة من مقامات الحريري في مكتبة المستشرق شيفر).
وكان من معدات السفن الحربية عندهم الزرد والخوذات والدرق والتروس والرماح والقسي والكلاليب والباسليقات - وهي سلاسل في رؤوسها رمانة حديد - والعرادات، وكانوا يجعلون في أعلى الصواري صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها التوابيت، يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بالأحجار وهم مستورون بالصناديق، وقد يكون مع بعضهم بدل الحجارة قوارير النفط للإشعال، أو جرار النورة - وهو مسحوق ناعم من مزيج الكلس والزرنيخ - يرمون بها في مراكب الأعداء فتعمي الرجال بغبارها، وقد تلتهب عليهم إذا تبددت، أو يرمون عليهم قدور الحيات والعقارب أو قدور الصابون اللين فإنه يزلق أقدامهم، وكان يعلقون حول المراكب من الخارج الجلود أو اللبود المبلولة بالخل أو الماء والشب والنطرون لدفع أذى النفط، وقد يحتاطون لذلك بالطين المخلوط بالبورق والنطرون أو الخطمي المعجون بالخل، فإن هذه مواد تقاوم فعل النفط.
وكان من احتياطاتهم في أثناء الحرب أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارا ولا يتركون فيها ديكا، وإذا أرادوا المبالغة في الاختفاء أسدلوا على المراكب قلوعا زرقا كي لا تظهر عن بعد.
وكانوا يجعلون في مقادم المراكب أداة كالفأس يسمونها «اللجام»، وهي حديدة طويلة محددة الرأس جدا وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها «الإسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز من مقدم المركب فيحتالون في طعن المراكب به، فإذا أصاب جانب المركب بقوة خرقه حتى يخشى غرقه بما ينصب فيه من الماء فيطلب أصحابه الأمان.
وأما الكلاليب ففائدتها أنهم إذا دنوا من مركب العدو ألقوا الكلاليب عليه فيوقفونه، ثم يشدونه إليهم ويرمون عليه الألواح كالجسر ويدخلون إليه ويقاتلون، وإذا كان العدو قويا أبطل فعل الكلاليب بفأس ثقيلة من فولاذ يضربون به تلك الكلاليب فتنقطع.
بيت المال
البحث في بيت المال يشمل النظر في كل ما يتعلق بأموال الدولة من خراج وصدقة وأعشار وأخماس وجزية وغير ذلك، ويسمى الديوان السامي، وهو أصل الدواوين ومرجعها عندهم، ووظيفته أن يثبت في جرائده جميع أصول الأموال السلطانية على أصنافها، من عين وغلال وفيء وغنائم وأعشار وأخماس، ويثبت ما تحصل من ذلك ويتخذ بيوتا لأصناف الأموال ويجعل عليها دواوين وحرسا، فالأموال والقماش لها ديوان الخزانة، ويجب أن يكون مباشروه قضاة المسلمين بأنفسهم بلا نواب عنهم، ومعهم خزندارية أمناء أكفاء من أقوى الناس ديانة، والغلال لها ديوان الأهراء، يجب أن يكون مباشروه من أكبر العدول الدينيين الأعفاء، والأسلحة والذخائر لها ديوان خزائن السلاح، يجب أن يكون مباشر هذه الجهة محتسب البلد، لأنه يعرف أمور الاستعمالات وأجور الصناع وأسعار الآلات، وكل ما استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين ثلاثة أقسام: الصدقة، والغنيمة، والفيء، ولكل منها أحكام سيأتي بيانها، والأموال المستحقة على بيت المال أرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح، وغير ذلك مما ينفق في سبيل المصلحة العامة. (1) الصدقة
الصدقة والزكاة لفظان مترادفان، وهي تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرق على فقرائهم، وقد ذكرنا أصلها فيما تقدم، وللصدقة ديوان في مركز الخلافة له فروع في سائر الولايات والبلدان، ويستقل والي الصدقة في كل بلد بالاستيلاء على أموال الصدقة من أغنياء ذلك البلد وتفريقها على فقرائه، ومصادر الزكاة أربعة: زكاة الماشية وزكاة الذهب والفضة وزكاة الأثمار وزكاة الزروع. (1-1) زكاة الماشية
فزكاة الماشية تؤخذ على الإبل والبقر والغنم، ولها أحكام وضعها رسول الله نفسه: يستدل على ذلك من كتاب كتبه أبو بكر إلى أنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، وهاك نصه «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة، إذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمسة وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على مائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرحل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها» وللفقهاء تفاصيل في ذلك لا محل لها هنا، وأما الخيل والبغال والحمير فلا زكاة عليها. (1-2) زكاة الذهب والفضة
وزكاة الفضة ليس فيما دون 200 درهم صدقة، وأما المائتان فعليها خمسة دراهم كل سنة، وذلك على تعديل 2,5 في المائة أي 1 من 40، وعلى هذا التعديل تؤخذ زكاة الذهب عن كل عشرين مثقالا منه نصف مثقال، وليس على ما دون العشرين مثقال زكاة، وإذا زادت على العشرين تضاعفت زكاتها على هذا المقياس، ويعد من قبيل الفضة والذهب أموال التجارة ونحوها. (1-3) زكاة الأثمار
وأما الأثمار فزكاتها تختلف باختلاف نوع سقايتها، فإذا كانت مما يسقى سيحا، أي أن الماء يأتيه من المطر أو الأنهر بلا تعب أو حمل، فزكاتها العشر، وإذا كانت مما يسقى بالتعب والرجال فنصف العشر، وفي كل حال لا تستحق الزكاة على الأثمار إلا إذا بلغت خمسة أوسق فما فوق، والوسق ستون صاعا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، ويدخل في حكم الأثمار النخل والكرم ونحوها. (1-4) زكاة الزروع
وأما الزروع، ويريدون بها الحبوب بأنواعها كالحنطة والأرز واللوبيا والحمص وغيرها، فلا تؤخذ عليها زكاة إلا بعد أن تبلغ خمسة أوسق، وحكمها في الزكاة مثل حكم الأثمار. (2) الجهات التي تصرف فيها الزكاة
وأما الجهات التي تصرف فيها أموال الزكاة فقد جاء ذكرها صريحا في القرآن، وهو:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ، وبناء عليه كانوا يقسمون أموال الزكاة إلى ثمانية أسهم، يدفعون سهما إلى الفقراء وهم الذين لا شيء لهم، والثاني للمساكين، وهم الذين لهم ما لا يكفيهم وهم أرفق حالا من الفقراء، وكانوا يجعلون نصيب كل واحد من هؤلاء بالنظر إلى حاله أو ما يكفيه، على ما يتراءى لولي الصدقات، بشرط أن لا يزيد ما يأخذه الواحد على 200 درهم، لأنه إذا أخذ أكثر من ذلك وجبت عليه الزكاة.
وقد جاء في تفسير البيضاوي أن الفقير من لا مال له يقع موقعا من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون، كأن العجز أسكنه.
والسهم الثالث يعطى للعاملين عليها، وهم القائمون بجبايتها وتفريقها، وفيهم الأمين والمباشر والمتبوع والتابع فيأخذون أجورهم، فإذا زاد سهمهم على ما يستحق لهم رد الباقي على السهام الباقية. والسهم الرابع يفرق للمؤلفة قلوبهم، وهم الذين كان النبي وخلفاؤه يتألفونهم لكف أذاهم عن المسلمين، أو لرغبتهم في الإسلام أو لترغيب قومهم وعشائرهم فيه كما تقدم، وإذا كان أحد المؤلفة قلوبهم غير مسلم لا يدفع له من الزكاة بل يدفع له من الغنائم أو الفيء. والسهم الخامس ينفق في شراء العبيد وعتقهم. والسادس للغارمين، وهم المدينون، فيعطى لهم ما يقضون به ديونهم. والسهم السابع في سبيل الله، يعطى الغزاة وأهل الجهاد نفقة ما يحتاجون إليه في حروبهم. والثامن لأبناء السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون نفقة سفرهم.
ويمتاز عمال الصدقات عن سائر عمال المال الآخرين أن عامل الصدقة يجوز له أن يقسم ما جباه بغير إذن، إلا إذا نهي عن ذلك عمدا، بخلاف أموال الفيء أو الغنيمة فإن عمالها ليس لهم أن يتصرفوا بالمال إلا بأمر الخليفة أو من يقوم مقامه من الولاة أو الوزراء. (3) الغنيمة
الغنيمة ما يكسبه المسلمون بالقتال، وتشتمل على أربعة أقسام: أسرى وسبي وأرضين وأموال، فالأسرى هم الرجال المقاتلون الذين يقعون في الأسر، ولهم في الشريعة الإسلامية شروط وأحكام اختلف الأئمة في تحديدها مما لا محل له هنا، وفي جملتها قبول الفدية وهي مال يفتدى به الأسير، فالمال المأخذوذ على هذه الصورة يضاف إلى باقي الغنيمة، وأما السبي فهم النساء والأطفال الذين يقعون في أيدي المسلمين، فلا يجوز قتلهم وإنما هم يفرقون في جملة الغنائم ويجوز قبول الفدية عنهم.
والأرض التي تؤخذ في الحرب إما أن تكون قد فتحت عنوة فأصبحت ملكا للمسلمين على أنها فيء، أو أن تدخل في حكم المسلمين صلحا على شروط فهي من قبيل الفيء، وباختلاف هذه الأحوال وما يشترك بينها اختلفت أنواع الضرائب عليها كالخراج والعشور ونحوهما. (4) الأموال
أما الأموال المنقولة فهي ما يمكن نقله كالماشية والمال، وهي تفرق في المقاتلة، وكانت تفرق في أول الإسلام بلا قاعدة، فكان النبي يقسمها على ما يراه، وأول غنائمهم غنائم بدر في السنة الثانية للهجرة، فتنازل المهاجرون والأنصار في اقتسامها، ففرقها النبي فيهم على السواء وهو كواحد منهم، ثم جاء الأمر بالتخميس في الآية:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأول غنيمة خمست على هذه الصورة غنيمة غزوة بني قينقاع بتلك السنة، فقسمت أموالها إلى خمسة أقسام تفرقت أربعة منها في المقاتلة، والخمس الخامس - وهو خمس النبي - قسم إلى خمسة أسهم: السهم الأول ينفقه على نفسه وأزواجه وفي مصالح المسلمين، والثاني يفرق على ذوي القربى، وهم بنو هاشم رهط النبي، وبنو عبد المطلب بن عبد مناف خاصة، ولا حق لأحد سواهم من قريش، والثالث لليتامى من ذوي الحاجات، ويستوي فيه حكم الغلام والجارية، والرابع يفرق في المسلمين الذين لا يجدون ما يكفيهم، والسهم الخامس لأبناء السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون ما ينفقون.
ويعد من قبيل الأموال أيضا الأسلاب، وهي ثياب القتلى وأسلحتهم، فهذه كانوا يفرقونها في المقاتلين، فيأخذ كل رجل أسلاب الذي قتله. (5) الأراضي
وأما الأراضي التي كانت تقع في أيديهم عنوة أو صلحا، فقد أراد بعضهم في صدر الإسلام أن يجعلها غنيمة تقسم بين الفاتحين مثل قسمة أموال الغنيمة، فأبى عمر بن الخطاب عليهم ذلك كما يتبين من كتاب كتبه إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح العراق ونصه: «أما بعد ... فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم الأرض بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به من العسكر من كراع ومال فاقسمه بين من حضر، واترك الأرضين والأنهار بعمالها لا يكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء».
فاعترض عليه بعضهم بأن الأرض حق لهم، لأنهم فتحوها بأسيافهم، فجادلهم وأقنعهم بأن يضع الخراج عليها والجزية على أهلها، ويكون كلاهما فيئا للمسلمين على ممر الأجيال، وبناء عليه وضع عمر الجزية والخراج على أرض العراق وغيرها من البلاد المفتوحة، ودون ذلك في السجلات على مثال ما كان الفرس والروم يدونون، وهو ما يعبرون عنه بتدوين الدواوين كما تقدم. (6) الفيء
هو سائر ما بقي من أموال بيت المال، وفي الشرع: «الفيء كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب»، ويدخل فيه الجزية والخراج والأعشار وغيرها، وكان للنبي خمس الفيء يقسم كما يقسم خمسه من الغنائم، فأصبحت حصته بعد موته من الفيء أيضا من حق بيت المال، وكانت الأربعة الأخماس الباقية من الفيء تقسم في صدر الإسلام على الجيش، وهم المهاجرون والأنصار، يفرق فيهم على السواء، حتى وضع عمر الديوان وقدر أرزاق الجند على ما ذكرناه، فأصبح الفيء يوضح في بيت المال، وينفق منه على الجند وغيرهم حقوقهم المعينة.
وقد رأيت فيما تقدم أن أهل الصدقات هم غير أهل الفيء والغنيمة، فلا تصرف الصدقات في أهل الفيء، ولا يصرف الفيء في أهل الصدقات، فإن الفيء والغنيمة لأهل الحرب والمجاهدين في سبيل الإسلام، وأهل الصدقات ليسوا من المقاتلة ولا هجرة لهم، وكان اسم الهجرة يطلق في الصدر الأول على من هاجر من وطنه إلى المدينة لطلب الإسلام، وكانت كل قبيلة أسلمت وهاجرت بأسرها تدعى «البررة»، وكل قبيلة هاجر بعضها تدعى «الخيرة»، فكان المهاجرون بررة وخيرة، ثم سقط حكم الهجرة بعد الفتح، وصار المسلمون مهاجرين وأعرابا، لأن أهل الصدقة كانوا يسمون على عهد النبي أعرابا، ويسمى أهل الفيء المهاجرين، ومن ذلك قول الشاعر:
قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الذربي
مهاجر ليس بأعرابي
وكان الخلفاء في صدر الإسلام يدققون في التمييز بينهما، فإذا أراد الخليفة أن يعطي طالبا لا يعطيه من مال الفيء إلا إذا كان العطاء عائدا إلى مصلحة المسلمين العامة، وإلا فإنه يعطيه من مال الصدقة، ويروون عن عمر بن الخطاب غير حكاية تدل على شدة تمسكه بهذه القاعدة، منها أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنه
اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنه
أقسم بالله لتفعلنه
فقال عمر: «إن لم أفعل يكون ماذا؟»، قال:
إذن أبا حفص لأذهبنه
قال «وإذا ذهبت يكون ماذا؟»، فقال:
يكون عن حالي لتسألنه
يوم يكون لا عطايا هنه
وموقف المسؤول بينهنه
إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال «يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، أنا والله لا أملك غيره!»، فجعل ما وصل به الأعرابي من ماله لا من مال المسلمين، لأن صلته لم تعد تقع على غيره فخرجت من المصالح العامة.
وكان مما نقمه الناس على عثمان أنه جعل الصلات من مال الفيء ولم ير الفرق بين الأمرين، ولما مضى زمن الهجرة وصار الإسلام دولة جوزوا صرف كل واحد من المالين في كل واحد من الفريقين، على حسب الاقتضاء، وازدادت موارد الفيء باتساع المملكة الإسلامية وتعددت أبوابها، وصاروا يعبرون عن الفيء بجباية الأعمال، وهو ما يجبى من أصناف الأموال، كالجزية والخراج والصدقات وأعشار السفن وأخماس المعادن والمراعي وغلة دار الضرب والمراصد والضياع والمستغلات إلخ ... وقد تقدم الكلام في الصدقات، وسنذكر أهم ما بقي من مصادر الفيء. (7) الجزية
الجزية والخراج متشابهان بأنهما يؤخذان من غير المسلمين، وهما من جملة أموال الفيء ويجبيان بأوقات معينة كل سنة، ولكنهما يختلفان بأن الجزية موضوعة على الرؤوس وتسقط بالإسلام، وأما الخراج فيوضع على الأرض ولا يسقط. (7-1) تاريخ الجزية
والجزية ليست من محدثات الإسلام، بل هي قديمة من أول عهد التمدن القديم، وقد وضعها يونان أثينا على سكان سواحل آسيا الصغرى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين، وفينيقية يومئذ من أعمال الفرس، فهان على سكان تلك السواحل دفع المال في مقابل حماية الرءوس، والرومان وضعوا الجزية على الأمم التي أخضعوها، وكانت أكثر كثيرا مما وضعه المسلمون بعدئذ، فإن الرومان لما فتحوا غاليا (فرنسا) وضعوا على كل واحد من أهلها جزية يختلف مقدارها ما بين 9 جنيهات و15 جنيها في السنة، أو نحو سبعة أضعاف جزية المسلمين، ولم تكن الجزية كبيرة بهذا المقدار في كل البلاد التي افتتحها الرومان، ولكنهم يعللون كبرها في غاليا ونحوها أنها كانت تؤخذ من الأشراف، عنهم وعن عبيدهم وخدمهم، وكان الفرس أيضا يجبون الجزية من رعاياهم، ويؤيد ذلك ما أورده ابن الأثير في كلامه عما فعله كسرى أنوشروان في الخراج والجند، قال «وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والمرازبة والكتاب ومن في خدمة الملك، كل إنسان على قدره اثني عشر درهما وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم»، فالظاهر أن العرب أخذوهها عن الفرس لفظا ومعنى، فعربوا لفظها حتى صار «جزية» وعدلوا في كيفية جمعها كما رأيت، وقد رفعوها عن المسلمين كما فعل كسرى أيضا، لأن المسلمين عندهم هم الجند والعظماء وأهل البيوتات الذين استثناهم كسرى من الجزية، وأهل اللغة يعدون لفظ الجزية مشتقا من جزاه به وعليه، كافأه. (7-2) مقدار الجزية
أما الجزية في الإسلام فقد كان النبي يقدرها بحسب الأحوال، وعلى مقتضى التراضي الذي كان يقع بين المسلمين وأعدائهم، فلما صالح أهل نجران تراضوا على جزية مقدارها 2000 حلة في صفر و1000 في رجب، ثمن كل حلة أوقية والأوقية أربعون درهما وصالح أهل أذرح على مائة دينار كل رجب، وصالح أهل مقنا على ربع أخشابهم وغزوهم وكراعهم ودروعهم وثمارهم، وصالح غيرهم من يهود جزيرة العرب على نحو ذلك.
وما زالت الجزية بلا تعيين إلى آخر أيام أبي بكر، فلما تولى عمر وكثرت الفتوح عين مقدارها، فكتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه الموسى، وأن يجعلوها على أهل الفضة كل رجل أربعين درهما، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير ، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدان حنطة، وثلاثة أقساط زيتا كل شهر لكل إنسان في الشام والجزيرة.
ثم تعدلت فتعينت باعتبار درجات الناس ومقدرتهم، فوضعوا على الظاهر الغنى 48 درهما تدفع أقساطا 4 دراهم في كل شهر، وعلى أوسط الحال 24 درهما كل شهر درهمان، وعلى الفقير 12 درهما كل شهر درهم، ولا يؤخذ شيء من النساء والصبيان ولا من أهل العاهات ولا من الرهبان الذين لا يخالطون الناس، إلا البلاد التي عقدت شروط الجزية عليها باتفاق خاص، كما عقد صلح مصر مع عمرو بن العاص، على أن يدفع القبط دينارين عن كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وعليهم إضافة من ينزل عليهم من المسلمين ثلاثة أيام، وغير ذلك.
وكثيرا ما كانوا يقدرون الجزية باعتبار ما يبقى في أيدي الناس من دخلهم بعد نفقاتهم، كما وقع لأهل الجزيرة بالعراق، فقد كان الذي فتحها عين جزيتها دينارا على كل رأس، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك فبعث إلى عامله هناك فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها، وطرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها، فوجد الذي يحصل بعد ذلك أربعة دنانير لكل واحد، فألزمهم دفعها وجعل الناس طبقة واحدة.
والجزية تضرب كما قلنا على غير المسلمين، فمن أسلم سقطت عنه، إلا في أيام عبد الملك بن مروان فإن الحجاج وضعها على من أسلم من أهل الذمة، وخاطب عبد الملك أخاه عبد العزيز عامله على مصر يومئذ أن يضعها على من أسلم، فشاور عبد العزيز ابن حجيرة أحد خاصته فأعظم الأمر وقال «أعيذك بالله أن تكون أول من سن ذلك بمصر، فوالله إن أهل الذمة ليتحملون جزية من ترهب منهم، فكيف تضعها على من أسلم منهم؟» فتركهم، فلما تولى عمر بن عبد العزيز التقي الشهير أبطل ذلك من العراق، ولم توضع الجزية على مسلم بعد ذلك.
وتقبل الجزية من غير المسلمين أيا كانوا، إلا إذا كانوا من العرب عبدة الأوثان أو من المرتدين، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، أما النصارى واليهود والمجوس وعبدة الأوثان من العجم فيقبل منهم الإسلام أو الجزية أو السيف.
والقصد من ذلك توحيد أمة العرب، فأباد النبي الوثنية من جزيرة العرب في حياته، ولما تولى عمر أخرج من كان باقيا فيها من النصارى اليهود، وقد قلنا: إن الجزية لا توضع إلا على من بلغ الحلم من الأصحاء، ومعنى ذلك أنها بدل من القتال، أي أن دافعها لا يدعى إلى القتال، ويشبهها من هذا القبيل ما كان يدفعه نصارى المملكة العثمانية من الضريبة المعروفة بالعسكرية قبل إعلان الدستور، وكانت تدفع في مقابل إعفاء النصارى من الجندية. (8) الخراج (8-1) تاريخه
الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، وهو أقدم أنواع الضرائب، والأصل في وضعه أن الناس كانوا يعتبرون الأرض ملكا للسلطان أو الملك، وهذا الاعتقاد قديم جدا، وفي التوراة أقوال صريحة في كيفية دخول الأرض في ملك الفراعنة، وردت في حكاية المجاعة الشهيرة في الفصل السابع والأربعين من سفر التكوين، لما جاع المصريون في أثناء القحط فباعوا يوسف كل ما اقتنوه من فضة وذهب وماشية، ولم يبق لهم إلا الأرض فباعوه إياها بالخبز.
وهكذا كان شأن الأرض في كل الممالك القديمة، فالأرض للملك والأهالي إنما يتمتعون بريعها، وللحكومة حصة من ذلك الريع وهو الخراج، ومن عادات التتر أن الإنسان يستأثر بملك الماشية، وأما الأرض فأنكروا حق تملكها على الأفراد، وكان الجرمان القدماء لا يعترفون بملك الأرض إلا لحكامهم أو رؤسائهم، فكان رئيس القبيلة يوزع أراضيها على أفرادها، وفي السنة التالية توزع عليهم بالتناوب، بحيث إن القطعة الواحدة لا يستغلها الرجل الواحد سنتين متواليتين، ومثل هذه العادة لا تزال إلى اليوم شائعة في بعض شعوب الصقالبة.
وعلى هذا المبدأ كان الرومان يضعون الضرائب على أراضي مملكتهم، وفي جملتها مصر والشام وغيرهما مما فتحه المسلمون من بلادهم، وكان لهم في كل ولاية ديوان خاص بالخراج تدون فيه أعماله ودخله وخرجه، وله كتاب وجباة وعمال من أهل البلاد أو من الحكام، وكان نحو ذلك حال الفرس في العراق وفارس، لأن الفرس اقتبسوا كثيرا من قوانين اليونان والرومان. (8-2) ديوان الخراج
فلما ظهر المسلمون وفتحوا الشام ومصر والعراق وغيرها، أقروا الدواوين على ما كانت عليه من قبل ولم يغيروا فيها شيئا، وظل كتاب الدواوين من أهل البلاد أنفسهم من النصارى والمجوس، كما كانوا في عهد الدول السابقة، فكان عمال ديوان الخراج في مصر الأقباط، ويكتبون ديوانهم بالقبطية، وعمال ديوان الشام الروم، وكانوا يكتبونه بالرومية، وديوان العراق يكتبه الفرس بالفارسية، والعرب يراقبون أعمال الدواوين ويستولون على جبايتها، كأنهم لم يريدوا بفتح البلاد امتلاكها لرغبهم يومئذ في الدين عن الدنيا، فلما صار الأمر إلى بني أمية، وانتقل المسلمون من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتابة والحساب، غيروا الدواوين إلى لسانهم، وسلموا أمورها إلى رجال من المسلمين، وأول من فعل ذلك منهم عبد الملك بن مروان (نحو سنة 81ه) فصارت الدواوين عربية من ذلك الحين، وربما كان عبد الملك البادئ بذلك التغيير، ثم أتمه من جاء بعده، لأن ديوان مصر تم نقله إلى العربية على عهد الوليد بن عبد الملك سنة 87ه.
وأما الحجاز فقد كان ديوانه في المدينة على ما وضعه عمر بن الخطاب، كما ذكرناه في محله، وهو أشبه أن يكون ديوان الجند أو ديوان الأعمال والجبايات، لأنه دون فيه أسماء الصحابة وعين أعطياتهم وطبقاتهم، وضبط ما يرد على المدينة من بقايا الخراج والجزية، بعد دفع نفقات الجند في مصر والعراق.
وكان الخلفاء هم الذين يتولون النظر في أمر الخراج، ويراقبون سير الجباية، فلما أفضى الأمر إلى الدولة العباسية وضعوا ديوانا مركزيا للخراج يشمل ما تحته من دواوين الأعمال - وضعه السفاح وعهد أمره إلى خالد بن برمك جد البرامكة، وكان ذلك أول خطوة لتداخل البرامكة في شئون الدولة وتصرفهم في أموالها، وكان في جملة تصرفهم فيها أنهم كانوا يضمنون مبلغ الخراج لأولادهم وأهليهم، كما ضمن يحيى بن برمك في أيام المهدي خراج فارس وانكسر عليه المال، وأصبح ديوان الخراج في أيدي الوزراء مثل غيره من الدواوين، حتى إذا ضعفت الدولة العباسية وصارت أمورها إلى الأمراء أبطلت الدواوين في أيام الراضي بالله. (8-3) تقدير الخراج
قلنا فيما تقدم إن العرب أقروا الخراج دواوينه وسائر أحواله على ما كان عليه في أيام الدول السابقة (الروم والفرس) ويؤخذ مما ذكره المقريزي أن جباية خراجهم كانت بالتعديل، وهو ما يعبرون عنه بالمقاسمة - إذا عمرت القرى وكثر أهلها زيد خراجهم، وإن قل أهلها وخربت نقصوه.
وكانت جباية الشام على نحو ذلك أيضا، وأما الفرس فكانوا يأخذون خراج أرضهم بالمقاسمة، حتى مسحه قباذ بن فيروز قبل الإسلام وجعله بالمساحة، فضرب على الجريب الواحد درهما وقفيزا (الجريب 3600 ذراع مربع) مهما يكن حاله من الخصب أو الجدب، فلما فتح المسلمون البلاد عدلوا في الخراج على ما اقتضته الأحوال في سائر البلاد، ولهم قوانين عامة في الأرضين فالأرض في الإسلام أربعة أقسام: (1)
أرض استأنف المسلمون إحياءها، فهي أرض عشر، للإمام عشرها وتعد من قبيل إحياء الموات. (2)
أرض أسلم أهلها عليها، فهم أحق بها، وهي أيضا أرض عشر. (3)
أرض ملكها المسلمون عنوة، فهي غنيمة لهم، وتعد أيضا من أرض العشر. (4)
أرض صولح أهلها عليها، وهي الأرض المختصة بالخراج، وخراجها لا يبطل ولو أسلم أهلها.
وقدر الخراج على هذه الأرض يعتبر بما تحمله، فلما فتحت العراق وضع عمر على سواده مثل ما كان الفرس قد وضعوه عليه، وهو عن كل جريب من الأرض قفيز ودرهم، والقفيز عشر الجريب أي 360 ذراعا مربعا، وضرب عمر على ناحية أخرى بطريقة أخرى، فجعل مقدار الخراج تابعا لنوع المحصول، فأمر عثمان بن حنيف بالمساحة فمسح، ووضع على كل جريب من الكرم والشجر الملتف عشرة دراهم، ومن النخل ثمانية دراهم، ومن قصب السكر ستة دراهم، ومن الرطبة خمسة دراهم، ومن القمح أربعة دراهم، ومن الشعير درهمين، فقبل عمر بذلك، وظلت أرض العراق بالمساحة أو التوظيف أو الوظيفة، إلى أيام المنصور العباسي فعدل إلى المقاسمة، لأن السعر نقص فلم تكن الغلات تفي بخراجها، وخرب السواد فجعله مقاسمة إذا زادت الغلة زاد الخراج، وتقدير خراج المقاسمة مفوض إلى الخليفة، لكنه لا يزيد على نصف الغلة ولا يقل عن خمسها.
ملكية الأرض
أما ملكية الأرض فظلت كما كانت عليه في أول الإسلام، أي أن الأرض ملك الإمام وأن الناس يستغلونها وللحكومة حق من غلتهم، ما عدا بعض الأراضي الممتازة مما يسمونه الأواسي أو الرزقة أو نحوهما، مما لا محل لتفصيله هنا، حتى دخل القرن التاسع عشر وجرت الإصلاحات السياسية في المملكة العثمانية وفي جملتها مصر، فإنها لما دخلت في حوزة محمد علي في أوائل القرن الماضي رأى أن الأحوال لا تستقيم والفلاح لا يعمل في أرضه إلا إذا كانت ملكا له، وكانت لما تولاها محمد علي قد أصبحت التزامات يلتزمها بعض وجهاء الناس وأهل الغنى والنفوذ، ويستخدمون الفلاحين فيها ويستغلونها فيدفعون مال الحكومة ويستأثرون بما بقي، فقسم محمد علي مصر إلى مديريات، والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواح، وعين فيها موظفين لإدارة أمورها، وجباة لجمع الضرائب، وأبطل الالتزامات ووزع أراضي كل ناحية بين أهل تلك الناحية نفسها، بحيث إن كل فلاح قادر على الشغل أصابه قسم من الأرض بقدر قسم الآخر.
فلما تولى الخديو سعيد أصدر لائحته الشهيرة المؤرخة في 5 أغسطس سنة 1858 فتمم ملكية الأرض للأهالي وجعلها إرثا شرعيا في ذرياتهم، وأصبحت الأرض المصرية ملكا للمصريين من ذلك الحين، وجرى نحو ذلك في سائر بلاد الدولة العثمانية، لأن الخليفة العثماني صادق على لائحة سعيد بخط همايوني في هذا المعنى.
ارتفاع الخراج
ويراد به مقدار ما يجتمع من خراج البلاد في كل عام، وهو أمر يعسر تعيينه لاختلافه باختلاف الزمان والمكان، ولأن مؤرخي العرب كثيرا ما يجمعون بين الجزية والخراج في تقدير الخراج، فيقولون ارتفاع الخراج، ويريدون به الخراج والجزية جميعا، والجزية أقل من الخراج وأقل ثباتا منه، لما يدخل من أهل الذمة في دين الإسلام بتوالي الأزمان، وربما أدخلوا في الخراج أيضا العشور ونحوها، ونحن ذاكرون فيما يلي أمثلة من جباية أعمال المملكة الإسلامية في عصر بني أمية:
فالسواد بلغ ارتفاع خراجه في أيام عمر بن الخطاب (سنة 20ه) 120000000 درهم، وفي أيام عبيد الله بن زياد (نحو سنة 62ه) 135000000 درهم، وفي أيام الحجاج بن يوسف (سنة 85ه) 188000000 درهم، وجباه عمر بن عبد العزيز (سنة 100ه) 120000000 درهم، وكان ابن هبيرة بعده يجبيه 100000000 درهم سوى طعام الجند وأرزاق المقاتلة، ثم كان يوسف بن عمر يحمل منه إلى دار الخلافة 60000000 درهم إلى 70000000 وينفق على من معه من جند الشام 16000000، وعلى البريد 4000000، وعلى الطوارق 2000000 درهم، ويبقى عنده للنفقة على بيوت الأحداث والعواتق 10000000، فكان مجموع جباية السواد على أيامه نحو 100000000 درهم.
أما مصر فقد جباها عمرو بن العاص 12000000 دينار، ولكن يظهر من عبارة المقريزي أنها مبلغ الجزية وحدها على الجماجم، على فريضة دينارين من كل رجل، قال: وجباها بعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح 14 مليونا، وقل خراجها في أيام بني أمية، حتى إذا كانت أيام هشام بن عبد الملك (105-127ه) انتبه لها، فبعث إلى عامله على خراجها وأمره أن يمسحها، فخرج بنفسه فمسح العامر والغامر مما يركبه ماء النيل، فوجد مساحة ذلك 30000000 فدان
1
سوى ارتفاع الجرف ووسخ الأرض، فعدلها فعقدت معه 4000000 دينار، وكان السعر راخيا، وجباها أسامة بن زيد في خلافة سليمان بن عبد الملك (سنة 97ه) 12000000 درهم، واختلف مقدار الجباية بمصر بعد ذلك، وضعف أمرها خصوصا لما صارت إلى بني العباس، وبعد مركز الخلافة عن وادي النيل، حتى انحط خراجها إلى 800000 دينار، فلما تولاها ابن طولون (سنة 257ه) استقصى عمارتها فبلغت جبايتها 4300000 دينار، مع رخص الأسعار، فقد كان القمح كل عشرة أرادب بدينار، وظل خراجها نحو ذلك في سائر أيام بني العباس.
وأما الشام فقد بلغ خراجها في أيام عبد الملك بن مروان 1700000 دينار، منها 180000 من الأردن، و350000 من فلسطين، و400000 من دمشق، و800000 من حمص وقنسرين والعواصم.
تضمين الخراج
تضمين الخراج نوعان: (1)
تضمينه للعمال، أي الولاة الذين يتولون الأمصار، وهو باطل في الشرع الإسلامي، لأن العامل مؤتمن يستوفي ما وجب ويؤدي ما حصل، فهو كالوكيل الذي أدى الأمانة، لم يضمن نقصانا ولم يملك زيادة، وكان الصحابة في صدر الإسلام يشددون في منع هذا التضمين: حكي عن ابن عباس أن عاملا أتاه يتقبل منه الأبلة بمائة ألف درهم فضربه مائة سوط وصلبه حيا تعزيرا وأدبا، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكا أغضوا عن هذا الأمر، وصار الخلفاء يضمنون الخراج لعمالهم أحيانا، فيعطون بخراج أعمالهم مالا معينا، ثم يجبون البلاد ويستولون على ما يفضل مهما كان مقداره، كما فعل يحيى بن برمك وغيره، وتطرقوا بعده إلى تضمين القضاء والحسبة والشرطة كما سترى. (2)
تضمين الخراج للملتزمين، وهم أناس من أهل الغنى أو النفوذ كانوا يتقبلون الأراضي، أي يضمنونها من متولي الخراج بمال معين يقع عليه بالمزايدة، فيضمن الواحد قرية أو بلدا أو كورة فيزرعها ويستغلها، ويدفع ما عليها من الخراج ويستولي على الباقي، وضمانة الأراضي أو التزامها على هذه الصورة ليس من مخترعات الإسلام، بل هو قديم من أيام اليونان، وقد شاع في المملكة الرومانية وكان في جملة ما اقتبسه العرب عنهم، وظل ضمان الأراضي على هذه الصورة شائعا في المملكة الإسلامية إلى عهد قريب، وقد مرت عليه أدوار تقلب فيها على أشكال وضروب، ومن هذا القبيل ضمان الأعشار في المملكة العثمانية. (8-4) ضرائب أخرى
توابع الخراج
وكان من موارد الأموال في الإسلام، غير خراج الأراضي وعشورها والصدقات والجزية، أعشار السفن وأخماس المعادن والمراعي وغلة دار الضرب والمراصد والضياع وأثمان الماء وضرائب الملاحات والآجام، وغيرها مما يعد من قبيل الخراج.
أما أعشار السفن فكانوا يضربونها على السفن التي تمر ببعض الثغور، فيأخذون عشرا مما تحمله إما عينا أو نقدا، فقد كان عمال اليمن يأخذون هذه الضريبة من السفن التي تمر بسواحلهم قادمة من الهند، تحمل الأعواد المختلفة والمسك والكافور والعنبر والصندل والصيني فيأخذون الضريبة عينا، وقد بلغت أعشار السفن في أيام الواثق بالله مالا كثيرا.
وكان الأندلسيون يضربون على السفن التي تمر ببوغاز جبل طارق في ذهابها وإيابها، فكان الإفرنج أو غيرهم إذا مروا بسفنهم أدوا الضريبة في مدينة هي في أقصى بلاد الأندلس جنوبا يقال لها طريف واسمها الآن طريفة
Tarifa ، ويزعم الإفرنج أن كلمة
Tarrif - التي تدل عندهم على الضرائب أو الرسوم التي تؤخذ على البضائع في دخولها البلاد وخروجها، أو الكتاب المتضمن بيان لائحة الأثمان - أنها تحريف «طريف»، ثم أهمل اللفظ الأول وبقي اللفظ الثاني، مع أن لفظ «تعريفة» في العربية يدل على نحو معناها الإفرنجي، فيجوز أن اللفظ الإفرنجي منقول عن لفظ تعريفة العربي أو تحريف «طريف» كما يقولون.
وأما أخماس المعادن فهي ما كانوا يضربونه على ما يستخرج من باطن الأرض من معدن أو نحوه، وهي نوعان: معادن ظاهرة، ومعادن باطنة، والمعادن الظاهرة كالكحل والملح والقار والنفط، فهذه المعادن مباحة في الشرع الإسلامي كالماء الجاري من العيون لا يجوز احتكارها، والناس فيها سواء يأخذها من ورد إليها، وأما الباطنة، فهي ما كان جوهرها مستكنا فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، فهذه المعادن كانوا يقطعونها لأناس يستخرجون ما فيها على أن يؤدوا الخمس لبيت المال.
وغلة دار الضرب هي ما يخصص لبيت المال من دار الضرب، باعتبار شيء في المائة كما ذكرنا في كلامنا عن دار الضرب من هذا الكتاب، وقد بلغت غلة دار الضرب في عهد بني مروان بالأندلس 200000 دينار في السنة.
ومن الضرائب التي كانت تؤخذ في الإسلام المكوس، واحدها مكس، وهو ضريبة تضرب على أصناف التجارة من قبيل ما يعرف اليوم بالجمرك أو الفردة (الفرضة) أو نحوها، وكان المكس، أو المقس، شائعا في الجاهلية، فكان يؤخذ من تجار القبط والفرس في المدينة عشر متاجرهم، فلما ظهر الإسلام أقره عمر بن الخطاب
2
وكانت هذه الضريبة لا تؤخذ من التاجر إلا إذا انتقل من بلاده إلى بلاد أخرى، فالشامي إذا طاف بلاد الشام كلها بتجارته لا يؤخذ منه عشر أو مكس، وأما إذا انتقل إلى مصر أو العراق فيؤخذ منه المكس، والمكس على ما فرضه عمر ثلاث درجات : يؤخذ من أهل الذمة (النصارى واليهود) نصف العشر، أي من كل عشرين درهما درهم، ومن المسلم ربع العشر، أي من كل 40 درهما درهم، وليس فيما دون المائتين شيء، ويؤخذ من العربان الذين ليسوا من الرعايا العشر كاملا، ولم يرج المكس في الإسلام، لأن أهل الورع كانوا يكرهونه، وقس على ذلك ما بقي من أنواع الضرائب. (8-5) الإقطاع
ومما يلحق بالخراج أيضا مال القطائع، والإقطاع قديم في الأول، وأصله أن الملك إذا فتح بلادا وأراد استبقاءها واستغلالها، فرقها على قواده في مقابل حربهم وأتعابهم كأنها أجرة لهم، ويؤيد ذلك أن أصل لفظ الإقطاع في الإفرنجية معناه الأجرة، والقواد يفرقون تلك الأرض في ضباطهم، وهؤلاء يفرقونها في العساكر أو من يقوم مقامهم، ويشترط الملك على قواده عند إعطائهم هذه الهبات أن يكونوا أمناء له في الحرب والسلم، فإذا خان أحدهم ونكث رجعت الأرض إلى واهبها، وإن كان الخائن جنديا صغيرا رجعت إلى ضابطه، أو كان ضابطا رجعت إلى قائده، وهكذا حتى ترجع إلى الملك، فكان من عواقب هذا المبدأ أن تبقى الأرض في أيدي الملوك، بشروط وأساليب وضعوها لذلك لا محل لاستيفائها هنا ، وبمقتضاها يكون الملك ورعيته وجنده يدا واحدة في الدفاع عن البلاد لاشتراك مصالحهم وتبادلها فيها، وانتشر مذهب الإقطاع في ممالك أوربا.
أما في الإسلام فالإقطاع كان على كيفية أخرى، ويؤخذ مما كتبه الإمام أبو يوسف، أن الأرض التي تقع في أيدي المسلمين وليس لها مالك يطالب بها - كالأرض التي تكون لحاكم البلاد قبل فتحها، أو تكون لرجل قتل في الحرب، أو أن تكون من مغيض ماء أو نحو ذلك - فهذه الأصناف من الأرض كان الخلفاء الراشدون يجيزون إقطاعها لمن شاءوا، على أن يؤدي عشر مالها لبيت المال أو أكثر أو أقل، على ما يتراءى للخليفة، فبلغ خراج البقاع التي دخلت تحت هذه الشروط من أرض السواد في أيام عمر 7000000 درهم، وجرى على نحو ذلك من جاء بعده من الخلفاء والأمراء، فبلغت غلتها في أيام عثمان 50000000 درهم، فلما كان عام الجماجم سنة 82ه في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث أحرق الديوان، فاستولى كل قوم على ما كان في أيديهم.
وكان بنو أمية وبنو العباس يقطعون الأرضين لبعض خواصهم وأهلهم، فلا يأخذون عليها خراجا، فتؤخذ أعطيات الجند وسائر النفقات من مال الخراج، ويحمل ما فضل إلى بيت المال، والقطائع تبقى في أيدي أصحابها.
فلما خرجت السلطة من الخلفاء وأفضت إلى السلاطين السلجوقية، جعلوا الإقطاع عاما على يد نظام الملك، كما تقدم في الكلام عن أعطيات الجند، واقتدى به سائر السلاطين بعده وفي جملتهم الأكراد، دولة بني أيوب بمصر، فإن السلطان صلاح الدين جعل البلاد كلها إقطاعا لأمرائه وجنده، وخصوصا مصر، ثم تعدل الإقطاع بعد ذلك وتبدل، فصارت بعض الأرض إقطاعا وبعضها مبيعا وبعضها موقوفا، ووصف المقريزي أرض مصر في أيامه (في القرن التاسع للهجرة) فقال: إنها تقسم إلى سبعة أقسام: قسم يجري في ديوان السلطان، وقسم أقطع للأمراء والأجناد، وقسم جعل وقفا محبسا على الجوامع والمدارس والخوانك وعلى ذراري واقفي تلك الأرض، وقسم يقال له الأحباس وهي أراضي في أيدي قوم يأكلونها عن قيامهم بمصالح مسجد أو نحوه، وقسم صار ملكا يباع ويشرى ويورث ويوهب، لأنه مشترى من بيت المال، وقسم لا يزرع للعجز عن زراعته، وقسم لا يشمله ماء النيل فهو قفر.
والإقطاع ضربان: إقطاع استغلال، وإقطاع تمليك، وهما يختلفان باختلاف نوع الأرض من الخراب والخصب، وحالها من الحرب والصلح والفتح ورأي الخليفة في كل ذلك.
وسنفصل الكلام في مقدار جباية الدولة في أيام العباسيين، وعلاقة ذلك بثروة المملكة في كلامنا عن ثروة المملكة الإسلامية، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
البريد
يراد بالبريد في الدول الإسلامية غير ما يراد به الآن، فقد كان صاحب البريد أو صاحب الخبر أشبه برئيس البوليس السري، أو رقيب أصحاب الأعمال، أو هو عبارة عن جاسوس الخليفة أو الأمير، أو عينه الباصرة وأذنه السامعة، ينقل إليه أخبار عماله أو مساعي أعدائه، فالبريد من هذا القبيل أشبه بقلم المخابرات.
وكان الخلفاء لا يولون البريد إلا ثقتهم من أهل التعقل والدراية، لأن على ما ينقلونه من الأخبار تتوقف علاقات الخلفاء بعمالهم أو بمعاصريهم، وكان كسرى لا يولي البريد إلا أولاده. (1) ولاية البريد
وولاية البريد قديمة، كانت عند الفرس والروم، وأول من اتخذها من المسلمين معاوية بن أبي سفيان، اقتداء بما كان قبله في الشام أو ما أشار عليه به عماله في العراق، وكان الغرض منه في أول وضعه، سرعة إيصال الأخبار بين الخليفة في الشام وعماله في مصر العراق وفارس، ثم توسعوا فيه حتى جعلوه عينا للخليفة على عماله وسائر رجال دولته، فإن طاهر بن الحسين لما قطع الخطبة للمأمون على منبر خراسان، عاتبه صاحب البريد فاعتذر أنه سهو وقع منه، وتقدم إليه أن لا يكتب إلى الخليفة به، وتكرر ذلك منه ثلاث مرات وطاهر يتقدم إليه أن لا يكتب، فقال له صاحب البريد «إن كتب التجار لا تنقطع من بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيرنا لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي»، فقال «اكتب إليه»، فكتب.
وكان البريد واسطة العلاقة بين الولاة والخليفة، ينقل أوامر الخلفاء إلى ولاتهم وأخبار الولاة إلى خلفائهم، وكان أصحاب البريد رقباء أو مفتشين من قبل الدولة، يرفعون التقارير عن أحوال الجند أو المال أو غير ذلك من أمور المملكة، فإذا تكدرت العلائق بين العامل (الوالي) والخليفة، وأراد العامل أن يستقل أو يتمرد، قطع البريد عن الخليفة، كما فعل المأمون لما سمع وهو وال في خراسان أن أخاه الأمير نقض بيعته وبايع ابنه موسى بولاية العهد بعده، فإنه أسقط اسم الأمين من الطراز وقطع البريد عنه.
وكان بنو العباس أكثر الناس عناية في أمر البريد، وبالغوا في استخدامه حتى نسب إلى بعضهم مباشرة ذلك بنفسه للاطلاع على أحوال ولاته ونوابه ورعيته، وربما تطلعوا به على أحوال العوام وآحاد الناس، وقد رتب بعض الخلفاء ذلك جهارا، فعين مع وزيره صاحب خبر من الثقات ينهي إليه ما يجري في مجلسه، فلا يحسن الوزير لأحد ولا يجتمع به أحد من الناس إلا بحضور ذلك الشخص، وكذلك فعل مع القاضي والنائب وجمع ولاة الأعمال، وكان أبو جعفر المنصور يقول «ما أحوجني أن يكون على بأبي أربعة نفر لايكون على بابي أعف منهم، وهم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية» ثم عض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة «آه! آه!»، قيل «ما هو يا أمير المؤمنين؟»، قال «صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة».
فأصحاب الأخبار هنا بمعنى جواسيس هذه الأيام، ولم يكن بين صاحب البريد والخليفة أو السلطان أو الأمير واسطة، فإذا جاء صاحب البريد بخبر لا يطلع أحدا عليه قبل إنهائه إلى الخليفة، ليكون هو الذي يشيعه أو يكتمه على ما يراه.
وقد يجعل الملوك أو الأمراء بينهم وبين صاحب بريدهم علامة يتفقون عليها سرا، فلا يعتمد أحدهم كتاب صاحب بريده إلا إذا كانت فيه تلك العلامة - ولو كان الكتاب بخط صاحب البريد نفسه وخاتمه - إذ قد يفعل ذلك بالرغم عنه، نحو ما فعل أبو مسلم الخراساني لما دعاه المنصور إليه من خراسان إلى بغداد، وخاف أبو مسلم عاقبة تلك الدعوة فاستخلف أبا نصر مالك بن الهيثم على عسكره وقال له «أقم حتى يأتيك كتابي، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا ختمته، وإن أتاك بالخاتم كله فلم أختمه»، فلما جاء أبو مسلم إلى المنصور في المدائن وكان ما كان من قتله، كتب المنصور إلى أبي نصر عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ما خلف عنده وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه.
ومصلحة البريد ولاية جليلة خطيرة، يحتاج صاحبها إلى عمال عديدين وإلى نفقات طائلة للتوسعة عليهم حتى يظلوا على أمانتهم، وكان في جملة واجبات صاحب البريد حفظ الطرق وصيانتها من القطاع والسراق، وطرق الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر، وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف، وهو يوصلها في أسرع ما يمكن من اختصار الطرق واختيار المراكب. (2) طرق البريد
وكان للبريد طرق تتشعب من مركز الخلافة إلى أطراف المملكة، حتى تتصل بطرق الممالك الأخرى، وتنقسم كل طريق إلى محطات أو مواقف فيها أفراس أو هجن، فيستبدل عمال البريد أفراسهم بأفراس مستريحة في كل موقف، التماسا للسرعة، وكان الغالب في العرب أن يتخذوا الجمال لبريدهم، وأما الفرس فكانوا يستخدمون الخيل.
وبلغ عدد سكك البريد في إبان الدولة العباسية 930 سكة، ونفقات الدواب وأثمانها وأرزاق رجالها 159100 دينار في السنة، وقد رأيت في كلامنا عن خراج السواد في أيام بني أمية أنه كان ينفق على البريد أربعة ملايين درهم، أي نحو ضعفي ذلك، وهو يؤيد ما قلناه غير مرة عن بذل بني أمية الأموال في سبيل تأييد سلطانهم.
وكان قطار البريد يتألف من دابة فأكثر، حتى تبلغ أربعين أو خمسين دابة، وكثيرا ما كانوا يستخدمون خيل البريد لحمل بعض الناس إلى الخليفة أو الأمير، التماسا لسرعة قدومهم، وتختلف سرعة البريد باختلاف الطرق ونوع المراكب، بين أن تكون إبلا أو خيلا، وكانوا يعلقون في أعناق الدواب جلاجل أو سلاسل، إذا تحركت سمعت لها قرقعة تعرف عندهم بقعقعة البريد، وقد ترسل البريد على السفن في البحار.
ومن طرق المخابرة بالبريد، غير نقل الخرائط على الدواب أو في البحار، إرسالها مع السعاة، وهم رجال خفاف تعودوا الجري والصبر على السير ثلاث مراحل في رحلة، وأهل البراري أنشط لذلك، وأول من أنشأ السعاة في الدولة العباسية معز الدولة، أنشأها في بغداد لإعلام أخيه ركن الدولة بالأحوال سريعا، ونبغ في أيامه ساعيان، اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش فاقا سائر السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفا وأربعين فرسخا، أي نحو 140 ميلا واتصل استخدام السعاة في سائر الدول الإسلامية. (3) حمام الزاجل
ومن وسائل المخابرة بالبريد حمام الزاجل، فقد كان له شأن عظيم عندهم، والمخابرة به قديمة جدا عند الأمم القديمة، ولكن المسلمين كانوا أكثر عناية من سواهم فيه ، ويقال: إن أول استخدامه كان في الموصل، ثم في مصر على عهد الفاطميين فالعباسيين، وكانت بين الإسكندرونة في سوريا وبين مدينة بغداد مخابرات متواصلة بحمام يسمونه حمام حلب، على أنهم لم يعتنوا به العناية الكافية، ولم ينشئوا له الإدارات الخاصة، إلا في العصور الإسلامية الوسطى، فإنهم بذلوا في ذلك عناية كبرى، ولا سيما مصر، فقد كان للمخابرة بالحمام أبراج في قلعة القاهرة على عهد الأيوبيين في القرن السابع للهجرة، وقد بلغ عدد الحمام المستخرج لهذه الغاية فيها ألفا وتسعمائة طائر، لها عمال يناط بهم أمر العناية بها، وكانت الطيور المذكورة لا تبرح الأبراج بالقلعة، وكان بكل مركز حمام في سائر نواحي المملكة بمصر والشام والعراق من أسوان إلى الفرات، فلا تحصى عدة ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية، وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات.
1 (4) طرق أخرى للمخابرة
ومن طرق المراسلة عندهم أن تكتب ورقة تعلق بقصبة، وتغرس القصبة في باقة حشيش وتلقى في الماء، فيعوم الحشيش ولا يزال جاريا بمجرى النهر حتى يراه المرسل إليه، ومنها أن تكتب الأخبار على السهام وترمى إلى المكان المراد إرسال الخبر إليه، ويغلب أن يكون ذلك في أيام الحصار وانقطاع السبل.
ومن طرق المخابرة بناء المناظر أو المنائر كالأبراج العالية على المرتفعات، ونقل الإشارات عليها بإشعال النار أو نحوه، فينتقل الخبر بها من منظرة إلى منظرة حتى تبلغ المكان المطلوب، وكان ذلك معروفا عند اليونان وغيرهم، واستخدمه الحجاج بن يوسف في الإسلام، فاتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهارا، وإن كان ليلا أشعلوا نارا، وكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فيصل الخبر في وقت قصير.
ومن عمال البريد - ما عدا السعاة - الشعوذي وهو رسول الأمراء على البريد، والكوهبانية وهم أصحاب الأخبار الذين يرسلون للاستطلاع، ورجال يتولون فض الخرائط بين يدي الخليفة، والخرائط أجربة أو أكياس من جلد توضع الكتب فيها وتختم بختم المرسل وتحمل إلى المرسل إليه، فيفض ختمها بيده أو بيد من يتولى ذلك عنه.
القضاء
(1) القضاء قبل الإسلام
القضاء - ويراد به منصب الفصل بين الناس في الخصومات - قديم، لأن الإنسان لم يستغن عمن يفصل في قضاياه من أول أزمان وجوده، وكان قضاة القبائل عقلاءها وكبراءها، وهم أيضا حكامها وأمراؤها، فكان الرجل إذا نبغ في عقله وقوته تولى حكومة قبيلته وحكم في قضاياها، وهو حال البدو على فطرتهم، وكذلك كان العرب في جاهليتهم، فقد كانوا يتقاضون إلى وجهائهم وعقلائهم، واشتهر من هؤلاء القضاة قبل الإسلام جماعة كبيرة يحكم كل منهم في قبيلته، فمن تميم حاجب بن زرارة والأقرع بن حابس وربيعة بن مخاشن، ومن ثقيف غيلان بن مسلمة، ومن قريش هاشم بن عبد مناف وعبد المطلب بن هاشم وأبو طالب بن عبد المطلب عم النبي والعاص بن وائل، ومن أسد ربيعة بن جدار، ومن كنانة سلمى بن نوفل، وغير هؤلاء ممن اشتهر في كل القبائل مثل أكثم بن صيفي وعامر بن الظرب وغيرهما، وكان العرب يتقاضون إلى الكهان والعرافين. (2) القضاء في الإسلام
وأما في الإسلام فأول من تولى القضاء رسول الله نفسه، ثم تولاه خلفاؤه، لأن القضاء من المناصب الداخلة تحت الخلافة، فكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلونه إلى من سواهم، حتى إذا اتسع سلطانهم وكثرت مهام مناصبهم، اضطروا إلى استنابة من يقوم عنهم بالقضاء في مركز الخلافة وفي الأعمال، وأول من فعل ذلك منهم عمر بن الخطاب، فولى أبا الدرداء معه في المدينة، وولى شريحا في البصرة، وولى أبا موسى الأشعري في الكوفة، وكتب إليه كتابا هو قاعدة الفقه الإسلامي، وعليه تدور أكثر أحكام القضاة إلى اليوم، وهذا نصه:
أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ساو بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قويم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه، فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماء، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإن الله - سبحانه - عفا عن الإيمان ودرأ بالبينات، وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم، فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم به الله الأجر ويحسن به الذكر والسلام.
1
أما مصر فالقضاء فيها كان موكولا إلى أمرائها، وهم الذين كانوا يولون قضاتها، وكان عمر بن الخطاب قد أراد أن يولي قاضي مصر، كما ولى قضاة المدينة والبصرة والكوفة، فكتب إلى عمرو بن العاص أن يولي القضاء كعب بن يسار بن ضنة، وكان ممن قضى في الجاهلية، فأبى كعب أن يقبل ذلك وقال «قضيت في الجاهلية ولا أعود إليه في الإسلام» فولى عمرو عثمان بن قيس بن أبي العاصي، وما زال أمير مصر هو الذي يولي القضاة حتى أفضت الخلافة إلى بني العباس، فأرادوا توطيد سلطانهم على مصر فجعلوا تولية القضاة إليهم، وأول قاض ولاه الخلفاء على مصر مباشرة عبد الله بن لهيعة الحضرمي، ولاه أبو جعفر المنصور سنة 155ه، ثم صارت تولية قضاة مصر إلى الخلفاء.
وكان القضاة أول الأمر يولون على الأقاليم قضاة من قبلهم، فيولون لكل ناحية قاضيا، فلما عمرت المملكة واتسعت، تعدد القضاة حتى صاروا يولون في المدن الكبرى عدة قضاة، كل قاض في جانب من جوانبها، والخليفة هو الذي يولي كلا منهم بنفسه، إلى زمن الرشيد وقد اتسعت بغداد في أيامه، ونبغ يومئذ القاضي أبو يوسف الشهير، وكان الرشيد يكرمه ويجله فدعاه قاضي القضاة، وهو أول من دعي بذلك ، وكان أبو يوسف عالي الهمة فخدم هذا المنصب خدمة جليلة وميز العلماء بلباس خاص بهم، وكانوا من قبله يلبسون مثل سائر الناس، وصار قاضي القضاة بعده هو الذي يولي قضاة مدينة بغداد، ثم صار يولي قضاة الأقاليم، واقتدى بالعباسيين من عاصرهم وخلفهم من الخلفاء في الأندلس ومصر، وصاروا يولون قاضي القضاة وهو يولي القضاة. (3) عمل القاضي
وكانت وظيفة القاضي في صدر الإسلام محصورة في الفصل بين الخصوم، ثم صاروا يتعاطون أمورا أخرى على ما تقتضيه الأحوال بحسب اشتغال الخلفاء بأمور السياسة، فأضيف إلى أعمال القاضي استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين، كالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم، وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء ... ثم امتدت سلطتهم أحيانا إلى النظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح، وتوسع بعض الخلفاء حتى جعل للقضاة قيادة الجهاد في عساكر الصوائف، منهم يحيى بن أكثم، فقد كان يخرج في أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، كذلك منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس، وولى العزيز بالله الفاطمي القاضي علي بن النعمان القضاء بمصر، وأضاف إليه قضاء الشام والحرمين والمغرب وجميع مملكة العزيز، والخطابة والإمامة والعيار في الذهب والفضة والموازين والمكاييل، ثم تولى القضاء أبو محمد البازوري سنة 441ه، وأضيفت إليه الوزارة، وهو أول قاض جمع بينهما ثم أضيفت إلى غيره بعده.
فترى مما تقدم أن منصب القضاء كان واسعا جدا، على أنه لم يكن كذلك في كل العصور، وإنما اختلف باختلاف الدول كما رأيت، ثم إن الخلفاء كانوا في أوائل الإسلام لا يولون القضاء إلا أهل عصبيتهم، من العرب أو مواليهم بالخلف أو بالرق أو بالاصطناع، ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، فلما تحولت الخلافة الإسلامية من الغرض الديني إلى الغرض السياسي، وصار الأمر كله ملكا أو سلطانا، ضعف هذا الشرط، ثم تحولت أزمة الأحكام إلى الأعاجم، فتقاصرت واجبات القاضي بالتدريج إلى الفصل بين الخصوم والحكم في الأحوال الشخصية، ثم انحصرت في الأحوال الشخصية بالمحاكم الشرعية كما هو اليوم.
وكان القضاة يجلسون في المساجد للحكم بين الناس فإذا جاءهم الخصوم حكموا بينهم هناك، وكانوا يعدون القضاء من الأعمال الشاقة الخطرة بالنظر إلى الدين، لما فيه من تحمل التبعة فيما قد يخطئ به القاضي، فيحكم على صاحب الحق فيظلمه وهو مسؤول عنه، فكثيرا ما كان العلماء ورجال التقوى يأبون ولايته، كما رأيت في أمر كعب بن يسار لما ولاه عمر قضاء مصر، وكما فعل الإمام أبو حنيفة النعمان لما أراد أبو جعفر المنصور أن يوليه القضاء فإنه قال له «اتق الله ولا ترع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو تلغي الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، ولا أصلح لذلك»، وكانوا إذا ولوا القاضي جاءوا به الجامع، واحتفلوا هناك بقراءة السجل الصادر له بذلك.
مجلس القضاء في غرناطة.
وكان قضاء مصر على مذهب الإمام الشافعي منذ ظهور هذا المذهب، ولكن القاضي كان يستنيب من شاء من قضاة المذاهب الأخرى، وفي سنة 525ه عين أبو أحمد بن الأفضل أربعة قضاة يحكم كل منهم في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم توالى ذلك على هذا المنوال في أيام المماليك.
وكان منصب قضاء الجند تارة يضاف إلى القاضي الحنفي، وتارة يضاف إلى القاضي الشافعي، وتارة ينفرد به قاض حنفي، وما ذاك إلا لأن قاضي العسكر إنما ينتفع به في الجهاد ووقت خروج العسكر، وتقع وصايا من الأمراء وشهادات بينهم ولا يوجد في العسكر الجالسين في المراكز أحد، يحتاج إلى إثبات ذلك عند القاضي الشافعي فلا يسمع شهادة العسكر فيتعطل إثبات ذلك، فتبطل وصاياهم وشهاداتهم، فلهذا السبب ولى الملك الظاهر بيبرس القاضي الحنفي لما اتفق له في الجهاد مثل ذلك، وامتنع القاضي الشافعي في ذلك الوقت من شهاداتهم، ثم بتداول الأيام ودخول أكثر الممالك الإسلامية في قبضة الدولة العثمانية المقلد جمهور حكامهم لأبي حنيفة النعمان، انتهى الأمر إلى أن صار حصر القضاء على مذهب إمامهم.
2 (4) راتب القاضي
وأما راتب القاضي فيختلف باختلاف الدول والأزمان، فقد رأيت في غير هذا المكان أن عمر بن الخطاب ولى شريحا قضاء البصرة وفرض له مائة درهم في كل شهر ومؤونة من الحنطة، وظلت رواتب القضاة على نحو ذلك في سائر أيام الراشدين، ثم تصاعدت في أيام بني أمية مثل تصاعد رواتب الجند وسائر العمال، فلما كانت أيام العباسيين أصبح راتب قاضي مصر ثلاثين دينارا في الشهر، وأول من اقتضى هذا الراتب ابن لهيعة الذي ولاه المنصور - كما تقدم - ثم تصاعد الراتب تصاعدا عظيما في أيام المأمون، فبلغ عطاء عيسى بن المنكدر قاضي مصر يومئذ 4000 درهم أو نحو 270 دينارا، وهو راتب فاحش، وربما جعل كذلك لغرض خاص، لأنه أجيز فوق هذا الراتب بألف دينار، وعاد راتب قاضي مصر بعد ذلك ببضع وعشرين سنة إلى ألف دينار في السنة، وأول من تقاضى هذا الراتب بكار بن قتيبة الذي تولى قضاء مصر على عهد أحمد بن طولون سنة 245ه، وزاد ذلك في الدولة الفاطمية فأصبح راتب القاضي وهو قاضي القضاة يومئذ، 1200 دينار في السنة ما عدا المؤونة والهدايا، ولعلها استمرت على ذلك في دولة الأيوبيين ومن تلاها.
قاضي العسكر في الدولة العثمانية في القرن السادس عشر.
أما بغداد فاختلف راتب القاضي فيها باختلاف الأزمان، وكان في زمن المعتضد نحو 500 دينار في الشهر، بما فيه أجور عشرة من الفقهاء وخليفة القاضي، ثم دخل القضاء في الالتزام، فصار القضاة يضمنون دخل القاضي بمال يؤدونه إلى الخليفة أو السلطان، وأول من ضمن القضاء عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب سنة 350ه في أيام معز الدولة بن بويه، فقد سمي قاضي قضاة بغداد، والتزم القضاء على أن يؤدي 200 ألف درهم كل سنة، ثم صار ذلك أمرا مألوفا، وصاروا يضمنون الحسبة والشرطة. (5) ديوان المظالم
وهو من توابع القضاء، ويشبه ما نسميه اليوم «مجلس الاستئناف» بعض الشبه، والغرض منه استماع ظلامات الناس من القضاة أو غيرهم، وكان العرب في جاهليتهم يلتفتون إلى هذا الأمر فيتحالفون على رد المظالم، كما فعلت قريش قبل الإسلام، وذلك أنهم لما تعدد فيهم الزعماء وكثر التغالب والتجاذب، اجتمعت بطونهم وعقدوا حلفا على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم، وهو حلف الفضول المشهور الذي عقد في مكة والنبي عمره 35 سنة، وموضوعه ألا يظلم أحد في مكة إلا أنصفوه وأخذوا له حقه.
ولم يجلس للمظالم أحد من الخلفاء الأربعة، لأن الناس في الصدر الأول كانوا بين من يقوده التناصف إلى الحق أو يزجره الوعظ عن الظلم، إلا عليا فإنه احتاج إلى النظر في المظالم، ولم تكن في الحقيقة كما صارت إليه بعدئذ، على أنه لم يفرد لسماع الظلامات يوما معينا أو ساعة معينة، وإنما كان إذا جاء متظلم أنصفه، ثم أفردوا يوما خاصا للنظر في أقوال المتظلمين وتصفح قصصهم، وأول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان، ولكنه كان إذا وقف منها إلى مشكل واحتاج فيه إلى حكم رده إلى قاضيه ابن إدريس الأزدي، فكان ابن إدريس هو المباشر وعبد الملك الآمر، وأول من ندب نفسه لمباشرة المظالم عمر بن عبد العزيز الشهير، ثم أهملت بعده إلى أيام الدولة العباسية فجلس لها خلفاء بني العباس، وأول من جلس منهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون، وآخر من تولاها منهم المهتدي بالله محمد بن الواثق.
وكانوا يسمعون ظلامات الناس وينصفونهم، وفيهم من يتظلم من الولاة أو من العمال أو من جباة الأموال أو من كتاب الدواوين، في تقصيرهم بشيء من رواتبهم أو من أحد أبناء الخلفاء أو الأمراء أو نحوهم من أهل الوجاهة ممن يغتصبون الأموال أو الضياع، أو من القضاة، لأنهم لم ينصفوهم في أحكامهم، أو من أي إنسان كبيرا كان أو صغيرا، فهو أوسع دائرة من مجلس الاستئناف، وأطول باعا وأشد وقعا وأسرع نفوذا، ومن أمثلة ما ردوه من المظالم على هذه الصورة أن عمر بن عبد العزيز خرج ذات يوم إلى الصلاة فصادفه رجل من اليمن فاستغاثه فقال «ما ظلامتك؟» فقال «غصبني الوليد بن عبد الملك ضيعتي» فقال «يا مراجم ائتني بدفتر الصوافي» فوجد فيه «أصفى عبد الله الوليد بن عبد الملك ضيعة فلان» فقال «أخرجها من الدفتر وليكتب برد ضيعته إليه ويطلق له ضعف نفقته».
وحكي عن المأمون أنه كان يجلس للمظالم يوم الأحد، فنهض ذات يوم من جلس نظره فلقيته امرأة في ثياب رثة وتظلمت إليه في ابنه العباس، فأوقفه بجانبها ورد ظلامتها، وبعد المهتدي لم يجلس الخلفاء العباسيون للمظالم، على أنهم كانوا كثيرا ما يعهدون بهذا المنصب إلى وزرائهم، كما فعل المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي دؤاد، فلما غلب السلاطين على بني العباس صار النظر في المظالم إلى السلاطين.
أما في مصر فأول من نظر في المظالم أحمد بن طولون لما استقل بحكم مصر سنة 357ه فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع، ثم صار خلفاؤه يولون من يقوم بها دونهم، حتى فتح الفاطميون مصر وبنوا مدينة القاهرة فاهتموا في أمر المظالم، وجلس لها أولا قائدهم جوهر فاتح مصر، وكان يوقع على قصص المتظلمين بيده، ثم صار الخلفاء بعده يعهدون بذلك إلى قاضي القضاة، أو إلى بعض علماء الدولة، فلما ضعف أمر الفاطميين واستبد وزراؤهم بالحكم، صارت المظالم إلى الوزراء وأشهرهم في ذلك الأفضل بن شاهنشاه، فقد كان يجلس للمظالم بنفسه، واقتدى به من جاء بعده، وكانوا يجعلون بباب الديوان مناديا ينادي «يا أرباب الظلامات!» فيحضرون إليه فيأمر بإنصافهم. (6) دار العدل
ولما أفضت الحكومة في مصر إلى السلاطين الأيوبيين، بنوا دارا للنظر في المظالم سموها «دار العدل»، وكان قد سبقهم إلى بناء مثل هذه الدار في دمشق الملك العادل نور الدين زنكي، وكان الأيوبيون يجلسون في دار العدل للنظر في المظالم، وجرى سلاطين المماليك بعدهم على ذلك، وكانت لهم عناية كبرى بإنصاف الناس، وكانوا يحترمون مجلسهم للمظالم فلا يقعدون فيه على تخت الملك، ولكنهم يجلسون على كرسي بجانبه حتى تلحق أرجلهم الأرض، فإذا جلس السلطان على ذلك الكرسي يجلس قضاة من المذاهب الأربعة على يمينه، ووكيل بيت المال وغيرهم من أرباب الوظائف والحرس والخاصة بين يديه، وفيهم من يقرأ الظلامات للسلطان، فيراجع القضاة أو أمراء العسكر فيما يرى مراجعتهم فيه ثم يمضي بما يراه.
وكان لسلاطين المسلمين وأمرائهم عناية كبرى بالنظر في مظالم الرعية، وكانوا يبذلون الجهد في رفعها، ولو كان المتظلم منهم أو من أولادهم، وأمثلة هذه الحوادث كثيرة في تاريخ الإسلام، فتعود الناس أن يرفعوا شكواهم إلى خلفائهم وسلاطينهم في أيام معينة، وساروا يحسبون ذلك فرضا واجبا، فإذا أمسك الخليفة عن النظر في المظالم يوما أو بضعة أيام ضجروا وملوا، وكان بعض الخلفاء يقسم المظالم إلى فروع، بعضها للنظر في مظالم الجند، وبعضها للنظر في مظالم العمال، وبعضها لغير ذلك. (7) الحسبة
هي منصب ديني من قبيل القضاء، وصاحب الحسبة (المحتسب) يبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدن مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين ومنع أهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب إذا بالغوا في ضربهم للصبيان، وله النظر في الغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي المكاييل والموازين، والأصل في الأمور التي ذكرناها أن تكون من واجبات القاضي، لكنهم جعلوها عملا مستقلا، تنزيها للقاضي عن استقصاء هذه الأمور بنفسه، على أنها كثيرا ما كانت تجعل في جملة أعمال القضاة في عهد الفاطميين بمصر والأمويين في الأندلس، فلما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في السياسة اندرجت الحسبة في وظائف الملك وأفردت بالولاية.
ولا يتولى الحسبة إلا رجل من وجهاء المسلمين، لأنها خدمة دينية، وكان صاحب الحسبة يولي عنه نوابا في سائر الكور والأعمال، وله الجلوس في الجوامع كل يوم، ويطوف نوابه على أرباب الحرف، والمعايش، فكان صاحب الحسبة في مصر يجلس في جامعي القاهرة والفسطاط يوما بعد يوم، ويبعث نوابه في الشوارع لتفقد اللحوم والمطبوخات، ومراعاة أحمال الدواب فلا يأذنون لأحد أن يحملها فوق طاقتها، ويأمرون السقايين بتغطية الروايا بالأكسية ويلزمونهم بمراعاة المعيار المقدر للروايا وهو أربعة وعشرون دلوا وكل دلو أربعون رطلا، ويأخذونهم بلبس السراويلات الزرقاء القصيرة الضابطة لعوراتهم، وينذرون معلمي المكاتب بألا يضربوا الصبيان ضربا مبرحا ولا في مقتل، وكذلك معلمي العوام بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس، وللمحتسب النظر في إدارة العيار.
أما في الأندلس فكانوا يسمون هذا المنصب «خطة الاحتساب» ويتولاه قاض، وكانت العادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا إلى الأسواق وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر أو دون ما حلله المحتسب في الورقة، ولا تكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدس عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر المحتسب الوزن فإن وجده ناقصا قاس على ذلك حاله مع الناس، ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما يتدارس الفقهاء أحكام الفقه. (8) الشرطة
والشرطة في الأصل في توابع القضاء، لأن المراد بها تنفيذ أحكام القضاة أو فرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، وإقامة التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة، فكانت الشرطة خادمة للقضاء تساعد القاضي في إثبات الذنب على مرتكبه وتساعد الحكومة على تنفيذ الحكم، ويتولى صاحبها أيضا إقامة الحدود على الزنا وشرب المسكر، وكثيرا من الأمور الشرعية التي يجلون مقام القاضي عنها.
ثم صار النظر في الجرائم، وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية في الأندلس والفاطمية بمصر، راجعا إلى صاحب الشرطة وأفردوها من نظر القاضي، ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم ثم تفرعت الشرطة في الأندلس إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى، تحكم الكبرى في الخاصة والزعماء وأهل المراتب والسلطان، فتضرب على أيديهم في الظلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه، وأما الصغرى فتنحصر في الأحكام على العامة والرعاع، ونصبوا لصاحب الشرطة الكبرى كرسيا بباب دار السلطان، وله رجال يتبوأون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا من تصريفه، وكانت تعد ولايتها ترشيحا للوزارة أو الحجابة، وكان صاحب الشرطة يسمى عندهم صاحب المدينة أو صاحب الليل، وفي دول السلاطين كانوا يسمون صاحب الشرطة الوالي، وفي إفريقية يسمونه الحاكم، فكأن الشرطة نشأت مع القضاء، لكنها لم تنفرد بنفسها وتتميز عنه إلا في أيام بني أمية.
ديوان الإنشاء
(1) الكتابة
لم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون الكتابة إلا نفرا قليلين، ولم تكن كتابتهم بالأحرف العربية المعروفة اليوم، وإنما كانوا يكتبون بالأحرف العبرانية، اقتباسا من اليهود في جملة ما اقتبسوه منهم، وكان ممن كتب العربية بالقلم العبراني ورقة بن نوفل، ابن خال خديجة زوج النبي، أو بالأحرف النبطية، نقلا عمن هاجر إليهم من الأنباط في القرون الأولى للميلاد، فرارا من سلطان الروم، والأرجح عندنا أن الحرف العربي الذي نكتب به اللغة العربية اليوم، متخلف عن الحرف النبطي الذي كان يكتب به الأنباط في بطرا ومدائن صالح
1
وأما الحرف الكوفي فقد تخلف عن القلم الإسطرنجيلي، الذي كان يكتب به السريان أو الكلدان في العراق، واستخدمه العرب في أول الأمر لكتابة اللغة العربية، فحدث فيه بعض التبديل حتى صار إلى ما هو عليه، ويؤيد قولنا أنه من العراق وأنه حدث بعد الإسلام، لأن الكوفة من المدن التي بناها المسلمون في العراق، وسنعود إلى تاريخ الخط في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ولما ظهر الإسلام لم يكن يكتب بالعربية إلا بضعة عشر إنسانا، كلهم من الصحابة وفيهم علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وطلحة وعثمان وأبو سفيان وولداه معاوية ويزيد وغيرهم، فكان علي وعثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم ممن كتب للنبي، لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ، فكتبوا له سور القرآن والكتب التي خاطب بها الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكان بعضهم يكتب له حوائجه، والبعض الآخر يكتبون بين الناس في المدينة، والبعض الآخر يكتبون بين القوم في مياههم وقبائلهم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
ولما تولى أبو بكر كان عثمان بن عفان كاتبه يكتب له الكتب إلى العمال والقواد، وصارت الكتابة منصبا من مناصب الحكومة لا يستغنى عنه، فلما تولى عمر كتب له أولا زيد بن ثابت ثم حل محله غيره، ولما فتحت الأمصار وتدونت الدواوين عين عمر كاتبا لكل ولاية يكتب في ديوانها، وكان الكاتب يكتب في أول الأمر لديوان الجند وبيت المال، فتولى عثمان وعلي وانقضت دولة الخلفاء الراشدين والكتابة منحصرة في واحد يضبط حساب الديوان من أعطيات الجند وأسمائهم ويكتب المراسلات، وربما كانا اثنين يتولى الثاني كتابة بيت المال.
ولما انتقلت الخلافة إلى بني أمية، وتعددت مصالح الدولة على ما مر بك، تعدد الكتاب فصارت الكتابة خمسة أصناف: كاتب الرسائل لمخاطبة العمال والأمراء والملوك وغيرهم، وكاتب الخراج يدون حساب الخراج داخله خارجه، وكاتب الجند يقيد أسماء الأجناد وطبقاتهم وأعطياتهم ونفقات الأسلحة وغير ذلك، وكاتب الشرطة يكتب التقارير عما يقع من أحوال القواد والديات وغيرها، وكاتب للقاضي يكتب الشروط والأحكام. (2) ديوان الإنشاء
وأهم أصناف الكتاب، كاتب الرسائل وهو أقدمها، وقد يسمى كاتب السر، وهو يد الخليفة وكاتبه ومستودع أسراره، كما كان عمر لأبي بكر، وعثمان لعمر، وكان الخلفاء في أول عهد الإسلام لا يولون هذا المنصب إلا أقرباءهم أو خاصتهم، لما فيه من الخطورة، وظلوا على نحو ذلك إلى أيام بني العباس، فكان كتابهم في أول الأمر يستبدون في الأمر دونهم، ثم صارت الكتابة إلى وزرائهم، ولم يكن الوزير يكتب الرسائل أو الرقاع بيده، ولكنه يمضيها أي يوقع عليها كما يفعل اليوم الوزراء والرؤساء، وأول من وقع على الرقاع عندهم يحيى بن جعفر البرمكي، لما أطلق الرشيد يده في أمور الدولة ومقاليدها، فصار إذا رفع أحد كتابا في ظلامة أو طلب رزق أو نحو ذلك وقع يحيى عليه بيده، وصار الوزراء بعده يوقعون على الرقاع أو القصص، وربما انفرد بعضهم في ولاية ديوان السر أو ديوان الرسائل أو الإنشاء.
وفي أخريات دولة بني العباس استقلت الكتابة وعهد فيها إلى غير الوزراء وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء أو صاحب ديوان الإنشاء أو كاتب السر وكل أمور هذا الديوان إلى الوزير، وكانوا يسمونه أيضا الديوان العزيز، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء بما يشبه ديوان الرياسة أو وزارة الخارجية في هذه الأيام. (3) التوقيع
يريدون بالتوقيع في دوائر الحكومة اليوم «الإمضاء»، أما في أيام الخلفاء فكان يراد به ما يعلقه الخليفة على القصص أو الرقاع «العرضحالات» المعروضة عليه لطلب أو شكوى أو نحو ذلك، فيكتب عليها بما يجب إجراؤه أو ما يفيد الجواب على فحواها بما يشبه التأشير أو التعليم في دوائر حكومتنا، وهو من واجبات صاحب ديوان الإنشاء أو من يتعين للتوقيع خاصة، فيجلس الكاتب بين يدي الخليفة أو السلطان في مجالس حكمه وفصله، فإذا نظر الخليفة في الرقاع أمر الكاتب أن يوقع عليها فيتوخى الكاتب أبلغ ما يستطيعه، وكانوا يختارون للتوقيع كتابا من أهل العارضة والبلاغة ليستقيم توقيعه، فكان جعفر بن يحيى يوقع في القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، وكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف منها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قالوا: إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار. (4) توقيعات الخلفاء وغيرهم
وكان الخلفاء في صدر الإسلام هم الذين يوقعون في القصص والرقاع بأنفسهم أو يأمرون كتابهم بتدوينه، والغالب في توقيعهم أن يكون اقتباسا من آية أو حديث أو حكمة مشهورة أو شعر حكمي، ومن أمثلة ذلك أن سعد بن أبي وقاص عامل العراق كتب إلى عمر بن الخطاب كتابا يستأذنه فيه ببناء دار، فوقع عمر في أسفل الكتاب «ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر»، ووقع عمر أيضا لعمرو بن العاص عامله على مصر، جوابا على كتاب كتبه إليه «كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك».
وتشكى قوم لعثمان بن عفان من مروان بن الحكم، وذكروا أنه أمر بوجئ أعناقهم فوقع في ذلك الكتاب:
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
وأرسله إليه. ومن توقيعات علي بن أبي طالب في كتاب جاءه من ابنه الحسن «رأي شيخ خير من جلد غلام»، وكتب سلمان الفارسي إلى علي يسأله «كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟» فوقع على كتابه «يحاسبون كما يرزقون».
ومن توقيعات معاوية بن أبي سفيان أن عبد الله بن عامر كتب إليه يسأله أن يقطع مالا في الطائف فوقع «عش رجبا تر عجبا» وكتب زياد بن أبيه إلى معاوية يخبره أن عبد الله بن عباس يطعن في خلافته فوقع في أسفل الكتاب «إن أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد، وذلك حلف لا يحله سوء رأيك»، ووقع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الحجاج يخبره فيه بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم «إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون ومن شؤمه أن يختلف به المتآلفون»، ووقع في كتاب جاءه من الأشعث وهو ثائر عليه:
فما بال من أسعى لأجبر عظمه
حفاظا وينوي من سفاهته كسري
وكتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك يهدده بالخلع، فوقع سليمان على الكتاب:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
وكتب إليه قتيبة مرة أخرى بالتهديد فوقع في الكتاب
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ، وكتب أحد العمال إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في مرمة مدينة، فوقع في أسفل كتابه «ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم»، وكتب إليه عامله على العراق يخبره بسوء طاعة أهلها، فوقع لهى «ارض لهم ما ترضى لنفسك وخذ بجرائمهم بعد ذلك»، وكانت توقيعات عمر بن عبد العزيز كثيرة، ووقع يزيد بن عبد الملك على رقعة رجل يتظلم من عامل
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ومن توقيعات بني العباس أن بعض أهل الأنبار كتبوا إلى السفاح يشكون أن منازلهم أخذت وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها فوقع «هذا بناء أسس على غير تقوى» وأمر بإعطائهم الأثمان، وشكا أهل الكوفة إلى أبي جعفر المنصور سوء معاملة عاملهم، فوقع على كتابهم «كما تكونون يؤمر عليكم»، ووقع على قصة رجل شكا عيلة «سل الله من رزقه» وجاءه من عامله على حمص كتاب فيه خطأ فوقع في أسفله «استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك»، وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو سوء طاعة رعاياه، فوقع في الكتاب
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
وشكا بعضهم إهمال عامله في خراسان فوقع على شكواهم «أنا ساهر وأنت نائم» وأرسله إليه، ومن توقيعات هارون الرشيد إلى عامله في خراسان «داو جرحك لا يتسع»، وإلى عامله على مصر «احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف فيأتيك منه ما لا قبل لك به ومن الله أكثر منه»، وقس على ذلك سائر توقيعات الخلفاء.
على أن التوقيع لم يكن خاصا بالخلفاء، ولكنه كان شائعا بين الأمراء والكبراء أيضا مثل زياد بن أبيه وأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، ولجعفر شهرة طائرة في بلاغة توقيعاته كما تقدم، من ذلك توقيعه لمحبوس «ولكل أجل كتاب»، ووقع في كتاب جاءه في شكوى بعض عماله «لقد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت»، وفي رقعة رجل يستأذن في الحج «من سافر إلى الله أنجح»، وفي كتاب رجل طلب ولاية «لا أولي بعض الظالمين بعضا»، وفي قصة رجل يستمنحه وقد كان منحه مرارا «دع الضرع يدر لغيرك كما در لك»، وغير ذلك شيء كثير، ومثله للفضل بن سهل وطاهر بن الحسين وغيرها. (5) اختصار الكتابة
وكان لهم ولع غريب في اختصار الكتابة في المراسلات اختصارا يصح أن يتخذ مثالا للبلاغة، من أمثلة ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يستمده الحنطة والمؤونة من مصر على أثر ما أصاب أهل المدينة من الجهد، فكتب ابن الخطاب يقول «من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي بن القاصي، سلام، أما بعد فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي، فيا غوثاه ثم يا غوثاه!» فكتب إليه عمرو «لعبد الله أمير المؤمنين من عبد الله عمرو بن العاص، أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك! قد بعثت إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي والسلام». أمثال ذلك كثير في مراسلاتهم، فلتطلب في كتب الأدب والتاريخ.
ولم يكن هذا الاختصار قاصرا على المكاتبات بينهم وبين عمالهم، لكنه كان شأنهم في كل مكاتباتهم، من أمثال ذلك جواب هارون الرشيد إلى نقفور «نيسوفورس» ملك الروم، وكان قد كتب إليه كتابا يهدده فيه ويطلب إليه أن يرد ما كان أخذه من الخراج من الإمبراطورة التي كانت قبله، فلما قرأ الرشيد الكتاب احتدم غيظا فلم يتمالك عن أن أخذ دواة وكتب على ظهر الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم! قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه».
ومثل ذلك جواب يوسف بن تاشفين صاحب مراكش على كتاب الأذفونش ملك الإفرنج الذي يهدده فيه، وكان الكتاب طويلا فلما قرأه يوسف كتب على ظهره: «الذي يكون ستراه». (6) مكاتبة الخلفاء
وكان من القواعد المرعية في مكاتبة الخلفاء أن يبدأوا بأسمائهم قبل مخاطبيهم، ويكلفوا مكاتبيهم أن يراعوا ذلك ... كما رأيت فيما دار بين عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ويعدون العدول عنه ذنبا، وقد كان في جملة ما حمل المنصور على قتل أبي مسلم الخراساني - مع ما له على دولتهم من الفضل - أنه كتب مرة إلى المنصور وبدأ بنفسه، وإذا رأيت في بعض المراسلات ما يخالف هذه القاعدة فإنه سهو من النساخ.
ولم يزل الأمر كذلك إلى أن استولى بنو بويه على الأمر وغلبوا على الخلفاء واستبدوا بهم، فاحتجب الخلفاء ولم يبق إليهم في ما يكتب عنهم غالبا سوى الولايات، وفوض الأمر في غالب المكاتبات إلى وزرائهم، وصارت إذا اقتضت الحال ذكر الخليفة كني عنه بالمواقف المقدسة والمقامات الشريفة والسدة النبوية والدار العزيزة والمحل الممجد، يعنون بالمواقف الأماكن التي يقف الخليفة فيها، ثم انتقلوا إلى تعظيم الأمراء والوزراء بالتلقيب بالمجلس العالي والحضرة السامية وما أشبه. (7) الإشارة أو الرمز
ومن تفننهم في المكاتبات الإشارة بحرف واحد إلى مقالة طويلة، كما وقع للسلطان محمود الغزنوي بن سبكتكين بعد أن استقل بالسلطنة، فإنه كتب إلى الخليفة ببغداد يطلب إليه أن يذكر اسمه في الخطبة وينقش اسمه على النقود فامتنع الخليفة من ذلك، فبعث محمود إليه كتابا يهدده فيه قال في جملته «لو أردت نقل حجارة بغداد على ظهور الفيلة إلى غزنة لفعلت»، فبعث إليه الخليفة كتابا مختوما، فلما فتحه محمود لم يجد فيه غير البسملة، وبعدها ألف ممدودة، وفي وسط الكتاب لام، وفي آخره ميم، ثم الصلاة والحمد لله! فتحير السلطان وأهل مجلسه من ذلك، حتى دخل عليهم أبو بكر القهستاني، وكان من كبار العلماء ففكر في ذلك حتى فقه له فقال: «عندي شرحه»، فقال السلطان «قل ولك ما تريد» فقال «إنكم بعثتم تهددون الخليفة بالفيلة فبعث إليكم هذا الكتاب وفيه ألف لام ميم إشارة إلى قوله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
إلى آخر الآية فارتاع السلطان لذلك وتشاءم وندم وعاد إلى أحسن الأحوال.
ومن هذا القبيل حكاية لطيفة وقعت لسديد الملك علي بن مقلد، صاحب قلعة شيزر في أواسط القرن الخامس للهجرة، وكان شجاعا مقداما موصوفا بقوة الفطنة، وكان قبل تملكه قلعة شيزر يتردد إلى حلب وصاحبها يومئذ تاج الملوك محمد بن صالح، فوقع بينهما أمر أخاف سديد الملك من تاج الملوك، فخرج سديد الملك إلى طرابلس الشام، وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار فأقام عنده، فعلم تاج الملوك بذلك، فأراد الاحتيال في استقدام سديد الملك إليه للفتك به، فأوعز إلى كاتبه أبي النصر محمد بن الحسين أن يكتب إليه كتابا يشوقه فيه ويستعطفه ويستدعيه إليه، وفهم أبو النصر الغرض الحقيقي من ذلك الكتاب، وكان صديقا لسديد الملك، لكنه لم ير مندوحة عن كتابة الكتاب، فكتبه كما أمر به تاج الملوك، حتى إذا بلغ إلى قوله: «إن شاء الله تعالى» شدد النون في إن وفتحها فجعلها «إن» وأنفذ الكتاب، فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك قرأه، ثم عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن في مجلسه من الخواص، فاستحسنوا عبارة الكاتب واستعظموا ما فيه من رغبة تاج الملوك في سديد الملك وإيثاره قربه، فقال سديد الملك «إني أرى في الكتاب ما لا ترون»، ثم أجابه على الكتاب بما اقتضاه المقام، وكتب في جملة ذلك «أنا الخادم المقر بالإنعام» وكسر همزة «أنا» وشدد نونها فصارت «إنا» فلما وصل الكتاب إلى تاج الملوك ووقف عليه أبو نصر الكاتب سر بما فيه وقال لأصدقائه: «قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك»، وكان أبو نصر قد قصد بتشديد نون «إن» الإشارة إلى الآية
إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فأجابه سديد الملك بتشديد «إنا» إشارة إلى الآية:
إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها .
ومن تفننهم من هذا القبيل ما كتبه عضد الدولة بن بويه إلى أبي منصور أفتكين متولي، وكان أفتكين قد كتب إليه كتابا مضمونه «إن الشام قد صفا وصار في يدي وزال عنه حكم صاحب مصر، وإن قويتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم»، فكتب إليه عضد الدولة جوابا في كلمات متشابهة لا تقرأ إلا بعد الشكل والتنقيط والضبط وهي: «غرك عزك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدا» إلخ. أراد أن لا يقع الكتاب بيد أحد فيطلع على ما فيه، ففهم أفتكين مراده وعمل به. (8) أدوات الكتابة
القلم كانوا يصنعونه من القصب نحو ما نفعل اليوم، وأما الحبر وهو المداد فالظاهر أنهم كانوا يصنعونه من مسحوق الفحم أو من الهباب مذابا في سائل لزج كالصمغ أو نحوه.
وأما القرطاس فأقدم ما كتب فيه العرب من أول الإسلام الرق وهي الجلود، وكتبوا أيضا على الأقمشة وأشهرها نسيج مصري كانوا يسمونه القباطي، وعليه كتبت المعلقات السبع قبل الإسلام، وإذا تعذر ذلك كتبوا على الخشب أو العظام أو على قطع الخزف أو على الأحجار أو نحو ذلك.
ولما فتحوا مصر اتخذوا البردي فكان أكثر مكاتبات الأمويين على البردي والقباطي، وفي دار الكتب المصرية في القاهرة آثار مخطوطة بالعربية عثروا عليها في بعض أنحاء القطر المصري، شاهدنا بينها صفحة من البردي وقطعا من القباطي، وقد ظهري البلى فيها والكتابة لا تزال ظاهرة عليها، ورأينا قطعا من الفخار عليها كتابة عربية أيضا، وتلك المخطوطات لا يتجاوز تاريخها آخر القرن الأول للهجرة، وكلها معروضة في معرض دار الكتب المصرية.
فلما كانت أيام الدولة العباسية اتخذوا الكاغد، والذي أشار به الفضل بن يحيى البرمكي فاصطنعوه، والأرجح أنهم أخذوه عن صناعة الصين، لأن الصينيين برعوا في صناعة الورق قبل الميلاد، وكانت هذه الصناعة منتشرة في بلادهم، فلما فتح المسلمون سمرقند أخذوها عنهم، لكنهم لم يجتهدوا في تعاطيها إلا في إبان الدولة العباسية، إذ ضاقت الرقوق والجلود عن المكاتبات والمراسلات والسجلات، فأشار الفضل باصطناعه فأنشأوا له المصانع في بغداد والشام وغيرهما من عواصم الإسلام.
وعن العرب أخذ العالم صناعة الورق، لأن أهل أوربا لما أفاقوا من سباتهم في الأجيال الوسطى استخدموا الكاغد الشامي وكان اسمه عندهم
Charta Damascena ، وانتقلت صناعة الورق إلى أوربا بطريق الأندلس، فقد كان للعرب مصانع لصناعة الورق في شاطبة وبلنسية وطليطلة، فلما دخلت الأندلس في حوزة الإفرنج استبقوا تلك المصانع، ثم نقلت من إسبانيا إلى سائر ممالك أوربا، ومن أقدم المخطوطات العربية على الكاغد نسخة من كتاب «غريب الحديث» في مكتبة ليدن الجامعة يظن أنها كتبت في أوائل القرن الثالث للهجرة، وكتاب «ديوان الأدب» في مكتبة المتحف البريطاني كتب في أوائل القرن الرابع.
الحجابة
يراد بالحاجب في دول الإسلام ما يراد بالتشريفاتي في هذه الأيام، وهو الذي يتولى الإذن للناس في الدخول على الملك أو السلطان أو الأمير، ولا بد منه في الدولة، حفظا لهيبة الملك، وكلما أعرقت الدولة في المدنية واستغرقت في الترف تكاثف الحجاب بين ملكها ورعاياه، فكان الخلفاء الراشدون يفتحون أبواب مجالسهم لأي من كان، ويخاطبون الفقير والغني والصعلوك والقوي بلا حجاب ولا كلفة.
فلما تحولت الخلافة إلى الملك كان في جملة ما أدخلوه على الدولة التدقيق في الحجاب، وترتيب الناس في الدخول على الخلفاء بحسب طبقاتهم وأنسابهم، وأول من انتبه لذلك معاوية بن أبي سفيان، نبهه إليه زياد بن أبيه، فكانوا يفضلون في الدخول أهل البيوتات، أي أهل النسب، فإذا تساوت الأنساب فضلوا أهل السن، فإذا تساوت فضلوا أهل الأدب والعلم، لكنهم كانوا يبيحون الدخول لأربعة في أي وقت شاءوا وهم المؤذن، وطارق الليل، ورسول الثغر، وصاحب الطعام، ومن هذا القبيل قول زياد لحاجبه «وليتك حجابتي وعزلتك عن أربعة هذا المنادي إلى الهل في الصلاة والفلاح لا تفرجنه عني فلا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء به في تلك الساعة، ورسول الثغر فإن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد».
فلما جاءت دولة بني العباس وصارت إلى ما هو معروف من العز والترف، زادوا في منع الناس عن ملاقاة الخليفة إلا في الأمور الهامة، وهذا ما يسميه ابن خلدون بالحجاب الثاني، وصار بين الناس والخليفة داران: دار الخاصة ودار العامة، يقابل كل فئة في مكان على ما يراه الحجاب، وتطرقوا عند انحطاط الدولة إلى حجاب ثلاث أحصن من الأولين، ولا يكون هذا إلا عند الحجر على صاحب الدولة، وذلك أن أهل الدولة كانوا إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وأرادوا الاستبداد عليهم، فأول ما يتوخونه حجب البطانة وسائر الأولياء عنهم، ويوهمونهم أن في مباشرتهم خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب، كما حدث في آخر أيام العباسية، ولا يكون ذلك إلا في أواخر الدولة.
النقابة
النقابة، ونعني نقابة الأشراف، سموها بذلك إشارة إلى أنها تتعلق بأشراف المسلمين وهم أهل بيت رسول الله، وذلك أنهم كانوا يجلون حرمة أهل البيت فكانوا يجعلون منهم رئيسا يتولى أمورهم ويضبط أنسابهم ويدون مواليدهم ووفياتهم، وينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم من ارتكاب المآثم ويطالب بحقوقهم ويدعوهم إلى أداء الحقوق، وينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم في سهم ذوي القربى من الفيء والغنيمة، ويقسمه بينهم ويمنع الأيامى منهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء، وغير ذلك مما يشبه الوصاية العامة، وكان نقيب الأشراف وصيهم.
وكانت نقابة الأشراف من المناصب السامية، ولها الشأن الأول من الشرف بعد الخلافة - ولذلك قال الشريف الرضي نقيب الأشراف يخاطب الخليفة القادر بالله العباسي من قصيدة:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
وكان الخلفاء يكتبون لنقباء الأشراف عهودا وتقاليد تدل على جلالة قدرهم ورفعة منزلتهم، وكانوا كثيرا ما يعهدون إليهم بسقاية الحاج وديوان المظالم من الخطط السامية، وما زالت الدول الإسلامية تحترم نقابة الأشراف في كل أدوار تاريخها حتى الدولة العثمانية، وكان نقيب الأشراف في أيام العثمانيين يقدم في التشريفات الرسمية على سائر رجال الدولة العلية حتى الصدر الأعظم وشيخ الإسلام.
مشيخة الطرق الصوفية
مشيخة الطرق الصوفية من المناصب الدينية التي حدثت بعد حدوث الصوفية، ولصاحبها التكلم عن جميع الطرق الصوفية، والشأن في هذه الطرق أن لكل طريقة شيخا، ولكل شيخ خلفاء في القرى والأمصار، ولكل خليفة مريدين، فالشيخ يدير أمر الخلفاء، الخليفة يدبر أمر المريدين من حيث إرشادهم ومراقبتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتربيتهم ونحو ذلك، ولشيخ المشايخ الولاية العامة على الجميع، ولم يكن للصوفية مشيخة عامة ترجع لها أعمالهم وتتوحد بها مقاصدهم، بل كانت كل طريقة أو زاوية مستقلة بنفسها، فكانت تكثر بسب ذلك الفتن، فلما أنشأ السلطان صلاح الدين الأيوبي خانقاه سعيد السعداء وسماها دويرة الصوفية، جعل لشيخها شبه تقدم على غيره من المشايخ، وكان لا يولي عليها إلا أعاظم رجال الدولة من الأكابر والأعيان، كأولاد شيخ الشيوخ ابن حمويه مع ما كان لهم من الوزارة والإمارة وتدبير الدولة وقيادة الجيوش، ووليها ذو الرياستين الوزير الصاحب تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز وغيره، وما زالت الحال كذلك إلى أن توحدت رئاسة الصوفية بمصر في القرن التاسع للهجرة، فجعلت الولاية فيها للسيد محمد شمس الدين البكري، وكان من أعظم رجال عصره علما ودينا، قال الشعراني عنه «ولو قلت إنه أعلم أهل زمانه لم أبعد عن الصواب»، ثم تولاها بعده ابنه الإمام شيخ الإسلام المفسر الشهير أبو السرور البكري، وانتقلت بعده إلى ذريته ولا تزال إلى الآن في البيت البكري الصديقي بمصر.
مقدمة
ظواهر التمدن وحقيقته
ثروة الدولة الإسلامية
ثروة الدولة العباسية في العصر العباسي الأول
أسباب الثروة العباسية
ثروة الدولة العباسية في عصر الاضمحلال
أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني
ثروة المملكة العباسية أي البلاد وأهلها
مقدمة
ظواهر التمدن وحقيقته
ثروة الدولة الإسلامية
ثروة الدولة العباسية في العصر العباسي الأول
أسباب الثروة العباسية
ثروة الدولة العباسية في عصر الاضمحلال
أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني
ثروة المملكة العباسية أي البلاد وأهلها
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الثاني)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الثاني)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
في مثل هذا اليوم من العام الماضي صدر الجزء الأول من هذا الكتاب، وكان لصدوره تأثير في عالم الأقلام لأهمية موضوعه وحداثة عهده في هذا اللسان، فقرظته الصحف وكتبت فيه المقالات الانتقادية، ووردت إلينا كتب الفضلاء من رجال العلم في مصر وسوريا وأوربا وأمريكا وفارس والهند، مشحونة بعبارات التنشيط والاستحثاث على المثابرة في هذا السبيل، وفيهم من لم يكن يظن تأليف هذا الكتاب ممكنا لقلة المصادر المساعدة على ذلك ، فزادنا هذا كله نشاطا وإقداما على هذا العمل الجليل.
ومن غريب ما اتفق لنا في أثناء تأليف هذا الكتاب أننا أعلنا عزمنا على تأليفه ونحن لا نتوقع أن يجتمع عندنا من مواده ما يزيد على مثل هذا الجزء، فلما شرعنا في درس الموضوع والتنقيب عما ينطوي تحته من الأبحاث الفلسفية التاريخية مما يتعلق بعوامل التمدن الإسلامي، انكشف لنا من أحوال ذلك التمدن ما لم يكن يخطر بالبال، فاتسع المجال للقلم فرأينا الموضوع يشغل أربعة أضعاف ما قدرناه، فأصدرنا الجزء الأول وفيه مقدمات تمهيدية عن حال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة، ثم ظهور الإسلام وانتشاره ونشأة الدولة الإسلامية وتواريخ مصالحها وجندها وبيت مالها، وقلنا في مقدمة ذلك الجزء إننا سننشر بقية الكتاب في ثلاثة أجزاء أخرى في مثل حجمه.
فلما بدأنا كتابة الجزء الثاني زاد المجال اتساعا ولم يعد يكفي الباقي منه أربعة أو خمسة أجزاء غير هذا، بحيث تزيد أجزاء الكتاب كلها على ستة أو ربما سبعة أجزاء مما لا يمكن تحديده إلا بعد الفراغ من كتابته.
أما هذا الجزء فموضوعه «ثروة المملكة الإسلامية» وهي ركن عظيم من أركان ذلك التمدن، وقد قسمنا البحث فيها إلى «ثروة الدولة الإسلامية»؛ أي ثروة الحكومة ورجالها، وإلى «ثروة المملكة الإسلامية»؛ أي ثروة البلاد وأهلها، وبحثنا في ثروة الدولة بحثا تاريخيا فلسفيا، فابتدأنا بتاريخ تلك الثروة من أيام النبي فالخلفاء الراشدين فبني أمية فالعباسيين، وبينا الأسباب التي دعت إلى تقلب هذه الثروة واختلافها باختلاف تلك الدول، وعلاقة ذلك بطبيعة كل دولة ونظامها وقوانينها، حتى وصلنا إلى ثروة الدولة الإسلامية في العصر العباسي، فقسمناه إلى عصرين: «الأول» وهو العصر الزاهر، و«الثاني» وهو عصر الاضمحلال، وفي العصر العباسي الأول نضجت الثروة وبلغت أوجها، ففضلنا الكلام فيه تفصيلا وصدرناه بتمهيد في تاريخ ذلك العصر وما ساعد على قيام هذه الدولة، ثم عمدنا إلى النظر في ثروة الدولة العباسية، وقبل الشروع فيه أتينا بفذلكة في جغرافية المملكة الإسلامية في القرن الثالث للهجرة، شفعناها بخريطة لبيان نسبة الولايات الإسلامية بعضها إلى بعض، ثم ذكرنا ثروة العباسيين من أيام السفاح والدولة في طفولتها حتى بلغت أشدها في أيام الرشيد والمأمون، فأتينا بثلاث قوائم مالية عن ارتفاع جبايتها في أيام المأمون وبعيده، وقابلنا بينها، فكان مقدار ما يبقى في بيت مال الحكومة نحو 300 مليون درهم في السنة وهي بقية لم تتفق لدولة من الدول، فعمدنا إلى النظر في أسباب تلك الثروة، فأفضى ذلك إلى النظر في مصادر الجباية ونفقاتها وأسباب كثرة الخراج وقلة النفقة، فأسباب كثرة الخراج أربعة: (1)
سعة المملكة الإسلامية. (2)
اشتغال الناس في الزراعة وتعمير البلاد. (3)
ثقل الخراج المضروب. (4)
صدق العمال في توريد المال المجموع.
وأسباب قلة النفقة ثلاثة: (1)
قلة الموظفين. (2)
عدم وجود الدين على الحكومة. (3)
اقتصاد الخلفاء الأولين.
ولما فرغنا من الثروة العباسية في العصر الأول نظرنا في أحوالها في عصر الاضمحلال، وقدمنا الكلام بفصل في علة ذلك الاضمحلال ثم مقدار الجباية في ذلك العصر، وبحثنا في سبب تناقصها فحدا ذلك بنا إلى النظر في أسباب قلة الجباية وكثرة النفقات، وأسباب قلة الجباية خمسة: (1)
ضيق المملكة. (2)
تخفيض الخراج المضروب. (3)
استئثار العمال بالجباية. (4)
انشغال الناس بالفتن عن العمل. (5)
تحول أكثر البلاد إلى ضياع.
وأسباب كثرة النفقات خمسة أيضا: (1)
إسراف الخلفاء ونسائهم، وفيه بحث فيما بلغت إليه ثروة نساء الخلفاء. (2)
كثرة أبواب النفقة في الدولة. (3)
زيادة الرواتب، وتحت هذا الباب تفصيل عن تاريخ رواتب موظفي الحكومة من العمال والكتاب والوزراء والقضاة، ثم أهل الخلفاء وحاشيتهم فالجند، ورواتب أخرى. (4)
النفقة على البيعة. (5)
استئثار رجال الدولة بالأموال لأنفسهم، ويتفرع من ذلك بحث عن حال الوزراء في عصر الاضمحلال وتفشي داء الرشوة فيهم، وما يجتمع إليهم من الأموال وبيت مال الحكومة فارغ والخلفاء يشكون الفقر، وما آل إليه ذلك من مصادرة الوزراء وأخذ أموالهم بالقوة، وبحثنا مثل هذا البحث أيضا في العمال والكتاب والحجاب، وختمنا هذا القسم بخلاصة إجمالية للموضوع.
ثم عمدنا إلى النظر في القسم الثاني وهو «ثروة المملكة الإسلامية» أي ثروة البلاد وأهلها، فتكلمنا إجمالا عن حالة البلاد في ذلك العصر، وعن اختصاص المدن بالثروة وأسباب انحصارها في الفئة الحاكمة ومن ينتمي إليهم من أهل الوجاهة والنفوذ وسائر أهل البلاد في فقر مدقع، وختمنا الكلام بوصف أشهر المدن الإسلامية في مصر والشام والعراق والمغرب والأندلس، كالبصرة والكوفة والفسطاط وبغداد وغيرها، وما بلغت إليه من الثروة والعمران في عهد ذلك التمدن.
ولما صدر الجزء الأول من هذا الكتاب عرف الفضلاء أهمية موضوعه ووعورة مسلكه، فعمد أرباب الأقلام إلى تقريظه وانتقاده في الجرائد والمجلات فضلا عن الكتب الخاصة، فرأينا في مجمل ذلك ما نشطنا، لكننا رأينا لبعضهم انتقادا لمواضع من الكتاب عدها خطأ لأنها لا تطابق ما يعلمه هو من مصادر هذا الموضوع، فرددنا عليه وبينا له أن التبعة في ذلك على قلة ما وصلت إليه يده من تلك المصادر وأسندنا كل قول من أقوالنا إلى مصدر وثيق أجمع المؤرخون على صحته
1
وقرأنا نحو ذلك الانتقاد في جرائد أخرى تعجل فيها الكاتب إلى الحكم علينا بالخطأ في بعض المواضع، والخطأ في تعجله؛ لأننا لم ننقل حقيقة تاريخية عن غير الثقات من المؤرخين، وقد أوردنا أكثر أسمائهم في مقدمة الجزء الأول، فلو اطلع المنتقدون على تلك المصادر لكفوا أنفسهم مؤونة الانتقاد، وكان قد خطر لنا ونحن نكتب ذلك الجزء أن نذيل صفحاته بالمآخذ التي نقلنا عنها تلك الحقائق، ولكننا أمسكنا عن ذلك ضنا بصفحات الكتاب؛ لأننا لم نبد رأيا ولا قلنا قولا إلا وسندنا فيه كتاب أو عدة كتب، فالإشارة إلى تلك الكتب في ذيل الصفحات تستغرق جانبا منها، على أننا لو فعلنا ذلك لكفينا أنفسنا وكفينا حضرات المنتقدين مؤونة العناء في الأخذ والرد بلا طائل. •••
وقد توسمنا في مجمل ما قرأنا من التقاريظ والانتقادات رغبة حضرات الكتاب في ذكر المصادر، وكتب إلينا جماعة من أهل الفضل الغيورين على العلم يستحثوننا على ذلك، وبينهم بضعة من علماء الهند وفارس نذكر منهم عالما كبيرا من علماء الهند عرف قراء العربية فضله من بعض ما نشر بينهم من آثار علمه، نعني صديقنا شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني ناظر العلوم والفنون في حيدر أباد الدكن، فإنه من أوسع الناس اطلاعا على التاريخ الإسلامي وآدابه، فلما اطلع على الجزء الأول كتب إلينا كتابا يسفر عن تقديره هذا الموضوع حق قدره، ولكنه انتقد إغفالنا ذكر المصادر في ذيول الصفحات، قال: «استلمت كتاب تاريخ التمدن الإسلامي بغاية الشوق؛ لأن موضوع الكتاب يهمني بنوع خاص، ولم أعرضه على أحد إلا أعجب به غاية الإعجاب، وظني أن تأليفكم هذا يترجم إلى لساننا الأردو (الهندستاني) ولا شك أنه يقع موقع القبول في البلاد الإسلامية كلها، ولكنني أنتقد عليكم أمرا لا يسعني كتمانه، وهو أن دأبكم في التأليف أنكم تكتفون بذكر مصادر الكتاب في أوله إجمالا من غير التزام الاستشهاد في كل محل وموضوع، وفيه مفاسد كثيرة، منها أننا رأينا كثيرين من مستشرقي أوربا يذكرون أمورا مهمة من المسائل العلمية أو الاختراعات وينسبونها إلى العرب، فنغتر بذلك ويذهب بنا الفخر كل مذهب ثم إذا راجعنا الأصل وحققنا الأمر يظهر أنهم استنوقوا الجمل وما كان هناك شيء يذكر ولا مأثرة تنقل، لا نقول إنهم يتعمدون الكذب، ولكنهم يغلطون في الاستنباط، فلو كانوا يذكرون مصادر الرواية ومآخذها لكان يسهل لنا المراجعة إذا مست الحاجة، ومنها أن كتب التواريخ لها مدارج ومراتب، فما لم تذكر أسماء الكتب بالخصوص لا يتميز جيد الرواية من رديئها، ولا أقواها من أضعفها.» ا.ه. •••
فلما عمدنا إلى كتابة هذا الجزء رأينا أن نعود إلى رأينا الأول فنذيل صفحاته بالمصادر التي اعتمدنا عليها مع تعيين الكتاب والجزء والصفحة.
واختصرنا في ذلك جهد الطاقة ضنا بالمكان، ولا يخفى ما يقتضيه هذا العمل من التدقيق والمراجعة، وفي تقليب صفحات هذا الجزء قبل تصفحها دلالة كافية على مقدار ما بذلناه من العناء في تأليفه، وخصوصا لأنه أول كتاب في هذا الموضوع كتب على هذا النسق.
وليس تاريخ التمدن الإسلامي من الكتب التي يلهو بها العامة للتسلية، ولا من الكتب الفكاهية كالروايات ونحوها، وإنما هو موضوع تاريخي اجتماعي يبين أسباب نشوء المدنية وأسباب انحطاطها، ويتخلل ذلك أبحاث فلسفية في علاقة تلك الأسباب بعضها ببعض، وما ينجم عنها من العبرة والموعظة، فهو من الكتب التي يقرؤها الخاصة أهل الاطلاع، ولم نعمد إلى تأليفه إلا بعد أن أعددنا أذهان القراء لهذا الموضوع بما نشرناه بين ظهرانيهم من الروايات التاريخية الإسلامية منذ عدة أعوام، مما تلذ قراءته للخاصة والعامة بما تحويه من الحقائق التاريخية في سياق الحكاية الغرامية، فلما تهيأت الأذهان ولمسنا عند القراء شوقا إلى مطالعة التاريخ الإسلامي، عمدنا إلى تأليف هذا الكتاب وهو تاريخ الإسلام الحقيقي؛ لأن تاريخ الأمة لا يقوم بسرد حروبها وفتوحها، وإنما هو تاريخ نشوئها وتنظيم حكومتها وتاريخ ثروتها وعلومها وآدابها ونظامها الاجتماعي ومصيرها، أو هو تاريخ تمدنها، ولنا فيما بسطناه من وعورة هذا المسلك عذر على ما قد يعتور مشروعنا من النقص، والكمال لله وحده.
هوامش
ظواهر التمدن وحقيقته
لخصنا في الجزء الأول من هذا الكتاب نشأة الدولة الإسلامية وتاريخ مصالحها الإدارية والسياسية والمالية تمهيدا للنظر في تمدنها، ولكل تمدن ظواهر يبدو بها للناظرين وحقيقة تتجلى منه للباحثين، أما الظواهر فهي ما نراه من ثمار ذلك التمدن كالثروة والأبهة والعلم والأدب والصناعة والتجارة ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها، وأما حقيقة التمدن فهي ما ينتج عنه من الخير أو الشر، من السعادة أو الشقاء للمستظلين بظله أو سواهم من بني الإنسان، ومن ظواهر التمدن الإسلامي الثروة والعلم والأدب والصناعة والتجارة، ونظام الهيئة الاجتماعية وآدابها، وسنحصر بحثنا في هذا الجزء في ثروة المملكة الإسلامية دون سواها.
والبحث في ثروة المملكة يقتضي النظر في مصادر تلك الثروة وأسبابها وأوجهها باعتبار الدول والعصور والنظر في ثروة كل عصر مع دراسة ما إذا كانت الثروة مفرقة بين الأهالي أو محصورة في فئة منهم أو في الحكومة أو في رجالها، ودراسة ما يتصل بذلك من وصف ثروة المدن والأبنية وغيرها.
ومعلوم أن المملكة الإسلامية بلغت أوجها من الغنى والثروة في العصر العباسي، فلو كان غرضنا مجرد وصف تلك الثروة لاكتفينا بالإشارة إلى مقدار ما كان يحمل إلى بيت المال من الجبايات، وما كان عليه الخلفاء وأتباعهم من الغنى والبذخ وعددنا موارد الثروة ومصادرها، ولكننا عولنا منذ أخذنا في تأليف هذا الكتاب أن نسند كل حادث إلى أسبابه بالبحث عن العلل الحقيقية وتتبع الأسباب إلى أصولها وعلاقة ذلك كله بالمجموع العام، مع اعتبار الأحوال واختلافها باختلاف العصور.
والمملكة الإسلامية عند التخصيص هي غير الدولة الإسلامية؛ لأن هذه العبارة عن الحكومة ورجالها، وأما المملكة فهي البلاد وأهلها، فيحسن والحالة هذه أن نقسم الكلام في الثروة المذكورة إلى: ثروة الدولة الإسلامية، وثروة المملكة الإسلامية، ونتكلم في كل منهما باعتبار العصور المتقدم ذكرها.
وبناء على ذلك سنجعل الكلام في ثروة الدولة الإسلامية باعتبار العصور، فنبدأ بعصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، فالخلفاء الراشدين، فبني أمية، فالعباسيين، ونقسم كل عصر إلى أبواب، بعضها للبحث في ثروة الحكومة أو بيت المال، والبعض الآخر للبحث في ثروة رجال الحكومة، وما يستلزمه ذلك من النظر في أسباب تلك الثروة وعلة كثرتها أو قلتها، وتاريخ الخراج والجزية وغيرهما وأبواب النفقة وغير ذلك.
وبناء على ذلك نقول إن ثروة الدولة الإسلامية مرت في خمسة أدوار أو عصور وهي: (1)
عصر النبي
صلى الله عليه وسلم . (2)
عصر الخلفاء الراشدين. (3)
عصر بني أمية. (4)
عصر العباسيين الأول أو عصر الازدهار العباسي. (5)
عصر العباسيين الثاني أو عصر الاضمحلال.
أما الدول الإسلامية الأخرى في مصر والأندلس وغيرهما فالكلام في ثروتها يأتي عرضا بطريق الاستشهاد أو التمثيل؛ لأن المراد بالتمدن الإسلامي إنما هو التمدن العباسي الشهير.
ثروة الدولة الإسلامية
(1) عصر النبي (من سنة 1-11ه)
إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها أو ما تختزنه بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالا ولا كان عندهم بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات فإنها كانت تفرق في أهلها، وإذا ظل منها شيء استبقوه لحين الحاجة إليه، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل والخيل، فكان يسمها بميسم خاص بها تمتاز به عن سواها.
فكانت ثروة الدولة في عصر النبي عبارة عن بقايا الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى
1
وبميسم كان النبي نفسه يسمها به
2
وبلغت الأموال في أيام النبي نحو 40000 بين إبل وخيل وغيرها
3
ومن هذه الأموال وما يلحق بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم وعلى تحصيل الزكاة وإعالة الفقراء ونحوهم. (2) عصر الخلفاء الراشدين
هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغيرة الحقيقية على الدين ونبذ الدنيا، وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالا ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من دولهم عن جادة الحق طلبوا إليها الرجوع إليه والسير على خطوات الخلفاء الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد وانقلبت من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع وأخذوا في حشد الأموال بأية وسيلة كانت. (2-1) بيت المال
توفي النبي والمسلمون هم رجال الحكومة والجند، ولم يكن عندهم بيت مال للأسباب التي قدمناها، ولم يكونوا يتطلبون المال إلا لقضاء الحاجات، وكان أكثر ما يرد عليهم منه ماشية وحنطة وخيلا ونحو ذلك من أموال الصدقة والغنيمة وكانت النقود قليلة بين أيديهم، فلما فتحوا الشام وفارس ومصر، وردت عليهم الأموال ذهبا وفضة فأدهشتهم كثرتها وتنبهوا لها، يقال إن أبا هريرة قدم على عمر بن الخطاب من البحرين بمال وفير فقال له عمر: «بم جئت؟» قال: «بخمسمائة ألف درهم» فاستكثره عمر وقال: «أتدري ما تقول؟» قال: «نعم، مئة ألف خمس مرات.» فصعد عمر المنبر وقال: «أيها الناس قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا وإن شئتم عددنا لكم عدا.»
4
وكان ذلك من جملة ما دعاه إلى وضع الديوان وفرض العطاء لكل واحد من المسلمين باعتبار السابقة والقرابة من النبي، ولكنه نهى عن اختزان المال فقال له قائل: «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال شيئا يكون عدة لحادث إذا حدث.» فزجره عمر وقال له: «تلك كلمة ألقاها الشيطان علي فيك وقاني الله شرها، وهي فتنة لمن بعدي، إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدتنا التي بلغنا بها ما بلغنا.»
5
فلما كثرت الأموال في أيام عمر ووضع الديوان فرض الرواتب للعمال والقضاة ومنع ادخار المال وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزرعة؛
6
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال حتى إلى عبيدهم ومواليهم، أراد بذلك أن يبقوا جندا على أهبة الرحيل لا يمنعهم انتظار الزرع ولا يقعدهم الترف والقصف، فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته، تفرق فيهم وهم يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه ويفرضون له راتبا في الديوان مثل سائر المسلمين.
7
والغرض الذي كان يرمي إليه عمر من هذه القاعدة أن يبقي أهل الذمة وأرضهم مصدرا للمال الذي يحتاج إليه المسلمون في إتمام الجهاد ووقفا لمصالحهم مدى الدهور، أما إذا اشترى المسلمون الضياع فإنهم يستقلون بنفعها دون سواهم، ولا تمضي بضعة أجيال حتى تصير أملاكا خاصة بهم
8
وعمر يريد أن يبقيها محبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين المجاهدين قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين، لا تباع ولا تورث لما ألزموه أنفسهم من إقامة فريضة الجهاد
9
وأيد هذه القاعدة عمر بن عبد العزيز الأموي وكان يقلد ابن الخطاب في كل خطواته فقال:
أيما ذمي أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله، وما كان من أرض فإنها من فيء الله على المسلمين، وأيما قوم صالحوا على جزية يعطونها، فمن أسلم منهم كانت داره وأرضه لبقيتهم.
10
فترتب على ذلك ونحوه ترفع المسلمين عن سائر الأعمال من تجارة أو صناعة أو نحوهما. (2-2) ثروة الخلفاء وعمالهم
علمت مما تقدم أن الراشدين لم يكونوا يلتمسون ثروة، فلما توفي أبو بكر لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارا واحدا سقط من غرارة؛
11
لأنه كان يفرق كل ما يجتمع عنده على السواء لا ينظر إلى مصلحة نفسه، بل هو أنفق كل ما كان عنده من المال قبل إسلامه، وذلك أربعون ألف درهم غير ما اكتسبه من التجارة؛ لأنه كان يتجر ليستعين على النفقة، ثم فرضوا له مالا معينا من مال المسلمين لينفقه على نفسه وعياله؛ لئلا يشتغل بالتجارة عن النظر في مصالحهم، فلما دنا أجله أوصى أن تباع أرض كانت له ويدفع ثمنها بدلا مما أخذه من مال المسلمين
12
وكان عنده ثوبان أوصى أن يكفن بهما.
وأخبار عمر بن الخطاب في الزهد والنزاهة أشهر من أن تذكر، ويقال بالإجمال إنه مؤسس دولة المسلمين، وقد أسسها على أمتن دعائم الملك، أسسها على العدل والتقوى والزهد والاستهلاك في نصرة الحق مما يندر اجتماعه في رجل واحد وقد يوهم لغرابته أنه من قبيل المبالغة، ويسهل علينا التصديق به إذا تذكرنا النتائج التي ترتبت على تلك المناقب مما لم يسمع بمثله في التاريخ، يكفي منها تلك الفتوح التي جعلت الأموال تنصب نحو بيت المال في المدينة كما ينصب الماء من الميازيب، وعمر مع ذلك لا يلتفت إليه ولا يأخذ منه إلا ما فرضه لنفسه كسائر الصحابة الأولين، وكان إذا احتاج إلى مال فوق راتبه جاء إلى بيت المال فاستقرضه حتى يفيه إياه من عطائه فيما بعد
13
ولما طعن وأحس بدنو الأجل قال لابنه: «إني استلفت من بيت مال المسلمين ثمانين ألفا فلترد من مال ولدي فإن لم يف مالهم فمال آل الخطاب.»
14
وزهده في الطعام واللباس مشهور.
ويقال نحو ذلك في الإمام علي، فقد كان مغاليا في الزهد والعدل، ومن أقواله: «تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش، ننام عليه بالليل ونعلق عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها.» وجاءه في أيام خلافته مال من أصبهان فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أسهم ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا، ولم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وكان يأتي بحبوبه من المدينة في جراب، وقيل إنه أخرج سيفا له إلى السوق فباعه وقال: «لو كان عندي أربعة دراهم ثمن أزرار لم أبعه.» ومناقبه لا تحصى.
15 •••
وقد ساعد الخلفاء الراشدين على تأييد العدل والحق أن عمالهم كان أكثرهم من أهل التقوى وحسن الاعتقاد في الإسلام، فكان عمر إذا اكتسب أحد عماله مالا من تجارة أو سبيل آخر غير عطائه المفروض له قاسمه عليه وهو لا يرى في ذلك غبنا، كذلك فعل بسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبي هريرة عامله على البحرين
16
وغيرهم.
ولا غرابة في ذلك؛ لأن العامل إذا رأى خليفته زاهدا تقيا يمنع نفسه من كل شيء، ويستهلك في مصلحة الأمة فإنه يقتدي به ولو كان ذلك مخالفا لرأيه، على أن الخليفة نفسه لا يولي أعماله إلا من يكون على رأيه وخلقه، وخصوصا عمر، فقد كان شديدا على العمال يتفقدهم كل سنة، ويعزلهم لأقل تهمة، ذكر أنه استعمل على حمص رجلا اسمه عمير بن سعد، فلما انقضت السنة كتب إليه: «أقدم إلينا» فلم يشعر عمر إلا وقد قدم إليه الرجل ماشيا حافيا عكازه في يده، وأدواته ومزوده وقصعته على ظهره، فلما رآه عمر قال: «يا عمير أأجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أما نهاك الله أن تجهر بالسوء وعن سوء الظن؟ وقد جئت إليك بالدنيا أجرها بقرابها.» فقال: «وما معك من الدنيا؟» قال: «عكازة أتوكأ عليها وأدفع بها عدوا إن لقيته، ومزود أحمل به طعامي.» فقال: «ما صنعت بعملك يا عمير؟» قال: «أخذت الإبل من أهل الإبل، والجزية من أهل الذمة، ثم قسمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فوالله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به.» فقال له: «عد إلى عملك.»
17 •••
ولا بد لنا مع ذلك من أن نقف هنيهة للنظر في أمر يفتقر إلى تفسير، قلنا إن عمر لم يكن يختزن مالا ونهى عن اختزانه، فلو كانت الأموال التي ترد إلى بيت المال تفرق على السواء كما كانت تفرق الغنائم في أيام النبي وأبي بكر لهان عليه أن لا يختزن، ولكنه فرض أعطية معينة يتناولونها كل عام.
ونعلم أيضا أن الأموال زادت كثيرا في أيامه بما انضم إليهم من الأعمال بالفتح، وكلها تؤدي الخراج والجزية فضلا عما يلحق بيت المال من الغنائم، فما الذي كان يفعله عمر بما يفيض من تلك الأموال بعد دفع الأعطية المذكورة؟ يظهر أنه كان يفرقه في أهل الحاجة أو لعله كان يستبقي بعضه على أن يفرقه، ولا يعد ذلك اختزانا؛ لأنه إنما منع الاختزان للحرب. (2-3) اقتناء المسلمين للأموال
على أن رأي عمر بعدم اختزان المال ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام عليه الدول وتتأيد به السلطات؛ لأن اختزان الأموال من ضروريات الملك، ولكن المسلمين الأولين لم يكونوا يعدون الخلافة ملكا سياسيا، ولذلك لم تطل مدتهم إلا ريثما انقضى عصر النبوة وزالت دهشتها، فعاد الناس إلى فطرتهم وتسابقوا إلى حشد الأموال والاستئثار بالسلطة.
وقد باشروا ذلك في أيام عثمان بن عفان (سنة 33-35ه)؛ لأنه لم يكن شديدا مثل عمر وكان مع ذلك أمويا، فاعتز الأمويون به وأرادوا أن يعيدوا لأنفسهم السلطة التي كانت لهم في الجاهلية، وكان بنو هاشم قد سلبوهم إياها بعد الإسلام لأن النبي منهم، فأخذ عثمان يولي الأعمال رجالا من أقربائه وفيهم من لم يعتنق الإسلام إلا يأسا من فوزه على المسلمين، وكثرت في أيامه الفتوح وفاضت الغنائم فكان يستخص أهله منها بأكثر من سائر الصحابة، كما فعل بغنائم إفريقية سنة 27ه فإن المسلمين حاربوها وعليهم عبد الله بن سعد (أخو عثمان من الرضاع) فبلغت غنائمهم منها 2500000 دينار أعطى خمسها إلى مروان بن الحكم وزوجه ابنته
18
وكان هذا الخمس من حقوق بيت المال، وأبطل عثمان محاسبة العمال؛ لأنهم من أهله، فازدادوا طمعا في حشد الأموال لأنفسهم، وخصوصا معاوية بن أبي سفيان عامله على الشام وهو أكثرهم دهاء وأبعدهم مطمعا، فكان في مقدمة الذين أبطلوا قاعدة عمر في منع المسلمين من الزرع واتخاذ الضياع ونحوها.
وكيفية ذلك أن المسلمين لما فتحوا الشام وأقروا الأرض في أيدي أصحابها، كان جانب كبير منها ملكا للبطارقة قواد جند الروم، فلما غلبت الروم وفر البطارقة أو قتلوا ظلت ضياعهم سائبة لا مالك لها فأوقفها المسلمون على بيت المال، فكان العمال يقبلونها كما يقبل الرجل ضيعته (أي يضمنها) ويضيفون دخلها إلى بيت المال، فلما استقر معاوية على ولاية الشام واقتدى بالروم في البذخ واتخاذ الحاشية لم يعد راتبه يكفيه، ورأى من عثمان ضعفا وميلا فكتب إليه أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله لا يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم ومن رسل الروم ووفودهم، ووصف في كتابه هذه المزارع وأن لا مالك لها وليست هي من قرى أهل الذمة ولا الخراج وسأله أن يقطعه إياها،
19
وكان عمر قد جعل لمعاوية على عمله في الشام راتبا مقداره ألف دينار في السنة
20
وهو كثير بالنظر إلى رواتب العمال في تلك الأيام، فلما طلب من عثمان أن يقطعه تلك الضياع أجابه إلى طلبه فوضع يده عليها وجعلها حبسا على فقراء أهل بيته، فجرأه ذلك على التمادي في اقتناء الأرض وبيعها في أيام خلافته والإذن للمسلمين في ذلك.
واقتدى بمعاوية غيره من العمال وسائر الصحابة، فاقتنوا الضياع والعقار وفيهم جماعة من كبار الصحابة المعروفين مثل طلحة والزبير وسعد وغيرهم، وزادت أموالهم وظهر الغنى فيهم حتى عثمان نفسه فإنه اقتنى الضياع الكثيرة واختزن الأموال، فوجدوا عند خازنه بعد موته 150000 دينار و1000000 درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما 100000 دينار، وخلف خيلا وإبلا
21
والظاهر أن عثمان اندفع إلى تسهيل الثروة على المسلمين بما زاد عنده من الأموال، وأغراه أهله وخصوصا معاوية، ثم صار امتلاك العقار مألوفا شائعا.
ومن أسباب شيوع الأملاك بين المسلمين أن عثمان أقطع هو وخلفاؤه بعض الأرض مما لم يتعين مالكوه على أن يدفعوا شيئا لبيت المال في مقابل الإيجار أو الضمان كما تقدم ، فلما حصلت فتنة الأشعث سنة 82ه حرق الديوان وضاعت السجلات فأخذ كل قوم ما يليهم.
22
على أن المسلمين لم يكونوا راضين عن أعمال معاوية في هذا الشأن؛ لأنه لم يساو بينهم فيه فنقموا عليه وخصوصا الفقهاء ورجال التقوى، وفي حكاية أبي ذر الغفاري ما يغني عن البيان؛ فقد كان هذا الرجل مغاليا في التمسك بقاعدة عمر، وكان يرى «أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم»،
23
وكان يقوم في الشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.» وما زال يقول ذلك ويكرره حتى ولع الفقراء بقوله وأوجبوه على الأغنياء، فشكا الأغنياء إلى معاوية ما يلقون منهم، وكان معاوية يشكو أمر من شكايتهم؛ لأن أبا ذر وبخه غير مرة لاختزانه المال ، ومما قاله له على أثر بنائه قصر الخضراء في دمشق، وقد سأله معاوية: «كيف ترى هذا؟» فقال أبو ذر: «إن كنت بنيته من مال الله فأنت من الخائنين، وإن كنت بنيته من مالك فإنك من المسرفين.»
24
فعظم ذلك على معاوية فأراد أن يوقعه في ما يوجب محاكمته فبعث إليه بألف دينار أراد أن يغريه بها ثم يتهمه باكتناز المال، فلما وصلت الدنانير إلى أبي ذر فرقها حالا مع أنها وصلته ليلا، وجاءه رسول معاوية في الصباح يزعم أنه دفع المال إليه خطأ وأن معاوية يطلبه فأخبره أنه أنفقه في ساعته، فلم ير معاوية سبيلا إلى اتهامه بالفتنة فكتب إلى عثمان: «إنك أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر.» فكتب إليه: «احمله على قتب بغير وطاء.»
25
فلما جاء المدينة حاكمه عثمان فلم يرهب سلطانه وجاهر بما يراه من جشع بني أمية وخروجهم عن الحق، فأخرجه عثمان من المدينة إلى الربذة بالعنف وظل هناك حتى مات، فنقم المسلمون بموته على عثمان في جملة ما نقموه عليه إلى مقتله.
فلما قتل عثمان سنة 35ه وقامت الفتنة في الخلافة وأرادها معاوية لنفسه، رأى بين دعاتها من هم أحق بها منه نسبا وسابقة، فاحتال إليها بالمال فازدادت رغبته في الاستكثار منه لبذله في إنشاء الأحزاب، ولا غرو فإن المال قوة تتحول إلى ما شئته من القوى، وهو منذ القدم مرجع المشروعات العظمى، ولا يزال حتى اليوم المحور الذي تدور عليه سياسة العالم المتمدن، فما من حرب أو سلم أو محالفة أو معاهدة وما من فتح أو حصار إلا والمحرك عليه أو الداعي إليه «المال»، وكذلك فعل معاوية فاستخدم بالمال جماعة من دهاة العرب نصروه بالدهاء والسيف، حتى أفضت الخلافة إليه بعد واقعة صفين ولكنها لم تصف له إلا بعد مقتل علي (40ه) وتنازل الحسن له عنها، والناس مع ذلك يعلمون أن معاوية إنما فاز ببذل المال حتى قال زين العابدين ابن حفيد الإمام علي: «إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه.»
26
وسار بنو أمية على خطوات معاوية في ذلك ، فجعلوا المال أكبر نصير لهم على دعاة الخلافة من بني هاشم وعلى الخوارج وغيرهم، فجرهم ذلك إلى الاستكثار منه بأي وسيلة كانت كما سيأتي.
فالثروة في عصر الراشدين كانت محرمة على المسلمين، ولكن تحريمها لم يبق طويلا؛ لأن بقاءه يقتضي بقاء عمر بن الخطاب، أو من يكون في مثل مناقبه وتقواه مع بقاء العرب على الفطرة البدوية مما يخالف نواميس العمران، فلذلك لم يكد يختلط العرب بالروم والفرس حتى تاقت نفوسهم إلى الترف وحشد الأموال وزادهم ميلا إلى ذلك رغبة بني أمية في الاستكثار منها، فانقضى عصر الراشدين ولم ير المسلمون مثله بعده، وظل أبو بكر وعمر مضرب أمثال القوم قرونا متطاولة، إذا اعوج حاكم أو خليفة طلبوا إليه أن يقتدي بهما، وخصوصا عمر، فقد كانوا يحاولون التشبه بعدله وحزمه وشدته في الحق، حتى إن أشهر عمال بني أمية ظلما ودهاء أرادوا الاقتداء به في ذلك، فتهوروا وانقلب فيهم إلى الظلم والعسف، يقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، ثم أراد الحجاج بن يوسف أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر.
27 (3) عصر بني أمية (من سنة 41-132ه)
تمتاز دولة بني أمية عن دولة الراشدين بأن السلطة تحولت فيها من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، وتمتاز عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة شديدة التعصب للعرب كثيرة الاحتقار لسواهم، ولذلك فإن أهل الذمة وغيرهم من سكان البلاد الأصليين قاسوا من خلفاء بني أمية ومن عمالهم الأمور الصعاب، حتى الذين أسلموا منهم فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد وكانوا يسمونهم «الموالي»، ويعدون أنفسهم ذوي إحسان عليهم لأنهم أنقذوهم من الكفر، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعا لله، وكان بعض العرب إذا مرت به جنازة مسلمة قال: «من هذا؟» فإذا قالوا: «قرشي» قال: «وا قوماه!» وإذا قالوا: «عربي» قال: «وا بلدتاه!» وإذا قالوا: «مولى» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.» وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم
28
وكانوا يسمونهم العلوج، وفي كتاب الموالي للجاحظ أن الحجاج لما قبض على الموالي الذين حاربوا مع ابن الأشعث أراد أن يفرقهم حتى لا يجتمعوا، فنقش على يد كل واحد منهم اسم البلدة التي وجهه إليها، وقد تولى ذلك النقش رجل من بني عجل فقال الشاعر:
وأنت من نقش العجلي راحته
وفر شيخك حتى عاد بالحكم
29
وسنعود إلى تفصيل ذلك في الكلام عن نظام الهيئة الاجتماعية في المملكة الإسلامية في جزء آخر من هذا الكتاب، وإنما أشرنا إلى ذلك هنا لبيان مقدار تعصب العرب في دولة بني أمية على غير العرب ولو كانوا مسلمين.
وكان من جملة نتائج تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم أنهم اعتبروا أهل البلاد التي فتحوها وما يملكون رزقا حلالا لهم، يدل على ذلك قول سعيد بن العاص عامل العراق: «ما السواد إلا بستان قريش، ما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه.»
30
وقول عمرو بن العاص لصاحب «إخنا» لما سأله عن مقدار ما عليهم من الجزية فقال عمرو: «إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خف عنا خففنا عنكم.»
31
فاتخذوا ذلك ونحوه ذريعة للاستيلاء على ما شاءوا من أموال الناس، وقد جرأهم على ذلك معاوية إذ جعل بعض الأعمال طعمة لبعض عماله والبعض الآخر ضمنه بمال زهيد، فعل ذلك في بادئ الرأي ترغيبا لهم في نصرته، ثم توالت عليه وعلى من خلفه من بني أمية الحروب مع أحزاب بني هاشم والخوارج وغيرهم، فاضطروا إلى الاستكثار من الأموال ولا سبيل إلى جمعها إلا بالخراج والجزية من أهل البلاد، فاستخدموا من العمال من يثقون باقتدارهم على جمع الأموال فضلا عن الحرب، وأشد أولئك العمال وطأة الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك على العراق، واحتاج عبد الملك إلى مقاومة جماعة من مناظريه على الخلافة، وفيهم عبد الله بن الزبير في مكة، والمختار بن أبي عبيد في العراق، وغيرهما، فوكل ذلك إلى الحجاج وأمثاله فاستخدموا العنف في تحصيل الأموال بحق وبغير حق.
32 (3-1) أجور العمال
وكان عمال بني أمية يجورون على أصحاب الأرض من أهل الذمة في التحصيل ونحوه، لا يهمهم بقي لهم من المحصول شيء أم لا، وكان الخراج يومئذ على المساحة، فيؤخذ على الأرض مال معين زرعت أم لم تزرع، وكان من شروط الخراج أن يستبقى لأصحاب الأرض ما يجبرون به النوائب والحوائج، ومما يحكى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في أخذ تلك البقية منهم فأجابه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
33
والظاهر أن الضغط على أهل القرى وأصحاب الأرض حمل بعضهم على الإسلام احتماء به فأصبحوا من الموالي، فلم يمنع ذلك تحصيل الخراج والجزية منهم فألزمهم الحجاج
34
الخراج مع أنهم تنازلوا عن مغارسهم لأهلهم وغادروا القرى وسكنوا الأمصار فرارا من تلك الضرائب، فأمر الحجاج بردهم وطالبهم بالخراج لأن المسلمين كانوا إلى ذلك الحين لا يقيمون إلا في المدن التي بنوها هم، وأهل البلاد الأصليون يقيمون في القرى للزرع والحرث، فمن اعتنق منهم الإسلام رفع الخراج عن رأسه، وصار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه، يؤدون عنها ما كان يؤدي من الخراج كما تقدم، وينزل هو إلى الأمصار كالكوفة والبصرة والفسطاط.
ففعل ذلك في أيام الحجاج جماعة كبيرة، ربما التمسوا به النجاة من الضغط فإذا هو ملاقيهم، وكتب الحجاج إلى الأمصار: «أن من كان له أصل في قرية فليرجع إليها لتؤخذ منه الجزية والخراج»، فعل ذلك في أيام ابن الأشعث فخرج الناس وهم يبكون وينادون: «يا محمداه! يا محمداه!» ولا يدرون إلى أين يذهبون، فاضطروا إلى الانضمام للأشعث على الحجاج.
35
ولم تكن تلك المعاملة خاصة بالحجاج من عمالهم، فقد فعله مثله أيضا يزيد بن أبي مسلم عامل يزيد بن عبد الملك على إفريقية
36
وكذلك فعل الجراح في خراسان
37
وغيره فيما وراء النهر
38
وكان أهل سمرقند قد أسلموا على أن ترفع الجزية عنهم، فظلوا يأخذونها منهم فعادوا إلى دينهم.
أما النصارى وغيرهم من أهل الذمة الذين ظلوا على دينهم فيكفي في تمثيل حالهم اعتبار ما تقدم من معاملة الذين أسلموا منهم، فكانوا يسومونهم العذاب في تحصيل الجزية، ورأى هؤلاء أن اعتناق الإسلام لا ينجيهم من ذلك، فعمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة؛ لأن الرهبان لا جزية عليهم، فأدرك العمال غرضهم من ذلك فوضعوا الجزية على الرهبان، وأول من فعل ذلك منهم عبد العزيز بن مروان عامل مصر فأمر بإحصاء الرهبان، وفرض على كل راهب دينارا
39
وهي أول جزية أخذت من الرهبان، وأمثال هذه الحوادث كثيرة في تاريخ بني أمية. •••
ولم يكن ذلك كل ما اقترفوه في سبيل جمع المال، فإنهم زادوا الخراج عما كان عليه في أيام الراشدين، بدأوا بذلك من أيام معاوية فأراد أن يزيد قيراطا، فكتب إلى وردان مولى عمرو بن العاص أمير مصر أن: «زد على كل امرئ من القبط قيراطا»، فكتب إليه: «كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا أزيد عليهم؟»
40
ولعل عمرا لم يطعه في ذلك لأن مصر طعمة له ، فلما انتقلت إلى خلفاء بني أمية بعد عمرو زادوا في الخراج ما شاءوا، وأشهر من فعل ذلك عبيد الله بن الحبحاب متولي الخراج من قبل هشام بن عبد الملك (سنة 105-125ه) فإنه زاد على القبط قيراطا في كل دينار فلم يصبر القبط على ذلك، وكانوا لا يزالون هم السواد الأعظم، فثاروا فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم جمعا كبيرا، وحدث نحو ذلك على يد أسامة بن زيد التنوخي متولي الخراج فإنه أوقع في النصارى وأخذ أموالهم، وكثر الالتجاء إلى الرهبنة في أيامه فأراد أن يمنع ذلك لأنه يضر في الخراج والجزية، فأحصى الديور والرهبان كافة ووسم أيدي الرهبان بحلقة من حديد فيها اسم الراهب واسم الدير وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وألزم كل نصراني بمنشور يحمله يدل على أنه أدى ما عليه، وكتب إلى العمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الديارات وقبض على عدة من الرهبان بغير وسم، فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب.
41
على أن ذلك لم يكن برضى الخليفة، فلما بلغ هشام بن عبد الملك ذلك كتب إلى عامله بمصر أن يجري النصارى على عوائدهم وما في أيديهم من العهود، ولم يطل العمل بهذا الأمر فعاد العمال إلى ظلمهم، وفي جملتهم حنظلة بن صفوان فإنه زاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم، وجعل على كل نصراني وسما صورة أسد وتتبعهم فمن وجده بغير وسم قطع يده.
42
وقس على ذلك أمثلة كثيرة من شدة عمال بني أمية على أهل الذمة والموالي وغيرهم من العرب. •••
ومن أمثلة ما اقترفه بنو أمية من زيادة الخراج والجزية أن أهل الجزيرة بالعراق كانت جزيتهم دينارا، ومدين قمحا، وقسطين زيتا، وقسطين خلا في العام، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك، فبعث إلى عامله فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها فوجد الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعا وجعلها طبقة واحدة.
43
ولم تكن ضرائبهم قاصرة على أهل الذمة والموالي، ولكنها شملت العرب المسلمين أنفسهم، وذلك أن محمدا أخا الحجاج بن يوسف لما تولى اليمن أساء السيرة وظلم الرعية، وأخذ أراضي الناس بغير حقها وضرب على أهل اليمن خراجا سماه «الوظيفة»، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله هناك بإلغاء تلك الوظيفة والاقتصار على العشر.
44
وكان عمال بني أمية في فارس يخرصون الثمار على أهلها؛ أي يحزرون مقدارها، ثم يقومونها بسعر دون سعر الناس الذي يتبايعون به، فيأخذونها قرفا على قيمتهم التي قدروها.
45
وكان من أساليبهم في الاستكثار من الأموال ضرب الضرائب على الأرض الخراب، وكانوا يفرضون على الأهالي هدية في عيد النيروز بلغت في أيام معاوية 10000000 درهم
46
وفرضوا مالا على من يتزوج وعلى من يكتب عرضا
47
وكانوا يكيلون للعامل بكيل وللأكار بكيل آخر، ويكلفون أهل الخراج أرزاق العمال، وأجور المدى وحمولة الطعام، وثمن صحف وقراطيس، وأجور الكيالين ومؤونتهم، وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع الجابي منها طائفة ويقول: «هذا رواجها وصرفها.»
48 •••
ولم يكن عمال بني أمية يأتون هذه الأعمال من عند أنفسهم دائما، بل كثيرا ما كانوا يفعلونها بأمر خلفائهم كما قد رأيت مما كتبه معاوية إلى وردان، وكان ذلك شأنه في تحريض عماله على جمع الأموال وهم يخترعون له الطرق للاستكثار منها
49
وكذلك فعل من جاء بعده وخصوصا عبد الملك؛ لأنه كان شديد الحاجة إلى المال ومناه الله بالحجاج فلم يترك وسيلة في استخراج المال إلا اتخذها، أما لو أراد الخلفاء إبطال هذه المظالم لهان عليهم إبطالها؛ لأن العمال في أيام عمر بن الخطاب كانوا يرتكبون مثل ذلك فلا يسكت عمر عنهم.
ولما جار عمال الأهواز في أيامه شكاهم أبو المختار يزيد بن قيس بقصيدة، بين فيها أرباحهم من أهل الرساتيق والقرى وسماهم في قصيدته، وحرض عمر على مقاسمتهم ما ربحوه، إلى أن قال:
فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم
سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
ولا تدعوني للشهادة إنني
أغيب ولكني أرى عجب الدهر
فبعث عمر إليهم فقاسمهم شطر أموالهم حتى أخذ نعلا وترك نعلا، ولم يكتف بمقاسمة العمال ولكنه قاسم بعض إخوتهم، فاعترض هؤلاء، فقال أحدهم لعمر: «إني لم أل لك شيئا.» فقال له: «أخوك على بيت المال وعشور الأبلة وهو يعطيك المال تتجر به.» فأخذ منه عشرة آلاف.
50 •••
وكانت مشاطرة عمر عماله حجة اتخذها معاوية بعد ذلك في مشاطرة العمال، فلم يكن يموت له عامل إلا شاطر ورثته وهو يقول: «إنها سنة سنها عمر.» ثم تدرج إلى استصفاء أموال الرعية، وهو أول من فعل ذلك.
51
فالعمدة في حفظ النظام على الرأس، فإذا صلح صلحت الأعضاء، فقد رأيت أن خلفاء بني أمية طلبوا المال لقيام دولتهم بأي وسيلة كانت، فأمدوا العمال بالسلطة وأطعموهم فعمد هؤلاء إلى إحراز الأموال إلى أنفسهم أيضا، واقتدى بهم العمال الصغار كالكاتب والجابي ونحوهما، فزادت شكوى أصحاب الأرض فاضطر العمال إلى إخراج أعمال الجباية من العرب وتسليمها إلى الموالي، ومنهم الدهاقين أصحاب الضياع في العراق، فعل ذلك ابن زياد عامل الخراج سنه 64ه فعاتبه بعضهم فأجابه: «كنت إذا استعملت العربي كسر الخراج، فإذا أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأوهن بالمطالبة منكم، مع أني جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدا.»
52 •••
وفي كلام القاضي أبي يوسف في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج ما يبين الطرق التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها، قال: «بلغني أنه قد يكون في حاشية العامل أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة ومنهم من له إليه وسيلة ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعين بهم ويوجههم في أعماله يقتضي بذلك الذمامات فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال الرعية، ثم إنهم يأخذون ذلك كله - فيما بلغني - بالعسف والظلم والتعدي، ويقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام.»
53
وكان شأن بني أمية وعمالهم وجباتهم على نحو ما تقدم حين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99ه وكان تقيا منصفا، فأراد أن يرد الأمور إلى ما كانت عليه في أيام سميه وجده لأمه عمر بن الخطاب، فأصدر أوامره إلى العمال بإبطال تلك المظالم وعينها بأسمائها مفصلة
54
وأبطل لعن علي على المنابر وكان أهله قد اقتنوا الضياع وأخذوا كثيرا منها من أهل الذمة بغير حق، ففتح بابه للناس وأعلن: «أن من كانت له ظلامة فليأت.» فأتاه المظلومون وفيهم النصارى واليهود والموالي وغيرهم، ومنهم من يشتكي اختلاس ماله، وآخر اغتصاب ضيعته، وكان ينصفهم بالحق والعدل ولو كان الحكم على ابنه أو أخوته أو أبناء عمه، قال ابن الأثير: «وقال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: إن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه ولا هم أن يعطونيه، وإني قد هممت برده على أربابه، قال: فكيف تصنع بولدك؟ فجرت دموعه وقال: أكلهم إلى الله
55
وأخذ أموال أعمامه وأولادهم وسماها «مظالم»،
56
فلما رأى أهله ذلك خافوا على سلطانهم، وهو إنما قام بالمال فإذا خرجت الضياع والأموال من أيديهم ذهب ضياعا، فمشوا إلى عمته فاطمة بنت مروان وشكوه إليها فأتته فقال لها: «إن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
رحمة ولم يبعثه عذابا إلى الناس كافة.»
57
ولما رأى الموالي عدله وتقواه اغتنموا الفرصة وشكوا إليه ما يقاسونه من الذل والضغط، وكان الجراح بن عبد الله الحكمي عامل خراسان قد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز في الشام وفدا: رجلين من العرب ورجلا من الموالي، فتكلم العربيان والمولى ساكت فقال له عمر: «ما أنت من الوفد؟» قال: «بلى» قال: «فما يمنعك من الكلام؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: أتيتكم حفيا، وأنا اليوم عصبي، والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم والعدوان.»
58
فقال عمر: «أحر بمثلك أن يوفد» وكتب إلى الجراح: «انظر من صلى قبلك فضع عنه الجزية.» فرغب الناس في الإسلام وتسارعوا إليه فقيل للجراح: «إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفورا من الجزية فامتحنهم بالختان.» فكتب الجراح إلى عمر بذلك فأجابه: «إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه خاتنا.»
59
وفعل عمر نحو ذلك مع عامله على مصر حيان بن شريح، وكان حيان قد كتب إليه: «أما بعد فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار أتممت بها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل.» فكتب إليه: «أما بعد فقد بلغني كتابك، وقد وليتك جند مصر وأنا عارف ضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عمن أسلم، قبح الله رأيك، فإن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه.»
60 •••
وقس على ذلك عماله الآخرين، فإنه عزل من لم يوافقه منهم فأصبحت الدولة ورجالها كلها ضده؛ لأنه حاول إصلاح الأمور بالعنف دفعة واحدة والطفرة محال، وما في بني أمية وعمالهم إلا من كره ذلك منه، فلم يصبروا على خلافته، وانتهت خلافته في ظروف غامضة سنة 101ه/720م ويعده المؤرخون من الخلفاء الراشدين، وإذا قالوا «العمرين» أرادوه وعمر بن الخطاب.
61
فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكن تطبيق هذه القواعد اختلف باختلاف الذين يتولون شؤونها، ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما كانت عليه في عهد ابن الخطاب لامحت مظالم بني أمية، ولكنه جاء في غير أوانه فذهب سعيه هدرا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل فصارت إلى أشد مما كانت عليه قبله، وبالغ العمال في الاستبداد والعسف وشددوا في استخراج الخراج وزادوه ، حتى اضطر بعض أصحاب الأرض إلى الإلجاء؛ أي أن يلجئوا أراضيهم إلى بعض أقارب الخليفة أو العامل تعززا به من جباة الخراج كما سيأتي.
أما الخلفاء فإنهم زادوا انغماسا في الترف، وأولهم يزيد بن عبد الملك فإنه انقطع إلى اللهو والخمر، واشتغل عن مصالح الدولة بجاريتيه: سلامة، وحبابة وحديثهما مشهور،
62
وخلفه أخوه هشام وكان بخيلا، وفي أيامه زيدت الضرائب في مصر على يد الحبحاب كما تقدم، وجاء بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان مثل أبيه في اللهو والخمر فقتله أهله وولوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة 126ه، وكان عازما على إصلاح الأمور اقتداء بعمر بن عبد العزيز، كما يؤخذ من خطاب ألقاه عند مبايعته،
63
فأصابه من الفشل نحو ما أصاب عمر؛ لأن الأحوال كانت غير ملائمة، وفي أيام خلفه مروان بن محمد تغلب بنو العباس وصارت الخلافة إليهم.
وكان بنو أمية قد انغمسوا في الترف واللهو والخمر، وأصبحوا لا ينظرون إلى ما يؤيد سلطانهم ولا يبالون في انتقاء عمالهم، وربما ولوا العامل عملا بإشارة جارية أو مكافأة على هدية كما فعل هشام بن عبد الملك بالجنيد بن عبد الرحمن، وكان الجنيد قد أهدى امرأة هشام قلادة من جوهر فأعجبت هشاما فأهدى هشاما قلادة أخرى فولاه هشام على خراسان سنة 111ه
64
وبلغ ثمن الجارية في أيام بني أمية 1000000 درهم وهي الذلفاء
65
وأصبح العمال لا هم لهم إلا حشد الأموال والاستكثار من الصنائع والموالي، ولم يعد أهل العدل يرضون بولاية الأعمال مخافة أن يقصروا بالمال الذي يطلبه الخلفاء، كما حدث ليزيد بن المهلب لما ولاه سليمان بن عبد الملك العراق، فقال يزيد في نفسه: «إن العراق قد أخربها الحجاج وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت كالحجاج، أدخل على الناس الحرب وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني.»
66
وقس على ذلك رأي غيره ممن يؤثرون الرفق، فلم يرغب في الولايات إلا أهل المطامع، وجعل الخلفاء من الجهة الأخرى يطمعونهم بالرواتب الفادحة، فبلغ رزق يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق في أواخر أيام بني أمية 600000 درهم
67
وكان العمال يبذلون جهدهم في اختزان الأموال لأنفسهم لعلمهم أن الولاية غير ثابتة لهم، فكثرت أموالهم واتسعت ثروتهم فبلغت غلة خالد القسري أمير العراق في أيام هشام 13000000 درهم
68
أي نحو مليون دينار، فأصبح الخلفاء لا يعزلون عاملا من عمله إلا حاسبوه على ما عنده من المال، وكانوا في أيام معاوية يشاطرون العمال اقتداء بعمر بن الخطاب، ثم صاروا يحاكمونهم ويستخرجون كل ما تصل إليه معرفتهم من أموالهم، كما فعلوا بخالد القسري إذ وشى به كاتبه حيان النبطي أنه فرق 36000000 درهم، فبعث هشام إليه من أخرج معظم هذا المال منه ومن عماله
69
ويسمون هذا العمل «استخراجا» وكانوا يستخدمون الشدة فيه فوقع بين العمال والخلفاء تنافر زاد الخطر على دولة بني أمية.
أما ارتفاع الدولة الإسلامية في أيام بني أمية، أي مقدار ما كان يجتمع لهم من الخراج والجزية وغيرهما، فقد ضاع تفصيله في جملة ما ضاع من أخبارهم في الفتن، على أن المملكة الإسلامية بلغت في أيامهم اتساعا عظيما يعدل اتساعها في أيام العباسيين، ولكن عمدتهم كانت على العراق والجزيرة والشام ومصر، وأما الأطراف فقد كان خراجها يذهب بين العمال والكتاب والجباة، على أن كثيرا منها لم يكن يدفع شيئا يستحق الذكر؛ لأن قدم الأمويين لم تكن راسخة فيها. •••
واختلفت جباية العراق والشام ومصر باختلاف السنين والعمال، وقد فصلنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، وخلاصته أن متوسط جباية العراق في أيامهم نحو 130000000 درهم وجباية مصر 4000000 دينار (أو 48000000 درهم) وجباية الشام 1720000 دينار (أو 20000000 درهم) فيكون ارتفاع هذه البلاد نحو 198000000 درهم يضاف إليه أموال البلاد الأخرى مما لا نعرف مقداره.
وخلاصة ما تقدم أن الأموال كانت تستخرج في أيام بني أمية بكثرة، ولكنها لا تسمى ثروة؛ لأنها كانت تصرف في الحروب لتأييد شوكتهم، فقد حاربوا عليا، والحسين بن علي، والمختار بن أبي عبيد ، وعبد الله بن الزبير، وحاربوا الخوارج وغيرهم، ناهيك بما كان يقوم من الفتن بين القبائل العربية اليمنية والمضرية وبين العرب والموالي، فضلا عما كان ينفقه الخلفاء والأمراء في البذخ واللهو والقصف. (4) الدولة العباسية
للدولة العباسية عصران، يختلف أحدهما عن الآخر اختلافا عظيما: العصر الأول وهو ما يعبرون عنه بالعصر الزاهر، يمتد من أول نشأة هذه الدولة سنة 132ه إلى آخر أيام المأمون سنة 218ه، وفيه بلغت الدولة العباسية قمة مجدها وأنشأت التمدن الذي نحن في صدده، وفيه أدركت ثروة الدولة الإسلامية أعظم ما بلغت إليه في عصر من العصور، وعليها مدار الكلام في هذا الكتاب.
والعصر الثاني - ويعبرون عنه بعصر التقهقر أو الاضمحلال - يبتدئ بخلافة المعتصم سنة 218ه وينقضي بانقضاء الدولة العباسية من بغداد، وفيه تقهقر التمدن الإسلامي وقلت الثروة وضعفت الدولة حتى انحلت عراها وانقضت أيامها. (4-1) العصر العباسي الأول (من سنة 132 إلى 218ه)
سبب قيام هذه الدولة
رأيت فيما تقدم أن العصر الأموي يمتاز عن عصر الراشدين بانقلاب الحكومة فيه من الخلافة الدينية إلى السياسية الدنيوية، وأن خلفاءها وعمالها إنما كان همهم جمع المال، وأنه يمتاز عن العصر العباسي بتعصب أهله للعرب واحتقارهم سائر الأمم، وخصوصا الشعوب التي كانت تحت سلطانهم في البلاد التي دانت لهم؛ في مصر، والشام، والعراق، وفارس، وخراسان، وغيرها، وفيهم: القبط، والنبط، والروم، والسريان، والكلدان، والفرس، والترك، والسودان، وغيرهم - حتى الذين أسلموا منهم - فأصبحت تلك الأمم تئن من معاملتهم، وزادها نفورا ما كانوا يتخذونه من العنف في تحصيل الخراج، وأصبحوا يودون الخروج من حوزتهم وينصرون كل من دعا إلى خلعهم
70
وخصوصا الموالي، فإنهم باعتناقهم الإسلام خسروا أراضيهم ومنازلهم، وأصبحوا مطالبين بالذهاب إلى الحرب لحماية الدولة، فكان بنو أمية يخرجونهم إلى القتال مشاة بلا رزق ولا فيء، وكان خصوم هذه الدولة يغتنمون الفرص ويستنصرون الموالي عليها ويجعلون لهم الأرزاق وأول من فعل ذلك المختار بن أبي عبيد سنة 66ه؛ إذ جاء للانتقام من قتلة الحسين بالكوفة، فعظم ذلك على العرب وقالوا: «إن المختار قد آذى بموالينا فحملهم على الدواب وأعطاهم فيئنا.» فقال لهم المختار يومئذ: «إذا أنا تركت مواليكم وجعلت فيئكم لكم تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطونني على الوفاء عهد الله وميثاقه وما أطمئن إليه من الإيمان؟» فتفاوضوا فيما بينهم فقال أحدهم: «إن أطعتموني لم تخرجوا» فقالوا له: «لم؟» فقال: «لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا، ومع الرجل شجعانكم وفرسانكم مثل فلان وفلان ثم معه عبيدكم ومواليكم وكلمة هؤلاء واحدة، ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم، فهم مقاتلوكم بشجاعة العرب وعداوة العجم.»
71
وكان ذلك شأن الموالي مع كل من قام يدعو إلى خلع بني أمية، ولذلك كثر الخوارج في أيامهم وقام في نفوس العرب أن الخلافة لا يشترط فيها القرشية
72
على أن هذا الاعتقاد لم يتمكن من نفوس المسلمين إلا بعد أجيال، أما يومئذ فكان الدعاة أكثرهم من أهل بيت النبي، وفيهم العلويون من نسل الإمام علي ابن عم النبي، والعباسيون من نسل العباس عمه، وكان الخراسانيون من أكثر الناس نقمة على بني أمية للأسباب التي قدمناها، فأخذوا بيد العباسيين وقائدهم أبو مسلم الخراساني، ولما نهضوا نهض معهم أعداء بني أمية من العرب وغير العرب في كل أنحاء المملكة الإسلامية، فضلا عن أهل البلاد غير المسلمين، فدارت الدائرة على بني أمية وانتصر العباسيون، فجعلوا عاصمتهم في العراق بالقرب من أنصارهم.
وعرف العباسيون علة سقوط بني أمية، فتجنبوا الوقوع في مثلها، فاتخذوا الجند والأعوان من الفرس، واستبقوا الجند العربي أيضا من ربيعة ومضر رغبة في المحافظة على العصبية العربية لأنها عماد الإسلام.
ولم يكونوا يستطيعون التوفيق بين العنصرين؛ لأنهم انساقوا بطبيعة الأمور إلى الاختلاط بالفرس والتزيي بألبستهم من القلانس ونحوها، جعلوا ذلك فرضا واجبا عليهم، وأول من أخذ الناس بلبسها المنصور سنة 153
73
فأمرهم بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة
فزاد الإمام المصطفى في القلانس
نراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس
على أن غضب العرب لم يغير شيئا من مجاري الأمور، فاتخذ الخلفاء أمهات أولاد من الفرس ، أولدوهن أولادا تولوا الخلافة، وفيهم ميل فطري إلى العنصر الفارسي، وازداد هذا العنصر تغلبا في بلاد الخلفاء بما اتخذوه من الوزراء ورجال الشورى منهم: كالبرامكة وغيرهم، وكان الفرس يبذلون جهدهم في خدمة الدولة العباسية بنصح وصدق نية؛ لأن في قيامها صلاح بلادهم.
العرب والبيعة
على أن الخلفاء لم يكن لهم غنى عن جزيرة العرب، وفيها الحرمان: الكعبة، وقبر النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي احترامهما احترام الدين الإسلامي، وعليه تقوم دعائم الخلافة، وزد على ذلك أنهم كانوا يخافون أهل الحرمين من التشيع لآل علي، وهم في حاجة إلى بيعة فقهاء المدينة لما لهذه البيعة من الأهمية في تأييد الخلافة وتوكيد البيعة، وكان أهل الورع من الخلفاء لا يقطعون أمرا دونهم
74
فشق ذلك على الفرس وخافوا أن يرجع النفوذ إلى العرب، فينتقموا منهم وتذهب مساعيهم أدراج الرياح، فسعوا في إغفال بلاد العرب، ولا سبيل إلى إغفالها والكعبة فيها، وهي حج المسلمين والحج من أركان الإسلام، فحبب بعضهم إلى المنصور أن يستبدل الكعبة بما يقوم مقامها في العراق وتكون حجا للناس، فبنى بناء سماه القبة الخضراء تصغيرا للكعبة
75
وقطع الميرة في البحر عن المدينة
76
فاتخذ العرب ذلك حجة على العباسيين، وأظهروا البيعة لمحمد بن عبد الله من آل علي، وخلعوا بيعة المنصور، وقد أفتى لهم بذلك مالك بن أنس الإمام الشهير،
77
وكان بنو أمية في الأندلس قد قطعوا دعوة بني العباس بعد أن دعوا لهم مدة قصيرة
78
عند دخول عبد الرحمن بن معاوية كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب واستقل عبد الرحمن بالأندلس لبعدها عن دار الخلافة، ثم استولى محمد بن عبد الله على المدينة فخافه المنصور، وبذل قصارى همه في قتله، ولم يستطع ذلك إلا بعد العناء الشديد. •••
فكان ما قاساه المنصور من عواقب إهماله الحرمين عبرة لخلفائه، فلما تولى ابنه المهدي أكرم أهل الحرمين، وكسا الكعبة كسوة جديدة، وفرق هناك مالا عظيما جاء به معه من العراق مقداره 30000000 درهم، وجاءه وهو في المدينة 300000 دينار من مصر، و200000 دينار من اليمن ففرقها كلها وفرق 150000 ثوب، ووسع المسجد واتخذ حرسا من الأنصار عددهم 500 رجل حملهم معه إلى بغداد وأقطعهم الأرض
79
وأمر بحفر نهر الصلة بواسط وأحيا ما عليه من الأرض، وجعل غلته لصلات أهل الحرمين والنفقات هناك
80
وأصبح إكرام الحرمين على هذه الصورة سنة في بني العباس في أثناء حجهم، أو عند طلب البيعة لأولادهم، فإن الرشيد حج سنة 186ه ومعه ابناه الأمين والمأمون، فلما وصل المدينة أعطى فيها ثلاث أعطيات عنه وعن ولديه، وفعل نحو ذلك في أهل مكة وبلغ ما فرقه 1050000 دينار وكتب هناك كتابا بولاية العهد للأمين وآخر للمأمون ووضع الكتابين في الكعبة
81
وأصبحت النفقة على الحرمين من جملة نفقات الدولة الضرورية، وعاد شأن العرب إلى الظهور، والخلفاء يرون ذلك ضروريا؛ لتثبيت أقدامهم في الملك. •••
على أنهم كانوا من الجهة الأخرى لا يستغنون عن الفرس، وهم وزراؤهم ومشيروهم، فزادت المنافسة بين العنصرين حتى كان ما كان بين الأمين والمأمون، واستنصر المأمون جند خراسان وهم أخواله؛
82
لأن أمه فارسية وقام العرب ينصرون أخاه الأمين، وأمه عربية هاشمية
83
وجنده ينصرون العرب فغلب جند المأمون فقبض على أزمة الملك فعاد النفوذ إلى الفرس، فشق ذلك على العرب ونقموا عليه وأرادوا البيعة لسواه وإخراج الأمر من يده
84
فازداد كرها لهم ورذلهم، فعوتب في ذلك مرة وهو في الشام فقال له رجل: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعرب خراسان.» فقال له: «أكثرت علي، والله ما أنزلت قيسا من ظهور خيلها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث نبيه من مضر.»
85
ولما تولى المعتصم سنة 218ه واصطنع الأتراك والفراغنة ازداد العرب هوانا في عيون أهل الدولة وتقاصرت أيديهم عن أعمالها حتى في مصر، فإن آخر عربي تولاها عنبسة بن إسحق الضبي سنة 238ه
86
وأراد المعتصم أن يستغني عن بلاد العرب جميعا، وكان قد بنى سامرا بقرب بغداد وأقام فيها جنده فأنشأ فيها كعبة وجعل حولها طوافا واتخذ منى وعرفات، غرر به أمراء كانوا معه لما طلبوا الحج خشية أن يفارقوه
87
فأصبح لفظ «عربي» مرادفا لأحقر الأوصاف عندهم، ومن أقوالهم: «العربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة واضرب رأسه.»
88
وقولهم: «لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به.»
89
وأصبح الأمراء والوزراء وسائر رجال الدولة من الفرس والترك والديلم وغيرهم، وصار الخلفاء يؤيدون مناصبهم بالأجناد وبذل المال، وقلت العناية بالعرب وأحزابهم. •••
وكان العرب من الجهة الأخرى يجاهرون بكره الفرس وغيرهم من الأعاجم، ويطعنون فيمن يميل إليهم ولو كان من الخلفاء، ولذلك فلما مات المعتصم وتولى بعده الواثق كان دعبل الخزاعي الشاعر المشهور في الصميرة، فلما جاءه نعي المعتصم وقيام الواثق أنشد هذين البيتين:
الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد
وخلاصة ما تقدم أن الجامعة الإسلامية كانت في عصر الراشدين عربية وكان غرضهم الأول نشر الإسلام في الأرض، يدفعهم إلى ذلك اعتقادهم المتين بصدق الرسالة وأن الله يدعوهم إلى ذلك، فلما تولاها بنو أمية استعاضوا عن ذلك الاعتقاد بطلب المال، وتحول الغرض إلى السلطة الزمنية السياسية وظلت الجامعة العربية متينة، وفي عصر العباسيين استبدلوا العصبية العربية بالأعاجم، واحتاجوا في اصطناعهم أو استخدامهم إلى المال وانخرطوا هم في سلكهم بواسطة الأمهات، ثم أصبح الأعاجم من الفرس والترك والديلم والصفد والفراغنة وغيرهم يتسابقون إلى الاستئثار بالنفوذ بواسطة المال كما سترى.
هوامش
ثروة الدولة العباسية في العصر العباسي الأول
وصلنا إلى موضوع هذا الكتاب بعد هذا العرض لأحوال الدولة الإسلامية حتى العصر العباسي؛ لأن الثروة الإسلامية لم تنضج إلا في هذا العصر وعليه سيكون مدار كلامنا، وتقاس ثروة الدولة المالية بما يبقى في بيت مالها من دخلها بعد النفقات لا بمقدار الدخل على الإطلاق؛ إذ قد يكون الدخل كثيرا والنفقة أكثر منه وتقع الدولة تحت العجز ، فإذا اعتبرنا ذلك كانت ثروة الدولة العباسية في العصر الأول طائلة، وإن كنا لم نقف على ميزانيتها في عهد الخلفاء الخمسة الأولين فلم نعلم مقدار جبايتها في العام مما يعبرون عنه «بارتفاع الدولة» لضياع حساباتها في الفتنة بين الأمين والمأمون، إذ احترقت الدواوين
1
وضاعت الدفاتر كما احترق ديوان بني أمية عام الجماجم
2
ولكننا نعلم مقدار الثروة في أيامهم مما كانوا يختزنونه من المال في أثناء حكمهم. (1) الثروة في أوائل الدولة
فالخليفة الأول أبو العباس السفاح لم يحكم إلا أربع سنوات (من سنة 132-136ه/749-753م) قضاها في الحروب ولم يجمع مالا، ولما مات لم يجدوا في بيته إلا تسع جبات وأربعة أقمصة وخمسة سراويلات وأربعة طيالسة وثلاثة مطارف خز
3
وأما المنصور فإنه حكم 22 سنة (136-158ه/753-774م) وكان رجلا حازما كثير الاحتياط شديد الحرص على المال واختزانه، لا عن بخل ولكنه كان يخاف الفتن، فلما مات خلف في بيت ماله 600000000 درهم و14000000 دينار
4
وبتحويل هذه الدنانير إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما - وهي قيمته في ذلك العصر تقريبا - كان مجموع ما خلفه المنصور 810000000 درهم (والدرهم نحو خمسة وأربعين مليما )، فلما دنا أجله أوصى ابنه المهدي قائلا: «قد جمعت لك في هذه المدينة من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا.»
5
ويدل ذلك على دهاء المنصور واحتياطه للزمان، على أن سيرته كلها تدل على الحزم والعظمة والدهاء، وهو في الحقيقة مؤيد دولة بني العباس، حارب في سبيل سلامتها حروبا كثيرة أنفق فيها أموالا طائلة منها 63000000 درهم أنفقها في حرب الخوارج بإفريقية سنة 154ه، فاعتبر ما أنفقه في الحروب الأخرى وهي كثيرة، فضلا عما كان يبذله لأهله فإنه بذل لجماعة منهم في يوم واحد 10000000 درهم
6
وأنفق على بناء بغداد وحدها 4833000 درهم
7
ناهيك بما كان ينفقه على إصلاح الري وبناء الجسور، فإذا اعتبرت ذلك كله هان عليك تقدير ما وصل إلى بيت المال في أيام المنصور بمليار درهم (1000000000) على الأقل، فإذا قسمت ذلك على سني حكمه (22) لحق السنة 45000000 درهم سوى الأموال التي كان يأخذها من العمال إذا عزلهم واستخرج أموالهم؛ لأنه كان إذا عزل عاملا أخذ ماله وتركه في بيت مال مستقل سماه «بيت مال المظالم» وكتب على كل مال اسم صاحبه، ولما أحس بدنو الأجل أوصى ابنه المهدي في ذلك قائلا: «قد هيأت لك شيئا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم فاردد عليهم كل ما أخذ منهم، فإنك ستحمد بذلك إليهم وإلى العامة.»
8
ففعل المهدي ذلك لما تولى، وقد يتبادر إلى الذهن أن المنصور استكثر المال بما أخذه من أموال بني أمية بعد قهرهم وهي كثيرة، ولكن تلك الأموال ظلت منفردة في خزانة خاصة يسمونها «مال أهل بيت اللعنة».
9
وثروة المنصور قد تعد قليلة بالنظر إلى ثروة الرشيد، فقد خلف في بيت المال عند وفاته (سنة 193ه) 900000000 درهم ونيفا
10
ومدة حكمه نحو مدة حكم المنصور غير ما أنفقه الرشيد وما بذله وأسرف فيه وكرمه مشهور، وقد يخطر في البال أن هذا المال تجمع من أيام المنصور فالمهدي فالهادي فالرشيد ولم يجتمع كله في أيام الرشيد، ولكن الواقع أن المهدي أنفق كل ما خلفه المنصور وكل ما جباه في أثناء خلافته (من سنة 158-169)؛
11
لأنه كان كثير السخاء، ولم يحكم الهادي إلا سنة وبعض السنة، ويروى من فرط سخائه أنه أعطى عبد الله بن مالك أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرها، فلا يعقل أن يجتمع عنده مال يستحق الذكر، فما خلفه الرشيد في بيت المال إنما جمع في أيامه، وإذا قدرناه باعتبار مدة حكمه لم يزد كثيرا عما تركه المنصور لما بينهما من البون الشاسع في السخاء؛ فقد كان الرشيد كريما حتى إنه لم يكن يعرف للمال قيمة
12
وكان المنصور متهما بالبخل
13
ناهيك بما كان من أمر البرامكة في أيام الرشيد وما امتلكوه من الضياع وبذلوه من الأموال مما هو معلوم .
ولما مات الرشيد سنة 193 تنازع ولداه الأمين والمأمون على الخلافة وتحاربا، وكان الأمين في بغداد وقد أتته أمه زبيدة بخزائن أبيه
14
والمأمون في خراسان ودامت الحرب بينهما بضع سنوات أنفق الأمين في أثنائها كل ما كان في بيت المال مع ما أنفقه في خاصته؛ لأنه انقطع في أثناء خلافته إلى اللهو والخمر وبذل الأموال في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقسم الأموال والجواهر في خواصه من الخصيان والنساء.
15
فلما قتل الأمين سنة 198 استوثق الأمر في المشرق والمغرب للمأمون، وزاد نفوذ الخراسانيين في أيامه؛ لأنهم هم الذين أعادوا الملك إليه، واستتبت السكينة في المملكة العباسية واشتغل المأمون في نقل العلوم إلى العربية، وسنأتي على تفصيل ذلك في جزء آخر من هذا الكتاب خاص بالعلم والأدب. •••
أما الثروة في أيام المأمون فإنها اتسعت لاستكانة الناس إلى العمل واجتماع القلوب، ومدة حكمه 22 سنة نحو مدة أبيه الرشيد وأبي جده المنصور، ولكننا لم نقف على مقدار ما خلفه في بيت المال عند وفاته، ولعل خبر ذلك ضاع في جملة ما ضاع من هذا القبيل لقلة عناية مؤرخي تلك الأيام بهذه الأبحاث.
على أن ادخار المال أصبح بعد الخلفاء الراشدين من الأمور المألوفة عند ملوك المسلمين في كل الممالك والعصور، قيل إن عبد الرحمن الناصر خليفة الأندلس الشهير (تولى سنة 300-350) جمع في بيت ماله إلى سنة 340ه نحو 20000000 دينار
16
وكانت جباية الأندلس في أيامه 5480000 دينار ومن السوق والمستخلص 765000 دينار فالجملة 6245000 ما عدا أخماس الغنائم فإنها كانت كثيرة
17
وكان الناصر ينفق على جنده ثلث هذا المال فقط وينفق ثلثها على شئون الدولة ويدخر الباقي
18
وقد بالغ ابن خلدون في مقدار ما خلفه الناصر في بيت المال فجعله 5000000000 دينار، ولم يذكر ذلك جزافا ولا خامر كلامه شك بل هو حولها إلى الوزن فكانت على تقديره 500000 قنطار
19
وهو قول بعيد لا ندري كيف تطرق إلى قلم هذا الفيلسوف، ويدل على بعده عن المعقول أن ابن حوقل وهو من معاصري تلك الدولة قدر ما اجتمع في بيت مال الحكم المستنصر بن الناصر بعد موت أبيه من خدمه والمصادرين وغيرهم فلم يزد على 40000000 دينار وعد ذلك كثيرا لم يجتمع لدولة من الدول في ذلك العصر
20
وكانت بغداد يومئذ في عصر الاضمحلال وخلفاؤها وقوادها ووزراؤها يتقاتلون على المال ويصادر بعضهم بعضا.
أما في أيام المأمون فالمال الذي كان يجتمع من صوافي الجباية في بيت المال كل عام لم يجتمع في دولة من دول المسلمين ولا غيرهم، وقد وقفنا على مقدار تلك الجباية في مقدمة ابن خلدون نقلا عن «جراب الدولة»
21
وهي أقدم جريدة أو قائمة وصلت إلينا من حسابات الدولة الإسلامية، تليها جريدة أخرى نقلها قدامة بن جعفر وأخرى رواها ابن خرداذبه، وكلها لا تتجاوز أواسط القرن الثالث للهجرة، وسنذكر كلا منها ونقابل بينها ليتبين لنا مقدار تلك الثروة.
ولكننا نرى قبل التقدم إلى ذكر الجباية أن نأتي على فذلكة في جغرافية المملكة الإسلامية في أيام المأمون لتتضح نسبة أعمال تلك المملكة بعضها إلى بعض، وإلى عاصمة المملكة العباسية. (2) جغرافية مملكة الإسلام في عصر المأمون (2-1) حدودها
يحدها من الشرق أرض الهند بما يلي حوض نهر السند شرقا وبعض الصين وبحر فارس، ومن الغرب مملكة الروم، ويعبر عن تلك الحدود الآن بالبحر الأسود وآسيا الصغرى وبحر الروم والروس والبلغار، ومن الشمال بلاد السرير والخزر واللان في آسيا وجبال البيرينيه في أوربا.
وفي خريطة هذه الأيام بلاد سيبيريا وبحر قزوين وبحر الروم، ومن الجنوب بحر فارس وما يلي مصر من بلاد النوبة وقد بينا مساحتها وعدد سكانها في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وتقسم هذه المملكة إلى عدة أعمال تختلف مساحتها ونسبتها بعضها إلى بعض باختلاف الدول والأزمنة، وسنبين ما كانت عليه حوالي عصر المأمون نقلا عن جغرافيي العرب في تلك الأيام وخصوصا الإصطخري وابن حوقل وابن الفقيه، فهي تقسم إلى سبعة وعشرين إقليما، منها سبعة في المغرب وعشرون في المشرق؛ وهي:
أقاليم المغرب
أقاليم المشرق
ديار العرب
العراق
أرمينية
قومس
بحر فارس
خوزستان (الأهواز)
أذربيجان
مفازة خراسان
ديار المغرب
فارس
بلاد الران
سجستان
مصر
كرمان
الجبال
ما وراء النهر
الشام
مكران
الديلم
خوارزم
بحر الروم
طوران
طبرستان
الجزيرة
السند
جرجان
وإليك وصف كل من هذه الأقاليم بما يمكن من الإيجاز: (2-2) ديار العرب
وهي جزيرة العرب يحيط بها بحر فارس من عبادان - وهو مصب ماء دجلة في البحر - فيمتد على البحرين حتى ينتهي إلى عمان، ثم ينعطف على سواحل مهرة وحضرموت وعدن حتى ينتهي إلى سواحل اليمن إلى جدة، ثم يمتد إلى مدين حتى ينتهي إلى أيلة (وهي إيلات الحالية على خليج العقبة)، فهم يريدون ببحر فارس كل ما يحيط ببلاد العرب من المياه، ولكنهم يعبرون عن الجزء الممتد من باب المندب إلى أيلة ببحر القلزم وهو البحر الأحمر، ويحدها من الغرب الشمالي برا بلاد الشام وفلسطين بخط منحن يمتد من أيلة إلى البحيرة المنتنة (أي البحر الميت) فالشراة فالبلقاء فأذرعات وسلمية فالخناصرة إلى الفرات إلى الرقة وقرقيسيا والرحبة فالكوفة إلى البطائح فواسط إلى عبادان.
وتقسم ديار العرب إلى الحجاز وفيه مكة والطائف والمدينة اليمامة ومخاليفها، ونجد الحجاز المتصل بأرض البحرين، وبادية العراق، وبادية الجزيرة ، وبادية الشام، واليمن المشتملة على تهامة، ونجد اليمن وعمان ومهرة وحضرموت وبلاد صنعاء وعدن وسائر مخاليف اليمن. (2-3) بحر فارس
ويراد به عندهم كل البحور المحيطة ببلاد العرب من مصب ماء دجلة في العراق إلى أيلة
22
فيدخل فيه ما نعبر عنه اليوم بخليج فارس وبحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر وخليج العقبة ولا يهمنا وصفه في هذا المقام. (2-4) ديار المغرب
يراد بها في اصطلاحهم كل سواحل أفريقيا الشمالية وراء حدود مصر غربا، ويدخل في ذلك: (1)
برقة. (2)
إفريقية وهي تونس. (3)
تاهرت في الجزائر. (4)
طنجة والسوس وزويلة في مراكش.
أما برقة فهي مدينة وسط، واقعة في مستو من الأرض خصبة تطيف بها البادية يسكنها طوائف من البربر، وبينها وبين إفريقية مدينة طرابلس الغرب، وهي من عمل إفريقية مبنية من الصخر ويليها المهدية ثم تونس، وهي كبيرة خصبة ثم القيروان وهي عاصمة إفريقية وأكبر مدينة فيها واقعة في البر، وكذلك تاهرت فإن عاصمتها تاهرت، ومن مدنها أيضا سجلماسة وهي بعيدة في الصحراء.
ويجعلون الأندلس جزءا من بلاد المغرب لأنها كانت تابعة لها عند فتحها، والأندلس (إسبانيا) مملكة كبيرة عاصمتها قرطبة وحدودها معروفة، ومن أشهر مدنها جيان وطليطلة وسرقسطة ولاردة ووادي الحجارة وترجالة وقورية وماردة وباجة وغافق ولبلة وقرمونة وإستجة ورية، وعلى سواحلها شنترين ومالقة وجبل طارق وغير ذلك. (2-5) مصر
وحدود مصر في تلك الأيام مثل حدودها اليوم تقريبا ويلحقون بها البجة والنوبة إلى حدود البحر الأحمر فالعقبة. (2-6) الشام
ويراد بها سوريا على العموم وتقسم إلى سبعة أقسام: (1)
جند فلسطين. (2)
جند الأردن. (3)
جند حمص. (4)
جند دمشق. (5)
جند قنسرين. (6)
العواصم. (7)
الثغور.
فجند فلسطين أول أجناد الشام غربا، يحده من جهة مصر رفح، ومن الشمال اللجون وفيه يافا وأريحا وبيت لحم وغزة والشراة والبحيرة المنتنة وغوربيسان ونابلس، وكانت قصبة فلسطين الرملة ويليها في الكبر بيت المقدس.
وجند الأردن قصبته مدينة طبرية.
وأما جند دمشق فقصبته مدينة دمشق، وهي أعظم مدن الشام على الإطلاق وهي معروفة.
وأما جند حمص فقصبته مدينة حمص وهي مشهورة، ويتبعها الطرطوس وسلمية بطرق البادية وشيزر وحماة وكانتا صغيرتين.
وجند قنسرين قصبته حلب وهي مشهورة إلى اليوم، وكان لها شأن كبير لوقوعها في طريق العراق إلى الثغور والعواصم، ومن مدنها مدينة قنسرين وهي صغيرة ومعرة النعمان.
وأما العواصم فيراد بها أعالي الشام وراء حلب إلى إسكندرونة وقصبتها أنطاكية، وهي تلي دمشق في النزاهة، وكانت عاصمة الشام على عهد الروم، وكان عليها سور ضخم للغاية قيل إن دوره للراكب يومين، ومن مدن العواصم بالش على ضفة الفرات ومنبج في البرية.
أما الثغور فهي ما وراء العواصم إلى حدود جبل طورس في آسيا الصغرى، ومن مدنها الشهيرة سميساط على الفرات وملطية وهي أكبر الثغور، وحصن منصور ومنها الحدث ومرعش وزبطرة والهارونية والمصيصة وأذنة وطرسوس، وقد يدخلون الثغور في العواصم ويطلقون عليها جميعا اسم العواصم، والمراد بالثغور عندهم (أي عند المسلمين) المدن الواقعة على الحدود بينهم وبين الروم ، ولذلك كان عندهم ثغور شامية أي الحدود مما يلي الشام، وحدود جزرية أي الحدود مما يلي الجزيرة. (2-7) بحر الروم
ويراد به وصف ما فيه من الجزائر مما لا دخل له في غرضنا الآن. (2-8) الجزيرة
بين دجلة والفرات بلاد واسعة تعرف بما بين النهرين، يسمى القسم الشمالي منها: الجزيرة، والجنوبي: العراق، والفاصل بينهما تكريت على دجلة، والأنبار أو هيت على الفرات، ويلحق الجزيرة بعض البلاد وراء الضفتين في بعض المواضع، يحدها من الشمال ميافارقين وما يليها غربا إلى الفرات قرب ملطية، ومن الجنوب هيت على نهر الفرات وتكريت على دجلة، ويحدها من الغرب الجنوبي بادية الجزيرة ومن الشرق الجبال وأذربيجان.
والجزيرة بلاد خصبة جدا مثل بلاد العراق، ومن أشهر مدنها الموصل على دجلة من جهة الغرب وسنجار في وسط البرية بديار ربيعة، ليس في الجزيرة بلد فيها نخل مثلها، ونصيبين وكانت أنزه بلد في الجزيرة، ودارا وهي صغيرة، ورأس عين مدينة مستوية الأرض في دار مضر، وآمد في أعالي دجلة، وجزيرة ابن عمر على دجلة أيضا، ومن مدنها على الفرات الرقة وقرقيسيا والحديثة وهيت، وفي أواسطها أيضا حران وهي مدينة الصابئين، والرها وهي قديمة مشهورة بالمدارس والعلوم أيام السريان، وسروج مدينة خصبة كثيرة الأعناب.
وفي الجزيرة مفاوز يسكنها قبائل من ربيعة ومضر، تقيم ربيعة في الشمال الشرقي ومضر في الجنوب الغربي، وقد كانوا هناك قبل الإسلام.
وهم أهل خيل وغنم وإبل على أنهم متصلون بالقرى والمدن فهم بادية حاضرة، وتكريت آخر حدود الجزيرة على دجلة وكان أكثر أهلها نصارى. (2-9) العراق
هو القسم الجنوبي من بين النهرين وما يجاوره، طوله من تكريت على دجلة من الشمال إلى عبادان على بحر فارس في الجنوب، وعرضه من قادسية الكوفة في الغرب إلى حلوان في الشرق، ومحيطه إذا بدأنا من تكريت نسير شرقا إلى شهرزور ثم جنوبا شرقيا إلى حلوان فالسيران والصيمرة فحدود السوس إلى عبادان، ثم ينعطف إلى البصرة ومنها صعدا نحو الشمال والغرب في البادية على سواد البصرة وبطائحها إلى الكوفة، ثم على الفرات إلى الأنبار ومن الأنبار شمالا إلى تكريت، ويسمى ما بين دجلة والفرات السواد، هذه حدود العراق في إبان التمدن الإسلامي، وهي تختلف عن حدوده الآن وخصوصا لأن مجاري الأنهر تغيرت، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكان آخر.
وأشهر مدن العراق بغداد وهي قصبته، وعاصمة المملكة الإسلامية في إبان مجدها، بناها المنصور، والبصرة وهي مدينة عربية، بناها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب، وللبصرة بطائح سيأتي تاريخها في موضع آخر.
وواسط مدينة عربية أيضا بناها الحجاج في وسط السواد، والكوفة غربي الفرات وهي من بناء العرب، ومن مدن العراق النهروان شرقي دجلة على نهر اسمه النهروان جف الآن، وحلوان في آخر حدود العراق شرقا، وكانت مدينة كبيرة بقرب الجبل، والحيرة قرب الكوفة والأبلة قرب البصرة. (2-10) خوزستان
هي شرقي العراق بينها وبين فارس يحدها من الشمال كور الجبال، ومن الشرق فارس وأصبهان، ومن الغرب العراق، ومن الجنوب خليج فارس، عاصمتها مدينة الأهواز، وإليها تنسب خوزستان فيقال لها الأهواز، وتقسم إلى كور أولها كورة الأهواز، ثم جندي سابور والسوس وتستر ورامهرمز وسرق وعسكر مكرم، وقصبة كل كورة المدينة المسماة باسمها. (2-11) بلاد فارس
وهي واقعة بين خوزستان في الغرب وكرمان في الشرق، ويحدها شمالا أصفهان وبادية خراسان، ومن الجنوب والغرب بحر فارس، وتقسم بلاد فارس إلى خمس كور أكبرها كورة إصطخر، قصبتها إصطخر، ثم كورة أردشير خرة وقصبتها جور، وفيها أيضا مدينة شيراز وهي عاصمة بلاد فارس بها دواوينها ودار الإمارة، ثم كورة دارابجرد وكورة أرجان قصبتها مدينة أرجان، ثم كورة سابور وهي أصغر كور فارس وفيها مدينة كازرون، ومن بلاد فارس بقاع يقيم فيها قبائل من الأكراد يزيدون على مئة حي يتعيشون بالمرعى والحرث في بقاع يقال لها رموم، ويقدرون تلك القبائل في بلاد فارس وحدها بنحو 500000 بيت ينتجعون المراعي في المشتى والمصيف على مذاهب العرب، وقد يكون في البيت الواحد من الأرباب والأجراء والرعاة نحو عشرة رجال، فإذا اعتبرنا معدل الرجال في كل بيت خمسة كان عدد الرجال الأكراد 2500000 رجل، وباعتبار ما يلحقهم من النساء والأولاد يزيد عددهم على عشرة ملايين. (2-12) كرمان
هي أكبر من فارس واقعة بين فارس في الغرب ومكران وسجستان في الشرق، ويحدها من الشمال مفازة خراسان ومن الجنوب بحر فارس، وأشهر مدنها الشيرجان وبم وجيرفت وهرموز. (2-13) مكران
هي شرقي كرمان وإلى شرقيها طوران وبعض بلاد السند، وفي الشمال سجستان وبلاد الهند وفي الجنوب بحر فارس، وهي أكبر من كرمان ومن مدنها التيز وكيز ودرك وراسك. (2-14) طوران
هي أصغر من فارس واقعة بين مكران في الغرب وبلاد السند في الشرق والشمال وبحر فارس في الجنوب، وأشهر بلادها محالي وكيزكانان وقصدار. (2-15) السند
والسند آخر حدود مملكة الإسلام في الشرق وأشهر مدنها المنصورة وهي بلسان الهنود برهماناباذ ومنها الديبل على شاطئ البحر والملتان وغيرها، أما المنصورة فإنها واقعة على خليج من نهر مهران يحيط بها في شبه الجزيرة وأهلها مسلمون، ويطلق الإصطخرى على مكران وطوران والسند اسم السند. (2-16) أرمينية
هي في أعالي مملكة الإسلام فوق الجزيرة تحدها من الشرق أذربيجان والران، ومن الغرب بلاد الروم (في آسيا الصغرى)، ومن الشمال جبال القبق (القوقاس)، ومن الجنوب الجزيرة قصبتها ديبل وفيها دار الإمارة والنصارى بها كثيرون، ومن مدنها خلاط وأرزن وقاليقلا وميافارقين، ويعدها بعضهم من الجزيرة، وهكذا فعلنا. (2-17) أذربيجان
في شرقي الجزيرة يحدها من الغرب الجزيرة وأرمينية ومن الشرق بحر الخزر وبلاد الديلم ومن الشمال بلاد الران ومن الجنوب كور الجبال، عاصمتها مدينة أردبيل، وفيها العسكر ودار الإمارة، طولها ميلان في ميلين، ويلي أردبيل في الكبر المراغة وكانت قبلا دار الإمارة، وتليها أرمية على شاطئ بحيرة الشراة، ومن مدنها سلماس ومرندوشيز. (2-18) بلاد الران
هي شمال أذربيجان، يحدها من الشرق بحر الخزر ومن الغرب أرمينية، ومن الشمال جبل قبق ومن الجنوب أذربيجان، أكبر مدنها مدينة برذعة ثم تفليس والباب، ومنها بيلقان والشاوران وغيرها. (2-19) الجبال
يراد بالجبال جبال فارس وهي تقسم إلى كور أشهرها ماه الكوفة وهي الدينور، وماه البصرة وتسمى نهاوند، ويحد الجبال من الشرق مفازة خراسان وفارس، ومن الغرب العراق والجزيرة، ومن الشمال أذربيجان والديلم والري وقزوين، ومن الجنوب خوزستان والعراق، وهي تشتمل على مدن مشهورة أعظمها همذان والدينور وماسبذان وأصبهان وقم وقاشان ونهاوند واللور والكرج وقزوين وشهرزور وحلوان، مساحة همذان فرسخ في فرسخ وكان لها سور أبوابه من حديد، والدينور (ماه الكوفة) نحو ثلثيها، وأصبهان مدينتان بينهما ميلان، ونهاوند (ماه البصرة) واقعة على جبل بناؤها من طين، وحلوان مدينة في سفح الجبل المطل على العراق، وشهرزور قريبة من العراق، وقزوين في أعالي فارس وهي ثغر بلاد الديلم، وقم مدينة عليها سور وهي خصبة، وقاشان مدينة صغيرة. (2-20) الديلم
هي جبال مطلة على بحر الخزر (بحر قزوين) يحدها من الجنوب قزوين وبعض أذربيجان، ومن الشمال بحر الخزر ومن الشرق قومس ومن الغرب أذربيجان، وأهل الديلم صنفان: سكان الجبال وسكان السهول، ومن توابعها الري وأبهر وزنجان والطالقان وقزوين والرويان. (2-21) طبرستان
وهي تلي الديلم شرقا واقعة على بحر الخزر أيضا يحدها من الشرق جرجان ومن الغرب الديلم، أكبر مدنها آمل وهي مركز الولاية وسارية وهي بلاد كثيرة المياه ودماوند (أو دنباوند). (2-22) جرجان
هي شرقي طبرستان وشماليها، يحدها من الشمال تركستان ومن الجنوب قومس ومن الشرق خراسان ومن الغرب بحر الخزر، أكبر مدنها مدينة جرجان وهي أكبر من آمل، ثم أستراباد في الجنوب ودهستان على شواطئ البحر. (2-23) قومس
هي جنوبي جرجان وطبرستان وهما يحدانها من الشمال، وأما من الجنوب والشرق فحدودها مفازة خراسان، ومن الغرب تحدها بلاد الري قصبتها مدينة الدامغان. (2-24) مفازة خراسان
هي بادية واقعة في أواسط بلاد المشرق يحدها من الشمال قومس ومن الجنوب بلاد فارس وسجستان، ومن الشرق سجستان وخراسان، ومن الغرب الجبال والري، وهي أقل من بادية العرب سكانا، وبعض هذه المفازة تابع لخراسان والبعض الآخر تابع لعملي فارس وكرمان، وهي وعرة ويصعب سلوكها بالخيل لقلة الماء فيها. (2-25) سجستان
هي واقعة في شمالي مكران يحدها من الشرق مفازة بينها وبين السند، ومن الجنوب مكران، ومن الشمال أرض الهند، ومن الغرب مفازة خراسان، أكبر مدنها زرنج وبست والطاق وغيرها. (2-26) خراسان
هي من أخصب بلاد المشرق وأوسعها يحدها من الشرق الشمالي ما وراء النهر، ومن الشرق الجنوبي بلاد السند وسجستان، ومن الشمال خوارزم وبلاد الغز في تركستان، ومن الجنوب مفازة خراسان وفارس، ومن الغرب قومس، وتقسم خراسان إلى كور أعظمها نيسابور ومرو وهرات وبلخ يليها كور قوهستان وطوس ونسا وأبيورد وسرخس واسفزار وبوشنج وياذغيس وكنج - رستاق ومروروذ وجوزجان وطخارستان وزم وآمل.
عاصمة خراسان مدينة نيسابور وهي أعظم مدنها جميعا وتسمى أيضا أبو شهر، واقعة في أرض سهلة أبنيتها من طين، سعتها فرسخ في فرسخ، ومدينة مرو وتعرف بمرو الشاهجان وهي قديمة البناء، ومدن خراسان كثيرة وبلادها آهلة وتربتها خصبة وقد كان للمسلمين منها ارتفاع عظيم. (2-27) ما وراء النهر
هي آخر بلاد الإسلام شمالا شرقيا، يحدها من الشمال بلاد تركستان وبلاد الهند، ومن الغرب الجنوبي خراسان يفصل بينهما نهر جيحون، ومن الشمال الغربي خوارزم، ومن الجنوب طخارستان، وهو من أخصب أقاليم الإسلام وأنزهها وأكثرها خيرا، وأشهر نواحيها بخارى وسمرقند وكش ونخشاب وبيكند والساغانيان وفرغانة والسغد والشاش وأشروسنة وخوجند. (2-28) خوارزم
ويعدها الإصطخري تابعة لما وراء النهر فإنها مستطيلة الشكل تمتد على ضفاف نهر جيحون في الشمال، يحدها من الشمال بحر خوارزم، ومن الجنوب خراسان وبلاد الصفد وتحدق بهذا الإقليم المفاوز من الشرق والغرب، قصبته مدينة خوارزم.
هذه خلاصة جغرافية المملكة الإسلامية حوالي عصر المأمون ونسبة أقاليمها بعضها إلى بعض تمهيدا لما سنذكره من جباية المملكة العباسية، وهي تشمل كل هذه الأقاليم إلا الأندلس، ولم يكن كل إقليم منها قائما بذاته يؤدي خراجه باسمه، فإن بعض هذه الأقاليم كان داخلا في عمل البعض الآخر، وقد اختلف ذلك باختلاف الأعصر، فربما ورد في قائمة الجباية ذكر خراج إقليم، ويكون المراد خراج إقليمين أو أكثر مما دخل تحت سيطرة عامله؛ إذ كثيرا ما كان الخلفاء يولون العامل عدة أقاليم يسمونها باسم واحد منها لأسباب لا يمكن حصرها.
وقبل الشروع في إيراد خراج الأعمال العباسية واستخراج ارتفاع الدولة، لا بد لنا من بيان علاقة تلك الأقاليم أو الأعمال ببغداد عاصمة المملكة بالنظر إلى توريد الخراج. (3) علاقة الأعمال العباسية بالعاصمة
قلنا في كلامنا عن ولاية الأعمال في الجزء الأول إنها كانت في بادئ الرأي أشبه بالاحتلال العسكري منها بالتملك، وكان العمال في عهد الراشدين هم قواد الجند الذين فتحوا تلك الأقاليم، وواجباتهم مراقبة سير الأحكام في البلاد التي افتتحوها وإقامة الصلاة واقتضاء الخراج، وظلت أعمال الحكومة في داخل البلاد المفتوحة جارية على ما كانت عليه قبل الفتح، وكان الذين يباشرون جباية الخراج ويتولون أعمال الحكومة في البلاد موظفين من أهلها الأصليين، فإذا اجتمع الخراج والجزية أنفقوا من مجموعهما ما تحتاج إليه ناحيتهم من نفقات، ودفعوا الباقي إلى الحاكم المسلم، وهذا يدفع منه رواتب الذين معه من القواد والجند وما يقتضيه إصلاح الري من إقامة الجسور والسدود ويرسل الباقي إلى بيت المال في عاصمة الخلافة.
ذلك كان شأن الأعمال الإسلامية في زمن الراشدين، ولما أفضى الأمر إلى بني أمية واضطر معاوية إلى اكتساب الأنصار زاد في نفوذ العمال وجعل بعض الأعمال طعمة لهم، فازدادوا استقلالا في أعمالهم، ثم دعت الأحوال إلى تمكين المسلمين من البلاد المفتوحة واستلام أزمة الأحكام بأيديهم وتحويل الدواوين إلى لسانهم في أيام عبد الملك ومن جاء بعده - إلا جباة الخراج فإنهم ظلوا من أهل البلاد الأصليين: القبط في مصر، والدهاقين في العراق وفارس - وظل العمال يقبضون صوافي الخراج والجزية وينفقون النفقات اللازمة ويرسلون الباقي إلى بيت المال في دمشق، وهو ما يعبرون عنه بارتفاع الجباية، وإذا لم تكف الجباية للقيام بالنفقات طالبوا الخليفة بالباقي.
23
ولما تولى بنو العباس ظلت الأعمال على نحو هذا الشكل، ويهمنا في هذا المقام تتبع تلك العلاقة من حيث الجباية فقط، والظاهر أن العمال زادوا استقلالا من هذا القبيل عما كانوا عليه في أيام بني أمية، حتى آل الأمر أخيرا إلى تضمين الخراج؛ أي تقبيله، وهو أن يوظف على العامل مال معين يدفعه في السنة إلى بيت المال في بغداد، وهو يتولى قبض الخراج والجزية وسائر الضرائب وينفق ما ينفقه كما يشاء لا يطالبه الخليفة إلا بالمال المضروب، ويكون ذلك في إمارة الاستيلاء، كذلك فعل الرشيد مع إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية، وكان هذا الإقليم عالة على الحكومة يحمل إليه من مصر كل سنة 100000 دينار معونة له، فلما تولاه ابن الأغلب تنازل عن هذا المال وبذل أن يحمل كل سنة 40000 دينار
24
وفعل الرشيد نحو ذلك ببرقة فإنه جعلها قانونا قائما، فوجه بمولى له فوزع خراج الأرض بأربعة وعشرين ألف دينار
25
وكذلك فعل المأمون مع عبد الله بن طاهر، فإنه وظف عليه خراج خراسان وما يتبعه سنة 211ه و212ه قدرا معينا سيأتي ذكره، وقس عليه ما قبله الفضل بن مروان من فارس والأهواز وما تقبله عمران بن موسى من السند
26
ثم صار التوظيف المذكور ضمانا وتكاثر حتى آل إلى استقلال الأمراء بولاياتهم.
وجملة القول أن المال الذي كانوا يعبرون عنه بخراج البلد الفلاني إنما يراد به ما يرد على بيت المال من خراج ذلك البلد بعد أداء أعطيات الجند المقيم فيه ونفقات الجباية وإصلاح الري وسائر الكلف
27
أو بطريق التوظيف كما تقدم، فما يجتمع من جبايات الأعمال يعبرون عنه بارتفاع الدولة أو جباية الدولة؛ أي مجموع صافي الدخل، لا ينفق منه إلا على موظفي الدواوين ورجال الدولة في بغداد غير ما يأخذه الخليفة وأهله مما سيأتي تفصيله، وقد صرح ابن خلدون في مقدمة كلامه عن مقدار تلك الجباية في أيام المأمون بقوله: «ما يحمل إلى بيت المال ببغداد في أيام المأمون من جميع النواحي نقلته عن جراب الدولة.»
28
فبالقياس على ما تقدم يعتبر كل ما يرد من الكلام عن ارتفاع الدولة أنه صافي أموال الجباية. (4) جباية الدولة العباسية في العصر الأول
فلنتقدم بعد هذا التمهيد إلى تفصيل جباية الدولة العباسية في أيام المأمون باعتبار ما يرد من كل عمل في السنة، والتوفق إلى ذلك نادر في تاريخ الإسلام؛ لأن القوم قلما يدونون غير حوادث الحرب والفتح والثورات وما إلى ذلك.
أما قوائم ابن خلدون وقدامة وابن خرداذبة فقد عثرنا عليها عرضا، وهي: (1)
قائمة ابن خلدون : هي أقدمها كلها، وقد أوردها ابن خلدون في مقدمته في عرض كلامه عن «أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها»، وقال إنه نقلها عن جراب الدولة، وفيها مقدار الخراج الذي كان يرد على بيت المال في بغداد في أيام المأمون، وقبل تحقيق ذلك الزمن نوجه التفات القارئ لما تطرق إلى هذه القائمة من الخطأ بتوالي الأعوام، وقد تصفحنا النسخ المطبوعة من مقدمة ابن خلدون في مصر والشام، فرأينا خطأ في أسماء بعض البلاد الواردة في تلك القائمة، نظنه وقع من النساخ لتشابه في أشكال بعض الألفاظ، فلا بد من التنبيه إلى ذلك وإصلاحه قبل إيراد القائمة المذكورة؛ لأن الخطأ اللفظي المشار إليه يجر إلى الخطأ المعنوي لوقوعه في أسماء البلاد أو الأقاليم التي حمل الخراج منها، وهاك إصلاحها: (1)
كنكر:
29
هي لفظة لا معنى لها في هذا المقام، وصوابها «كسكر»، وهو إقليم من أقاليم السواد. (2)
طبرستان والروبان ونهاوند:
30
فالروبان بالباء صوابها «الرويان» بالياء، وهي من إقليم الديلم وقد ذكرناها في محلها، ونهاوند قصبة كورة ماه البصرة من كور الجبال كما تقدم، ونظرا لبعدها من طبرستان والرويان، فالغالب أن يكون المراد بها بلدا آخر قريبا من هناك، نظنها «دماوند»، وهي من كور طبرستان. (3)
ما بين الكوفة والبصرة:
31
لم نر في سائر القوائم ولا في غيرها من التقاويم كورة بهذا الاسم، وقد لاحظ ذلك البارون فون كريمر المؤرخ الألماني، ولكنه حسبها كورة من كور السواد واقعة وراء الفرات بين الكوفة والبصرة، دخلت في القوائم الأخرى باسم آخر،
32
والصحيح على ما نرى أن النساخ أخطأوا في قراءتهم «مابين»، وصوابها «ماها» أو «ماهين»: مثنى «ماه»، فيكون المراد «ماها البصرة والكوفة» وهما كورتان من كور الجبال، قصبة الأولى نهاوند، وقصبة الثانية الدينور - كما تقدم - ويؤيد ذلك سقوط هاتين الكورتين من قائمة ابن خلدون بالكلية. (4)
ماسبذان والدينار:
33
ماسبذان من كور الجبال، تقدم ذكرها، وأما «الدينار» فلا مسمى لها في بلاد الإسلام، وقد يتبادر إلى الذهن أنها تحريف «الدينور» قصبة ماه الكوفة لو لم نكن قد وقفنا على اسم الماهين معا في هذه القائمة، فهي على الغالب مبدلة من «الريان» وهي كورة بقرب كسكر في العراق.
وهناك غلط نسخي في تعيين مقدار الخراج في بعض الأقاليم صوابه ظاهر، مثل قوله عن خراج كور دجلة أنه عشرون ألف ألف درهم وثمانية دراهم، والعادة أن لا يدونوا في الديوان آحاد الدراهم
34
فالغالب أن يكون صوابها (وثمانمائة ألف درهم)، وكذلك قوله عن جباية الأهواز إنها خمسة وعشرون ألف درهم، والصواب 25 ألف ألف درهم؛ لأنها نحو ذلك في القائمتين الأخريين، وكقوله في طبعة بولاق عن خراج قومس «ألف ألف مرتين وخمسمائة ألف من نقر الفضة» ونظن الصواب: «ومن نقر الفضة ألف»، فيكون خراجها 1500000 درهم و1000 من نقر الفضة، وكقوله عن العسل الوارد من الموصل إنه 20000000 رطل، والأقرب إلى الصواب أن يكون 20000 رطل فقط، ومن هذا القبيل خراج مصر، فقد ورد هناك أنه «ألف ألف ألخ»، والصواب على ما نرى «ألفا ألف ألخ» بالقياس على جبايتها في ذلك العصر، والخطأ إنما وقع في النسخ لتشابه اللفظين خطا.
أما زمن هذه القائمة فقد عينه ابن خلدون صريحا فقال إنه في أيام المأمون، ولكنه لم يعين السنة، والمأمون حكم 22 سنة من سنة 196-218، وحساب بيت المال في بغداد احترق في الفتنة بين الأمين والمأمون ثم لم يدون الحساب إلا بعد سنة 204ه.
35
فالقائمة المذكورة كتبت في ما بين 204 و218ه، ونظرا لاختلاف خراج خراسان فيها عما وظفه المأمون على ابن طاهر سنة 211 و212ه، فالأرجح أنها كتبت بين 204 و210ه.
ورأينا للبارون فون كريمر المذكور انتقادا على تاريخ قائمة ابن خلدون، خلاصته: أنها كتبت قبل عصر المأمون بعشرات من السنين، بحيث تتصل بعصر المهدي أو الهادي أي بين سنة 158 و170ه، ومن أدلته على ذلك «أنه ورد فيها ذكر خراج السند وإفريقية وكانتا في أيام المأمون قد استقلتا عن سلطة بغداد، ولم يذكرهما قدامة ولا ابن خرداذبة».
والبارون فون كريمر لا يستخف برأيه في تاريخ الإسلام وتمدنه وآدابه؛ لأنه من أهل التحقيق والبحث، ومن أكثر الألمان تمحيصا للحقائق، ولكننا نراه واهما في حكمه على هذه القائمة للأسباب الآتية:
أولا:
أن استقلال الأقاليم عن سلطة بغداد لم يكن يستلزم استقلالها عن الخلافة العباسية وقطع المال عنها، نعم، إن إفريقية استقل بها الأغالبة، وتوارثوا الحكم فيها من سنة 184-296ه، ولكن استقلالهم هذا لا يمنع تأديتهم مالا معينا كما كان يفعل معظم الأمراء المستقلين في مصر وخراسان وغيرهما، فإنهم كانوا يخطبون لخليفة بغداد ويعتبرون أنهم تابعون له دينيا فقط، كذلك كان شأن الدولة الطاهرية في خراسان، والطولونية في مصر،
36
وكان بعضهم يقدم المال باسم الهدية، والبعض الآخر باسم الخراج أو الضمان أو غيرهما، وزد على ذلك أن إفريقية لم تكن تحمل مالا إلى بيت المال إلا بعد سنة 181ه، أي بعد أن تولاها إبراهيم بن الأغلب، وهو الذي فرض على نفسه 40000 دينار، فلا يبعد أن يستمر الأغالبة على دفع مثل هذا المال إلى أيام المأمون؛ لأن الخلفاء العباسيين ظلوا يعدون إفريقية من مملكتهم كل أيام الأغالبة، وكانوا يعينون الولاة عليها من بغداد باعتبار أن الأغالبة تحت هؤلاء الولاة،
37
ويقال نحو ذلك في السند، بل نرى في هذا شاهدا أقرب على صحة رواية ابن خلدون، فإن المأمون نفسه استعمل على السند سنة 216ه عاملا اسمه عمران بن موسى العتكي
38
على أن يحمل إليه منها مليون درهم بعد كل نفقة
39
ويدل ذلك على سيادته عليها، وإن كان المال المذكور أقل كثيرا مما ذكره ابن خلدون، إذ يختلف المراد بحدود السند باختلاف الأزمنة، أما عدم ورود هذين البلدين في قائمتي قدامة وابن خرداذبة فقد يكون سببه عارضا؛ إما لانقطاع الخراج منهما بعد قائمة ابن خلدون، أو لأسباب أخرى راجعة إلى دخول بعض الأقاليم في بعض أو غير ذلك كما سيتضح من مقابلة القائمتين التاليتين، وعلى كل حال فإن افتراض هذه الأسباب أقرب إلى الصواب من اتهام ابن خلدون بالخطأ أو الوهم، وهو ثقة كثير التبصر والتمحيص، وقد قال صريحا إن هذه الجباية وردت على بيت المال في أيام المأمون.
ثانيا:
أن ابن خلدون استحوذ على أوراق رسمية من أيام المأمون عن الدخل والخرج، كان يرجع إليها في تحقيق ما يكتبه في هذا الشأن ونحوه.
40
ثالثا:
أن الديوان احترق في أيام الأمين، وقد قدمنا أنه لم يدون فيه حساب إلا بعد سنة 204ه، وأما ما كان منها قبل ذلك فقد ضاع.
فبناء على ذلك يترجح عندنا أن يكون الحق في جانب ابن خلدون، وأن يكون البارون فون كريمر واهما في اعتراضه، وفوق كل ذي علم عليم. (2)
قائمة قدامة : دونها قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي في كتابه المسمى: «كتاب الخراج» ولم يصل إلينا منه إلا نتف طبعت في لايدن بعناية دي خويه المستشرق الهولندي الشهير، وقد توفي قدامة سنة 337ه، وكان أبوه نصرانيا وأسلم في أيام المكتفي (من 289-295ه) وتولى منصبا كبيرا من مناصب الدولة العباسية، وألف كتبا كثيرة من جملتها كتاب الخراج هذا، ويظهر أنه كتبه نحو سنة 316ه نقلا عن أوراق رسمية اتصلت به، ويستدل من مطالعة الكتاب أن ما ورد فيه من جباية البلاد يراد به جبايتها نحو سنة 225ه. (3)
قائمة ابن خرداذبة : هو عبد الله بن خرداذبة، وذكر صاحب الفهرست أنه كان يتولى البريد في بلاد الجبال، ويظهر أنه كتب وهو في هذا المنصب كتابه «المسالك والممالك» وفيه هذه القائمة، ويظن دي خويه ناشر هذا الكتاب أن ابن خرداذبة كتبه سنة 232ه، ثم أضاف إليه بعض الزيادات فيما بعد بحيث لا يتجاوز حوالي سنة 250ه.
هذه القوائم الثلاث، وفيها جباية الدولة العباسية في إبان ثروتها، فلنوردها باعتبار قدمها، وأقدمها قائمة ابن خلدون، ثم قدامة، ثم خرداذبة: (4-1) جباية الدولة العباسية (في أيام المأمون - نقلا عن ابن خلدون)
أسماء الأقاليم
من الدراهم
من الأموال والغلال
السواد
27800000
ومن الحلل النجرانية 200 حلة ومن طين الختم 240 رطلا.
كسكر
11600000
كور دجلة
20800000
حلوان
4800000
الأهواز
25000000
وسكر 30000 رطل.
فارس
27000000
ومن ماء الورد 30000 قارورة ومن الزيت الأسود 20000 رطل.
كرمان
4200000
ومتاع يماني 500 ثوب و20000 رطل من التمر.
مكران
400000
السند وما يليه
11500000
و150 رطلا من العود الهندي.
سجستان
4000000
ومن الثياب المعينة 3000 ثوب ومن الفانيد 20 رطلا.
خراسان
28000000
ومن نقر الفضة 2000 نقرة و4000 برذون و1000 رأس رقيق و20000 ثوب متاع و30000 رطل إهليلج.
جرجان
12000000
و1000 شقة إبريسم.
قومس
1500000
ومن نقر الفضة 1000 نقرة.
طبرستان والريان ودماوند
6300000
و600 قطعة من الفرش الطبري و200 كساء و500 ثوب و300 منديل و200 جامة.
الري
12000000
و20000 رطل عسل.
همدان
11300000
و1000 رطل من رب الرمانين و12000 رطل عسل.
ماها البصرة والكوفة
10700000
ماسبدان والريان
4000000
شهرزور
6700000
الموصل وما يليها
24000000
و20000 رطل من العسل الأبيض.
أذربيجان
4000000
الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات
34000000
و1000 رأس من الرقيق و12000 زق عسل وعشر بزات و20 كساء.
أرمينية
13000000
و20 من القسط المحقور و530 رطلا من الرقم «ضرب من الوشي» و10000 رطل من المسايح السورماهي و10000 من الصونج «نوع من الأسماك البحرية» و200 بغل و30 مهرا.
برقة
1000000
إفريقية
13000000
و120 بساطا.
المجموع
318600000 درهم
والجهات التالية وردت جبايتها بالدنانير:
أسماء الأقاليم
من الدنانير
من الأموال والغلال
قنسرين
400000
و1000 حمل زيت
دمشق
420000
الأردن
97000
فلسطين
310000
مصر
2920000
و300000 رطل زيت
اليمن
370000
الحجاز
300000
سوى المتاع «لم يذكر»
المجموع
4817000
دينار وتساوي 73255000 درهم باعتبار الدينار 15 درهما وهو تقديره في ذلك العصر.
فيكون المجموع بالدراهم
72255000
يضاف إليه جباية الأقاليم المذكورة قبله
318600000
الجملة
390855000 درهم
وترى من النظر في هذه القائمة أن خراج أقاليم المشرق كانوا يقدرونه بالدراهم، وخراج أقاليم المغرب بالدنانير (إلا برقة وإفريقية) وسترى نحو ذلك أيضا في القائمتين الأخريين، والسبب على ما يظهر أن مناجم الفضة كانت أكثر في أقاليم المشرق منها في المغرب، وبعكس ذلك مناجم الذهب.
فمجموع جباية أقاليم المشرق (مع برقة وإفريقية) 318600000 درهم، ومجموع خراج سائر أقاليم المغرب 4817000 دينار، حولناها إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما، وهو صرفه في ذلك العصر فبلغت 72255000 درهم، وبإضافتها إلى جباية أقاليم المشرق بلغ المجموع كله 390855000 درهم.
ورأينا في ما نقله فون كريمر من قائمة ابن خلدون بلدين هما الكرج والجيلان غير موجودين في ما لدينا من النسخ، نظنه وجدهما في نسخة فون همر برجشتال المستشرق النمسوي، خراج الأولى 300000 درهم، والثانية 5000000 درهم، وليس هنا مكان التحقيق عن صحة هذه الرواية أو عدم صحتها.
فيكون مجموع جباية المملكة العباسية في أيام المأمون نحو 400 مليون درهم، ما عدا الأموال والغلات مما لا نعلم حقيقة قيمته، وإذا أعدت النظر فيه رأيته شيئا كثيرا، والعادة في تقدير الجباية أن تقدر هذه الغلات بما تساويه من النقد، ويضاف مبلغها إلى مبالغ النقد، كما فعل صاحب جراب الدولة في غلات السواد ومعظمها في الأصل من الحنطة، وكما سترى في تفصيل طساسيج السواد بقائمتي قدامة وابن خرداذبة.
وقد تقدم أن الجباية التي كانت ترد إلى بيت المال في بغداد إنما هي صوافي ما تحصل منها في الأقاليم بعد دفع أموال الجند ونفقات الجباية وإصلاح الري ونحو ذلك من نفقات الأقاليم، ولم يبق على هذا المال إلا نفقات الدواوين في بغداد للخليفة ووزرائه وكتابه ورجال بطانته، وقد يرتاب القارئ في رواية ابن خلدون؛ لبعدها عما هو مألوف عندنا من ميزانيات دول هذه الأيام، وما فيهن من يبقى في صندوقها معشار هذا المال؛ ولذلك فنأتي بالروايتين الأخريين للمقابلة بينهما وبين رواية ابن خلدون. (4-2) جباية الدولة العباسية (في أيام المعتصم - نقلا عن قدامة بن جعفر)
كانت جباية السواد معظمها من الحنطة والشعير، وقد ذكر قدامة مقدار كل منهما مفصلا باعتبار طساسيج السواد، أي نواحيه في الشرق والغرب.
اسم الناحية
مقدار الحنطة بالكر
مقدار الشعير بالكر
الدراهم
طساسيج السواد في الجانب الغربي:
الأنبار ونهر عيسى
11800
6400
40000
طسوج مسكن
3000
1000
150000
طسوج قطربل
2000
1000
300000
طسوج بادوريا
3500
1000
1000000
بهر سير
1700
1700
150000
الرومقان
3300
3300
250000
كوثي
3000
2000
350000
نهر درقيط
2000
2000
200000
نهر جوبر
1500
6000
150000
باروسما ونهر الملك
3500
4000
122000
الزوابي الثلاثة
1400
7200
250000
بابل وخطرانية
3000
5000
250000
الفلوجة العليا
500
500
70000
الفلوجة السفلى
2000
3000
280000
طسوج النهرين
300
400
45000
طسوج عين التمر
300
400
45000
طسوج الجبة والبداة
1500
1600
150000
سوراو وبرنسيما
1500
4500
250000
البرس الأعلى والأسفل
500
5500
150000
فرات بادقلي
2000
2500
62000
طسوج السيليحين
1000
1500
140000
روذستان وهرمزجرد
500
500
20000
تستر
2200
2000
300000
إيغار يقطين
1200
2000
204800
كسكر
30000
20000
270000
طساسيج السواد في الجانب الشرقي:
طسوج بزرجسابور
2500
2200
300000
طسوج الرذانين
4800
4800
120000
طسوج نهر بوق
200
1000
100000
كلواذي ونهر بين
1600
1500
330000
جازر والمدينة العتيقة
1000
1500
240000
روستقباد
1000
1400
246000
سلسل ومهروذ
2000
1500
15000
جلولا وجللتا
1000
1000
100000
الذيبين
1900
1300
40000
الدسكرة
1800
1400
60000
البذنيجين
600
500
35000
طسوج برز الروذ
3000
5100
120000
النهروان الأعلى
1700
1800
350000
النهروان الأوسط
1000
500
100000
بادرايا وباكسايا
4700
5000
330000
كور دجلة
900
4000
430000
نهر الصلة
1000
3121
59000
النهروان الأسفل
1700
13000
53000
مجموع خراج السواد
115600
135621
8821800
فمجموع جباية السواد باعتبار نواحيه 115600 كر حنطة، و135621 كر شعير، و8821800 درهم، على أن هذا المجموع يختلف عما قاله قدامة المذكور بعد أن أورد خراج كل ناحية بالتفصيل - كما تقدم - فقد قال في إيراد المجموع: «ذلك ارتفاع السواد سوى صدقات البصرة من الحنطة 177200 كر، ومن الشعير 99721 كرا، ومن الورق 8095800 درهم
41
ولعل السبب في هذا الفرق خطأ في قراءة بعض الأعداد، على أن الفرق على كثرته لا يعتد به فيما نحن فيه، بقي علينا أن نحول الحنطة والشعير إلى دراهم، وقد فعل جعفر ذلك فحولهما باعتبار ثمن الكرين المقرونين من الحنطة والشعير ستين دينارا، والدينار على صرف خمسة عشر درهما بدينار، فبلغ ذلك 100361850 درهما وقال إن صدقات البصرة ترتفع في السنة 6000000 درهم، فإذا جمعت ذلك كله بلغ 114457650 درهما على هذه الصورة:
8095800
الدراهم المجموعة ورقا
100361850
قيمة الحنطة والشعير بالدرهم
6000000
صدقات البصرة
114457650
درهما
هذا هو ارتفاع السواد، فلنتقدم إلى إيراد جبايات سائر الأقاليم في المشرق والمغرب، وهي مع السواد:
أقاليم المشرق
درهم
السواد
114457650
الأهواز
23000000
فارس
24000000
كرمان
6000000
مكران
1000000
أصبهان
10500000
سجستان
1000000
خراسان
37000000
حلوان
900000
ماه الكوفة
5000000
ماه البصرة
4800000
همدان
1700000
ماسبذان
1200000
مهرجان قذق
1100000
الإيغارين
3100000
قم وقاشان
3000000
أذربيجان
4500000
الري ودماوند
20080000
قزوين وزنجان وأبهر
1828000
قومس
1150000
جرجان
4000000
طبرستان
4280700
تكريت والطيرهان
900000
شهرزور والصامغان
2750000
الموصل وما يليها
6300000
قردي وبذيدي
3200000
ديار ربيعة
9635000
أرزن وميافاراقين
4200000
طرون
100000
آمد
2000000
ديار مضر
6000000
أعمال طريق الفرات
2900000 (المجموع)
311581350
أقاليم المغرب
دينار
قنسرين والعواصم
360000
جند حمص
218000
جند دمشق
110000
جند الأردن
109000
جند فلسطين
295000
مصر والإسكندرية
2500000
الحرمين
100000
اليمن
600000
اليمامة والبحرين
510000
عمان
300000 (المجموع)
5102000
وبتحويلها إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما تساوي 76710000 درهم وبإضافتها إلى مجموع جباية أقاليم المشرق والجزيرة أعلاه يكون مجموع ذلك كله 388291350 درهما، وهو ارتفاع الخراج على تقدير قدامة.
42 (4-3) جباية الدولة العباسية (في أواسط القرن الثالث للهجرة - على رواية ابن خرداذبة)
فصل ابن خرداذبة جباية أعمال السواد كما فصلها قدامة، وزاد على ذلك عدد الشون والبيادر مما يطول يطول بنا إيراده، فنكتفي بذكر جملته من الحنطة والشعير والفضة، وذلك عبارة عن 63400 كر حنطة، و91850 كر شعير، و8456840 درهما نقدا، وبتحويل الحنطة والشعير إلى دراهم باعتبار الكرين المقرونين ستين دينارا، والدينار 15 درهما كما تقدم، بلغت قيمتهما 69862500 درهم، وبإضافة ذلك إلى الدراهم المجموعة نقدا تصير الجملة 78319340 درهما.
ثم فصل جباية خراسان وما يلحق بها من الأقاليم في الدولة الطاهرية، باعتبار ما وظف عليها سنة 212ه، ومقدار ذلك جملة 44846000 درهم، و13 دابة للركوب، و2000 شاة من الغنم، و2000 رأس من السبي الغزية ما قيمته 600000 درهم، ومن الكرابيس الكندجية 1187 ثوبا، ومن المرور وصفائح الحديد 1300 قطعة نصفين، وكانت خراسان يومئذ تشمل نحوا من خمسين عملا في جملتها الري، وقومس، وجرجان، وكرمان، وسجستان، ونيسابور، وطخارستان، والطالقان، وأعمال ما وراء النهر، وفيها بخارى، والصفد، وغيرهما، وكان الطاهريون مستقلين بها ويدفعون عنها هذه الوظيفة (أي هذا القدر من المال)، وقد اقتصرنا على إجمال ذلك خوف التطويل، ومن أراد تفصيل جباية أعمال السواد وأعمال خراسان فليراجعها في كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة، ولنتقدم إلى إتمام قائمته عن الأعمال الأخرى من الإجمال الذي ذكرناه:
أقاليم المشرق
دراهم
السواد
78319340
خراسان وتوابعها
44846000
شهرزور والصامغان
2750000
ماسبذان ومهرجان قذق
3500000
قم
2000000
الأهواز
30000000
فارس
33000000
قزوين
1200000
ماه الكوفة
3800000
أصبهان
7000000
ديار مضر
5600000
الموصل
4000000
ديار ربيعة
7700000
أرمينية
4000000 (المجموع)
227715340
أقاليم المغرب
دنانير
قنسرين والعواصم
400000
جند حمص
340000
جند دمشق
400000
جند الأردن
350000
جند فلسطين
500000
مصر
2180000
اليمن
600000 (المجموع)
4770000
وبتحويل هذه الدنانير إلى دراهم تبلغ 71550000 درهم، تضاف إلى مجموع جباية أقاليم المغرب أعلاه على هذه الصورة:
درهم
227715340
جباية أقاليم المشرق
71550000
جباية أقاليم المغرب
299265340
الجملة (4-4) مجمل جباية الدولة العباسية
وخلاصة ما تقدم أن ارتفاع الدولة العباسية كان على معظمه في أيام المأمون، ثم أخذ في التناقص بعده، ولم يظهر ذلك النقص إلا بعد أواسط القرن الثالث للهجرة، لأسباب سيأتي بيانها، وأما قبل ذلك فإن ارتفاع هذه الدولة كان عظيما جدا، كما تبين من القوائم الثلاث التي ذكرناها، وهاك ملخصا لها:
درهم
396155000
جباية الدولة العباسية في أيام المأمون بين سنة 204 و210ه.
388291350
جباية الدولة العباسية في أيام المعتصم أو بعيده إلى سنة 225.
299265340
جباية الدولة العباسية في أواسط القرن الثالث. *
1083711690
الجملة *
لا يخفى على المتأمل أننا عينا هذه الأزمنة بالتقريب؛ إذ قد يرد في قائمة ابن خرداذبة مثلا خراج إقليم كما وظف عليه في عهد قائمة ابن خلدون أو قدامة وبالعكس، وإنما اعتبرنا في تعيينها الأغلبية.
فترى من مقابلة هذه الأرقام أن الفرق في الجباية ظهر حتى في النصف الأول من القرن الثالث، وخصوصا إذا اعتبرت ما أغفلناه من قائمة ابن خلدون من الأموال والأمتعة والمحصولات وهي من جملة الخراج، فمعدل الوارد إلى بيت المال في العام نحو 360 مليون درهم، وهي صوافي جباية الأعمال كما قدمنا، مما لم نسمع بمثله في الدول قديما ولا حديثا، إلا إذا اعتبرنا ما أورده بعضهم إجمالا بطريق العرض عن دولتي الروم والفرس، فقد قال جبن مؤرخ الدولة الرومانية إن جباية هذه الدولة إبان سطوتها ومعظم سعتها تساوي نحو 400000000 درهم، منها 135000000 درهم من آسيا (الصغرى)،
43
وذكر ابن خرداذبة أن جباية مملكة الفرس في أيام كسرى برويز بلغت 420000000 مثقال، أو نحو 720 مليون درهم، فإذا سلمنا بصحة هذه الأرقام أعوزنا الاطلاع على طريقة الإنفاق عندهم؛ إذ ربما كانت تستغرق معظم هذه الجباية بخلاف الدولة العباسية كما سترى، أما ما خلا هاتين الدولتين فالفرق بين جبايتها وجباية هذه الدولة عظيم جدا، فالدولة العثمانية بلغت معظم سعتها في أيام السلطان سليمان القانوني في أواسط القرن العاشر للهجرة، ولم يزد ارتفاع جبايتها في أيامه على 8000000 دوكات
44
أو نحو 2843750 جنيها مصريا، فأين ذلك من جباية الدولة العباسية؛ فإنها تزيد على أضعافه؟! وقس على ذلك دول هذه الأيام باعتبار ما يبقى في صندوقها كما سيأتي.
ولنتقدم إلى الكلام في الجهات التي كانت تنفق فيها الأموال: (5) نفقات الدولة العباسية
لم نر فيما كتبه المؤرخون القدماء في العربية نصا يتعلق بهذا الشأن، ولا ندري إذا كانوا فعلوا ذلك عمدا أو ضاع ما كتبوه في ثنيات الزمان، على أن مؤرخي المسلمين قلما دونوا حوادث التمدن الإسلامي أو ما هو في معناه، كمقدار الدخل أو الخرج وثروة المملكة وحال العلم، أو نظام الهيئة الاجتماعية غير ما جاء عرضا في أثناء ذكر الوقائع الحربية، أو وصف مجالس الطرب - إلا ابن خلدون، فقد أورد جباية الدولة في عرض الكلام عن بذخها في إبانها، وأما قدامة وابن خرداذبة فقد ذكرا مقدار الخراج في عرض الكلام عن طرق البريد، وقد ذكر الخراج أيضا بعض أصحاب التقاويم (الجغرافية) ولكن أحدا منهم لم يذكر شيئا عن الشؤون التي تنفق فيها الأموال المجموعة من الخراج في العصر الذي نحن في صدده.
على أننا بالقياس على ما عرفناه من أحوال ذلك التمدن، نرجح أن المال المشار إليه كان يوضع في بيت المال، بعد دفع رواتب الجند والكتاب والقضاة وسائر أرباب المناصب في دواوين الحكومة في بغداد، والموظفين الذين قد تعينهم الحكومة من بغداد وتدفع رواتبهم من بيت مالها ولو كانت أعمالهم في الخارج مثل عمال البريد
45
وغيرهم، وما بقي من أموال الجباية بعد هذه النفقات يوضع في بيت المال تحت اجتهاد الخليفة.
46
أما مقدار ما كان ينفق على الجند المقيدين في الدواوين وغيرهم فمما لا يمكن القطع فيه؛ لأنه يختلف باختلاف العصور وأحوال الخلفاء، ولم نقف على شيء صريح في هذا الشأن في العصر العباسي الأول ولا في غيره.
على أننا توفقنا بهمة البارون فون كريمر إلى قائمة تشمل ما اشترطه أحمد بن محمد الطائي على نفسه أن يقدمه من ضمانه إلى بيت المال، وفيه ما كان ينفقه بيت المال في بغداد في السنين الأولى من خلافة المعتضد العباسي (سنة 279ه)
47
وقد عين فيه مقدار المال اللازم لكل فئة من فئات الموظفين الذين تدفع رواتبهم من بيت المال، وجملة ذلك 2500000 دينار في السنة، تدفع مياومة باعتبار كل يوم سبعة آلاف دينار، تفرق في الجند وموظفي الدواوين والخدم وغيرهم على هذه الصورة:
نفقات الدولة العباسية (في أيام المعتضد بالله سنة 279ه بالمياومة)
دينار في اليوم
1000
أرزاق أصحاب النوبة ومن برسمهم من البوابين وفيهم البيضان من الجنابيين والبصريين وأصحاب المصاف بباب العامة وغيرهم والسودان وأكثر مماليك الناصر.
1000
أرزاق الغلمان الذين أعتقهم الناصر (هو الموفق بن المتوكل) ويعرفون بالغلمان الخاصة.
1500
أرزاق الفرسان من الأحرار المميزين.
600
أرزاق المختارين، وهم جنود منتخبون من كل قيادة، وقد عرفوا بالشهامة والشجاعة.
500
أرزاق المثبتين في أيام الناصر.
110
أرزاق سبعة عشر صنفا من المرسومين بخدمة الدار، والرسائل الخاصة، والقراء، وأصحاب الأخبار، والمؤذنين، والمنجمين، والفنجاميين، وأصحاب الأعلام، والبوقيين، والمضحكين، والطالبين، وغيرهم.
50
المرتزقة برسم الشرطة في مدينة السلام، وغيرها.
300
أثمان أنزال المماليك، وغيرهم.
نفقات المطابخ الخاصة والعامة، والمخابز، وإنزال الحرم، والحشم، ومخابز السودان.
100
ثمن وظائف الشراب للخاصة والعامة، وآلاته، ونفقات خزائن الكسوة، والخلع، والطيب، وحوائج الوضوء، وخزائن السلاح، والفرش ... إلخ.
4
أرزاق السقائين بالقرب في القصر، والخزائن، والمخابز، والدور، والحجر، والخدم ... إلخ.
167
أرزاق الخاصة ومن يجري مجراهم من الغلمان والمماليك، دون الأكابر الأحرار، ومن أضيف إليهم من الحشم القدماء.
100
أرزاق الحشم من المستخدمين في شراب العامة، وخزائن الكسوة، والصناع من الصاغة، والخياطين، والعقادين، والأساكفة، والحدادين، والرفائين، والمطرزين، والنجادين، والوراقين، والعطارين، والمشهرين، والنجارين، والخراطين، والإسفاطيين، وغيرهم ... إلخ.
100
أرزاق الحرم.
400
ثمن علوفة الكراع في الإصطبلات الخمسة.
ما يصرف من ثمن الكراع، والإبل، والخيل ... إلخ.
30
أرزاق المطبخيين.
30
أرزاق الفراشين، والمحلبيين، وخزان الفرش، والحمالين.
أرزاق أصحاب الركاب، والجنائب، والسروج، ومن يخدم في دواب البريد.
44
أرزاق الجلساء، وأكابر الملهين، ومن يجري مجراهم.
أرزاق جماعة من المتطببين، وتلامذتهم ... إلخ.
70
أرزاق أصحاب الصيد من البازياريين، والفهادين، والكلابزريين وغيرهم.
أرزاق الملاحين في الطيارات، والشذات، والحراقات، وغيرها من السفن.
4
ثمن النفط والمشاقة للنفاطات، والمشاعل وأجرة الرجال لخدمتها.
15
الصدقة التي تحضر كل يوم عند صلاة الصبح في خرقة سوداء.
جاري أولاد المتوكل.
جاري أولاد الواثق.
جاري أولاد الناصر.
20
أرزاق مشائخ بني هاشم، وأصحاب المراتب، والخطباء في المساجد .
أرزاق جمهور بني هاشم من العباسيين، والطالبيين.
جاري عبيد الله بن سليمان (الوزير) مع خمس مئة دينار للقاسم ابنه (في الشهر) برسم العرض.
أرزاق أكابر الكتاب، وأصحاب الدواوين، والخزان، والبوابين، والمديرين، والأعوان، وسائر من في الدواوين، وثمن الصحف، والقراطيس والكاغد - سوى كتاب دواوين الإعطاء وخلفائهم على مجالس التفرقة وأصحابهم، وأعوانهم، وخزان بيت المال، فإنهم يأخذون أرزاقهم بما يوفرونه من أموال الساقطين، وغرم المخلين بدوابهم.
جاري إسحق بن إبراهيم القاضي، وخليفته يوسف بن يعقوب والد أبي عمر، وأولادهما، وعشرة نفر من الفقهاء.
50
نفقات السجون، وثمن أقوات المحبسين.
جاري المؤذنين في المسجدين، والمكبرين، والقوام، والأئمة، وثمن الزيت للمصابيح، والحصر، والبواري، والماء، وثمن الستار للصيف، والجلباب والخزف، والعمارة في شهر رمضان.
19
نفقات الجسرين، وثمن ما يبدل من سفنهما، وأرزاق الجسارين.
15
نفقات البيمارستان الصاعدي، ولم يكن يومئذ غيره، وأرزاق المتطببين والمآنين والكحالين، ومن يخدم المغلوبين على عقولهم، والبوابين، والجنازين، وغيرهم، وأثمان الطعام والأدوية والأشربة.
6974 (الجملة)
فالمجموع نحو سبعة آلاف دينار، وذلك نفقات الدولة العباسية في اليوم الواحد من أيام المعتضد (سنة 279ه)، ومجموع ذلك في السنة نحو مليونين ونصف (2500000 دينار)، فإذا فرضنا نفقاتها في أيام المأمون والمعتصم نحو ذلك - وهي في اعتقادنا يجب أن تكون أقل من ذلك بالنظر إلى تكاثر الغلمان والمماليك في أواخر القرن الثالث عما كان في أوائله - فإذا فرضنا النفقات واحدة في أيام المأمون والمعتضد، وحولناها إلى دراهم باعتبار الدينار عشرين درهما على الأكثر، بلغ ذلك 50000000 درهم، فإذا أسقطناها من معدل الجباية الذي ذكرناه وهو 360000000 درهم، كان الباقي 310000000 درهم، أو قل 300 مليون فقط، فالدولة التي يبقى في بيت مالها هذا المبلغ العظيم كل سنة تعد في معظم الثروة؛ لأننا لم نسمع بدولة من الدول يبقى في صندوقها نصف هذا المال، أو ربعه، أو عشره، إلا ما قدمناه عن دولتي الروم والفرس.
وزد على ذلك أن هذه النفقات جزء صغير من مال الجباية؛ لأنها عبارة عن خراج ما ضمنه الطائي من البلاد، وهي سقي الفرات، ودجلة، وجوخي، وواسط، وكسكر، وطساسيج نهر بوق ، والذيبين، وكلواذي، ونهربين، والرذانين وطريق خراسان، وكلها من العراق، وهي بعضه كما يتضح ذلك من مراجعة قائمة قدمة، فلا مشاحة في أن نفقات الدولة العباسية كانت تستخرج من خراج بعض أعمالها. (6) تقدير هذه الثروة بنقود هذه الأيام (سنة 1903)
ولكي ينجلي لنا مقدار هذه الثروة بالنظر إلى التمدن الحديث، يجب أن نحولها إلى نقود هذه الأيام، وقد تقدم أن الدينار كان صرفه في النصف الأول من القرن الثالث 15 درهما، فمقدار هذه الثروة بالدنانير 20000000 دينار ، ويقدرون الدينار بنقود هذه الأيام بنصف جنيه، فيكون مجموع الباقي في بيت المال في السنة يساوي عشرة ملايين من الجنيهات.
ثم إن قيمة النقود تختلف باختلاف ما تستبدل به من المحصولات، أو ما يستخدم به من الرجال، فصاحب ألف جنيه في بلاد يباع فيها إردب الحنطة بخمسين قرشا يعد بمنزلة صاحب ألفين في بلاد يباع فيها الإردب بمائة قرش.
ويختلف ذلك في البلد الواحد باختلاف العصور، فصاحب بضعة آلاف قرش كان يعد عندنا في أوائل القرن الماضي من الأغنياء؛ لأن حاجيات الحياة كانت رخيصة جدا، ثم أخذت أثمانها تتصاعد بتكاثر الناس، وتفننهم في طرق المعائش، ولأسباب أخرى، حتى أصبح هذا المبلغ مما ينفقه أوساط الناس في شهر واحد، وقد لاحظنا فرقا واضحا في سعر الذهب في الأعوام الأخيرة بمصر، يجدر بالحكومة أن تتنبه له وتراعيه لعلاقته برواتب مستخدميها، وذلك أنه بالنظر إلى تصاعد أثمان المآكل وأجور المساكن، زادت نفقات البيوت نحو الربع عما كانت عليه منذ خمسة أعوام أو ستة، فالموظف الذي كان ينفق على عائلته ألف قرش في الشهر مثلا أصبح لا يكفيه أقل من 1250 أو 1300 قرش، والراتب الذي كان يتقاضاه لا يزال واحدا، ويعبر عن ذلك بنزول قيمة الذهب، فأصحاب الرواتب المعينة ينبغي أن تزداد رواتبهم كلما غلا السعر.
فللوقوف على حقيقة ثروة المملكة العباسية بالنظر إلى قيمة نقود هذه الأيام، يجب أن نقابل بين أثمان المحصولات يومئذ وأثمانها اليوم وأجور العمال في العصرين، وقد رأيت فيما تقدم أن ثمن الكر من الحنطة والشعير في أيام قدامة
48
ثلاثون دينارا، والكر العراقي أربعون إردبا
49
والإردب من الحنطة والشعير اليوم يقدر بنحو جنيه، فالأربعون إردبا بأربعين جنيها أو ثمانين دينارا أي نحو ثلاثة أمثاله في تلك الأيام.
وكانت أجرة الأستاذ البناء في أيام المنصور قيراط فضة، والروزكاري (الفاعل) حبتين،
50
والقيراط في العراق جزء من عشرين من الدينار
51
والحبة جزء من ستين منه فكأن أجرة الأستاذ بنقود هذه الأيام ثلاثة أرباع الدرهم أي نحو ثلاثة قروش، وأجرة الفاعل قرش، وذلك نحو ثلث أجرته اليوم (سنة 1903) أو ربعها، فالنقود في أيام العباسيين كانت تساوي ثلاثة أضعاف ما تساويه اليوم على الأقل، فالباقي في بيت مال العباسيين في السنة يساوي ثلاثين مليون دينار بنقود هذه الأيام، وكانت توضع في بيت المال تحت تصرف الخليفة واجتهاده، يستخدمها في الجهات التي يريدها أو تتراءى له فيها مصلحة للدولة، فهل نستغرب بعد ذلك إذا قيل لنا إن الخليفة الفلاني أعطى شاعرا مائة ألف درهم أو عشرة آلاف دينار، ونحن نرى أغنياءنا اليوم يبتاعون الصورة القديمة بمائة ألف جنيه، والقطعة من الآثار القديمة (الأنتيكة) بنصف مليون جنيه أو مليون؟! وإنما ذلك من نتائج الغنى الفاحش.
وليس في دول هذه الأيام (سنة 1903) ما يزيد الباقي في صندوقها على مليون واحد إلا نادرا، مع أن مصادر الدخل عندها زادت عما كانت عليه في أيام العباسيين، خذ إنجلترا مثلا، وهي من أعظم الدول الآن، فإن دخلها لعام 1900 بلغ نحو 120000000 جنيه منها:
جنيه
22000000
ضرائب المشروبات الروحية والتبغ والشاي.
32000000
قيمة الرخص على بيع هذه المشروبات ونحوها.
18500000
ضريبة الإيراد.
13000000
طوابع البريد.
3000000
من التلغراف.
8500000
طوابع للعقود ونحوها.
97000000 (المجموع)
فترى من هذا المجموع أن نحو أربعة أخماس دخل هذه الدولة من مصادر لا يكاد يكون لها أثر في صدر الدولة العباسية.
ويغلب في نفقات الدول الحديثة أن تساوي دخلها أو يبقى لها باق قليل جدا يندر أن يزيد على مليون جنيه، وكثيرا ما يعجز صندوقها عن القيام بالنفقات كلها لحدوث ما يدعو إلى زيادة النفقة كالحروب ونحوها، كما حدث لإنجلترا في الأعوام الأخيرة أثناء حربها في جنوبي إفريقيا حتى اضطرت إلى الاستقراض كما هو مشهور، فما هو السبب في الفرق بين ميزانية دول هذه الأيام وميزانية الدولة العباسية؟ لا يتضح لنا ذلك إلا إذا ذكرنا أسباب الثروة العباسية.
هوامش
أسباب الثروة العباسية
من القضايا البديهية أن مثل هذه الثروة لا يتأتى إلا إذا كان الدخل كثيرا وكانت النفقة قليلة، والثروة المشار إليها عبارة عن الباقي من إسقاط الخرج وهي سبل النفقة ونرى الفرق بينهما، ونبين أسباب كثرة الأولى وقلة الثانية. (1) مصادر الجباية
كانت الجباية في أوائل الهجرة قاصرة على الزكاة، ثم حدثت الغنائم بعد واقعة بدر الكبرى ثم الجزية لمن صالح على نفسه من نصارى جزيرة العرب ويهودها، وتوفي النبي
صلى الله عليه وسلم
ومصادر الجباية الزكاة والغنائم والجزية، فلما كانت الفتوح في الشام والعراق ومصر وضعوا الخراج والعشور على الأرض والمكس على التجارة، وانقضت دولة الراشدين وهذه مصادر الجباية، وما زال الحال على ذلك في أيام بني أمية مع ما فرضوه من الضرائب غير القانونية واستخدموه من العنف في تحصيلها كما تقدم، ومما وضعوه في أيامهم ضرائب الأسماك، وضعها محمد بن مروان في أثناء ولايته أرمينيا سنة 72ه
1
ونظنهم وضعوا أيضا أعشار السفن وهي العشور التي تؤخذ من المراكب المارة في البحار، وأخماس المناجم التي تحفر لاستخراج المعادن منها، وما زالت مصادر الجباية تزداد وتتفرع حتى أصبحت في أيام العباسيين عديدة ترجع إلى أحد عشر وهي: (1)
الصدقة أو الزكاة. (2)
الجزية. (3)
الخراج. (4)
المكوس (الفردة). (5)
الملاحات والأسماك. (6)
أعشار السفن. (7)
أخماس المعادن (أي المناجم). (8)
المراصد (الجمارك). (9)
غلة دار الضرب. (10)
المستغلات. (11)
ضرائب الصناعة وغيرها.
على أن العمدة في زيادة الثروة إنما هي على الخراج، حتى إنهم سموا مجموع الجباية خراجا بإطلاق البعض على الكل، فإذا قالوا خراج فارس مقداره كذا وكذا أرادوا مجموع جبايتها من كل الضرائب، وعليه فلنبحث أولا في الخراج وسبب كثرته في العصر العباسي الأول، ثم نلم بالضرائب الأخرى على وجه الاختصار. (1-1) أسباب كثرة الخراج
الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، ولكثرته في الدولة العباسية أسباب أهمها أربعة، وهي:
سعة المملكة العباسية
لما كان المعول في مقدار الجباية على الخراج، فجباية المملكة تتعاظم بزيادة مساحة أرضها وخصب تربتها، والمملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول كانت عظيمة الاتساع جدا، بل هي أوسع ممالك التمدن القديم (وخصوصا إذا اعتبرنا إسبانيا منها) إلا مملكة الإسكندر فربما قاربتها.
أما مساحة المملكة العباسية فتقديرها إنما يعرف من مساحات الممالك التي قامت مقامها اليوم، وهي:
مساحة المملكة العباسية (في القرن الثالث للهجرة)
أسماء البلاد
الدولة التابعة لها سنة 1903
مساحتها بالأميال
إيران كلها
شاه العجم
628000
أفغانستان
مستقلة
215000
بلوجستان
إنجلترا
130000
السند
إنجلترا
48000
تركستان روسيا فقط
روسيا
257000
بلاد القوقاز «تفليس»
روسيا
15300
أرمينية وكردستان
تركيا
72500
العراق، الجزيرة
تركيا
100205
سوريا، فلسطين
تركيا
109509
جزيرة العرب «منها»
تركيا
200000
القطر المصري
تركيا
400000
النوبة وبعض السودان
السودان
300000
طرابلس الغرب
تركيا
398000
جزائر الغرب
فرنسا
184500
تونس
فرنسا
51000
مراكش
مستقلة
219000
المجموع
3328014
فمجموع مساحة هذه المملكة 3328014 ميلا مربعا، وذلك نحو مساحة أوربا كلها، فخراج ممالك أوربا لو جباه المسلمون لم يزد على خراج مملكتهم، فاعتبر عدد تلك الممالك وفيها أعظم دول الأرض اليوم، فلو كان اعتماد تلك الدول في جبايتها على الخراج لما استقام أمرها، وإنما عمدتها على ضرائب المشروبات الروحية والجمارك كما تقدم.
على أن سعة المملكة العباسية لا تكفي وحدها لتعليل ثروتها؛ لأن المملكة العثمانية بلغت من السعة في أيام السلطان سليمان القانوني ما يقرب من سعة مملكة بني العباس، ومع ذلك فإن الجباية في أيامه لم تزد على 2843750 جنيها مصريا كما رأيت، وإنما ساعد الدولة العباسية على ذلك اهتمام الناس بالزراعة ونقل الضرائب وخصب الأرض وغير ذلك.
اشتغال الناس بالزراعة
قلنا في كلامنا عن بيت المال في عصر الأمويين إن عمالهم كانوا يسيئون إلى أصحاب الخراج من الرعايا، بما يستعملونه من العنف والعسف في تحصيلها، فتشاغل الناس عن الزرع فأهملت الأرض، وزادها إهمالا انتشاب الفتن والحروب في العراق وفارس وسائر أنحاء المملكة الإسلامية، ونقم الناس على حكومتهم وأبطلوا الزراعة نكاية فيها، ولقلة انتفاعهم بها، فأصبح معظم البلاد خرابا من الإهمال
2
وفيها الضياع والمزارع، فلما تولى العباسيون، ونشروا لواء العدل، وأحسنوا معاملة أهل الذمة والموالي، وأمنوهم على حقوقهم وأموالهم وأرواحهم، عاد الناس إلى الاشتغال بالزرع وغيره.
وكان للخلفاء الأولين من بني العباس عناية كبرى بتأييد الأمن وتعمير البلاد، ورعاية أهلها من الذميين والموالي، فالمنصور كان يتتبع العمال الظالمين ويأخذ أموالهم، ويستبدل بهم سواهم، ويضع ما يأخذه من أموالهم في بيت مال مفرد سماه بيت مال المظالم
3
وكان يبعث إلى الأطراف يسأل عن أسعار الغلة لئلا يظلم الناس بعضهم بعضا، ويبحث عن كل ما يقضي به القضاة أو يعمل به الولاة، وعما يرد إلى بيت المال وعن كل ما يحدث، فإذا رأى الأسعار تغيرت سأل عن السبب، وإذا شك في شيء مما قضى به القاضي سأله ووبخه،
4
وبعد أن كان الموالي كالأرقاء في أيام بني أمية أصبحوا في أيام العباسيين هم أهل الدولة وحماة الخلافة، يوصي الخلفاء بعضهم بعضا برعايتهم وخصوصا آل خراسان، فقد أوصى المنصور ابنه المهدي قائلا: «انظر إلى مواليك، فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك إذا نزلت بك، وأوصيك بأهل خراسان خيرا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك.
5
وكذلك فعل المأمون وغيره، وكان المنصور يشغل نهاره في النظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطف معهم مما يؤدي إلى اطمئنانهم وهدوئهم، ومن وصاياه لابنه المذكور: «يا بني لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل.»
وأدلة عدل الخلفاء العباسيين الأولين وتقواهم ورفقهم كثيرة، فقد كان المهدي يجلس للمظالم فينصف الناس من عماله وقضاته وأهله، وأخبار الرشيد في العدل أكثر من أن تحصى، وكان إذا ذكروا الظلم بين يديه بكى، من أمثلة ذلك أنه كان قد حبس أبا العتاهية وجعل عليه عينا يأتيه بما يقول، فرأوه يوما قد كتب على الحائط:
أما والله إن الظلم لؤم
وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصوم
فأخبر بذلك الرشيد، فبكى وأحضره واستحله وأعطاه ألف دينار.
وله مع أبي العتاهية حديث أغرب من هذا، وهو أن الرشيد أولم وليمة ووضع طعاما، وطلب إلى أبي العتاهية أن يصف ما هم فيه من النعيم، فقال:
عش ما بدا لك سالما
في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهي
ت لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت
في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا
ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، فقال الفضل بن يحيى: «بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته!» فقال الرشيد: «دعه، رآنا في عمى فكره أن يزيدنا.»
6
وأمثلة ذلك كثيرة عن الرشيد والمأمون مما لا يستوعبه كتاب، فكيف لا يستتب الأمن في ظل هؤلاء؟! ولماذا لا تخصب الزراعة وتتسع التجارة في حمايتهم؟! وكيف لا يتقاطر الناس إلى جوارهم والاستهلاك في خدمتهم؟! وكيف لا تعمر البلاد في ظل العدل وهو ميزان نصبه الله بين عباده، فلا عمران إلا في ظله، ولا حياة إلا به؟! ولا يتم عز للسلطان إلا بالعدل، إذ لا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل إلى العمارة إلا بالعدل
7
والعدل أساس الملك.
ومما ساعد على عمران المملكة العباسية أن الخلفاء كانوا يبذلون جهدهم في تعمير ما تركه الأمويون خرابا من الضياع والمزارع، بتسليمها إلى من يصلحها ويعمرها
8
فضلا عما كانوا يبذلونه من العناية في شق الأنهر وإنشاء السدود وغيرها مما يسهل الري.
السواد
فعمرت بذلك البلاد وكثرت غلتها، وخصوصا السواد (أو العراق)، فإنه من أخصب بقاع الأرض، وإذا راجعت ما ذكرناه من جبايته رأيت خراجه 120000000 درهم، وذلك نحو ثلث خراج المملكة كلها، والسواد كثير الجباية من أيام الفرس، فقد جباه قباذ بن فيروز 150000000 درهم
9
وجباه كسرى بن قباذ 287000000 درهم
10
وجباه غيرهما من ملوك الفرس 120000000 درهم، سوى 3000000 من الوضائع لموائد الأكاسرة
11
كانوا يجبون ذلك على غير ظلم ولا عسف، ولكنهم كانوا يعتنون بالري فيحفرون الترع ويبنون السدود والجسور، ووادي الفرات - كما لا يخفى - كثير الشبه بوادي النيل من جملة وجوه لخصب تربته، وغزارة مائه، وهو يفيض مثله كل سنة ولكن الفرات ودجلة يجريان من الشمال إلى الجنوب ويفيضان في الشتاء، والنيل يجري من الجنوب إلى الشمال ويفيض في الصيف، ويحتاج السواد بعد كل فيضان إلى إصلاح ما تخرب من الجسور ونحوها بطغيان الماء.
وكان ماء دجلة يجري قديما عبر مجراه اليوم، أي أنه كان يجري مثل مجراه اليوم من بغداد جنوبا إلى المدائن فالدير فالعاقول فجرجرايا فجابول إلى ماذرايا، ومن هناك ينعطف غربا حتى يسير سيرا عموديا إلى فم الصلح فواسط، حتى يصب في البطائح حيث يلتقي بالفرات ومنها إلى دجلة العوراء بقرب البصرة، ومنها إلى خليج فارس قرب عبادان، ثم يجري بعد ذلك من ماذرايا شرقا، ثم ينعطف جنوبا شرقيا على ما هو عليه اليوم، وكان الفرات فرعين: أحدهما بجانب الكوفة، والآخر شرقيها، وكلاهما يصب في البطائح.
البطائح
والبطائح مستنقعات أو أرض كان يغمرها الماء في أسفل العراق بين البصرة والكوفة، وسببها أن دجلة انبثق في أيام قباذ بثقا كبيرا بقرب كسكر، فأغفل أمره حتى غلب ماؤه وأغرق كثيرا من الأرض العامرة التي كانت تليه وتقرب منه، فلما ولي أنوشروان العادل الشهير أمر بذلك الماء فزحم بالمسنيات (أي أقام الجسور على جانبي المجرى القديم) حتى عاد بعض تلك الأرض إلى العمارة، ثم خلفه ابنه برويز، وفي أيامه زاد الفرات ودجلة زيادة عظيمة (في السنة السادسة للهجرة) لم ير مثلها وانبثقت بثوق كبار، فجهد برويز أن يسكرها حتى ضرب أربعين سكرا في يوم واحد فلم يقدر على رد الماء، فظلت الحال على ذلك حتى جاء المسلمون لفتح العراق وشغل الفرس بالحرب، فكانت البثوق تنفجر ولا يلتفت إليها أحد ويعجز الدهاقين عن سدها، فعظم ماؤها واتسعت البطيحة وعظمت
12
ومع ذلك فقد كان خراج هذه الأرض المستنقعة كبيرا؛ فإن عبد الله بن دراج استغل منها 50000000 درهم في خلافة معاوية بن أبي سفيان،
13
لكنهم قلما عنوا بإصلاحها والانتفاع بالأرض المغمورة، فلما تولى الحجاج بن يوسف اشتغل بالحروب عن إصلاح الري، وفي أيامه انبثقت بثوق أخرى وكبرت البطائح، فكتب إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك بخبرها وأنه قدر للنفقة على سدها 3000000 درهم، فاستكثرها الوليد، فقال له أخوه مسلمة بن عبد الملك: «أنا أنفق على سدها من مالي على أن تعطيني خراج الأرض المنخفضة التي يبقى فيها الماء بعد إنفاق المال على أيدي ثقاتك.» فرضي الوليد بذلك فحصلت للوليد أرض وطساسيج كثيرة، فحفر نهرين سماهما السيبين وتألف الأكرة (أي عمال الأرض) والمزارعين وعمر تلك الأرض، واستخرج للوليد أيضا من البطائح ثم لهشام بعده مالا كثيرا، ثم جرى الناس على ذلك إلى أواخر بني أمية.
14
ولما أفضت الخلافة إلى العباسيين واتخذوا السواد مقر ملكهم، جعلوا همهم إحياء أرضه باحتفار الأنهر وإنشاء الجسور، حتى تشابكت الترع في السواد، وأصبح ما بين دجلة والفرات سوادا مشتبكا غير مميز، تخترق إليه أنهار من الفرات،
15
وقس على ذلك سائر أنحاء العراق، وهو لم يصر إلى هذا الخصب والرخاء إلا في أيام العباسيين لارتياح الناس إلى العمل، ورغبة الخلفاء في تعمير البلاد، مع قابلية الأرض لذلك.
خراسان
ومن البلاد التي زاد بها الخراج زيادة كبرى خراسان، فقد كانت أرضا خصبة بالإضافة إلى سعتها، ورغبة أهلها في نصرة الدولة العباسية وخراج خراسان نحو 40000000 درهم، إذا أضيف إلى خراج العراق بلغ المجموع نحو نصف جباية المملكة كلها ولذلك كانت عناية بني العباس في إبان دولتهم مبذولة في هذين البلدين وفي الحجاز، وكان يقال: أما العراق فللمال، وأما خراسان فللمال والرجال، وأما الحجاز فهو مصدر الثقة في الخلافة وتثبيت البيعة، وعمران خراسان في ذلك الوقت مما لا ريب فيه، قال المقدسي في عرض كلامه عن مدائن العراق، وقد أطنب في عمرانها: «فهذه مدن بغداد، وبخراسان قرى كثيرة أجل من أكثر هذه المدن.»
16
وكثيرا ما كان الخلفاء العباسيون يعدون خراسان المملكة كلها.
17
ويدخل في ولاية خراسان بلاد ما وراء النهر، وهي كثيرة الخصب جدا، قال ابن حوقل: «ولم أر ولم أسمع في الإسلام بظاهر بلد أحسن من ظاهر بلد بخارى؛ لأنك إذا علوت قندهار لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على مغارس تتصل خضرتها بلون السماء، وكأن السماء قبة زرقاء على بساط أخضر، تلوح القصور ما بين ذلك كالتراس اللمطية أو كالكواكب العلوية بياضا ونورا من أراضي ضياع مقومة بالاستواء كوجه المرآة.» قال: «والمشار إليه من متنزهات الأرض: صفد سمرقند ونهر الأبلة وغوطة دمشق.»
18
ناهيك بعمران سائر المدن الإسلامية في ذلك العصر الزاهر.
مصر
ولا غرابة فيما تقدم من عمران البلاد في ظل الدولة العباسية ، فإن العدالة توطد دعائم الأمن، وإذا أمن الناس على أرواحهم وحقوقهم تفرغوا للعمل، فتعمر البلاد، ويرفه أهلها، ويكثر خراجها، اعتبر ذلك بمصر وتاريخ جبايتها، فقد كان عدد سكانها عند الفتح الإسلامي نحو 20000000 نفس على ما أجمع عليه مؤرخو العرب، ويستبعد أهل زماننا إمكان هذا.
وأكثر منهم استغرابا أهل أوائل القرن الماضي، فقد ذكر الدكتور كلوت (بك) تقدير العرب لسكان وادي النيل أنه عشرون مليونا، وعقب عليه بأنه «بعيد الاحتمال؛ لأن طبيعة الأرض لا تحتمل أن يزيد عدد سكانها على ثلث هذا القدر»،
19
وقد رأينا اليوم أنه زاد على نصفه، ولا يزال آخذا في الزيادة.
أما كلوت (بك) فإنه أعظم ذلك؛ لأن إحصاء هذا القطر كان على عهد كتابه (سنة 1840) 3000000 نفس فقط، على أنه لما ذكر هذا الإحصاء أظهر إعجابه بزيادة سكان وادي النيل في عهد محمد علي عما كانوا عليه في أيام المماليك.
أما في أيام الأمراء المماليك قبله فلم يكن يزيد عدد سكان مصر على 2000000 نسمة، ولا نظن الأرض المزروعة فيها كانت تزيد على مليون فدان وبعض المليون بالنظر إلى ما كان يقاسيه المصريون من استبداد الأمراء المماليك، فلما استقرت الأحوال في العصر الحديث تزايد السكان واتسعت مساحة الأرض المزروعة حتى بلغت الآن 5500000 فدان (سنة 1903) وسكانها نحو عشرة ملايين وهم آخذون في الزيادة، وبالطبع إن مقدار الجباية يزداد بزيادة العمران وكثرة السكان، وهما لا يكونان إلا في ظل العدل الصحيح، اعتبر ذلك في جباية مصر بالنظر إلى الدول والعصور فترى أنها تمشت على هذه القاعدة تماما:
كانت جباية مصر في زمن الراشدين أعلى ما بلغت إليه في الإسلام، فقد جباها عمرو بن العاص في زمن عمر بن الخطاب 12000000 دينار ومساحة الأرض للزراعة على تقديرهم 30000000 فدان، وجباها عبد الله بن سعد في أيام عثمان 14000000 دينار، ولكنه استعمل العنف في تحصيلها،
20
فلما كانت أيام بني أمية وكان ما كان من ظلم العمال وعنفهم انحطت الجباية، ولم تزد في أيامهم على 3000000 دينار إلا في أيام ابن الحبحاب على عهد هشام بن عبد الملك فبلغت 4000000 دينار؛ لأنه بذل الجهد في تحصيلها وتعديلها وزاد الخراج، فلما كانت الدولة العباسية لم تزد الجباية كثيرا لبعد مصر من دار الخلافة يومئذ فظلت على نحو ما كانت عليه في أيام بني أمية، ولما أخذت الدولة العباسية في التقهقر زاد انحطاط الجباية في مصر حتى أصبح في بعض سني القرن الثالث للهجرة 800000 دينار، فلما تولاها ابن طولون سنة 257ه استقصى عمارتها فبلغت جبايتها في أيامه 4000000 دينار مع رخاء الأسعار، وكان القمح كل عشرة أرادب بدينار
21
فلما انقضت دولة بني طولون والدولة الإخشيدية ودخلت مصر في حوزة الفاطميين سنة 363ه جباها جوهر القائد 7000000 دينار
22
لكنه لم يستطع ذلك إلا بزيادة الخراج على الأفدنة، ثم عادت الجباية فانحطت وارتقت تبعا لما تناوب عليها من الدول مما يطول شرحه.
وآخر عهدنا بانحطاطها على أيام الأمراء المماليك في أواخر القرن الثامن عشر - كما تقدم - إذ كانت جبايتها قليلة جدا مع كثرة الضرائب والتشديد في تحصيلها، وإليك ميزانية الحكومة المصرية سنة 1213ه/1798م:
ميدة أو نصف
الوارد
80460068
مال الميري على القرى والأوقاف
10870773
مال الميري على الإيراد
22811805
مال الميري على الصنائع والمأكولات
2509081
مال الميري على الرؤوس
116651727
مجموع الوارد
الخارج
2939247
نفقات كبار الموظفين
29772657
نفقات الجند
2653585
نفقات مختلفة
8438994
نفقات العلماء والتعليم ووقفيات
13892139
نفقات رجال الدين والجوامع ونحوها
42071654
نفقات الحج
99868276
مجموع الخارج يستخرج من مجموع الوارد أعلاه
16773451
الباقي
والباقي المشار إليه كانوا يسمونه الخزنة، وكانوا يحملونها إلى الأستانة كل سنة، ولما تمرد حكام مصر، حاول بعضهم إسقاطها، والبعض الآخر تخفيضها، ثم انتهت أخيرا إلى أن يقتطعوا منها 9283451 نصفا في مقابل نفقات فوق العادة على هذه الصورة:
ميدة أو نصف
3000000
ترميم قلاع القاهرة
1500000
ترميم قلاع سائر القطر
2000000
أثمان سكر وخلافه
2783451
نفقات أخرى يأمر بها شيخ البلد
9283451
الجملة
فإذا أسقط هذا المال من الخزانة المذكورة كان الباقي 7500000 ميدة.
23
وخلاصة ما يهمنا في هذا المقام أن مجموع الإيراد في عصر المماليك بلغ 116651727 نصفا، أو ميدة، والميدة في تلك الأيام كانت تساوي أربعة سنتيمات تقريبا
24
أو كل 28 نصفا تساوي 4 قروش و375 من ألف من القرش، فجباية مصر يومئذ قيمتها بالقروش نحو 18156250 قرشا.
غير أن قيمة نقود تلك الأيام كانت تختلف عن قيمتها اليوم، وقياس ذلك الاختلاف أسعار المأكولات؛ فقد كان ثمن الرطل من اللحم الضاني سبعة أنصاف وثمن إردب القمح 240 نصفا
25
فإذا قسنا ذلك بأثمانها في هذه الأيام رأينا الميدة أو النصف يقابل نصف القرش المصري تقريبا، فتكون جباية مصر في عصر المماليك تساوي نحو 58000000 قرش مصري أو 580000 جنيه، فلما تولتها العائلة الخديوية أخذت جبايتها في الزيادة حتى بلغت في العام الماضي (1907) 11850000 جنيه، أي أكثر من عشرين مرة من جبايتها في أيام المماليك، والتربة واحدة، والنيل واحد، والفصول على حالها.
ثقل الخراج المضروب
كان الخراج المضروب على الأرض في المملكة العباسية يختلف نوعه باختلاف البلاد، فبعضها بالمساحة، أي أن يضربوا على المساحة المعلومة من الأرض مالا معينا في العام، سواء زرعت تلك الأرض أم لم تزرع، والبعض الآخر بالمقاسمة، أي أن يكون الخراج جزءا من حاصل الأرض بعد زرعها واستغلالها، فما لم يزرع لا يطالب بخراجه، وكل من خراج المساحة والمقاسمة درجات وفئات سيأتي بيانها، ولما كان السواد (أو العراق) أهم أقاليم المملكة العباسية بالنظر إلى الخراج بدأنا به.
السواد
كان السواد لما فتحه المسلمون يجبى بالمساحة باعتبار «الجريب»، وهو قطعة من الأرض مساحتها ستون ذراعا في ستين أي 3600 ذراع مربع، فكل ما كانت مساحته جريبا كان الفرس يأخذون عليه قفيزا (أي محصول قفيز من الأرض عينا) ودرهما
26
والقفيز عشر الجريب (أي 360 ذراعا بلديا مربعا، وهم يقولون القفيز ويريدون غلته، أي أنهم كانوا يأخذون عشر المحصول كله عينا؛ لأن القفيز عشر الجريب وزيادة على ذلك درهما نقدا عن الجريب) ويعبرون عن القفيز وزنا بثمانية أرطال، ويقدرون قيمته ثلاثة دراهم
27
وكانت ضريبة الخراج بالقفيز معروفة في الجاهلية، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
تغل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
فإذا اعتبرنا القفيز بثلاثة دراهم كان الجريب بثلاثين درهما، يؤخذ عليه أربعة دراهم أي نحو 13 وثلث في المئة، وهو خراج خفيف جدا، لولا أن كثيرا من الأجربة تبقى بلا زرع ويدفع أصحابها الخراج عنها.
فلما فتح السواد على عهد عمر بن الخطاب، وعلم بما كان الفرس يجبونه، أمر بمساحته فمسحوه وعدلوه باعتبار نوع الغرس، وخلاصة ذلك: أنه أبقى الخراج على الحنطة كما كان في أيام الفرس، أي على الجريب قفيز ودرهم أو أربعة دراهم، وجعل على الجريب من الكرم عشرة دراهم، ومن النخيل ثمانية دراهم، ومن القصب ستة دراهم، والرطبة خمسة دراهم، وعلى الشعير درهمين، وعلى الرأس من الناس 12 درهما أو 24 أو 48 درهما، وأخرج من ذلك النساء والصبيان
28
وكان العمال يجبون السواد لعمر 12000000 درهم باعتبار أنه 30000000 جريب، وظل السواد في أيام الراشدين عامرا وأكثره مزروعا، فلما كانت الفتنة بعد مقتل عثمان، واشتغل المسلمون بالحروب إلى أيام بني أمية، واستصفاء الأموال في أيام معاوية والحجاج وغيرهما، اشتغل أهل السواد عن الزرع كما تقدم، ومع ذلك فإن الحجاج جباه نحو جبايته في أيام عمر، ولا بد أنه استخدم العسف والشدة في ذلك؛ لأن صاحب الأرض كان يطالب بالخراج عن أرض لم يزرعها، فإذا لم يؤد ما عليها ظل عليه الخراج دينا عاما بعد عام، فيتراكم ذلك على أصحاب الأرض وهم يزدادون ضنكا، فخربت البلاد وهجرها أهلها، وجرى على ذلك معظم عمال العراق بعده حتى اضطر أصحاب الأرض إلى الإلجاء كما سيأتي، ناهيك بما كان في نفوس أهل السواد وغيرهم من كره بني أمية لتعصبهم للعرب، واحتقارهم لغير العرب ولو كانوا مسلمين.
فلما أفضت الخلافة إلى العباسيين سنة 132ه، وجهوا عنايتهم إلى السواد، بنوع خاص، وأول من فعل ذلك منهم المنصور، فإنه نظر في السواد فإذا هو يكاد يكون خرابا للأسباب التي قدمناها، فرأى أن من الظلم استبقاء الخراج عليه بالمساحة على تلك الصورة، فجعل خراج الحنطة والشعير مقاسمة (وهما أكثر غلات العراق) أي أن يؤخذ خراج الأرض من غلتها إذا زرعت، فإذا لم تزرع لا يؤخذ منها شيء، وأبقى اليسير من الحبوب والنخل والشجر من الخراج بالمساحة،
29
ولا ندري كم جعل حصة بيت المال من المقاسمة المذكورة، ولكننا نعلم أن ابنه المهدي (من سنة 156-169) عين ذلك وحدده فجعل المقاسمة بالنصف في الأرض التي تسقى سيحا أي بدون تعب، وبالثلث في الأرض التي تسقى بالدوالي وبالربع في الأرض التي تسقى بالدواليب، وأبقى خراج النخل والكرم والشجر على المساحة (أي تركه يحسب على أساس المساحة المزروعة) وفضل بعضه على بعض باعتبار قربه من الأسواق والعرض، أشار عليه بذلك وزيره معاوية بن يسار،
30
فكان خراج العراق عبارة عن نصف غلته تقريبا؛ لأن أكثره يسقى سيحا، وهو خراج ثقيل، ولكن الناس عدوه يومئذ فرجا ورحمة.
ويظهر أن الهادي أو الرشيد زاد على ذلك الخراج العشر، فصار خراج العراق نصف غلته وعشرها أي ستة أعشارها، وظل ذلك شأنها إلى سنة 192ه فأسقط الرشيد العشر وأبقى النصف فقط
31
وما زال أهل السواد يدفعون نصف غلتهم خراجا إلى سنة 204ه فجعلها المأمون خمسين
32
فكأنه أسقط عشرين في المائة من مقدار الخراج، وخفض خراج بعض البلاد الأخرى غير السواد كالري، فإنه جاءها سنة 210ه فأقام فيها مدة، وأمر بتخفيف الخراج عنها، فلما انصرف وبلغ أهل (قم) ذلك طلبوا إليه أن يحط خراجهم كما فعل بالري فأبى، فتمردوا وامتنعوا عن أداء الخراج وكان مقداره 2000000 درهم فحاربهم المأمون وجباه في ذلك العام 7000000 درهم تأديبا لهم.
33
فترى مما تقدم أن خراج السواد كان ثقيلا بالنظر إلى ما كان عليه في أيام الراشدين على المساحة؛ لأنهم كانوا يأخذون على الجريب أربعة دراهم ونسبة الجريب إلى الفدان كنسبة 1260 : 4200 أو نسبة 100 : 333 وثلث، فإذا كان على الجريب 4 دراهم كان على الفدان 13 وثلث، وهو خراج زهيد بالنظر إلى ما يبقى بورا فهو كثير، وربما كان المعدل في الحالين واحدا، يدلك على ذلك أن الفرق في ارتفاع الخراج بين المساحة في أيام الراشدين والمقاسمة في إبان كثرتها لا يعتد به، أما بالنظر إلى هذه الأيام (سنة 1903م) فإن ضرائب السواد ما زالت حتى في أيام المأمون تعتبر ثقيلة بالنسبة إليها؛ إذ ليس في العراق الآن أرض يزيد خراجها على خمس غلتها، وفيها جانب كبير يؤخذ منه العشر فقط، وفي لبنان ظاهر الخراج على المساحة ولكنه مؤسس على المقاسمة؛ لأنهم مسحوا الأرض وقسموها باعتبار ما يحصل من غلتها باختلاف المغروسات، فالأرض التي غلتها كيل زيتون أو حمل ورق توت أو بذار مد قمح أو ما تساوي قيمته 360 قرشا سموها سهما، وفرضوا على السهم 21 قرشا إلا ربع قرش، فيكون الخراج 6 في المائة فقط.
مصر
ويلي العراق في الخصب مصر، وكان خراجها على المساحة باعتبار الفدان وهو قطعة من الأرض كانت مساحتها عندهم 400 قصبة، والقصبة خمسة أذرع بذراع النجار وستة أذرع وثلثا ذراع بذراع القماش.
34
وفي تعريف الحكومة المصرية اليوم الفدان
قصبة، والقصبة 3,55 من المتر المربع، وبتحويله إلى أمتار مربعة يكون الفدان نحو 4200 متر مربع، وقد تزيد أو تنقص قليلا.
35
وقد تقدم ما كان يقاسيه المصريون في عهد بني أمية من العسف وزيادة الضرائب، فدخلت الدولة العباسية مصر وأكثرها خراب لما كان يسوم أهلها عمال بني أمية من زيادة الخراج، وأشهر من فعل ذلك منهم عبيد الله بن الحبحاب في أيام هشام بن عبد الملك، فإنه زاد على القبط قيراطا في كل دينار كما تقدم، فآل ذلك إلى ثورة كبرى، على أن الثورات كانت تتوالى في مصر بسبب ضغط العمال، فلما تولى العباسيون بعثوا إليها العمال، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون رعاية أعمالهم، وملاحظة سيرهم، كما كانوا يلاحظون سير عمال العراق؛ لبعد وادي النيل عن مركز خلافتهم، فكان العمال حتى في صدر الدولة العباسية يضاعفون الخراج، ويشددون في تحصيله، كما فعل موسى بن علي سنة 156ه في أواخر أيام المنصور، وموسى بن صعب في أيام المهدي، فإنه ضاعف الخراج وشدد في استخراجه
36
وربما كان ذلك بإيعاز الخليفة؛ لأن المهدي زاد الخراج على أهل العراق كما رأيت.
أما في أيام المأمون أي في إبان الثروة الإسلامية فقد كان الخراج المضروب على مصر دينارين عن كل فدان،
37
وذلك كثير بالنظر إلى ما يؤخذ منها الآن، إذا اعتبرنا الفرق في السعر بين تلك الأيام واليوم؛ لأن الخراج المضروب على أطيان مصر الخراجية (وهي الجانب الأكبر) يختلف مقداره اليوم باختلاف خصبها، وهو وإن كان على المساحة فأساسه المقاسمة؛ لأنهم قسموا القطر المصري إلى نواح يختلف خراجها باختلاف خصبها.
وأخصب النواحي لا يزيد خراج الفدان فيها على 180 قرشا،
38
وأمثال هذه الفدادين قليل جدا، وأما الأكثر فخراجه حوالي مائة قرش، وفيها ما خراجه عشرون قرشا، أو عشرة قروش، وإذا اعتبرنا غلة الأرض بالنظر إلى خراجها، رأينا الخراج لا يزيد على خمس الغلة بوجه التقريب؛ لأن الفدان الذي تقدير خراجه مائة قرش مثلا يضمن بخمسة جنيهات أو ستة.
وإذا استخرجنا معدل خراج مصر على كل الفدادين، رأينا معدل خراج الفدان لا يزيد على 85 قرشا؛ لأن في القطر المصري نحو 5500000 فدان زراعي بلغ مقدار خراجها للسنة الماضية (1902) 4652570 جنيها
39
فيلحق الفدان الواحد نحو 85 قرشا، وقد تقدم في غير هذا المكان أن القرش اليوم يساوي ثلث قرش تلك الأيام، فالديناران خراج الفدان في أيام المأمون يساويان ستة دنانير في هذه الأيام أو ثلاثة جنيهات، فيكون خراج مصر في أيام المأمون يزيد على ثلاثة أضعافه في هذه الأيام (سنة 1903).
ولكن يظهر أن الخراج في مصر زاد بعد المأمون، حتى بلغ في أواسط القرن الرابع للهجرة لما جاءها القائد جوهر وفتحها باسم الخلفاء الفاطميين ثلاثة دنانير ونصفا، فجعلها هو سبعة دنانير
40
وذلك شيء كثير.
وقد رأينا في كتاب أحسن التقاسيم للمقدسي أنه: «ليس على مصر خراج، ولكن يعمد الفلاح إلى الأرض فيأخذها من السلطان ويزرعها، فإذا حصد ودرس وجمع رشمت بالعرام وتركت، ثم يخرج الخازن وأمين السلطان فيقطعان (أي يأخذان) كرى الأرض ويعطيان ما بقي للفلاح»، ولكن ذلك كان خاصا بالأرض التي كانت الحكومة تقبلها أي تضمنها وليس لها مالك، وقد تكون في الأصل لبعض القواد أو العمال من الروم الذين قتلوا في الحرب أو هربوا، فبقيت حلالا لبيت المال كما تقدم، فيضمنها الحاكم ويأخذ ضمانتها عينا أو نقدا.
بلاد أخرى
وهناك بلاد بعضها كان يجبى بالمساحة، والبعض الآخر بالمقاسمة، فبلاد فارس مثلا كان خراجها على ثلاثة أصناف: (1) المقاسمة، (2) المساحة، (3) القوانين، وهي المقاطعات (أي الإقطاعات)، على أن أكثر بلاد فارس على المساحة، وتختلف الأخرجة فيها باختلاف البلاد فأثقلها في شيراز
41
فإن خراج الجريب حنطة أو شعيرا 190 درهما والجريب من الأرطاب والمباطخ 237 ونصف درهم، ومن القطن 256 درهما وأربعة دوانق، ومن الكرم 1425 درهما، ولكن الجريب عندهم كبير أي سبعون ذراعا بذراع الملك، وهو تسع قبضات
42
فإذا فرضنا أن الجريب جريبان من أجربة العراق فالخراج مع ذلك لا يزال ثقيلا جدا، وهو خراج تلك البلاد في أواسط القرن الرابع، ولم نقف على مقداره في أيام المأمون.
ومن هذا القبيل خراج المغرب في أيام الأغالبة، فقد بلغ خراج الفدان في أيام عباس بن إبراهيم بن الأغلب 18 دينارا
43
ولا نظن مثل هذا المال يطول اقتضاؤه من أصحاب الأرض، وإنما هو يختلف باختلاف الأعوام والأحوال.
وجملة القول أن الخراج كان في العصر العباسي الأول ثقيلا، ومع ذلك لم يكن يعسر اقتضاؤه، وقلما شكا الناس ثقله، وربما استطاع العامل أن يجمع الملايين من الدراهم بسهولة في بضعة أيام، كما اتفق للمأمون لما مر بدمشق وكان أخوه المعتصم عاملا له عليها، وقد قل المال مع المأمون فشكا ذلك إلى المعتصم فقال: «يا أمير المؤمنين كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة.» فجاءه بثلاثين ألف ألف درهم (30000000) من خراج ما يتولاه له ففرق معظمه وهو واقف.
44 (2) سائر مصادر الجباية
على أننا لا نرى بأسا من الإشارة إلى ما بقي من مصادر الجباية في العصر العباسي الأول لتتمة الموضوع - منها: (1)
أعشار السفن:
هي ضريبة ذات بال، كان يرد منها إلى بيت المال مبالغ وافرة، لم نعثر على تفصيلها ولا وقفنا على مقدار ما كان يجبى منها في العصر العباسي، ولكن يؤخذ مما نعلمه من اتساع التجارة في تلك الأيام، بين العراق وسائر أقطار الدنيا حتى الهند والصين، أن السفن كانت كثيرة وأحمالها ثمينة، وقد ذكروا تاجرا واحدا من تجار البصرة في القرن السادس للهجرة اسمه حسن بن العباس، له مراكب تسافر إلى أقصى بلاد الهند والصين، بلغ مقدار ما يتحصل من ضرائبها 100000 دينار في العام
45
فاعتبر ذلك وقس عليه غيره في البصرة وغيرها من ثغور الإسلام، وفيها ما يكون أكثر دخله من أعشار السفن، فقد كان ضمان أعشار المراكب في عدن في القرن الرابع 200000 دينار،
46
وضمانها في القرن السادس 114000 دينار
47
والظاهر أن جباية تلك الأعشار كانت في العصر العباسي أقل مما صارت إليه بعد ذلك؛ لأننا نرى في جريدة علي بن عيسى التي كتبها للخليفة المقتدر سنة 306ه أن ضرائب المراكب في البصرة بلغت 22575 دينارا، وقد تقدم أن أضعاف ذلك كان يتحصل من أحد تجارها بعد قرنين. (2)
أخماس المعادن:
كانت المعادن عندهم ضربين: ظاهرة، وباطنة، فالمعادن الظاهرة ما كان جوهرها المستودع فيها بارزا، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، فهذه لا يجوز إقطاعها؛ لأنها كالماء والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه (ومن قبيل ذلك أراضي المراعي والكلأ والآجام)، وأما المعادن التي في باطن الأرض فهي ما كان جوهرها مستكنا فيها، فهذه كانت الحكومة تقطعها لمن يستخرجها، ولها الخمس مما يخرج منها،
48
ونظرا لسعة المملكة العباسية فقد كانت المناجم فيها عديدة، ومنها الذهب والفضة والنحاس والزئبق والفيروز والزبرجد وغيرها، وهاك أمثلة منها ومن أماكن وجودها:
كانت في خراسان معادن الذهب والفضة والفيروز والرخام وطين الختم والنوشادر والزئبق
49
وفي ما وراء النهر معادن الذهب والفضة والزئبق لا يكاثره معدن في الغزارة والكثرة
50
وفي بلاد فارس عامة المعادن: الفضة والحديد والأنك والكبريت والنفط والصفر والزئبق، وبغربي أصبهان معدن الكحل
51
وفي كرمان مدينة اسمها دمندان كان فيها أكثر معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والنوشادر والصفر
52
ومن هذا القبيل مغاوص المرجان بسواحل إفريقيا الشمالية، وهو شيء كثير كانوا يوسقون من منجم واحد منه خمسين قاربا أو أكثر، وفي كل قارب عشرون رطلا
53
وفي سوريا معادن الحديد، كانت بجوار بيروت، والمغرة الجيدة في حلب وجبال الحمر في مكان آخر، ومعدن الرخام في فلسطين، ومعدن الكبريت في الأغوار
54
وفي مصر معادن الشب بالصعيد، وكانت العربان تحضره من مناجمه إلى ساحل أخميم وأسيوط والبهنسا، ويحمل منه إلى الإسكندرية أيام النيل، وكانوا يبيعون منه تجار الروم نحو 12000 قنطار بسعر أربعة دنانير لكل قنطار إلى ستة، وكذلك النطرون في البر الغربي للنيل وفي غيره كان يستخرج منه كل سنة 10000 قنطار، وكان يضمن في بعض الأحوال ضمانا تبلغ قيمته 15500 دينار.
55
وفي النوبة مما يحاذي أسوان معدن الذهب المشهور، قال ابن حوقل: «والمعدن ليس من أرض مصر، ولكنه في أرض البجة وينتهي إلى عيذاب، والمعدن أرض مبسوطة لا جبل فيها وهي رمال ورضراض ومجمع تجارهم العلاقي.»
56
وفي بلاد الغرب مما يلي سجلماسة معادن الذهب والفضة، وكذلك في ما وراء ذلك إلى بلاد السودان،
57
وكان في صعيد مصر جنوبي النيل (كذا) معدن الزبرجد في برية منقطعة عن العمارة،
58
وفي البحرين بخليج فارس مغاوص اللؤلؤ، وفي صنعاء مناجم العقيق وبين ينبع والمروة معادن الذهب، وعلى شواطئ عدن ومخا (في اليمن) العنبر.
59
هذه أمثلة مما كان في المملكة العباسية من المعادن تمثيلا لما كان يجبى من أخماسها إلى بيت المال، وكانوا يقطعون هذه المعادن إقطاعا أو يضمنونها تضمينا بمال معين، وقد يكون ذلك المال كثيرا، من أمثلة ذلك أن معادن الفيروز في نيسابور بلغت ضمانتها في أواسط القرن الرابع للهجرة 758720 درهما.
60 (3)
الجزية والزكاة:
كانت الجزية في صدر الإسلام كثيرة، ثم تناقصت بدخول الناس في الإسلام، والزكاة كان لها شأن كبير في أول الإسلام، ثم قلت أهميتها، وسيأتي بيان ذلك. (4)
المكوس والمراصد:
وهما تقابلان الجمارك والعوائد في هذه الأيام، وكانوا يأخذون ضريبة من كل تجارة واردة في البحر أو البر، مهما يكن نوعها من الأنسجة أو المحصولات أو المصنوعات أو الرقيق أو غيره، وكان يحصل لهم من ذلك مال كثير، ولا نعلم مقدار ما كان يجمع منه، ولكن يظهر أنها كانت تختلف باختلاف الزمان والمكان، وربما اختلفت في البلد الواحد باختلاف الزمان، وفي الزمن الواحد باختلاف البلاد مما لا يمكن حصره، وإنما نأتي بما شاهده شمس الدين المقدسي بنفسه في مصر في أواسط القرن الرابع للهجرة من الضرائب التي كانت تؤخذ في تنيس ودمياط، قال: «وأما الضرائب فثقيلة بخاصة تنيس ودمياط وعلى ساحل النيل، وأما الثياب الشطوية فلا يمكن القبطي أن ينسج شيئا منها إلا بعد ما يختم عليها بخاتم السلطان، ولا أن تباع إلا على يد سماسرة قد عقدت عليها، وصاحب السلطان يثبت ما يباع في جريدته، ثم تحمل إلى من يطويها، ثم إلى من يشدها بالقشر ثم إلى من يشدها في السفط، وإلى من يحزمها، وكل واحد منهم له رسم يأخذه، ثم على باب الفرضة (أي الميناء) يؤخذ شيء، وكل واحد يكتب على السفط علامته، ثم تفتش المراكب عند إقلاعها، ويؤخذ بتنيس على زق الزيت دينار ومثل هذا وأشباهه، ثم على شط النيل بالفسطاط ضرائب ثقال، رأيت بساحل تنيس ضرائبيا جالسا قبل قبالة هذا الموضع (يجمع) في كل يوم ألف دينار، ومثله عدة على سواحل البحر في الصعيد وساحل الإسكندرية، وبالإسكندرية أيضا على مراكب الغرب، وبالفرما على مراكب الشام، ويؤخذ بالقلزم من كل حمل درهم.»
61
وذكر ابن حوقل: أنه كان يتحصل مما يخرج من أذربيجان إلى نواحي الري ولوازم على الرقيق والدواب، وأسباب التجارات والأبقار والأغنام 1000000 درهم في السنة.
62
على أن هذه الضرائب وأمثالها لم يكن لها رواج في أوائل الدولة العباسية، ولا كانت غلتها تستحق الذكر، ولكن دخلها تعاظم في عصر الاضمحلال. (5)
المستغلات وغلة دار الضرب:
يراد بالمستغلات ما يجبى لبيت المال من أسواق أو منازل أو طواحين، ابتناها الناس في أرض تربتها للسلطان (أي يملكها السلطان) فيؤدي عنها أجرة
63
وذكر ابن خرداذبة مبلغ غلات الأسواق والأرحاء ودور الضرب في مدينة السلام بغداد 1500000 درهم في السنة ،
64
وبلغت غلات ومستغلات سامرا وأسواقها 10000000 درهم في السنة.
65
فالدولة العباسية في إبان زهوها كانت تجبي من هذه الضرائب شيئا كثيرا، ولكن العمدة كانت على الخراج كما تقدم. (2-1) صدق العمال في إرسال المال المجموع
قد رأيت مما ذكرناه من جور عمال بني أمية أنهم كثيرا ما كانوا يستأثرون بالخراج لأنفسهم، إما بإذن الخلفاء كما فعل عمرو بن العاص بمصر إذ جعلها معاوية طعمة له في مقابل نصرته على علي، أو بحجة الحاجة إلى المال في الحروب كما حصل في أيام الحجاج، أو استرضاء لعامل متمرد التماسا لقعوده (أي سكوته وطاعته)،
66
أو أن يعصي العامل بالخراج لغير سبب كما فعل مسلمة بن عبد الملك في ولايته على العراق في أيام أخيه يزيد
67
فإن «يزيد» استحيى أن يطالبه بالخراج؛ ولعله خاف عصيانه، ناهيك بما كان يكتمه العمال عن خلفائهم من أموال الفيء والغنائم وهي من حق بيت المال، وقد يذكرونها ويطمعون فيها كما فعل يزيد بن المهلب بعد فتحه جرجان سنة 98ه، فإنه أصاب مالا كثيرا بقي منه لبيت المال 6000000 درهم، كتب عنها للخليفة لكنه استبقاها لنفسه،
68
ذلك ونحوه دعا الخلفاء في بعض الأحوال إلى أن يستخرجوا المال من عمالهم بالقوة كما تقدم.
أما بنو العباس، فقد كان معظم عمالهم في أوائل الدولة من أهلهم الأقربين، ثم استعملوا أنصارهم الفرس، وهم أكثر الناس رغبة في قيام دولتهم، وكان الخلفاء من الجهة الأخرى لا يقصرون في زيادة رواتبهم حتى بلغت في أيام المأمون ثلاثة ملايين درهم
69
وهي عمالة (بكسر العين وهي المرتب) الفضل بن سهل على المشرق، ولم يدرك مثلها أحد من عمال بني أمية؛ لأن أكبر راتب اقتضاه عمالهم لم يزد على 600000 درهم، وهي عمالة يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق.
70
ومما ساعد بني العباس في أوائل دولتهم على حفظ نظام أعمالهم، وإجماع العمال على ولائهم سداد رأي وزرائهم، وخصوصا البرامكة، فإنهم كانوا واسطة عقد تلك الدولة، وزهرة تمدنها، وكذلك كان الفرس على الإجمال؛ لأنهم كانوا يعدون استيلاء بني العباس عليهم رحمة من الله كانوا يتوقعونها منذ أعوام للتخلص من بني أمية واحتقارهم إياهم.
وهناك أسباب أخرى لكثرة جباية الدولة في أيام المأمون؛ كقلة الحروب والفتن، فإنها مذهبة للأموال، مضيعة للخراج، مفسدة للأعمال، لاشتغال الناس عن الزراعة والتجارة وإنفاق الأموال في الجند. (3) أسباب قلة النفقة
فرغنا من الكلام عن أسباب كثرة الخراج في الدولة العباسية بالقياس على أيام بني أمية، وهذه الأيام (سنة 1903) وهي القسم الأول من أسباب الثروة العباسية، فلنأت إلى القسم الثاني وهو قلة النفقة، وأهم أسبابها ثلاثة: (3-1) قلة الموظفين
يختلف عدد الموظفين في مصالح الحكومة باختلاف نمط تنظيمها، ويقال بالإجمال: إنهم أقل عددا في الحكومات الاستبدادية منهم في الحكومات المقيدة؛ لاستغناء الحكم المطلق عن تدوين كل شيء وضبطه لمراجعة النظر فيه، اعتبر ذلك في المحاكم القضائية، ومقدار الفرق بين عدد موظفيها في عهد الأحكام العرفية، وبينهم في عهد الأحكام القانونية، وقس عليه سائر مصالح الحكومة والسبب فيها متشابه، ويكفي لبيان هذا الفرق مقابلة عدد موظفي الحكومة المصرية قبل نظامها الحالي بعددهم اليوم.
كانت حكومة مصر قبل دخول الفرنسيين إليها (في أواخر القرن الثامن عشر) لا تزال على نحو ما رتبها عليه السلطان سليم الفاتح وابنه السلطان سليمان.
وخلاصة ذلك أن رئيسها (الباشا) وهو الوالي المرسل من الأستانة يليه 24 بيكا (طلبه خانه) منهم 12 يتولون المصالح الكبرى في القطر؛ وهم: (1)
الكخيا: وهو نائب (الباشا) وكاتم سره. (2)
الدفتردار: وهو ينظم في الخراج ويقابل ناظر المالية عندنا. (3)
أمير الخزنة: وهو يحمل إلى الأستانة ما يخصها من خراج مصر. (4)
أمير الحج: وهو يتولى قيادة الحج إلى الحجاز. (5)
ثلاثة قباطين لقيادة ثغور السويس ودمياط والإسكندرية. (6)
خمسة مديرين لأقاليم جرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية.
وهناك أربعة كشاف لأقاليم القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم، وأعمالهم مثل أعمال البكوات مديري الأقاليم الأخرى.
ومن المصالح الأخرى القاضي وأمير الضربخانة والمحتسب.
وكان الجند عبارة عن ست فرق تسمى وجاقات وهي: (1)
وجاق المتفرقة: وهو مؤلف من نخبة الحرس السلطاني. (2)
وجاق الجاويشية: وهو مؤلف في الأصل من صف ضابطان جيش السلطان سليم فعهد إليهم جباية الخراج. (3)
وجاق الهجانة. (4)
وجاق التفقجية: وهم ناقلو البنادق. (5)
وجاق الانكشارية: وهم أخلاط من نخبة القبائل الخاضعة للدولة العثمانية، وكانوا يعرفون أيضا بالمستحفظين لإناطة محافظة البلاد بهم. (6)
وجاق العزب.
وكان كل من هذه الوجاقات مؤلفا من أفراد يقال لهم «وجاقلية» واحدهم «وجاقلي» على كل وجاق منها ضابط، يلقب بالآغا، يصحبه الكخيا والباش اختيار والدفتردار والخزندار والروزنامجي،
71
ومن اجتماع هؤلاء الضباط من سائر الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا فلا يقضي أمرا إلا بمصادقتهم.
هذه خلاصة نظام الحكومة المصرية المركزي، ولا ترى عدد الموظفين فيه يزيد على خمسين (ما عدا الجيش)، فإذا اعتبرنا ما يلحقه من الكتاب والنواب وغيرهم ربما بلغ إلى 200 أو قل 300 أو 400، وهو يقابل في هذه الأيام نظارات الحكومة ومجلس النظار والمعية ومصلحة الصحة والبوليس وسائر المصالح، مما يربو عدد موظفيها على ألفين كما يأتي:
الموظفون في الحكومة المصرية الآن فئتان: الفئة الأولى: العمال، وهم الذين يتولون أعمالها وإدارة شؤونها، ومنهم النظار، ورؤساء الأقلام، والكتاب والحساب، والفئة الثانية: الخدمة، ومنهم الفراشون، والبوابون، ونحوهم، وإليك عدد الموظفين من طبقة العمال فقط مرتبة باعتبار النظارات والمصالح والأقلام.
72
عدد موظفي الحكومة المصرية لسنة 1902 من طبقة العمال
عدد
1121
المعية وتوابعها
18
مجلس النظار
26
مجلس الشورى
24
نظارة الخارجية
419
نظارة المالية
424
نظارة المعارف
186
نظارة الداخلية
2760
نظارة الحقانية
629
نظارة الأشغال
3306
نظارة الحربية
1715
مصالح إدارة الأقاليم وماليتها
6644
مصلحة البوليس
526
مصلحة الصحة
105
مصلحة السجون
15
مصلحة منع الرقيق
36
مصلحة الدفترخانة
510
مصلحة الجمارك
218
خفر السواحل
140
الدخوليات (الجمارك)
4
مصايد الأسماك
13
الرسالة
1938
السكة الحديدية
327
التلغرافات
29
ميناء الإسكندرية
550
البوستة
103
الفنارات
6
الليمانات
15
التمغة للمصاغات
301
مكاتب تابعة للمعارف
11
الكتبخانة الخديوية
4
الأنتكخانة
14
المطبعة الأهلية
90
أملاك الميري الحرة والمشتركة
227
القومسيون البلدي
22454 (الجملة)
فجملة موظفي الحكومة المصرية من العمال 22454، فإذا أخرجنا منهم المصالح ذات الإيراد إذ لا دخل لها في إدارة شؤون الحكومة وهي:
عدد
1938
السكك الحديدية
327
التلغرافات
29
ميناء الإسكندرية
550
مصلحة البوستة
103
الفنارات
6
الليمانات
15
قلم التمغة
2968 (الجملة)
ومصالح إدارة الأقاليم وعدد موظفيها 1715، كان المجموع 4683، وبإخراجه من العدد الأصلي يبقى 17771 وهو عدد موظفي الحكومة المصرية في نظاراتها ومصالحها ما عدا الجيش، فاعتبر الفرق العظيم بين هذا العدد وبين ما كان عليه في أيام المماليك، وقس عليه عدد موظفي الحكومة في الدولة العباسية.
على أن ذلك يتضح من مراجعة قائمة نفقات الدولة العباسية، فإنك ترى معظم أصحاب الرواتب هناك من الجند، وخدمة البلاط، والحرس الخاص، والغلمان، والحشم، والفراشين، وأصحاب الصيد، ونحوهم، وليس من عمال الحكومة الحقيقيين إلا جزء صغير وهم المعبر عنهم «بأكابر الكتاب»، وأصحاب الدواوين، والخزان، والبوابين ... إلخ، وعبد الله بن سليمان (الوزير)، وإسحق بن إبراهيم القاضي، والفرسان، ونفقات السجون، والعلوفة، ونحو ذلك، ولا نظن نفقات الحكومة على مصالحها الحقيقية تزيد على نصف ذلك المال (أي 1250000 دينار) مع أن نفقات الحكومة المصرية الآن على مصالح الإدارة والتحصيلات وحفظ النظام فقط تزيد على 3250000 جنيه، وما مصر بالنظر إلى المملكة العباسية إلا جزء صغير، وأما سبب هذه الزيادة فمن كثرة الموظفين لما اقتضاه النظام الحديث من الضبط والتحرير كما تقدم.
على أن السبب في قلة نفقات الدولة العباسية من حيث الموظفين ليس قلة عددهم فقط، ولكن هناك سببا آخر ذا بال، أعني تسديد أرزاق بعض العمال من مال يوفرونه ولا يدخل في باب الوارد؛ فقد رأيت أن أرزاق أكابر الكتاب وأصحاب الدواوين والخزان ... إلخ 156 وثلثا دينار في اليوم، غير أن هؤلاء ليسوا كل موظفي الدواوين بل هم الكبراء فقط، ويتضح ذلك من قوله هناك: «سوى كتاب دواوين الإعطاء وخلفائهم على مجالس التفرقة، وأصحابهم وأعوانهم، وخزان بيت المال، فإنهم يأخذون أرزاقهم مما يوفرون من أموال الساقطين، وغرم المخلين بدوابهم.» ويدل ذلك أيضا على اختصار الحسابات مما لا يرتكبه في هذه الأيام أصغر الباعة إذا أراد ضبط حسابه فضلا عن دوائر الحكومة، فإن أموال الساقطين وغرم المخلين كان يجب أن تدون في أبواب الوارد، وتدون رواتب أولئك الموظفين في باب النفقات، وعلى أننا نستبعد أن لا يكون لهذه القيود محل في دفاتر الحكومة العباسية، وأنها أسقطت من هذه القائمة حبا في الاختصار أو لأسباب أخرى. (3-2) عدم وجود الدين على الحكومة
من أدران التمدن الحديث ، انغماس الحكومات الأوربية في الديون، وما من دولة إلا وهي مدينة بمال لا بد لها من تأدية فوائده، أو تسديد بعضه من دخلها كل عام، فهو عبء ثقيل على ماليتها وسبب كبير في قلة ما يفضل من دخلها، مع كثرة أبواب الدخل عندها مما فرضته من الضرائب المختلفة التي لم تكن معروفة في الدولة العباسية، أو كانت معروفة على صورة خفيفة جدا، فقد تقدم أن دخل إنجلترا 120000000 جنيه يجتمع نحو أربعة أخماسها من ضرائب أكثرها حديثة العهد، وأن نفقات الدولة تستغرقها كلها، فمن أسباب ذلك أن ربع هذا الدخل تقريبا يذهب في وفاء فائدة ما على هذه الدولة من الديون، ولولا ذلك لبقي في خزينة الحكومة الإنجليزية كل عام حوالي 30000000 جنيه أي نحو ثروة الدولة العباسية كلها، وليست إنجلترا وحدها غارقة في الديون، فإن معظم دول أوربا مثلها، وإن تفاوتت ديونها، وهاك بيانا بديون أشهر دول العالم في آخر القرن التاسع عشر، بقطع النظر عن كسور المليون، وقد رتبناها في الجدول الآتي باعتبار الأكثرية:
ديون أشهر دول العالم (Statesman’s year book)
جنيه
1250000000
فرنسا
700000000
إنجلترا
200000000
روسيا
200000000
الولايات المتحدة
128000000
الدولة العثمانية
120000000
النمسا
103000000
مصر
100000000
ألمانيا
93000000
هولندا
54000000
الصين
48000000
اليابان
22000000
إيطاليا
12000000
إسبانيا
3030000000 (الجملة)
وقد تراكمت هذه الديون على تلك الدول بتوالي الأجيال، بما احتاجت إليه من النفقة في الحروب، أو في إنشاء المشروعات الكبرى، أو نحو ذلك مما لم تكن الدولة العباسية في غنى عنه، ولكنها كانت في أيام زهوها تنفق مما تدخره من فضلات الجباية كما تقدم. فلما قلت الجباية وكثرت أسباب النفقة في طور الاضمحلال، ولم يبق في بيت مالها ما تنفقه في الحروب عمدت إلى استخراج الأموال من أهل الثروة، وخصوصا من كبار موظفيها كالوزراء، والعمال، والكتاب الذين أثروا من مالها بالاختلاس ونحوه، وسموا ذلك مصادرة كما سيأتي.
على أن الدولة العباسية كانت في بعض الأحيان تستسلف المال من بعض التجار في مقابل أوراق لم يحل أجلها، وأكثر ما كانوا يفعلون ذلك مع اليهود، وهم أقدر الناس على المرأباة كما لا يخفى، وبلغ مقدار الربا الذي كانوا يأخذونه على تلك القروض نحو 20 في المائة، فقد كان علي بن عيسى وزير المقتدر في أوائل القرن الرابع الهجري إذا احتاج إلى المال، وليس له وجه استسلف من التجار على سفاتج وردت من الأطراف، ولم تحل بعد.
وكان مقدار ما يدفعه عليها من الربا دانقا ونصفا على كل دينار في الشهر، فإذا استدان عشرة آلاف دينار بلغ رباها في الشهر 2500 درهم، وأشهر من كان يتعامل معهم من صيارف اليهود في بغداد رجل كان يعرف بيوسف بن فنحاس، وهو من تجار الأهواز أيضا، وآخر اسمه هرون بن عمران أو من قام مقامهما مدة ست عشرة سنة،
73
غير أن ذلك لا يعد من قبيل الدين الأهلي الشائع في هذه الأيام. (3-3) اقتصاد الخلفاء الأولين وتدبيرهم
من الأمور المقررة في التاريخ السياسي أن مؤسسي الدول ومن يتلوهم من الأمراء الأولين يغلب فيهم الاقتصاد والتدبير، ولولا ذلك لم يتأت لهم إنشاء الدول أو تثبيت دعائمها، ويعبر فلاسفة التاريخ عن ذلك بصبوة الدولة، والصبوة تدعو إلى النمو بالادخار، فإذا بلغت الدولة شبابها وتم نموها عادت ناكصة على عقبيها، كما يتقهقر المرء إلى الكهولة فالشيخوخة، فالدولة العباسية نشأت في حوزة السفاح طفلة، فتناولها المنصور صبية فغذاها وأنماها حتى أدركت شبابها في أيام الرشيد والمأمون، ثم تقهقرت إلى الكهولة فالشيخوخة فالهرم في أيام الخلفاء الذين أتوا بعد ذلك.
توفي السفاح وقد ملك أربع سنوات، ولم يخلف سوى بعض الثياب
74
ولو كان طماعا لجمع مالا كثيرا؛ لكثرة ما وقع له من غنائم بني أمية فضلا عن الجبايات وغيرها.
وخلفه المنصور فتولاها بضعا وعشرين سنة ادخر في أثنائها نحو 81000000 درهم كما تقدم، وكان لفرط حرصه متهما بالبخل، ولم يكن بخيلا ولكنه كان لا يضع الكرم في غير موضعه، لم يكن يبذل المال إلا إذا رأى في بذله منفعة في تأييد دولته، وفضل المنصور في تأييد الدولة العباسية بالحزم والشدة والعدل مثل فضل عمر بن الخطاب في تأييد الإسلام، يكفيك من دلائل اقتصاده وتدبيره وحسن نظره ما أوصى به ابنه المهدي عند وفاته، من ذلك قوله: «قد جمعت لك من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث، وإياك أن تدخل النساء في أمرك، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها، فإن النوائب غير مأمونة، وهي من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد فتتدارك عليك الأمور وتضيع، وأعد رجالا في الليل لمعرفة ما يكون في النهار، ورجالا في النهار لمعرفة ما يكون في الليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر، ولا تكسل، واستعمل حسن الظن، وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ.»
75 •••
قضى المنصور مدة خلافته، ولم ير في داره لهو ولا شيء يشبه اللهو أو اللعب، أو العبث، إلا مرة، كان في مجلسه فسمع جلبة فأمر حمادا التركي وكان واقفا على رأسه أن يبحث عن سبب ذلك، فمضى فرأى خادما من خدم المنصور وقد جلس وحوله الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فعاد حماد وأخبر المنصور فقال: «وأي شيء هو الطنبور؟» فوصفه له فقال: «وما يدريك أنت ما الطنبور؟!» فقال: «رأيته بخراسان»، فقام المنصور ومشى إلى الجواري فلما رأينه تفرقن خوفا منه، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسر الطنبور، وأخرج الخادم فباعه. •••
وكان المنصور بخيلا على نفسه باللباس، كان يرتدي جبة هروية ويرقع قميصه، وإذا استجداه أحد بخل إلا إذا رأى الجود لازما، فربما سأله أحدهم درهما فلا يعطيه، ويعطي الآخر ألفا بلا سؤال، من أمثلة ذلك أن أحد معارفه القدماء لقيه بعد الخلافة وكان فقيرا فسأله المنصور: «ما عيالك؟» قال: «ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن.» فقال له: «أنت أيسر العرب، أربعة مغازل يدرن في بيتك!» ولم يعطه شيئا، ولما توفي عيسى بن نهيك سأل المنصور خادمه عما خلفه من المال فقال الخادم: «خلف ألف دينار أنفقته امرأته على مأتمه.» فقال: «كم خلف من البنات؟» قال: «ستا»، فأطرق المنصور ثم أمر لكل من البنات بثلاثين ألف دينار وسعى في تزويجهن، وفرق المنصور في أهل بيته في يوم واحد 10000000 درهم.
76
ولما توفي المنصور خلفه ابنه المهدي، وكان شبيها بأبيه من عدة وجوه؛ ومن جملتها النظر في دقائق الأمور، وفي أيامه ترتبت الدواوين وتنظمت إدارة الحكومة، وتقررت القواعد على يد وزيره معاوية بن يسار
77
وكان يجلس للمظالم بنفسه، وكان تقيا ورعا، ولكنه لم يكن في مثل ما كان عليه أبوه من الاقتصاد، وتولى بعده الهادي زمنا قصيرا، ثم الرشيد وكان تدبير المملكة قد أفضى إلى الوزراء من آل برمك، وقد اتسعت الأرزاق وكثرت الأموال، وكان البرامكة أهل كرم وسخاء، فزادوا الخلفاء كرما وكانوا يحرضونهم على ذلك منذ صغرهم، كما فعل يحيى البرمكي مع الرشيد وكان يسايره يوما فقام رجل فقال: «يا أمير المؤمنين عطبت دابتي.» فقال الرشيد: «يعطى خمسمائة درهم.» فغمزه يحيى، فلما نزل الرجل قال الرشيد ليحيى: «يا أبتاه أومأت إلي بشيء وقتما أمرت بالدراهم فما هو؟» فقال: «مثلك لا يجري هذا المقدار على لسانه، إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف، وعشرة آلاف ألف.» قال: «فإذا سئلت مثل هذا كيف أقول؟» فقال: «تقول: يشترى له دابة ويفعل به فعل نظرائه.»
78
وكان الرشيد ميالا للجود من فطرته، فنشطه ذلك حتى صار إلى أبعد مما أرادوه، واضطروا إلى إيقافه عند حده،
79
وأوغل الخلفاء بعد ذلك في البذخ والإسراف، وهما من أسباب سقوط دولتهم على ما سيجيء.
وجملة القول أن أسباب الثروة العباسية في عصرها الأول كثرة الدخل وقلة النفقة، وأسباب كثرة الدخل: (1)
سعة المملكة. (2)
اشتغال الناس بالزراعة والتجارة لاطمئنان خواطرهم. (3)
ثقل الخراج المضروب على الأرض. (4)
صدق العمال في إرسالهم المال المجموع إلى بغداد.
وأسباب قلة النفقة: (1)
قلة الموظفين. (2)
عدم وجود الدين. (3)
اقتصاد الخلفاء الأولين.
هوامش
ثروة الدولة العباسية في عصر الاضمحلال
(1) تمهيد في أسباب ذلك الاضمحلال
لكل دولة أدوار شبيهة بأدوار الحياة من الطفولة إلى الشيخوخة: فالدولة العباسية بلغت شبابها في أيام الرشيد والمأمون وهو العصر العباسي الزاهر، ثم أخذت بعدهما في الانحدار نحو الكهولة فالشيخوخة، كما بلغت الدولة الأموية في الشام شبابها في أيام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، والدولة الأموية بالأندلس بلغت شبابها في أيام الخليفة الناصر وابنه الحكم المستنصر، والدولة العثمانية بلغت ذلك الدور في أيام السلطان سليمان، وقس على ذلك، وقد قسم ابن خلدون أيام الدولة إلى خمسة أطوار: (1)
الظفر. (2)
الاستبداد. (3)
الفراغ. (4)
المسالمة والقنوع. (5)
الإسراف والتبذير.
1
وهو تقسيم إجمالي ربما لا ينطبق على أحوال جميع الدول انطباقا تاما إلا بالتأويل، وأما تقسيمها باعتبار العمر فإنه صريح واضح، ويحسن بنا قبل التقدم إلى الكلام عن الثروة العباسية في عصر الاضمحلال أن نذكر أسباب ذلك الاضمحلال مما يتعلق بموضوع هذا الكتاب فنقول: (1-1) العرب والفرس
علمت مما تقدم أن الدولة العباسية إنما قامت بنصره الفرس وخصوصا أهل خراسان، وهؤلاء لم ينصروها إلا انتقاما لأنفسهم من بني أمية؛ لما كان من تعصبهم للعرب، واحتقارهم سائر الأمم الخاضعة لهم ولو كانوا مسلمين، فالعباسيون عرفوا للفرس فضلهم في ذلك فقربوهم واستخدموهم في مصالح الدولة، واتخذوا منهم الوزراء والعمال والكتاب وغيرهم، فضعف شأن العرب وصاروا ينظرون إلى الدولة نظر المحاذر المراقب ولا حيلة لهم في إرجاع نفوذهم، وبلغ الفرس أرفع المنازل عند العباسيين في أيام البرامكة، فزاد حقد العرب عليهم وسعوا في إسقاطهم رغم ما كان من جود البرامكة وكرم أخلاقهم، ولعلهم كانوا يبالغون في السخاء دفاعا عن مركزهم، على أنهم لم ينجوا من الحساد ممن ينتصرون للعرب فوشوا بهم واتهموهم بالطمع في الملك حتى نكبهم الرشيد، ومن أشهر وشاتهم الفضل بن الربيع وهو لم يكن عربيا ولكنه ينتسب إلى العرب لاتصال نسبه بمولى عثمان بن عفان.
2
فلما نكب البرامكة ظن العرب أنهم سيرجعون إلى شوكتهم وسلطانهم، ثم مات الرشيد واختلف ابناه الأمين والمأمون على الخلافة، والأمين عربي الأبوين؛ لأن أمة زبيدة حفيدة المنصور، فأخذ أهل بغداد بناصره وفيهم جند العرب (الحربية)، وأما المأمون فأمه فارسية، وكان في خراسان بين أخواله وشيعته
3
فنصره الخراسانيون كما نصروا أجداده، وانتهى الخلاف بمقتل الأمين وفوز المأمون ، فعاد النفوذ إلى الفرس وعادوا إلى امتهان العرب، فعظم ذلك على هؤلاء، وخصوصا لما تولى الحسن بن سهل، وهو فارسي مجوسي الأصل حديث العهد في الإسلام، فطعنوا في إسلامه وقالوا: «لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي.» وتمردوا على الحكومة، ولكنهم عادوا إلى السكينة قهرا
4
وجاء المأمون إلى بغداد واستتب الأمر له ولنصرائه، واشتغل هو بالعلم والفلسفة فجره ذلك إلى القول بأن القرآن مخلوق، فازداد العرب كرها له ولكنهم لم يستطيعوا رده. (1-2) الأتراك
فلما مات المأمون سنة 218ه أفضت الخلافة إلى أخيه المعتصم بالله، وكانت أمة تركية الأصل من بلاد الصفد في تركستان
5
فشب محبا للأتراك، وكان قد أصبح لا يأتمن الفرس على نفسه بعد أن قتلوا أخاه الأمين، وهي أول مظاهر جرأتهم على الخلفاء، ولم يكن له من الجهة الأخرى ثقة في جند العرب؛ لما يعلمه من ضعفهم بعد ما سامهم إياه العباسيون من الإذلال، وزد على ذلك أن أخاه المأمون أوصاه عند دنو أجله بمحاربتهم، فلم ير له غنى عن الاعتماد على من ينصره من غير الفرس والعرب، وكانت الفتوح الإسلامية قد أدركت ما وراء النهر، وكان العمال هناك يبعثون الهدايا إلى بلاط الخلفاء وفي جملتها صبيان الأتراك والفراغنة، فهان عليه اقتناؤهم لاتصال نسب أمه بهم، فاقتنى منهم ألوفا اشترى بعضهم بالمال والبعض الآخر أتاه على سبيل الهدية، وتكاثروا حتى بلغ عددهم ثمانية عشر ألفا
6
فضاقت بهم بغداد وضجر البغداديون من سوء تصرفهم، فابتنى لهم مدينة سامرا وأنزلهم فيها،
7
وأطلق لهم الأرزاق وجند منهم الجنود، ولا ريب أنهم كانوا عونا له في تأييد سلطانه، والفوز في حروبه ضد أعدائه من الروم والترك، ولكنهم كانوا من الجهة الأخرى سبيلا إلى تقهقر الدولة العباسية بما كان من مطامعهم في الأموال، واستئثارهم بالنفوذ، حتى أصبحت الدولة وبيت مالها وخلفاؤها تحت رحمتهم.
وكان المأمون عالما حكيما، وكل بطانته وجلسائه من أهل الحكمة والعلم، وكان مع ذلك رقيق الجانب يضرب المثل برقته ودعته، قال يحيى بن أكثم: «ماشيت المأمون يوما من الأيام في بستان مؤنسة بنت المهدي، فكنت من الجانب الذي يستره من الشمس، فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع أردت أن أدور إلى الجانب الذي يستره من الشمس فقال: «لا تفعل، ولكن كن بحالك حتى أسترك كما سترتني.» فقلت: «يا أمير المؤمنين لو قدرت أن أقيك حر النار لفعلت، فكيف الشمس؟!» فقال: «ليس هذا من كرم الصحبة.» ومشى ساترا لي من الشمس كما سترته.»
8
وقال يحيى بن خالد بن برمك أيضا: «كنت نائما عند المأمون فعطش فامتنع أن يصيح بغلام يسقيه، وأنا نائم فينغص علي نومي، فرأيته وقد قام يمشي على أطراف أصابعه حتى أتى موضع الماء، وبينه وبين المكان الذي فيه الكيزان نحو من ثلثمائة خطوة، فأخذ منها كوزا فشرب ثم رجع يمشي على أطراف أصابعه حتى قرب من الفراش الذي أنا عليه فخطا خطوات خائف لئلا ينبهني حتى صار إلى فراشه.»
وبالغ المأمون في ملاطفة حاشيته ورجال دولته حتى طمع خدمه فيه واستخفوا به، قال عبد الله بن طاهر: «كنت عند المأمون يوما، فنادى بالخادم: يا غلام! فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيا وصاح: يا غلام! فدخل غلام تركي وهو يقول: «ما ينبغي للغلام أن يأكل ولا يشرب؟! كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام! إلى كم يا غلام؟!» فنكس المأمون رأسه طويلا فما شككت أن يأمرني بضرب عنقه! ثم نظر إلي وقال: يا عبد الله، إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمه، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتتحسن أخلاق خدمنا.»
9 •••
تلك كانت مناقب المأمون من اللطف والدعة والحلم، مع العلم والأدب والفضل وسعة الصدر، فخلفه المعتصم وكان عاريا من العلم يقرأ قراءة ضعيفة
10
وكان غضوبا شديد النقمة
11
منصرف الهمة إلى ركوب الخيل واللعب بالصوالجة
12
وساعده على ذلك قوة بدنه فقد كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات
13
فرأى رجال الدولة فرقا بعيدا بينه وبين أخيه، فلم يخلصوا له فازداد هو رغبة في أتراكه وفراغنته، وكان مع ذلك على رأي أخيه المأمون من قبيل القول بخلق القرآن، فاستخدم العنف والشدة في تأييده حتى لقد أحضر أحمد بن حنبل الإمام الشهير وسأله عن رأيه في القرآن فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر بجلده جلدا عظيما حتى غاب عقله وقطع جلده وحبس مقيدا
14
فزاد نفور عامة المسلمين منه وخصوصا العرب وهو لا يكترث بذلك، وإنما كان معتمده على جنده الأتراك وهم حديثو العهد في الإسلام وفي التمدن الإسلامي؛ لأنهم جاءوا من بلاد كانت لا تزال في عهد الجاهلية، وكانوا حجر عثرة في طريق ذلك التمدن، ففسدت النيات واضطربت الأحوال وابتدأت الدولة في التقهقر من ذلك الحين. (1-3) المال
وكانت غاية المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين تأييد الإسلام ونشره ورفع شأن العرب، فلما طلب الأمويون الخلافة احتاجوا إلى المال، فبذلوا كل وسيلة في سبيل جمعه وقلت الرغبة في تأييد قواعد الدين، ولكنهم ظلوا على تعصبهم للعرب وزادوا عليه احتقارهم سائر الأمم، فكان مطمح أنظارهم «العرب والمال»، فلما تولى العباسيون أهملوا أمر العرب، واستبدلوه بنصرة الإسلام على الإطلاق، وانصرفوا في أيام زهوهم إلى الاشتغال بالعلم والفلسفة والتجارة وغيرها من عوامل التمدن، واستعانوا على ذلك بالفرس وكانوا عريقين في المدنية قبل الفتح الإسلامي، وفيهم استعداد فطري للتمدن فضلا عن أن تأييد الدولة العباسية يعود بالعمران على بلادهم؛ لأن مركز الخلافة فيها، فاخلصوا الخدمة فعمرت البلاد ونضجت الثروة وتدفقت ينابيعها، ففاضت الأموال في خزائن الخلفاء ورجال دولتهم فأسرفوا وانغمسوا في الرخاء والرغد والترف، حتى بلغوا قمة المجد في أيام الرشيد والمأمون، فلما كانت أيام المعتصم واستكثر من المماليك الأتراك - كما تقدم - واستخدمهم في مصالح الدولة، انحصرت غاية رجال الدولة في اختزان الأموال لأنفسهم ولو آل ذلك إلى خراب البلاد؛ لأنها ليست بلادهم ولا أهلها أهلهم، وإنما كان همهم حشد الأموال وحملها إلى بلادهم
15
وضعف الخلفاء عن رد شكيمتهم فطمع فيهم العمال والوزراء واستبدوا، وصاروا يتسابقون إلى الاستئثار بالأموال فتحولت ثروة الدولة العباسية من الخليفة وبيت المال إلى الوزراء والعمال والكتاب والقواد ونحوهم، فاضطر الخلفاء لإصلاح شؤونهم واستبقاء سلطانهم إلى الجند ، والجند يتطلبون الأموال، والأموال عند الوزراء والعمال والكتاب، فعمد الخلفاء إلى مصادرة هؤلاء؛ أي أخذ أموالهم بالقوة، والمصادرة تحتاج إلى رجال وهم لا يعملون عملا إلا بالمال.
فأصبح المال محور القوة لحفظ كيان الدولة، وعليه معول الخلفاء في تثبيت بيعتهم ومحاربة أعدائهم والدفاع عن حياتهم، حتى في داخل قصورهم، وامحت العصبية القرشية التي قضت على عيسى بن مصعب بن الزبير أن يخالف أباه مصعبا في أثناء محاربته عبد الملك بن مروان سنة 71ه ويسلم نفسه للقتل حياء من قريش، وكان مصعب قد يئس من البقاء وهو يدافع عن حق أخيه عبد الله في الخلافة، فجاءه محمد بن مروان فبذل له الأمان إذا سلم فأبى ولكنه حرض ابنه عيسى على التسليم لحفظ حياته فأجابه الغلام: «لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك.» فقال له مصعب: «اذهب أنت ومن معك إلى عمك في مكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول.» فقال الغلام: «لا أخبر عنك قريشا أبدا، ولكن يا أبت الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة، أو الحق بأمير المؤمنين.» فقال مصعب: «لا تتحدث قريش أني فررت.» ثم قال لابنه: «تقدم إني أحتسبك.» فتقدم وقاتلوا حتى قتلوا جميعا.
16
ثم إن ثروة الدولة تتبع حال الدولة من العسر واليسر، فلما كانت الدولة العباسية في إبان عمرانها على عهد الرشيد والمأمون كانت الثروة على معظمها فيها، ثم أخذت في التقهقر بغتة من أيام المعتصم، ويتضح ذلك جليا من مقابلة مجاميع القوائم الثلاث المتقدم ذكرها وأقدمها أكثرها وهي: (1)
قائمة ابن خلدون من سنة 204 إلى 210ه ارتفاعها 396155000 درهم. (2)
قائمة قدامة من سنة حوالي 225ه ارتفاعها 388291350 درهما. (3)
قائمة ابن خرداذبة من سنة حوالي 250ه ارتفاعها 299256340 درهما.
فترى أن ارتفاع الدولة كان في أول القرن الثالث نحو 400 مليون درهم، ما عدا الأموال والغلات، ثم صار في الربع الأول من القرن المذكور 388 مليون بدون غلات، ثم صار في أواسط ذلك القرن أقل من 300 مليون، فاعتبر هذا التدريج في النقص إلى أواخر أيام الدولة، على أننا لا نستطيع إثبات ذلك صريحا في كل العصور؛ لقلة المصادر التي بلغت إلينا في هذا الشأن، إما لعدم عناية الحكومة في تدوين الميزانيات المضبوطة، أو لضياعها في أثناء الفتن الأهلية وغيرها. (2) مقدار الجباية في عصر الاضمحلال
وإذا نظرنا فيما كان يجتمع ببيت المال من بقايا الجباية على توالي الأعوام، رأيناه لا يقاس بما كان يبقى فيه على عهد الخلفاء الأولين، على أنهم كانوا إذا توفق لهم خليفة حكيم يقتصد فيجمع شيئا خلفه من يسرف فيضيعه، ومن أمثالهم المأثورة أن ما جمعه السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد أنفقه الأمين (سنة 193-198)، وما جمعه المأمون والمعتصم والواثق أنفقه المتوكل (سنة 232-247)، وما جمعه المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي أنفقه المقتدر (سنة 295-320ه).
أما مقدار الجباية في العام فلم نتوفق إلى تفصيل له إلا في أيام المقتدر، إذ اضطر وزيره علي بن عيسى لتبرئة نفسه مما لحق بيت المال من العجز أن يرفع تقريرا بما كان من مقدار الدخل والخرج لعام 306ه، وكانت نسخة هذا التقرير ضائعة حتى أظهرها البارون فون كريمر، ونشرها في كتاب سماه جباية الدولة العباسية
17
لسنة 306، وصدره بمقدمة ألمانية؛ ذكر فيها كيفية عثوره على تلك النسخة، وما عاناه في قراءتها؛ لأنها مكتوبة بخط عربي غير مألوف، وأبدى ملاحظاته على تلك القائمة مما يطول شرحه فنكتفي بذكرها كما قرأها هو.
والقائمة المذكورة عبارة عن أربعة أقسام:
الأول:
في جباية السواد وملحقاته.
والثاني:
في جباية المشرق، أي البلاد الواقعة شرقي السواد.
والثالث:
جباية المغرب، أي البلاد الواقعة غربي السواد.
والرابع:
جباية الأموال الخاصة والموقوفة. (2-1) جباية الدولة العباسية لسنة 306ه
وهي قائمة علي بن عيسى وزير المقتدر كما قرأها فون كريمر.
جباية السواد
حرف (أي بيان) عن السواد والأعمال المعمورة والبلاد المذكورة.
دينار
1547734
أموال السواد وطساسيجه وصدقات أراضي المغرب (أي الغرب) بالبصرة والمراكب بها وسائر ما ينسب إليها ويجري معها باذوريا وكلواذي ونهربين 166283 درهما.
تفصيلها:
198313
الأنبار وقطربل وسد.
75576
بهرسير والرومقان وإيغار يقطين وجازر والمدينة العتيقة.
25000
كوني ونهر درقيط.
9526
الزاب الأعلى ونهر كشتاسب.
16736
الفلوجة العليا والأرحاء.
13585
الفلوجة السفلى والنهرين وعين التمر .
140259
السيب الأعلى وسورا وبابل وخطرنية وباروسما الأعلى.
38350
نهر الملك ومورجا ونهر جوبر والأساسان والمالكيات.
46336
باروسما الأسفل.
110154
طساسجة الكوفة والخزن.
50219
العمارات بسر من رأى.
20590
نهر بوق والدير الأسفل.
34300
بزر جسابور.
20035
الراذابان.
13666
روستقباد.
46480
النهروان الأعلى وسمنطاي.
40327
النهروان الأوسط.
60532
النهروان الأسفل.
159089
الصلح والمنازل.
42499
بادرايا وباكسايا.
310720
واسط مع الخاصة والمستحدثة والعباسية بعد النفقات الراتبة.
121095
البصرة وكور دجلة.
22575
المراكب بالبصرة.
42750
أموال الضمانات وما يؤدى عن فصول الأنهار مما ينسب إلى مفردات.
80250
العبارة بهيت.
16975
أسواق الغنم بمدينة السلام وسر من رأى وواسط والبصرة والكوفة.
16000
الجوالي بمدينة السلام.
13874
ما يؤدى إلى الحضرة عن مال الارتفاقات والشجر والمقاطعات.
1846181 (المجموع) * *
ترى فرقا كبيرا بين هذا المجموع والمجمل المذكور في أول القائمة لعل سببه خطأ في قراءة الأعداد في الأصل، وسنعتمد على المجمل الأول.
جباية المشرق
1260922
كور الأهواز ضمانا على إبراهيم بن عبد الله المسبع وغيره.
1634520
أموال فارس مع ما يسوغه مؤنس الخادم مع ما في أيدي أصحاب الأطراف مما ورد نفلا (هبة) فقط.
258040
ضياع الأمراء بهذه النواحي مع مال المراكب بسيراف.
364380
كرمان مع ضياع الأمراء سوى مال العهد والورح وقرى المفازة وما يسوغه مؤنس الخادم عن مال الخزن والجهبذة (الصيرفة).
80000
مقاطعة عمان سوى اللطف (هدايا) المحمول إلى الحضرة.
1570525
ارتفاع الخراج والضياع العامة بالمشرق على العقد والارتفاع بالأمانة والضمانة.
465078
الخراج والأعشار والأخماس بالري والدماوند مع ما فيه مما استخرجه ابن داودان وأحمد بن علي.
122644
الضياع بها
قزوين وزنجان وأبهر:
115710
الخراج
5829
الضياع
قم:
197229
الخراج
80229
الضياع
أصفهان:
410178
الخراج على العقد المجددة مع خراج الأكراد وما يغل من الإيغار وضياع السلطان.
189334
الضياع بها
ماه البصرة والإيغارين:
185636
الخراج
267520
الضياع
همدان:
150480
الخراج
55789
الضياع
ماسبذان:
57746
الخراج
16750
الضياع
17625
ساوة ودار الضرب به.
105678
ماه الكوفة بالخراج سوى الضياع الرأسية والمستحدثة والطعم.
89500
الضياع بها
30015
حلوان عن الخراج والضياع.
225193
أذربيجان وأرمينية على المعارفة التي فورق عليها سبيل السعر.
6439663 (المجموع)
جباية المغرب
حرف الضياع والخراج العامة بالمغرب وأجناده بعد الاحتسابات التي وضعها (أي خصمها) العمال من أصول الارتفاع كما هو جار في العادات وسوى مقاطعات وثمن أجناس الغنائم مع ما فورق أهل (جزيرة قبرس) على أدائه في كل سنة والأعمال المذكورة والأموال المسماة.
يكون ما يتعلق بالمغرب وأجناده 4746492، تفصيله:
290773
مصر والإسكندرية بعد الاحتسابات القديمة
1080000
وسوى مصادرة الماذرائيين ومال المرافق والتجارة الواردة وأثمان الغنائم
جند فلسطين بعد الاحتسابات
80750
مال
230647
جند الأردن بعد الاحتسابات
40460
مال
102062
113057
جند دمشق بعد الاحتسابات
200460
مال
115114
جند حمص بعد الاحتسابات
133097
مال
133097
جند قنسرين والعواصم بعد الاحتسابات
352570
مال
15765
دلوك ورعبان
52985
الثغور الشامية سوى صلح (أي ما صالح عليه) أحمد بن الحسين الكاتب
5397
شمشاط وحصن منصور وكيسوم بعد الموضوع (أي بعد الذي وضع منه أي أسقط)
65332
مال
14501
سميساط وملطية بعد الاحتسابات
مال
5478
آمد سوى ما جمع في إقطاع وكاسة بعد الاحتسابات
82422
مال
56750
أرزان وميافارقين بعد الاحتسابات
82422
مال
257225
ديار مضر
22797
ديار ربيعة بعد الاحتسابات
304093
مال
17750
الموصل ومردين وبهذرا والرساتيق الجبلية بعد الاحتسابات
492430
مال
96584
طريق الفرات
4659341 (المجموع) * *
ترى فرقا بين هذا المجموع والمجموع المذكور في أعلاه، وسنعتمد على ذاك.
جباية الأموال الخاصة
يكون أموال الأعمال المسماة وأموال الخاصة والأموال الموقوفة وغير ذلك.
289036
الضياع المستحدثة بعد الذي جرى في ضمان واسط أسوة حال الخاصة
516447
أموال الخاصة ما كان منها بنواحي واسط فإنه أضيف إلى أموال العامة وخلط بها ودخل في حمولها ونفقاتها
185411 العبر (أملاك الشواطئ أي الأملاك على السواحل)
116160 الأهوار (المستنقعات)
72626 المشرق
104000 المغرب
18778
هيت وأعمالها سوى ضياع السكر
8240 العبر
58450 المغرب
5262 الأهوار
62200 المشرق
144760
مال الضياع العباسية سوى ما هو بنواحي واسط
14732 العبر
14246 الأهوار
30672 المشرق
75116 المغرب
4570
مال الموقوف للمساجد سوى ما كان منها بواسط
22869 المشرق
12760 المغرب
617126
مال الضياع الفراتية
170226 العبر
129724 الأهوار
97336 فارس
95278 المشرق
114225 المغرب
100318
مال الضياع المفردة في سنة ثلاث وثلاثمائة
76980
مال الخزن والجهبذة سوى ما يجمعه العمال مع أصول الأموال وسوى ما سوغه مؤنس الخادم منها بفارس وسوى ما دخل منها في ضمان واسط
1768015 (المجموع)
الخلاصة
1547734
جباية السواد
6439663
جباية المشرق
4746492
جباية المغرب
1768015
جباية الأموال الخاصة
14501904
دنانير (2-2) نسبة هذه الجباية إلى ما كانت عليه في العصر العباسي الأول
فمجموع هذه الجباية أكثر من 14 مليونا ونصف مليون من الدنانير، وإذا تحولت إلى دراهم بلغت نحو جباية العصر العباسي الأول، غير أن الحال في هذه الجباية غير ما كانت عليه في ذلك العصر؛ لأن هذا المجموع لم يف بالنفقات اللازمة للدولة، وكانت النفقات قد تضاعفت لأسباب سيأتي بيانها، ومن أدلة ذلك ما جاء في «عنوان السير» عن نفقات الدولة على عهد علي بن عيسى، وقد ذكرها المؤلف المذكور بنوع خاص غير النفقات الاعتيادية وهي:
دينار
3154265
نفقات الحرمين وطريقهما
491456
نفقات الثغور
56569
رواتب القضاة في الممالك
34439
رواتب ولاة الحسبة والمظالم في جميع البلاد
79402
رواتب أصحاب البريد
9772925
وكل هذه الأبواب لم يكن لها ذكر في قائمة المعتضد، ناهيك بزيادة الجند وغيره من أسباب النفقة، بحيث زاد الخرج على الدخل في أيام علي المذكور 2089894 دينارا.
18
وقس على ذلك أحوال بيت المال قبل المقتدر وبعده، مما يختلف باختلاف الخلفاء والوزراء وسائر الأحوال، ولكن يقال بالإجمال إن الثروة تقهقرت بعد المأمون بتقهقر الدولة وانحطت بانحطاطها، والثروة - كما قدمنا - ما يفيض من الدخل على الخرج ولذلك قلما كان يبقى في بيت المال بقية إلا في أحوال قليلة وبمبالغ صغيرة، فالمعتصم ترك في بيت ماله 8000000 درهم
19
والمستعين (سنة 251ه) خلف في بيت المال 500000 دينار،
20
والمكتفي (سنة 295ه) خلف 15000000 دينار، والظاهر أنها اجتمعت بتوالي الخلفاء، فلما تولى المقتدر أنفقها كلها، وأنفق ما جمعه في أيامه من أموال المصادرة فضلا عن الخراج،
21
حتى قدروا ما أنفقه ضياعا وتبذيرا بنيف و70000000 دينار
22
ما عدا نفقات الدولة، واضطر مع ذلك لاسترضاء الجند والغلمان للخلافة أن يبيع ضياعه وفرشه وآنية الذهب،
23
وبلغ من فقر بيت المال في أيام المطيع لله سنة 361ه أنه باع ثيابه وأنقاض داره ليدفع 200000 درهم طلبت منه للجند في أثناء الفتنة ببغداد،
24
وكانت أحوال الخلفاء قد تغيرت في أيام الراضي بالله سنة 322ه وخرجت قيادة الأمور من أيديهم، ولم يبق لهم غير الخطبة والسكة.
25
ولاضمحلال الثروة العباسية أسباب توضح كثيرا مما جاء في جريدة علي بن عيسى من أسماء بعض الضرائب غير المألوفة.
هوامش
أسباب اضمحلال الثروة العباسية في العصر العباسي الثاني
قلنا في بحثنا عن الثروة العباسية في العصر العباسي الأول وعلة كثرتها إن أسباب تلك الثروة كثرة الجباية، وقلة النفقة، وفصلنا ذلك تفصيلا.
فأسباب قلة الثروة يجب أن تكون قلة الجباية، وكثرة النفقة، ولكل من هذين البابين فروع ولكل منها أسباب، هاك تفصيلها: (1) أسباب قلة الجباية (1-1) ضيق المملكة العباسية
بلغت المملكة العباسية أكبر سعتها في أيام الرشيد والمأمون، ثم أخذت بعض الولايات تنفصل عنها لأسباب يطول شرحها، وأول ما استقل من الولايات العباسية إفريقية، بدأت بالاستقلال في أيام الرشيد كما تقدم، ثم خراسان في أيام المأمون، ثم مصر في أيام المعتمد في أواسط القرن الثالث للهجرة، ثم فارس وما وراء النهر وغيرها، ولم يمض الربع الأول من القرن الرابع حتى انقسمت تلك المملكة الواسعة إلى بضعة عشر قسما، كل منها في حوزة دولة من دول المسلمين، على أن معظم هذه الدول كانت تعد الخليفة العباسي رئيسها الديني وتؤدي إليه أموالا، بعضها باسم الضمان، والبعض الآخر باسم المصالحة، والآخر باسم الهدية أو غير ذلك، وكان أكثرهم لا يؤدي ما عليه إلا مرة كل بضعة أعوام، وطبيعي أن تشتت المملكة على هذه الصورة يقلل مقدار الجباية. (1-2) تخفيض الخراج المضروب
ذكرنا من أسباب زيادة الثروة العباسية في أيام زهوها ثقل الضرائب، وخصوصا في العراق؛ إذ كانت مقاسمة على النصف إلى أيام المأمون، فأدرك هذا الخليفة العاقل ثقل هذا الخراج، ورأى الثروة فائضة في بيت ماله، والأموال متوفرة، فعمد إلى التخفيف عن الناس فجعل خراج العراق خمسين
1
أي أنه أنقصه عشرين في المائة وهو إسقاط عظيم، وقد ظهر فرق ذلك في ارتفاع جباية العراق حالا؛ إذ كان في قائمة قدامة 114457650 درهما فصار في قائمة ابن خرداذبة 78319340 درهما؛ لأن الأول قدره على ما يظهر باعتبار النصف، والثاني باعتبار الخمسين.
واقتدى بالمأمون في تخفيض الضرائب من جاء بعده من الخلفاء، فأبطل الواثق سنة 232ه أعشار السفن
2
وقد رأيت أنها ضريبة ذات بال كان يرد منها إلى بيت المال شيء كثير، واقتدى بالواثق خلفه المتوكل، فأرفق بأهل الخراج بتأخير ميقات اقتضائه شهرين، وسبب ذلك أن الفرس قبل الإسلام كانوا يبدأون بجباية الخراج في النوروز، وهو يقع عندهم في الخامس من حزيران (يونيو)، وكانوا يكبسون في كل مائة وعشرين سنة شهرا بحيث يرجع النوروز إلى الخامس من حزيران، فإذا مضت 120 سنة أسقطوا شهرا فيجعلون الخامس من حزيران الخامس من أيار (مايو) ولا يعيدون النوروز أو يطالبون بالخراج إلا بعد شهر أي حتى يأتي الخامس من حزيران، فلما فتح المسلمون العراق وفارس ظل الحساب في جباية الخراج على ما كان عليه قبل الإسلام حتى تمت المائة والعشرون، وكان ذلك في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق، فأراد الفرس أن يسقطوا شهرا على جاري عادتهم فنهاهم خالد وقال: «هذا من النسيء الذي نهى الله عنه.» واستشار الخليفة هشام بن عبد الملك في ذلك فوافقه على إبطال الكبس، فظل الحساب الجاري متقدما شهرا عن الحساب الحقيقي الذي تنضج فيه الغلات، وظل الفرس يحاولون العود إلى الكبس فلم يتم لهم، ولما كانت خلافة الرشيد طلبوا إلى يحيى بن خالد أن يتوسط لدى الخليفة بشأن ذلك، فأراد يحيى أن يجيب طلبتهم، فتقول أعداؤه في ميله إلى الزرادشتية فعدل عن عزمه، وما زال ذلك الفرق يتعاظم بتوالي الأعوام حتى صار في أيام المتوكل يقع في نيسان (أبريل) والزرع أخضر، واتفق أن المتوكل مر ببستان فرأى الزرع أخضر، فقال لرفيق له: «ما لي أرى الدواوين تطلب الخراج والزرع لم ينضج؟» فقص عليه السبب، فأمر أن يضاف إلى تلك السنة ما كان تأخر، فإذا هو شهران وبضعة أيام حتى يصير النوروز في الوقت اللازم، فأصدر أمره بذلك سنة 243ه ففرح الناس؛
3
لأنه رفع عنهم من خراج تلك السنة نحو الخمس فقال البحتري في ذلك:
إن يوم النوروز عاد إلى العه
د الذي كان سنه أردشير
ولكن أمر المتوكل لم ينفذ تماما لأنه قتل بعد قليل، واضطربت أحوال الخلافة، حتى إذا كانت أيام المعتضد بالله روجع في ذلك فأصدر أمره آخر سنة 281ه بتأخير النوروز ستين يوما، وكان قد وافق أوائل المحرم سنة 282، فأمر أن يكون في 13 ربيع أول منها، وجعلوه موافقا 11 حزيران (يونيو) وأن يكبس بعد ذلك في كل أربع سنين من سني الفرس يوم واحد
4 - فعل ذلك ترفيها للناس ورفقا بهم.
5
وكان المهتدي (255ه) قد أمر بإسقاط الكسور عما بقي من الزرع على المساحة، وذلك أن المنصور لما جعل خراج العراق مقاسمة كما تقدم أبقى بعضه على اسم الخراج القديم بالمساحة، وكان ينكسر على أصحابه شيء كل عام والحكومة تطالب به، فلما تولى المهتدي أمر بإسقاط الكسور وغض النظر عن أمثالها، ومقدار ذلك نحو 12000000 درهم في السنة.
6
فنرى من مجمل ذلك أن موارد الخراج ضعفت عما كانت عليه في عصر الرشيد والمأمون، وكان ذلك مساعدا على تقليل الجباية.
الجزية والزكاة
ومن هذا القبيل ما أصاب الجزية من النقص، بدخول الناس في الإسلام بتوالي الأعوام، حتى انحط مقدار ما يجبى منها بمدينة السلام في أواسط القرن الثالث للهجرة 130000 درهم
7
وقد رأيت في قائمة علي بن عيسى أنهم جبوها 16000 دينار؛ أي نحو ضعفي ما ذكره ابن خرداذبة، ومع ذلك فإذا اعتبرنا تقديرها على أوسط قيمتها وهي 24 درهما على الشخص، كان عدد الرجال نحو 9000 وبإضافة ما يلحقهم من النساء والأولاد لا يزيد عددهم على 40000 نفس من أهل الذمة في مدينة بغداد من النصارى واليهود، وهي في إبان مجدها وسكانها يزيدون على المليون، فقس على ذلك سائر المدن.
ويقال نحو ذلك أيضا في الزكاة، فقد تناقصت بتوالي الأعوام، حتى كادت تتلاشى، وأصبحت المطالبة بها تدعو إلى التذمر،
8
وكانت قد أبطلت في مصر حتى أعادها السلطان صلاح الدين الأيوبي، وتذمر المسلمون منها، وشنعوا على الذي يطالب بها، حتى إذا تولى المنصور قلاون سنة 678ه أبطل الزكاة من مصر.
9 (1-3) استئثار العمال بالجباية
قد رأيت استبداد العمال في عصر بني أمية، واستئثارهم بالخراج، وكيف تحسنت أحوالهم في عصر العباسيين، غير أن ذلك التحسن لم يدم طويلا، فلما ضعف شأن الخلفاء عاد العمال إلى ما تطمح إليه أنظارهم من طلب الاستقلال بالحكم أو الاستئثار بالجباية، واضطر الخلفاء إلى التراضي معهم على مال مضمون وأن يكون أقل مما يجبى، وهو الضمان أو المقاطعة، كما قاطع المأمون بشير بن داود على السند سنة 205ه على أن يدفع له 1000000 درهم في العام
10
مع أن ارتفاع جبايتها الحقيقي 11500000 درهم
11
وضمن البريدي الأهواز على أيام الراضي كل سنة 360000 دينار، على أن يدفعها أقساطا
12
وخراجها الحقيقي يزيد على أربعة أضعاف هذا المبلغ، ومع ذلك فالضامنون لم يكونوا يدفعون إلا قليلا مما تعهدوا به، فإذا ألح الخليفة عليهم في المطالبة اتخذوا الحاجة ذريعة إلى الاستقلال التام، فيستنجد الخليفة جنده ونصرتهم تحتاج إلى المال، ومن تمكن من المال ملك واستبد. (1-4) اشتغال الناس بالفتن والظلم عن العمل
لما نشأت الفتن، وانتشبت الحروب بين طوائف الجند، أو بينهم وبين العمال، انشغل الناس عن تجارتهم وزراعتهم، وتوقف العمال، وغلت الأسعار، وتعطلت الزراعة لضياع الأمن، فقلت الجباية، واحتاج العمال والقواد إلى الأموال، فظلموا الناس في تحصيلها منهم فزاد الخراب، وما من هادم للعمران كالظلم، فإنه يغل الأيدي ويقعد الناس عن السعي، فينشغل به الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ووبال ذلك عائد على الدولة إذ لا قوام لها إلا بالرعية، والمشهور أن الظلم أخذ المال من يد مالكه بلا عوض ولا سبب، ولكنه أعم من ذلك كثيرا، فإن كل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة ... فإذا ساد الظلم أقبل الخراب لا محالة.
ومما زاد البلاء جسامة، أن أكثر ما احتفره الخلفاء المصلحون في أوائل الدولة العباسية من الترع والأنهار لري الأرض وتسهيل الاستغلال انسد بالحروب؛ لأن المحاربين كثيرا ما كانوا يضطرون إلى سد الأنهار ليمنعوا سفن الأعداء من المرور فيها
13
فضلا عما يدعو إليه إهمال العمال من فساد الري وضياع الزرع. (1-5) تحويل أكثر البلاد إلى ضياع
يراد بالضياع عندهم المزارع، أو ما يعبر عنه المصريون بالأبعادية أو العزبة، ويغلب في الضياع أن تكون لأهل الدولة من الخلفاء أو أقاربهم أو عمالهم أو وزرائهم أو كتابهم، أو من يلوذ بهم من أهل النفوذ، وقد رأيت في هذا الجزء أن عمر بن الخطاب نهى المسلمين عن اتخاذ الزرع واقتناء الضياع؛ لحكمة أرادها من بقائهم على أهبة الرحيل عند الاقتضاء، لا يقعدهم الترف أو القصف، كما نهى عن اختزان المال في بيت المال، غير أن هاتين القاعدتين لم يطل العمل بهما إلا ريثما انتقلت الدولة الإسلامية من الخلافة الدينية إلى الملك العضوض في أيام بني أمية، فاختزن الصحابة الأموال واتخذوا المصانع (أي الدور المبنية) والضياع كما بيناه هناك.
واقتدى بهم من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، وكان أقدمهم على ذلك الخلفاء من بني أمية؛ فقد أكثروا من المصانع والضياع حتى كان بعض أهلهم يقبضها اغتصابا من أصحابها وليس من ينصفهم؛ لتعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم واعتبارهم ما فتحوه من الأرض ملكا حلالا لهم، فما أرادوا أخذه أخذوه، وما أرادوا تركه تركوه
14
حتى أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز فعمل على الاقتداء بعمر بن الخطاب بالرفق والإحسان مع العدل، باسترجاع الضياع المغتصبة إلى أهلها من النصارى أو اليهود أو المجوس، فساء ذلك أهله فعجلوا به وعادت الأحوال بعده إلى أشد مما كانت عليه كما تقدم.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس سنة 132ه أعملوا السيف في بني أمية، ففروا وتركوا أموالهم وضياعهم فاستولى عليها العباسيون، ولم يعدوا امتلاكها مخالفا لشروط الخلافة لاعتبارهم ذلك لازما لحياطة الدولة أو حقا من حقوق الملك؛ إذ ليس من أوامر الدين أو نواهيه ما يمنعهم من ذلك صريحا، والإنسان ميال بفطرته إلى الاستكثار من حطام الدنيا واختزان القوة إذا وجد إلى ذلك سبيلا، فالخلفاء العباسيون في أوائل دولتهم بذلوا الجهد في إنصاف الناس وتأمينهم؛ ليبينوا لهم الفرق بين حالهم في أيام بني أمية وفي أيامهم، فلم يكونوا يغتصبون ضيعة ولا مالا، ولكن بعض الذين دخلوا في خدمتهم أو انتموا إليهم من الأمراء أو الكبراء كانوا يمدون أيديهم إلى ضياع الناس، وكان الخلفاء ينصفون أصحاب الضياع إذا تظلموا ويردون ضياعهم إليهم
15
على أن ذلك قلما كان يقلل من مطامع أهل الدولة في أموال الناس، فاستكثر العمال والوزراء وغيرهم من اقتناء الضياع والأبنية بحق أو بلا حق، والخلفاء يمنعونهم جهد الطاقة فإذا لم يتمكنوا من منعهم بالحسنى صادروهم أو قبضوا أموالهم بعد موتهم، كما فعل الرشيد بأموال محمد بن سليمان عامله على البصرة، وكان مبلغها 50000000 درهم سوى الضياع والدور والمستغلات، وكانت غلته 100000 درهم في اليوم
16
وأمثال هذا القبض كثيرة ناهيك بالمصادرات التي سيأتي تفصيلها، فالضياع التي تقبض على هذه الصورة تصير إلى الخليفة أو الدولة، فآل ذلك إلى استكثار الخلفاء أنفسهم من الضياع.
على أن أكثر ما يكون اقتناء الضياع لحاشية الخليفة وأهله، وهذا طبيعي في الحكومات الاستبدادية، وخصوصا إذا كان الحاكم كريم الخلق أو ضعيفا تؤثر عليه وساطة أهله ورجال حاشيته، ولذلك كثرت الضياع عند رجال الدولة حتى صاروا يتهادونها أو ينعمون بها على الناس كجائزة على قصيدة أو خطاب أو نكتة أو غير ذلك، وفي أخبار البرامكة كثير من أمثال هذه العطايا، ومن هذا القبيل ما فعله الحسن بن سهل لما زفت ابنته بوران إلى المأمون، فإنه كتب ضياعه في رقاع جعل اسم كل ضيعة في رقعة ونثرها على القواد فمن وقع له رقعة أخذ الضيعة المسماة فيها.
17
وكان من أبواب اقتناء الضياع عندهم - حتى في صدر الدولة العباسية - كثرة ما كان من الأرض المهملة من عهد بني أمية، فكان الخليفة يعهد إلى بعض أهله أو خاصته في تعميرها وغرسها ثم تصير له كما فعل المنصور بابنه صالح؛ إذ أمره بعمارة بعض المزارع العاطلة في الأهواز
18
ومن أحيا أرضا مواتا فهي له.
الإلجاء
ومن أسباب كثرة الضياع عند أهل الخلفاء ورجال الدولة إلجاء الأهالي ضياعهم ومغارسهم إلى بعض أقارب الخلفاء أو العمال تعززا بهم من جباة الخراج، فكان صاحب الأرض يلتجئ إلى بعض أولئك الكبراء فيستأذنه أن يكتب ضيعته أو ضياعه باسمه، فلا يجرؤ الجباة على العنف أو الظلم في اقتضاء خراجها بل هم قد يكتفون منهم بنصف الخراج أو ربعه مراعاة لذلك الكبير، ويجعل صاحب الضيعة نفسه مزارعا له ويدون ذلك في دفاتر الحكومة، فتصبح تلك الضيعة بتوالي الأعوام ملكا للملجأ إليه
19
ويصبح صاحبها الأصلي شريكا في غلتها، ومثل هذا الإلجاء يحدث في كل العصور في البلاد التي يخاف أهلها سطوة الحكام واستبدادهم.
وقد بدأ الإلجاء في الإسلام في أيام بني أمية لما كان من ظلم عمالهم، فألجأ أهل السواد في ولاية مسلمة بن عبد الملك وخلافة أخيه الوليد ضياعهم إلى مسلمة المذكور تعززا به من جباة الخراج، ثم صارت تلك الضياع له وبقيت في أعقابه حتى قامت الدولة العباسية، فاستولى الخلفاء العباسيون عليها في جملة ما استولوا عليه من أموال بني أمية وضياعهم، وأقطعت هذه الضياع لداود بن علي بن عبد الله بن عباس، ثم صارت من الضياع السلطانية
20
وكذلك فعل بعض أهل المراغة في أذربيجان مع مروان بن محمد لما تولى أرمينية فإنهم ألجأوا تلك الضيعة إليه فقبضت في جملة ما قبض من ضياعهم.
21
وامتد الإلجاء إلى أيام بني العباس بالاستمرار فألجأ أهل زنجان ضياعهم إلى القاسم بن الرشيد تقربا إليه ودفعا لمكروه الصعاليك عنهم، فكتبوا له الأشرية (أي كتبوا له صكوكا ببيعها له) وصاروا مزارعين له ثم صارت تلك الأرض من الضياع السلطانية،
22
وحدث نحو ذلك أيضا في فارس، فقد كانت فيها ضياع ألجأها أربابها إلى الكبراء من حاشية السلطان بالعراق وظلت تجري بأسمائهم فخفف عنهم الربع وبقيت أجيالا وهي في أيدي أهلها بأسماء هؤلاء يتبايعونها ويتوارثونها
23
وأصبح أهلها مزارعين لهم.
ولم ينقض عصر الازدهار العباسي حتى أصبح في حوزة الخلفاء وأقاربهم ورجال دولتهم ما لا يحصى عدده من الضياع، واضطرت الحكومة إلى إنشاء ديوان خاص بخراجها وعشورها سموه «ديوان الضياع»، وهو غير ديوان الخراج، وقد رأيت مقدار خراج الضياع فيما دونه علي بن عيسى في جريدة سنة 306ه وكلها في بلاد المشرق في الري ودماوند وقزوين وزنجان وقم وأصبهان وهمذان وماسندان وغيرها، وترى خراج الضياع في بعض المماليك يزيد على خراج الأرض الأخرى، فخراج الضياع في ماه البصرة والإيغارين مثلا 267520 دينارا، وخراج سائر الأرض هناك 185636 دينارا، ولو عوملت الضياع في مقدار الخراج وطرق تحصيله مثل معاملة الأرض الأخرى لزاد خراجها أضعاف ذلك؛ لأن خراج تلك الضياع كان خفيفا جدا بالنظر إلى غيره، وكثيرا ما كان يترك ولا يطالب به أعواما على مقتضى أحوال السياسة وعلاقة ذلك بالعمال والخلفاء، وربما تراكم الخراج عدة أعوام حتى تتغير السياسة ويأتي من يطالب به.
24
الضياع السلطانية
وكانت الضياع بالإجمال قسمين: الضياع العامة وهي ضياع رجال الدولة وأرباب الثروة من الأهلين وغيرهم، والضياع السلطانية وهذه أقسام سميت بأسماء تدل على أنواعها؛ وهي: (1)
الضياع الخاصة:
وهي ما يملكه الخليفة نفسه لا يشاركه فيه أحد، وقد رأيت خراج هذه الضياع في جريدة علي بن عيسى - غير ما كان منها في نواحي واسط لأنه أضيف إلى أموال العامة - 516447 دينارا. (2)
الضياع العباسية:
وهي في الغالب لبني العباس أهل الخليفة، وقد بلغ عددهم في أيام المأمون 33000 نفس
25
وبلغ خراج تلك الضياع سنة 306ه 144760 دينارا سوى ما هو منها في واسط. (3)
الضياع المستحدثة:
قد رأيت خراجها في تلك السنة 289036 دينارا. (4)
الضياع الفراتية:
وسميت بذلك لأنها واقعة على ضفاف الفرات، وخراجها لذلك العام 617126 دينارا.
وكانت هذه الضياع من سواد بغداد والكوفة والبصرة وواسط والأهواز وأصبهان
26
يضمنونها أحيانا بأموال معينة في العام
27
ولها دواوين وكتاب وعمال.
فالضياع على إجمالها قليلة الخراج مع أنها أخصب الأرض؛ لأن الخلفاء وعمالهم كانوا يغضون عن كثير من الأموال المطلوبة منهم
28
وقد يتركونها لهم، ومع ذلك فقد رأيت خراج الضياع السلطانية يزيد على مليون ونصف غير ما هو منها في واسط وغيرها مما يدل على كثرة تلك الضياع وسعتها، والظاهر أن ذلك طبيعي في الدولة المطلقة في تلك العصور؛ فقد ذكرنا في هذا الكتاب أن جباية الدولة العثمانية بلغت في أيام السلطان سليمان 8000000 دوكة منها 5000000 من الضياع السلطانية وحدها.
29
الإيغار
وكان عندهم ضرب من استهلاك الخراج اسمه «إيغار»، ومعناه في الأصل «استيفاء » فيقولون: «أوغر العامل الخراج أي؛ استوفاه.» ثم استخدموها بمعنى الإعفاء من الخراج بمال معين يدفعه صاحب الأرض مرة واحدة ولذلك قالوا: «أوغر الملك الرجل الأرض.» جعلها له من غير خراج، أو هو أن يؤدي الخراج إلى السلطان الأكبر فرارا من العمال ويسمى ضمان الخراج إيغارا
30
فكان أصحاب الضياع يستوغرون ضياعهم إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ومن الإيغارات المشهورة في الدولة العباسية «إيغار يقطين»، وأصلها أن رجلا اسمه يقطين أوغرت له ضياع من عدة الطساسيج ثم صار ذلك إلى السلطان فنسب إلى إيغار يقطين.
31 (2) أسباب كثرة النفقات (2-1) إسراف الخلفاء ونسائهم
من الأمور الطبيعية في العمران إذا كثرت الأموال في الدول أن يسخو الملوك في بذلها، وخصوصا في الدول المطلقة، وعلى الأخص في الدولة العباسية، والخليفة مطلق التصرف في بيت المال
32
ودعاة الخلافة كثيرون لا يقعد فتنتهم غير استرضاء الأحزاب بالمال أو كسر شوكتهم بالحرب، والأول أسلم عاقبة وأقرب منالا إذا توفرت الأموال، وقد رأيناها متوفرة خصوصا في عصر الرشيد والمأمون، فلا غرو إذا رأيناهما يبذلان الأموال في استكفاف الأذى عن الدولة، أو سد أفواه أهل الفتن، لكنهم تجاوزوا ذلك إلى صنوف البذخ وضروب التبذير والترف، فاقتنوا الجواري واتخذوا الفرش من الخز والديباج والحرير والمسامير الفضة
33
وابتنوا المتنزهات والقصور والمدن واقتنوا الندماء وأنشأوا مجالس الغناء، وارتكبوا سائر ضروب الترف والتأنق في الطعام واللباس والرياش، وقد سهل عليهم ذلك لقرب عهد العراق وفارس من بذخ الفرس قبيل الفتح الإسلامي
34
وأطلقوا أيدي نسائهم وأمهاتهم وخاصتهم في الأموال.
ثروة نساء الخلفاء
لم يتزوج السفاح إلا امرأة واحدة،
35
وقبل أن يتوفى المنصور أوصى ابنه المهدي ألا يشرك النساء في أمره
36
ومع ذلك فإن الخيزران أم الرشيد كانت هي صاحبة الأمر والنهي في أيام الهادي وأيامه، وكان وزيره يحيى بن خالد بن برمك تحت أمرها
37
فأفضى نفوذها إلى حشد الأموال لنفسها حتى بلغت غلتها في العام 160000000 درهم؛
38
وذلك نحو نصف خراج المملكة العباسية لذلك العهد، وغلة أعظم متمولي العالم اليوم لا تزيد على ثلثي هذا المال، فقد ذكروا أن إيراد روكفلر الغني الأمريكي الشهير نحو 10500000 دينار، وقد بينا في غير هذا المكان أن قيمة النقود كانت تساوي ثلاثة أضعافها اليوم، والدينار نصف جنيه، فتكون غلة روكفلر نحو ثلثي غلة الخيزران.
وكانت الخيزران مع ذلك شديدة الوطأة رغابة في الاستئثار، فلما آنست في ابنها الهادي معارضة لإرادتها دست إليه من قتله!
39
ولما ماتت توسع الرشيد بأموالها وأقطع الناس ضياعها.
40
على أن الخيزران كانت من أهل العلم والرأي، فلا غرابة في اقتنائها الأموال في إبان الثروة العباسية، إنما الغرابة في اقتناء أمهات الخلفاء الأموال الكثيرة في عصر الاضمحلال وبيت المال فارغ، فإن «قبيحة» أم المعتز وجدوا لها من مخبآت في الدهاليز ونحوها نحو 2000000 دينار نقدا ومالا تقدر قيمته من التحف والجواهر مما نأتي بذكره على سبيل المثال: من ذلك مقدار مكوك من الزمرد الثمين ونصف مكوك لؤلؤ كبير ونحو كيلجة ياقوت أحمر مما قدروا قيمته 2000000 دينار، وكانت مع ذلك قد عرضت ابنها للقتل من أجل 50000 دينار.
41 •••
وأغرب من ذلك شأن أم محمد بن الواثق فقد كانت غلتها 10000000 دينار
42
في العام تنفقها في جواريها وهي نحو غلة الخيزران، وأخرجوا من تربة والده المقتدر 600000 دينار كانت مخبأة هناك، ولم يعلم بها أحد مع ضيق الخليفة وفراغ بيت ماله
43
وقس على ذلك أمهات الخلفاء الآخرين في العراق وغيره من بلاد الإسلام؛ فقد كن يتمتعن بالنفوذ ويستولين على الأموال بالتواطؤ مع القواد ورجال الجند، بما يتاح لهن من إطلاق الأيدي في أمور الدولة كما فعل المستعين العباسي (249ه) فإنه أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال وأباحهم فعل ما أرادوا، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة.
44
فلا عجب والحالة هذه إذا تحول الغنى إلى النساء والخدم والقواد، وهل تستغرب بعد ذلك إذا علمت أنه كان بين رياش أم المستعين بساط أنفقت على صنعه 130000000 دينار (ربما درهم)، فيه نقوش على أشكال الحيوانات والطيور وأجسامها من الذهب وعيونها من الجواهر،
45
أو إذا قيل لك إن فلانة حشت فم الشاعر الفلاني درا فباعه بعشرين ألف دينار،
46
أو إذا سمعت بهدايا قطر الندى وغيرها من نساء الخلفاء؟!
47
ناهيك بما كان في بلاط الخلفاء العباسيين وغيرهم من القهرمانات اللواتي كن يتولين شؤون دور الخلفاء والنفقة عليها بالاتفاق مع الوزير أو من ينوب عنه،
48
فكان لهؤلاء النساء نفوذ عظيم في قصور الخلفاء وفي أعمال الدولة، كما كانت تفعل أم موسى القهرمانة في أيام المقتدر في أوائل القرن الرابع للهجرة
49
ولم يكن لأولئك القهرمانات سبيل للإنفاق لولا ما في قصور الخلفاء من الجواري والخدم وغيرهم.
الجواري والغلمان
وقد رأيت فيما ذكرناه من مناقب المنصور أنه لما علم بوجود الطنبور في داره كسره على حامله، لكن لم يمض على موته أربعون سنة حتى أصبحت دور الخلفاء مسرحا للغناء واللهو، قالوا إنه كان في قصر الرشيد ثلثمائة جارية ما بين جنكية إلى عودية إلى دفية إلى قانونية إلى زامرة إلى مغنية إلى راقصة إلى سنطيرية فضلا عمن كان في قصره من الندماء والمضحكين كالشيخ أبي الحسن الخليع الدمشقي
50
وابن أبي مريم المدني
51
وغيرهما، وما من جارية إلا وثمنها ألف دينار أو عشرة آلاف دينار
52
إلى مئة ألف دينار غير ما يقتضيه اقتناؤهن من النفقات الأخرى كالألبسة والحلي وهي شيء كثير؛ فقد اشترى الرشيد خاتما بمئة ألف دينار
53
وقس على ذلك.
ناهيك بما كانوا يقتنونه من المماليك والغلمان مما يعدون بالمئات والألوف؛ فقد بلغ عدد خدم المقتدر 11000 خصي من الروم والسودان
54
غير ما يقتضيه ذلك من الأبنية والقصور والرياش؛ فقد بنى المعز دارا في بغداد أنفق عليها 13000000 درهم
55
وبنى الأمين قصورا في الخيزرانية أنفق عليها 20000000 درهم
56
واصطنع في دجلة خمس حراقات (سفن) إحداها على صورة الأسد والثانية بصورة الفيل والثالثة بصورة العقاب والرابعة بصورة الحية والخامسة بصورة الفرس أنفق عليها مالا عظيما وفيها يقول أبو نواس:
سخر الله للأمين مطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا
سار في الماء راكبا ليث غاب
عجب الناس إذ رأوك على صو
رة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحي
ن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما
استعجلوها بجيئة وذهاب
ومما يحسن إيراده مثالا على بذخهم أن الأمين أمر يوما أن يفرش له على دكان في الخلد، ففرش عليها بساط ذرعي ونمارق وفرش مثله وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة فيصعدن إليه عشرا عشرا بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد
57
ففعلت، وسنأتي على تفصيل بذخ الخلفاء وطرق إسرافهم في الجزء المتعلق بالهيئة الاجتماعية من هذا الكتاب.
السخاء
على أن الإسراف كان أكثره فيما يبذلونه كرما وسخاء، ومنه ما ينفق يوميا فرضا واجبا، فقد كان الرشيد يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته
58
وكان المأمون ينفق على خاصته كل يوم 6000 درهم
59
فاعتبر مقدار ذلك في السنة فيزيد على 2000000 درهم، وليس هذا بالشيء الذي يذكر بجانب ما كانوا يهبونه من الجوائز ونحوها؛ فقد فرق المنصور في يوم واحد 10000000 درهم على أهل بيته
60
وفرق المأمون في يوم واحد 1500000 درهم على ثلاثة أشخاص،
61
وقد رأيت في هذا الكتاب أنه فرق 24000000 درهم ورجله في الركاب، وأوصى الرشيد للمأمون بمبلغ 100000000 درهم، وتصدق المعتصم في أثناء خلافته بما مجموعه 100000000 درهم
62
وبلغ ما أنفقه المقتدر ضياعا ما خلا الأرزاق 70000000 دينار،
63
فضلا عن جوائزهم للوافدين من الشعراء وغيرهم، وربما بلغت جائزة الشاعر مائة ألف درهم، وذكروا جوائز كثيرة بنحو هذه القيمة أو أكثر، وروى ابن خلكان عن سالم الشاعر المعروف بالخاسر أنه نظم قصيدة مدح فيها المهدي وحلف أنه لا يأخذ قيمتها إلا مائة ألف ألف درهم (100000000) فأعطاه إياها، وفي ذلك مبالغة ظاهرة لكنها تدل على مبلغ ذلك السخاء
64
وكثيرا ما كانوا يهبون الشعراء الضياع فضلا عن الأموال.
65
هل كانوا يفعلون ذلك حقيقة؟
فهذا وأمثاله يحسبه أهل هذا الزمان من قبيل الخرافات بالقياس على ما يعلمونه من القواعد الاقتصادية، على أننا لا نظنهم يقولون ذلك بعد ما تبين لهم من مقدار الثروة العباسية، ومقدار ما كان يبقى من الأموال تحت تصرف الخلفاء، أو من يقوم مقامهم كالوزراء والكتاب، إلا إذا شككنا في حقيقة تلك الثروة وهو شك في التاريخ على إجماله؛ لأن المؤرخين على اختلاف عصورهم ومواطنهم متفقون على ما بيناه من هذا القبيل كما رأيت.
ثم إننا إذا اعتبرنا نظام الهيئة الاجتماعية في تلك الأيام على ما سنفصله في الأجزاء التالية من تأثير الشعراء ونحوهم في مركز الخليفة نفسه هان علينا تصديق ما كانوا ينالونه من الهبات الكبرى، على أننا نعرف بين أغنيائنا اليوم من يبذل 50000 جنيه و100000 جنيه ثمن صورة أو قطعة من الآثار القديمة لا تنفع ولا تضر، وقرأنا بالأمس أن مورجان الأمريكي الشهير اشترى صورا بمليون جنيه ليقدمها هدية لبعض المتاحف.
وزد على ذلك أننا نستدل على صحة ما تقدم أيضا من سياق بعض الوقائع المروية من هذا القبيل، مثل حديث المؤمل عن قدومه على المهدي وهو ولي عهد، قال: «قدمت على المهدي في الري وهو ولي عهد فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب إليه المنصور (أبوه) يعذله ويلومه ويقول له: «إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم.» - إلى أن قال - وبعث المنصور يستقدمني إليه حتى جئت ودخلت عليه فقال: «هيه! أتيت غلاما غرا فخدعته ...» فقلت: «نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرا كريما خدعته فانخدع.» فقال المنصور: «أنشدني ما قلت فيه.» فأنشدته (ثم ذكر القصيدة) ومطلعها:
هو المهدي إلا أن فيه
مشابه صورة القمر المنير
فقال: «والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم.» وقال: «أين المال؟» قلت: «ها هو ذا.» قال: «يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ منه الباقي.» فخرج الربيع فحط ثقلي ووزن لي أربعة آلاف درهم، وأخذ الباقي.»
66
فترى من هذه الحكاية أنهم كانوا يقدرون الشعراء بآلاف الدراهم.
هل كان الخلفاء يسرفون من أموالهم الخاصة؟
بقي علينا النظر فيما كان الخلفاء يهبونه من الجوائز ونحوها، هل كانوا يؤدونه من أموالهم الخاصة أم من بيت مال الحكومة المعبر عنه ببيت مال المسلمين؟ وهو موضوع مبهم لم نجد فيه قولا صريحا، على أن سكوت المؤرخين عنه يرجح أنهم كانوا يدفعون ذلك من بيت المال، ولا جناح فيه عليهم؛ لأن الإمام هو ولي بيت المال ينفقه فيما يرى فيه مصلحة المسلمين حسب اجتهاده، وقد يرى في إجازة الشاعر أو هبة العالم فائدة للدولة.
على أننا رأينا ذكرا لبيت مال الخاصة في أيام الهادي، ويظهر من سياق بعض الحوادث التي وقعت للخلفاء أنهم كانوا إذا أمروا لشاعر أو غيره بمال إنما يريدون أن يدفع له من بيت مال المسلمين، وأن الوزراء كثيرا ما كانوا يتذمرون من ذلك الإسراف ولا ينفذون أمر الخليفة في الصرف، كما وقع لعيسى بن دأب مع الهادي، وذلك أن عيسى المذكور كان من أكثر أهل الحجاز أدبا وأعذبهم ألفاظا، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله، فأمر له مرة بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة، فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانه إلى الحاجب في قبضها فقال الحاجب: «هذا ليس إلي فانطلق إلى صاحب التوقيع وإلى الديوان.» فعاد إلى ابن دأب فأخبره فقال: «اتركها» فبينما الهادي في مستشرف له ببغداد رأى ابن دأب وليس معه إلا غلام واحد فاستدعاه، فلما وقف بين يديه قال له الهادي: «أرى ثوبك غسيلا وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد.» فقال: «باعي قصير.» فقال: «وكيف وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك؟» فقال: «ما وصل إلي.» فدعا الهادي صاحب بيت مال الخاصة فقال: «عجل الساعة بثلاثين ألف دينار.» فأحضرت وحملت بين يديه،
67
فيظهر من سياق هذه الحكاية أن الخليفة أراد أن يدفع إليه المال من بيت المال العام، فلما لم يدفعوا له أمر بدفعه من بيت ماله الخاص.
ومن هذا القبيل ما اتفق ليحيى بن خاقان، إذ أمره الرشيد أن يدفع ثمن جارية 100000 دينار، فاستكثر يحيى المال واعتذر عن دفعه، فغضب الرشيد فأراد يحيى أن يبين له مقدار ما يتحمله بيت المال من هذا الإسراف فيما لا مصلحة للدولة فيه، فجعل ذلك المال دراهم فبلغت نحو 1500000 درهم فوضعها في الرواق الذي يمر به الرشيد إذا أراد الوضوء، فلما رأى الرشيد ذلك المال استكثره، ولما أخبروه أنه ثمن الجارية أدرك إسرافه ولكنه شعر بما في ذلك من الجرأة عليه ومحاولة غل يديه فحفظ ذلك في نفسه، ويقال إنه كان من جملة ما حمله على نكبة البرامكة.
68
واتفق نحو ذلك للواثق بالله مع وزيره ابن الزيات في ثمن جارية فلما مطل الوزير بالدفع أمره أن يدفع ضعفين ففعل.
69
وفي كتاب أبي سفيان الثوري إلى الرشيد جوابا على كتاب استدعاه به إلى بغداد ما يشبه كلام أبي ذر الغفاري لمعاوية، ويدل على أن الرشيد كان يهب ويجيز من بيت مال المسلمين، وذلك أن الرشيد دعاه بكتاب بعثه إليه في الكوفة، وأخبره أن الناس قدموا إليه، وأنه فتح بيوت الأموال وأعطاهم من المواهب السنية ... إلخ، فأجابه أبو سفيان بكتاب شديد اللهجة وفي جملة ذلك قوله: «أما بعد؛ فإني كتبت إليك أعلمك أني صرمت حبلك وقطعت ودك، وأنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك أنك هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمه، ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا كتابك، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم والعدل، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم (يعني العاملين)؟ أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟»
70
فهذا وأمثاله يدل على أن الخلفاء كانوا يهبون ويجيزون ويبذخون ويسرفون من بيت المال. (2-2) تكاثر أبواب النفقة في الدولة
بينا في الجزء الأول من هذا الكتاب كيف تدرجت الدولة الإسلامية في إدارتها منذ كان النبي
صلى الله عليه وسلم
هو الأمير والقاضي والقائد حتى أصبح موظفو الحكومة في أيام الراشدين ستة، وما كان من تزايدهم بتزايد الحضارة واتساع المملكة في أيام بني أمية فبني العباس، وكانت تلك الإدارات تتكاثر عندهم بتكاثر الثروة وميل الخلفاء ورجال دولتهم إلى الترف والرخاء، فأصبحت في أيام الرشيد أكثر منها في أيام المنصور، وفي أيام المأمون أكثر منها في أيام الرشيد، وقس على ذلك تكاثرها في أيام من جاء بعدهم من الخلفاء، فقد قرأت في جريدة المعتضد من أصناف المرتزقين في بلاط الخليفة من الغلمان والمماليك وأصحاب المطابخ والجلساء وأصحاب الركاب، ما لم يكن له ذكر في صدر الدولة العباسية، وقس عليهم أصناف الخدم الخاصة من الأطباء والمغنين والندماء، مما لا يقع تحت الحصر، وكله قد اقتضاه الترف في حضارة الدولة.
وزد على ذلك أن بعض النفقات كانت تصرف أول الأمر من غير بيت المال، فصارت تصرف منه لأسباب كثيرة لا سبيل إلى معرفتها، إذ لم يرد نص صريح بشأنها، وإن كنا نستدل عليها ضمنا من نصوص كثيرة، مثل ما نراه من الفرق بين جريدة النفقات في أيام المعتضد سنة 279ه وبين جريدة علي بن عيسى لعام 306ه فإنك تجد في هذه نفقات لا ذكر لها في تلك، مثل نفقات الحرمين، ورواتب القضاة في المماليك، وولاة الحسبة، وأصحاب البريد في جميع البلاد ونفقات الثغور، فإن هذه الأبواب غير واردة في تلك؛ لأن العمال كانوا يقومون بها من خراج أعمالهم كما أشرنا إلى ذلك، فلما ضعف الخلفاء وتمرد العمال اضطرت الدولة إلى دفعها من بيت مالها.
وقد تقدم في الجزء الأول أن ارتفاع الثغور كان ينفق في مصالحها فلا يرد منه شيء إلى بيت المال، على أنهم كثيرا ما كانوا يحصلون منها على الأموال الطائلة من الغنائم ونحوها في صدر الدولة العباسية
71
أما في أيام الاضمحلال فقلت الغزوات، وبطلت الغنائم، وتحمل بيت المال نفقات تلك الثغور، وزادت عما كانت عليه في صدر الدولة حتى بلغت في أيام المقتدر نحو 500000 دينار، وكانت قبله 100000 دينار ، وهو مقدار ارتفاعها الذي ينفق في مصالحها،
72
ناهيك بما حدث من نفقات الجند وغيره. (2-3) زيادة الضرائب
ولم تقتصر زيادة النفقات على نشوء إدارات لم تكن من قبل، ولكن الإدارات القديمة زادت نفقاتها عما كانت عليه في أوائل الدولة، وطبيعي أنه إذا كثرت ثروة الدولة وسعت على رجالها وزادت رواتبهم وما يجري لهم من الأرزاق فإذا كانت تلك الدولة مؤسسة على أساس ضعيف لا تلبث أن تنحط ثروتها وتبقى الرواتب كما هي، فيقصر بيت المال في تأديتها فيضطروا إلى فرض الضرائب الفادحة واستخدام العنف في تحصيلها، فتضعف همة الناس عن العمل وتزداد البلاد فقرا.
كان المسلمون في أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر يرتزقون مما يقع في أيديهم من الغنائم، فتختلف حصة كل منهم باختلاف مقدار تلك الغنائم، حتى تولى عمر بن الخطاب ووضع الديوان وجعل لكل مسلم راتبا معينا في السنة وميزهم باعتبار أنسابهم وقرابتهم من النبي، أو سابقتهم في الإسلام وليس باعتبار ما يؤدونه من الأعمال؛ فقد يكون أحدهم كاتبا أو عاملا أو قاضيا على السواء، فلما تفرعت إدارات الدولة وتميزت لم يروا بدا من تعيين الرواتب باعتبار المناصب، فجعلوا لكل من الجندي والعامل والكاتب والحاجب والقاضي وغيرهم راتبا معينا، ولما حدثت الوزارة في الدولة العباسية جعلوا لها راتبا كما جعلوا لسواها من المناصب المستحدثة.
واختلف مقدار راتب كل من هذه المناصب باختلاف الدول والعصور، فلننظر في تاريخ أشهر تلك المناصب باعتبار رواتبها بالنظر إلى ما نحن فيه.
رواتب العمال
كان راتب العامل في أيام عمر 600 درهم في الشهر
73
ثم اختلف باختلاف العمال والأعمال، فقد جعل عمر لمعاوية على الشام ألف دينار في السنة
74
ولما أفضى الأمر إلى بني أمية أصبحت ولاية الأعمال فوضى على ما تقتضيه الأحوال من أطماع العمال بنصرتهم أو التوسيع لهم في النفقة لحرب الخوارج أو العلويين أو غير ذلك، فربما جعلوا الولاية كلها طعمة لا يدفع عنها العامل شيئا، بل ينالها مكافأة على خدمة قام بها، على أن ذلك كان خاصا بالعمال الكبار؛ كعامل العراقين، أو مصر، أو خراسان، وقد بلغ راتب يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق في أيامهم 600000 درهم في السنة،
75
وبلغت غلة خالد القسري 13000000 درهم،
76
وليس هذا الأخير من قبيل الراتب فلا يقاس عليه.
وكان تحت هؤلاء العمال عمال يفرقونهم في أعمالهم، كما كان يفعل الحجاج في العراق، وعمرو بن العاص بمصر، فالعمال الصغار كانت رواتبهم محددة لا تزيد على 300 درهم في الشهر،
77
وظلت على نحو ذلك في صدر الدولة العباسية إلى أيام المأمون، فزادها وزيره الفضل بن سهل في جملة ما زاده من الرواتب على أثر ما كان من تكاثر الثروة مع رغبة الخليفة في إرضاء نصرائه من أهل خراسان، أما مقدار ذلك الراتب فإنه كان يختلف باختلاف الأعمال؛ لأن العمل قد يقتصر على ولاية صغيرة أو يعقد له على عدة ولايات فتقدر العمالة بقدر اتساعه وأهميته، وباعتبار رضى الخليفة عن عامله ونحو ذلك، فقد عقد المأمون للفضل بن سهل على المشرق من جبل همذان إلى التبت طولا ومن بحر فارس إلى بحر الديلم (قزوين) وجرجان عرضا، ويدخل في ذلك كل ما وراء العراق شرقا إلى الهند وجعل له عمالة قدرها 3000000 درهم في السنة، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين وأعطاه علما وسماه ذا الرياستين:
78
السيف والقلم، ونقش على سيفه بالفضة من الجانب الواحد «رياسة الحرب»، ومن الجانب الآخر «رياسة التدبير»،
79
فعل المأمون ذلك له لما كان من نصرته إياه في خلافه مع أخيه الأمين، فلا يقاس به العمال الذين كانوا يتولون الأعمال الصغرى، ومنهم بضعة عشر عاملا تحت راية الفضل بن سهل في المشرق، وعمالة هؤلاء تختلف أيضا باختلاف الولايات، ويظهر أنها كانت تتراوح بين 300 و1000 درهم قياسا على ما ذكره ابن حوقل من رواتبهم في أيام منصور بن نوح.
80
وأما عمال الولايات الكبرى التي كانت علاقتها رأسا مع الخليفة، فقد كانت رواتبهم كبيرة جدا كما رأيت من راتب الفضل بن سهل، وكانت عمالة الحسين بن علي الماذراني على مصر في أوائل القرن الرابع للهجرة 3000 دينار في الشهر
81
أو 60000 درهم، ومقدار ذلك في السنة 720000 درهم، وقس على ذلك.
فإذا اعتبرنا هذه الرواتب بالنظر إلى هذه الأيام (سنة 1903) رأيناها فاحشة جدا؛ لأن الولايات في الدولة العثمانية ثلاث درجات: الدرجة الأولى راتبها 250 ليرة عثمانية في الشهر، والثانية 200، والثالثة 150، وراتب عامل إنجلترا على الهند (نائب الملك في الهند) 20833 روبية في الشهر
82
أي نحو 21875 جنيه في السنة وهو أعظم رواتب العمال في هذا العهد، ومع ذلك فإنه أقل من راتب الماذراني المتقدم ذكره، ناهيك بما كان يكتسبه عمال الدولة العباسية من الاتجار ونحوه.
رواتب الكتاب
وكانت رواتب الكتاب إلى أيام المأمون مثل رواتب العمال الصغار، لا يزيد مقدارها في الشهر على 300 درهم، فزادها الفضل بن سهل كما تقدم ولم نقف على مقدار تلك الزيادة، ولكن بالقياس إلى غيرها يجب أن تكون كثيرة، فضلا عما كانوا يستولون عليه من الأخرجة اليومية.
وقد عدد المقريزي ما كان يستولي عليه كاتب من كتاب مصر على عهد الدولة الفاطمية في اليوم الواحد، من البقولات والتوابل والحلويات والأثمار والفاكهة والعطريات وسائر الأطعمة، ومن الألبسة والأفرشة وما كان يجري من ذلك كله على أولاده وأهله، فاستغرق تعداده نحو صفحتين أو ثلاث صفحات من قطع هذا الكتاب، فاكتفينا بالإشارة إليه تفاديا من التطويل، ومن أراد التفصيل فليراجعه هناك.
83
رواتب الوزراء
الوزارة من محدثات الدولة العباسية، وأول من اشتهر من وزرائها البرامكة، ولم نقف على مقادير رواتبهم، والظاهر أنها كانت كبيرة، فضلا عن إطلاق أيديهم في بيت المال يقطعون ويصلون كما يتراءى لهم، على أننا قد رأينا في قائمة النفقات في أيام المعتضد أن راتب الوزير
دينار في اليوم أو ألف دينار في الشهر، فإذا اعتبرنا تقدير النقود بالنظر إلى قيمة الفضة والذهب في هذه الأيام زاد هذا الراتب على 1500 جنيه، وما من وزير يبلغ راتبه إلى هذا المقدار اليوم، فإن راتب الوزير في الدولة العثمانية 300 ليرة عثمانية في الشهر، إلا الصدر الأعظم فإن راتبه ألف ليرة، والوزير المصري راتبه 250 جنيها في الشهر، وراتب أكبر وزراء إنجلترا 2000 جنيه في العام.
84
على أن رواتب الوزراء كانت تختلف باختلاف العصور والدول، كان راتب الوزير على أيام الناصر الأندلسي 80000 دينار في السنة غير الهدايا
85
وكان راتب يحيى بن هبيرة وزير المقتفي في أواسط القرن السادس للهجرة 100000 دينار في السنة
86
وكان للوزراء - فضلا عن رواتبهم المشار إليها - رواتب لأولادهم وإخوتهم وخدمهم وأتباعهم، وأرزاق، ووظائف كثيرة، وخاصة في مصر، فقد كان راتب الوزير في الدولة الفاطمية 5000 دينار في الشهر، ولمن يليه من ولد أو أخ من 300 إلى 200 دينار، ثم حواشيهم على مقتضى عدتهم من 500 إلى 300 دينار، ما عدا الإقطاعات
87
وغير ما يجري عليه وعلى أهله من المأكولات وسائر حاجيات الحياة، فقد كان للوزير ابن عمار أيام العزيز بالله الفاطمي بمصر من الجرايات لنفسه وأهل حرمه من اللحم والتوابل ما قيمته 500 دينار في الشهر، ومن الفاكهة سلة بدينار، وعشرة أرطال شمع بدينار، ونصف حمل بلح
88
وكان راتب الوزير في الدولة السلجوقية عشر مغل البلاد.
89
رواتب القضاة
كان راتب القاضي في أيام الراشدين مائة درهم في الشهر، ومؤونته من الحنطة،
90
ثم ارتقى في أيام بني أمية مثل سائر الرواتب فصار راتب قاضي مصر سنة 88ه ألف دينار في السنة
91
أي نحو عشرة أضعافه في أيام الراشدين، فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس أنزلت الرواتب فصار راتب قاضي مصر في أيام المنصور 30 دينارا في الشهر، ثم تصاعد في عهد من خلفه حتى بلغ في أيام المأمون (سنة 213ه) 400 درهم في الشهر، أي 270 دينارا، ثم عاد في أيام ابن طولون إلى ألف دينار في السنة.
92
وأما في بغداد فلم نطلع على راتب القاضي في أوائل الدولة العباسية، ولكننا رأينا في جريدة المعتضد أن راتب القاضي 16 وثلثا دينار في اليوم أو 500 دينار في الشهر - بما فيه أجور عشرة من الفقهاء وخليفة القاضي - ومع ذلك فإنه راتب كبير بالنظر إلى رواتب قضاة هذه الأيام، فإن راتب شيخ الإسلام في الأستانة لا يزيد على 500 ليرة عثمانية في الشهر، مع اعتبار الفرق في قيمة النقود بين تلك الأيام واليوم.
رواتب الخلفاء وأهلهم
قد رأيت أن الخلفاء كانوا يفرضون الرواتب لأهل الوزراء والكتاب، فبالأولى أن يفرضوها لأنفسهم وأولادهم، والخليفة هو القابض بيده على بيت المال، لكننا لم نجد قولا صريحا في هذا الشأن غير ما كان يأمر به الخلفاء لأهلهم من الضياع أو الأموال، وأكثر ما كانوا يفعلون ذلك في أول الدولة إذا خافوا أهلهم من مناظرتهم على الملك، فكانوا يشترون مبايعتهم بمال يرضون به أهلهم كما فعل المنصور مع عيسى بن موسى، إذ اشترى منه البيعة لابنه المهدي بمبلغ 11000000 درهم له ولأولاده
93
أو للتوسعة عليهم واستنصارهم كما فعل مع أعمامه فإنه أمر لكل واحد منهم بمليون درهم تدفع إليهم من بيت المال وهو أول من فعل ذلك،
94
ويظهر أنها كانت تدفع إليهم في كل عام، ولما توفي ابنه المهدي فرض لأهل بيته كل واحد 6000 درهم في السنة
95
والظاهر أنهم بقوا على نحو ذلك فضلا عما كانوا ينالونه من الهبات الطائلة، وخصوصا أبناء الخلفاء وولاة عهدهم، فإن الهادي أمر سنة 270ه لابنه الرشيد بمليون دينار، وأن يحمل إليه نصف الخراج
96
على أثر ما كان من عزمه على خلعه من ولاية العهد.
والظاهر أن الرشيد زاد في رواتب أهله، وكذلك المأمون بالقياس على ما كان من زيادة الرواتب في خلافته، وكان أعضاء العائلة قد زاد عددهم حتى بلغوا في أيامه 33000 نفس، ولما توفي المستعين سنة 248ه ابتاع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما وأشهد عليهما بذلك، وترك للمعتز ما يتحصل منه في السنة 20000 دينار، وللمؤيد ما يتحصل منه 5000 دينار وحبسهما.
97
فلما كانت أيام ابن رائق أمير الأمراء في أوائل القرن الرابع للهجرة، كفت أيدي الخلفاء عن بيت المال، وصار إلى رجال الدولة، وأول من كفت يده الراضي بالله الذي توفي سنة 339ه واستبد القواد ورجال الدولة في الأموال وصار الخلفاء في حاجة إلى الراتب بعد ما ذهبت سيطرتهم عن بيت المال فقرروا لهم راتبا زهيدا.
98
ويظهر أن الخلفاء لم تكن لهم قبل ذلك رواتب معينة، غير ما كان يصيبهم من الغنائم بحسب الشرع، إلا أبا بكر فقد فرضوا له 6000 درهم لما يصلحه ويصلح عياله بالمعروف
99
ثم لم نر ذكرا لرواتب الخلفاء إلى أيام ابن رائق، فلما استولى معز الدولة الديلمي على بغداد سنة 334ه فرض للخليفة المستكفي 5000 درهم كل يوم لنفقاته، ولكنه قلما كان يدفعها إليه،
100
ثم كان ما كان من فقر الخلفاء مما يأتي ذكره في حينه.
وفرض الأعطية للملوك وأهلهم عادة جارية عند معظم الأمم الآن، والغالب في الدول المتمدنة أن تكون تلك الرواتب معينة في مميزاتها، وهاك رواتب العائلة المالكة في إنجلترا لعام 1902:
رواتب العائلة المالكة في إنجلترا لعام 1902
جنيه إنجليزي
110000
راتب الملك
125800
راتب خدم القصر
193000
نفقات القصر
41200
نفقات أخرى وتبرعات
470000 (جملة مخصصات الملك)
160000
رواتب سائر أعضاء العائلة
630000
وهذه رواتب العائلة الخديوية لعام 1902:
جنيه مصري
100000
مخصصات الخديو
97927
مرتبات العائلة الخديوية
57434
نفقات كابينة الخديو
255361
ولسلطان تركيا راتب مقداره في الشهر 75000 ليرة عثمانية، أو 900000 ليرة في السنة ما عدا النفقات والمخصصات (عام 1902).
رواتب حاشية الخليفة
ونريد بحاشية الخليفة الموظفين المتعلقة أعمالهم بشخص الخليفة، وليس بأعمال الدولة كالأطباء والحجاب والحرس الخاص، ورواتبهم من بيت مال الخاصة، وقد يكون لهم رواتب من بيت مال العامة، وكانت كبيرة، نستدل على ذلك من مخصصات جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد، ومنها رواتب نقدية كان يؤخذ بعضها من بيت مال العامة، والبعض الآخر من بيت مال الخاصة، وإليك راتب جبريل المذكور في السنة كما وجدوه مدونا بخط كاتبه:
101
مرتبات جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد في السنة
درهم
من بيت مال العامة
120000
راتب نقدي
60000
النزل
180000 (المجموع)
من بيت مال الخاصة
50000
راتب نقدي
50000
ثياب قيمتها
50000
هدية على عيد صوم النصارى
10000
هدية على يوم الشعانين (ثيابا قيمتها هذا المبلغ)
50000
هدية على عيد الفطر نقدا
10000
هدية على عيد الفطر (ثيابا قيمتها ذلك المبلغ)
100000
لفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة 50000
100000
لشرب الدواء دفعتين في السنة كل دفعة 50000
420000 (المجموع)
من أصحاب الرشيد نقدا وثيابا وأطيابا
50000
درهم من عيسى بن جعفر
50000
درهم من زبيدة أم جعفر
50000
درهم من العباسية
30000
درهم من إبراهيم بن عثمان
50000
درهم من الفضل بن الربيع
70000
درهم من فاطمة أم محمد
100000
كسوة وطيب ودواب
400000 (المجموع)
من البرامكة
600000
من يحيى بن خالد
1200000
من جعفر بن يحيى الوزير
600000
من الفضل بن يحيى
2400000 (المجموع)
800000
غلته من ضياعه
700000
من فضل مقاطعته
4900000 (الجملة)
فجملة رواتبه فقط 4900000 درهم في العام، فإذا جمع ذلك في مدة خدمته كلها وهي 23 سنة كان مقدار ما قبضه من مال الدولة العباسية 112700000 درهم يخرج منها ما قطع عنه من مرتبات البرامكة بعد نكبتهم في العشر السنين الأخيرة، وهو 24000000 درهم؛ فالباقي 88700000 درهم، وهو جملة ما اكتسبه من بيت المال غير الصلات الجسام، وأما ما أنفقه فهو:
درهم
27600000
جملة نفقاته على نفسه وبيته في 23 سنة بمعدل 1200000 درهم في السنة
70000000
ثمن دور وبساتين ومتنزهات ودواب ورقيق وغيرها
8000000
ثمن آلات وأجر وصناعات ونحو ذلك
1200000
ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته
500000
ثمن جواهر وما أعده للذخائر
3000000
ما أنفقه في البر والصلات والمعروف
3000000
ما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه (أي أنكروه)
128600000
والمجموع في الأصل 900000 دينار و90600000 درهم
وقس رواتب سائر الحاشية على هذه النسبة في تلك الأيام، فقد كانت غلة صاحب حرس الرشيد 300000 درهم في السنة، وغلة صاحب شرطته 500000 درهم، وغلة حاجبه 1000000 درهم في السنة.
102
رواتب الجند
بينا في باب الجند من الجزء الأول كيف كان المسلمون كلهم جندا، وذكرنا ما فرضه لهم عمر من الرواتب باعتبار النسب والسابقة، وكيف تضاعفت رواتبهم في أوائل بني أمية ثم نقصت في أواخرها، ثم زادت في أوائل بني العباس، ثم نقصت حتى صارت في أيام المأمون 240 درهما في السنة للجندي الراجل (النفر) فضلا عن حصته من الغنائم إذا غزا، ويظهر أن تلك الحصة من الغنائم كانوا يحسبونها عن الجند في صدر الدولة العباسية، حتى طلبوا من محمد الأمين سنة 198ه أن يردها عليهم إذا غزوا فردها فأصاب الرجل ستة دنانير.
103
ولما قامت الفتنة بين الأمين والمأمون كان كل منهما يرغب جنده فيه بالأعطيات، فلما فاز جند طاهر بن الحسين على جيش علي بن عيسى بن ماهان سنة 195 زاد المأمون أعطيات جند طاهر حتى جعل راتب الواحد ثمانين درهما في الشهر (960 درهما في السنة)
104
أي أنه أعادها إلى ما كانت عليه في أيام السفاح، فلما انتهت الفتنة عادت إلى 240 درهما.
الأفشين وبابك
فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم سنة 218ه وكان ما كان من اقتنائه الأتراك والفراغنة والمغاربة وتجنيدهم، وضعف الخلفاء للأسباب التي قدمناها، أصبح مرجع القوة في كل شيء إلى الجند، وكانت فاتحة ذلك النفوذ استفحال أمر بابك الخرمي في أرمينيا وأذربيجان، وكان بابك قد ظهر في أيام المأمون يدعو الناس إلى دين جديد أساسه الحلول أي تقمص الأرواح
105
فبعث إليه المأمون جنودا هزمهم غير مرة، فلما تولى المعتصم جعل همه قمع بابك؛ لأنه أصبح خطرا على ملكه فبعث إليه أتراكه بقيادة رجل منهم اسمه الأفشين حيدر بن كاووس سنة 220ه ثم أردفه بآخر اسمه بغا الكبير ومعه المال، وآخر اسمه جعفر الخياط ثم أنفذ إليه إيتاخ ومعه 30000000 درهم لنفقات الجند، وبعد حروب سنتين فاز الأفشين وقبض على بابك بحيلة بذل فيها المال.
وجاء ببابك إلى سامرا فخرج الواثق بن المعتصم وسائر أهل المعتصم لاستقباله باحتفال، وهم لا يصدقون أنهم نجوا من بابك على يده؛ لأنه كان قد أمعن في البلاد نهبا وقتلا، فقتل في عشرين سنة 255500 نفس وغلب على معظم قواد المأمون والمعتصم، فلما قبض الأفشين عليه أمر المعتصم أن يركبوه على الفيل، فأركبوه واستشرفه الناس وكان بابك عظيم الجثة، ثم أدخلوه على المعتصم في دار فأمر سياف بابك نفسه أن يقطع يديه ورجليه فقطعها، فسقط بابك فأمره بذبحه ففعل وشق بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب بدنه في سامرا، وكان ذلك اليوم يوما مشهودا أمن فيه المعتصم على ملكه وعرف ذلك الفضل للأفشين ورجاله، وكان لا ينفك عن مواصلة الأفشين بالعطايا والخلع من يوم خروجه إلى يوم رجوعه، فكان يرسل إليه كل يوم خلعة وفرسا ويدفع إليه في أثناء إقامته بإزاء بابك (سوى الأرزاق والأنزال والمعاون) عن كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ولما عاد الأفشين تقدم المعتصم بنفسه وألبسه وسامين مرصعين بالجوهر ووصله بعشرين مليون درهم: عشرة ملايين منها لنفسه وعشرة يفرقها في عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه.
106
فالأفشين لم يثبت في محاربة بابك إلا طمعا في المال، مع ما كان يواصله به المعتصم من الخلع والأموال في أثناء الحرب، ثم ما دفعه إليه عند رجوعه، وكان الأفشين يرسلها كلها إلى بلاده حتى وهو في دار الحرب، فكان إذا اجتمع إليه مال من غنيمة أو هدية بعث به رأسا إلى بلدة أشروسنة فيما وراء النهر بطريقة سرية، فيجتاز حملة المال بخراسان فيعلم بهم عاملها ابن طاهر فيكتب إلى المعتصم بشأنهم، المعتصم يأمره أن يطلعه على كل ما يراه من هذا القبيل، فأنفذ الأفشين مرة مالا كثيرا جعله في أواسط أصحابه في الهمايين فبعث ابن طاهر ففتشهم فوجد المال فقال: «من أين لكم هذا المال؟» قالوا: «للأفشين» فأخذه وأظهر أن الأفشين لا يفعل ذلك وإنما هم لصوص، فوقعت الوحشة من يومئذ بين ابن طاهر والأفشين حتى آل الأمر إلى حبسه، وقد تبين من محاكمته أنه لم يعتنق الإسلام إلا طمعا في المال وأنه لا يزال على المجوسية.
107 •••
وقس على ذلك سائر جند المعتصم، فإنهم إنما كانوا يحاربون لمجرد كسب الأموال وحملها إلى بلادهم في أقصى الشرق - فكيف تستقيم دولة هذا جندها؟ - على أن الخلفاء لم يكونوا يجدون بدا من استنصارهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال، فكانوا يبذلون لهم الرواتب الكبيرة غير ما يهبونهم إياه من الهدايا ونحوها اقتداء بما كان يفعله المعتصم معهم؛ لأنه بنى لهم سامرا، وأقطعهم فيها الإقطاعات، واشترى لهم الجواري فأزوجهم منهن، ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدا من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم إلى بعض، وأجرى للجواري الأتراك أرزاقا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلما يكن يقدر أحد منهم على أن يطلق امرأته ولا أن يفارقها.
108
فإذا اعتبرت هذه النفقات مع أرزاق الرجال، وما قد يحتاجون إليه من المؤونة والأخرجة كان المجموع عظيما جدا، قال الطبري في حوادث سنة 252ه: «وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة 200000000 دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين.»
109
ونظن أن المراد 200000000 درهم (لا دينار)؛ إذ يستبعد أن يجتمع هذا القدر من الخراج دنانير في سنتين؛ لأننا لو حولناها إلى دراهم باعتبار الدينار عشرين درهما - وهي قيمته في ذلك الحين - لكان خراج المملكة في السنة 2000000000 درهم، وقد رأينا خراجها في إبان ثروتها لا يزيد على 400000000 درهم، فإنفاق 200 مليون درهم على الجند في سنة واحدة أمر عظيم جدا، وخصوصا إذا اعتبرنا قيمة النقود في تلك الأيام، ولكنه لا يعد شيئا بالنظر إلى نفقات الجند في هذه الأيام (سنة 1903)؛ لأن التمدن الحديث اقتضى الاحتياط والتجنيد وإعداد المعدات، حتى كثرت نفقات الجند كثرة فاحشة وخصوصا إذا أضفنا إليها نفقات الأساطيل، فإنجلترا مثلا تنفق على جنديتها برا وبحرا نحو 40000000 جنيه في السنة، وفرنسا تنفق نحو هذا المبلغ، وكذلك روسيا، وهو مع اعتبار قيمة النقود بالنسبة إلى تلك الأيام لا يزال يعادل ضعفي ما كان ينفقه العباسيون تقريبا، ولكننا أعظمنا ما أنفقوه بالنظر إلى ما كان من طرق إنفاق الجند عندهم.
ناهيك بما كان يرتكبه الجند العباسي من اغتصاب أموال الناس في منازلهم وحوانيتهم لأقل سبب يحدث، والخلفاء لا يعدون ذلك ذنبا لهم، بل ربما عنفوا الناس لأنهم لم ينقلوا سلعهم وأمتعتهم إلى مكان لا يعرفه الجند.
على أن الخلفاء كانوا ينشطون مطامع الجند فيهم، بما كانوا يشرطونه على أنفسهم من المال إذا هم فعلوا لهم الأمر الفلاني حتى في ساحة الحرب، فكانوا إذا احتدم القتال وخاف الخليفة أو الأمير ضعفا صاح في جنده: «من جاء بأسير فله عشرة دنانير، ومن جاء برأس فله خمسة دنانير.» كما فعل المقتدر سنة 320ه.
110
أما رواتب الجند العباسي، أي ما كانوا يتقاضونه قدرا معينا في العام، فقد تبين من قائمة نفقات الدولة في أيام المعتضد - على ما مر في هذا الكتاب - أن أرزاق الجند من الفرسان والمماليك ونحوهم لا تزيد على 1500000 دينار أو 30000000 درهم، ثم استفحل أمر الجنود الأتراك بتوالي الأعوام وتعددت فرقهم، وتزايدت رواتبهم مما لا يمكن حصره؛ لأنه يختلف باختلاف الأزمان والأحوال فضلا عن سكوت المؤرخين في هذا الشأن إلا ما قد يتناولونه عرضا.
فقد بلغ عدد فرقة الرجالة المصافية (أي الحرس) الملازمين لدار الخليفة المقتدر سنة 317ه 20000 رجل، بلغت رواتبهم 12000 دينار في الشهر، أي ستة دنانير لكل واحد، وكان عدد الفرسان 12000 فارس رواتبهم في كل شهر 500000 دينار، وذلك نحو 42 دينارا لكل واحد، أو نحو 12000 درهم في السنة للفارس، و1440 درهما للراجل، وكانوا مع ذلك كثيرا ما يثورون ويطلبون الزيادات ويهددون الخليفة بالقتل إذا لم يجبهم
111
وتداخلوا في منازل الخلفاء، ووضعوا أيديهم على الخلافة، وصاروا يولون من شاءوا، وإذا أتت الأموال اقتسموها فيما بينهم لا يتركون منها للخليفة أو الديوان إلا القليل، كما فعل أتامش وشاهك في أيام المستعين بالله سنة 249ه.
112
وكما كان القواد يطمعون في الخلفاء ويستبدون بهم كانوا أيضا يستأثرون بالأموال دون أفراد الجند حتى لقد ثار هؤلاء مرارا على قوادهم وطالبوهم بالأموال وهددوهم، وإذا لم يروا منهم إصغاء وتلبية قتلوهم، كما فعلوا بالقائد وصيف سنة 253ه؛ فإن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما فكلمهم وصيف بالجفاء وقال لهم: «خذوا التراب، ليس عندنا مال!» فوثب عليه بعضهم وقتلوه
113
وكثيرا ما تظلموا للخلفاء، وشكوا مما صار إليه قوادهم من الإقطاعات التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار إلى كبرائهم من المعاون والزيادات في الرسوم القديمة بالإضافة إلى ما كان ينفق في أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج
114
حتى طلبوا التخلص منهم وعرضوا أن يقود الجند أخو الخليفة.
رواتب الجند الآن
على أننا إذا اعتبرنا رواتب الجند الإسلامي على اختلاف عصوره من أيام الراشدين إلى أواخر الدولة العباسية، وقسناها برواتب جنود هذه الأيام (سنة 1903) رأيناها تزيد عليها زيادة فادحة، فقد رأيت أن راتب الجندي في أيام الراشدين تراوح بين 300 و500 درهم في السنة، ثم صار أيام بني أمية ألف درهم، وتقلب في أيام العباسيين حتى صار في أيام المقتدر 1440 درهما للراجل، و12000 درهم للفارس في السنة، تلك رواتب أفراد الجند (الأنفار) عندهم مع أن راتب النفر في الدولة الإنجليزية للراجل شلن وللفارس شلن و9 بنسات في اليوم، ومقدار ذلك في السنة نحو 455 درهما (حوالي 1990 قرشا مصريا) للراجل و35 جنيها مصريا للفارس، على أن رواتب الجند عندهم تختلف في كل من المشاة والفرسان باختلاف الفرق، ولكنها في كل الأحوال عظيمة بالنظر إلى رواتب الجند في الدول الأخرى، وأما بالنظر إلى الدولة العباسية فإنها صغيرة وخصوصا إذا اعتبرنا قيمة النقود في الحالتين.
ومن أسباب كثرة نفقات الجند اليوم كثرة الضباط وكبر رواتبهم، وإن كنا لا نعلم مقدار رواتب ضباط تلك الأيام وهم القواد، وهاك رواتب الجند الإنجليز من أكبر الضباط إلى النفر (العسكري) في اليوم
115
ثم رواتب الجندين العثماني والمصري:
رواتب الجند الإنجليز في اليوم بالجنيه والشلن والبنس (سنة 1903)
المشاة
الفرسان
بنس
شلن
جنيه
بنس
شلن
جنيه
8
8
الجنرال (المشير)
10
5
10
5
الفريق
3
3
اللواء
18
6
1
1
أميرالاي
18
6
1
1
قائمقام
7
13
15
بكباشي
7
11
13
يوزباشي
6
6
6
7
ملازم أول
3
5
8
6
ملازم ثان
1
9
1
النفر
رواتب الجند العثماني في الشهر (سنة 1903)
رواتب الجند المصري في الشهر (سنة 1903)
قرش عثماني
قرش مصري
25000
المشير
المشير (لا يوجد)
10000
الفريق
7500
الفريق
6000
اللواء
6500
اللواء
2000
أميرالاي
4700
أميرالاي
1800
قائمقام
3000
قائمقام
1200
بكباشي
2500
بكباشي
700
قولاغاسي
1500
صاغقو لاغاسي (هو الصاغ اليوم)
500
يوزباشي
900
يوزباشي
250
ملازم أول
600
ملازم أول
200
ملازم ثان
500
ملازم ثان
20
نفر
30
نفر
رواتب أخرى
كانت سياسة الملك في تلك العصور تقتضي استرضاء بعض الناس ممن يخاف الخلفاء أقلامهم أو ألسنتهم أو أحزابهم؛ لأن المملكة لم تكن تخلو من دعاة يطلبون الخلافة لأنفسهم من العلويين أو الخوارج أو غيرهم، والملك لا يخلو من حساد يترقبون فرصة للانتقام، وكان للخطابة والحماسة يومئذ تأثير على الرأي العام أكثر مما للصحافة في هذه الأيام، فالخلفاء العقلاء كانوا يؤثرون ملافاة شرور المقاومين بالإحسان إليهم أو الرفق بهم، فيقطعون ألسنتهم بالجوائز الوقتية أو بالرواتب الجارية، كما يفعل ملوك هذه الأيام بالصحافة، فإن بعضهم يدفع الرواتب السنوية إلى أرباب الصحف في مقابل سكوتهم عنه، والبعض الآخر يبتاع مساعدتهم في إنهاض الهمم أو جمع كلمة الأحزاب، فالشعراء والخطباء ونحوهم كان شأنهم في تلك الأيام مثل شأن الصحافة اليوم، فلا غرابة إذا بذل الخلفاء الأموال لاسترضائهم.
وأول من فعل ذلك في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، فكان يسمع التقريع بأذنه ولا يجازي عليه إلا بالعطاء، ولذلك كانوا يعبرون عن إجازة الشاعر بقطع لسانه
116
وكان يفعل ذلك بالشعراء والوجهاء وغيرهم، وسار الخلفاء بعده على خطواته وفرضوا الأعطية لرؤساء الأحزاب من بني هاشم والطالبيين ونحوهم، وصاروا يهبون الأموال لمن يخافونهم على سلطانهم، وأكثر ما كان الخلفاء يهبونه من الجوائز والعطايا للوفود والشعراء إنما كان يعطى لنحو ذلك الغرض.
وكانوا يفرضون الرواتب أحيانا لأناس يرجون نصرتهم على مناظريهم في الملك، كما فعل العزيز بالله الفاطمي سنة 381ه بعلي بن الحسين من آل المغربي لما جاءه من بغداد، فإنه جعل له 6000 دينار في السنة وسماه من شيوخ الدولة
117
وقد يفرضونها لطبقات الناس من أهل العوز، كما فعل الإخشيد بمصر في أوائل القرن الرابع للهجرة، فإنه فرض للضعفاء والمستورين من أبناء النعم وأجناس الناس (ليس فيهم أحد من الجيش ولا من الحاشية ولا من المتصرفين بالأعمال) رواتب بلغ مقدارها في أيام كافور الإخشيدي 500000 دينار في السنة،
118
فلا بد من أن يكون مثل هذه الرواتب في الدولة العباسية.
ناهيك برواتب الحاشية والأعوان ونحوهم، ممن تندرج رواتبهم في نفقات الدولة؛ فقد رأيت أنها كانت كبيرة، ومن هذا القبيل حواشي الأمراء والعمال والوزراء وغيرهم، وقد يبلغ عددهم عند بعضهم بضعة آلاف
119
أو تزيد.
عدد أيام الشهور
شرعت الدولة العباسية في زيادة الرواتب في إبان ثروتها، ولم تكن تشعر بثقل تلك الزيادة لوفرة الأموال الواردة على بيت المال، ثم ما لبثت أن رأت الجباية تتناقص ولم يعد في إمكانها إنقاص الرواتب بعد أن تعود أصحابها الإسراف والبذخ واقتناء الخدم والمماليك اقتداء بخلفائهم، ولم يعد في الإمكان كذلك إقالتهم خوفا من غضبهم، فعمد الوزراء إلى حيلة حسنة اقتصدوا بها شيئا كثيرا من المال، وذلك أنهم جعلوا الرواتب مياومة، فإذا أرادوا تخفيض بعضها وكان مقدار الراتب ألف دينار في الشهر مثلا، فبدلا من أن يجعلوه 800 دينار يبقونه على ما كان ويزيدون أيام ذلك الشهر فيجعلونها أربعين يوما أو خمسين، فأصبح لكل فئة من الموظفين تقريبا شهر خاص يختلف عدد أيامه عن أيام أشهر الآخرين.
فقائمة نفقات المعتضد المنشورة في هذا الجزء يختلف شهر كل من أصحاب الرواتب فيها عن شهر غيره، فالغلمان الذين أعتقهم الناصر كانت أيام شهورهم أربعين يوما، فأساءوا الأدب في مطالبة كانت منهم فجعلها خمسين يوما، ثم لما تولى المعتضد جعلها ستين يوما، والفرسان الأحرار والمميزون كانت شهورهم خمسين يوما فجعلها تسعين ونسبوا إلى التسعينية، ثم جعل شهور بعضهم 120 يوما، وأشهر المختارين سبعون يوما، وأشهر الفرسان المثبتين 120 يوما، وكذلك المرتزقة برسم الشرطة بمدينة السلام والسقايين وقس عليهم سائر الموظفين في هذه القائمة وغيرها، فالذي راتبه ألف دينار في الشهر إذا جعل شهره 120 يوما كأنه تنزل إلى الربع، وكثيرا ما كان يعجز بيت المال عنها ويقصر عن تأديتها شهرا بعد شهر حتى يثور الجند، فإما أن يخلعوا الخليفة، أو يقتلوه، ويفوز بالخلافة صاحب المال. (2-4) النفقة على البيعة
رأيت فيما تقدم أن الخلفاء في أوائل الدولة العباسية كانوا يحتاجون في تأييد بيعتهم إلى استرضاء أهل الحرمين، وكانوا يحملون إليهم الأموال ويبذلون لهم الأعطية، ويفرقون فيهم الهدايا، فلما ضعف شأن العرب بعد المعتصم، وقوي جند الأتراك أهمل أمر الحرمين، وصارت القوة إليهم أو بالأحرى إلى المال؛ لأن الأتراك إنما يحاربون مع المال، وصارت مبايعة الخلفاء راجعة إلى رضاهم، أو إلى من يدفع المال إليهم، على أن الخلفاء كانوا من أوائل الدولة يسترضون الجند ويكرمونهم بالهدايا عند كل بيعة، ويسمون ما يدفعونه إليهم في هذه السبيل «حق البيعة»، فلما تولى الأمين فرق في الجند رزق 24 شهرا
120
ولولا ذلك لم يحكم شهرا واحدا، ولما أراد المأمون أن يبايع لعلي الرضا صرف للجند راتب شهر على أن يصرف لهم الباقي إذا أدركت الغلة
121
فلم يقبلوا ولعله لو عجل لهم بالمال لبايعوا لمن شاء، وكان بنو أمية يعطون في مقابل البيعة ولاية عمل يجعلونها طعمة عدة سنين، كما فعل عبد الملك بن مروان مع عبد الله بن خازم سنة 72ه وكان عبد الملك يحارب ابن الزبير في مكة ويخاف منه، فبعث إلى ابن خازم المذكور يدعوه إلى بيعته ويطعمه خراسان سبع سنين.
122
وأما بعد أيام المعتصم، فأصبحت البيعة تجارة ينالها صاحب المال أو صاحب الجند والمعنى واحد، وكان الجند يسرون بخلع الخلفاء طمعا في المال؛ لأنهم كلما تولى خليفة طالبوه بحق البيعة ورزق ستة أشهر أو سنة أو أكثر أو أقل على قدر مطامعهم
123
وهناك من أمثال هذه المطالبات ما لا يعد ولا يحصى، فتراجع في تاريخ الخلفاء العباسيين، فانشغل الخلفاء بذلك عن سياسة المملكة، واختلت الأحكام، وأصبح همهم منصرفا إلى حفظ أرواحهم واستبقاء ضياعهم، وصارت البلاد فوضى للجند، أو لمن يستطيع استخدامهم، وانشغل الناس عن الزراعة والتجارة، وأهملت الأعمال بوجه الإجمال. •••
وزاد أهل البلاد شقاء أن قواد الجند كانوا إذا أعوزهم المال، ولم يكن في بيت المال ما يكفي، استخرجوه من الأهالي، وكثيرا ما كان يحدث ذلك في أثناء الحروب بين فرق الجند في تنازعهم على تولية أحد الخلفاء، فقد نهب جند الديلم أموال الناس في بغداد في أثناء الخصام بين ناصر الدولة ومعز الدولة سنة 334ه بشأن الخليفة المطيع لله، وكان مقدار ما نهبوه من أموال المعروفين فقط 10000000 دينار
124
ولما عين الخليفة المستكفي «شير زاد» أميرا للأمراء في تلك السنة، زاد هذا أعطيات الجند زيادة كثيرة على جاري عادتهم عند كل بيعة، لكنه لم يجد في بيت المال ما يعطيهم، فقسط الأموال على العمال والكتاب والتجار وغيرهم، وظلم الناس، فظهرت اللصوص في بغداد، وأخذوا الأموال نهبا، ففر التجار وأصبحت البلاد فوضى.
125
فآل ذلك وأمثاله إلى تتابع الإحن على البلاد، فتقاعد أهل المدن عن العمل، كما تقاعد أهل القرى عن الزرع، وغلت الأسعار، وتوالى الجوع أعواما على مدن العراق، وخصوصا بغداد، فكثر اللصوص وصاروا طوائف عديدة، لا عمل لهم إلا النهب عند سنوح الفرصة، وخصوصا في أثناء الفتن، ومنهم العيارون والشطار، ولم يجد الخلفاء ما يستأجرون به جندا لدفع الفتن أو إخماد الثورات، على أنهم كثيرا ما كانوا يمسكون عن دفع المال، ولو كان في خزائنهم؛ لأنهم يرون النفوذ لسواهم، كما حدث للمقتدر سنة 320ه فإنه أمسك عن دفع الأموال وهي عنده وعند والدته، حتى آل الأمر إلى قتله بمساعي مؤنس الخادم، فكان ما فعله مؤنس سببا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيهم
126
حتى تجرأوا على نهبهم ومصادرتهم كما حدث للمطيع سنة 361 إذ سطا جند الروم من جهة الجزيرة حتى بلغوا نصيبين، وسبوا وأحرقوا ففر أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة وجنده وأهل المدينة، فشغب الناس وخافوا فطلب بختيار (صاحب الأمر يومئذ هناك) إلى الخليفة أن يدفع المال للنفقة على الغزاة لمحاربة الروم، فقال المطيع: «إن الغزاة والنفقة عليها وعلى غيرها من مصالح المسلمين تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وتجبى إلي الأموال، وأما إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيء، وإنما يلزم من البلاد في يده، وليس لي إلا الخطبة فإذا شئتم أن أعتزل فعلت.» فلم ينفعه ذلك الاحتجاج فاضطر إلى بيع ثيابه وأنقاض داره وغير ذلك لدفع 400000 درهم، فشاع الخبر أن الخليفة صودر، على أن المال المذكور لم ينفق في الغزاة وإنما أنفقه بختيار في مصالحه،
127
وما أشبه حال الخلفاء العباسيين مع جندهم الأتراك بحال سلاطين آل عثمان مع جندهم الانكشارية في القرن الثامن عشر وبعيده، ولا ندري كيف كان يصير حالهم لو لم ينكبهم السلطان محمود الثاني سنة 1826.
فلم يبق في الدولة العباسية، والحالة هذه مصدر للمال للقيام بنفقات مصالحها واستبقاء جندها؛ لأن الفتن أقعدت الناس عن العمل فخربت البلاد، ولكن الجند لا بد منه لحفظ السلطة، فلما استولى معز الدولة بن بويه على بغداد في خلافة المطيع شغب الجند عليه وأسمعوه المكروه فضمن لهم إيصال أرزاقهم، ولما أعجزه ذلك من طريق الحلال، اضطر إلى ضبط الناس وأخذ أموالهم من غير وجوهها فلم يغنه ذلك شيئا، فارتأى أن يسلم القرى والضياع إلى قواده ورجاله ليزرعوها ويستغلوها، فسلم إليهم ضياع الخلافة وضياع أصحاب الأملاك فبطل لذلك أكثر الدواوين وزالت أيدي العمال، وكانت البلاد قد خربت للأسباب التي قدمناها، فاستأثر القواد بالقرى العامرة فزادت عمارتها وتوفر دخلها بسبب الجاه والنفوذ، وأخذ الأتباع القرى الخربة فزادت خرابا فردوها وطلبوا غيرها، وأهملوا الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها، فهلكت وبطل كثير منها، وأخذ غلمان المقطعين في تحصيل العاجل بالظلم، وبالجملة فقد تعذر على معز الدولة بهذه الطريقة جمع ذخيرة للنوائب والحوادث، وكان قد أكثر من إعطاء غلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم فزادت الوحشة والمنافرة عما كانت عليه بينهما.
128 (2-5) استئثار رجال الدولة بالأموال لأنفسهم
إذا بلغت الدولة إلى قمة ثروتها، وانغمس الملك في الترف والقصف، وتقاعد عن مباشرة الأحكام بنفسه، تحول النفوذ إلى المحيطين به، أو الذين ينوبون عنه، أو يتوسطون بينه وبين الناس، كالوزير، والعامل، والكاتب، والحاجب، والقائد، وأصبح الأمر والنهي في أيديهم، فيستأثرون بالأموال لأنفسهم يجمعون منها ما استطاعوا، فيسرفون ويبذخون على ما تقتضيه أحوالهم وأطوارهم، ولا يكون ذلك إلا في الدولة المطلقة التي ليس على أعمالها مراقب ولا محاسب، فمن ينوب عن الملك من الوزراء أو الكتاب أو الحجاب في عصر الترف والتقاعد يكون له مثل ذلك من النفوذ، وخصوصا في مثل الدولة العباسية؛ لأن وزراءها وكتابها من أمة لم تقم دولتهم إلا بها، ولم يزه تمدنهم إلا بعلمائها، ولذلك كان للوزراء في هذه الحالة الكلمة النافذة، والسيف القاطع، حتى في إبان تمدنها، اعتبر ما كان من نفوذ البرامكة في أيام الرشيد، وما كان من إحرازهم الأموال لأنفسهم، حتى كان الرشيد يحتاج إلى اليسير من المال فلا يقدر عليه
129
فلما غلوا يديه عما كانت تتطلبه نفسه من الترف والاستبداد
130
نكبهم على ما هو مشهور، كما نكب المهدي قبله وزيره يعقوب بن داود، وكان قد استوزره وسلم إليه الأمور، وفوض إليه الدواوين، وانشغل المهدي عنه باللهو وسماع الأغاني، فعظم ذلك على الناس، وخصوصا العرب، فهجوا يعقوب، ومن ذلك قول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خلافة الله بين الناي والعود
131
ووشى بعض الناس إلى المهدي بذلك فاستدعاه، وقبض عليه وسجنه وظل في سجنه أعواما طوالا.
وكما اتفق للمأمون مع يحيى بن أكثم القاضي عندما عهد إليه بتدبير مملكته وأكرمه نحو إكرام الرشيد للبرامكة
132
ولكنه لم يكن راضيا عنه لأشياء لم تعجبه منه، ولذلك فلما دنت وفاة المأمون أوصى أخاه المعتصم قائلا: «لا تتخذن وزيرا تلقى إليه شيئا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته.»
133
وكان العرب يكرهون الوزراء خصوصا لأنهم في الغالب من الفرس، وكانوا يصفونهم بالجبن والبخل وقبول الرشوة، قال أعرابي يصف وزيرا:
ومظهر نسك ما عليه ضميره
يحب الهدايا بالرجال مكور
أخال به جبنا وبخلا وشيمة
تخبر عنه إنه لوزير
134
على أن الوزراء كثيرا ما كانوا يمنعون المال عن الخلفاء ضنا ببيت مال المسلمين أن يذهب في الإسراف لا طمعا فيه لأنفسهم، كما اتفق للواثق مع وزيره ابن الزيات؛ إذ أعجبه صوت غنته إياه جارية اسمها «علم» فأمر لصاحبها بخمسة آلاف دينار، فمطل ابن الزيات في دفعها فغضب الواثق وأمره أن يدفع ضعف ذلك المال، فدفع إليه 10000 دينار.
135
وكان الوزراء يزدادون نفوذا واستئثارا بالمال بزيادة ضعف الخلفاء، حتى صارت معظم الأموال إليهم.
الوزراء
بلغ من ثروة الوزراء ما يشبه ثروة الخلفاء أو بيت المال في أيام الازدهار، كأن الأموال تحولت من بيت المال إلى بيوت هؤلاء الناس، وصارت الوزارة مطمح أنظار أهل المطامع، يبذلون الرشى ويقدمون الهدايا رغبة فيها، على أنها كثيرا ما كانت تعرض عرضا على من يقوم بنفقات الجند
136
ولكن الغالب أن تبذل الأموال في سبيل الحصول عليها إما رأسا إلى الخليفة، كما فعل ابن مقلة إذ بذل 500000 دينار حتى استوزره الراضي في أوائل القرن الرابع للهجرة، وكما فعل ابن جهير إذ ابتاع الوزارة من القائم بأمر الله بمبلغ 30000 دينار،
137
أو بواسطة واحد من خاصة الخلفاء يستخدمونه بالمال، وهم لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لاعتقادهم أنهم يسترجعون في أثناء وزارتهم أضعاف ما بذلوه، بما تصل إليه أيديهم من الرشوة، من تولية العمال والنظار والكتاب وغيرهم.
ومن غريب ما يحكى عن ارتشاء الوزراء أن الخاقاني وزير المقتدر بلغ من سوء سيرته في قبول الرشوة أنه ولى في يوم واحد تسعة عشر ناظرا للكوفة، وأخذ من كل واحد رشوة، فانحدروا واحدا واحدا حتى اجتمعوا جميعا في بعض الطريق، فقالوا: «كيف نصنع؟» فقال أحدهم: «ينبغي إن أردتم النصفة أن ينحدر إلى الكوفة آخرنا عهدا بالوزير، فهو الذي ولايته صحيحة؛ لأنه لم يأت بعده أحد.» فاتفقوا على ذلك فتوجه الرجل الأخير نحو الكوفة وعاد الباقون إلى الوزير ففرقهم في عدة أعمال، وهجاه بعض الشعراء بقوله:
وزير لا يمل من الرقاعه
يولي ثم يعزل بعد ساعه
ويدني من تعجل منه مال
ويبعد من توسل بالشفاعه
إذا أهل الرشى صاروا إليه
فأحظى القوم أوفرهم بضاعه
138
وكانت الأموال ترد على الوزراء من العمال وغيرهم من موظفي الدولة ضريبة في كل عام بصفة هدية استبقاء لرضاهم.
على أن بعضهم، وهو نادر، لم يكن يقبل الرشوة، ولا يعمل إلا بالحق، مثل عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل على الله فإنه كان عفيفا، ذكر الفخري أن صاحب مصر حمل إليه 200000 دينار وثلاثين سفطا من الثياب المصرية على عادته مع غيره من الوزراء، فلما أحضرت بين يديه قال لوكيل صاحب مصر: «لا والله لا أقبلها ولا أثقل عليه بذلك.» ثم فتح الأسفاط وأخذ منها منديلا وضعه تحت فخذه وأمر بالمال فحمل إلى خزانة الديوان وصحح بها وأخذ به دورا لصاحب مصر.
139
ومن الوزراء الذين اشتهروا بالعفة وصدق الخدمة علي بن عيسى وزير المقتدر، وهو صاحب جريدة الخراج التي نشرناها في هذا الجزء، ولا يخلو أن يكون غيرهم قد أخلص الخدمة، ولكن يقال بالإجمال إن الوزراء في عصر التقهقر العباسي قلما كانوا يتولون الوزارة إلا طمعا في اختزان الأموال، فإن أبا الحسن بن الفرات وزر للمقتدر ثلاث دفعات: الأولى سنة 296ه بقي فيها ثلاث سنين، فكان مقدار ما اجتمع عنده من المال يساوي 7000000 دينار أخذت كلها مصادرة، ثم عاد إلى الوزارة سنة 304، وخلع سنة 306، ثم عاد ثالثة سنة 311، وخلع سنة 312، فمجموع المدة التي مكث بها في الوزارة في الدفعتين الأخيرتين نحو ثلاث سنوات، فكان عنده لما خلع أخيرا ما يزيد على 10000000 دينار، وضياع يستغل منها كل سنة 2000000 دينار
140
ومع ذلك لم يذكره المؤرخون بسوء لفرط كرمه وإحسانه، وكان إذا ولي الوزارة يغلو الثلج والشمع والكاغد لكثرة استعماله له؛ لأنه ما كان يشرب أحد كائنا من كان في داره في الفصول الأربعة إلا الماء المثلوج، ولا كان أحد يخرج من عنده بعد الغروب إلا وبين يديه شمعة كبيرة نقية، وكان في داره حجرة معروفة بحجرة الكاغد كل من دخلها واحتاج إلى شيء منه أخذه
141
وكان يطلق لأصحاب الحديث عشرين ألف درهم، وللشعراء عشرين ألف درهم، ولأصحاب الأدب 20000 درهم، وللفقهاء 20000 درهم، وللصوفية 20000 درهم.
142
وكان يجري الرزق على خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوت والفقراء، وأكثرهم تبلغ نفقته 100 دينار في الشهر، وأقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك
143
فغطى الكرم طمعه، كما غطى طمع البرامكة قبله، وقطع ألسنة الشعراء وكسر أقلام المؤرخين.
وهناك كثيرون من الوزراء جمعوا أموالا طائلة، وانغمسوا في أنواع الترف والبذخ، وذلك طبيعي في الدول المنتظمة على الطرق القديمة؛ لأن الوزراء كانوا يجمعون الأموال الكثيرة حيثما كانوا في العراق أو في مصر أو الأندلس، فقد خلف المادرائي وزير بني طولون بمصر من الضياع الكبار ما لم يملكه أحد قبله إلا في النادر وارتفاعها 400000 دينار كل سنة سوى الخراج، وقد وهب وأعطى وأفضل وحج 27 حجة أنفق في كل منها 150000 دينار.
144
ويعقوب بن كلس أول وزراء الفاطميين كان في جملة أملاكه إقطاع في الشام دخله 300000 دينار في السنة، وخلف أملاكا وضياعا وقياسرة ورباعا وخيلا وبغالا ونوقا وغير ذلك ما قيمته 4000000 دينار، غير ما أنفقه في تجهيز ابنته وهو 200000 دينار، وخلف 800 حظية سوى جواري الخدمة، وأربعة آلاف غلام عرفوا بالطائفة الوزيرية
145
وخلف الأفضل أمير الجيوش وزير المستنصر الفاطمي ما لم يسمع بمثله وذلك 60000000 دينار عينا
146
و250 إردب دراهم من نقد مصر، و75000 ثوب ديباج أطلس، و30 راحلة إحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهر قيمته 12000، ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال في عشرة مجالس في كل مجلس عشرة مسامير، على كل مسمار منديل مشدود مذهب بلون من الألوان أيما أحب لبسه، و500 صندوق كسوة ما عدا الخيل والبغال والماشية والجواري والعبيد مما لا يحصيه عد.
147
وقس على ذلك أحوال الوزراء في الأندلس، فإن هدية الوزير ابن شهيد لعبد الرحمن الناصر سنة 327ه تدل على مقدار تلك الثروة، فقد أوردها ابن خلدون والمقري وفصلها هذا الأخير تفصيلا حسنا في ثلاث صفحات كبيرة.
148
وحدث نحو ذلك في الدولة العثمانية في إبان ثروتها وبعيدها، فكان الوزراء يقتنون الضياع الواسعة ويحتالون في استغلالها بأن يوقفوها على بعض المساجد بشرط أن يستولي ورثتهم على معظم ريعها ليخلصوا أنفسهم من خراجها أو عشورها.
149 •••
وأما الأبواب التي كان وزراء الدولة العباسية يتكسبون منها تلك الأموال فكثيرة، من جملتها قبول الرشوة في التوظيف كما تقدم، وما يرد عليهم من هدايا العمال للسبب نفسه، ومنها اغتصاب الضياع بما لهم من النفوذ فيستولون على ما شاءوا بغير حساب، ناهيك بما كانوا يمدون إليه أيديهم من أموال الخراج الواردة إلى الديوان، وقد تقدم أن طرق دفاتر تلك الأيام لم تكن تمنع الاختلاس أو تظهره.
ومن أبواب الكسب أيضا أن بعض الموظفين كانوا يحتاجون إلى رواتبهم، وهم مشغولون بما هم فيه من الخدمة، ولا سبيل لهم إلى المال، فكان بعض الوزراء يقيم من قبله أناسا يشترون توقيعات أرزاق أولئك الموظفين بنصف قيمتها، ثم يقبضها هو كاملة
150
وكانوا يفعلون نحو ذلك أيضا في رواتب الفقهاء وأرباب البيوت، فكأنهم يقاسمون الناس على أنصاف رواتبهم، وهو اتجار برواتب الموظفين، فضلا عن اتجارهم بالأرزاق وعما كانوا يكتسبونه ممن يضمن بلدا أو خراجا على سبيل الرشوة أو الاقتسام، وما كانوا يغتصبونه من التجار بنفوذهم وإغضاء الخلفاء عنهم
151
وكانوا يسمون ما يكتسبه الوزراء على هذه الصورة «مرافق الوزراء» وكانت مشهورة بين الناس، ومن مرافقهم أيضا تنقيص عيار النقود، فكانوا يضربون الدنانير ناقصة فيربحون من ذلك مالا طائلا.
152
تلك كانت حال الوزراء وفي أيديهم الحل والعقد، ومع ذلك فالخلفاء هم المطالبون بأرزاق الجند، وقد علمت ما كان من أمر الأتراك واستبدادهم بالخلفاء ومطالبتهم بالأموال لأرزاقهم ونفقاتهم، فلم يكن يرى الخلفاء سبيلا إلى ذلك إلا بمطالبة الوزراء، فإذا لم يدفعوا أخذوا المال منهم بالقوة وهو ما يعبرون عنه بالمصادرة، وكانت رائجة في عصر التقهقر، إذ لم يكن من سبيل إلى سد نفقات الدولة إلا بها، ولا يكاد يتولى وزير إلا انتهت وزارته بالمصادرة أو بالقتل أو بهما جميعا.
المصادرة
هي قديمة في الإسلام تتصل بعصر الراشدين، وكان العمال أول من وقعت عليهم المصادرات، فكانوا إذا اكتسبوا مالا من تجارة أو سبيل آخر غير مرتباتهم المفروضة أخذ الخلفاء نصفه وأضافوه إلى بيت المال، كذلك فعل عمر بن الخطاب بعماله على الكوفة والبصرة والبحرين
153
وكانوا يسمون ذلك مقاسمة أو مشاطرة، فلما أفضت الأمور إلى بني أمية وكان ما كان من استبداد عمالهم وطمعهم في أموال الجباية، أصبح الخلفاء في أواخر الدولة لا يعزلون عاملا من عمله إلا حاسبوه على ما عنده من المال، واستخرجوا ما تصل إليه أيديهم، وكانوا يسمون ذلك «استخراجا».
ولما تسنم العباسيون منصة الخلافة كان معظم العمال في أوائل الدولة من إخوتهم وأعمامهم، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى الاستخراج أو المقاسمة ولو ساءت سيرة بعضهم، ثم انتقلت الأعمال إلى رجال الدولة من غير أهلهم، فجنح العمال إلى الطمع والعنف في استخراج الأموال، فعمد الخلفاء إلى مصادرة أموالهم لاسترجاع ما استولوا عليه من غير وجه الحق.
حتى في أيام المنصور، فكان لا يعزل عاملا إلا قبض ماله وتركه في بيت مال مستقل سماه «بيت مال المظالم»،
154
وتكاثر تعدي العمال في أيام المهدي (سنة 158-169ه) فاضطر هذا الخليفة إلى النظر في المظالم، وما هي إلا مظالم العمال، ثم نظر فيها بعده الهادي فالرشيد فالمأمون إلى المهتدي في أواسط القرن الثالث.
ومما نبه الخلفاء إلى مظالم العمال أن الوزراء كانوا يباشرون الأعمال نيابة عن الخلفاء، وكان هؤلاء يستشيرونهم فيمن يولونه من العمال، فربما استمعوا إليهم وربما خالفوهم، وخصوصا البرامكة فإنهم كانوا إذا استشارهم الخليفة في ولاية عامل بينوا له ما يعلمونه من أمره، ويتركون الأمر للخليفة بعد ذلك يقضي فيه بما يريد، ومن هذا القبيل أن الرشيد استشار وزيره يحيى بن خالد في تولية علي بن عيسى بن ماهان على خراسان فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد وولاه إياها، فلما شخص علي إليها ظلم الناس وجمع مالا كثيرا ووجه إلى الرشيد هدايا من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال لم ير مثلها قط، فلما وصلت الهدايا إلى الرشيد أعجب بها وكان يحيى إلى جانبه فقال له الرشيد: «يا أبا علي، هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه فكان في خلافك البركة!» فقال: «يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فإني أحب أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى وفراسته أثقب وعلمه أكثر من علمي، إن لم يكن وراء ذلك ما يكره، إن هذه الهدايا ما اجتمعت لهذا العامل حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلما وتعديا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفيها الساعة من بعض تجار الكرخ.»
قال الرشيد: «وكيف ذلك؟» قال: «قد ساومنا عونا على السفط الذي جاء به من الجوهر فأعطيناه به 7000000 فأبى أن يبيعه، فابعث إليه الساعة بحاجبي يأمره أن يرده إلينا لنعيد فيه نظرنا، فإذا جاء به جحدناه وربحنا 7000000، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك.»
155
وفي كلام يحيى دليل صريح على ما كان يستطيعه الوزراء والعمال من جمع الأموال بلا حساب.
وقد رأيت أن الطمع تطرق إلى العمال، حتى في أيام الزهو العباسي، ولكن البرامكة أخلصوا المشورة فغلوا أيدي العمال عن الظلم، فلما نكب البرامكة كان فيمن جاء بعدهم من الوزراء المخلص وغير المخلص، فأطلقت أيدي العمال وأحرزوا الأموال لأنفسهم، وكانوا يسترضون الوزراء بالرشوة - كما تقدم - حتى استفحل أمرهم واكتنزوا الأموال الطائلة.
العمال
وغنى العمال ميسور في تلك العصور بالنظر إلى استقلالهم في إدارتهم وشؤونهم، وخصوصا عمل الاستيلاء الفوضوي في كل شيء، وأبواب الكسب عندهم كثيرة: منها أن العامل إذا جاء فأول شيء يتوقعه أن يحمل إليه الناس الهدايا، وفيها من الدواب والجواري والأموال والثياب ما يبلغ مقداره شيئا كثيرا
156
وقد يترك ذلك في مقابل ما يقدمه العمال من أمثال هذه الهدايا إلى الخليفة أو الوزير أو القهرمانة أو الكاتب أو الحاجب أو غيرهم من حاشية الخلفاء
157
على أنهم كانوا يكسبون من مصادر أخرى كالاتجار بأصناف البضائع والأخشاب وغيرها
158
ناهيك بما كانوا يخترعونه من صنوف الضرائب وتحصيل بعضها مرتين أو ثلاث مرات تبعا لما تقتضيه حاجتهم إلى المال في إرضاء الوزراء، أو لادخاره والانتفاع به عند الاعتزال من المنصب، ومن أوسع أبواب الضرائب كسبا لهم المكوس على التجارة، فقد ذكر المقدسي أن ثلث أموال تجار اليمن كان يذهب إلى السلطان
159
وكانوا يأخذون على حمل الحنطة هناك نصف دينار. •••
ومن أبواب الكسب للمال أن ينفق العامل على بناء بيت أو جسر أو على حفر ترعة أو نهر ألف دينار مثلا، ويطالب بعشرة آلاف أو مائة ألف، وربما قدروا ما ينفقون فيه عشرة دنانير بستين ألف دينار
160
فضلا عن اغتصاب الضياع وغيرها
161
وما قد يجتمع لهم من فروق الأموال التي يقبضونها من الخراج بين الفضة والذهب، فهل من عجب بعد ذلك إذا بلغت أموال محمد بن سليمان عامل الرشيد على البصرة 50000000 درهم، سوى الضياع والدور والمستغلات؟ وكان محمد هذا يغل كل يوم 100000 درهم
162
وبلغت أموال علي بن عيسى بن ماهان 80000000 درهم،
163
فلم ير الرشيد إلا الجنوح إلى الاستخراج وهو المصادرة.
وكان الغالب في بادئ الرأي أن يقبضوا أموال العمال بعد موتهم، كما فعلوا بمحمد بن سليمان المذكور، ثم صاروا يستخرجون أموالهم وهم أحياء كما فعل الرشيد بعلي بن عيسى، فإنه عزله واستصفى أمواله المذكورة، وحملها مع خزائنه وأثاثه على 1500 جمل، غير 20000000 درهم كان ابنه عيسى بن علي قد دفنها في بستان بداره في بلخ.
164
مصادرة الوزراء
على أن مصادرة العمال لم يطل أمرها لاستقلالهم بأعمالهم بعد قليل، فأصبح المطلوب منهم لبيت المال في الغالب مالا معينا في العام على سبيل الضمان ونحوه، وتحولت الثروة المغتصبة إلى الوزراء، وفسدت النيات فلم يجد الخلفاء سبيلا لسد عوز بيت المال إلا بمصادرتهم، وكان الخلفاء لا يرون في ذلك جورا ولا شدة لاعتبارهم ما في أيديهم مختلسا من حقوق بيت المال.
بدأت مصادرة الوزراء في الدولة العباسية من أولها، ولكنها كانت في أول الأمر على سبيل النكبة، والغرض منها الانتقام من الوزير لجريمة سياسية أو للتخلص منه لغرض آخر، ومن هذا القبيل مقتل أبي سلمة الخلال أول وزراء بني العباس، فبعد أن أيد دعوتهم بأمواله كما أيدها أبو مسلم الخراساني بسيفه وشي إلى السفاح أنه ينوي إخراج الدولة من أيديهم، فأوعز إلى أبي مسلم فقتله، ثم أصاب أبا مسلم من المنصور مثل تلك النكبة، ويقال نحو ذلك في نكبة البرامكة في أيام الرشيد، والفضل بن مروان في أيام المعتصم، وفي نكبة الفضل هذا رغبة في قبض أمواله؛ لأن المعتصم نكبه سنة 221ه وأخذ من داره 1000000 دينار، وأثاثا وآنية قيمتها 1000000 دينار
165
ولما تمكن الاضمحلال من الدولة صار الغرض من مصادرة الوزراء مجرد الاستحواذ على أموالهم. •••
وبلغت المصادرة معظمها في أيام المقتدر (سنة 295-320ه)؛ لأن الوزراء استخفوا به لصغر سنه وأفضى تدبير الأمور في صدر أيامه إلى أمه ونسائه وخدمه، فكانت دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم، فخربت الدنيا وخلت بيوت الأموال وخلع وأعيد ثم قتل
166
وكثر تبديل الوزراء في أيامه وكثرت مصادراتهم، وأولهم ابن الفرات، وزر له ثلاث مرات، وقد تقدم ذكر ما احتشده من الأموال وقد صودر، فأخذت كلها منه، وخلفه الخاقاني وكان سيئ السيرة - كما تقدم - ثم علي بن عيسى، وكان فاضلا ورعا حاول إصلاح الأمور فلم يستطع لتمكن الفساد من عروق الدولة ثم حامد بن عباس وكان قاسي القلب في استخراج الأموال.
ووزر له أبو علي محمد بن عبيد الله الخاقاني وأحمد بن عبيد الله أحمد بن الخصيب، ومحمد بن علي بن مقلة صاحب الخط الحسن المشهور، وسليمان بن الحسن بن مخلد، وعبيد الله بن محمد الكلوذاتي، والحسين بن القسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب
167
وما من وزير إلا وقبض أو صودر فأخذت أمواله وسجن أو قتل، وكثرت المصادرات في أيام المقتدر لغير الوزراء حتى القضاة والنساء والخدم، وربما زاد مجموع ما قبضه من المصادرة على 40000000 دينار، على أنهم قدروا جملة ما أنفقه من الأموال تبذيرا وتضييعا في غير وجه نيفا و70000000 دينار، سوى ما أنفقه في الأمور غير الواجبة
168
وقس على ذلك أحوال سائر الوزراء.
فأصبحت المصادرة بتوالي الأيام المرجع الرئيسي في تحصيل المال، فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، على أن الخلفاء لم يكونوا يعمدون إلى المصادرة إلا عند حاجتهم إلى المال لأرزاق الجند أو لغيرها من نفقات الدولة، كما تعمد دول أوربا اليوم إلى عقد القروض لسد ما يعرض لها من النفقات اللازمة لحرب أو مشروع كبير.
وكان الخلفاء يعتبرون أموال أولئك الوزراء أو العمال حقا لبيت المال قد اغتصبوه، فاسترجاعه لا يعد جورا أو إجحافا، وقد نجاهم ذلك من أثقال الدين الأهلي الذي تئن تحت عبئه معظم دول العالم المتمدن اليوم، فيذهب نحو ربع دخلها أو ثلثه في وفائه أو استهلاكه، وتضطر إلى استنباط الضرائب من أجل ذلك حتى أصبحت تلك الدول - وخصوصا إنجلترا - تكلف الناس جعلا على كل عمل يرجون به كسبا.
الكتاب
وهناك فئات أخرى من موظفي الدولة كانوا يستأثرون بأموالها، ومنهم كتاب الخراج ويهون ذلك عليهم؛ لأنهم يباشرون مصادر الجباية رأسا.
وقد كانوا يطمعون في تلك الأموال في أيام بني أمية فما بعدها، ولكنهم لم يشع أمرهم ويخش شرهم إلا في عصر التقهقر العباسي، فأمر الواثق سنة 229ه بحبس الكتاب وإلزامهم مالا كثيرا استخرجه منهم بالعنف
169
وفعل نحو ذلك المعتز سنة 255ه،
170
ومن الكتاب الذين اشتهروا بالغنى من مهنة الكتابة بيت المادرائي بمصر .
171
ولم يكن الغنى خاصا بكتاب الدواوين، بل كان يتناول كل كاتب من كتاب أهل الخلفاء وغيرهم، وكانت أكثر أموالهم تؤخذ بالرشوة والاختلاس، حتى اشتهروا بالظلم كما اشتهر الوزراء، وهجاهم الشعراء كما هجوا هؤلاء، من ذلك قول بعضهم وهو يمدح أحد الأمراء بالحزم والسهر على مصلحة الدولة:
هو ما علمت من الأمير فما الذي
تزداد منه وفيه لا يرتاب
لا تتقي الأجناد في أيامه
فقرا ولا يرجو الغنى الكتاب
وقال ابن حبيبات الشاعر الكوفي يهجو الوزير والكاتب معا:
ونجا خالد بن برمك منها
إذ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالا لديهم
من تسمى بكاتب أو وزير
172
وكان من أبواب الكسب عند الكتاب ارتشاؤهم للتوسط في تولية العمال أو سواهم، كما فعل أحمد بن أبي خالد الأحول كاتب المأمون في توسطه لدى المأمون بتولية طاهر بن الحسين خراسان، وقد شرط له على نجاحه في ذلك 3000000 درهم
173
وكان كتاب الدواوين في الولايات يشاركون العمال فيما يأتيهم من الهدايا، أو من الرشوة وقد يقاسمونهم على النصف.
174
الحجاب
وكانت ثروة المملكة عرضة لمطامع كل من كانت له دالة أو وساطة لدى ولاة الأمر، وخصوصا الحجاب الذين يقفون بأبواب الخلفاء فإنهم من أكثر الناس دالة عليهم، فكانوا كثيرا ما يستخدمون تلك الدالة واكتساب الأموال من تقديم الداخلين أو تأخيرهم والإذن لهم أو منعهم، فكانوا يرتشون للتعجيل في الإذن بالدخول على الخلفاء، وكان ذلك شأنهم حتى في عصر الراشدين، قال المغيرة بن شعبة: «ربما عرق الدرهم في يدي أرفعه ليسهل إذني على عمر.»
175
وكثيرا ما كانوا يتوسطون في تولية المناصب بالرشوة، كما توسط الربيع حاجب المنصور ليعقوب بن داود بمنصب الوزارة برشوة مقدارها 100000 دينار،
176
ويقال نحو ذلك في كل من يتوفق إلى دالة على الخليفة أو الأمير ولو كان خادما. (3) الخلاصة
وخلاصة ما تقدم أن الدولة العباسية لما غلب الجند على أمرها واستبد قواد الأتراك بها، تحولت ثروتها من بيت مالها إلى أيدي رجالها ممن ينوبون عن الخليفة أو يتوسطون بينه وبين الرعايا، كالعمال، والوزراء، والكتاب ، والحجاب، ونحوهم، وأصبح الخلفاء لا يستطيعون استبقاء حكومتهم إلا باغتصاب أموال أولئك الموظفين، فكانوا كالذي يغتذي بأكل لحمه فآل ذلك إلى انحلال أمر الخلافة بعد أن بلغت غاية الضعف.
وقد يتبادر إلى الأذهان أن لثقل الضرائب دخلا كبيرا في سقوط الدولة العباسية، وقد رأيت أن الضرائب كانت ثقيلة في عصر الازدهار العباسي، عصر الثروة والعلم، ولم يكن الناس يشكون ثقلا، بل ساءت حالهم منذ خفضت الضرائب، ولم يكن ذلك لأن تخفيض الضرائب يسوء الناس، ولكن تخفيضها في تلك الأيام قلل مصادر الثروة الواردة إلى بيت المال فزادت حاجة أصحاب المطامع من رجال الدولة، وكانت الأحوال قد اختلت بفساد النيات للأسباب التي ذكرناها، فزال الأمن واختل النظام العام، فتقاعد الناس عن العمل وقلت إيراداتهم وعجزوا عن إشباع مطامع رجال الدولة، فعمد هؤلاء إلى العنف في استخراج الأموال، فتعاظم الاضطراب وتضاعف الضيق في الناس حتى سئموا الحياة في دولة لا يأمنون فيها على أرواحهم ولا أموالهم.
ولو كانت كثرة الضرائب تخرب المماليك لكانت إنجلترا من أقرب الدول إلى الخراب؛ لما فيها من أصناف الضرائب التي لم يحلم بها العرب ولا خطرت ببالهم؛ لأنها فضلا عن ضرائبها على المحصولات والواردات على اختلاف أصنافها، تقاسم الناس أرباحهم فتأخذ ضريبة على الإيراد وجعلا على أية مهنة يريد الناس تعاطيها حتى المحاماة والطب في مقابل الإذن لهم في الاشتغال بها، والجعل المذكور ثقيل يختلف فيمن ينال أية رتبة من رتب القضاء من خمسين جنيها إلى عشرين، وقس على ذلك رسوم الأطباء والصيادلة والمحامين حتى الخطباء والوعاظ، وهناك ضرائب أخرى على معاملات المصارف وعلى أوراقها وعقودها وعلى الزواج والطلاق، وغير ذلك فيجتمع لها من هذه الرسوم أموال كثيرة.
وأما ضرائب الإيراد عند الإنجليز فإنها تشمل كل عمل يتكسب منه الناس حتى الوعاظ والخطباء، فكيف بأصناف التجارات والصنائع والبنوك وغيرها؟ والدولة الإنجليزية كلما احتاجت إلى مال عدلت ميزانيتها بزيادة الضرائب وخصوصا على الإيراد، وأكثر ما تكون حاجتها إلى المال في حالة الحرب كما فعلت بميزانية سنة 1901 في أثناء حرب الترنسفال، فقد قدرت دخلها لذلك العام بمبلغ 117000000 جنيه، وخرجها بمبلغ 154000000، والفرق بينهما 37000000 سددت معظمه بزيادة الضرائب، وكانت ضريبة الإيراد ثمانية بنسات على الجنيه أي نحو 3 وثلث في المائة، فجعلتها شلنا في كل جنيه أي خمسة في المائة، فكان مقدار ما اجتمع لها من تلك الزيادة نحو 9000000 جنيه، وفرضت ضريبة إضافية على البيرة بلغت حصيلتها 1752000 جنيه، وضريبة على سائر الخمور حصيلتها 1015000 جنيه، وعلى التبغ 1100000، وعلى الشاي 1800000جنيه وغير ذلك، فلما انقضت الحرب عمدت الحكومة إلى رفع تلك الإضافات، فخفضت ضريبة الإيراد أربعة بنسات أي أنها أرجعتها إلى ما كانت عليه، فقلت حصيلة الحكومة من الإيراد 8500000 جنيه، وخفضت أيضا ضرائب القمح وغيره.
وجملة القول أن إنجلترا مع كثرة ضرائبها وما أثقل كاهلها من الديون، فإنها تعد من أثبت الدول قدما وأوفرها ثروة، فتخفيض الضرائب لا شك أنه رحمة للناس، ولكن زيادتها لا تدعو إلى الخراب، وإنما يدعو إلى خراب الممالك «الظلم»؛ فإنه يقوض أركان الدول بما يدعو إليه من تقييد الأيدي عن العمل فيقعد الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ولا مال إلا إذا اشتغل هؤلاء، ولذلك قالوا: «العدل أساس الملك!» •••
فالدولة العباسية لما أصبحت بعد المعتصم غنيمة للأجناد الغرباء يحملون أموالها إلى بلادهم، وأصبح الوزراء والعمال إنما يعملون لحشد الأموال، وأمسى الخليفة لا سلطان له حتى في قصره، وبين غلمانه وجواريه، تجمعت تلك الأثقال على رؤوس الرعية؛ لأن الجباية منهم، فطالبوهم بها بدون أن يساعدوهم على استغلالها فساءت حالهم كما علمت، أما دول هذه الأيام فأساس نظامها الحرية الشخصية، والمبادئ الاقتصادية، فلا يطالب أحد من الناس إلا بما يقتنع هو أنه حق صريح، وإلا فإنه يتظلم وظلامته مسموعة، وسنعود إلى هذا البحث في بعض الأجزاء التالية.
هوامش
ثروة المملكة العباسية أي البلاد وأهلها
فرغنا من الكلام في ثروة الدولة (الحكومة) العباسية ورجالها، وبقي علينا النظر في ثروة المملكة، وهي البلاد بما فيها من الناس على اختلاف طبقاتهم من أهل التجارة والزراعة والصناعة وغيرهم، وكانت البلاد قسمين: المدن ، والقرى. (1) المدن
كانت المدنية محصورة في المدن دون القرى عملا بقاعدة التمدن في تلك الأيام، وهي أن تكون الثروة والأبهة حيثما يكون ولاة الأمر، ومن يلوذ بهم، من الخليفة وآل بيته فرجال بلاطه فعماله ووزرائه، وهؤلاء كانوا يقيمون في المدن وخصوصا العواصم، ولذلك عمرت بغداد والبصرة ودمشق والفسطاط والقاهرة والقيروان وقرطبة وغرناطة ونحوها، وظلت القرى والضياع مغارس لا عمارة فيها، ولا تكاد تجد أثرا من آثار ذلك التمدن في غير المدن.
ففي هذه المدن فاضت ينابيع الثروة الإسلامية، وعاش الناس في الرخاء والرغد بجوار الخليفة ورجال دولته، ينالون جوائزهم وهداياهم ويبيعونهم السلع والجواهر، والأقمشة وما إليها، وفي هذه المدن كان يجتمع العلماء والشعراء والمغنون والندماء يتعيشون بما يجود به الخليفة أو أمراؤه أو رجال دولته.
ويمثل طبقات الناس في تلك الأيام قول الفضل بن يحيى: «الناس أربع طبقات: ملوك قدمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعلية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء، لكع ولكاع، وربيطة اتضاع ... هم أحدهم طعمه ونومه!»
1
وقد جعل ابن خلدون عطاء السلطان أصل ثروة المملكة، وعلة كثرة جبايتها، لاعتباره أن الدولة أو السلطان السوق الأعظم للعالم ومنها مادة العمران، قال: «فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها، قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية، وانقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم، وقلت نفقاتهم جملة، وهم معظم السواد، ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم، فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك؛ لأن الخراج والجباية إنما يكونان من الاعتمار، والمعاملات، ونفاق الأسواق، وطلب الناس للفوائد والأرباح، ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج، فإن الدولة كما قلنا هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرج، فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه.» ا.ه.
فالمدن الإسلامية كانت مؤلفة من: الملوك وهم الأصل، ثم رجال الدولة، وإنما يكونون كذلك؛ لأن الملوك يختارونهم لفطنتهم، ثم الأغنياء، وأخيرا الأوساط، وهم جمهور الناس ويكونون كما يشاء أولئك، وذلك يخالف حال الهيئة الاجتماعية في هذا العصر، عصر الحرية الشخصية، فالناس فيه مستقلون بأعمالهم كل منهم يعد نفسه عضوا من أعضاء ذلك المجتمع لا يستغنى عنه، سواء كان صانعا أو كاتبا أو تاجرا أو موظفا.
أما في العصر العباسي فقد كان أهل المدن عالة على الخلفاء والأمراء فتحوم آمالهم حولهم، يلتقطون ما يجودون به عليهم، وهؤلاء إنما يجودون بما يصل إليهم من أموال الجباية، فإذا كثرت أكثروا وإذا قلت أقلوا، والجباية من الخراج، والخراج على الأرض، والأرض إنما يعمل بها الفلاحون وهي القرى، فالثروة العباسية مصدرها من القرى وتجمع من عرق الفلاحين، والفلاح أساس الثروة في كل العصور، وخصوصا في البلاد الزراعية، وهو في الغالب أقل الناس حظا منها، وخصوصا في عهد التمدن القديم أو ما نسج على منواله، إذ كانت الثروة والقوة في أيدي فئة الحكام أو من ينوب عنهم أو ينتمي إليهم، ويبقى سائر الناس أعوانا أو أتباعا أو خدما أو عبيدا، يشتغلون إما بالصناعة لصنع ما قد يحتاج إليه أولئك من أصناف الأبنية والألبسة والأثاث والمجوهرات أو لخدمتهم في قصورهم بالتطبيب أو الكتابة أو لإمتاع سمعهم وبصرهم بالغناء والعزف أو لترطيب قلوبهم بالنظم والنثر ونحوهما، وإما بالفلاحة في الأرض واستغلالها، والفلاحون هم الفئة الكبرى من الناس في كل زمان، وسنفصل ذلك في الجزء المختص بالآداب الاجتماعية من هذا الكتاب.
فالثروة في المدن تابعة لثروة الحكومة أو رجالها للأسباب التي قدمناها، فلما كان بلاط الرشيد غاصا بالوفود وبيت ماله حافلا بالنقود والبرامكة يبذلون المئات والألوف، كان تجار بغداد في نعمة وثروة وخصوصا باعة المجوهرات والرياش؛ لأنها مما تتطلبه المدنية في عهد الترف والبذخ، فقد رأيت في بعض ما تقدم أن جوهريا بالكرخ في بغداد ساومه يحيى البرمكي على سفط من الجوهر بمبلغ 7000000 درهم فلم يبعه
2
وهو جزء مما في حانوته، فما قولك بسائر ما فيه؟ وهناك جوهري آخر يقال له ابن الجصاص صادره الخليفة المقتدر سنة 302ه، فكان ما أخذوه من بيته من صنوف الأموال تزيد قيمته على 20000000 دينار
3
وكان في بغداد شريف يسمى محمد بن عمر بلغ خراج أملاكه 2500000 درهم في السنة،
4
وقس على ذلك سائر التجارات في بغداد وغيرها، فقد كان في إصطخر بيت ينتسب إلى آل حنظلة أحدهم عمرو بن عيينة بلغ من يساره أنه ابتاع بمليون درهم مصاحف فرقها في مدن الإسلام، وكان مبلغ خراج هذا البيت من ضياعهم نحو 10000000 درهم، ومنهم مرداس بن عمر كان خراج ماله 3000000 وابن عمه محمد بن واصل ملكه مثل ملكه
5
وكان في سيراف تجار واسعو الثروة يزيد مال أحدهم على 60000000 درهم اكتسبها من تجارة البحر من العود والكافور والعنبر والجواهر والخيزران والعاج والأبنوس والفلفل وغيرها،
6
ومنهم من يبني دارا فينفق على بنائها 30000 دينار
7
وأوصى أحدهم بثلث ماله لعمل فبلغ 1000000 دينار بين مركب قائم بنفسه وآلته،
8
وأمثال ذلك كثير في معظم مدن المشرق.
وقس عليه ثروة كل من خالط الخلفاء ونال جوائزهم، أو خدمهم في بلاطهم في إبان ثروتهم غير الوزراء والكتاب والعمال، فإنهم جمعوا أموالا طائلة حتى المغنون والشعراء، فقد توفي إبراهيم الموصلي مغني الرشيد عن ثروة مقدارها 24000000 درهم
9
وتوفي جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد وخلف ما يساوي 90000000 درهم من ضياع وجواهر ونقود كما تقدم.
واعتبر ذلك في سائر البلاد والأحوال، فتجد الثروة كانت في الغالب عند الخلفاء، أو من ينتمي إليهم، حتى التجار فإنهم إنما كانوا يأمنون على ثروتهم بالانتماء إلى أولي الأمر. (2) القرى
أما القرى فقد كان سكانها الفلاحين من أهل البلاد الأصليين، ويسمونهم «أهل الخراج»، فهؤلاء يعملون بالأجرة أو شركاء لأصحاب الأملاك من الخلفاء أو الأمراء، أو من ينتمي إليهم من الأعيان، وخصوصا الدهاقين في العراق وفارس، وهم أصحاب الإقطاعات الكبرى قبل الإسلام.
فلما كان الإسلام تقرب أولئك الدهاقين من الحكومة بأموالهم
10
ونفوذهم في أهل بلادهم، ويندر أن يكون للفلاحين ملك خاص بهم لأسباب تقدم بيانها.
فسكان القرى هم الفلاحون ومن يجري مجراهم، وكانوا يقنعون بالحصول على ما يقوم بأود حياتهم، ويغلب فيهم الفقر المدقع، وربما كان بينهم من لم ير الدينار طول عمره، فكان أهل الدولة في المدن يبذلون الدنانير جزافا ويهبونها مئات وآلافا، وأهل القرى في فقر مدقع لو رأى أحدهم الدينار لقبله مثنى وثلاث، ولو دفعت إليه عشرة دنانير أو عشرين لأصابه خبل أو مات لساعته، كما اتفق للصياد بين يدي ابن طولون أمير مصر في أواسط القرن الثالث للهجرة، وهو مشهور بكرمه وبذخه، بما أنشأه من القصور والغياض والإصطبلات، وكان ينفق كل شهر ألف دينار على القراء، وهو الذي جاء وكيله يوما وقال: «إني تأتيني المرأة وعليها الإزاز وفي يدها خاتم الذهب فتطلب مني فأعطيها.» فقال له: «من مد يده إليك فأعطه.»
11
ومع ذلك فإن هذا الأمير نفسه ركب في غداة باردة إلى جهات المقس بجوار الفسطاط، فأصاب بشاطئ النيل صيادا عليه خلق لا يواري منه شيئا، ومعه صبي في مثل حاله وقد ألقى الشبكة في البحر، فلما رآه ابن طولون رق لحاله وقال: «يا نسيم ادفع إلى هذا عشرين دينارا.» فدفعها إليه ولحق ابن طولون، فسار ولم يبعد ورجع فوجد الصياد ميتا والصبي يبكي ويصيح، فظن ابن طولون أن بعض سودانه قتله وأخذ الدنانير منه، فوقف بنفسه عليه وسأل الصبي عن أبيه فقال له الغلام: «هذا (وأشار إلى نسيم الخادم) دفع إلى أبي شيئا فلم يزل يقلبه حتى وقع ميتا.» فقال: «فتشه يا نسيم.» فنزل وفتشه فوجد الدنانير معه بحالها، فحرض الصبي أن يأخذها فأبى وقال: «هذه قتلت أبي وإن أخذتها قتلتني!» فأحضر ابن طولون قاضي المقس وشيوخه وأمرهم أن يشتروا للصبي دارا بخمسمائة دينار تكون لها غلة وأن تحبس عليه وكتب اسمه من أصحاب الجرايات وقال: «أنا قتلت أباه؛ لأن الغنى يحتاج إلى تدريج وإلا قتل صاحبه، هذا كان يجب أن يدفع إليه دينار بعد دينار حتى تأتيه هذه الجملة على تفرقة فلا تكثر في عينيه.»
12
فإذا كان هذا حال رجل من أهل ضواحي العاصمة، فكيف بأهل القرى البعيدين عن ترف الدولة وبذخها وجراياتها ووظائفها؟ (3) المدن الإسلامية
نريد بالمدن الإسلامية ما بناه المسلمون من المدن لأنفسهم، وهي غير ما افتتحوه من مدائن الروم والفرس، والمدن الإسلامية عديدة في العراق والشام ومصر وإفريقية والأندلس وغيرها، ومنها ما لم يزل عامرا إلى اليوم كالبصرة وبغداد والقاهرة، ومنها ما انقرض وعفت آثاره كالفسطاط بمصر والزهراء بالأندلس وسنذكر أشهرها ونصف ما بلغ إليه عمرانها في إبان التمدن الإسلامي تتمة لموضوع هذا الجزء، ولكننا نقول قبل ذلك كلمة إجمالية فيما حمل العرب أو المسلمين على إنشاء تلك المدن:
كان المسلمون في صدر الإسلام عربا أهل خيام وماشية وخيل، يكرهون الإقامة داخل الأسوار وينفرون من الانحصار في المدن، فلما تأيد الإسلام واجتمع العرب على فتح الأمصار في العراق والشام ومصر، كانوا في بادئ الرأي إذا ساروا إلى غزو أو فتح اصطحبوا نساءهم وعيالهم، فإذا فتحوا بلدا أقاموا في ضواحيه بخيامهم وأخبيتهم، وجعلوا هذا الموضع معسكرهم، وكان عمر بن الخطاب يشترط على جنده المقيمين في الأمصار ألا يقيموا في مكان يحول الماء فيه بينهم وبينه، حتى إذا أراد أن يركب راحلته إليهم ركب، كذلك فعل عمرو بن العاص في الفسطاط، وسعد بن أبي وقاص في الكوفة والبصرة، وكانت كلها مضارب لجند العرب الفاتحين يعبرون عنها بالرابطة أو المعسكر، فإذا طال بهم المقام اختطوا الأسواق وبنوا المنازل والقصور، ذلك كان شأنهم في صدر الإسلام فبنوا البصرة والكوفة والفسطاط على هذه الصورة.
فلما ضخم ملك العرب وتعددت دول المسلمين صاروا يختطون المدن تثبيتا لفتوحهم كما فعل عقبة بن نافع عندما اختط القيروان في إفريقية (تونس الحالية) تثبيتا للفتح الإسلامي لهذه الناحية، أو تحصنا بها من أعدائهم كما فعل المنصور باختطاطه بغداد فإنه بناها حصنا له، وكذلك فعل الفاطميون بالقاهرة، وكثيرا ما كان الخلفاء يبنون المدن للتنزه بها والابتعاد عن الغوغاء، مثل سامرا والمتوكلية والزهراء وغيرها مما يطول بنا إيراده، فلنأت إلى وصف أشهر المدن الإسلامية في إبان ثروتها.
كثيرا ما وصف المؤرخون المسلمون المدن الإسلامية، كما يصف السائحون اليوم ما يزورونه من المدن العظمى، ولكنهم لم يذكروا عدد سكان تلك المدن أو مساحتها إلا نادرا، وإنما كان همهم تعداد ما في تلك المدن من الجوامع والحمامات، والغالب أن يبالغوا في ذلك إلى ما يتجاوز طور التصديق كما سترى، وإليك وصف أشهر المدائن الإسلامية مرتبة باعتبار قدمها: (3-1) البصرة
هي من أقدم المدن التي بناها المسلمون أو هي أقدمها، ولا تزال باقية إلى الآن، مصرها عتبة بن غزوان سنة 16 للهجرة
13
وقد اتخذها العرب في بادئ الأمر معسكرا في مكان لا يحول الماء بينه وبين مكة، فكان من البصرة على الضفة الغربية للفرات إلى مكة رمال وجبال وسهول لا يفصل بينهما نهر، وبنوها أولا بالقصب ثم خافوا الحريق فبنوها باللبن بإذن عمر - كما سيأتي في الكلام عن الكوفة - وجعلوا المدينة خططا بحسب القبائل لكل قبيلة خطة، وجعلوا عرض شارعها الأعظم ستين ذراعا، وهو مربدها، وعرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، ووسط كل خطة رحبة فسيحة لمرابط خيولهم وقبور موتاهم، وتلاصقوا بالمنازل
14
ونظرا لموقعها التجاري فرضة للعراق ووسطا بين الشام وفارس، أسرع إليها العمران واتخذتها الحكومة مقرا لإمارة العراق في أيام بني أمية فعمرت البصرة في أيامهم واتسعت عمارتها، حتى بلغت مساحتها في إمارة خالد بن عبد الله (القسري) فرسخين في فرسخين أي 36 ميلا مربعا في أرض منبسطة لا جبال فيها، وذلك أوسع من مدينة القاهرة مع زيادة عمارتها اليوم (سنة 1903).
وكثرت ثروة البصرة في أيام العباسيين لاجتماع التجار فيها، وتجاراتهم تمتد شرقا إلى الهند والصين، وغربا إلى أقصى بلاد المغرب، وجنوبا إلى الحبشة، وكانت السفن ترسو في ميناها وتحمل أصناف التجارات من الأقمشة والأطياب وغيرها، وتكاثرت الثروة فيها بتكاثر الناس القادمين إليها للاتجار أو الإقامة، فابتنوا فيها القصور والحدائق وأنشأوا الميادين والبرك، قال ابن حوقل: «وهي موصوفة بالمجالس الحسنة، والمناظر الأنيقة، والميادين العجيبة، والفواكه البديعة، والبرك الفسيحة، لا تخلو من المتنزهين، ولا تعرى من المتطرقين منحدرين ومصعدين ...»
وكانت مياه البصرة مرسى مئات من السفن التجارية، وقد ذكرنا في مكان آخر مقدار ما كانت الحكومة تجبيه من تاجر واحد من تجارها وهو نحو 100000 دينار في العام، فقس عليهم التجار الآخرين وفيهم الكبير والصغير.
واشتهر أهل البصرة بالأسفار التجارية إلى كل الجهات، حتى ضرب المثل في ذلك فقالوا: «وأبعد الناس نجعة في الكسب بصري وخوزي، ومن دخل فرغانة (في الشرق) والسوس الأقصى (في الغرب)، فلا بد من أن يرى بها بصريا أو خوزيا (من أهل خوزستان) أو حيريا (من أهل الحيرة).»
15
وشأنهم في ذلك شأن السوريين اليوم، أو هو دأبهم من عهد الفينيقيين.
وقد نقلنا في الجزء الأول من هذا الكتاب ما قاله الإصطخري عن سعة مدينة البصرة وعدد أنهارها على أيام بلال بن أبي بردة (سنة 118ه)
16
وأنها زادت على 120000 نهر، تجري بها الزوارق، وأن الإصطخري نفسه شك في صحة هذا العدد كما يشك كل من يقرأه، فذهب بنفسه لمشاهدة المكان في القرن الرابع للهجرة فلما عاينه قال: «وقد كنت أنكر ما ذكر من هذه الأنهار في أيام بلال حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددا من الأنهار صغارا تجري في كلها زوارق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها، فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها.» وقال نفس هذا القول ابن حوقل في عرض كلامه عن البصرة،
17
ومع ذلك ما زلنا نستكبر هذا العدد حتى رأينا عالما دقيق الملاحظة أقام في البصرة أعواما طوالا وخبر أرضها فذكرنا له ذلك فهون علينا تصديقه بما بينه لنا من سعة البصرة في تلك الأيام وحفر الأنهار، وإمكان اشتباكها بحيث تتحول إلى مجار قصيرة هم يسمون كلا منها نهرا، ويؤيد ذلك أنهم لا يريدون بالبصرة المدينة فقط التي ذكرنا أن مساحتها 36 ميلا مربعا، وإنما يضمون إليها ما يتبعها من المغارس إلى عبادان عند بحر فارس، مع ما كانت عليه من الخصب وكثرة الفرس، قال ابن حوقل والإصطخري: «ولها نخيل متصلة من عبدسي إلى عبادان نيفا وخمسين فرسخا متصلة لا يكون الإنسان بمكان منها إلا وهو في نهر ونخيل أو يكون بحيث يراها.» فاعتبر هذه المسافة طولا في مثل نصفها عرضا على الأقل أي 150 ميلا في 75 وذلك 11250 ميلا مربعا، فيعقل أن يكون في الميل الواحد عشر ترع صغيرة، والله أعلم. (3-2) الكوفة
بنيت الكوفة بعد البصرة ببضعة أشهر؛ بناها سعد بن أبي وقاص، ويقال في سبب بنائها إن سعدا بعد أن فتح العراق وتغلب على الفرس نزل في عاصمتهم المدائن، ثم بعث إلى الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة وفدا يخبره بذلك الفتح، فلما وصل الوفد إلى عمر رأى ألوانهم قد تغيرت وحالهم قد تبدلت، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: «وخومة البلاد غيرتنا.» فأمرهم أن يرتادوا منزلا ينزلون فيه المسلمين؛ لأن العرب لا يوافقهم من البلاد إلا ما يوافق إبلهم، وكتب إلى سعد: «ابعث سليمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.»
18
ففعل سعد ذلك فاختاروا مكانا وراء الفرات وبينه وبين الحيرة، وبنوها أولا بالقصب كما بنوا البصرة ففعلوا ذلك لتكون المنازل قريبة من الخيام فأحرقت، فاستأذنوا عمر في البناء باللبن فأجابهم إلى ذلك على شرط ألا يزيد أحدهم على ثلاثة أبيات ولا يطاولوها، وكان للكوفة شأن كبير عند الشيعة؛ لأن الإمام عليا جعلها عاصمة ملكه إلى أن قتل. (3-3) الفسطاط
هي أول مدن المسلمين في القطر المصري، بناها عمرو بن العاص سنة 18 للهجرة، فيما بين القاهرة اليوم ومصر العتيقة، ومن بقاياها جامع عمرو والأطلال والخرائب حوله إلى المقطم، وكان ذلك المكان معسكرا للعرب لما جاءوا لفتح حصن بابليون، وهو المعروف اليوم بدير النصارى أو دير مار جرجس بمصر العتيقة، فلما فتحوه ساروا إلى الإسكندرية لفتحها، فأمر عمرو بنزع فسطاطه (أي خيمته) فإذا فيه يمام قد فرخ فأخبروا عمرا بذلك فقال: «لقد تحرم بنا بمتحرم.» فأمر بالفسطاط فأقر كما كان وأوصى به من بقي هناك من القبط، وسار بجنده حتى نزل الإسكندرية وفتحها وكتب إلى الخليفة عمر بالمدينة يخبره بذلك ويستشيره في السكنى فيها، فسأل عمر الرسول الذي أرسله عمرو: «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل.» فكتب إلى عمرو: «إني لا أحب أن تنزل المسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم شتاء ولا صيفا، فمتى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت.»
19
فاستخلف عمرو في الإسكندرية حامية وأمر فشدت الرحال إلى حصن بابليون، فلما بلغوا فسطاط الأمير رأوه لا يزال منصوبا وفيه الطيور، فنزلوا فيه وجعلوا تلك الخيمة مركزا لمعسكرهم، ودعوا ذلك المكان من ذلك اليوم بالفسطاط، ثم انضمت القبائل بعضها إلى بعض وأخذوا في بناء البيوت لسكنى الجيوش، فاختط عمرو مدينة شمالي الحصن دعاها الفسطاط، فيها نحو عشرين حارة دعاها خططا، وأقام أربعة من كبار رجاله ينزلون الناس في الخطط المذكورة بحسب أحزابهم وقبائلهم.
ثم أخذت الفسطاط تتسع وتزداد عمارة كلما رسخت قدم المسلمين في البلاد وتوطد سلطانهم حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه.
وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال
20
وذكر مؤرخو العرب عن مقدار عمارتها أنه كان فيها 36000 مسجد، و8000 شارع مسلوك، و1170 حماما، وقد يستبعد ذلك، ولكن إيراده يدل في كل حال على العظمة والعمران، ومما نظمه الشعراء في مدحها قول الشريف العقيلي:
أحن إلى الفسطاط شوقا وإنني
لأدعو لها ألا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لجنابها
وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدت عروسا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر
21
وبلغ من تزاحم الناس في الفسطاط أن جعلوا المنازل طبقات عديدة بلغ بعضها خمس طبقات إلى سبع، وربما سكن في البيت الواحد 200 من الناس، وبلغت نفقة البناء على بعضها 700000 وهي دار الحرم لخمارويه.
22
واشتهر من تلك الأبنية دار ضرب المثل بعظمتها وغنى أهلها تسمى «دار عبد العزيز»، كانت مطلة على النيل، بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم، ونقل بعضهم أن الأسطال التي كانت بالطاقات المطلة على النيل بلغ عددها 16000 سطل مؤيدة ببكر وأطناب لها ترخى وتملأ، وذكر رجل دخلها في أوائل القرن الثالث للهجرة في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون قال: «طلبت بها صانعا يخدمني فلم أجد فيها صانعا متفرغا لخدمتي، وقيل لي إن كل صانع معه اثنان يخدمهما وثلاثة، فسألت كم فيها من صانع فأخبرت أن بها سبعين (كذا) صانعا قل من معه دون ثلاثة سوى من قضى حاجته وخرج.»
23
وفي ذلك دليل على غنى أهل الفسطاط وترفهم، ومن هذا القبيل استكثارهم من الفرش، فقد يقتني أحدهم ألف فرشة أو عشرة آلاف فرشة، وذكروا رجلا من أهل الفسطاط عنده ثلاثمائة فرشة كل فرشة لحظية، وكذلك كانوا يفعلون بالثياب ونحوها، وقد تكون أثمانها فاحشة فلا يبالون لغناهم، قال القضاعي إن قطر الندى ابنة خمارويه كان في جملة جهازها ألف تكة ثمن كل واحدة عشرة دنانير، فبلغ ثمنها كلها عشرة آلاف دينار، ناهيك بتأنقهم في المآكل والمشارب مما يطول شرحه، وقد فصله المقريزي وغيره في كلامهم على الفسطاط. (3-4) بغداد
هي عاصمة العباسيين، بناها المنصور سنة 145ه ولا تزال باقية إلى اليوم، وقد تغير موضعها مرارا، والسبب في بنائها أن السفاح لما بويع بالخلافة وأكثر أنصاره في العراق وفارس، نزل الكوفة ومعه أخوه المنصور، ثم بنى السفاح قرب الأنبار مدينة سماها الهاشمية إشارة إلى ما يجمع بين العباسيين والعلويين وانتقلا إليها
24
وبها مات السفاح وقبره فيها، وأقام المنصور في الهاشمية بضع سنين، ثم ثار جماعة الراوندية فكره سكناها وخرج يبحث عن مكان يبني فيه مدينة حصينة، فدلوه على مكان بغداد وحسنوه له، فبنى فيه مدينة سماها بغداد، وعرفت بمدينة المنصور.
بناها في الجانب الغربي لدجلة بشكل مستدير، وجعل حواليها قطائع لحاشيته ومواليه وأتباعه، فلما كانت أيام المهدي جعل معسكره في الجانب الشرقي من دجلة، وسمي ذلك المكان عسكر المهدي، ثم انتقل إليه الوجهاء وأهل الدولة وبنوا فيه، وانتقلت الخلافة إلى الجانب المذكور، وامتدت أبنية الخلفاء وحدائقها على ضفة النهر، ويسمى جانب بغداد الشرقي الرصافة والجانب الغربي الكرخ.
وبلغت بغداد معظم عمارتها في أيام المأمون، حتى امتدت أبنيتها وبساتينها على بقعة قالوا إن مساحتها 53750 جريبا، منها 26750 جريبا في الجانب الشرقي، و27000 في الجانب الغربي
25
والجريب 3600 ذراع مربع، ونسبته إلى الفدان كنسبة 100 إلى ، فتكون مساحة بغداد كلها نحو 16000 فدان، وهو شيء كثير، ولكن يظهر أنها كانت عبارة عن مدن متلاصقة، قال الخطيب البغدادي في تاريخه إنها أربعون مدينة، وإن الحمامات بلغ عددها في أيام المأمون 65000 حمام
26
وقد أراد صاحب سير الملوك بيان مقدار عمارة بغداد فقال: «وكان عدد الحمامات في ذلك الوقت ببغداد ستين ألف حمام، وأقل ما يكون في كل حمام خمسة نفر: حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء، يكون ذلك ثلاثمائة ألف رجل، وذكر أن يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجد يكون ذلك ثلاثمائة ألف مسجد، وتقدير ذلك أن أقل ما يكون في كل مسجد خمسة نفر يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان.»
27
ولا ينطبق هذا التخريج على ما نعلمه من أحوال هذه الأيام، فلا نسلم به كما هو، ولكنه يدلنا على ما بلغت إليه هذه المدينة من العظمة في عهد ذلك التمدن العجيب، وقد يؤيد ذلك ما رواه الطبري في أثناء كلامه عن الفتنة التي وقعت في بغداد سنة 255ه قال: «وقيل إنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت 100000 إنسان في الزواريق.»
28
فإذا كان هذا عدد الذين عبروا النهر فما قولك بمن لم يعبروا؟ فلا نبالغ إذا جعلنا عدد سكان بغداد في ذلك العهد نحو مليون ونصف أو مليونين.
ناهيك بما كان من العمارة حول بغداد وفي سائر بلاد السواد، قال ابن حوقل، وقد رآها في أثناء القرن الرابع للهجرة: «وبين بغداد والكوفة سواد مشتبك غير متميز تخترق إليه أنهار من الفرات ... إلخ.»
29
وهناك مدائن أخرى من بناء المسلمين ذات شأن كالقيروان في بلاد المغرب، وواسط في العراق، وغيرهما في مصر والشام وفارس، ناهيك بالمدائن التي كانت عامرة قبل الإسلام، وقد نزل فيها المسلمون وزادوا عمارتها، مثل دمشق الشام، وقرطبة، وغرناطة، وطليطلة، والإسكندرية، وسنأتي على شيء كثير من حضارة هذه المدن وغيرها فيما سنذكر من حالتها الاجتماعية في بعض الأجزاء الآتية إن شاء الله.
هوامش
مقدمة
علوم العرب قبل الإسلام
علوم العرب بعد الإسلام
أنساب العرب القدماء
مقدمة
علوم العرب قبل الإسلام
علوم العرب بعد الإسلام
أنساب العرب القدماء
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الثالث)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الثالث)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
العلم أعظم أركان الحضارة وأقوى أسبابها، والبحث في علوم الأمة وآدابهم من أهم واجبات المؤرخين، وخصوصا في الإسلام، لعلاقة العلوم الإسلامية بأحوال دوله وسياستها، ولذلك كانت أبحاث هذا الجزء من تاريخ التمدن الإسلامي أهم أبحاث هذا الكتاب، ويزيد أهميته ارتباط تاريخ العلوم في الإسلام بتاريخها قبله؛ لأن المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما أنتجته عقول البشر، من أول عهد المدنية إلى أيامهم، في العقليات والنقليات، فورثوا علوم الكلدانيين والفينيقيين والمصريين والفرس واليونان والهنود.
فجرنا النظر فيما نقله العرب من علوم تلك الأمم إلى البحث في تاريخ تلك العلوم عند كل منها، فكان هذا الجزء من تاريخ التمدن الإسلامي يشتمل على خلاصة تاريخ العلم والفلسفة والأدب، من أول عهد العمران إلى ظهور الإسلام، فضلا عن تاريخها فيه.
وقد رسخ في اعتقاد بعض الكتاب من الإفرنج وغيرهم، أن المسلمين أو العرب قلما أفادوا العلم؛ لأنهم نقلوه عن اليونان ولم يزيدوا فيه شيئا من عند أنفسهم، وذهب آخرون إلى أن نقلهم لم يقتصر على استبقاء علم اليونان كما كان، بل هم شوهوا ما نقلوه فأضروا العلم وأفسدوه، وقد نشأ هذا الاعتقاد في زمن التعصب، وتوالى وتنوقل إلى أوائل هذا العصر ولم يتعرض لتحقيقه أو نقده أحد من العرب أو المسلمين.
على أن المنصفين من مستشرقي الإفرنج ذكروا للتمدن الإسلامي أفضالا على العلم أشاروا إليها باختصار، وقد توسع بعضهم في تعدادها بكلام إجمالي، إذا قرأه العربي انشرح صدره، فإذا أراد تحقيقه ذهب أكثر سعيه عبثا، ووجه التحقيق أن نجد تلك المآثر مثبتة في كتب العرب القدماء؛ لأنها المصدر الوحيد لتاريخ الإسلام والمسلمين والآداب الإسلامية، وأكثر ما كتبه الإفرنج في هذه الموضوعات مرجعه إلى كتب العرب، فإذا رأينا في كتب الإفرنج مأثرة منسوبة إلى العرب ولم نجد لها ذكرا في كتبهم ضعفت ثقتنا في صحتها، إذ قد تكون منقولة عن بعض الرحلات الإفرنجية في العصور الوسطى، وأكثرها يحتاج إلى تمحيص، كرحلة بنيامين التطيلي اليهودي التي وصف فيها القسطنطينية ومصر وسوريا وفارس إلى حدود الصين في القرن الثاني عشر للميلاد، فقد ضمنها من الحوادث والأخبار ما يخالف التاريخ، فضلا عما فيها من المبالغات والغرائب، كتبها الرحالة المذكور باللغة العبرانية، ثم نقلت إلى اللاتينية في القرن السادس عشر، وإلى الفرنسية في القرن الثامن عشر، وإلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر.
ومن أمثلة ما جاء فيها أنه كان في الإسكندرية على عهد الفاطميين عشرون مدرسة علمية، وفي القاهرة عدد عظيم من المدارس الكلية، وسترى في كلامنا عن تاريخ المدارس أنها لم تبن بمصر إلا بعد انقضاء عصر الفاطميين، ومع ذلك فإننا نرى كتابنا ينقلون هذه الأخبار على علاتها فرحا بتعداد مآثر العرب، ولو نقبوا عن أساسها لذهب فرحهم، وهذا ما نبهنا إليه صديقنا النعماني العالم الهندي في كتابه الذي نشرنا خلاصته في مقدمة الجزء الثاني، إذ اقترح علينا أن نذيل صفحات كتابنا هذا بالمصادر التي ننقل عنها، وقد أخذنا باقتراحه، وأصبحنا لكثرة ما يعرض لنا من أخطاء المؤرخين في هذا الصدد، لا نثق إلا بما يؤيد بالإسناد إلى النصوص التاريخية أو بقرينة لا تقل قوة عنه. •••
على أننا لا نرى بدا من تصديق كتاب الإفرنج فيما هو متعلق بآدابهم أو تاريخهم، كحكاية الساعة التي يقولون إن هارون الرشيد أهداها إلى شارلمان مثلا، وكقولهم إن عرب الأندلس علموهم صنع رقاص الساعة، وقول الباحثين في تاريخ الكيمياء مثلا إن العرب صنعوا المركب الفلاني أو اكتشفوا المادة الفلانية، وأما فيما خلا ذلك فلا بد من الرجوع إلى المصادر العربية من كتب التاريخ والأدب والعلوم وهي كثيرة، وفيها فوائد مهمة تظهر بالمطالعة والإمعان، ولا ينبغي لنا أن ننسى فضل جماعة المستشرقين في نشر الكتب العربية، التي لولاهم لضاعت، أو ظلت في زوايا الإهمال، ونذكر منها على الخصوص كتابا كثير الفائدة في هذا الموضوع، نعني كتاب الفهرست لابن النديم، والفضل في نشره للمستشرق جوستاف فلوجل
Gustav Flugel
وقد علق عليه ملاحظات جزيلة الفائدة ومقابلات مهمة شغلت مجلدا كاملا فجعلنا معولنا في استخراج الحقائق التاريخية التي بنينا عليها بحثنا في هذا الكتاب على الكتب العربية بعد التمحيص والنقد. واستيفاء لأسباب البحث تصفحنا ما كتبه في هذا الشأن أفاضل الإفرنج وغيرهم، في الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، ووقفنا على كتاب في اللغة الهندستانية (الأوردية) للنعماني المشار إليه سماه «رسائل شبلي»، ذكر فيه فصولا في مدارس العرب ومارستاناتهم ومكتباتهم وكتبهم ذيلها بالإسناد، وهو كتاب جليل، وبعد الاطلاع على آراء العلماء وأبحاثهم في هذا الموضوع، رجعنا إلى المصادر العربية فتصفحناها بإمعان وتدقيق، فعثرنا فيها على ما أدهشنا من عظمة ذلك التمدن وخصوصا في العلم والأدب، مما ستراه مفصلا في هذا الجزء.
موضوع هذا الجزء
وقد قسمنا الكلام في موضوع هذا الجزء إلى: علوم العرب قبل الإسلام، وعلومهم بعده، فذكرنا أولا خلاصة ما كان عند العرب الجاهلية من العلوم والآداب، كالنجوم والأنواء والميثولوجيا والكهانة والعرافة والطب والشعر والخطابة وأندية الأدب والأنساب والتاريخ، وبحثنا في مصادر تلك العلوم بحثا فلسفيا، وقسمنا الكلام في علوم العرب بعد الإسلام إلى ثلاثة أقسام:
أولا:
العلوم التي اقتضاها الإسلام وسميناها العلوم الإسلامية.
ثانيا:
العلوم التي كانت في الجاهلية وارتقت في الإسلام وهي الآداب العربية الجاهلية.
ثالثا:
العلوم التي نقلت من اللغات الأخرى وهي العلوم الدخيلة.
وقبل النظر في هذه الأقسام قدمنا الكلام بمقدمات تمهيدية: (1)
في الإسلام والعلوم الإسلامية وكيف تدرج العرب في وضعها واستلزم بعضها بعضا. (2)
العرب والقرآن والإسلام وما كان من تأثير القرآن في نفوس العرب واكتفائهم به دون سواه. (3)
ما جر إليه ذلك الاكتفاء من إحراق ما عثروا عليه من كتب الأقدمين وخصوصا مكتبة الإسكندرية. (4)
في الرومان والإسلام والعلم، وإن الذين يقابلون بين الرومان والعرب في أسباب التمدن يظلمون العرب، وإنه يجب أن يقابل بين الرومان والإسلام. (5)
أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم، وما السبب في ذلك. (6)
تدوين العلم في الإسلام وعلة إمساك العرب عن تدوينه إلى آخر القرن الأول للهجرة. (7)
الخط العربي وتاريخه، ووضع الحركات والإعجام وما الذي دعا إلى ذلك.
ولما فرغنا من هذه المقدمات انتقلنا إلى البحث في العلوم الإسلامية، وقسمناها إلى: العلوم الشرعية الإسلامية أي الدينية، والعلوم اللسانية أو اللغوية، والعلوم التاريخية، وابتدأنا من العلوم الشرعية بالقرآن وتاريخ جمعه وتدوينه وقراءته وتفسيره وتأثير أسلوبه في النفوس، ثم الحديث وما دعا إلى وضعه وإسناده وعدده، ثم الفقه ومصادره، والفقهاء والرأي والقياس ومنزلة الفقهاء عند الخلفاء، وكيف ترتبت تلك العلوم بعضها على بعض، ثم انتقلنا إلى العلوم اللسانية وبينا أنها مما اقتضاه الإسلام، وفصلنا الأسباب التي دعت إلى وضع النحو، وذكرنا تاريخ الأدب واللغة في البصرة والكوفة وبغداد وعلاقة ذلك بالسياسة، ونشرنا فصلا في بلاغة الإنشاء وتاريخها ومصيرها وأسبابها الفلسفية، ثم أتينا إلى التاريخ والجغرافية، فبينا الأسباب التي دعت إلى وضعهما وميزتهما في اللسان العربي عما في سائر الألسنة.
ثم ذكرنا الآداب العربية الجاهلية، وهي الخطابة والشعر وما كان للإسلام من التأثير فيهما، وما نسبة الخطابة عند المسلمين إلى خطابة الأمم الأخرى، وما كان من حال الشعر وطبقاته وأسلوبه ورواته وتأثيره في الدولة وعدد الشعراء وأشعارهم. •••
ثم تقدمنا إلى العلوم الدخيلة التي نقلها المسلمون إلى العربية، وتمهيدا لفهم الموضوع قدمنا الكلام في تاريخ آداب الأمم التي نقلت تلك العلوم عن ألسنتهم، وأهمهم اليونان والفرس والهنود والكلدان، فذكرنا أولا تاريخ آداب اللغة اليونانية، منذ اقتبس اليونان العلوم من الكلدان والمصريين والفينيقيين حتى وضعوا التاريخ والفلسفة والنجوم وغيرها إلى زمن الإسلام، وتوسعنا خصوصا في تاريخ الفلسفة وما مرت به من الأدوار إلى سقراط فأفلاطون فأرسطو وتاريخ مؤلفات أرسطو، ثم تاريخ مدرسة الإسكندرية في عصريها اليوناني والروماني إلى الفتوح الإسلامية، ثم ذكرنا آداب اللغة الفارسية وما كان من تأثير آداب اليونان عليها في مدرسة جنديسابور وغيرها، وبينا نحو ذلك في آداب الهنود والسريان بأسباب متسلسلة مترابطة.
ثم انتقلنا إلى الكلام عن العرب والعلوم الدخيلة وما الذي حملهم على نقلها، وأول من اشتغل فيها قبل الدولة العباسية، ثم اشتغال المنصور في نقل كتب النجوم والطب عن الهند والفرس، والأسباب التي حملته على نقلهما، ثم المهدي والرشيد، وأسهبنا الكلام في المأمون والفلسفة والمنطق وما الذي حمله على نقلهما، وأتينا بفصل خاص عن نقلة العلم في العصر العباسي وملخص تراجمهم، وجلهم من غير المسلمين وفيهم النصراني واليهودي والصابي والمجوسي والسامري، وفيهم النقلة من اليوناني أو من الفارسي أو الهندي أو النبطي، وفصل في السوريين ونقل العلم بينا فيه أن السوريين ما زالوا منذ القدم ينقلون العلوم بين الأمم.
ثم تقدمنا إلى ذكر الكتب التي ترجمت في تلك النهضة بالتفصيل عن كل لغة على حدة، باعتبار الموضوعات والمؤلفين، وبإزاء كل كتاب اسم ناقله، فذكرنا ما نقل عن اليونانية فالفارسية فالهندية فالنبطية فالعبرانية فالقبطية، وهي تعد بالمئات، وقد نقلت بسرعة لم تتفق لأمة من الأمم، فذكرنا الأسباب التي ساعدت على تلك السرعة، وفي جملتها محاسنة الخلفاء للعلماء غير المسلمين، ثم بحثنا في انتشار العلوم الدخيلة في المملكة الإسلامية ونبوغ الفلاسفة والأطباء في الأنحاء المتباعدة، واشتغال الخلفاء والأمراء أنفسهم بالعلم وتنشيط العلماء وتأليف الكتب لهم، وما كانوا يبذلونه في هذا السبيل، ثم بحثنا في المؤلفين وكثرتهم والمؤلفات وتعدادها وضخامتها.
ثم نظرنا في تأثير التمدن الإسلامي في هذه العلوم، فبدأنا بالفلسفة وما ترتب عليها من علم الكلام وتاريخ تنقلها في ممالك المشرق، وما كان من اضطهاد الخلفاء لأصحابها بعد النهضة العباسية حتى تألفت الجمعيات السرية، ومن جملتها جمعية إخوان الصفا، وكيف انتقلت رسائلهم إلى الأندلس وما كان من تاريخ الفلسفة هناك، ثم تاريخ الطب الإسلامي والفرق بينه وبين الطب اليوناني أو الفارسي أو الهندي، وأنه جامع بينها كلها، وأحصينا الأطباء المسلمين وتاريخ المارستانات في الإسلام، ثم نظرنا فيما أدخله المسلمون من عند أنفسهم في الطب وفروعه كالكيمياء والصيدلة والنبات وغيرها، ثم تاريخ النجوم أو الفلك في الإسلام، وتاريخ المراصد عندهم والفرق بين التنجيم والنجوم، ومن نبغ من علماء الفلك في الإسلام، وما أحدثوه من الآراء الجديدة وآلات الرصد الجديدة، وما يلحق بذلك من الرياضيات كالحساب والجبر والهندسة، ثم تاريخ الفنون الجميلة، وأن المسلمين لم يقصروا فيها كما ظن الأكثرون، وختمنا الكلام في المدارس وتاريخ تأسيسها وأسبابه، ثم المكتبات عندهم وعدد ما حوته من الكتب، مما يدل على فخامة العلم في ذلك التمدن العجيب، وبذلنا الجهد في تحقيق كل عبارة وتمحيص كل رأي، بما يبلغ إليه الإمكان ويأذن به المكان.
ونغتنم هذه الفرصة للثناء على العلماء الأفاضل الذين تلقوا خدمتنا بالرضا وذكروها بما هم أهله، ونخص منهم كبار المستشرقين في أوربا ممن وصل إليهم كتابنا المذكور، فقد جاءتنا كتبهم ورسائلهم بعبارات الاستحسان والتنشيط، وكتب بعضهم التقاريظ في المجلات الإفرنجية، فاستحثنا ذلك على الاقتداء بهم في خدمة هذه اللغة، التي سبقونا إلى إحياء علومها وآدابها ومهدوا لنا سبيل البحث فيها، فنستأذن الذين تفضلوا منهم بالكتابة إلينا أن ندون أسماءهم في صدر هذا الجزء إقرارا بفضلهم، وهذه أسماؤهم بالترتيب الهجائي:
الأستاذ دي جويه
M. J. De Goeje
في ليدن.
الأستاذ ديرنبرج
H. Derenbourg
في باريس.
الأستاذ روزن
V. von Rosen
في بطرسبرج.
الأستاذ جولد تسيهر
I.Goldziher
في بودابست.
الأستاذ جويدي
M.Guidi
في رومية.
الأستاذ مرجليوث
D. S. Margoliouth
في أكسفورد.
علوم العرب قبل الإسلام
تمهيد في جزيرة العرب وأهلها
جزيرة العرب شحيحة المياه كثيرة الصحاري والجبال، فلم يشتغل أهلها بالزراعة لجدب الأرض، والإنسان وليد الإقليم الذي ينشأ فيه، وقد نشأ العرب على ما تقتضيه البلاد المجدبة من الارتزاق بالسائمة والرحيل في طلب المرعى، فغلبت البداوة على الحضارة فيهم، وانصرف أكثر همهم إلى تربية الماشية وهي قليلة بالنظر إلى احتياجاتهم منها، فنشأ بينهم التنازع عليها، وجرهم التنازع إلى الغزو، واضطرهم الغزو إلى الانتقال بخيامهم وأنعامهم من نجع إلى نجع، ومن صقع إلى صقع، ليلا ونهارا، وجوهم صاف وسماؤهم واضحة، فعولوا في الاهتداء إلى السبل على النجوم ومواقعها، واحتاجوا في مطاردة أعدائهم إلى استنباط الأدلة للكشف عن مخابئهم، فاستنبطوا قيافة الأثر، وألجأهم ذلك أيضا إلى توقي حوادث الجو من المطر والأعاصير ونحوها، فعنوا بالتنبؤ عن حدوث الأمطار وهبوب الرياح قبل حدوثها، وهو ما يعبرون عنه بالأنواء ومهاب الرياح.
ودعاهم الغزو من الناحية الأخرى إلى العصبية لتأليف الأحزاب، فاهتموا بالأنساب التي يترابطون بها، والارتحال في الغزو ونحوه يقتضي العناية بالسلاح والخيل، ولو كانوا أهل حضارة لأتقنوا صنع السلاح، وأما الخيل فبرعوا في تربيتها وانتقائها ومعالجة أمراضها.
والعرب إخوان الكلدانيين والبابليين والفينيقيين وغيرهم من أركان التمدن القديم، فهم أهل ذكاء وتعقل، لو سكنوا وادي الفرات، أو وادي النيل لكان منهم ما كان من أولئك، أو ما كان من جيرانهم التبابعة، ولكنهم أقاموا في بادية صفا جوها وأشرقت سماؤها، فصفت أذهانهم وانصرفت قرائحهم إلى قرض الشعر، يصفون به وقائعهم أو يبينون به أنسابهم أو يعبرون به عن عواطفهم، وقويت فيهم ملكة البلاغة، فبرعوا في إلقاء الخطب يستنهضون بها الهمم، أو يدعون إلى الحرب أو السلم أو للمفاخرة أو المنافرة ... ولولا ما في فطرتهم من الذكاء والتعقل لما ظهر منهم أكثر مما ظهر من جيرانهم سكان صحراء العدوة الغربية من البحر الأحمر، فإنهم ما زالوا من حيث المدنية على نحو ما كانوا عليه منذ قرون، وشأن جاهلية العرب من هذا القبيل شأن جاهلية اليونان في عصر هوميروس، فلما تمدن العرب أتوا بمثل ما أتي به أولئك.
على أن العرب لم يسلموا مما وقع فيه معاصروهم من الأمم العظمى، من الاعتقاد في الكهانة والعرافة وزجر الطير وخط الرمل وتعبير الرؤيا، مما ينجم عن جهل أسباب الحوادث مع رغبتهم في تعليل بواعثها، ولذلك فقد كثر عندهم الكهان والعرافون ونحوهم.
فالعلوم التي كانت شائعة في جزيرة العرب قبل الإسلام ضرورية باعتبار طبيعة ذلك الإقليم وطبائع أهله، وقد سميناها علوما بالقياس على ما يماثلها عند الأمم الأخرى في عصر العلم، وإلا فالعرب الجاهليون لم يتعلموها في المدارس ولا قرأوها في الصحف ولا ألفوا فيها الكتب؛ لأنهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون، وإنما هي معلومات تجمعت في محفوظهم بتوالي الأجيال بالاقتباس والاستنباط، وتنوقلت في الأعقاب وما زالت تنمو وتتزايد حتى بلغت عند ظهور الإسلام بضعة عشر علما، بعضها من قبيل الطبيعيات والبعض الآخر من قبيل الرياضيات أو الأدبيات ، أو الكهانة أو ما يتعلق بذلك، ولو أردنا التوسع في وصفها لضاق بنا المقام فنذكرها على سبيل الاختصار.
وإذا أمعنا النظر في مصادر تلك العلوم رأينا بعضها خاصا بالعرب وقد نشأ عندهم، والبعض الآخر دخيل اقتبسوه من الأمم الأخرى ... فالعلوم العربية هي: الأنساب، والشعر، والخطابة، والدخيلة هي: النجوم، والطب، والأنواء، والخيل، ومهاب الرياح، والميثولوجيا، والكهانة، والعيافة، والقيافة، وغيرها كما سترى فيما يلي: (1) علم النجوم عند العرب
الكلدان أساتذة العالم في علم النجوم، وهم وضعوا أسسه ورفعوا أعمدته، ساعدهم على ذلك صفاء سمائهم وجفاف هوائهم واستواء آفاقهم، فرصدوا الكواكب وعينوا أماكنها ورسموا الأبراج ومنازل القمر والشمس، وحسبوا الخسوف والكسوف بآلات فلكية منذ بضعة وأربعين قرنا، وعنهم أخذ اليونان والهنود والمصريون وغيرهم من أهل التمدن القديم.
وما زال الكلدان أو البابليون أهل دولة وسلطان إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، فسطا عليهم الآشوريون فلم يؤثر ذلك شيئا في آدابهم الاجتماعية لتشابه الشعبين لغة ودينا، فلما كان القرن الخامس قبل الميلاد سطا عليهم الفرس وفتحوا بلادهم وبدلوا آلهتهم واستبدوا فيهم، فثقل ذلك عليم وضاقت الأرض بهم، فهاجر كثيرون منهم إلى ما جاورهم من البلاد وخصوصا بلاد العرب؛ لأنها كانت حمى المهاجرين من العراق ومصر والشام، لامتناعها على الجنود بالصحاري الرمضاء ولسهولة الإقامة عليهم هناك لقرب لسان العرب من لسانهم.
وكان في جملة المهاجرين إليها جماعة من الكهان وأصحاب النجوم، فتعلم العرب منهم أحكامها وأخذوا عنهم أسماءها، وتعلموا منهم مواقع الأبراج ومناطقها ومنازل القمر والشمس، وربما كان لهم علم بشيء من أحكامها من عند أنفسهم، أو مما وصل إليهم من طريق الهند أو غيرها، ولكن يقال بالإجمال: إن العرب مدينون بعلم النجوم للكلدان، وهم يسمونهم الصابئة - والصابئة إن لم يكونوا الكلدان أنفسهم فهم خلفاؤهم أو تلامذتهم،
1
وكان الصابئة كثيرين في بلاد العرب، ولهم مثل منزلة النصارى أو اليهود، فأخذ العرب عنهم علم النجوم باصطلاحاته وأسمائه، وإن كان معظم أسماء السيارات لا يرد إلى أصله الكلداني، فربما كان له أسباب عارضة ضاعت أخبارها.
على أن بعضها لا يزال أصله الكلداني ظاهرا فيه، كالمريخ مثلا فإنها تقابل «مرداخ» الكلدانية لفظا ومعنى، ولكن معظم تلك الأسماء قد ضاعت المشابهة اللفظية بينها وبقيت المشابهة المعنوية، فإن «زحل» معناه في العربية الارتفاع والعلو، وهي نفس دلالة «كاون» اسم هذا السيار في الكلدانية، وأما الأبراج ومنازل القمر فلا تزال كما كانت عند الكلدان لفظا ومعنى - وإليك أسماء الأبراج عند كليهما:
أسماؤها العربية
أسماؤها الكلدانية
الحمل والكبش
أمرا
الثور
ثورا
الجوزاء أو التوأمان
تامي
السرطان
سرطان
الأسد
أربا
السنبلة
شبلتا
العقرب
ماساثا
الميزان
عقربا
القوس أو الرامي
قشتا
الجدي
كديا
الدلو
دولا
الحوت أو السمكة
نونا
وأما منازل القمر والشمس فقد تبدل بعض أسمائها كما أصاب السيارات، ولكن العبرة بالأكثر في قواعد هذا العلم ومصطلحاته، فإنها عند العرب كما كانت عند الكلدان تماما، حتى لفظ «منازل القمر» فإن هذا التعبير هو نفس ما كان يعبر به الكلدان عن هذه المنازل، وقد أبدلته الأمم الأخرى التي أخذت هذا العلم عن الكلدان بتعبير آخر، إلا العرب واليهود.
ومعرفة العرب بالنجوم مشهورة، فقد رأيت أنهم عرفوا السيارات والأبراج، وعرفوا عددا كبيرا من الثوابت، ولهم في ذلك مذهب يختلف عن مذاهب المنجمين في الأمم الأخرى،
2
وفي قدم أسماء تلك النجوم في العربية دليل على قدم معرفة العرب بها وبمواقعها، مثل: بنات نعش الكبرى والصغرى، والسها، والظباء، والربع، والرابض، والعوائذ، والذئبين، والنثرة، والفرقد، والقدر، والراعي، وكلب الراعي، والأغنام، والرامح، والسماك، وعصا الضياع، وأولاد الضياع، والسماك الرامح، وحارس السماء، والأظفار، والفوارس، والكف المخضب، والخباء، والعيوق، والعنز، والجديين، وغيرها.
أما منازل القمر فقد قسموها إلى ثمانية وعشرين قسما، خلافا لما كان عند الهنود فإنها 27 قسما عندهم، وأراد العرب منها غير ما أراده أولئك، إذ كان مرادهم منها معرفة أحوال الهواء في الأزمنة، وحوادث الجو في فصول السنة؛ لأنهم كانوا أميين فلم تمكنهم معرفتها إلا بشيء يعاين فاستعانوا عليها بالكواكب، كما سترى في الكلام على الأنواء، وإليك أسماء منازل القمر في العربية، وهي 28:
الثريا
الجبهة
الإكليل
سعد السعود
الدبران
الزبرة
القلب
سعد الأخبية
الهقعة
الصرفة
الشولة
الفرغ المقدم
الهنعة
العواء
النعائم
الفرغ المؤخر
الذراع
السماك
البلدة
بطن الحوت
النثرة
الغفر
سعد الذابح
الشرطان
الطرف
الزبانيان
سعد بلع
البطين
وكان العرب إذا عدوا المنازل بدأوا بالشرطين، لأسباب تتعلق بإقليمهم، وقد بالغ المتعصبون للعرب في صدر الدولة العباسية في براعة العرب في النجوم، وفي جملة المتعصبين ابن قتيبة، فقد قال في كتابه «تفضيل العرب على العجم» أن العرب أعلم بالكواكب ومطالعها ومساقطها.
3
ومع اعترافنا بما في ذلك من المبالغة، فإننا نستدل منه على توسع العرب في هذا العلم.
ولا غرابة في إتقانهم معرفة النجوم ومواقعها، فإنها كانت دليلهم في أسفارهم وأكثر أحوالهم، فكانوا إذا سألهم سائل عن الطريق المؤدي إلى البلد الفلاني قالوا: «عليك بنجم كذا وكذا» فيسير في جهته حتى يجد المكان، وربما استعانوا على ذلك أيضا بذكر مهاب الرياح يعبرون بها عن الجهات، ومن أمثلة ذلك أن سليك بن سعد سأل قيس بن مكشوح المرادي أن يصف له منازل قومه ثم هو يصف له منازل قومه، فتوافقا وتعاهدا ألا يتكاذبا، فقال قيس بن المكشوح: «خذ بين مهب الجنوب والصبا، ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة، فإذا انقطعت المياه فسر أربعا، حتى تبدو لك رملة وقف بينها الطريق، فإنك ترد على قومي مراد وخثعم».
فقال السليك: «خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثم منازل قومي بني سعد بن زيد مناة»، واشتهر في جاهلية العرب في إتقان النجوم جماعة، منهم بنو مارية بن كلب، وبنو مرة بن همام الشيباني.
4 (2) الأنواء ومهاب الرياح
يراد بالأنواء عندهم ما يقابل علم الظواهر الجوية عندنا، مما يتعلق بالمطر والرياح، ولكنهم كانوا ينسبون الظواهر المذكورة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعا من علم النجوم، وكانوا يسمون طلوع المنزلة نوءها؛ أي نهوضها، وسموا تأثير الطلوع بارحا وتأثير السقوط نوءا، ومن طلوع كل واحدة منها إلى طلوع التي تليها ثلاثة عشر يوما، سوى الجبهة فإن بين طلوعها وطلوع التي تليها 14 يوما، ومن أقوالهم في ذلك:
والدهر فاعلم كله أرباع
لكل ربع واحد أسباع
وكل سبع لطلوع كوكب
ونوء نجم ساقط في المغرب
ومن طلوع كل نجم يطلع
إلى طلوع ما يليه أربع
من الليالي ثم تسع تتبع
ثم اختلفوا فيها، فزعم بعضهم أن كل تأثير يكون بعد طلوع منزلة إلى طلوع التي تتلوها فهو منسوب إليها، وزعم آخرون أن لطلوع كل واحدة وسقوطها مقدارا من الزمن ينسب إليها يكون فيه، فإذا انقضت تلك المدة لم ينسب إليها ما يكون بعدها، وكانوا إذا تحقق التأثير فلم يظهر منه شيء في تلك الأزمنة قالوا: خوى النجم، أو خوت المنزلة - يعنون بذلك مضت مدة نوء ولم يكن فيه مطر أو حر أو برد أو ريح،
5
ومن أمثالهم «أخطأ نوؤك» يضرب لمن طلب حاجة فلم يقدر عليها.
6
وكانوا إذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى تأثير النجم المتسلط في ذلك الوقت، فيقولون مثلا: مطرنا بنوء المجرة، أو هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى، وقالوا: إن النوء سقوط نجم ينزل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه في الشرق من أنجم المنازل، ولذلك كانت الأنواء 28 نوءا أو نجما، كانوا يعتقدون أنها هي علة الأمطار والرياح والحر والبرد، وفي أشعارهم أمثلة كثيرة تدل على علاقة أحوال الجو أو فصول السنة باقترانات الكواكب أو طلوعها، وقد نظموها شعرا ليسهل حفظها على الناس لقلة الكتابة عندهم، من ذلك قولهم:
إذا ما قارن القمر الثريا
لثالثة فقد ذهب الشتاء
وقول الآخر:
إذا ما البدر تم مع الثريا
أتاك البرد أوله الشتاء
وقول الآخر:
إذا ما قارن الدبران يوما
لأربع عشرة قمر التمام
فقد حف الشتاء بكل أرض
فوارس مؤذنات باحتدام
وحلق في السماء البدر حتى
يقلص ظل أعمدة الخيام
وذلك في انتصاف الليل شطرا
ويصفو الجو من كدر الغمام
وقول الآخر:
إذا ما هلال الشهر أول ليلة
بدا لعيون الناس بين النعائم
أتتك رياح القر من كل وجهة
وطاب قبيل الصبح كور العمائم
وقول الآخر:
وقد برد الليل التمام بأهله
وأصبحت العواء للشمس منزلا
7
وكان عندهم لمطلع كل كوكب أو منزل وصف يدل على تأثير ذلك في الطقس على اعتقادهم، ومن هذا القبيل اعتقادهم تأثير النجوم في أعمال البشر على ما كان عند الكلدان
8
على أنهم كثيرا ما كانوا يستدلون على المطر أيضا بألوان الغيوم وأشكالها، فأقل الغيوم مطرا عندهم البيضاء ثم الحمراء ثم السوداء، ومن أقوالهم: «السحابة البيضاء جفل، والحمراء عارض، والسوداء هطلة».
9
وكان العرب في حاجة إلى معرفة مهاب الرياح للاهتداء بها في أسفارهم، ولذلك فقد وضعوا لها الأسماء، ولكنهم اختلفوا في عدد جهاتها، فحسبها بعضهم ستة، والبعض الآخر أربعة، فأصحاب القول الثاني يعدونها: (1)
مهب الصبا من الشمال. (2)
مهب الشمال من المغرب. (3)
مهب الدبور من الجنوب. (4)
مهب الجنوب من المشرق.
ويزيد عليها أصحاب القول الأول: النكباء بجانب الشمال، والمحوة بجانب الجنوب، وإليك قول ذي الرمة في ذلك:
أهاضيب أنواء وهيفان جرتا
على الدار أعراف الجبال الأعافر
وثالثة تهوي من الشام حرجف
لها سنن فوق الحصى بالأعاصر
ورابعة من مطلع الشمس أجفلت
عليها بدقعاء المعا فقراقر
تحثثها النكب السوافي فأكثرت
حنين اللقاح القاريات العواشر
10 (3) الميثولوجيا
ومما يلحق بعلم النجوم أيضا ما يعبر عنه الإفرنج بالميثولوجيا، وهي عبارة عما كانوا يزعمون وقوعه بين الكواكب - أو هي الآلهة عندهم - من الحروب أو الزواج أو نحو ذلك مما يجري على البشر على نحو ما ذكروه عن آلهة اليونان، فالعرب ألهوا الأجرام السماوية وعبدوها، وقلما ضاع خبر ذلك لعدم تدوينه، على أننا نستدل عليه من بعض ما وصل إلينا من أسماء أصنامهم وعبادة بعض رجالهم، فاللات اسم للزهرة، وقد اشتهر كثيرون بعبادتها وعبادة الشمس والقمر والشعرى، وكانوا يتناظرون في أفضلية بعضها على بعض، قالوا: «وأبو كبشة أول من عبد الشعرى، وكان يقول: الشعرى تقطع السماء عرضا، ولا أرى في السماء شمسا ولا قمرا ولا نجما يقطع السماء عرضا غيرها».
أما تشخيص تلك الأجرام وإنزالها منزلة البشر فقد كان معروفا عند العرب، ومن الأقاصيص الميثولوجية التي كانوا يتناقلونها أن الدبران خطب الثريا وأراد القمر أن يزوجه منها، فأبت عليه وولت عنه وقالت للقمر: ما أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له؟ فجمع الدبران قلاصه يتمول بها، فهو يتبعها حيث توجهت يسوق صداقها قدامه - يعنون القلاص، وأن الجدي قتل نعشا فبناته تدور به تريده، وأن سهيلا ركض الجوزاء فركضته برجلها فطرحته حيث هو، وضربها هو بالسيف فقطع وسطها، وأن الشعرى اليمانية كانت مع الشعرى الشامية ففارقتها وعبرت المجرة، فسميت الشعرى العبور، فلما رأت الشعرى اليمانية فراقها إياها بكت عليها حتى غمصت عيناها، فسميت الشعرى الغميصاء.
11
ومن هذا القبيل تأليههم بعض المشاهير من الملوك أو القواد أو الأسلاف، واعتبار البعض الآخر من نتاج الملائكة أو الجان، فعندهم مثلا أن بلقيس كانت أمها جنية، وأن جرهما كان من نتاج الملائكة وبنات آدم، وكذلك كان ذو القرنين عندهم أمه آدمية وأبوه من الملائكة،
12
وأما أصل هذه الاعتقادات فإما هندي أو يوناني أو مصري، أما الكلدان فقلما كانت لهم عناية بأمثال ذلك. (4) الكهانة والعرافة
هما لفظان لمعنى واحد، وفرق بعضهم بينهما فقال: إن الكهانة مختصة بالأمور المستقبلة، والعرافة بالأمور الماضية، وعلى كل حال فالمراد بهما التنبؤ واستطلاع الغيب، على أن العرب كانوا يعتقدون في الكاهن القدرة على كل شيء، فكانوا يستشيرونه في حوائجهم، ويتقاضون إليه في خصوماتهم، ويستطبونه في أمراضهم، ويستفتونه فيما أشكل عليهم، ويستفسرون منه رؤاهم، ويستنبئونه عن مستقبلهم، وبالجملة: فالكهان عندهم هم أهل العلم والفلسفة والطب والقضاء والدين، شأن تلك الطبقة من البشر عند سائر الأمم القديمة في بابل وفينيقية ومصر وغيرها.
والكهانة من العلوم الدخيلة على العرب، جاءتهم من بعض الأمم المجاورة لهم، والغالب في اعتقادنا أن الكلدان حملوها إليهم مع علم النجوم، ويؤيد ذلك أن الكاهن يسمى في العربية أيضا «حازى» أو «حزاء»، وهو لفظ كلداني معناه الاشتقاقي الناظر أو الرائي أو البصير، وهو يدل عندهم على الحكيم والنبي، وأما لفظ «الكاهن» فقد اقتبسه العرب بعدئذ من اليهود الذين نزحوا إليهم على أثر ما أصابهم من النكبات في أورشليم (بيت المقدس)، وخصوصا بعد خرابها على يد الإمبراطور الروماني طيطس سنة 70 للميلاد، وقد أخذ عنهم العرب كثيرا من الآداب والعادات مما لا يدخل في بحثنا، وأما الكهانة فأصلها من عند الكلدان، ولعل الذين حملوا علم النجوم إلى العرب هم الكهنة الكلدانيون أنفسهم، فكانت الكهانة في جملة ما حملوه إليهم، ويؤيد ذلك أن العرب كانوا يطلقون لفظ الحزاء على الكاهن والمنجم
13
على أن أهل بابل ما زالوا يتواردون على بلاد العرب إلى ما بعد الإسلام، والعرب يجلونهم لعلمهم وتعقلهم.
فالعرب كانوا يعتقدون في الكهنة العلم بكل شيء، وأن ذلك يأتيهم بواسطة الأرواح، فمن كان منهم يعتقد التوحيد نسب ذلك إلى استطلاع الغيب عن أفواه الملائكة، وإذا كان من عبدة الأصنام اعتقد حلول الأرواح في الأصنام وبوحها بأسرار الطبيعة للكهان والسدنة، فيقول العرب: إن الأصنام تدخلها الجن (أي الأرواح) وتخاطب الكهان، وإن الكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وربما عبروا عنه بالهاتف، ومن أقوالهم: «الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب».
فكل ما كان يصنعه الكاهن إنما مصدره الغيب، فإذا استطبه مريض من ريح أو صداع عالجه بالرقى، وإذا استشير في معضلة خط في الرمل أو نفث في العقد، وإذا حكمه متخاصمان رمى لهما بالقداح، وإذا استطلع عن سرقة أخذ قمقمة جعلها بين يديه ونفث فيها، ونحو ذلك من الحركات الوهمية، وإذا استفسر عن رؤيا تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب.
قلنا: إن الكهانة أتت العرب من بين النهرين، فالكهان القدماء كانوا في الغالب كلدانيين (أو صابئة في قولهم) وكان العلم كله عندهم، ثم تعدد الكهنة من اليهود وغيرهم، ثم ما لبث العرب أنفسهم أن أخذوا ذلك عنهم، فنشأ الكهان منهم، على أن بعض العرب اقتصروا فيما تناولوه على علم دون آخر، فكان بعضهم يتعاطى الطب فقط، وبعضهم تعبير الرؤيا أو القيافة أو القضاء.
الكهان
واشتهر في بلاد العرب جماعة كبيرة من الكهان والكواهن، أقدمهم شق وسطيح وحكايتهما أشبه بالخرافات منها بالحقائق، فعندهم أن الأول كان شق إنسان (أي نصفه) بيد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وأن سطيحا كان لحما يطوى كما يطوى الثوب، لا عظم فيه غير الجمجمة ووجهه في صدره، ويزعمون أن هذين الكاهنين عاشا بضعة قرون، إلى غير ذلك من الأوهام، ومن الكهان الذين نبغوا في النهضة العربية قبل الإسلام خنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي، وفيهم من يعرفون بما ينسبون إليه من البلاد أو القبائل، كقولهم: كاهن قريش، وكاهن اليمن، وكاهن حضرموت، وغيرهم.
ويقال نحو ذلك في العرافين، وأكثرهم ينسبون إلى بلدانهم وقبائلهم، كعراف هذيل، وعراف نجد، وأشهرهم عراف اليمامة، شهره عروة بن حزام ببيت قاله فيه - وكذلك الشعراء يشهرون ممدوحيهم - وهو قوله:
أقول لعراف اليمامة داوني
فإنك إن داويتني لطبيب
وأما الكواهن من النساء فإنهن عديدات، منهن طريفة كاهنة اليمن وهي أقدمهن، وإليها ينسبون الإنذار بخراب سد مأرب وإتيان سيل العرم، وزبراء بين الشحر وحضرموت، وسلمى الهمدانية الحميرية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة الخثعمية بمكة، وزرقاء اليمامة، وغيرهن ينسبن إلى القبيلة أو المدينة، ككاهنة بني سعد، يزعمون أنها أقدم عهدا من شق وسطيح وأنها استخلفتهما،
14
وما زالت الكهانة في العرب حتى جاء الحديث في أبطالها وهو: «لا كهانة بعد النبوة».
15
وكان للكهان عند العرب لغة خاصة، تمتاز بتسجيع معين يعرف بسجع الكهان، مع تعقيد وغموض، ولعلهم كانوا يتوخون ذلك للتمويه على الناس بعبارات تحتمل غير وجه، كما يفعل بعض مشايخ التنجيم في هذه الأيام، حتى إذا لم يصدق تكهنهم جعلوا السبب قصور الناس في فهم قول الكاهن.
ومن أمثلة سجع الكهان ما يروونه عن طريفة كاهنة اليمن، حين خاف أهل مأرب سيل العرم وعليهم مزيقياء عمر بن عامر، فإنها قالت لهم: «لا تؤموا مكة حتى أقول، وما علمني ما أقول إلا الحكم المحكم، رب جميع الأمم من عرب وعجم». قالوا لها: «ما شأنك يا طريفة؟» قالت: «خذوا البعير الشذقم، فخضبوه بالدم، تكن لكم أرض جرهم، جيران بيته المحرم».
16
القيافة
ومن قبيل الكهانة أيضا القيافة، لكنها تختص بتتبع الآثار والاستدلال منها على الأعيان، وهي قسمان: قيافة الأثر، وقيافة البشر، والأولى تختص بتتبع آثار الأقدام أو الحوافر أو الأخفاف، والاستدلال من آثارها في الرمال أو التراب على أصحابها، والفائدة من ذلك الاهتداء إلى الفار من الناس أو الضال من الحيوان، وقد أتقن العرب ذلك حتى فرق بعضهم بين أثر قدم الشاب والشيخ، وقدم الرجل والمرأة، والبكر والثيب، وأما قيافة البشر فهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وسائر أحوالهما، وهي من قبيل الفراسة.
وكانت القيافة شائعة في العرب ثم اختصت بعض القبائل بها دون البعض الآخر، وأشهر العرب بقيافة الأثر بنو مدلج وبنو لهب، ولا تزال هذه القيافة شائعة إلى اليوم في بعض قبائل نجد، ويقال: إنهم بنو مرة وهم أعلم الناس بها، حتى لقد يعرف أحدهم الإنسان من أثره، وربما نظر إلى أثر بعير فقال: هذا بعير فلان، وكثيرون منهم يميزون بين العراقي والشامي والمصري والمدني.
والفراسة كانت شائعة في العرب، وكانت لهم فيها براعة يستدلون بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه ومناقبه، وهي من قبيل الذكاء وسرعة الخاطر وسجية طبيعية.
ومن قبيل الكهانة تعبير الرؤيا، وكان معروفا عند العرب، وكانوا يفزعون إلى الكهان في تفسير الأحلام، على أن كثيرين من غير الكهان كانوا يتعاطونها، أشهرهم أبو بكر الصديق.
17
ومن هذا القبيل زجر الطير وخط الرمل، وقد أغضينا عنهما لضيق المقام. (5) الطب في الجاهلية
الطب من جملة العلوم التي وضع أساسها الكلدان كهنة بابل، وهم أول من بحث في علاج الأمراض، فكانوا يضعون مرضاهم في الأزقة ومعابر الطرق، حتى إذا مر بهم أحد أصيب بذلك الداء فيعلمهم بسبب شفائه، فيكتبون ذلك على ألواح يعلقونها في الهياكل، ولذلك كان التطبيب عندهم من جملة أعمال الكهان.
وعن الكلدان أخذت الأمم القديمة وفي جملتها العرب، وهو متشابه عند تلك الأمم في مصر وفينيقية وآشور، ثم تناوله اليونان فأتقنوه ورتبوا أبوابه، وعنهم أخذ الرومان والفرس، ونظرا لمعاصرة العرب لهذه الدول فقد اقتبسوا شيئا من طبها أضافوه إلى ما جاءهم به الكلدان، وإلى ما استنبطوه من عند أنفسهم بالاختبار، فتألف من ذلك ما عبرنا عنه «بالطب في الجاهلية» ولا يزال كثير منه باقيا إلى اليوم في قبائل البادية.
وكان للتطبيب عندهم طريقتان: الأولى، طريقة الكهان والعرافين، والثانية: طريقة العلاج الحقيقية، فالكهان كانوا يعالجون بالرقى والسحر كما تقدم، أو بذبح الذبائح في الكعبة والدعاء فيها، أو بالتعازيم أو نحو ذلك.
وكان التطبيب بالرقى شائعا في الأمم القديمة كلها، وقد وجدوا في الآثار المصرية كثيرا من العزائم، التي كانوا يصفونها لمعالجة المرضى، وجاء من أخبارهم أن كاهنهم كان إذا سار لمعالجة مريض صحبه خادمان أحدهما يحمل كتاب العزائم، والثاني يحمل صندوق العقاقير الطبية، وهم يعالجون بالاثنين جميعا.
وكانوا يوجهون كلامهم في العزيمة أو الرقى إلى أحد آلهتهم وخصوصا إيزيس وأوزيريس ورع، ولهم عبارات يقولونها عند صنع الأدوية وعند مناولتها للمريض، فمن أمثلة العزائم التي كانوا يتلونها عند تناول الدواء: «هذا هو كتاب الشفاء لكل مريض، فهل لإيزيس أن تشفيني كما شفت حوريس من كل ألم أصابه من أخيه ست حينما قتل أباه أوزيريس؟ فيا إيزيس أنت الساحرة الكبيرة، اشفيني وخلصيني من كل شيء مكدر رديء شيطاني، ومن أمراض اللبسة والأمراض القاتلة والخبيثة بأنواعها التي تعتريني كما خلصت ابنك حوريس ...»،
18
وكان عندهم عزائم لإخراج الأرواح الشريرة التي تسبب الأمراض في زعمهم، فعلى هذه الكيفية كان العرب يتلون العزائم لأصنامهم ويرقون لإخراج الجان والشياطين.
وكان اعتقادهم من هذا القبيل أنهم إذا خافوا وباء نهقوا نهيق الحمار، يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء، وأن دماء الملوك تشفي من الخبل.
وأما معالجتهم بالعقاقير فشبيهة بما كان عند المصريين وغيرهم من الأمم القديمة، فقد كانوا يعالجون بالعقاقير البسيطة أو الأشربة وخصوصا العسل، فإنه كان قاعدة العلاج في أمراض البطن - على أن اعتمادهم في معالجة الأمراض كان معظمه عائدا إلى الجراحة كالحجامة والكي، ومن أقوالهم: «كل داء حسم بالكي آخر الأمر، وآخر الطب الكي»، وكثيرا ما كانوا يعالجون بالقطع أو البتر، والغالب أن يكون ذلك بالنار، فإن النار عندهم كانت تقوم مقام مضادات الفساد (المطهرات) عندنا، فإذا أرادوا فصل عضو حموا شفرة بالنار وقطعوه بها، كما فعلوا بصخر بن عمرو أخي الخنساء لما نتأت قطعة من جوفه مثل الكبد على أثر طعنة فأحموا له شفرة وقطعوها.
19
وكانوا يعالجون حول البصر بإدامة النظر إلى حجر الرحى في دورانه، ويزعمون أن العين تستقيم به، ومن معالجتهم التي نعدها اليوم خرافة أن المجروح إذا شرب الماء مات،
20
وإذا خافت المرأة حتى برد قلبها سقوها ماء حارا.
21
الأطباء
وأما الأطباء فقد كانوا في أول الأمر من الكهنة، ثم تعاطى الطب جماعة من العرب ممن خالطوا الروم والفرس وأخذوا الطب عنهم فاشتهروا بهذه الصناعة، وأكثرهم من أهل النهضة الأخيرة قبل الإسلام حوالي القرن السادس للميلاد، على أن بعضهم أقدم من ذلك كثيرا، وأقدم أطبائها لقمان وهو حكيمهم وفيلسوفهم، وفي أصله وزمن وجوده اختلاف، يليه رجل من تيم الرباب يقال له ابن حذيم، ويضربون به المثل بالحذق في الطب فيقولون لمن أرادوا وصفه بذلك: أطب من ابن حذيم، وفيه يقول أوس بن حجر:
فهل لكم فيها إلي فإنني
بصير بما أعيى النطاسي حذيما
ومن أحدث أطباء الجاهلية الحارث بن كلدة توفي سنة 13 للهجرة، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف، رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب من جنديسابور، وتعاطى صناعة الطب هناك واكتسب مالا ثم عاد إلى بلاده وأقام في الطائف ونال شهرة واسعة، وقد أدرك الإسلام وكان النبي يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيستوصفه - ومنهم ابن أبي رومية التميمي، والنضر بن الحارث بن كلدة.
وأكثر هؤلاء الأطباء تناولوا الطب من بلاد الفرس أو الروم، وبعضهم أخذه عن الكهان أو الأحبار من الأديار ونحوها، وربما أخذوا عنهم شيئا من الفلسفة القديمة كما فعل النضر المذكور، والظاهر أن بعضهم كان يخصص نفسه للأعمال الجراحية فيغلب عليه لقب الجراح، وأشهر جراحي الجاهلية ابن أبي رومية التميمي، فقد كان جراحا مزاولا لأعمال اليد.
22
ونظرا لعناية العرب بخيولهم وإبلهم كان بعض الأطباء يخصص نفسه لمعالجتها مما يعبرون عنه اليوم بالبيطرة، ومن بياطرة الجاهلية العاص بن وائل.
23 (6) الشعر في الجاهلية
الشعر عن العرب الكلام المقفى الموزون، وهذا في الحقيقة تعريف النظم وليس تعريف الشعر؛ لأن النظم غير الشعر، إذ قد يكون الرجل شاعرا ولا يحسن النظم، وقد يكون ناظما وليس في نظمه شعر - وإن كان النظم يزيد الشعر طلاوة ووقعا في النفس. فالنظم هو القالب الذي يسبك فيه الشعر، وأما الشعر بأعم معانيه فيصعب الاختصار في تعريفه، لما ينطوي تحته من أساليب التعبير وتأثيره في النفس، مما لا يستطيع أن يؤثر تأثيره الكلام المرسل، والفرق بينهما أننا نعبر بالكلام المرسل عما نشاهده أو نستنتجه من أعمال الحياة بالقياس أو البرهان، وأما الشعر فنعبر به عن شعورنا بالانفعالات النفسية بلا قياس ولا برهان، فالكلام المرسل «لغة العقل»، والشعر «لغة النفس أو القلب». وقال بعضهم: «الشعر صورة ظاهرة لحقائق غير ظاهرة».
ولذلك فالشعر قديم لم تخل منه أمة من أمم العالم قديما ولا حديثا، وهو مرآة آداب الناس، وصحيفة أخلاقهم، وديوان أخبارهم، وسجل عقائدهم؛ لأن الإنسان ارتقت نفسه وتحرك قلبه قبل أن يرتقي عقله وتتهذب مداركه، فتكلم بالشعر قبل أن تكلم في العلم، ولذلك كان أقدم أخبار الناس من قبيل الخيال، وأقدم المحفوظ من مدونات الأمم كتب الشعر، وقد دونوا فيها مشاعرهم الدينية والأدبية أو الحماسية أو غير ذلك من صور الانفعالات النفسية، فالمهابهاراتة والرامايانة عند الهنود، والإلياذة والأوذيسة عند اليونان، والإنيادة عند الرومان، وبعض أسفار التوراة عند اليهود، والشاهنامة عند الفرس، إنما هي شعر حفظت فيها عادات تلك الأمم وأخلاقهم وأخبارهم، وخصوصا من حيث العبادة والآلهة، وذلك طبيعي؛ لأن الشعر كما قلنا لغة النفس تعبر به عن انفعالها وتطلب به مشتهاها، لا تقدم على ذلك برهانا ولا تطلب دليلا، والدين أكثر أعمالها حاجة إلى التسليم والإيمان العاطفي القلبي.
الشعر العبراني
والشعوب السامية أكثر الأمم إعراقا في عالم الخيال، ولذلك كانوا أميل الناس إلى اعتقاد التوحيد والتدين بما لا يقع تحت الحواس، ولهذا السبب أيضا كانوا أقرب الناس طبعا إلى التصورات الشعرية، وترى ذلك واضحا فيما خلفوه من الآثار الشعرية، وأقدم آثار الساميين من هذا القبيل التوراة، وقد وجدوا التصورات الشعرية في أقدم أسفارها، فما كلام «لامك» لامرأتيه «عادة» و«صلة» في سفر التكوين (ص2354) إلا جزء من نشيد ضاع ولم يبق منه إلا مطلعه، وفي أصله العبراني ما يدل على أنه شعر موزون ومقفى، فهو أقدم منظومات العبرانيين، بل أقدم الشعر المقفى في العالم على الإطلاق.
وفي التوراة أمثلة كثيرة من التصور الشعري، كقول يشوع لموسى لما سمع جلبة الشعب عند نزول موسى من الجبل ولوحا الشهادة معه (خروج 32 : 17): «صوت حرب في المحلة» فقال موسى: «ليس ذلك صياح ظفر ولا صياح هزيمة، بل صوت غناء أنا سامع». والمظنون أن هذه الفقرة بيت قديم تمثل به موسى في تلك الحال. وقس عليه.
وهناك أسفار كلها شعر، كسفر أيوب، ويقال: إن أصله عربي، وسفر أشعيا ومزامير داود وغيرها مما هو مشهور، وقد بلغ الشعر العبراني أسمى درجاته في أيام سليمان الحكيم، لاستتباب الأمن وسعة الملك ورخاء العيش، وهو العصر الذهبي عند اليهود مثل عصر المأمون عند العرب. وكان سليمان نفسه حكيما وشاعرا كما كان المأمون أيضا.
الشعر العربي
والعرب كالعبرانيين في استعدادهم الفطري لقرض الشعر والاستغراق في عالم الخيال؛ لأنهم ساميون مثلهم، واللغة العربية أكثر استعدادا للتعبير الشعري من العبرانية لما فيها من المترادف والمتوارد وأساليب المعاني والبيان، وإذا اعتبرنا الإقليم والبيئة رأينا العرب أولى بالتصوير الشعري من اليهود، نظرا لانطلاقهم في الصحاري واستقلالهم في أحكامهم وأفكارهم وسائر أحوالهم، ولذلك كان شعرهم أكثره من قبيل الحماسة والفروسية، وأما اليهود فالذل والانكسار والتدين هي الصفات المميزة لأشعارهم.
على أن الغالب في الشعر أن يكون منظوما، وإن اختلفت الأمم في كيفية نظمه، فاكتفى بعضهم أن يكون موزونا غير مقفى، والبعض الآخر مقفى غير موزون، أو مقفى وموزونا معا، والعرب يشترطون في شعرهم الوزن والتقفية، وإلا فهو ليس من قبيل الشعر عندهم، خلافا لما هو عند إخوانهم السريان والعبران، فقد كان السريانيون القدماء ينظمون بلا قافية، أي بلا التزام قافية واحدة، كأفرام السرياني وإسحاق الأنطاكي وغيرهما ،
24
والعبرانيون لم يكونوا يشترطون هذا ولا ذاك، وربما اشترطوا القافية دون الوزن؛ ولذلك لما سمعوا آيات القرآن، بما فيها من التصور الشعري الديني مع التزام القافية، قالوا: هذا شعر، بالقياس على الشعر في لسانهم.
ولا ريب أن للوزن والقافية رنة تزيد المعنى الشعري تأثيرا في النفس، لا أنها هي تجعله شعرا، فالخطابة تؤثر في النفوس وتهيج العواطف، وكلامها غير موزون ولا مقفى، وهي من قبيل التصورات الشعرية، وسيأتي الكلام عليها.
كيف توصلوا للنظم
فالتصورات الشعرية فطرية في العرب، أما النظم فحادث عندهم، وربما صاغوا الشعر أولا بعبارات قصيرة تحفظ وتتناقل على سبيل الأمثال الحكمية ونحوها، والظاهر أنهم قضوا أجيالا والنظم عندهم على سبيل الأمثال، حتى اتفق لبعضهم وهو يقول المثل أنه جعله شطرين مسجوعين في مثل واحد أو مثلين متآلفين، فرأى في ذلك رنة فترنم به وأخذه عنه الناس وجعلوا يتغنونه في حدوهم وإنشادهم وراء إبلهم - والغناء لسان طبيعي - فأعجبتهم رنة القافية والوزن، فزادوا شطرا أو شطرين أو أكثر على قافية واحدة، وهو الرجز في أبسط أحواله، وظلوا دهرا طويلا يقول شاعرهم من الرجز البيتين أو الثلاثة إذا هاجت فيه قريحة الشعر لمفاخرة أو هجاء أو منافرة، وكانوا كلما نبغ فيهم نابغة أدخل في النظم تحسينا، وقد ذكروا ممن حسنوا نظم الرجز العجاج والأغلب العجلي،
25
ولم يعينوا زمنه.
أما القصيد فأشهر من أطلق سراحه امرؤ القيس إمام الشعراء وخاله المهلهل من أهل القرن الخامس للميلاد، فالمهلهل يقولون: إنه أول من قصد القصائد، وامرؤ القيس أول من أطالها وتفنن في نظمها وفتح الشعر وبكى ووصف، وهو أول من شبه الخيل بالعصا والقوة والسباع والظباء،
26
وأول من رقق النسيب وغير ذلك، ولعله تنبه لهذا التفنن في أثناء أسفاره في بلاد الروم فسمع أشعارهم أو أشعار اليونان، والنبيه تنفتق قريحته بالاختلاط، فزاد اختباره فأدخل في الشعر ما أدخله، وكان الشعراء الجاهليون قلما يدخلون بلاد الروم، وإنما كانوا يقفون على الحدود في البلقاء عند بني غسان أو في الحيرة عند بني لخم المناذرة إلا قليلا منهم، فالعرب مطبوعون على الشعر: (1)
لأنهم ساميون أهل خيال من فطرتهم. (2)
لأنهم سكنوا البادية وتعودوا الحرية والاستقلال. (3)
لأن شؤونهم البدوية قضت بينهم بالتنازع والتنافر والتفاخر مما يشحذ الأذهان ويستحث البدائه. (4)
لأن لغتهم تساعدهم على النظم.
والعرب أمة قديمة ولذلك فلا بد أن تكون قد نظمت الشعر من قديم الزمان، والواقع أن أقدم ما وصل إلينا من أشعارهم لا يتجاوز القرن الثاني قبل الهجرة، فهل كان العرب قبل ذلك ينظمون؟
الغالب في اعتقادنا أنهم نظموا كما نظم العبرانيون، ولا يبعد أن يكون سفر أيوب من بقايا شعرهم القديم، وقد حفظ في العبرانية وضاع أصله العربي، ولو لم يحفظ في العبرانية لضاع كما ضاع غيره من منظومات العرب، لجهلهم الكتابة، ولانقطاعهم عن الأمم التي كانت تعرفها في ذلك العهد.
كثرة شعر العرب
على أننا نكتفي في الاستدلال على كثرة ما نظمه العرب باعتبار ما وصل إلينا من أشعارهم في نهضتهم الأخيرة قبل الإسلام، فقد نظموا في قرن واحد أو قرنين ما لم يجتمع عند أمم العالم المتمدن في عدة قرون، وخصوصا في العصر الجاهلي، فإلياذة هوميروس وأوديسيته هما معظم شعر جاهلية اليونان ولا يزيد عدد أبياتها على 30000 بيت، وكذلك مهابهاراتة الهنود 20000 بيت ورامايانتهم 48000 بيت،
27
وأما العرب فيؤخذ مما بلغنا من أخبارهم عما نظموه في نهضتهم الأخيرة قبل الإسلام أنه يربو على أضعاف أضعاف ذلك، فهم يعدون منظوماتهم بالقصائد وليس بالأبيات، فقد ذكروا أن أبا تمام صاحب كتاب الحماسة كان يحفظ من أشعار العرب (الجاهلية) 14000 أرجوزة غير القصائد والمقاطيع،
28
وكان حماد الراوية يحفظ 27000 قصيدة
29
على كل حرف من حروف الهجاء ألف قصيدة، وكان الأصمعي يحفظ 16000 أرجوزة،
30
وكان أبو ضمضم يروي أشعارا لمائة شاعر كل منهم اسمه عمرو،
31
ومع ما يظن في ذلك من المبالغة فإنه يدل على كثرة ما خلفه العرب من المنظومات، وخصوصا إذا اعتبرنا أن ما وصل إلى رواة الشعر في الإسلام إنما هو بعض أشعار الجاهلية ؛ لأن كثيرين من رواة الشعر الجاهلي قتلوا في الفتوح الإسلامية فضاع ما كان في محفوظهم من الأشعار - قال أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير».
32
وزد على ذلك أن العرب نظموا الشعر الكثير وأبدعوا فيه، وهم يكادون يكونون فوضى لا دولة لهم ولا جامعة ولا دين ولا شيء مما حمل اليونان أو الهنود أو غيرهم على النظم وإنما اندفعوا إليه بفطرتهم، ولولا ذلك لتأخروا في النظم حتى قامت دولتهم ونضجت قرائحهم، كما حدث للرومانيين فإن الشعر لم ينظم بلسانهم إلا بعد تأسيس دولتهم ببضعة قرون، ولم يبلغ الشعر اللاتيني عصره الذهبي إلا في أيام أوغسطس وطيباريوس نحو القرن الثامن من تأسيس رومية (القرن الأول للميلاد) ثم أخذ في التقهقر، ويقال نحو ذلك في دول أوربا الحالية، فإن الشعر لم ينضج عندهم إلا بعد نشوء دولهم وتقدمهم في العلم والأدب.
أقسام الشعر
والشعر من حيث موضوعه ينقسم إلى قسمين كبيرين: الأول ما يعبر به الشاعر عن عواطفه وعواطف ذويه، والثاني ما يصف به أحوال الآخرين.
والأول هو الذي يسميه الإفرنج
lyric
أي الغنائي أو الموسيقي من
lyre
أي العود، ويدخل فيه حكاية كل ما تشعر به النفس من الحب والشوق والوجد والرثاء والحماسة والفخر والانتقام، أو ما علمته بطول الاختبار والتعقل كالأمثال والحكم ونحوها، والثاني يشمل سائر ضروب الشعر، ويدخل فيه الشعر القصصي الذي يسميه الإفرنج
Epic
وهو عبارة عن نظم الحوادث والوقائع شعرا، والشعر الوصفي والتمثيلي
Drama ، فأشعار الأمم السامية أكثرها من النوع الأول، وخصوصا العبرانيون فإنهم أرثى أهل الأرض وأبكاهم وأشكاهم، فالمزامير والمراثي ونحوها من قبيل العواطف، والأمثال الجامعة من قبيل الحكم، ويقال بالإجمال: إن الخيال الشعري منصرف في العبرانيين إلى الإحساس الديني كالتعبد والشكوى والاستسلام، ويقال نحو ذلك في العرب، غير أن الخيال الشعري فيهم منصرف إلى ما تدعو إليه أحوالهم من المفاخرة والحماسة والتشبيب وذكر السيف والفرس، وقد عدوا من أشعارهم بضعة عشر نوعا معظمها من قبيل الشعر الغنائي ، الذي يعبر به عن العواطف، كالغزل والفخر والمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والزهد والرثاء والتهاني والوعد والتحذير والحماسة، وبعضها من قبيل الوصف كالزهريات والخمريات، وبعضها من قبيل العظة كالأدب والحكم، ولو تدبرت معانيها لرأيتها ترجع إلى التعبير عن عواطف الشاعر أو عواطف قبيلته.
وأما الشعر الوصفي أو القصصي فلا نقول إنه معدوم في العربية ولكنه قليل، وخصوصا في الجاهلية، وأكثر ما عثروا عليه منه لا يخرج عن وصف بعض الأدوات أو الحيوانات أو بعض الوقائع القصيرة، وأما الشعر القصصي - على نحو ما في إلياذة هوميروس أو شاهنامة الفردوسي - فلا وجود له عندهم، ولا يدل ذلك على أنهم لم ينظموا مثلهما، بل ويغلب على ظننا أنهم نظموا كثيرا من أخبار حروبهم المشهورة بين قبائلهم، ونظرا لعدم تدوينها ضاعت من محفوظهم إلا قطعا بقيت إلى زمن تدوين الشعر في الإسلام، تقتصر القصيدة منها على وصف وقعة أو بعض وقعة من تلك الحروب، والمقام لا يساعدنا على زيادة البحث.
وكان الشعر فطريا في العرب، يندر فيهم من لا يستطيعه حتى المجانين واللصوص،
33
ناهيك بالنساء فقد نبغ منهن جماعة كبيرة من الشواعر.
ومن لم يستطع الشعر لم يفته الاجتماع في المجالس العامة لسماعه أو تناشده، وكثيرا ما كانت النساء يعقدن المجالس لتناشد الأشعار وذكر الشعراء ونقد أقوالهم وبيان ما يتفاضل به بعضهم على بعض،
34
وكان أكثرهم ينظمون الشعر، وهم أطفال لم ينظروا في الأدب أو الشعر
35
فمن شب ولم تنفتق قريحته عدوا ذلك نقصا فيه وعيبا على أهله.
منزلة الشعر
فكانوا يثيرون بذلك غيرة أبنائهم على إتقان الشعر ويحرضونهم على نظمه؛ لأن الشعراء كانوا حماة الأعراض وحفظة الآثار ونقلة الأخبار، وربما فضلوا نبوغ الشاعر فيهم على نبوغ الفارس، ولذلك كانوا إذا نبغ فيهم شاعر من قبيلة أتت القبائل الأخرى فهنأتها به وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان لاعتقادهم أنه حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم،
36
وفي الواقع أن ما بقي لنا من أخبار عرب الجاهلية وآدابهم وعلومهم وأخلاقهم إنما هو منقول عن أشعارهم.
فمن شعرهم استخرج الناس أخبار أيامهم وحروبهم، ومنه ألف السجستاني «كتاب المعمرين»، ومنه استخرجوا أحوال الشعراء المتقدمين، وألفوا الكتب كابن قتيبة وغيره، ومن شعرهم استخرجوا وصف البلاد والجبال والأودية والوهاد، ومنه ألفوا ما ألفوه في الحيوان والنبات، ككتاب الحيوان للجاحظ، والنبات لأبي حنيفة الدينوري، ومن أشعارهم استطلعوا أديانهم في أيام جاهليتهم، وقس على ذلك كل ما عرفوه من عاداتهم وآدابهم في الضيافة والفروسية والأعراس والمآتم وغيرها.
وقد ذكروا شعراء حموا أعراض قبائلهم ببلاغة شعرهم، كما حمى زياد الأعجم قبيلة عبد القيس من لسان الفرزدق، وكما حمى عتبة بن ربيعة بني قصي، وغيرهما كثيرون.
37
المعلقات
وقد بلغ من احترام العرب للشعر والشعراء أنهم عمدوا إلى سبع قصائد اختاروها من الشعر القديم وكتبوها بماء الذهب في القباطي (التيل المصري) بشكل الدرج الملتف وعلقوها في أستار الكعبة وهي المعلقات، ولذلك يقال لها المذهبات أيضا، كمذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير،
38
وبعضهم يجعل المذهبات غير المعلقات، ونخبة أشعارهم الجاهلية 49 قصيدة لتسعة وأربعين شاعرا تقسم إلى سبعة مجاميع كل مجموع سبع قصائد تعرف بلقب خاص وهي: المعلقات، والمجمهرات، والمنتقيات، والمذهبات، والمراثي، والمشوبات، والملحمات، وهي مجموعة في كتاب «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد الأنصاري.
تأثير الشعر
أما تأثير الشعر في حماية الأعراض فسببه ما فطر عليه العرب من الحماسة والخيال فيتأثرون بالكلام البليغ، وربما أقامهم البيت الواحد وأقعدهم.
ولذلك كانوا يخافون هجو الشعراء ويفتخرون بمدائحهم، حتى عمر بن الخطاب فإنه كان إذا عرض عليه الحكم بين شاعرين كره أن يتعرض للشعراء واستشهد رجالا للفريقين مثل حسان بن ثابت وغيره،
39
وقد اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم ليؤكد الحجة عليه،
40
وبلغ من شدة خوفهم الهجاء لئلا يبقى ذلك محفوظا في الأعقاب أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص المحاربي حين أسره بنو تيم يوم الكلاب، وهو الذي يقول:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة
أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
41
فكانوا يبذلون قصارى الجهد في أن يمدحهم الشعراء، ومن مدحوه ارتفعت منزلته وإذا كانت له بنات تزوجن،كما فعل الأعشى الأكبر بالمحلق إذ مدحه الأعشى بقصيدة أنشدها في سوق عكاظ فاشتهر وخطبت بناته.
وكما فعل مسكين الدارمي في إنفاق الخمر السود بعد كسادها ببيتين وصف بهما مليحة عليها خمار أسود وهما:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا أردت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى قعدت له بباب المسجد
فرغب الناس في لبس الخمر السود فاشتروا منها ما كان عند ذلك التاجر،
42
وسيأتي باقي الكلام على تأثير الشعر في النفوس في كلامنا في العصر الإسلامي.
ألقاب الشعراء
وكان الشاعر يلقب بلفظ ورد في بعض أشعاره، فعوف بن سعد بن مالك لقب بالمرقش لقوله:
الدار قفر والرسوم كما
رقش في ظهر الأديم قلم
وجرير بن عبد المسيح الضبعي لقب بالمتلمس لقوله:
فهذا أوان العرض حتى ذبابه
زنابيره والأزرق المتلمس
وزياد بن معاوية الذبياني لقب بالنابغة لقوله:
وحلت في بني القين بن جسر
وقد نبغت لنا منهم شؤون
ويقال نحو ذلك في سائر ألقابهم، كالمخرق وأفنون وتأبط شرا وأعصر والمستوغر والأعسر وطرفة وذي الرمة والمزرد وعويف وجران العود والعجاج وموسى الشهوات وابن قيس الرقيات وصريع الغواني وغبار العسكر ومقبل الريح وغيرهم.
43
وكانت قبائل العرب تتفاوت في شاعريتها، وأشعرها ربيعة ومنهم المهلهل والمرقشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد وعمرو بن قميئة والحارث بن حلزة والمتلمس والأعشى والمسيب الضبي، ثم انتقل الشعر إلى قيس ومنهم النابغتان وزهير بن أبي سلمى وربيعة ولبيد والحطيئة والشماخ وغيرهم، ثم استقر الشعر في تميم ومنهم أوس بن حجر شاعر مضر ويليهم هذيل وغيرها، وكان في حمير جماعة من الشعراء،
44
ومن الغريب أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا الشعر فإنها كانت لا تقر لها به،
45
والظاهر أن اختلاط العرب بالأعاجم كان يفتق قرائحهم ويحملهم على النظم، ولذلك كان أكثر القبائل شاعرية أقربهم إلى العراق، وأشعرهم من اختلط بالفرس، وأشعر من كليهما من عاشر الفرس والروم.
وبالجملة فقد كان الشعر شائعا في العرب، ولم تخل قبيلة من شاعر أو أكثر يحمي ذمارها ويصف عواطفها، وكان الشعر عندهم مستودع الأخبار وخزانة الآداب والأخلاق، ولذلك قيل: الشعر ديوان العرب، ومن قبيل الشعر الأمثال، فإنها مرآة العادات والأخلاق والآداب وقد استخرج الناس كثيرا من آداب العرب الجاهلية من أمثالها. (7) الخطابة في الجاهلية
الخطابة تحتاج إلى خيال وبلاغة، ولذلك عددناها من قبيل الشعر، أو هي شعر منثور وهو شعر منظوم، وإن كان لكل منهما موقف، فالخطابة تحتاج إلى الحماسة، ويغلب تأثيرها في أبناء عصر الفروسية وأصحاب النفوس الأبية طلاب الاستقلال والحرية، مما لا يشترط في الشعر، ولذلك تشابهت جاهلية العرب وجاهلية اليونان من هذا الوجه؛ لأن كليهما أهل شعر وخطابة وأهل إباء واستقلال، ولذلك أيضا كانت الخطابة رائجة عند الرومان، مع تأخر الشعر عندهم، ولنفس هذا السبب قصر العبرانيون في الخطابة مع تقدمهم في الشعر لغلبة الذل والضعف على طباعهم، فتحول خيالهم الشعري إلى الشكوى والتضرع وانصرفت قرائحهم إلى نظم المراثي والحكم.
أما العرب فقد قضى عليهم الإقليم بالحرية والحماسة، وهم ذوو نفوس حساسة مثل سائر أهل الخيال الشعري، فأصبح للبلاغة وقع شديد في نفوسهم، فالعبارة البليغة قد تقعدهم أو تقيمهم بما تثيره في خواطرهم من النخوة.
واقتضت المنازعات بينهم أن يتفاخروا ويتنافروا، فاحتاجوا إلى الخطابة في الإقناع وتأليف الأحزاب، وإن غلب في موضوعات خطبهم المفاخرة بالأحساب والآداب في المجالس والأندية العامة والخاصة، وكانوا يخطبون وعليهم العمائم وهم وقوف في أيديهم المخاصر، ويعتمدون على الأرض بالقسي ويشيرون بالعصي والقنا، وقد يخطبون وهم جلوس على رواحلهم.
46
ومما يدل على تشابه الشعر والخطابة أن الغالب في الشعراء أن يخطبوا والخطباء أن ينظموا، فيكون الواحد شاعرا وخطيبا، فإذا غلب عليه الشعر سموه شاعرا، أو الخطابة سموه خطيبا، والقبائل التي كثر خطباؤها هي غالبا التي كثر شعراؤها.
ومن أقوالهم في تاريخ الشعر والخطابة أن عبد القيس بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر القبائل، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة،
47
ويدل ذلك على ما قدمناه من نتائج احتكاك الأفكار عند الاختلاط بالأعاجم، ولهذا السبب كثر الخطباء أيضا في اليمن لاختلاطهم بالفرس، وكان الفرس أهل خطابة مثل العرب.
موضوعات الخطب
وكان العرب يخطبون بعبارة بليغة فصيحة، وهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون، وإنما كانت الخطابة فيهم قريحة مثل الشعر، وكانوا يدربون فتيانهم عليها من حداثتهم
48
لاحتياجهم إلى الخطباء في إيفاد الوفود مثل حاجتهم إلى الشعراء في حفظ الأنساب والدفاع عن الأعراض، ولكنهم كانوا يقدمون الشاعر على الخطيب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام صار الخطيب مقدما لحاجتهم إليه في الإقناع وجمع كلمة الأحزاب، ولكن نظرا لحاجة العرب إلى الخطباء في إرسال الوفود فقد كان خطيب القبيلة عندهم عميدها وزعيمها، وهو واحد يعدل قبيلة ولسان يعرب عن السنة.
أما إيفاد الوفود فقد كان شائعا في تلك العصور، فكانت دول الروم والهند والصين والفرس يتبادلون الوفود لمبادلة العلاقات أو للمفاخرة، ولم يكن للعرب دولة تستوفد من قبلها، ولكن المناذرة ملوك العرب في العراق كانوا يذكرون فصاحة العرب بين يدي الأكاسرة، وخصوصا كسرى أنو شروان فكان يميل إلى مشاهدتهم، فاتفق مرة أن النعمان خاطبه في ذلك فطلب إليه أن يريه واحدا منهم، فاستقدم جماعة من خطباء العرب اختار من كل قبيلة اثنين أو ثلاثة هم في الحقيقة حكماؤهم ووجهاؤهم، ومنهم أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة من قبيلة تميم، والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود من قبيلة بكر، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل من بني عامر وغيرهم، فقدموا على كسرى وخطب كل منهم بين يديه خطابا ذكره ابن عبد ربه مفصلا في الجزء الثالث من العقد الفريد.
على أن عرب اليمن وشرقي جزيرة العرب كانوا يقدمون على كسرى للشكوى من عماله هناك، وكان غيرهم من العرب يفدون عليه بالهدايا من الخيل ونحوها على سبيل الاستجداء، كما فعل أبو سفيان والد معاوية.
وكانوا يفدون على الأمراء من العرب وغيرهم، كوفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر بالحيرة وعلى آل جفنة في البلقاء، ووفود وجهاء قريش على سيف بن ذي يزن في اليمن بعد قتله الحبشة، فقد وفدوا عليه للتهنئة بالنصر، وكان في جملة خطباء ذلك الوفد عبد المطلب جد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومن هذا القبيل وفود القبائل على النبي بعد أن استتب له الأمر، فقد جاءه من كل قبيلة وجهاؤها وخيرة بلغائها لاعتناق الإسلام أو للاستفهام أو غير ذلك، ومن هذا القبيل وفود العرب على الخلفاء للتسليم والتهنئة، كوفود جبلة بن الأيهم وعمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب، ووفود أهل اليمامة على أبي بكر وغيرهم مما يطول شرحه.
الخطباء
وجملة القول أن الخطباء كانوا عديدين في النهضة الجاهلية كالشعراء، والغالب فيهم أن يكونوا أمراء القبائل، أو وجهاءها، أو حكماءها، وكان لكل قبيلة خطيب أو أكثر كما كان لها شاعر أو أكثر، وأشهر خطباء الجاهلية قس بن ساعدة من بني إياد، أدركه النبي فرآه في سوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول في خطابه: «أيها الناس، اجتمعوا فاسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت».
49
ومنهم سحبان وائل الباهلي الذي يضرب المثل بفصاحته فيقال: «هو أخطب من سحبان وائل». وكان إذا خطب يسيل عرقا، ولا يعيد كلمة ولا يتوقف، ولا يقعد حتى يفرغ، ومنهم جماعة كبيرة من حمير، كدويد بن زيد، وزهير بن خباب، ومرثد الخير، وغيرهم من سائر القبائل، كالحارث بن كعب المذحجي، وقيس بن زهير العبسي، والربيع بن ضبيع الفزاري، وذي الأصبع العدواني، وأكثم بن صيفي التميمي، وعمرو بن كلثوم التغلبي وكثيرين غيرهم.
وكانوا يتخيرون في خطبهم الألفاظ المألوفة الرقيقة المعاني، وكانت خطبهم على ضربين: الطوال والقصار، والقصار أكثر عددا لأنهم كانوا يفضلونها لسهولة حفظها، وكانوا لشدة عنياتهم بالخطب يتوارثونها ويتناقلونها في الأعقاب ويسمونها بأسماء خاصة، كالعجوز اسم خطبة لآل رقية ، والعذراء خطبة قيس بن خارجة، والشوهاء خطبة سحبان وائل.
50 (8) مجالس الأدب وسوق عكاظ
كان العرب يعقدون المجالس لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والمسامرة أو البحث في بعض الشؤون العامة، وكانوا يسمون تلك المجالس الأندية، ومنها نادي قريش ودار الندوة كانت بجوار الكعبة، على أنهم كانوا حينما اجتمعوا على فراغ من العمل عمدوا إلى المناشدة والمفاخرة والمسامرة، وخصوصا في المواسم المعبر عنها بالأسواق.
الأسواق
والمراد بالسوق مكان يجتمع فيه أهل البلاد أو القرى في أوقات معينة، يتبايعون ويتداولون ويتقايضون، ولا تزال أمثال هذه الأسواق تقام إلى اليوم في القرى أو في البلاد البعيدة عن التمدن الحديث، على أن في بعض المدن الكبرى - كالقاهرة مثلا - أسواقا تنعقد في بعض أيام الأسبوع وتعرف بها، كسوق السبت - أو السبتية - وسوق الثلاثاء أو الأربعاء، فيجتمع إليها الناس من الضواحي للبيع والشراء.
ومن هذه الأسواق ما ينعقد كل أسبوع، ومنها ما لا ينعقد إلا مرة في الشهر، أو في السنة، ومنها ما ينعقد مرة كل بضع سنين، فإن للهنود سوقا يقيمونها في هردوار على ضفاف الكنج كل سنة ويبلغ عدد المجتمعين هناك في الموسم 300000 نفس، ويقيمون في ذلك المكان حجا مرة كل 12 سنة يبلغ عدد الحجاج إليه نحو مليون نفس، وهو أكبر أسواق العالم، وكانت أمثال هذه الأسواق كثيرة في روسيا وبلاد الدولة العثمانية وفي ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا، فقد كانت في روسيا سوق تقام في مدينة نوفكرود مرتين في السنة يبلغ عدد الذين يؤمونها 12000 نفس يجتمعون هناك من سائر بلاد روسيا ومن شرقي أوربا، ويقدرون قيمة ما يباع من البضائع في أسواق روسيا بنحو 12000000 روبل في العام، وقس على ذلك سائر الأسواق الكبرى.
وقد كان كثير من أمثال هذه الأسواق في العالم القديم، لكن الأقدام لا تتزاحم فيها إلا إذا كان الغرض من الاجتماع حجا دينيا، فإذا اجتمع الناس في مكان الحج وتكاثروا احتاجوا إلى من يبيعهم الأطعمة والأشربة وغيرها، فتقام الأسواق لهذه الغاية.. كذلك شأن العرب في سوق عكاظ وغيرها من أسواق الجاهلية.
أسواق العرب
كان للعرب في الجاهلية أسواق يقيمونها في أشهر السنة وينتقلون من إحداها إلى الأخرى، يحضرها العرب من قرب منهم ومن بعد، فإذا فرغوا من سوق انتقلوا إلى سواها، فكانوا ينزلون دومة الجندل في أعالى نجد أول يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون أسواقا للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم ينتقلون إلى سوق هجر فيقيمون هناك شهرا، ويرتحلون منها إلى عمان فيقيمون سوقهم، ثم يرتحلون إلى حضرموت فعدن، وبعضهم ينزل إلى صنعاء فيقيمون أسواقهم، ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم، وكانت لهم أسواق أخر في صحار والشحر والمجنة وحباشة والمشقر وغيرها.
51
سوق عكاظ
وأشهر أسواق العرب الجاهلية سوق عكاظ، وهي مكان بين الطائف ونخلة، فكانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذه السوق من أول ذي القعدة، يبيعون ويشترون إلى عشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة فيقضون مناسك الحج ثم يعودون إلى أوطانهم، وكان كل شريف إنما يحضر سوق بلده، إلا عكاظ فإنهم كانوا يتوافدون إليها من كل ناحية، ومن كان له أسير سعى في فدائه هناك، ومن كانت له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة في أيام المواسم وهم أناس من تميم، ومن كان له ثأر على أحد ولم يعرف مكانه طلبه في الموسم، أو أراد أحد أن يعمل عملا تعرفه العرب أو يستشهدها فيه عمله في عكاظ،
52
أو أراد أن يفاخر أحدا على مشهد من الناس فاخره هناك، كانوا يتفاخرون حتى في كبر المصائب - ذكروا أن الخنساء لما أصيبت بمصابها المشهور أعلنت أنها أكبر العرب مصيبة، فبلغ ذلك هند بنت عتبة، وكانت تعتقد أنها أكبر مصيبة منها، فأمرت بهودجها فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ فقالت: «اقرنوا جملي بجمل الخنساء» ففعلوا. فلما دنت منها قالت لها الخنساء: «من أنت يا أخية؟» قالت: «أنا هند بنت عتبة، أعظم العرب مصيبة. وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم؟» فقالت الخنساء: «بعمرو بن الشريد، وصخر ومعاوية ابني عمرو، فبم تعاظمينهم أنت؟» قالت: «بأبي عتبة بن ربيعة، وعمي شيبة بن ربيعة، وأخي الوليد » قالت الخنساء: «أو سواء هم عندك؟» ثم أنشدت تقول:
أبكي أبي عمرا بعين غزيرة
قليل إذا نام الخلي هجودها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي
له من سراة الحرتين وفودها
وصخرا، ومن ذا مثل صخر إذا غدا
بسلهبة الأبطال قبا يقودها؟
فذلك يا هند الرزية فاعلمي
ونيران حرب حين شب وقودها
فقالت هند تجيبها:
أبكي عميد الأبطحين كليهما
وحاميها من كل باغ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي
وشيبة، والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالب
وفي العز منها حين ينمي عديدها
53
فإذا كانت هذه حالهم في المفاخرة بالمصائب، فكيف بالأنساب والأحساب والشجاعة والفضل؟ ولذلك كثر الخصام هناك وانتشبت عدة مواقع لا محل لذكرها هنا.
وإنما يهمنا في هذا المقام أن العرب كانوا يغتنمون وقت الموسم واجتماع القبائل، ويقيمون مجالس البحث والمناشدة والمفاخرة، فينشد الشعراء ويخطب الخطباء فيختارون كبيرا من وجهائهم يجعلونه حكما فيما يختلفون فيه، وكان النابغة الذبياني إذا أتى عكاظ في الموسم ضربوا قبة حمراء من أدم، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها،
54
ليحكم فيها، ويقال إنهم كانوا إذا أقروا على فضل قصيدة علقوها هناك أو في الكعبة، ومنها المعلقات السبع.
وشأن العرب في ذلك مثل شأن اليونان القدماء في الجمناسيوم، وهي أبنية كانوا يجتمعون فيها للألعاب البدنية، وفيهم الفلاسفة والعلماء فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم هناك ويتباحثون ويتناظرون ويتنافرون، كما كان يفعل العرب في عكاظ، ولا يخفى ما في ذلك من تمحيص الحقائق واستحثاث القرائح، فضلا عما كان يترتب على ذلك الاجتماع من تنقيح اللغة ونموها، فإن قريشا كانوا يسمعون لغات القبائل في أثناء تلك الاجتماعات، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ، كالكشكشة والكسكسة والعنعنة والفخفخة والوكم والوهم والعجعجة والاستنطاء والشنشنة، وغير ذلك من العيوب في لغات الأمم الأخرى.
55 (9) الأنساب في الجاهلية
الأنساب
كان للأنساب في عصور الجاهلية عند الأمم القديمة شأن كبير، وكان للناس عناية عظمى في حفظ أنسابهم للتناصر على الأعداء أو التفاخر بالآباء، وقد بالغ اليونان في ذلك حتى حفظوا أنساب آلهتهم وكيفية تسلسلها بعضها من بعض، ثم نسبوا أنفسهم إليها، فلم يكن في جاهلية اليونان أسرة كبيرة من الأشراف ورجال السلطة إلا وحبل نسبها يتصل ببعض تلك الآلهة.
وقد نظم بعضهم الأشعار للتفاخر بذلك قبل المسيح ببضعة قرون، وكذلك كان الرومان في أقدم أجيالهم، فالطبقة التي تعرف عندهم بالبطارقة
كانوا يدعون الانتساب إلى آباء أعلى طبقة من البشر، ومن هذا القبيل انتساب اليهود إلى الآباء الأولين والأنبياء وافتخارهم بذلك على سائر الأمم، وهم يمتازون في هذا عن اليونان والرومان بأنهم يرجعون جميعا إلى أب واحد - وهذا أيضا من قبيل ميلهم الفطري إلى التوحيد مثل سائر الأمم السامية.
نسب العرب
والعرب من حيث أنسابهم فرع من العبرانيين؛ لأن العدنانيين منهم يرجعون في أصل آبائهم الأولين إلى إسماعيل بن إبراهيم، والقحطانيين ينتسبون إلى يقطان بن عابر، وقد زادت عناية العرب في الأنساب رغبة في التناصر على الغرباء أو بعضهم على بعض، وقد رتبت أنساب العرب في ست مراتب أو طبقات، أولها الشعب ثم القبيلة فالعمارة فالبطن فالفخذ فالفصيلة، فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، ثم القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبائل مثل قريش وكنانة، ثم البطن وهو ما انقسمت فيه أنساب العمارة مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ثم الفخذ وهو ما انقسمت فيه أنساب البطن مثل بني هاشم وبني أمية، ثم الفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس.
56
وبالغ العرب في الرجوع إلى الأجداد حتى رجعوا بأسماء المدن إلى أسماء بعض أجدادهم، والغالب أن ينتهي النسب بأحد آباء التوراة، فإذا سئل أحدهم مثلا عن الأندلس: من بناها؟ قال: «بناها أندلس بن يافث بن نوح»،
57
وكان النسابون يحفظون أسماء القبائل وما يتفرع منها حفظا دقيقا، فإذا عرض لهم رجل فقال: أنا من بني تميم - مثلا - فانسبني، فإنه يبدأ من قبيلة تميم وما تفرع منها من العمائر والبطون والأفخاذ حتى ينتهي إلى الفصيلة، ومنها إلى والد السائل أو إليه هو نفسه.
وكثر النسابون في الجاهلية، ولم تخل قبيلة أو عمارة أو بطن من نسابة أو أكثر، ومن أشهرهم دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان وغيرهم،
58
وظل النسب محفوظا في صدر الإسلام، واشتهر كثير من النسابين، فلما آلت الدولة إلى الموالي والمصطنعين صار الناس ينتسبون إلى مواليهم ومصطنعيهم. (10) التاريخ
لم يكن عند عرب الجاهلية تاريخ من قبيل ما نفهمه من هذه اللفظة اليوم، ولكنهم كانوا يتناقلون أخبارا متفرقة بعضها حدث في بلادهم والبعض الآخر نقله إليهم الذين عاشروهم من الأمم الأخرى، فمن أمثال أخبارهم حروب القبائل المعروفة بأيام العرب، وقصة سد مأرب، واستيلاء أبي كرب تبان أسعد على اليمن، وبعض من خلفه، وملك ذي نواس، وقصة أصحاب الأخدود، وفتح الحبشة لليمن، وقصة أصحاب الفيل وقدومهم الكعبة، وحرب ذي يزن الحميري إلى آخر ما انتهى إليه أمر الفرس في اليمن، وقصة عمرو بن لحي وأصنام العرب، وحكاية جرهم ودفن زمزم وتاريخ الكعبة إلى أيام قصي بن كلاب، وولاية الحج وأمر عامر بن الظرب، ثم ما كان من غلب قصي على أمر مكة، وقصة حلف المطيبين وحلف الفضول، وحفر بئر زمزم وحرب الفجار وحديث بنيان الكعبة، غير أخبار عاد وثمود وغيرهما من العرب البائدة، وحكاية بلقيس وسليمان ونحوهما من أخبار التوراة، وغير ذلك من الأخبار التي كان العرب يتناقلونها عند ظهور الإسلام.
الخلاصة
وجملة القول أن ما سميناه علوم العرب قبل الإسلام يبلغ إلى بضعة عشر علما، فلما جاء الإسلام أهمل بعضها كالكهانة والعيافة والقيافة، وبقي بعضها عند أهله، ونشأ ما يقوم مقامه في عصر الحضارة، كالنجوم والأنواء ومهاب الرياح والطب والخيل، وارتقى الباقي واتسع عما كان في الجاهلية، كالشعر والخطابة والبلاغة، وكان الإسلام مساعدا على ارتقائها بالقرآن الكريم.
علوم العرب بعد الإسلام
نريد بها العلوم التي اشتغل بها المسلمون من أول الإسلام إلى إبان التمدن الإسلامي، وهي كثيرة يمكن حصرها في ثلاثة مجاميع: (1)
العلوم التي اقتضاها الإسلام، وهي علوم القرآن، والحديث، والفقه، واللغة ، والتاريخ، ونسميها العلوم الإسلامية أو الآداب الإسلامية. (2)
العلوم التي كانت في الجاهلية وارتقت في الإسلام، وهي الشعر والخطابة، ونسميها الآداب الجاهلية أو الآداب الإسلامية. (3)
العلوم التي نقلت إلى العربية من اللغات الأخرى، كالطب والهندسة والفلسفة والفلك وسائر العلوم الطبيعية والرياضية، ونسميها العلوم الدخيلة أو الأجنبية.
وقبل البحث في هذه العلوم وعلاقتها بالتمدن الإسلامي، نمهد الكلام بمقدمات لا بد من تدبرها قبل الخوض في الموضوع: (1) مقدمات تمهيدية (1-1) الإسلام والعلوم الإسلامية
كان العرب فيما ذكرناه من علومهم وأخبارهم وأطوارهم إذ جاءهم القرآن فبغتوا لما رأوه من بلاغة أسلوبه على غير المألوف عندهم؛ لأنه ليس من قبيل ما كانوا يعرفونه من نثر الكهان المسجع ولا نظم الشعراء المقفى الموزون وقد خالف كليهما، وهو منثور مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، فلا هو شعر ولا نثر ولا سجع، وفيه من البلاغة وأساليب التعبير ما لم يكن له شبيه في لسانهم، فسحروا بأسلوبه وبما حواه من الشرائع والأحكام والأخبار، فلما دانوا بالإسلام أصبح همهم تلاوته وتفهم أحكامه؛ لأنه قاعدة الدين والدنيا، وبه تتأيد السلطة والخلافة، ثم أشكل عليهم بعض ما فيه واختلفوا في تفسيره فعمدوا إلى ما أثر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
من قول أو فعل أو استحسان أو استهجان يستوضحون بها ذلك الإشكال، فأصبح همهم جمع الأحاديث ممن سمعها أو رواها عن سامعها بالإسناد المتسلسل، فرأوا تباينا في الروايات فاشتغلوا في التفريق بين صحيحها وفاسدها، فرجعوا إلى درس الأسانيد واستطلاع أخبار أصحاب الحديث، فجرهم ذلك إلى درس طبقات المحدثين والأحوال التي تناولوا تلك الأحاديث فيها.
ولما قامت دولتهم أخذوا في ضرب الأموال على البلاد التي فتحوها أو غنموها، وضرائبها تختلف شكلا ومقدارا باختلاف طريق الفتح، بين أن يكون عنوة أو صلحا، وأمانا أو قوة، فبحثوا في تحقيق أخبار الفتوح والمغازي وتدوينها، ولما فسدت الأحكام في أيام بني أمية، أكثر العلماء من ذكر المواعظ وإيراد أخبار السلف من الصحابة، وخصوصا الخلفاء الراشدين، فاجتمع من ذلك تاريخ النبي والصحابة والتابعين.
والنظر في أحكام القرآن والسنة لا بد فيه من فهم العبارة وتدبرها، فنشأ من ذلك علم التفسير، وبإسناد نقله وروايته واختلاف القراء بقراءته تولد علم القراءات، وبإسناد السنة إلى صاحبها والتفريق بين طبقات الحديث والمحدثين تولدت علوم الحديث، ثم لا بد من استنباط هذه الأحكام من أصولها، على وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهو علم أصول الفقه ثم الفقه فالعقائد الإيمانية، ثم علم الكلام.
ولما عمدوا إلى تلاوة القرآن والحديث وتفسيرهما، أشكل على غير العرب إعرابهما لأن ملكة اللغة غير راسخة فيهم، فاضطروا إلى تدوين اللغة وترتيب قواعدها وتعيين معاني ألفاظها، ولذلك كان أكثر المشتغلين بعلوم اللغة من الأعاجم.
وتعيين معاني الألفاظ وضبط التلفظ بها دعاهم إلى البحث عن لغة قريش التي كتب بها القرآن، وقد رأيت أن مرجع التحقيق في ذلك إلى الأشعار والأمثال، فاشتغلوا في الأسفار إلى بادية العرب، وخالطوا الأعراب ونقلوا أشعارهم وأقوالهم وأمثالهم، ليدونوها ويرجعوا إليها في التحقيق، فرأوا مشقة في فهم معاني أشعارهم وأمثالهم إلا بالاطلاع على أنسابهم وآدابهم، فلم يكن لهم بد من درس ذلك كله، وهو ما يعبرون عنه بعلم الأدب، واختلفوا في فهم الأشعار، ووجدوا في روايتها اختلافا وفي بلاغتها تفاوتا، فعمدوا إلى البحث في طبقات الشعراء وأماكنهم وأشعارهم وأخبار قبائلهم.
وكان الراحلون في التقاط اللغة والشعر من أفواه العرب في مضاربهم يقفون على سائر علومهم، كالنجوم والأنواء والخيل والأنساب وغيرها، فلما عادوا لتدوين اللغة دونوا أيضا كثيرا من تلك العلوم، ولذلك كان أصحاب هذه العلوم غالبا من علماء اللغة، وعثروا أيضا على ألفاظ وأشعار يندر ورودها فألفوا النوادر.
وجملة القول أن ما اشتغل به المسلمون في صدر الإسلام من العلوم مرجعه إلى القرآن، فهو المحور الذي تدور عليه العلوم الأدبية واللسانية، فضلا عن الدينية، ولذلك سميناها العلوم الإسلامية. (1-2) العرب والقرآن والإسلام
كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية، والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين، فإذا قالوا العرب أرادوا المسلمين، وبالعكس، ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب، وأصبح أهل الجزيرة كلهم مسلمين وهم عرب.
وأساس الإسلام وقوامه القرآن، ففي تأييده تأييد الإسلام أو العرب، وتمكن هذا الاعتقاد في الصحابة، لما فازوا في فتوحهم وتغلبوا على دولتي الروم والفرس، فنشأ في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب، ولا يتلى غير القرآن، وشاع هذا الاعتقاد خصوصا في أيام بني أمية، وقد بالغوا فيه حتى آل ذلك فيهم إلى نقمة سائر الأمم عليهم.
أما في الصدر الأول فقد كان الاعتقاد العام «أن الإسلام يهدم ما كان قبله»
1
فرسخ في الأذهان أنه لا ينبغي أن ينظر في كتاب غير القرآن؛ لأنه جاء ناسخا لكل كتاب قبله، وقد نهى الشرع الإسلامي يومئذ عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن، لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ به، ومن الأحاديث المأثورة من هذا القبيل: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد». ورأى النبي في يد عمر ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: «ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي».
2
ومن الأحاديث التي شاعت في ذلك العهد: «كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم».
3
فتوطدت العزائم على الاكتفاء به عن كل كتاب سواه، ومحو ما كان قبله من كتب العلم في دولتي الروم والفرس، كما حاولوا بعدئذ هدم إيوان كسرى وأهرام مصر وغيرها من آثار الدول السابقة - فلا غرو إذا قيل: إن العرب أحرقوا مكتبة الإسكندرية أو غيرها من خزائن العلم القديم. (1-3) إحراق مكتبة الإسكندرية وغيرها
أنشأ البطالسة في القرن الثالث قبل الميلاد مكتبة في الإسكندرية جمعوا إليها كتب العلم من أقطار العالم المتمدن في ذلك الحين، وسيأتي خبرها، وتوالى على هذه المكتبة أحوال كثيرة في أيام الرومان إلى الفتح الإسلامي، وقد ضاعت بين إحراق ونهب، والمؤرخون من العرب وغيرهم مختلفون في كيفية ضياعها، فمنهم من ينسب إحراقها إلى عمرو بن العاص بأمر عمر بن الخطاب، ويستدلون على ذلك ببعض النصوص العربية، وأشهرها أقوال أبي الفرج الملطي وعبد اللطيف البغدادي والمقريزي وحاجي خليفة. ومنم من يجل العرب عن ذلك ويطعن في تلك الروايات ويضعفها، وقد كنا ممن جارى هذا الفريق في كتابنا «تاريخ مصر الحديث» منذ بضع عشرة سنة، ثم عرض لنا بمطالعاتنا المتواصلة في تاريخ الإسلام والتمدن الإسلامي ترجيح الرأي الأول، لأسباب نحن باسطوها فيما يلي إجلاء للحقيقة فنقول:
أولا:
قد رأيت فيما تقدم رغبة العرب في صدر الإسلام في محو كل كتاب غير القرآن، بالإسناد إلى الأحاديث النبوية وتصريح مقدمي الصحابة.
ثانيا:
جاء في تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج الملطي عند كلامه عن فتح مصر على يد عمرو بن العاص ما نصه: «وعاش (يحيى الغراماطيقي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو، وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ما هاله، ففتن به، وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه، ثم قال له يحيى يوما: «إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها، فما لك به انتفاع فلا نعارضك فيه، وما لا انتفاع لك به فنحن أولى به»، فقال له عمرو: «ما الذي تحتاج إليه؟» قال: «كتب الحكمة التي في الخزائن الملوكية». فقال عمرو: «هذا ما لا يمكنني أن آمر فيه إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب». فكتب إلى عمر وعرفه قول يحيى، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: «... وأما الكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتقدم بإعدامها». فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها، فاستنفدت في مدة ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب».
4
وليس في نص هذه العبارة التباس، ولكن الذين يجلون العرب عن إحراق هذه المكتبة يطعنون في هذه الرواية وينسبون قائلها إلى التعصب الديني، وفي جملتهم جماعة كبيرة من مؤرخي الإفرنج، وقد ألفوا الرسائل والكتب في تجريحها، وخلاصة أقوالهم: إن أبا الفرج المذكور هو أول من نسب حريق مكتبة الإسكندرية إلى عمرو بن العاص، وإنه إنما فعل ذلك تعصبا للنصرانية وتحقيرا للإسلام، وإنه من أهل القرن السابع للهجرة، وكان أبوه يهوديا وتنصر، وشب أبو الفرج على النصرانية وارتقى في رتب الأكليروس إلى الأسقفية، ثم ألف تاريخا في السريانية استخرجه من كتب يونانية وفارسية وعربية وسريانية، واستخلص من هذا التاريخ كتابا في العربية سماه مختصر الدول - قالوا: «وهو أول كتاب ذكرت فيه هذه القصة، وتناقلها عنه الإفرنج إلى هذه الغاية». وإن ما جاء في هذا الشأن من أقوال عبد اللطيف البغدادي والمقريزي وحاجي خليفة من مؤرخي المسلمين لا تعتبر مصادر مستقلة؛ لأن المقريزي نقل عن عبد اللطيف حرفيا، وحاجي خليفة لم يذكر مدينة الإسكندرية وإنما أشار إلى أن العرب في صدر الإسلام لم يعتنوا بشيء من العلوم إلا بلغتهم وشريعتهم، حتى قال: «ويروى أنهم أحرقوا ما وجدوه من الكتب في فتوحات البلاد». وأن عبد اللطيف البغدادي ذكر حريق المكتبة في عرض كلامه عن عمود السواري بغير تحقيق، ويزعم أصحاب هذا الرأي أن مكتبة الإسكندرية أحرقها الرومان قبل الإسلام، وأنها لو أحرقها العرب لذكرها مؤرخو المسلمين وخصوصا كتاب الفتوح والمغازي. ا.ه.
لا ننكر أن بعض هذه المكتبة احترق قبل الإسلام، ولكن ذلك لا يمنع احتراق باقيها في الإسلام، أما النصوص التي وردت في هذا الشأن فليس أبو الفرج أول من رواها كما توهم بعضهم، فإن عبد اللطيف البغدادي طاف مصر وكتب عن مشاهدها وآثارها، وذكر إحراق العرب لهذه المكتبة قبل أن يولد أبو الفرج ببضع وعشرين سنة؛ لأن أبا الفرج ولد سنة 1226م (622ه) وعبد اللطيف زار مصر في أواخر القرن السادس للهجرة، وهاك نص عبارته: «ورأيت أيضا حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة، بعضها صحيح وبعضها مكسور، ويظهر من حالها أنها كانت مسقوفة، والأعمدة تحمل السقف وعمود السواري عليه قبة هو حاملها.
وأرى أنه الرواق الذي كان يدرس فيه أرسطوطاليس وشيعته من بعده، وأنه دار المعلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته، وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه».
5
نعم إن عبارة البغدادي مختصرة، وقد جاءت عرضا، لكنها تدل على وثوق قائلها بصحتها، كأنه أخذها عن مصدر موثوق به ومعول عليه في ذلك العصر، كالذي أخذ عنه أبو الفرج.
أما أبو الفرج فقد أتم كتابه «مختصر الدول» في العربية في أواخر حياته (توفي سنة 684ه). وهو ليس مختصر تاريخه السرياني إلا من حيث أخبار الفتح؛ لأنه يزيد على النسخة السريانية بأخبار كثيرة، عن الإسلام والمغول وتاريخ علوم الروم والعرب وآدابهم، وأما السرياني فهو عبارة عن أخبار الفتح فقط، فإغفال ذكر إحراق المكتبة فيه لا يدل على أنه دخيل في النسخة العربية، أو دسه فيه بعض المتأخرين كما توهم بعضهم، وإنما ذكر في النسخة العربية؛ لأنه يتعلق بآداب الروم والعرب التي أدخلها المؤلف في هذه النسخة كما تقدم. •••
وقد تبين لنا بالبحث والتنقيب أن أبا الفرج المذكور نقل تلك الرواية عن مؤرخ مسلم توفي قبله بنحو أربعين سنة، وهو جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي، وزير حلب المعروف بالقاضي الأكرم، ولد في قفط من صعيد مصر سنة 565 وتوفي في حلب سنة 646ه، وللقاضي المذكور كتاب في تراجم الحكماء، عثرنا على نسخة منه خطية في دار الكتب المصرية مكتوبة سنة 119ه، وقرأنا فيها في أثناء ترجمة يحيى النحوي كلاما في معنى كلام أبي الفرج وأكثر تفصيلا منه، وفيه شيء عن تاريخ هذه المكتبة منذ إنشائها، وإليك نص قوله: «وعاش (يحيى النحوي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى، فأكرمه عمرو ورأى له موضعا، وسمع كلامه في إبطال التثليث فأعجبه، وسمع كلامه أيضا في انقضاء الدهر، ففتن به، وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن للعرب بها أنسة ما هاله.
وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكاد لا يفارقه، ثم قال له يحيى يوما: «إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها، فأما ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وأما ما لا نفع لك به فنحن أولى به، فأمر بالإفراج عنه». فقال له عمرو: «وما الذي تحتاج إليه؟» قال: «كتب الحكمة في الخزائن الملوكية، وقد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها». فقال له: «ومن جمع هذه الكتب؟ وما قصتها؟»
فقال له يحيى: «إن بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء، وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها وأفرد لها خزائن، فجمعت وولى أمرها رجلا يعرف بابن مرة (زميرة) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل، واجتمع من ذلك في مدة خمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتابا، ولما علم الملك باجتماعها وتحقق عدتها قال لزميرة: أترى بقي في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا؟ فقال له زميرة: قد بقي في الدنيا شيء في السند والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم، فعجب الملك من ذلك وقال له: دم على التحصيل، فلم يزل على ذلك إلى أن مات، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا».
فاسكثر عمرو ما ذكره يحيى وعجب منه وقال له: «لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» وكتب إلى عمر وعرفه بقول يحيى الذي ذكر واستأذنه ما الذي يصنعه فيها، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: «وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله تعالى فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها». فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها، وذكرت عدة الحمامات يؤمئذ وأنسيتها، فذكروا أنها استنفدت في مدة ستة أشهر، فاسمع ما جرى واعجب ».
6
انتهى كلام ابن القفطي.
وبمقابلة هذه الفقرة بكلام أبي الفرج يتضح لك أن أبا الفرج نقل قول ابن القفطي مختصرا، ولو قرأت الكتابين لعلمت أن أبا الفرج نقل كثيرا من زياداته العلمية في كتابه العربي عن كتاب ابن القفطي، ككلامه عن ثيادوق طبيب الحجاج،
7
فإن العبارة منقولة عن تراجم الحكماء حرفيا.
بقي علينا البحث في المصدر الذي نقل عنه ابن القفطي، والغالب أنه نفس المصدر الذي نقل عنه عبد اللطيف البغدادي؛ لأنهما كانا متعاصرين وعبد اللطيف سابقه؛ لأنه ولد سنة 557 وتوفي سنة 629ه، ولكن لسوء الحظ قد ضاعت تلك المصادر في جملة ما ضاع من مؤلفات العرب.
على أننا إذا تدبرنا ما ذكره ابن النديم في كتاب الفهرست عن أخبار الفلاسفة الطبيعيين من حكاية إنشاء مكتبة الإسكندرية، يتضح لنا أن في جملة المصادر التي نقلت عنها تلك الرواية تاريخا لرجل اسمه إسحاق الراهب، كان يبحث في أخبار اليونان والرومان وآدابهما.
ومن جملة ما نقلوه عنه خبر إنشاء مكتبة الإسكندرية على يد زميرة، وهاك نصه: «إن بطولوماوس فيلادلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك فحص عن كتب العلم وولى أمرها رجلا يعرف بزميرة، فجمع من ذلك - على ما حكى - أربعة وخمسين ألف كتاب ومائة وعشرين كتابا، وقال له: أيها الملك قد بقي في الدنيا شيء كثير في السند والهند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم»،
8
وهي نفس عبارة ابن القفطي، فالظاهر أنه أخذ إنشاء المكتبة عن إسحاق المذكور، وأخذ حريقها عن سواه، ولولا ما نقله ابن النديم عن إسحاق الراهب من أمر الفلاسفة لما علمنا بوجوده، وظنناه لم يقل شيئا كما ظننا المسلمين لم يذكروا شيئا عن حريق مكتبة الإسكندرية على يد عمرو.
فيؤخذ مما تقدم أن حكاية إحراق مكتبة الإسكندرية لم يختلقها أبو الفرج لتعصب ديني، ولا دسها أحد بعده، بل هو نقلها عن ابن القفطي وهو قاض من قضاة المسلمين، عالم بالفقه والحديث وعلوم القرآن واللغة والنحو والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل، وكان صدرا محتشما جمع من الكتب ما لا يوصف، وكانوا يحملونها إليه من الآفاق، وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار، ولم يكن يحب من الدنيا سواها، وله حكايات غريبة عن غرامه بالكتب، ولم يخلف ولدا فأوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب، وله مؤلفات عديدة في التاريخ والنحو واللغة، وفي جملتها «كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين» في ستة مجلدات،
9
وكتاب «تراجم الحكماء» الذي نحن بصدده. وأن ابن القفطي وعبد اللطيف البغدادي أخذا عن مصدر ضائع.
وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة فلا بد له من سبب، والغالب أنهم ذكروها ثم حذفت بعد نضج التمدن الإسلامي واشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب، فاستبعدوا حدوث ذلك في عصر الخلفاء الراشدين فحذفوه، أو لعل لذلك سببا آخر، وعلى أي حال فقد ترجح عندنا صدق رواية أبي الفرج.
ثالثا:
ورد في أماكن كثيرة من تواريخ المسلمين خبر إحراق مكتبات فارس وغيرها على الإجمال، وقد لخصها صاحب كشف الظنون في عرض كلامه عن علوم الأقدمين بقوله: «إن المسلمين لما فتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر (رضي الله عنه) أن «اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله تعالى» فطرحوها في الماء أو في النار، فذهبت علوم الفرس فيها».
10
وجاء في أثناء كلامه عن أهل الإسلام وعلومهم: «إنهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد»،
11
ولا بد من أصل نقل صاحب كشف الظنون عنه، وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك بقوله: «فأين علوم الفرس التي أمر عمر (رضي الله عنه) بمحوها عند الفتح».
12
رابعا:
إن أحراق الكتب كان شائعا في تلك العصور تشفيا من عدو أو نكاية فيه، فكان أهل كل شيعة أو ملة يحرقون كتب غيرها، كما فعل عبد الله بن طاهر بكتب فارسية كانت لا تزال باقية إلى أيامه (سنة 213ه) من مؤلفات المجوس، وقد عرضت عليه فلما تبين حقيقتها أمر بإلقائها في الماء، وبعث إلى الأطراف أن من وجد شيئا من كتب المجوس فليعدمه.
13
ولما فتح هولاكو التتري بغداد سنة 656ه أمر بإلقاء كتب العلم التي كانت في خزائنها بدجلة، وكانت شيئا لا يعبر عنه، مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح بكتب الفرس وعلومهم،
14
وقال آخرون: إنه بنى بتلك الكتب إسطبلات الخيول وطوالات المعالف عوضا عن اللبن،
15
والأرجح أنه أغرقها انتقاما من أهل السنة.
ولما فتح الإفرنج طرابلس الشام في أثناء الحروب الصليبية أحرقوا مكتبتها بأمر الكونت برترام سنت جيل، وكان قد دخل غرفة فيها نسخ كثيرة من القرآن، فأمر بإحراق المكتبة كلها وفيها على زعمهم ثلاثة ملايين مجلد،
16
وفعل الأسبان نحو ذلك بمكتبات الأندلس لما استخرجوها من أيدي المسلمين في أواخر القرن الخامس عشر.
خامسا:
إن أصحاب الأديان في تلك العصور كانوا يعدون هدم المعابد القديمة وإحراق كتب أصحابها من قبيل السعي في تأييد الأديان الجديدة فأباطرة الروم حالما تنصروا أمروا بهدم هياكل الأوثان في مصر وإحراقها بما فيها من الكتب وغيرها، وكان خلفاء المسلمين إذا أرادوا اضطهاد المعتزلة وأهل الفلسفة أحرقوا كتبهم، والمعتزلة كثيرا ما كانوا يتجنبون ذلك تحت خطر القتل فيستترون ويجتمعون سرا والخلفاء يتعقبون آثارهم ويحرقون كتبهم، ومن أشهر الحوادث من هذا القبيل ما فعله السلطان محمود الغزنوي لما فتح الري وغيرها سنة 420ه، فإنه قتل الباطنية ونفى المعتزلة وأحرق كتب الفلاسفة والاعتزال والنجامة.
17
سادسا:
في تاريخ الإسلام جماعة من أئمة المسلمين أحرقوا كتبهم من تلقاء أنفسهم، منهم أحمد بن أبي الحواري، فإنه لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال: «نعم الدليل كنت لي على ربي، فلما ظفرت بالمدلول فالاشتغال بالدليل محال» فغسل كتبه. وذكروا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه، وأن أبا عمرو بن العلاء كانت كتبه ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها.
18
فيرجح مما تقدم أن العرب أحرقوا ما عثروا عليه من كتب العلم القديمة في الصدر الأول تأييدا للإسلام، فلما تأيد سلطانهم واشتغلوا بالعلوم عوضوا على العالم أضعاف ما أحرقوه، كما سترى. (1-4) الرومان والإسلام والعلم
من جملة ما يرمى به العرب من المطاعن «أنهم حتى في إبان تمدنهم لم يشتغلوا هم أنفسهم في العلم، وإنما كان المشتغلون به الفرس وغيرهم من الأمم الخاضعة لسلطانهم، بخلاف اليونان والرومان وغيرهما من دول التمدن القديم، فقد كانوا هم أنفسهم يشتغلون بالعلم، وقد وضعوا علوما تناقلها الناس عنهم، وأما العرب فأكثر علومهم منقولة عن سواهم».
فأصحاب هذا القول يقابلون بين دولة الرومان ودولة العرب، والصواب أن يقابلوا بين الرومان والإسلام؛ لأن العرب أسسوا دولة الإسلام كما أسس أهل رومية دولة الرومان، ودخل في دين الإسلام أمم كثيرة اختلطوا بالعرب فتألف منهم أمة الإسلام، كما اختلطت شعوب الممالك التي فتحها أهل رومية وصارت أمة واحدة تعرف بأمة الرومان.
فإذا قابلنا بين الإسلام والرومان رأينا المسلمين أكثر اشتغالا بالعلم والأدب من أولئك؛ لأن كليهما نقلا العلم عن اليونان، المشتغلون به من الرومان لم يكونوا من أهل رومية، كما أن المشتغلين به من المسلمين لم يكونوا كلهم من أهل جزيرة العرب، والسبب في اجتماع شعوب المملكة الرومانية باسم الرومان، وعدم اجتماع شعوب المملكة الإسلامية باسم العرب، أن العرب فتحوا بلادا أهلها عريقون في الحضارة، فلم يمكن اندماجهم وضياع جنسياتهم، وقد ساعد على ذلك تفرق المذاهب، ومبالغة العرب في تفضيل أنفسهم على سواهم من الأمم الخاضعة لسلطانهم.
أما اليونان فلا جدال في أنهم واضعو العلم والفلسفة، لما في فطرتهم من الاقتدار على ذلك - وإن كانوا قد بنوا علمهم وفلسفتهم على أسس أخذوا بعضها من المصريين القدماء، والبعض الآخر من الكلدان وغيرهم - ولكنهم يعدون واضعين، فهم يفضلون الرومان والعرب من هذا القبيل، ولكنهم أضعف منهما في إنشاء الحكومات وسن الشرائع؛ لأن اليونان لم يطل أمر دولتهم ولا نظموا حكومة ثابتة، وإنما كانوا دولا صغيرة متفرقة يتنازعون ويتنافرون ويتنافسون.
ثم إن الرومان أخذوا العلم والفلسفة عن اليونان، وقلما زادوا فيهما ، ولكنهم نظموا الحكومة ووضعوا الشرائع والقوانين، ونظموا دولة عظيمة مما لم يستطعه اليونان، فالرومان أهل فتح وسلطان، واليونان أهل تصور وخيال، وأما العرب فقد جمعوا الحسنتين؛ لأنهم أهل فتح وسلطان وأهل تصور وخيال؛ ولذلك فإنهم أنشأوا دولة بعيدة الأطراف، ووضعوا الشرائع والنظم (الفقه) ولم يكتفوا بنقل العلم عن اليونان واستبقائه على حاله، بل هم درسوه وزادوا فيه من نتائج قرائحهم وعقولهم، وبما نقلوه من علوم الفرس والهند والكلدان وغيرهم، فضلا عما وضعوه هم أنفسهم من العلوم الإسلامية واللسانية وما تفردوا فيه من قريحة الشعر، وليس هنا محل الإفاضة في ذلك. (1-5) حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
قد تقدم أن العلوم التي حدثت في التمدن الإسلامي صنفان: العلوم الإسلامية، والعلوم الدخيلة. فتغلب العلوم الإسلامية في غير العرب من المسلمين، سببه أن العرب قاموا بالإسلام وفتحوا الفتوح وهم أهل بادية أميون، فانصرف همهم في بدء الدعوة إلى نشر دينهم وإنشاء دولتهم مما لا يحتاج إلى علم. وإنما كانت حاجتهم من العلم إلى القرآن، يدعون الناس به إلى الإسلام، وكانوا يستظهرونه ويتناقلونه بالتلقين. ولم يمض على ظهور الدعوة بضع وعشرون سنة حتى فتحوا الشام والعراق ومصر وفارس وإفريقية وغيرها، والمسلمون (العرب) يومئذ هم الجند الفاتح، وكانوا قليلين بالنظر إلى ذلك الملك الواسع، فضلا عمن قتل منهم في الحروب والفتن.
ومع ذلك فقد كانوا مطالبين بحفظ تلك المملكة وحماية أهلها وتدبير شؤونها. فأصبح همهم الاشتغال بالرئاسة في الجند والحكومة. ونظرا لفطرتهم الخيالية انصرفت قرائحهم إلى الاشتغال بالشعر والخطابة والأمثال - وهي آدابهم في جاهليتهم - وتحريض أبنائهم على إتقانها مع المثابرة على أسباب الرياضة البدنية بالفروسية والعناية بالخيل، مما أعانهم على الفتح ونشر الدين، وأصبحوا يخافون التحضر لئلا يذهب بنشاطهم وجامعتهم.
وكأن رجلهم العظيم عمر بن الخطاب نظر إلى مستقبل الإسلام من طرف خفي، فمنعهم من الزرع والاشتغال بأسباب الحضارة، ولهذا السبب لما تفرق العرب في الأمصار وتعرضوا لأخطار البحار، كتب إليهم عمر أن يمارسوا السباحة أيضا، وهاك نص كتابه: «أما بعد فعلموا أولادكم السباحة والفروسية ، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر».
19
ولما فسدت اللغة واختلفت القراءات، وأزمع الخلفاء على جمع القرآن وتدوينه، كان أكثر المتهافتين على حفظه من المسلمين غير العرب، وهم الموالي وأكثرهم من الفرس، وكانوا يومئذ أهل تمدن وعلم، وكان العرب يعرفون لهم ذلك، ومن الأحاديث النبوية: «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس»،
20
وكان الفرس من الجهة الأخرى يرون للعرب مزية عليهم بالسيادة والنبوة وهيبة الفتح، فجعلوا يتقربون إليهم بالعلم على ما تتطلبه حال الإسلام - وهو في أوائل دولتهم عبارة عن قراءة القرآن وحفظه وتفسيره وجمع الحديث وإسناده وحفظه - لذلك كان أكثر الحفاظ والقراء والمحدثين والفقهاء والمفسرين من العجم، وإذا كان فيهم أحد من العرب فالأغلب فيه أن يكون من القبائل الصغرى التي لا شأن لها في الفتح، كالأصمعي فقد كان عربيا ولكنه كان من قبيلة باهلة الموصوفة بالخساسة وفيها يقول بعض الشعراء:
لو قيل للكلب يا باهلي
عوى الكلب من لؤم ذاك النسب
على أن الأكثرين كانوا من غير العرب، فوهب بن منبه من أقدم رواة الحديث وأصحاب التفسير وهو فارسي الأصل، ونافع القارئ ديلمي، وقس على ذلك سائر العلماء، فمن أكابر الفقهاء وأقدمهم الحسن بن أبي الحسن، ومحمد بن سيرين بالبصرة، وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد ابنا جبير وسليمان بن يسار في مكة، وزيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر ونافع ابن أبي نجيح في المدينة، وربيعة الرأي وابن أبي الزناد في قباء، وطاوس وابنه وابن منبه في اليمن، ومكحول في الشام، وغيرهم في أماكن أخرى، وكلهم من الموالي أي المسلمين غير العرب.
21
ولما دعا فساد اللغة إلى ضبط قواعدها وجمع ألفاظها، كان العجم أحوج إلى ذلك من العرب، لاستغناء العربي بملكته الفطرية عن تعلم القواعد وحفظ الألفاظ، فاشتغل الأعاجم بعلوم اللغة وكان أكثر علماء الأدب واللغة منهم، كحماد الراوية وهو ديلمي، والخليل وسيبويه والأخفش والفارسي والزجاج وغيرهم من الفرس أو من في معناهم.
أما العلوم الدخيلة وهي العلم والفلسفة فالمشتغلون بها للعرب هم غير العرب وغير المسلمين؛ لأن العباسيين لما أرادوا نقل كتب اليونان والفرس والهند إلى العربية، استخدموا عارفي هذه الألسنة من الكلدان والسريان والفرس وغيرهم لنقلها، وأكثرهم من النصارى كما سيجيء.
فالعرب اشتغلوا عن العلم في أول دولتهم بالرئاسة والسياسة للأسباب التي قدمناها، وما زالوا هم أهل الدولة وحاميتها وأولى سياستها إلى أوائل الدولة العباسية، فتولد فيهم بتوالي الأجيال الأنفة من انتحال العلم؛ لأنه صار من جملة الصناعات - وأهل الرئاسة يستنكفون من الصناعات والمهن - وكانوا إذا رأوا عربيا يشتغل في اللغة أو التعليم عابوه وقالوا: «إنه يشتغل بصناعات الموالي»، ومن أقوالهم: «ليس ينبغي للقرشي أن يستغرق في شيء من العلم إلا علم الأخبار، وأما غير ذلك فالنتف والشذر من القول». ومر رجل من قريش بفتى من ولد عتاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه فقال: «أف لكم ... علم المتأدبين وهمة المحتاجين».
22
ولا بأس من اشتغال الموالي بالعلوم الإسلامية وهم مسلمون، على أننا لا نعد العرب الذين تحضروا في الدولة العباسية عربا خلصا لاختلاطهم بالموالي والمماليك بالمصاهرة والمعاشرة والمساكنة، حتى الخلفاء فإن أكثر أمهاتهم من غير العرب، وسنعود إلى هذا البحث في جزء آخر. (1-6) تدوين العلم في الإسلام
قلنا فيما تقدم: إن الخلفاء الراشدين كانوا يخافون الحضارة على العرب، لئلا تذهب بنشاطهم وبداوتهم، ولذلك منعوهم من تدوين الكتب؛ لأن علومهم في أوائل الإسلام كانت مقصورة على القرآن والتفسير ورواية الأحاديث، ونظرا لقلة الاختلاف ولسهولة المراجعة والاستفتاء من ثقات الصحابة والتابعين، لقرب عهدهم من صاحب الشريعة، كانوا في غنى عن تدوين تلك العلوم. ويستدل مما روي عن أبي سعيد الخدري أنه استأذن النبي في كتابة العلم فلم يأذن له، وروي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة وقال: «إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة». وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: «إني كتبت كتابا أريد أن أعرضه عليك» فلما عرضه عليه أخذه منه ومحاه بالماء، وقيل له: «لماذا فعلت ذلك؟» فقال: «لأنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ، فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم»،
23
وإن الكتاب يزاد فيه وينقص ويغير والمحفوظ لا يمكن تغييره.
وكان هذا الاعتقاد فاشيا في الصحابة والتابعين، وتمسك به جماعة من كبارهم، وكانوا إذا سئلوا تدوين علمهم أبوا واستنكفوا - ولعلهم كانوا يفعلون ذلك ليبقى الناس في حاجة إليهم رأسا، سأل رجل سعيد بن جبير - وهو من أعلام التابعين - أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال: «لأن يسقط شقي أحب إلي من ذلك».
24
فقضى العرب عصر بني أمية وهم يشتاقون إلى البداوة؛ لأن دولتهم كانت عربية بدوية، فانقضى القرن الأول وبعض القرن الثاني للهجرة والمسلمون يتناقلون العلم بالتلقين، ويعتمدون على الحفظ، ولم يدونوا غير القرآن لأسباب سيأتي بيانها، وكان أبو بكر قد توقف عن جمعه وتدوينه وقال: «كيف أفعل أمرا لم يفعله رسول الله؟»
25
أما ما خلا ذلك من التفسير والحديث والأشعار والأخبار والأمثال فقد كانوا يتناقلونها في صدورهم، وأكثرهم يقرأون ولكنهم لا يكتبون، وقد يكون بعضهم حافظا ومفسرا وهو لا يقرأ، كما كان شأنهم في الجاهلية: يشعرون ويخطبون ولا يقرأون.
فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار وحدثت الفتن واختلفت الآراء وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء، اضطروا إلى تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن، واشتغلوا في النظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط، وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول، فرأوا ذلك مستحبا فعمدوا إلى التدوين ورجعوا إلى حديث رواه أنس بن مالك وهو قوله: «قيدوا العلم بالكتابة»،
26
وقوله: «العلم صيد والكتابة قيد».
27
على أنهم ظلوا مع ذلك يستنكفون من التدوين بأيديهم، فكانوا يستكتبون الكتاب أو يلقون دروسهم بطريق الإملاء، وذلك أن يتكلم المحدث أو الفقه والتلميذ يكتب على الرق أو القرطاس أو الكاغد، فيبدأ المستملي في أول القائمة بقوله: «مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا» ويذكر التاريخ، ثم يورد المملي بإسناده سواء كان حديثا أو خبرا، وإذا كان فيه غريب يحتاج إلى التفسير فسره، وأورد أشعار العرب وغيرها بأسانيدها، أو الفوائد اللغوية بإسناد أو بغير إسناد على ما يختاره،
28
وهذا معنى قولهم «أمالي» المحدث فلان أو اللغوي، أي ما أملاه من الفنون.
وظلوا - حتى بعد اشتغالهم بالتأليف - يحرضون الناس على الحفظ والتعويل على السماع، وكان أحوج العلوم إلى ذلك علم الدين ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه؛ لأن الكتابة في القرون الأولى للإسلام كانت بلا نقط، فلا تفرق في شعر الهذليين إذا أنت قرأته بين «شابة» و«ساية» وهما موضعان. ولا تثق بمعرفتك في تمييز أمثالهما مما تتشابه صوره بدون إعجام. وقرئ يوما على الأصمعي في شعر ابن ذؤيب: «بأسفل ذات الدير أفرد جحشها» فقال أعرابي حضر مجلس القارئ: «ضل ضلالك أيها القارئ ... إنما هي ذات الدبر (بالباء) وهي ثنية عندنا» فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد. ومن يرى شعر المعذل في وصف الفرس:
من السح جوالا كأن غلامه
يصرف سبدا في العنان عمردا
إذا كان بلا تنقيط ولا يقرأ «سيدا» بالياء، لانصراف الذهن إلى السيد وهو الذئب؟ وقد أخطأ في ذلك أكثر الذين قرأوا هذا البيت.
29
فظل المسلمون زهاء قرن وليس عندهم كتاب مدون غير القرآن، مع أن الكتابة كانت شائعة يومئذ، وقد نبغ جماعة من مفسري القرآن ورواة الحديث وعلماء النحو واللغة وناظمي الشعر ورواته، وإنما كانت الكتابة العربية مستخدمة لكتابة القرآن أو الرسائل إلى القواد، ولتدوين الحساب في دفاتر الحكومة بعد أن انتقلت الدواوين إلى العربية، أما سائر العلوم فكانت تتناقل بالسماع وتحفظ في الصدور، وربما دون بعضها في صحف غير مرتبة، وأما تأليف الكتب فلم يكن معروفا عندهم.
واختلف مؤرخو المسلمين في أول من صنف الكتب في الإسلام، فقال بعضهم: إنه ابن جريج البصري المتوفى سنة 155ه،
30
وقال غيرهم غير ذلك، ولم يخرجوا على أي حال عن أواسط القرن الثاني للهجرة، وأن أول ما دون - بعد القرآن والتفسير - الحديث. ولكننا رأينا من ألف قبل ذلك بنصف قرن، وأن أول ما دونوه من العلوم بعد القرآن التفسير، وأقدم ما علمنا به من التفاسير تفسير مجاهد بن جبير المتوفى سنة 104ه.
31
ثم اشتغلوا في تدوين التاريخ وخصوصا المغازي، وأقدم ما وصل إلينا خبره من كتبهم في هذا الموضوع كتاب ألفه وهب بن منبه صاحب الأخبار والقصص المتوفى سنة 116ه، وهو من أبناء الفرس المولدين باليمن، فألف كتابا في الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وأشعارهم وقصصهم، قال ابن خلكان: إنه شاهده بنفسه وأثنى عليه،
32
ثم كتاب المغازي لمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى سنة 141ه،
33
ثم ألف المسلمون في الحديث والفقه في أواسط القرن الثاني للهجرة، فصنف ابن جريج بمكة وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، وألف أبو حنيفة في الفقه والرأي في الكوفة، وصنف الأوزاعي في الشام، ومالك جمع الموطأ بالمدينة، وغيرهم،
34
ثم تكاثرت التآليف بعد ذلك كما سيأتي. (1-7) الخط العربي (أ) تاريخه
ليس في آثار العرب بالحجاز ما يدل على أنهم كانوا يعرفون الكتابة إلا قبيل الإسلام، مع أنهم كانوا محاطين شمالا وجنوبا بأمم من العرب خلفوا نقوشا كتابية كثيرة، وأشهر تلك الأمم حمير في اليمن كتبوا بالحرف المسند، والأنباط في الشمال كتبوا بالحرف النبطي، وآثارهم باقية إلى الآن في ضواحي حوران والبلقاء، والسبب في ذلك أن الحجازيين أو عرب مضر كانت البداوة غالبة على طباعهم، والكتابة من الصناعات الحضرية.
على أن بعض الذين رحلوا منهم إلى العراق أو الشام قبيل الإسلام تخلقوا بأخلاق الحضر، واقتبسوا الكتابة منهم على سبيل الاستعارة، فعادوا وبعضهم يكتب العربية بالحرف النبطي أو العبراني أو السرياني، ولكن النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف عن الأول الخط النسخي (الدارج) وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة، وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها.
ومعنى ذلك أن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام من الخط السرياني، في جملتها قلم يسمونه «السطرنجيلي» كانوا يكتبون به أسفار الكتاب المقدس،
35
فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام، وكان من أسباب تلك النهضة عندهم، وعنه تخلف الخط الكوفي وهما متشابهان إلى الآن.
واختلفوا فيمن نقله إلى بلاد العرب، والأشهر أن أهل الأنبار نقلوه - وذلك أن رجلا منهم اسمه بشر بن عبد الملك الكندي أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، تعلم هذا الخط من الأنبار وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية، فعلم جماعة من أهل مكة فكثر من يكتب بمكة من قريش
36
عند ظهور الإسلام، ولذلك توهم بعضهم أن أول من نقل الخط إلى العرب سفيان بن أمية.
والخلاصة على أي حال أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء تجاراتهم إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل، وظل الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معا: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية، كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية، ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي - فضلا عن شكله - أن الألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة تحذف، وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية، وكان ذلك شائعا في أوائل الإسلام، وخصوصا في القرآن فيكتبون «الكتب» بدل «الكتاب»، و«الظلمين» بدل «الظالمين».
فجاء الإسلام والكتابة معروفة في الحجاز، ولكنها غير شائعة، فلم يكن يعرف الكتابة إلا بضعة عشر إنسانا، أكثرهم من كبار الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان وأبان ابنا سعيد بن خالد بن حذيفة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأشهل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب وولده معاوية، وجهيم بن الصلت بن مخرمة، ثم تعلم غيرهم من الصحابة، ومنهم خرج كتاب الدواوين للخلفاء الراشدين وكتاب الرسائل وكتاب القرآن، فكتبوا القرآن بالكوفي أيام الراشدين وأيام بني أمية ، وفي أيامهم تفرع الخط المذكور إلى أربعة أقلام، اشتق بعضها من بعض كاتب اسمه قطبة كان أكتب أهل زمانه، وكان يكتب لبني أمية المصاحف، ثم اشتهر بعده الضحاك بن عجلان في أوائل الدولة العباسية فزاد على قطبة، وزاد بعده إسحاق بن حماد وغيره، فبلغ عدد الأقلام العربية إلى أوائل الدولة العباسية 12 قلما وهي: (1)
قلم الجليل. (2)
قلم السجلات. (3)
قلم الديباج. (4)
قلم أسطورمار الكبير. (5)
قلم الثلاثين. (6)
قلم الزنبور. (7)
قلم المفتح. (8)
قلم الحرم. (9)
قلم المدمرات. (10)
قلم العهود. (11)
قلم القصص. (12)
قلم الحرفاج.
وفي أيام المأمون تنافس الكتاب في تجويد الخط، فحدث القلم المرصع، وقلم النساخ، وقلم الرياسي نسبة إلى مخترعه ذي الرياستين الفضل بن سهل، وقلم الرقاع، وقلم غبار الحلية.
37
فزادت الخطوط على عشرين شكلا، وكلها تعد من الكوفي، وأما الخط النسخي أو النبطي فقد كان شائعا بين الناس لغير المخطوطات الرسمية، حتى إذا نبغ ابن مقلة المتوفى سنة 328ه أدخل في الخط المذكور تحسينا جعله على نحو ما هو عليه الآن وأدخله في كتابة الدواوين، والمشهور عند المؤرخين أن ابن مقلة نقل الخط من صورة القلم الكوفي إلى صورة القلم النسخي، والغالب في اعتقادنا أن الخطين كانا شائعين معا من أول الإسلام: الكوفي للمصاحف ونحوها، والنسخي (أو النبطي) للرسائل ونحوها كما تقدم، وأن ابن مقلة إنما جعل الخط النسخي على قاعدة جميلة حتى يصلح لكتابة المصاحف.
وقد شاهدنا في معرض الخطوط العربية القديمة في دار الكتب الخديوية (دار الكتب المصرية الآن) عقد نكاح مكتوبا في أواسط القرن الثالث للهجرة سنة 264ه على رق مستطيل في أعلاه صورة العقد بالقلم الكوفي المنتظم، وتحتها خطوط الشهود بالقلم النسخي بغاية الاختلال - فابن مقلة حسن هذا الخط تحسينا وأدخله في كتابة المصاحف.
ثم تفرع الخط النسخي المذكور بتوالي الأعوام إلى فروع كثيرة، وأصبحت الأقلام الرئيسية في اللغة العربية اثنين: الكوفي، والنسخي. ولكل منهما فروع كثيرة، اشتهر منها بعد القرن السابع للهجرة ستة أقلام وهي: الثلث والنسخي والتعليقي والريحاني والمحقق والرقاع. واشتهر من الخطاطين جماعة كبيرة ألفوا فيه الكتب والرسائل، بعضها في أدوات الخط كالأقلام وطرق بريها وأحوال الشق والقط والدواة والمداد والكاغد وغير ذلك،
38
وما زال الخط يتفرع إلى اليوم، ولن يزال إلى ما شاء الله عملا بسنة الارتقاء. (ب) الحركات
وكان القرآن في أول الإسلام محفوظا في صدور القراء، لا خوف من الاختلاف في قراءته لكثرة عنايتهم في تناقله وضبط ألفاظه، حتى دونوه وكثر أهل الإسلام، فمضى نصف القرن الأول للهجرة والناس يقرأون القرآن بلا حركات ولا إعجام، وأول ما افتقروا إليه الحركات، وأول من رسمها أبو الأسود الدؤلي واضع النحو العربي المتوفى سنة 69ه، فإنه وضع نقطا تمتاز بها الكلمات أو تعرف بها الحركات، ولذلك توهم بعضهم أنه وضع الإعجام، والحقيقة أنه وضع نقطا لتمييز الاسم من الفعل من الحرف، وليس لتمييز الباء من التاء أو الجيم من الحاء، والأرجح أنه اقتبس ذلك من الكلدان أو السريان جيرانه في العراق، وكان عندهم نقط كبيرة توضع فوق الحرف أو تحته لتعيين لفظه أو تعيين الكلمة الواقع هو فيها اسم هي أم فعل أم حرف. مثل قولهم: «كتب»، فيمكن أن تكون اسما جمع كتاب، أو فعلا ماضيا معلوما أو مجهولا، وكان عندهم أيضا نقط هي حركات وضعها يعقوب الرهاوي قبيل ذلك الزمن،
39
وهي عبارة عن نقط كانت ترسم في حشو الحروف، ثم تحولت إلى نقط مزدوجة تنوب عن الحركات الثلاث، وما زالت عندهم إلى اليوم، فالظاهر أن أبا الأسود اقتبس هذه الحركات، ويؤيد ذلك أنه لما أراد التنقيط أتوه بكاتب فقال له أبو الأسود: «إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإذا ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف»،
40
فكان العرب بعد ذلك يستعملون هذه النقط، والغالب أن يكتبوها بلون غير لون الخط، وقد شاهدنا في دار الكتب المصرية مصحفا كوفيا منقطا على هذه الكيفية، وجدوه في جامع عمرو بجوار القاهرة وهو من أقدم مصاحف العالم، ومكتوب على رقوق كبيرة بمداد أسود وفيه نقط حمراء اللون ، فالنقطة فوق الحرف فتحة، وتحته كسرة، وبين يدي الحرف ضمة كما وصفها أبو الأسود. (ج) الإعجام
كان الخط لما اقتبسه العرب من السريان والأنباط خاليا من النقط - ولا تزال الخطوط السريانية بلا نقط إلى اليوم - فالإعجام حادث في العربية وهو قديم فيها، والظاهر أن المسلمين بعد أن استخدموا الحركات المذكورة رأوا التصحيف قد تكاثر، والتبس الناس في القراءة لتكاثر الأعاجم من القراء، والعربية ليست لغتهم فصعب عليهم التمييز بين الأحرف المتشابهة في شكلها، كالجيم والحاء، والسين والشين، والباء والتاء والثاء، فانتبه لذلك الحجاج أمير العراق في أيام عبد الملك بن مروان - قال ابن خلكان: «ففزع الحجاج إلى كتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة علامات تميزها بعضها من بعض، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفرادا وأزواجا، وخالف بين أماكنها، فعبر الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا ولكن مع استعمال النقط أيضا كان يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام فكانوا يتبعون النقط بالإعجام»،
41
وفي عبارة ابن خلكان هذه التباس، لا يفهم المراد بها ولا ما الفرق بين التنقيط والإعجام وهما واحد، ولا يعقل أن يكون المراد بالنقط الحركات؛ لأنهم إنما عمدوا إليها لكثرة التصحيف، أي اختلاف القراءة باختلاف النقط، فالظاهر أن النقط المذكورة هي من قبيل الإعجام لتمييز الحروف المتشابهة، ولكن نصرا هذا لم ينقط إلا بضعة حروف مما يكثر وروده ويخشى الالتباس فيه، ثم رأوا القراءة لا تضبط إلا بتنقيط كل الحروف كما هي الآن، وهذا ما عبروا عنه بالإعجام.
وقد شاهدنا في معرض الخطوط في دار الكتب المصرية كتابة عربية على صفحة من البردي (البابيروس) مؤرخة سنة 91ه وفيها إعجام، لكنه قاصر على الصور المشابهة للباء للتمييز بين الباء والياء والتاء، وصورة حرف الشين لتمييزه من السين بثلاث نقط موضوعة على استواء واحد، وشاهدنا أجزاء من مصاحف أخرى مكتوبة على رقوق صغيرة وعليها نقط حمراء للحركات ونقط سوداء للإعجام، وقد تجد خطوطا قديمة منقطة ومحركة وخطوطا حديثة بلا تنقيط ولا تحريك.
فيؤخذ من ذلك أن العرب استخدموا الحركات والإعجام من أواسط القرن الأول، ولكنهم ظلوا مع ذلك يكرهونهما إلا حيث يريدون التدقيق بنوع خاص كالمصاحف ونحوها، أما فيما خلا ذلك فكانوا يفضلون ترك النقط، لا سيما إذا كان المكتوب إليه عالما. وقد حكي أنه عرض على عبد الله بن طاهر خط بعض الكتاب فقال: «ما أحسنه لولا كثرة شونيزه (أي نقطه)». ويقال: «كثرة النقط في الكتاب سوء ظن في المكتوب إليه».
وقد يقع بالنقط ضرر، كما حكي عن جعفر المتوكل أنه كتب إلى بعض عماله: «أن أحص من قبلك من الذميين وعرفنا بمبلغ عددهم» فوقع على الحاء نقطة فجمع العامل من كان في عمله منهم وخصاهم فماتوا غير رجلين.
42
ولذلك ظل الكتاب في أثناء التمدن الإسلامي مخيرين بين الإعجام وعدمه، والغالب عدم الإعجام. وقد حدث بسبب ذلك التباس في كثير من الأحوال، وخصوصا في أسماء الأماكن الغريبة أو الألفاظ الغريبة ونحوهما.
43
وكان الأدباء يستحسنون الإعجام في كتب العلوم، ويستهجنونه في المراسلات؛ ولذلك استحسنوا مشق الخط في المكاتبات؛ لأنهم لفرط إدلالهم في الصنعة وتقدمهم في الكتابة يكتفون بالإشارة ويقتصرون على التلويح ويرون الحاجة إلى استيفاء الإبانة تقصيرا.
44 (د) أدوات الكتابة
أما أدوات الكتابة فقد وفينا الكلام عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وظلوا يكتبون إلى أواخر دولة الأمويين على الجلود والرقوق دروجا، فكانت دفاتر الحكومة عبارة عن لفائف من الجلد. فلما أفضى الأمر إلى العباسيين وقام أبو العباس السفاح بالأمر واستوزر خالد بن برمك، غير خالد الدفاتر من الأدارج إلى الكتب، فظلت أعمال الحكومة تدون في كتب من الجلد، إلى أن تصرف جعفر بن يحيى البرمكي بالوزارة في أيام الرشيد فاتخذ الكاغد (الورق) فتداوله الناس من بعده، وظلوا مع ذلك أجيالا يكتبون على الجلود والقراطيس والورق الصيني والتهامي والخراساني
45
فضلا عن الكاغد يصنعونه كراريس أو دفاتر، وكان بعضهم يفضل الرقاع للكتابة عليها، كالفارابي مثلا فقد كانت كتاباته أكثرها على الرقاع.
46 (2) العلوم الشرعية الإسلامية
هي العلوم التي اقتضاها الإسلام والتمدن الإسلامي على ما تقدم، وتقسم إلى ثلاثة أقسام: (1)
العلوم الشرعية وهي العلوم الدينية الإسلامية. (2)
العلوم اللسانية وهي التي اقتضاها الإسلام ضمنا، فاحتاجوا إليها في ضبط قراءة القرآن أو تفسيره أو تفهمه وتفهم الحديث. (3)
التاريخ والجغرافيا. (2-1) العلوم الشرعية الإسلامية (أ) القرآن - جمعه وتدوينه
لا غرو إذا اهتم المسلمون بجمع القرآن وحفظه؛ لأن عليه يتوقف دينهم ودنياهم، وأول أسباب حفظه تدوينه، والقرآن لم ينزل مرة واحدة، وإنما نزل تدريجيا في أثناء عشرين سنة على مقتضى الأحوال، من أول ظهور الدعوة إلى وفاة النبي، بعضه في مكة وبعضه في المدينة، فكان كلما تلا آية أو سورة كتبوها على صحف الكتابة في تلك الأيام، وهي الرقاع من الجلود، والعريض من العظام كالأكتاف والأضلاع، وعلى العسب وهي قحوف جريد النخل، واللخاف وهي الحجارة العريضة البيضاء، فتوفي النبي
صلى الله عليه وسلم
سنة 11ه، والقرآن إما مدون على أمثال هذه الصحف، أو محفوظ في صدور الرجال، وكانوا يسمون حفظته «القراء».
وكان أكثر الناس عناية في تدوينه على عهد النبي؛ علي بن أبي طالب، وسعد بن عبيد بن النعمان، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وثابت بن زيد، وأبي بن كعب وغيرهم، فلما قام أبو بكر بالأمر وارتد بعض أهل جزيرة العرب عن الإسلام، بعث جندا لمحاربتهم فقتل من الصحابة في تلك الحروب جماعة كبيرة، وخصوصا في غزوة اليمامة فقتل فيها وحدها 1200 من المسلمين فيهم 700 من القراء. فلما بلغ ذلك إلى أهل المدينة فزعوا فزعا شديدا، وخصوصا عمر بن الخطاب رجل الإسلام والمسلمين، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن لئلا يذهب منه شيء بموت أهله، فتوقف أبو بكر وقال: «كيف أفعل أمرا لم يفعله رسول الله ولم يعهد إلينا فيه عهدا؟»، فما زال به عمر حتى أقنعه بجمعه، فأحضر أبو بكر زيد بن ثابت؛ لأنه كان من كتبة الوحي، فجمع ما كان مدونا عند الصحابة، وربما وجد السورة الواحدة مكتوبة عند اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وقد لا يوجد من السورة الأخرى إلا نسخة واحدة، كسورة التوبة فإنه لم يجد منها إلا نسخة واحدة عند أبي خزيمة الأنصاري،
47
فجمعه من تلك المحفوظات ومن صدور الرجال وسلمه إلى أبي بكر، فظلت الصحف عنده حتى توفي سنة 13ه، فلما تولى عمر تسلمها وظلت عنده حتى تولى عثمان سنة 23ه فانتقلت إلى بيت ابنته حفصة من أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم .
وفي أيام عثمان اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في مصر والشام والعراق وفارس وإفريقية، وفيهم القراء وعند بعضهم نسخ من القرآن، وقد رتبها كل منهم ترتيبا خاصا، فعول أهل كل مصر على من قام بينهم من القراء.
فأهل دمشق وحمص مثلا أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة أخذوا عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري،
48
وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب - ومع شدة عناية القراء في حفظ القرآن وضبطه لم يخلوا من الاختلاف في قراءة بعض سوره.
واتفق في أثناء ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في جملة من حضر غزو أرمينية وأذربيجان، فرأى في أثناء سفره اختلافا بين المسلمين في قراءة بعض الآيات، وسمع بعضهم يقول لبعض: «قراءتي خير من قراءتك». فلما رجع إلى المدينة أنبأ عثمان بذلك وأنذره بسوء العقبى إن لم يتلاف الأمر، إلى أن قال: «أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى» فبعث عثمان إلى حفصة أن: «أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك» فأرسلتها. فدعا عثمان زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأمرهم أن ينسخوا القرآن، ويستعينوا على القراءة بما حفظه القراء، وقال لهم: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم» ففعلوا ذلك
49
سنة 30ه، وكتبوا أربعة مصاحف بعثها عثمان إلى الأمصار الأربعة: مكة، والبصرة، والكوفة، والشام.
50
واثنين أبقاهما في المدينة: واحد لأهلها، وواحد لنفسه وهو الذي يسمونه «الإمام»، ثم أمر بجمع كل ما كان قبل ذلك من المصاحف والصحف،
51
وأمر بإحراقه.
فأصبح المعول في المصاحف على ما كتبه عثمان، واشتغل المسلمون في الأمصار باستنساخ تلك المصاحف ، فنسخوا منها شيئا كثيرا في مدة قليلة ذكر المسعودي في عرض كلامه عن واقعة صفين بين علي ومعاوية، وما كان من ظهور علي وما أشار به عمرو بن العاص من رفع المصاحف: «ورفع من عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف»،
52
وليست هذه كل مصاحف المسلمين فاعتبر هذا العدد، وبين كتابة مصحف عثمان وواقعة صفين سبع سنين.
ومع تشديد الصحابة في التعويل على مصحف عثمان دون سواه، فقد ظل عند بعض المسلمين نسخ من مصاحف أخرى أشهرها مصحف علي، ويعتقد الشيعة أن عليا أول من خط المصاحف عند وفاة النبي، وتنوقل مصحفه في شيعته وبقي عند أهل ابنه جعفر، وقد ذكر ابن النديم في كتاب الفهرست أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفا بخط علي يتوارثه بنو حسن
53 - ومنها مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ولكل منها ترتيب خاص في سوره.
54
على أن الخلفاء والأمراء كانوا يبذلون جهدهم في جمع الكلمة على مصحف عثمان والتشديد في إعدام ما سواه، وفي جملة مساعيهم أن الأمراء كانوا يكتبون نسخا من ذلك المصحف يضعونها في المساجد ليتلوها الناس ويرجعوا إليها في تصحيح ما بين أيديهم من المصاحف الخاصة. وربما كتب الأمير عدة مصاحف وفرقها في الأمصار، ولكنهم كانوا يعدون قبول مصحف الأمير في الجامع إقرارا بسيطرته عليهم، وكان الحجاج في مقدمة من كتب المصاحف من الأمراء وفرقها في الأمصار، فبعث منها مصحفا إلى مصر والوالي عليها يومئذ عبد العزيز بن مروان فغضب وقال: «أيبعث إلى جند أنا فيه بمصحف؟» وأمر فكتبوا له مصحفا آخر بالغ في ضبطه، وأعلن بعد الفراغ من كتابته أن من وجد فيه حرفا خطأ فله رأس أحمر، وثلاثون دينارا.
فوجد فيه أحد قراء الكوفة لفظة «نجعة» بدل «نعجة» فنال الجائزة.
55
قراءة القرآن
كان للقراءة شأن عظيم في أول الإسلام، لقلة الذين يقرأون يومئذ، فسموا الذين كانوا يحفظون القرآن «قراء» تمييزا لهم عن سائر المسلمين؛ لأنهم كانوا أميين، وقد تقدم أن السبب الذي حمل عثمان على جمع القرآن وكتابته ما بلغه من اختلاف الصحابة في قراءته، على أنه لم يمض على إرسال مصاحفه إلى الأمصار زمان قصير، حتى أصبح لأهل كل مصر قراءة خاصة يتبعون فيها قارئا يثقون بصحة قراءته، وتنوقل ذلك واشتهر، ثم استقر منها سبع قراءات معينة تواتر نقلها بأدائها، واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها، فصارت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة، ويعدها بعضهم عشرا.
وأصحاب هذه القراءات هم: نافع بن أبي رؤيم، ويزيد بن القعقاع في المدينة، وعبد الله بن كثير في مكة، وأبو عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي في البصرة، وعبد الله بن عامر في الشام، وعاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي الكسائي، وخلف البزاز في الكوفة، واشتهر غيرهم كثيرون في أقطار العالم الإسلامي، وفيهم من يقرأ قراءات غريبة، وخصوصا بعد أن ظهرت الفرق الإسلامية وتشعبت الآراء في التفسير والفقه، والخلفاء يشددون في مقاصة أولئك الشاذين خوف التفرقة، كما كانت تفعل رؤساء النصرانية في القرون الأولى للميلاد، ولكن الإسلام كان أقرب إلى إطلاق حرية الفكر والقول وخصوصا في أوائله، فلم يكن أحدهم يتردد في إبداء ما يخطر له ولو كان مخالفا لرأي الخليفة، ولذلك كثرت الفرق الإسلامية يومئذ، وتعددت مذاهب أصحابها في القراءة، والتفسير والفقه وفي كل شيء، حتى ذهب بعضهم إلى سورة يوسف ليست من القرآن؛ لأنها قصة من القصص، والقائلون بذلك العجاردة،
56
وذهبت طائفة أخرى إلى إثبات حكم من أحكام الإلهية في السيد المسيح، وأنه هو الذي يحاسب الخلق،
57
وظل بعضهم يقرأون القراءات الغريبة إلى أواسط الدولة العباسية، وفي جملتهم يعقوب العطار المتوفى سنة 354ه فاستحضره الخليفة واستتابه بحضرة القراء والفقهاء، وكتب محضر توبته وأشهد عليه من حضر.
58
وأشهر من قرأ القراءات الشاذة ابن شنبوذ البغدادي المتوفى سنة 328ه فإنه تفرد بقراءات من الشواذ كان يقرأ بها في المحراب، ذكرها ابن النديم وابن خلكان فعلم به ابن مقلة الوزير سنة 323ه فقبض عليه واعتقله أياما، فلم يكن ذلك ليرجعه عن قراءته، فأمر بجلده واستتابه فتاب، وقال إنه قد رجع عما يقرأه وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان بن عفان بالقراءة المتعارفة التي يقرأ بها الناس وكتب محضرا بذلك.
59
والقراءات العشر التي ذكرنا أصحابها كلها جائزة عند المسلمين، وعند الأئمة أن الجميع على صواب، فقد يختار الإقليم الواحد قراءة واحدة أو قراءتين أو أكثر، وقد تقرأ كل القراءات في إقليم واحد.
60
وكانوا يرجعون في إثبات صحة القراءة إلى الإسناد المتسلسل، كقولهم قرأ يعقوب بن إسحاق على سلام، وقرأ سلام على عاصم، وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، وقرأ علي على النبي.
61
تأثير القرآن
إن قراءة القرآن وحفظه من أول واجبات المسلمين، وخصوصا في أوائل الإسلام، فانطبعت أوامره ونواهيه في أفئدتهم، وارتسمت عباراته على ألسنة أدبائهم، وأصبح هو المرجع في الشرع والدين واللغة والإنشاء وفي كل شيء، فاقتبسوا أساليبه في خطبهم وكتبهم، وتمثلوا بآياته في مؤلفاتهم، وظهرت آدابه وتعاليمه في أخلاقهم وأطوارهم، مع تباعد الأمم التي اعتنقت الإسلام في أصولها ولغاتها وبلادها، واستشهدوا بأقواله ونصوصه في علومهم اللسانية، فضلا عن العلوم الشرعية، فقد كان في كتاب سيبويه وحده 300 آية من القرآن، وأصبح أهل البلاغة لا تروق لهم الكتابة أو الخطابة إلا إذا رصعوها بشيء من آي القرآن، كما سترى في باب الخطابة في الإسلام، وفي باب البلاغة من اقتباس الآيات وإدخالها في عبارات الخطب والرسائل والتوقيعات.
على أنهم كانوا، لفرط اشتغالهم بحفظ القرآن وقراءته وتفهمه، لو ذكر الرجل حرفا أو كلمة انتبه السامع للآية كلها، ولذلك كثيرا ما كانوا يرمزون بالكلمة الواحدة إلى آية يفهمها العارف ويعمل بها وقد تخفى على كثيرين، ومما يحكى من هذا القبيل أن السلطان محمود الغزنوي الشهير، بعث إلى الخليفة يطلب أن يذكر اسمه في الخطبة ببغداد، وينقش اسمه في سكة الذهب والفضة (أي ينقش اسمه على الدنانير والدراهم). فامتنع الخليفة من ذلك. فبعث إليه كتابا فيه تهديد ووعيد، وقال في جملته: «لو أردت نقل حجارة بغداد على ظهور الفيلة إلى غزنة لفعلت». فبعث إليه الخليفة كتابا مختوما، فلما فتحه لم يجد فيه بعد البسملة إلا ألفا ممدودة، وفي وسطه لام، وفي آخره ميم، والصلاة، والحمدلة، فحار السلطان وأهل مجلسه من ذلك حتى دخل عليهم أبو بكر القهستاني، ففكر في ذلك وقال: «عندي شرحه »، فقال: «اذكر ولك ما تريد» فقال: «بعث إليهم السلطان يهددهم بالفيلة، فبعثوا له هذا الكتاب وفيه ألف ولام وميم إشارة إلى قوله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل
إلى آخر السورة» فارتاع السلطان لذلك ووقع في قلبه الخوف والندم وعاد إلى أحسن الأحوال من الرضى والأدب.
62
ويحكى أيضا أن المأمون غضب على عبد الله بن طاهر، وشاور أصحابه في الإيقاع به، وكان قد حضر المجلس صديق له فكتب إليه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم يا موسى» فلما فضه ووجد ذلك تعجب، وما زال يطيل فيه النظر حتى علم أنه يريد: «يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك».
63
وأبلغ من ذلك حكاية سديد الملك وتشديد نون «إن» وقد ذكرناها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي إعادتها هنا تكرار.
وقد عني المسلمون في كتابة القرآن وحفظه عناية ليس بعدها غاية، فكتبوه على صفائح الذهب والفضة، وعلى صفائح العاج، وطرزوا آياته بالذهب والفضة على الحرير والديباج، وزينوا بها محافلهم ومنازلهم، ونقشوها على الجدران في المساجد والمكاتب والمجالس، ورسموه بكل الخطوط وأجملها على كل أصناف الرقوق والجلود والكواغد بالأدراج والكراريس والرقاع بأصناف المداد وألوانها وملأوا بين الكلام بالذهب، وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين يتبركون بكتابة المصاحف بأيديهم ويختزنونها في المساجد أو نحوها، وفي دار الكتب الخديوية (المصرية) بالقاهرة أمثلة كثيرة من المصاحف المخطوطة بمعظم الأشكال المذكورة من القلم الكوفي الخالي من الشكل والإعجام إلى إتمام الإعجام والشكل وما بينهما.
وقد ضبطوا عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه، وعدوا ما فيه من الألفات والباءات إلى الياءات.
64
تفسير القرآن
كان العرب عند ظهور الدعوة كلما تليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت كالقرائن تسهل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي
صلى الله عليه وسلم
فكان يبين لهم المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ، فحفظ أصحابه عنه ذلك وتناقلوه فيما بينهم، وعنهم أخذ من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين.
ولما صار الإسلام دولة واحتاجوا إلى الأحكام والقوانين كان القرآن مصدر استنباطها، فزادت العناية في تفسيره وأصبح القراء والمفسرون مرجع المسلمين في استخراج تلك الأحكام أو هم الفقهاء لأول عهد الإسلام، وكانوا يتناقلون التفسير شفاها إلى أواخر القرن الأول، فكان أول من دون التفسير في الصحف مجاهد المتوفى سنة 104ه، ثم اشتغل فيه سواه وهم كثيرون حتى انتهى ذلك إلى الواقدي سنة 207 والطبري المتوفى 310ه وغيرهما.
وقد رأيت أن العمدة في التفسير على النقل بالتواتر والإسناد منذ أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
فالصحابة فالتابعين، والعرب يومئذ أميون لا كتابة عندهم فكانوا إذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتوق إليه نفوسهم البشرية، من أسباب الوجود وبدء الخليفة وأسرارها، سألوا عنه أهل الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى المقيمين بين ظهرانيهم، وأكثرهم من حمير باليمن الذين أخذوا بدين اليهودية،
65
وكانوا قد أسلموا لكنهم ظلوا على ما كان عندهم من التقاليد المتناقلة شفاها أو كتابة، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية - فكانوا إذا سئلوا عن شيء أجابوا بما عندهم من أقاصيص التلمود والتوراة بغير تحقيق، فامتلأت كتب التفسير من هذه المنقولات «المعروفة بالإسرائيليات».
ومن أشهر أولئك اليهود كعب بن مانع المعروف بكعب الأحبار، أسلم في خلافة عمر بن الخطاب،
66
وعبد الله بن سلام بن الحارث أسلم عند هجرة النبي إلى المدينة.
67
ناهيك بمن كان هناك من أهل الأديان الأخرى كالصابئة والمجوس وغيرهم، وكان بعضهم من ذوي المقامات الرفيعة، فكان المسلمون يسألونهم أيضا وهم يجيبونهم مما عندهم، وأشهرهم وهب بن منبه، فإنه فارسي الأصل، جاء جده إلى اليمن في جملة من بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك وتناسلوا وصاروا يعرفون بين العرب بالأبناء أي أبناء الفرس، ومنهم أيضا طاوس بن كيسان التابعي الشهير.
وكان آباء وهب المذكور على دين الفرس (المجوسية أو الزردشتية) فلما أقاموا بين اليهود باليمن أخذوا عنهم آداب اليهود وتقاليدهم، واختلطوا بالحبشة هناك فتعلموا شيئا من النصرانية، وكان وهب يعرف اليونانية،
68
فاطلع على آداب اليونان وغيرهم، فنشأ وهو ذو اطلاع واسع في أخبار الأمم وأحوال الأنبياء وقيام الدنيا وسير الملوك، ومن أقواله أنه قرأ من كتب الله 72 كتابا، فكان للعرب ثقة كبرى فيه ولم يسألوه عن شيء إلا أفاض في الجواب عليه مما يحفظه.
فكانت كتب التفسير في القرون الأولى محشوة بالأخبار، وفيها الغث والسمين مما نقل إليها من الأديان الأخرى التي كانت شائعة قبلها في جزيرة العرب أو حولها، كما أصاب النصرانية عند أول ظهورها، إذ دخلها كثير من عادات الأمم الوثنية ومعتقداتهم وتقاليدهم، مع سهر الآباء الأولين على تخليصها من ذلك.
فلما نشأت العلوم اللسانية واشتغل المسلمون بها واطلعوا على كتب المنطق والفلسفة، تعودت عقولهم على طلب الدليل والقياس، فأعادوا النظر في تلك التفاسير ونظروا في مروياتها ومحصوها وسبروها بمسبار العقل.
وأشهر من فعل ذلك منهم ابن عطية والقرطبي وجار الله الزمخشري صاحب الكشاف وغيرهم.
وكتب التفسير كثيرة جدا، ذكر منها صاحب كشف الظنون نيفا وثلاثمائة تفسير، وقال إنه ذكر بعضها وكانت أكثر من ذلك كثيرا.
69 (ب) الحديث
لما اشتغل المسلمون في تفهم معاني القرآن كان في جملة ما افتقروا إليه في تفهمها أقوال النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو ما عبروا عنه بالأحاديث النبوية، وأقدم من سمعها الصحابة وحفظوها، فكانوا إذا أشكل عليه فهم آية واختلفوا في تفسيرها أو حكم من أحكامها استعانوا بتلك الأحاديث على استيضاحها، فلما كانت الفتوح تفرق الصحابة في الأرض، وعند كل منهم بعض الأحاديث، وقد يتفرد بعضهم بأحاديث لم يسمعها سواه، فأصبح طالب الحديث إذا كان من أهل دمشق مثلا لا يستوفيه إلا إذا رحل في طلبه إلى مكة والمدينة والبصرة والكوفة والري ومصر وغيرها، وكذلك المقيم في أحد هذه البلاد فإنه لا يستطيع استيفاء الحديث ما لم يطلبه من البلاد الأخرى، وهذا ما يعبرون عنه بالرحلة في طلب العلم، على أن الارتحال في طلب العلم لم يكن من مستحدثات الإسلام، ولكنه كان شائعا من قديم الزمان بالنظر إلى قلة أسباب النشر وقلة نسخ الكتب وصعوبة وصولها إلى النواحي في تلك العصور ، ثم حرص الناس على السماع من الشيوخ مباشرة، فكان المؤرخ أو الجغرافي مثلا يرحل في طلب التاريخ أو الجغرافيا إلى أقاصي البلاد، كما فعل هيرودوتس وإسترابون وغيرهما، ولذلك كان المسلمون يرحلون في طلب العلوم غير الحديث أيضا، وكان النصارى في العصر الإسلامي يرحلون إلى بلاد الروم لإتقان ديانتهم.
70
وضع الأحاديث
نشأت الفتنة بعد مقتل الخليفة عثمان، واختلف المسلمون في الخلافة وادعاها غير واحد، فانصرفت عناية كل حزب من أحزابهم إلى استنباط الأدلة واستخراج الأحاديث المؤيدة لدعواهم، فكان بعضهم إذا أعوزهم حديث يؤيدون به قولا أو يقيمون به حجة اختلقوا حديثا من عند أنفسهم، وتكاثر ذلك في أثناء تلك الفوضى، فكان المهلب بن أبي صفرة مثلا يضع الأحاديث ليشد بها أمر المسلمين ويضعف أمر الخوارج،
71
وهو مع ذلك معدود من الأتقياء والنبلاء، مع علمهم بما كان يضعه من الأحاديث؛ لأنهم كانوا يعدون ذلك خدعة في الحرب، وأمثال المهلب كثيرون، كانوا يضعون الحديث لأغراض مختلفة.
وتسابق الناس خصوصا إلى وضع الأحاديث في أثناء البحث في شروط الخلافة، نظرا لما رأوه من تأثير الحديث فيها من أول عهدها، إذ مات النبي وانقسم أصحابه في طلب الخلافة إلى قسمين: المهاجرين والأنصار، وكل منهما يعتقد الأحقية في الخلافة لحزبه، واشتد عزم الأنصار على الثبات في المطالبة، وعظمت الفوضى حتى روى أبو بكر الحديث «الأئمة من قريش»،
72
فكان في ذلك فصل الخطاب، فقس على ذلك حاجة أصحاب الفرق والأحزاب وغيرهم إلى الأحاديث، ناهيك بحاجتهم إليها في إثبات الأحكام الشرعية الخاصة بالبلاد المفتوحة وأهلها وغير ذلك كأوصاف المهدي المنتظر وشروط ظهوره ووضع الأحكام والقوانين، وفي كل باب من أبواب الإدارة والقضاء، ولما أراد المأمون تحليل زواج المتعة لم يرجعه عن عزمه إلا حديث رووه له في تحريمه.
73
فلا غرو بعد ذلك إذا رغب أهل المطامع في اختلاف الأحاديث، وقد ذكروا من واضعي الحديث جماعة أشهرهم أربعة، وهم: ابن أبي يحيى في المدينة، والواقدي في بغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد بالشام.
74
وكثيرا ما كان أولئك الوضاع يعترفون عند مسيس الحاجة بما اقترفوه، كما فعل ابن أبي العوجاء، وكان محدثا في الكوفة فأمر أميرها - محمد بن سليمان بقتله سنة 153ه فلما أيقن أنه مقتول قال: «والله لقد وضعت أربعة آلاف حديث حللت بها الحرام وحرمت الحلال، والله لقد فطرتكم يوم صومكم وصومتكم يوم فطركم»،
75 «ومنهم أحمد الجوبياري وابن عكاشة الكرماني وابن تميم الفريابي»، فقد ذكر سهل بن السري أنهم وضعوا من عند أنفسهم نحو عشرة آلاف حديث،
76
ولنحو هذا السبب نشأت الفروق بين أحاديث السنة والشيعة.
فلما هدأت الفتنة وعمد المسلمون إلى التحقيق، كانت تلك الموضوعات قد تكاثرت، فاشتغلوا في التفريق بينها وبين الصحيح، فألفوا كتبا كثيرة في الحديث، وميزوا صحيحه من فاسده وجعلوه مراتب، ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا عليها لهذه المراتب، كقولهم: الصحيح، والحسن، والضعيف، والمرسل، والمنقطع، والمعضل، والشاذ، والغريب، وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم، وبينوا كيف يأخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها.
77
إسناد الحديث
وترتب على أهمية الحديث في الدين والدنيا تعرضه للوضع والتحريف كما رأيت، فاحتاج إلى العناية في تحقيقه، ولم يكن ميسورا في العصور الأولى إلا بالحفظ، والرجوع بالمحفوظ إلى المصدر الأصلي الذي أخذ عنه بالتسلسل وهو «الإسناد»، كأن يقال: «حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو أملى علي فلان ما هو كذا وكذا». فلما بعدت الرواية جعلوها متسلسلة فقالوا: «حدثنا فلان عن فلان أنه سمع فلانا يقول كذا وكذا». وترتب على تصحيح ذلك وضبطه النظر في طبقات المحدثين للتفريق بين الثقات وغيرهم، فجعلوهم طبقات، ومنهم الصحابة، فالتابعون، فتابعو التابعين، فالعلماء البالغون إلى رتبة الاجتهاد، فالمشتغلون في جمع الأحاديث وحفظها، فالناقدون للأحاديث، فالشارحون وغيرهم،
78
وألفوا كتبا كثيرة في طبقات المحدثين والرواة.
وكان أهل الأمصار يختلفون في طرق إسنادهم، فطريقة أهل الحجاز أعلى مما لسواهم وأمتن في الصحة، لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وسند طريقة الحجاز بعد الصحابة الإمام مالك عالم المدينة المتوفى سنة 179ه ثم أصحابه مثل الشافعي وابن حنبل وأمثالهم، ومالك أول من دون الحديث في كتاب الموطأ، رتبه على أبواب الفقه، وقيل إن ابن جريج أول من ألف فيه، ثم عني الحفاظ في طرق الأحاديث وأسانيدها، وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها وألف كتابه «الصحيح»، ثم ألف مسلم بن الحجاج النيسابوري «المسند الصحيح» فسمي كتاباهما الصحيحين وصار مرجع الناس إليهما، ثم جاءت طبقة أخرى من المحدثين جمعوا بين هذين أو بينهما وبين الموطأ، فاجتمع من ذلك الكتب الستة المشهورة للمؤلفين الآتية أسماؤهم: وهم البخاري المتوفى سنة 256ه/870م، ومسلم المتوفى بنيسابور سنة 261ه/875م، وأبو داود المتوفى بالبصرة سنة 275ه/888م، والترمذي المتوفى بترمذ سنة 279ه/892م، والنسائي توفي سنة 303ه/915م، والدارقطني المتوفى ببغداد سنة 385ه/995م.
79
ولما صار الحديث علما مدونا انصرفت العناية إلى الإسناد المتسلسل في تحقيق السماع، أي تعلم تلك الكتب أو بعضها، كأن يقول أحدهم: سمعت الحديث (أي تعلمته) من فلان وهو تعلمه من فلان إلى البخاري أو غيره.
وهاك تسلسل إسناد ابن خلكان في كيفية سماعه صحيح البخاري، قال:
سمعت صحيح البخاري بمدينة أربل في بعض شهور سنة إحدى وعشرين وستمائة، على الشيخ الصالح أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم بن عبد الله الصوفي، بحق سماعه في المدرسة النظامية ببغداد، من الشيخ أبي الوقت المذكور في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، بحق سماعه من أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي في ذي القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة، بحق سماعه من أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي في صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، بحق سماعه من أبي عبد الله محمد بن أبي يوسف بن مطر الفربري سنة ست عشرة وثلاثمائة، بحق سماعه من مؤلفه الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، مرتين: إحداهما سنة ثمان وأربعين ومائتين، والثانية سنة اثنتين وخمسين ومائتين، رحمهم الله تعالى أجمعين.
80
وتطرق المسلمون في طريقة الإسناد من الحديث إلى غيره من العلوم النقلية كالتاريخ والأدب كما هو مشهور، وتتبعوا طريقة الإسناد المتسلسل في كثير من العلوم الإسلامية، مما لا يسبق له مثيل في البلاد الأخرى أو الأمم الأخرى، فهم إذا ذكروا عالما في علم فيها، أسندوا تعلمه إلى أستاذه وأستاذ أستاذه إلى واضع ذلك العلم، كقول ابن خلكان في ترجمة فخر الدين ابن الخطيب إنه اشتغل في الأصول على والده ضياء الدين، ووالده على القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وهو على الشيخ أبي الحسن الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي الحسن الأشعري، وهو على أبي علي الجبائي أولا ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة.
عدد الأحاديث
لما تكاثرت الأحاديث للأسباب التي قدمناها أصبحت تعد بمئات الألوف، فقد ذكروا أن أحمد بن حنبل روى مليون حديث، منها 150000 بالأسانيد والمتون،
81
وأن يحيى بن معين المري قال: كتبت بيدي 600000 حديث، قال راوي هذا الخبر: وأظن المحدثين كتبوا له بأيديهم 600000 و600000 وخلف من الكتب مائة قمطر،
82
وأن مسلما صاحب المسند الصحيح استخرجه من 300000 حديث مسموعة،
83
وأن الإمام البخاري قال: صنفت كتابي الصحيح من 600000 حديث،
84
وقس على ذلك مما يدل على كثرة فاحشة، أما الذي صح منها فإنه أقل كثيرا، وبعضهم بالغ في الإقلال، وهم أصحاب الرأي، وشيخهم أبو حنيفة فلم يصح عنده إلا 17 حديثا، ومالك صح عنده 300 حديث، والبخاري اشتمل صحيحه على 9200 حديث منها 3000 مكررة، وأحمد بن حنبل في مسنده 50000 حديث،
85
وقس على ذلك. (ج) الفقه
مصدره
لما صار الإسلام دولة احتاج أمراؤه إلى ما يقضون به بين رعاياهم في أحوالهم الشخصية ومعاملاتهم المدنية، فرجعوا إلى القرآن والحديث، فاستخرجوا منهما شريعة نظموا بها حكومتهم وحكموا بها بين رعاياهم، وذلك طبيعي في الدول الكبرى، فاليونان قلما عنوا بوضع الشرائع والأحكام الدولية أو القضائية؛ لأنهم لم يكونوا أهل دولة كبرى إلا زمنا قصيرا فانصرفت قرائحهم إلى الفلسفة وفروعها، وأما الرومان فقد اتسعت مملكتهم كما اتسعت مملكة العرب، وامتد سلطانهم وقويت شوكتهم فلم يكن لهم بد من وضع الشرائع، لكنها لم يتم نضجها عندهم إلا بعد تأسيس دولتهم ببضعة عشر قرنا على يد جستنيان صاحب القانون المشهور سنة 533م، وهي عبارة عن عادات واعتبارات واعتقادات تجمعت بتوالي الأحقاب من الشعب اللاتيني والصابني وغيرهما ممن دانوا لرومية بالتدريج حتى صارت شريعة كاملة على عهد جستنيان المذكور.
وأما المسلمون فإنهم استخرجوا أحكامهم من القرآن والحديث، وقد علمت ما كان لهم من العناية في حفظهما ودرسهما من أول الإسلام، ولذلك لم يمض على المسلمين قرنان والثالث حتى نضجت شريعتهم وتكون فقههم، وهو من أفضل شرائع العالم، وقد أسرعوا في ذلك مثل سرعتهم في تأسيس دولتهم ونشر دينهم.
قلنا إن القرآن أساس الفقه الإسلامي، وكان المسلمون على عهد النبي يتلقون الأحكام منه وهو يبينها لهم شفاها، فلم يكن ذلك يحتاج إلى نظر أو قياس، فلما توفي رجع الصحابة إلى القرآن والسنة، فأصبح القراء أول فقهاء المسلمين أو حاملي شريعتهم، وكانوا يرجعون إليهم في الإفتاء والأحكام لقلة الذين يقرأون في الصدر الأول. فلما عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب وكمل الفقه وأصبح صناعة، بدلوا باسم الفقهاء العلماء.
الفقهاء
فأول الفقهاء المسلمين الصحابة الأولون، وأولهم الخلفاء الراشدون، ثم عبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري،
86
ثم انتقلت الفتوى والفقه إلى التابعين واشتهر منهم سبعة في المدينة، وهم: سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن وقاسم وعبد الله وعروة وسليمان وخارجة، وقد جمعهم بعض العلماء في هذين البيتين:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة
فقسمته ضيزى عن الحق خارجة
فخذهم: عبيد الله، عروة، قاسم
سعيد ، سليمان، أبو بكر، خارجة
87
وبعض المؤرخين يحسبهم عشرة مع تبديل بعض الأسماء،
88
وعنهم انتقل الفقه والإفتاء في العالم الإسلامي.
وفي أوائل الإسلام كان الفقه والقراءة والتفسير والحديث علما واحدا، ثم أخذت هذه العلوم تستقل بعضها عن بعض عملا بناموس الارتقاء، فلما استقل الفقه سموا أصحابه الفقهاء كما تقدم، وكان لهم تأثير كبير في الدولة لما يترتب على الإفتاء من الأمور الهامة، كالعزل والتنصيب والقتل والعفو.
ففي أيام بني أمية كان المرجع في الفقه والإفتاء إلى أهل المدينة، فكان الخلفاء لا يقطعون أمرا دونهم، وقد علمت مما فصلناه في الجزأين الماضيين من هذا الكتاب ما كان من تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم غير العرب من المسلمين وغيرهم، وأهل المدينة مع تحيزهم لأهل البيت وإنكار الخلافة على بني أمية كان الأمويون يسعون في إرضائهم وإكرامهم، وخصوصا أهل الورع من الخلفاء كعمر بن عبد العزيز فإنه كان لا يقطع أمرا مهما إلا بعد مشورتهم.
فلما أفضى الأمر إلى بني العباس، وأراد المنصور تصغير أمر العرب وإعظام أمر الفرس؛ لأنهم أنصارهم وأهل دولتهم، كان من جملة مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين، فبنى بناء سماه القبة الخضراء حجا للناس، وقطع الميرة عن المدينة، وفقيه المدينة يومئذ الإمام مالك الشهير، فاستفتاه أهلها في أمر المنصور فأفتى لهم بخلع بيعته فخلعوها وبايعوا محمد بن عبد الله من آل علي، وعظم أمر محمد هذا وحاربه المنصور ولم يتغلب عليه إلا بعد العناء الشديد، فرجع أهل المدينة إلى بيعة المنصور قهرا، وظل مالك مع ذلك ينكر حق البيعة لبني العباس، فعلم أمير المؤمنين يومئذ وهو جعفر بن سليمان عم المنصور بذلك، فغضب ودعا بمالك وجرده من ثيابه وضربه بالسياط وخلع كتفه.
89
الرأي والقياس
وكانت علوم القرآن قد انتشرت في العراق وفارس، ونبغ من أبنائهما من درس الفقه والفتيا، ولكنهم ما زالوا عيالا فيهما على أهل المدينة؛ لأنهم أوثق الناس بحفظ الحديث وقراءة القرآن، وكان الحديث قليلا في العراق على الخصوص، وكان المسلمون غير العرب هناك أكثرهم الفرس، وهم أهل تمدن وعلم، فعمدوا إلى استخدام القياس العقلي في استخراج أحكام الفقه من القرآن والحديث، فخالفوا بذلك أهل المدينة؛ لأنهم كانوا شديدي التمسك بالتقليد، فكان من جملة مساعي المنصور في تصغير أمر المدينة وفقهائها، وخصوصا مالك بعد أن أفتى بخلع بيعته، أنه نصر فقهاء العراق القائلين بالقياس، وكان كبيرهم يومئذ أبا حنيفة النعمان في الكوفة، فاستقدمه المنصور إلى بغداد وأكرمه وعزز مذهبه، وكان أبو حنيفة لا يحب العرب ولا العربية، حتى أنه لم يكن يحسن الإعراب ولا يبالي به،
90
ولذلك كان الربيع حاجب المنصور يقاومه؛ لأن الربيع ينتسب إلى العرب وكان يكره الفرس، وابنه الفضل هو الذي سعى في قتل البرامكة.
فلما نصر المنصور أبا حنيفة وأصحابه، وهم المعروفون بأهل الرأي أو القياس، ازداد مالك تمسكا برأيه وتبعه فقهاء الحجاز وهم أهل الحديث.
وانقسم الفقهاء إلى قسمين: أهل الحديث، وأهل الرأي، وزعيم الأول مالك وأنصاره من أهل الحجاز، وأصحاب الشافعي وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وغيرهم من أهل التقليد، وعرفوا بأصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم مبذولة في تحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي أو الخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا، ويدلك على شدة تمسكهم بذلك قول الشافعي: «إذا وجدتم لي مذهبا ووجدتم خبرا على خلاف مذهبي فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر».
وزعيم أصحاب الرأي أبو حنيفة النعمان وأصحابه فقهاء العراق، ومنهم محمد بن الحسن وأبو يوسف القاضي وزفر بن هذيل والحسن بن زياد وابن سماعة وأبو مطيع البلخي وعافية القاضي وغيرهم، وقد سموا أهل الرأي؛ لأن عنايتهم اتجهت إلى تحصيل وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الأحكام عليها، وهم يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار.
91
وجاء بعد مالك من أصحاب مذهبه محمد بن إدريس المطلبي الشافعي، فرحل إلى العراق وخالط أصحاب أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختص بمذهب خالف فيه مالكا في كثير من مذهبه، ثم جاء بعده أحمد بن حنبل وكان من علية المحدثين، وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر، ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، وتولد منهم مذاهب الإسلام الأربعة وهي: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي.
وللفقه فروع وشروح يضيق المقام عنها هنا، فنترك الكلام فيها وفي غيرها من فروع العلم إلى تاريخ آداب اللغة العربية.
منزلة العلماء عند الخلفاء
يراد بالعلماء، في عرض الكلام عن العلوم الإسلامية، علماء الحديث والقرآن والفقه، وقد علمت ما كان من منزلة هذه العلوم في الخلافة، فلا عجب بعد ذلك إذا رأيت الخلفاء يكرمون الفقهاء وأصحاب الحديث والزهاد والعلماء، وقد رأيت أن بني أمية كانوا يستشيرون فقهاء المدينة في الأمور الهامة.
وكثيرا ما كان أهل التقوى من الخلفاء يسألون العلماء عن شروط العدل ليجروا عليه «كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله عن صفة الإمام العادل فأجاب جوابا وافيا،
92
فلما وصله الكتاب وقع منه بمواقع وعظه ومحل يقظه».
وقد يحمل ذلك على مبالغة هذا الخليفة (يريد عمر بن عبد العزيز) في التقوى والورع فما قولك بالمنصور المشهور بالشدة والحزم والدهاء، إذ دخل عليه عمرو بن عبيد بعد مبايعة المهدي فقال له المنصور: «يا أبا عثمان، هذا ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين» فقال عمرو: «أراك قد وطدت له الأمور وهي تصير إليه وأنت عنه مسئول» فاستعبر المنصور وقال: «عظني يا عمرو» فوعظه،
93
ولما مات عمرو رثاه المنصور بأبيات.
94
ناهيك بحكاية المنصور وهو يطوف بالكعبة ليلا إذ سمع ذلك العابد يشكو ظهور البغي والفساد، ولما سأله المنصور عمن يعني صرح له أنه يعنيه هو وحكومته ووعظه عظة شديدة لم يستنكف المنصور من سماعها
95
وقس على ذلك عظات الأوزاعي وابن السماع وسفيان الثوري وشبيب بن شيبة للمنصور والمهدي والرشيد (راجع كتاب الثوري للرشيد في الجزء الثاني من هذا الكتاب).
وكثيرا ما كان الواعظ يبكي الخلفاء؛ لأنهم كانوا يجلون العلماء ويكرمونهم، حتى تسابقوا إلى احترامهم بما لا يصدر إلا من خادم إلى مولاه، فقد صب الرشيد الماء على يدي أبي معاوية الضرير وهو يغسل.
96
وكان الإكرام في أول الأمر للفقهاء والمحدثين خاصة، ثم أطلق على أصحاب سائر العلوم الإسلامية كالنحاة واللغويين، فقد كان الرشيد يجلس الكسائي ومحمد بن الحسن على كرسيين ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته،
97
ولما مات هذان في الري في يوم واحد قال الرشيد: «دفنت الفقه والعربية في الري».
98
وقد تنازع الأمين والمأمون ولدا الرشيد في حمل نعال أستاذهما الفراء وتقديمها إليه، حتى اصطلحا على أن يقدم كل منهما واحدة.
99
وإكرام الخلفاء للعلماء اقتضى إكرام العامة لهم، فلما توفي ابن حنبل مشى في جنازته 800000 رجل و60000 امرأة،
100
وناهيك بهذا الإكرام، ولما سار أبو إسحاق الشيرازي من قبل الخليفة المقتدي إلى السلطان ملك شاه تنافس أهل البلاد في لقائه والتمسح بأطرافه والتماس البركة من ملبوسه ومركوبه.
101 (2-2) العلوم اللسانية (أ) النحو
النحو بمعناه الحقيقي طبيعي على لسان كل متكلم يتلقنه من مرضعه؛ لأن الإنسان يتعلم النحو وهو يتعلم النطق، إذ بدونه لا يحسن التعبير عن أفكاره، أما إذا أراد أن يتعلم لسانا غير لسانه فدرس قواعد النحو يسهل عليه تناوله، ولذلك فالأمة قد تقضي قرونا متطاولة وهي تتكلم وتخطب وتنظم الشعر قبل أن تدون قواعد النحو وتجعله علما، فاليونان لم يبدأوا بضبط قواعد لسانهم إلا في القرن الخامس قبل الميلاد، وأول من بدأ بذلك منهم بروتغوراس
المتوفى سنة 411ق.م فتكلم في المذكر والمؤنث وبعض الأسماء، ثم بروديكوس
وقد عاصره وتكلم في المترادفات، ثم جاء أرسطو وغيره وأتموا علم النحو اليوناني وله تاريخ يشبه تاريخ النحو العربي، وكذلك فعل الرومان في نحو اللغة اللاتينية، فإنهم لم يدونوا قواعده إلا في القرن الأول قبل الميلاد في زمن بومبيوس، وقد دونه عالم اسمه ديونيسيوس تراكس
D. Tarrax
اقتداء باليونان.
فاليونان نبغ فيهم الشعراء والخطباء والأدباء والفلاسفة قبل تدوين قواعد النحو في لسانهم، فنظم هوميروس إلياذته وأوديسيته وهو لم يتعلم قواعد النحو فلم يضره ذلك شيئا؛ لأن اللغة كانت ملكة فيه، وألف أشيلوس
Aeschylos
الروايات التمثيلية وسحر اليونان ببيانه، ونبغ الفلاسفة فريسيدس وأناكسيمندر وطاليس
Tales
وكتب هيرودوتس الرحالة تاريخه الشهير قبل وضع النحو، وكذلك الرومان فقد نبغ فيهم جماعة من الشعراء والخطباء والأدباء قبل تدوين النحو. (ب) وضع النحو العربي وواضعه
وهكذا العرب فقد نظموا الشعر وألقوا الخطب وتناشدوا وتراسلوا قبل تدوين النحو؛ لأن ملكة اللغة كانت طبيعية فيهم، على أنهم اضطروا إلى ضبط تلك القواعد وتدوينها بأسرع مما اضطر إليه اليونان والرومان، التماسا للدقة في ضبط معاني القرآن، فلم يمض على دولتهم نصف قرن حتى شعروا بالحاجة إلى النحو، ويغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويبه على منوال السريان؛ لأن السريان دونوا نحوهم وألفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس للميلاد، وأول من باشر ذلك منهم الأسقف يعقوب الرهاوي الملقب بمفسر الكتب المتوفى سنة 460م،
102
فالظاهر أن العرب لما خالطوا السريان في العراق اطلعوا على آدابهم وفي جملتها النحو فأعجبهم، فلما اضطروا إلى تدوين نحوهم نسجوا على منواله؛ لأن اللغتين شقيقتان. ويؤيد ذلك أن العرب بدأوا بوضع النحو وهم في العراق بين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية.
أما استعجال العرب في تدوين النحو فإنه تابع لاستعجالهم في الفتح ونشر الدين؛ لأن الفتوح دعت إلى الاختلاط بالأعاجم، والاختلاط دعا إلى فساد اللغة فأصبح الناس يهملون الإعراب؛ لأن العرب كانوا عند ظهور الإسلام يعربون كلامهم على نحو ما في القرآن، إلا من خالطهم من الموالي والمتعربين فإن هؤلاء كانوا حتى في أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
يخطئون الإعراب، وقد ذكروا رجلا لحن بحضرة النبي فقال: «أرشدوا أخاكم فقد ضل». وقال أبو بكر: «لأن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن»،
103
ولكن اللحن لم يكثر إلا بعد الفتوح وانتشار العرب في الآفاق، فتذمر العمال مما كانوا يسمعونه من اللحن وخصوصا في قراءة القرآن، فأحسوا بحاجة شديدة إلى ضبط قواعد اللغة.
أما واضع علم النحو أو مدونه فهو بالإجماع أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69ه وكان من سادات التابعين، صحب علي بن أبي طالب وشهد معه واقعة صفين، ثم أقام في البصرة وكأنه تعلم لغة السريان أو اطلع على نحوها فرغب في النسج على منواله، فعرض ذلك على والي العراقين يومئذ زياد ابن أبيه فأبى،
104
لأسباب تقدم بيانها، حتى إذا جاءه رجل يشكو إليه أمرا فسمعه يقول: «أصلح الله الأمير، توفي أبانا وخلف لنا بنون» فاستنكف زياد من سماع ذلك اللحن فبعث إلى أبي الأسود أن يضع ما كان قد نهاه عنه.
وقيل بل السبب في وضعه أن بنت خويلد الأسدي دخلت على معاوية وقالت: «إن أبوي ماتا وتركا لي مالا» (بالإمالة) وبلغ ذلك عليا فرسم لأبي الأسود باب «إن» وباب الإضافة وباب الإمالة، ثم سمع أبو الأسود رجلا يقرأ:
أن الله بريء من المشركين ورسوله
بخفض رسوله، فصنف باب العطف والنعت، ثم إن بنته قالت له يوما: «يا أبت ما أحسن السماء» على طريق الاستفهام، فقال: «نجومها». فقالت: «إنما أتعجب من حسنها». فقال: «قولي: ما أحسن السماء ... افتحي فاك».
وقالت له يوما: «ما أشد الحر» على لفظ الاستفهام على نحو ما جرى في الجملة الماضية، فصنف باب التعجب.
105
واختلف المؤرخون في هذه الروايات وذكروا غيرها، ولكن الفحوى واحد، فهم مجمعون على أن أبا الأسود وضع النحو لمثل الأسباب التي قدمناها، وهو يقول إنه تلقى ذلك عن علي بن أبي طالب، فوضع علم النحو أو الشروع فيه على الأقل ثابت لأبي الأسود، ويؤيد ذلك ما ذكره ابن النديم صاحب الفهرست مما شاهده بعينه في عرض كلامه في خزانة كتب أطلعه عليها أحد جماعي الكتب، فكان في جملة ما فيها قمطر كبير فيه نحو 300 رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصري وورق صيني وورق تهامي وجلود آدم وورق خراساني، وبينها أربعة أوراق قال: «أحسبها من ورق الصين، ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه، بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علان النحوي، وتحته: هذا خط النضر بن شميل، ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القطمر».
106
على أن ما وضعه أبو الأسود من القواعد لم يكن ليسد الحاجة المستعجلة لضبط القراءة، فعمد إلى ضبطها بعلامات يتميز بها المنصوب من المرفوع، أو الفعل من الاسم، فوضع علامات كانت عند السريان يدلون بها على الرفع والنصب والجر، أو يميزون بها الفعل من الاسم، كما تقدم في كلامنا عن تاريخ الخط العربي.
فالعرب كانوا يعرفون الإعراب قبل علم النحو، كما كانوا يحسنون النظم قبل علم العروض، وكان ذلك ملكة طبيعية فيهم، حتى اختلطوا بالأعاجم، وأسلم هؤلاء وليس فيهم ملكة اللغة ليفهموا القرآن، فاضطروا إلى ضبطها وكانوا أكثر المسلمين اشتغالا في ذلك، بدأ بعلم النحو أبو الأسود وأتمه من جاء بعده من أهل البصرة والكوفة، وأول من أخذ عنه عنبسة بن معدان المهري، وأخذ عن هذا ميمون الأقرن، وأخذ عنه عبد الله الحضرمي، وأخذ عنه عيسى بن عمر، وأخذ عنه الخليل بن أحمد إمام علم العروض واللغة، ومنه أخذ سيبويه إمام علم النحو،
107
فتنوقل النحو في هؤلاء من الواحد إلى الآخر، وهو ينمو ويرتقي عملا بناموس الارتقاء، وألفوا فيه الكتب لكنه نضج في أيام سيبويه (توفي سنة 180ه) فألف فيه كتابه الشهير، وأصبح كل من ألف في النحو عيالا عليه وعلى كتاب العين الآتي ذكره.
وكانوا إذا قالوا: «الكتاب» أرادوا كتاب سيبويه، وكان الناس يتهادونه كأفخر التحف. (ج) الأدب واللغة
لما أخذ المسلمون في تفسير القرآن احتاجوا إلى ضبط معاني ألفاظه وتفهم أساليب عباراته، فجرهم ذلك إلى البحث في أساليب العرب وأقوالهم وأشعارهم وأمثالهم، ولا يكون ذلك سالما من العجمة أو الفساد إلا إذا أخذ عن عرب البادية الذين كانت قريش في الجاهلية تتخير من ألفاظهم وأساليبهم، فعني جماعة كبيرة من المسلمين بالرحلة إلى بادية العرب والتقاط الأشعار والأمثال وسؤال العرب عن معاني الألفاظ وأساليب التعبير، وسموا الاشتغال بذلك مع ما يتبعه من صرف ونحو وبلاغة بعلم الأدب.
والقبائل التي نقلوا عنها العربية: قيس وتميم وأسد، وعن هذه القبائل الثلاث أكثر ما أخذ من اللغة، وعليها عول الناقلون في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم قبيلة هذيل وبعض كنانة وبعض طيء، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر القبائل ولا أخذوا شيئا عن الحضر ولا من البدو الذين كانوا يسكنون البراري المجاورة للأمم الأخرى، فلم يأخذوا من لخم وجذام لمجاورتهما أهل مصر، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون العبرانية والسريانية، ولا من بكر لمجاورتهم النبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين يخالطون الهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم الهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن، ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب وقد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم، والذين نقلوا اللغة وأساليبها عن القبائل المذكورة وأثبتوها في الكتب وصيروها علما هم أهل البصرة والكوفة فقط،
108
وكان أكثر المشتغلين في جمع اللغة وآدابها العجم لحاجتهم إلى ذلك أكثر من العرب.
علماء الأدب بالبصرة والكوفة
ومن أقدم المشتغلين في جمع اللغة والأدب وأوسعهم حفظا ورواية أبو عمرو بن العلاء التميمي المتوفى بالكوفة سنة 154ه، وهو من مواليد مكة، وكانت كتبه عن العرب الفصحاء تملأ بيته إلى قريب السقف،
109
وقال مع ذلك: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير».
ونبغ في العراق جماعة كبيرة من طلاب الأدب واللغة في القرن الثاني للهجرة، أشهرهم أربعة في عصر واحد، وهم: أبو زيد، وأبو عبيدة، والأصمعي، والخليل. وكان العلم كله عندهم، والثلاثة الأول أخذوا عن أبي عمرو المذكور اللغة والنحو والشعر والقراءة.
110
فأبو زيد كان من الأنصار توفي سنة 214ه، وهو من رواة الحديث ثقة في اللغة وأخذ عنه سيبويه، وأبو عبيدة كان أعلم الجميع بأيام العرب وأخبارهم وأجمعهم لعلومهم، ومن أقواله: «ما التقى فرسان في جاهلية أو إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما» توفي سنة 209ه، والأصمعي غلبت عليه اللغة وحفظ الشعر ونقده، توفي سنة 213ه.
وأما الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170 فإنه أسبقهم جميعا وقد لقبوه بسيد علم الأدب؛ لأنه أول من دون اللغة على حروف المعجم في كتابه المشهور بكتاب العين، سماه بذلك لأنه رتبه على الحروف باعتبار مخارجها: من الحلق، فاللسان، فالأسنان، فالشفتين. وبدأ بحرف العين، وهاك ترتيبه: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ص ض س ر ط د ت ظ ذ ث ز ل ن ف م و ا ي. فكأن الخليل حذا بذلك حذو الهنود في ترتيب حروف لغتهم السنسكريتية، فإنهم يبدأون بأحرف الحلق حتى ينتهوا إلى الأحرف الشفوية.
111
وكان من عادات العرب أن يسموا الكتاب بأول لفظ من ألفاظه، ككتاب الجيم للهروي وهو كتاب رتبه على حروف المعجم بدأ به بحرف الجيم،
112
وكتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني،
113
ومن هذا القبيل كتاب الغين في الحروف، وكتاب الميم ونحوهما، ويستفاد من ملاحظة ترتيب الحروف في كتاب العين أن الجيم كانوا يتلفظون بها كالكاف الفارسية، وأن كثيرا من الأحرف تختلف عما تنطق به الآن.
وكان الحفاظ والرواة يدققون فيما يأخذونه عن العرب من شعر أو مثل أو غير ذلك، وما يسمعونه من معانيها؛ لأن عليها يتوقف تفسير القرآن.
فإنهم اتبعوا في نقل اللغة طريقة الإسناد المتسلسل، كما كانوا يفعلون في رواية الحديث، وعني الناس بحفظها مثل عنايتهم بحفظه، لاعتبارهم أن ناقل اللغة يجب أن يكون عدلا كما يشترط في ناقل الحديث؛ لأنها واسطة تفسيره وتأويله، على أنهم لم يستطيعوا ذلك تماما.
وازدهرت علوم الأدب في القرن الثاني وبعض الثالث الهجريين في البصرة والكوفة، ونبغ فيهما النحاة والرواة والحفاظ والأدباء والشعراء، والبصرة متقدمة في ذلك، وأهل الكوفة يأخذون عن أهل البصرة، وهؤلاء يستنكفون أن يأخذوا عن أهل الكوفة لاعتقادهم أنهم غير محققين، ولم يعلم أن أحدا من البصريين أخذ عن أهل الكوفة إلا أبو زيد الأنصاري،
114
على أن الشعر كان في الكوفة أكثر وأجمع منه في البصرة، ولكن كثيرا منه مصنوع، وأشهر علماء الكوفة الكسائي
115
المتوفى سنة 182ه يليه في النحو تلميذه الفراء المتوفى سنة 207ه وعلي الأحمر اللحياني وغيره، كما اشتهر في البصرة سيبويه ومن ذكرناهم من النحاة وأهل الأدب.
علماء الأدب في بغداد
وما زال هذان المصران مصدر العلوم الإسلامية حتى بنيت بغداد وانتقل العلم إليها، وغلب ورود أهل الكوفة إلى بغداد لقربهم منها، وكان العباسيون يكرمونهم؛ لأنهم نصروهم لما قاموا لطلب الخلافة، فقدمهم الخلفاء على أهل البصرة واستقدموهم إليهم ووسعوا لهم، ورغب الناس في الروايات الشاذة وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات وتركوا الأصول واعتمدوا على الفروع، واشتهر منهم في عصر الفراء عبد الله بن سعيد الأموي، وأبو الحسن الأخفش الكوفي، وأبو عكرمة الضبي، وأبو عمرو الشيباني وغيرهم.
وآل الأمر بعد نضج علم الأدب في العصر العباسي إلى أربعة هم أركانه وأعمدته، دونوا علمهم في كتب شهيرة هي: (1)
كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة. (2)
كتاب الكامل للمبرد. (3)
البيان والتبيين للجاحظ. (4)
كتاب النوادر للقالي.
وهذه الكتب هي مصادر علم الأدب عند العرب إلى الآن، وأكثر ما ألف بعدها نقل عنها.
116
ولما قدم العباسيون أهل الكوفة ارتقوا في عين أنفسهم وأرادوا مسابقة أهل البصرة ومفاخرتهم، فقامت المجادلات بين البلدين في مسائل كثيرة في النحو والأدب واللغة، أشهرها مسألة الزنبور والنحلة التي انتشبت نارها بين سيبويه من البصرة والكسائي من الكوفة. وكان الكسائي يعلم الأمين ابن الرشيد، فكان الأمين ينصره كأن على انتصار أحد النحويين يتوقف انتصار أهل بلده جميعا، ولا بأس من إيراد خلاصة المسألة ليظهر مقدار اهتمام الخلفاء بالمسائل العلمية.
وذلك أن الكسائي كان مقيما في بغداد يعلم الأمين، واتفق أن سيبويه قدم إليها من البصرة، فجمع الأمين بينهما في مجلس فتناظرا في أمور كثيرة من جملتها مسألة الزنبور، فذكر الكسائي من أمثال العرب مثلا رواه على هذه الصورة: «كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها» فقال سيبويه: «ليس المثل كذلك، بل: فإذا هو هي» وتحاورا طويلا، واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر. وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه فاستدعى عربيا وسأله، فقال كما قال سيبويه، فقال له: «نريد أن تقول كما قال الكسائي» فقال: «لساني لا يطاوعني على ذلك فإنه ما يسبق إلا إلى الصواب» فقرروا معه أن شخصا يقول: «قال سيبويه كذا، وقال الكسائي كذا فالصواب مع من منهما؟» فيقول العربي: «مع الكسائي» فقال: «هذا يمكن». ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن، وحضر العربي وقيل له ذلك فقال: «الصواب مع الكسائي وهو كلام العرب» فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي، فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه وقصد بلاد فارس.
ويدل ذلك على عناية أهل الدولة بالمسائل الأدبية، وإن كانت في الواقع لا تخلو من غرض سياسي، على أنهم كانوا يهتمون بالآداب من أيام بني أمية، فقد ذكروا أن عبد الملك بن مروان كان يعقد المجالس للمذاكرة، فقال مرة لبعض أهل مسامرته: «أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه؟» أراد أن يعدد أعضاء بدنه فيذكر عضوا أوله حرف الألف ثم عضوا أوله حرف الباء وهكذا إلى الياء، فقام سويد بن غفلة فعدها، فقام أحد الحاضرين فعدها في جسد الإنسان مرتين
117
فأجاز الاثنين.
وكانت علوم اللغة في أول أمرها مشتركة مختلطة، ثم تميزت وتشعبت فصارت علوما عديدة، كل منها مستقل عن الآخر، كالنحو والصرف واللغة والمعاني والبيان والاشتقاق والعروض والقوافي وأخبار العرب وأمثالهم والجدل وغيرها، وقد يطلقون عليها علم الأدب، ولكل منها تاريخ وشروح هي من شأن تاريخ آداب اللغة. (د) بلاغة الإنشاء
البلاغة في الإنشاء مما اقتضاه القرآن؛ لأنه مثال البلاغة والفصاحة عند العرب، يتخذونه نموذجا في خطبهم ورسائلهم وإنشائهم، وإذا لم يقصدوا إلى الاقتباس منه عمدا فشيوع حفظه بينهم أكسبهم ملكة البلاغة، مع ما كانوا فيه من أسباب الحماسة والأنفة في إبان دولتهم، فدخلت لغة العرب بعد الإسلام في طور جديد من البلاغة والفصاحة، ظهر في عبارتها على اختلاف طرق تأديتها خطابة أو كتابة، أما بلاغة الخطابة فسيأتي الكلام عليها، وأما الكتابة فينظر فيها من عدة وجوه ترجع إلى كتابة الرسائل وكتابة الكتب.
إنشاء الرسائل
فالرسائل كانت عبارتها عندهم مثل عبارة الخطابة، من حيث التفنن في أساليب الخيال بالتهديد أو الوعيد أو النصح أو الاستنهاض أو الاستعطاف أو نحو ذلك من المعاني، وكانوا في أوائل الإسلام يتوخون الاختصار فيها على قدر الإمكان، عملا بالحديث القائل: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارا». فكانوا يجمعون المعنى الكبير في اللفظ القليل، حتى تكاد ترى المعنى مجردا من اللفظ، وكان لتلك الرسائل تأثير مثل تأثير الخطب البليغة، كأنهم استعاضوا بعد زمن الفتح ببلغاء الكتاب عن بلغاء الخطباء.
ومن أمثلة الرسائل المختصرة البليغة أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص أمير مصر، وكان الحجاز في ضنك عام الرمادة: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي ... فيا غوثاه ثم يا غوثاه!» فكتب إليه عمرو: «لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عبد الله عمرو بن العاص، أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك! وقد بعثت إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله».
ومن أمثلة تأثير المكاتبة البليغة أن عبد الملك بن مروان بنى بابا في بيت المقدس باسمه، وأمر الحجاج فبنى بابا باسمه هو، فاتفق أن صاعقة وقعت فاحترق بها باب عبد الملك فقط، فعظم ذلك عليه وتشاءم منه فكتب الحجاج إليه: «بلغني أن نارا نزلت من السماء فأحرقت باب أمير المؤمنين ولم تحرق باب الحجاج، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر» فسري عن عبد الملك بذلك.
وكان الخلفاء يختارون كتابهم من البلغاء، ويتوخون جهدهم في الاختصار مع البلاغة، ومن أمثلة ذلك أن المأمون استكتب كاتبه عمرو بن مسعدة كتابا إلى بعض العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره فكتب: «كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معني بمن كتب له، ولن يضيع حامله بين الثقة والعناية».
وكثيرا ما كانوا يجيبون على الكتاب بعبارة مختصرة، وخصوصا إذا أرادوا التهديد أو نحوه، كما أجاب الرشيد نقفور ملك الروم، وكان قد كتب إليه ينذره بقطع ما كان يحمله الروم إلى بغداد من الأموال، ويطلب إليه إرجاع ما كان قد قبضه منها إلى أن قال: «وافتد نفسك بما تقع به المصادرة، وإلا فالسيف بيننا وبينك». فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب بعد البسملة: «قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه!» وأجاب مثل ذلك الجواب يوسف بن تاشفين للأذفونش ملك الإفرنج لما هدده بكتاب، فكتب يوسف على ظهر الكتاب: «الذي يكون ستراه».
التوقيعات
ويعد من هذا القبيل أيضا التوقيعات، وهي ما كان يوقعه الخلفاء على ما يرفع إليهم من القصص بما يشبه (التأشير) في دواوين هذه الأيام، وكانوا يتفننون في التوقيع تفننا بديعا، ويغلب أن يجعلوا أجوبتهم آيات من القرآن، أو جملا من الحديث، أو أشعارا مشهورة. ومن أمثلة ذلك أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بنيان يبنيه، فوقع عمر في أسفل الكتاب: «ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر». ووقع عثمان بن عفان في قصة قوم تظلموا من مروان بن الحكم وذكروا أنه أمر بوجأ أعناقهم: «فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون». وكتب سلمان الفارسي إلى علي بن أبي طالب يسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة، فوقع على جوابه: «يحاسبون كما يرزقون».
وكتب عبد الله بن عامر إلى معاوية في أمر يعاتبه فيه، فوقع في أسفل الكتاب: «بيت أمية في الجاهلية أشرف من بيت حبيب في الإسلام، فأنت تراه». وكتب إليه ربيعة بن عسل اليربوعي يسأله أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثني عشر ألف جذع، فوقع في أسفل الكتاب: «أدارك في البصرة أم البصرة في دارك؟!» وكتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم، فوقع له: «إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المتألفون». ووقع عبد الملك في كتاب ابن الأشعث:
فما بال من أسعى لأجبر عظمه
حفاظا وينوي من سفاهته كسري
ووقع عمر بن عبد العزيز إلى عامل شكاه الناس: «كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت، والسلام»،
118
وكتب إليه بعض عماله يستأذنه في بناء مدينة فوقع على الكتاب: «ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم». •••
وقس على ذلك سائر توقيعات بني أمية وبني العباس، وهي كثيرة وكلها بليغة، كتوقيع المهدي لعامله على خراسان لأمر جاء عنه : «أنا ساهر وأنت نائم ...» وتوقيع الرشيد إلى عامله على مصر: «احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف، فيأتيك من لا قبل لك به ومن الله أكثر منه». وتوقيع المأمون إلى ابن هشام في أمر تظلم فيه: «من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من تحته، فأي الرجلين أنت؟»
وكان الأمراء والوزراء أيضا يوقعون مثل توقيعات الخلفاء فيما يرفع إليهم من القصص، فتظلم أحدهم إلى زياد بن أبيه من بعض عماله بكتاب فوقع له: «أنا معك». ووقع الحجاج في كتاب أتاه من صاحب الكوفة يخبره بسوء طاعة أهلها وما يقاسي من مداراتهم: «ما ظنك بقوم قتلوا من كانوا يعبدونه؟!» ووقع جعفر بن يحيى في قضية محبوس: «ولكل أجل كتاب». ووقع لآخر: «الجناية حبسته والتوبة تطلقه». وقد اقتبس العرب التوقيع على هذه الصورة من الفرس؛ لأنهم سبقوهم إلى ذلك.
وما زال الاختصار عمدة البلاغة في رسائلهم ومكاتباتهم، حتى تحضروا واختلطوا بالفرس بالمصاهرة والمعاشرة فاقتبسوا منهم التفخيم والمبالغة والتوسع، وقد بدأوا بذلك من أوائل القرن الثاني للهجرة، وأول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب وفتق أكمام البلاغة عبد الحميد الكاتب المشهور المتوفى سنة 132ه، وهو من أهل الشام
119
غير عربي. وسار الكتاب بعده على خطته وقلدوه وتوسعوا في طريقته، فنبغ جماعة من مشاهير البلغاء فيهم الوزراء والأمراء وأكثرهم من غير العرب، ومنهم يحيى بن خالد البرمكي فارسي، والفضل بن الربيع من الموالي، والفضل بن سهل فارسي، والصاحب بن عباد من الطالقان، وابن العميد المتوفى سنة 360ه وهو من أهل خراسان، وعماد الدين الكاتب المتوفى سنة 597ه من أهل أصبهان وهو أكثرهم توسعا وإطنابا.
إنشاء الكتب
ونريد بها الكتب المؤلفة في الموضوعات الأدبية أو العلمية أو التاريخية أو نحوها، وهي تختلف بلاغة وفصاحة باختلاف موضوعاتها، وكتب الأدب أحوج إلى البلاغة لما تقتضيه الموضوعات الأدبية من التخيلات الشعرية والكنايات ونحوها، والغالب في كتاب الأدب أن يطالعوا آداب العرب ويخالطوهم ويحفظوا أساليبهم في أشعارهم وخطبهم وأقوالهم، فتحصل فيهم ملكة البلاغة العالية، ولذلك كان الفقهاء وأهل العلوم الطبيعية قاصرين في البلاغة لاستغناء هذه العلوم عن الخيال، فيتعودون التعبير بعبارات بسيطة بعيدة عن أساليب الأدباء، وإذا حاولوا الكتابة في الأدب أو نظم الشعر جاء كلامهم ضعيفا ركيكا.
فلغة الكتاب، قبل انتشار الفقه ونقل العلوم الطبيعية إلى العربية، كانت أقرب إلى البلاغة مما صارت إليه بعد ذلك؛ لأنها كانت مصوغة على مثال القرآن وهو عنوان البلاغة، لكنه أقرب إلى التعبير الشعري منه إلى الكلام المرسل، فالذين حذوا حذوه في صدر الإسلام أجادوا في الخطب والمراسلات؛ لافتقارها إلى ذلك الأسلوب بما فيه من أسباب التأثير في النفوس، فلما أقدم المسلمون على تأليف الكتب، وكان معظم المؤلفين من الفرس اصطبغت بلاغة العربية بشيء من أسلوب الفرس فنشأ عنها الكلام المرسل المتناسق، وأحسن أمثلته عبارة ابن المقفع في كتاب كليلة ودمنة، فإنها لا تزال عنوان البلاغة والسهولة إلى هذا اليوم.
ابن المقفع
كان ابن المقفع عريقا في الفارسية عالما بآدابها متمكنا من أساليبها؛ لأنها لغته ولغة آبائه، وكان يعرف اللغتين الفهلوية واليونانية، وقد نشأ في البصرة في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة وهي حافلة بالأدباء والشعراء، فبرع في اللغة العربية وآدابها، وكان سليم الذوق ذا قريحة إنشائية، فلما أقدم على نقل كتاب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية جاءت عبارته شاملة للبلاغة والسهولة، وقد سار على نهجه من جاء بعده؛ لأنه أقدم من حفظ إنشاؤه في الموضوعات الأدبية باللغة العربية (توفي سنة 143ه).
على أن سائر كتاب الأدب نحو ذلك العصر قلما أنشأوا شيئا من عند أنفسهم؛ لأن أكثر ما كانوا يكتبونه قطع كانوا يروونها عن أهل البادية أو عن بلغاء الخطباء بنصها، وربما وصلوا بينها بفقرات لا تتجاوز قولهم: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو خطب فلان فقال كذا وكذا، وكتب فلان إلى فلان كذا وكذا، مما لا يعد من قبيل الإنشاء المرسل، حتى ما كتبه أركان علم الأدب في أواسط القرن الثالث للهجرة، كالجاحظ والمبرد وابن قتيبة وغيرهم، فإن كتبهم عبارة عن قطع من أقوال العرب أو مروياتهم منقولة بالإسناد إلى أصحابها، وشأنهم في ذلك شأن كتاب المغازي والفتوح والسير والأخبار والأشعار، كحماد والأصمعي وأبي عبيدة ومحمد بن إسحاق، فإنهم كانوا يقولون ويسندون أقوالهم إلى الرواة، وأكثرهم من أهل البادية. ويقال نحو ذلك فيما جمع بين هذه الفنون، ككتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وغيرهما، فإنها عبارة عن أخبار مسندة إلى أصحابها، ويندر فيها الكلام المرسل من عند المؤلف.
فكتاب كليلة ودمنة أقدم ما وصل إلينا من الإنشاء المرسل من لغة رجل واحد، وهو عالم من علماء الفرس وقد نقل الكتاب عن لغة الفرس، ونظرا إلى ما يمتاز به الكتاب المذكور من السهولة والرشاقة عن سائر ما كتب في عصره أو ما بعده من كتب الأدب، يغلب على ظننا أنه اكتسب ذلك من تأثير أساليب اللغات الأخرى التي كان يعرفها الكاتب، أو لاقتدار خاص في الكاتب نفسه على مثل ذلك الأسلوب، وقد قل من جاء بمثله بعده ولم يأت أحد بأحسن منه، مع ما بلغ إليه العلم من الرقي في العصر العباسي وما نبغ فيه من علية الكتاب المشاهير، مما يدلك على أن الإنشاء قريحة خاصة مثل قريحة الشعر لا تتقيد بالزمان أو المكان إلا قليلا.
وما زالت الكتب تؤلف بالإسناد والرواية، حتى كثرت المؤلفات العربية في كل فن أو علم، وعمد الكتاب إلى التلخيص والاختصار في القرن السادس أو السابع، فأخذوا يحذفون الأسانيد أو يختصرونها إلا لأسباب خاصة كما سترى في باب التاريخ.
السجع
ولما نضج التمدن الإسلامي وكثر فيه الأدباء والشعراء، وأصبح الشعر شائعا على ألسنة الناس على اختلاف طبقاتهم، وكثر تمثلهم به وتناشدهم إياه، ألف الناس التلذذ برنة القافية، فاستحسنوا إدخالها أولا في المراسلات وهو التسجيع، وقد كان في أول أمره مقبولا لقلته وحسن وقعه، حتى أدخلوه في الكتب وكتبوا به المقامات في أواخر القرن الرابع، وأول من فعل ذلك بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398ه ولعله اقتبس نسقها من أحمد بن فارس الرازي المتوفى سنة 390 ه،
120
وعلى منواله نسج الحريري ولكنه تباعد عن السهولة والطلاوة، وشاعت هذه المقامات واستحسنها الناس فزادتهم رغبة في الأسجاع، فتكاثر التسجيع في القرون الإسلامية الوسطى حتى مجته الأسماع وعاد إلى نحو ما كان عليه في أيام الكهان.
والتسجيع في الكتب أنبى على السمع مما في الرسائل، وخصوصا فيما لا يحتاج إلى تنميق أو إطناب أو رنة أو خيال ككتب التاريخ والعلم، فمن يطالع كتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان المتوفى سنة 535ه، أو الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الأصبهاني المتقدم ذكره، أو تاريخ آل سلجوق لعماد الدين أيضا؛ ير ثقل الأسجاع على الأسماع في التاريخ وإن حسنت أحيانا في الرسائل والخطب.
على أن معظم مشاهير الكتاب في كل العصور لم يكتبوا إلا مرسلا، وقد أجادوا كابن خلدون وابن الأثير والمسعودي وغيرهم، وقد كتب غير واحد منهم في تقبيح السجع حتى في المراسلات، ونسبوا ذلك إلى ضعف ملكة الإنشاء.
121 (2-3) التاريخ والجغرافية (أ) التاريخ
بقي الإنسان أحقابا لم يدون فيها التاريخ؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة، ولأن أحواله لم تكن تستدعي التدوين لسذاجتها، مع انصراف همه في تلك العصور إلى ضروريات الحياة، على أنه ما لبث أن أصيب بطوارق الحدثان، فحفظ أكثرها تأثيرا في أحوال معائشه، كالطوفان والقحط والحرب ونحوها، وتنوقلت تلك الأخبار في أعقابه أدهارا، وهي تتعاظم وتتكيف على ما تطلبه طبيعة الإنسان من التلذذ باستماع الغريب، واجتهاد الراوي في التأثير على السامع بما يلقيه من الأخبار المنمقة المستغربة، فوصلت أخبار الأوائل إلى زمن التاريخ وهي أشبه بالخرافات منها بالحقائق، واتخذ بعضها وجهة دينية، والبعض الآخر وجهة حماسية، واصطبغ بعضها صبغة شعرية أو خيالية، ويختلف ذلك باختلاف الأمم والعصور، فنشأ من ذلك كله ما يعرف بالخرافات القديمة، كالميثولوجيا اليونانية في الإلياذة، وأخبار الهنود في المهابهارتة، وأخبار الفرس القدماء في الشاهنامة، وأخبار القبائل البائدة التي كان العرب يتناقلونها، فإن ما ينسبونه إلى عاد وثمود وطسم وجديس من الحوادث المستغربة لا يخلو من أصل تاريخي تعاظم وتضاعف على مر الأيام، وكذلك حديث سيل العرم وبلقيس وغيرهما.
ويلي ذلك طبقة من الأخبار أقرب إلى التاريخ من تلك، كالمهاجرات القديمة والحروب القديمة، ومنها أيام العرب وحروبهم قبل الإسلام، وعام الفيل ونحوها مما أشرنا إليه في باب علوم العرب قبل الإسلام، فجاء الإسلام وليس عند العرب من قبيل التاريخ غير أنسابهم وشذرات من تلك الأخبار والخرافات، ولا علم لهم بأحوال الأمم الأخرى إلا ما له علاقة بهم، غير ما كانوا يسمعونه من حوادث التوراة والتلمود من أحبار اليهود أو قسس النصارى، ولا يخرج ذلك كله عن أخبار متقطعة يقتصر الخبر منها على حادثة أو واقعة لا علاقة لها بالحوادث الأخرى.
فالعرب قبل الإسلام كانوا يعدون من أضعف الأمم المتمدنة في التاريخ. فلما ظهر الإسلام اشتغلوا بالفتوح والحروب، حتى إذا استتب لهم الأمر وفرغوا من الفتح تدرجوا في وضع التاريخ مثل تدرجهم في سائر العلوم الإسلامية، وقد عددنا التاريخ من هذه العلوم، لا لأنه خاص بالإسلام بل لأن الإسلام دعا إلى وضعه كما سترى.
قد تقدم في كلامنا عن «حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم» أن العرب كانوا يتنزهون عن الاشتغال بالعلم إلا الأخبار؛ فإنهم كانوا يشتغلون بها ويعنون بحفظها وسماعها وتناقلها، وخصوصا أخبار الفرسان والشجعان والفصحاء والخطباء والشعراء، لما في ذلك من بواعث القدوة واستنهاض الهمم وترويض النفوس.
وكان أكثر الخلفاء دهاء وسياسة أكثرهم رغبة في استماع الأخبار. فمعاوية بن أبي سفيان داهية بني أمية كان يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء إلى ثلث الليل، فيقصون عليه أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها في رعيتها وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكائدها. ثم ينام ثلث الليل ويقوم فيأتيه غلمان مرتبون وعندهم كتب قد وكلوا بحفظها وقراءتها، فيقرأون عليه ما في تلك الكتب من سير الملوك وأخبار الحروب ومكايدها وأنواع السياسات،
122
والغالب في اعتقادنا أن تلك الكتب باليونانية أو اللاتينية، وفيها أخبار أبطال اليونان والرومان كالإسكندر ويوليوس قيصر وهنيبال، وأن الغلمان كانوا يفسرونها له بالعربية؛ لأن العرب لم يدونوا الكتب إلا بعد زمن معاوية.
وسماع أخبار العظماء يستنهض الهمم إلى الاقتداء بهم، ولذلك كان أكبر القواد العظام الراغبين في العلا، من العرب وغير العرب، يستتلون أخبار من سبقهم من مشاهير القواد، وإذا وقع أحدهم في مشكلة سياسية تدبر ما حدث من أمثالها قبله تسهيلا لإبداء حكمه فيها، يقال: إن المنصور لما هم بقتل أبو مسلم الخراساني تردد بين أن يمضي في قتله أو يشاور فيه، لما كان لأبي مسلم من السعي الحميد في قيام الدولة العباسية، فتزيد بلباله حتى أرق، فلما أصبح استدعى إسحاق بن مسلم العقيلي، وقال له: «حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه في حران»، فقص عليه الحديث وخلاصته أن سابور ملك الفرس أنفذ وزيره إلى خراسان يدعو أهلها إلى طاعته، فمضى وسعى في تحبيب الناس به ودعاهم إلى طاعة نفسه، فلما استفحل أمره صمم سابور على قتله عند رجوعه إليه بأعين خراسان، فلما رجعوا بغتهم فلم ينتبهوا إلا ورأس الوزير بين أيديهم، فاضطروا إلى طاعة سابور - فلما سمع المنصور تلك الحكاية بما فيها من المشابهة بحكاية أبي مسلم أطرق مليا ثم رفع رأسه وهو يقول:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
واستقر رأيه على قتل أبي مسلم، وقتله،
123
وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إذا دخل شهر رمضان أحضرت له كتب التواريخ والسير، وجلسوا يقرأون عليه أحوال العالم، فأصبح علم التاريخ من علوم الملوك وأصحاب السيادة، وكان من الأمثال الشائعة في أوائل الإسلام قولهم: «علم الملوك النسب والخبر، وعلم أصحاب الحروب درس كتب الأيام والسير، وعلم التجار الكتابة والحساب».
124
فلما ضعف شأن الخلافة العباسية واستبد الوزراء بأمور الدولة، أصبح همهم منع الخلفاء من مطالعة التاريخ أو السير، خوفا من أن يفطنوا إلى أشياء لا يحب الوزراء أن يفطنوا لها - قيل: إن المكتفي طلب من وزيره كتبا يلهو بها ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النواب بتحصيل ذلك وعرضه عليه قبل حمله إلى الخليفة، فجاءوه ببعض الكتب وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة، من وقائع الملوك وأخبار الوزراء ومعرفة التحيل في استخراج الأموال، فلما رآه الوزير غضب وقال لنوابه: «والله إنكم أشد الناس عداوة لي، أنا قلت لكم حصلوا له كتبا يلهو بها ويشتغل بها عني وعن غيري، فقد حصلتم له ما يعرفه مصارع الوزراء ويوجد له الطريق إلى استخراج الأموال ويعرفه خراب البلاد من عمارتها، ردوها وحصلوا له كتبا فيها حكايات تلهيه وأشعار تطربه»
125
ففعلوا.
مصادر التاريخ الإسلامي
للتاريخ الإسلامي مصادر كثيرة تدرج فيها على مقتضى الأحوال، وإليك تمثيل ذلك:
لما اشتغل المسلمون بجمع القرآن وتفسيره وجمع الأحاديث احتاجوا إلى تحقيق الأماكن والأحوال التي نزلت فيها الآيات أو قيلت فيها الأحاديث فعمدوا إلى جمع السيرة النبوية؛ لأنها شاملة لكل ذلك فتناقلوها مدة ثم دونوها، وأول من دونها على المشهور محمد بن إسحاق المتوفى سنة 151، ألفها للمنصور، على أننا رأينا في كشف الظنون أن محمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة 124ه ألف كتابا في المغازي،
126
وقد توفي قبل ابن إسحاق ببضع وعشرين سنة، ولكن يؤخذ من ترجمتهما في وفيات الأعيان أنهما كانا متعاصرين، ويقال أيضا إن أول من صنف المغازي والسير عروة بن الزبير المتوفى سنة 93ه ووهب بن منبه المتوفى سنة 114،
127
وعلى أي حال فإن هذه السير ضاعت، وأقدم ما وصل إلينا منها سيرة عبد الملك بن هشام المتوفى سنة 213ه في كتابه المعروف بسيرة ابن هشام، وهي منقولة عن ابن إسحاق المذكور وقد طبعت غير مرة.
ولما اشتغل المسلمون في ضرب الخراج على البلاد، اختلفوا في بعضها: هل فتح عنوة أو صلحا أو أمانا أو قوة، وفي شروط الصلح أو الأمان. فاضطروا إلى تدوين أخبار الفتح باعتبار البلاد، فألفوا كتبا في فتح كل بلد على حدة، كفتوح الشام للواقدي المتوفى سنة 207ه وكتابه مشهور لكنه مملوء بالمبالغات بما يشبه الحكايات، وفتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم المتوفى سنة 257ه، وفتوح بيت المقدس ونحوها، ثم جمعوا فتوح البلاد معا في كتاب واحد كفتوح البلدان للبلاذري المتوفى سنة 279ه، وهو أوثق كتب الفتح وأشملها وأقدم ما بين أيدينا منها، إلا الواقدي.
الطبقات والمغازي
وقد رأيت فيما تقدم من كلامنا عن القرآن والحديث والنحو والأدب، أن العلماء اضطروا لتحقيق مسائل هذه العلوم إلى البحث في أسانيدها والتفريق بين ضعيفها ومتينها، فجرهم ذلك إلى النظر في رواة تلك الأسانيد وتراجمهم وسائر أحوالهم، حتى أصبح من شروط الاجتهاد في الفقه معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، والإحاطة بأحوال النقلة والرواة: عدولها وثقاتها ومطعونها ومردودها، والإحاطة بالوقائع الخاصة بها فقسموا رواة كل فن إلى طبقات، فتألف من ذلك تراجم العلماء والأدباء والفقهاء والنحاة وغيرهم، مما يعبرون عنه بالطبقات، ومنها: طبقات الشعراء، وطبقات الأدباء، وطبقات النحاة، وطبقات الفقهاء، وطبقات الفرسان والمحدثين واللغويين والمفسرين والحفاظ والمتكلمين والنسابين والأطباء، حتى الندماء والمغنين وغيرهم، وألفوا في كل باب غير كتاب؛ ولذلك كان المسلمون أكثر أمم الأرض كتبا في التراجم لأفراد الرجال.
وأقدم كتب الطبقات التي وصلت إلينا كتاب طبقات الصحابة لمحمد بن سعد المعروف بكتاب الواقدي المتوفى سنة 230ه وهو كبير ربما دخل في بضعة عشر مجلدا، ويحتوي على تراجم الصحابة والتابعين والخلفاء إلى أيام المؤلف،
128
وكان هذا الكتاب مشتتا في مكتبات العالم، ومنه الجزء الثاني في دار الكتب الخديوية (المصرية) بمصر، وقد علمنا ونحن نخط هذه الحروف أن جمعية ألمانية شرعت في طبعه وأصدرت الجزء الأول منه.
ثم طبقات الشعراء لابن قتيبة المتوفى سنة 276ه، وقد طبع في ليدن في هذا العام بعناية الأستاذ دي خويه المستشرق الهولندي الشهير، ثم ألف الناس طبقات كثيرة في أزمنة مختلفة، ومنها استخرجوا كتب التراجم الكبرى، كوفيات الأعيان، والوافي في الوفيات، وفوات الوفيات، وغيرها مما سيأتي ذكره، غير التراجم الدخيلة في تواريخ البلاد، كتاريخ دمشق لابن عساكر في ثمانين مجلدا، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي في نحو ذلك وفيهما تراجم كثيرة.
وكان طلاب الأدب الراحلون في جمع اللغة والشعر من أفواه أهل البادية يلتقطون أخبار العرب ووقائعهم وحوادثهم ويدونون ذلك في كتب الأدب كما تقدم، ناهيك بالأخبار المستخرجة من تلك الأشعار - قال ابن يونس: «لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس».
129
ولما استبد بنو أميه بالخلافة واعوجوا في أحكامهم عن سبل الخلفاء الراشدين، كثر تحدث الناس بأخبار الراشدين وتذكر أعمالهم المؤسسة على العدل والرفق، وذلك طبيعي في هذه الأحوال، ثم ألف بعضهم كتبا في تاريخ الخلفاء الراشدين، ثم في الخلفاء على الإجمال، وأقدمهم الدينوري المتوفى سنة 281ه، ويقال نحو ذلك في تأليف تراجم الوزراء، وتواريخ عمال الشرطة وتواريخ الأذكياء والبخلاء والعشاق وغيرهم.
التواريخ العامة
فانقضى القرن الثاني للهجرة ونصف الثالث وكتب التاريخ عند المسلمين الطبقات والمغازي والسير والفتوح على ما تقدم، أما التواريخ العامة مثل تواريخ الأمم أو البلاد قديما أو حديثا فلم يشتغلوا بها إلا بعد ذلك، وأقدم من كتب في التاريخ العام ابن واضح المعروف باليعقوبي، وكتابه مطبوع في جزأين: جزء في التاريخ القديم كاليهود والهنود واليونان والروم والفرس وغيرهم، والثاني في تاريخ الإسلام من ظهوره إلى أيام المعتمد العباسي الذي تولى الخلافة سنة 256ه، ويليه ابن جرير الطبري المفسر الشهير المتوفى سنة 310ه، وتاريخه كبير مرتب على السنين ينتهي إلى حوادث سنة 302ه، وقد ألف الفرغاني عليه ذيلا ينتهي إلى سنة 312ه، وكلاهما مطبوع، ثم المسعودي المتوفى سنة 346ه صاحب «مروج الذهب» وفيه وصف البلاد والبحار والحيوانات وغيرها، فضلا عن التاريخ، وهو مبوب حسب الدول أو الأمم ومطبوع. وللمسعودي كتاب سماه «أخبار الزمان» قد ضاع ولم يقف له أحد على أثر، ولكن يظهر مما ذكر عنه في مروج الذهب أنه مطول جدا، يليه حمزة الأصفهاني صاحب «تاريخ سني ملوك الأرض» فرغ من تأليفه سنة 350ه.
وظل الناس على هذه التواريخ وقليل غيرها إلى القرن السابع للهجرة، إذ انقضت الدول الإسلامية العربية: العباسية في العراق، والفاطمية في مصر، والأموية في الأندلس. وقامت دول الأتراك والأكراد والبربر، فانتقل الناس إلى عصر جديد، فعمدوا إلى تدوين تاريخ العصر المنقضي، فاستعانوا بالكتب التي تقدم ذكرها فاختصروا مطولها وبوبوا مشوشها وجمعوا بين موضوعاتها وأضافوا ما لم يدركه أصحابها، وألفوا عدة تواريخ مطولة، أشهرها وأوعاها وأضبطها كتاب «الكامل» لابن الأثير المتوفى سنة 630ه فقد ضمنه تاريخ الطبري كله بعد حذف الأسانيد واختصار النصوص المطولة، وزاد عليه ما حدث بعده وما حدث في زمن الطبري في الأندلس وغيرها ، ورتب ابن الأثير كتابه على السنين، مثل كتاب الطبري، فجاء 12 مجلدا كبيرا، وهو مطبوع، وجاء بعده أبو الفداء صاحب حماة، المتوفى سنة 732ه، فأخذ الكامل فلخصه وأدخل فيه كثيرا من أخبار الأدباء والعلماء، وتوسع في أخبار العرب الجاهلية وأبقاه على حوادث السنين، فجاء في ثلاثة مجلدات، وهو مطبوع ومنشور، وجاء بعده عمر بن الوردي المتوفى سنة 749ه فاختصر تاريخ أبي الفداء.
ثم نبغ العلامة ابن خلدون المتوفى سنة 808ه والعرب قد ذهبت دولهم تمام الذهاب واتضحت عبرة التاريخ، وكان ابن خلدون عالما دقيق النظر صحيح القياس، فألف تاريخه المشهور ورتبه على الدول بدل السنين، وأفاض خصوصا في أخبار المغرب والأندلس مما لم يسبقه إليه أحد. ويمتاز هذا التاريخ عما سبقه بمقدمة فلسفية لم ينسج أحد على مثالها قبلها، حتى علماء اليونان والرومان وغيرهم من الأمم القديمة، وفي شهرتها ما يغني عن وصفها.
ونهج بعض المؤرخين في تآليفهم منهجا آخر، فجعلوا مؤلفاتهم بأسماء المدن فضمنوا كتبهم وصف تلك المدن وتراجم الذين عاشوا فيها، وأطول المؤلفات من هذا الصنف تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463ه وتاريخ دمشق لابن عساكر المتوفى سنة 571ه في ثمانين مجلدا وقد تقدم ذكرهما، وكلاهما لم يطبعا، والثاني أكثر وجودا من الأول، ومن هذا القبيل خطط مصر للكندي ثم للقضاعي ثم للمقريزي وهذه الأخيرة مشهورة ومثلها أخبار مصر القاهرة لأبي المحاسن والسيوطي.
التراجم والمعجمات
وأما التراجم فكانت في القرون الأولى تدون في الطبقات، باعتبار المهن أو العلم الذي يجمع كل طبقة كما تقدم. فلما نضج العلم وأخذ العلماء في الترتيب والتبويب، نبغ جماعة من المؤرخين استخرجوا من الطبقات وغيرها كتب التراجم ورتبوها على حروف المعجم وأشهر تلك الكتب «وفيات الأعيان» لابن خلكان المتوفى سنة 681ه، ثم «فوات الوفيات» لصلاح الدين بن شاكر الكتبي المتوفى سنة 764ه، استدرك فيه ما فات ابن خلكان ذكره، وكلاهما مطبوعان ومشهوران، وكتاب «الوافي في الوفيات» لصلاح الدين الصفدي سنة 764ه، وهو كبير لكنه لم يوجد مجموعا في مكتبة واحدة ولا جمعوه بعد، فهو لم يطبع ومنه أجزاء متفرقة في مكتبات أوربا. ومثله كتاب «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي المتوفى سنة 654 في 40 مجلدا، وهو مشتت. وفي تراجم أهل الأندلس كتب كثيرة منها كتاب «الصلة» لابن بشكوال المتوفى سنة 578 وكتاب «المعجم» لابن الأبار وغيرهما.
ومن هذه المعجمات التاريخية ما هو خاص بفئة من الناس أو طبقة من طبقاتهم ككتاب «أسد الغابة» في أخبار الصحابة لابن الأثير صاحب الكامل، وهو في خمسة أجزاء كبيرة وخاص بالصحابة، وهو مطبوع ومنشور. و«تراجم الحكماء» لابن القفطي غير مطبوع.
على أن كثيرا من التراجم والأخبار التاريخية منتشر في كتب الأدب، ككتاب الأغاني، والعقد الفريد، والكشكول، والمستطرف، والبيان والتبيين، وقد تجد فصولا تاريخية مهمة في كتب العلم الطبيعي، ككتاب حياة الحيوان للدميري فإن فيه فصولا تاريخية قلما نعثر عليها في كتب التاريخ.
ويمتاز التاريخ عند العرب على سواه عند سائر الأمم التي تحضرت قبلهم بكثرة ما كتبوه من التراجم، وأكثره بشكل القواميس وهم السابقون في ذلك وعنهم أخذ أهل العالم تأليف المعجمات التاريخية، فعندهم من قواميس التراجم بضعة صالحة، هي كنوز في التاريخ والجغرافية والأدب والعلم. فوفيات الأعيان معجم يزيد عدد الترجمات فيه على 820 ترجمة مرتبة على أحرف الهجاء، غير ما جاء عرضا في أثناء الكلام على الآخرين. ومن مزاياه أنه يضبط الأعلام من أسماء الرجال والأماكن، ويذكر سني الوفاة والولادة، ويضمن التراجم كثيرا من الفوائد الأدبية والعلمية مما يندر في سواه، ويقال نحو ذلك في قواميس التراجم الأخرى، كفوات الوفيات وفيه أكثر من 450 ترجمة لم يذكرها ابن خلكان، وكتاب الوافي في الوفيات، وأسد الغابة في أخبار الصحابة، وكتاب تراجم الحكماء، غير كتب التراجم المرتبة على غير الهجاء، ككتب الطبقات للشعراء والفقهاء والأطباء، ومن أحسنها كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668ه، فإنه جامع تاريخ الطب والأطباء والعلم والعلماء والفلسفة والفلاسفة عند اليونان والفرس والهنود والكلدان، فضلا عن العرب والمسلمين، وهو مرتب بحسب العصور والبلاد، ناهيك بما يتخلل ذكر مؤلفاتهم ووصفها من العادات والآداب الاجتماعية وغيرها، وهو مطبوع ومشهور.
عدد كتب التاريخ
فالمسلمون ألفوا في التاريخ كتبا لا تحصى، وما من أمة قبل العصر الحديث بلغت في هذا العلم ما بلغ إليه المسلمون، فإن كتب التاريخ الواردة أسماؤها في كشف الظنون فقط تزيد على 1300 كتاب، غير الشروح والاختصارات وغير ما ضاع من تلك الكتب وأهمل ذكره وهو كثير جدا. يدلك على ذلك ما تراه في مقدمات بعض كتب التاريخ أو الجغرافية، إذ يذكر المؤلف كتبا عديدة نقل عنها أو اعتمد عليها في تأليف كتابه، فإذا بحثت عنها رأيت أكثرها ضاع ولم يرد ذكره في كتب الفهارس ككشف الظنون أو غيره. فالمسعودي ذكر في مقدمة كتابه «مروج الذهب» عشرات من الكتب التي كانت شائعة في أيامه، وقد نقل عنها ولم يذكر منها صاحب كشف الظنون إلا القليل، فلو بقيت الكتب التي ألفها العرب في التاريخ كلها لزادت على بضعة آلاف، وفيها كتب كبيرة يدخل الواحد منها في أربعين مجلدا أو خمسين أو ثمانين، ومنها في عشرة أو خمسة أو أقل أو أكثر.
ومن كتب التاريخ العام ما هو مرتب أحسن ترتيب باعتبار السنين، كالطبري وابن الأثير وأبي الفداء، أو باعتبار الأمم أو الدول كالمسعودي والفخري وابن خلدون، أو بحسب المدن أو الملوك مما لا يحصى، وأكثرها حسن العبارة بليغها مع إسهاب ربما زاد في بعض الأحوال حتى يخرج عن موضوع الكتاب. ويغلب الصدق في روايات كتاب المسلمين، لما تعودوه من الإسناد في تناقل الأخبار، إلا ما دخل تواريخهم في العصر الأول لأغراض بعض ذوي المطامع أو الأهواء والعرب لا يزالون على سذاجتهم.
عيوب المؤرخين المسلمين
وإنما يعاب المؤرخون المسلمون لاقتصارهم في التواريخ على إيراد الحوادث على عواهنها كما بلغت إليهم، وقد يسندونها إلى راو أو عدة رواة بلا انتقاد ولا تمحيص ولا قياس اكتفاء بالإسناد. وقد فاتهم أن بعض الأخبار المسندة موضوع في الصدر الأول أو ما بعده لأغراض سياسية، كما وضع كثير من الأحاديث لأسباب تقدم بيانها.
ومما ينتقد عليهم أيضا أنهم يصرفون عنايتهم في التواريخ إلى تدوين أخبار الحرب والفتح والعزل والولاية والولادة والوفاة، وقلما يذكرون تاريخ الآداب أو العلوم، أو أحوال الدولة من الحضارة وأسبابها، وتعليل الحوادث وما نجم عنها، وقياس بعضها على بعض إلا ما يجيء عرضا. فيندر أن ترى لمؤرخ منهم رأيا في حادثة، أو انتقادا على خليفة أو أمير، أو ملاحظة على نكتة، حتى في الأحوال التي يعلم أنه لا يسيء فيها إلى الخليفة، بل قد يكون في انتقاده ما يسر ذلك الخليفة، كما كانت حال مؤرخي الدولة العباسية في شؤون الدولة الأموية، فإن شدة العباسيين على الأمويين مشهورة، ومع ذلك فإن المؤرخين الذين كتبوا في عهد الدولة العباسية قلما ذكروا شيئا من مساوئ بني أمية، إلا ما قد يجيء عرضا. ولعل السبب في ذلك السكوت أن حوادث التاريخ الإسلامي أكثرها متصل بأسباب دينية أو شرعية بين فرقة وأخرى أو مذهب وآخر. فإذا انتشبت حرب بين خليفتين أو أميرين مسلمين، لا يخلو أن يكون أحدهما ظالما والآخر مظلوما، فالمؤرخ المسلم يتحاشى الطعن في أحدهما احتراما لمقام الدين، فينقل الخبر على علاته ويترك الحكم فيه للقارئ، وهذا هو السبب فيما نقاسيه من العناء في استخراج حقائق التمدن الإسلامي من كتب التاريخ.
وقد يكون من أسباب سكوتهم عن مساوئ بعض الأمراء التزلف إليهم أو الاستجداء بمدحهم، وكثيرا ما كان الخلفاء والأمراء أو السلاطين يقترحون على المؤرخين تأليف الكتب ويجيزونهم على تأليفها، فكان المؤرخون يراعون بها جانب المقترح ولو خالفوا الحقيقة وهم يعلمون. ومن ألطف الشواهد على ذلك ما قاله أبو إسحاق الصابي الكاتب الشهير، وقد كلفه عضد الدولة ابن بويه أن يؤلف له كتابا في أخبار الدولة الديلمية، فألف له تاريخا سماه «التاجي» فاتفق وهو يؤلفه أن دخل عليه صديق له فسأله عما يعمله فقال: «أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها ...»
130
وقد يكون السبب عداوة بين المؤلف والمترجم فيبخسه حقه عمدا، كما فعل الفتح بن خاقان في ترجمة ابن باجة الفيلسوف الأندلسي الشهير.
131
ويندر أن ترى من بعض المؤرخين تصريحا بمساوئ أحد الخلفاء أو الأمراء أو غيرهم من أولي الأمر. وأكثر ما عثرنا عليه من أمثال ذلك في كتاب الفخري والآداب السلطانية لابن طباطبا، وتاريخ ابن خلدون. أما ابن طباطبا فقد صرح بذلك انتصارا لآل علي، كقوله على أثر حكاية وقعت للرشيد مع أبي نواس إذ أورد قول أبي نواس في الرشيد:
قد كنت خفتك ثم أمنني
من أن أخافك خوفك الله
ثم قال: «ولم يكن الرشيد يخاف الله وأفعاله بأعيان آل علي (عم) أولاد بنت نبيه بغير جرم ... إلخ»، وهذا تصريح لم نر له شبيها في كتب مؤرخي المسلمين إلا ما قد يقوله الشيعة في أعمال أهل السنة أو بالعكس. وأما ابن خلدون فقد انتقد أعمال بعض الدول أو الخلفاء مدفوعا بالقياس الصحيح والحكم الفلسفي.
ومما يؤاخذ به مؤرخو المسلمين أيضا - بالنظر إلى آداب هذه الأيام - أنهم إذا عرض لهم في بعض الأخبار ألفاظ بذيئة، أو واقعة يخجل سماعها الأديب فإنهم يذكرونها بألفاظها، كما يذكرون سائر الحوادث، ويدخل في ذلك كثير من الأشعار السفيهة، وهم يسمون ذلك أحماضا. وقد يتبادر إلى الذهن أنه من مقتضيات تلك العصور، أو أنه لم يكن منكرا عندهم. والحقيقة أن أهل الأدب الصحيح من أولئك المؤرخين كانوا يتحاشون الوقوع في ذلك، وفي جملتهم ابن خلكان فإنه من أبعدهم عن الفحش في القول، ومن الأدلة على أدبه أنه لما ترجم لحسين بن محمد المنعوت بالبارع، وهو من الشعراء المشهورين، ساقه الحديث إلى قصيدة نظمها أحدهم للبارع المذكور وقصيدة أجابه البارع بها، فذكر ابن خلكان البيت الأول من القصيدة ثم قال: «لولا ما أودعها من السخف والفحش لذكرتها». (ب) الجغرافية أو تقويم البلدان
لفظ الجغرافية وحده كاف للدلالة على أن هذا الفن ليس من موضوعات العرب، ولكننا ذكرناه هنا لارتباطه بالتاريخ، ولأن العرب كتبوا في وصف الطرق والبلاد والمدن قبل نقل الجغرافية إلى العربية لأسباب خاصة بالإسلام.
لم يقدم البشر على وضع علم أو فن إلا لأسباب حملتهم على ذلك؛ لأنهم يساقون في شؤونهم وأعمالهم بالحاجة، ولذلك قالوا: الحاجة أم الاختراع. واضطرارهم إلى الجغرافية لم يأت دفعة واحدة، بل جاء بالتدريج فنما واتسع عملا بناموس الارتقاء، وأهم الأسباب التي دعت إلى نشوء هذا العلم احتياج الناس قديما إلى معرفة الطرق والبلاد والأبعاد بينها، إما للتجارة أو للفتح، فجمعوا معلومات التجار والفاتحين بتوالي الأزمان، وجعلوا يتداولونها ويتدارسونها للعمل بها، حتى أتيح لها من رتب أبوابها وضبط أجزاءها وجعلها علما.
وأول من وضع أساس هذا العلم الفينيقيون؛ لأنهم أقدم تجار العالم وأكثرهم أسفارا، فقد رادوا شواطئ البحر الأبيض واستعمروا بعضها منذ بضعة وثلاثين قرنا. وكانت مدينة صور مركز العالم التجاري في تلك الأيام، تجتمع حاصلات الأمم ومصنوعاتهم فيها وتتفرق منها حتى الهند، فقد كانوا يحملون منها العاج والطيب والقردة وغيرها. وأسماء هذه السلع الباقية في الفينيقية والعبرانية تدل على أصلها الهندي. فاطلع الفينيقيون في أثناء أسفارهم على أحوال كثير من البلاد وعرفوا المسافات بينها وأخبار أهلها ...
ولما حمل الإسكندر بجيوشه على العالم واخترق آسيا إلى بلاد الهند برا وبحرا، اطلع رجاله على أحوال أواسط آسيا وأعاليها فاشتغلوا في جمع الأخبار والأوصاف لغرابتها. وفعل البطالسة نحو ذلك بشواطئ البحر الأحمر إلى الحبشة، ثم الرومان وغيرهم.
فكانت تلك المعلومات تتجمع بتوالي الأجيال والناس يتناقلونها متقطعة متفرقة، ثم توجهت الأذهان إلى جمعها وترتيبها. وأول من فعل ذلك إراتستين
Eratostenes
اليوناني المتوفى سنة 196ق.م على عهد البطالسة، فألف كتابا دون فيه كل ما عرفه الفينيقيون أو رواه قواد الإسكندر وغيرهم . وجاء بعده غيره وغيره كالرحالة إسترابون الجغرافي بلينيوس، إلى زمن بطليموس القلوذي في أواسط القرن الثاني للميلاد، فألف كتابا وافيا في الجغرافية عين فيه الأماكن بالحسابات الفلكية، ورسم الخرائط على الحسابات الرياضية وضبط الأقسام الجغرافية وحقق أماكنها على ما بلغ إليه العلم في عصره، وذكر فيه أن عدد المدن في أيامه كان 4350 وسماها مدينة مدينة، وعدد الجبال 200 جبل ذكر ما في بطونها من المعادن، وذكر ما على الأرض من الخلائق وغير ذلك. فجاء الإسلام وكتاب بطليموس هو المعول عليه في تقويم البلدان. فلما أخذ العرب في ترجمة العلم في العصر العباسي كان هذا الكتاب في جملة ما نقلوه إلى لسانهم وسموه جغرافية، وترجموا كتابه الآخر في الفلك وسموه المجسطي، وعلى هذين الكتابين بنوا أكثر ما كتبوه في علم الجغرافية.
الجغرافية عند المسلمين
ولكن المسلمين بدأوا بوضع الجغرافية قبل اطلاعهم على كتاب بطليموس؛ لثلاثة أسباب غير السببين اللذين دعوا اليونان أو غيرهم إلى وضعها؛ لأن العرب من أكثر الأمم فتحا وغزوا، وقد تفرقوا بعد الإسلام في أربعة أقطار المسكونة. وهم - وخصوصا أهل الحجاز - كانوا تجارا من زمن الجاهلية ثم اتسعت تجارتهم في الإسلام باتساع مملكتهم. أما الأسباب الثلاثة التي يمتاز بها العرب على سواهم:
فأولها الحج؛ لأن المسلمين على اختلاف بلادهم وأقاليمهم يحجون إلى مكة، والحج فريضة على المسلم ولو كان في الهند أو الصين أو غيرهما، والقدوم إلى مكة يستلزم معرفة الطرق والمنازل.
وثانيها الرحلة في طلب العلم، فقد رأيت فيما تقدم أن المسلمين كانوا يرحلون في طلب العلم إلى سائر الأمصار الإسلامية، والرحلة تستلزم معرفة الأماكن والمناطق. ولذلك كان أول ما ألفه العرب في الجغرافية من عند أنفسهم ذكر الأماكن العربية والمنازل البدوية. وأول من ألف في ذلك رواة الأدب والشعر، كالأصمعي والسكوني، ثم ألفوا في بلاد العرب كلها كما فعل الهمذاني في جزيرة العرب وأبو الأشعب الكندي في جبال تهامة
132
وغيره.
والسبب الثالث أن العرب فتحوا العالم واختلفوا في طرق الفتح باختلاف البلاد بين أن تكون قد فتحت صلحا أو عنوة أو أمانا أو قوة، ولكل من ذلك حكم في قسمة الفيء وأخذ الجزية وتناول الخراج واجتناء المقاطعات والمصالحات وإنالة التسويفات والإقطاعات لا يسع الفقهاء جهلها فضلا عن الأمراء. فأصبح علم ذلك عندهم من قبيل الدين، ولا يتوصل إليه إلا بالتاريخ والجغرافية.
ولما ترجمت الجغرافية إلى العربية واطلع العرب عليها أخذوا في تأليف الكتب على مثالها، وتوسعوا في ذلك وزادوا عليه ما عرفوه من قبل. ولم يكتفوا بالنقل والسماع، ولكنهم ركبوا البحار وجابوا الأقطار شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وكتبوا ما شاهدوه أو تحققوه وصححوا كثيرا من أخطاء بطليموس. والظاهر أن علم الجغرافية عند العرب لم ينضج إلا في القرن الرابع للهجرة، فتهافت الناس على التأليف فيه مثل تهافتهم على تأليف التاريخ العام في ذلك القرن.
وأول من دون الجغرافية منهم على نحو ما عند اليونان الشيخ أبو زيد البلخي، ألف في أول القرن الربع كتابا في الجغرافية سماه «صور الأقاليم» ذكر فيه أمثلة منها بعد أن قسمها إلى عشرين جزءا، ثم شرح كل مثال ولكنه اختصره وترك كثيرا من أمهات المدن. وكان من معاصريه رجل من علماء الفرس اسمه أبو إسحاق الفارسي الإصطخري المعروف بالكرخي، وكان محبا للأسفار فسافر وحقق بنفسه كثيرا من البلاد والبحار والمدن وعول فيما بقي على كتاب البلخي، وألف كتابا سماه «مسالك الممالك» وهو مطبوع ومنشور. وأما كتاب البلخي فقد ضاع.
وجرى الإصطخري في كتابه على تقسيم البلخي، فجعل بلاد المسلمين عشرين قسما بدأ بديار العرب وانتهى إلى ما وراء النهر (تركستان) ووصف كل قسم على حدة، وذكر البلاد وحرفها وتجارتها وغير ذلك.
ونبغ نحو ذلك الزمن ابن حوقل، فألف كتاب «المسالك والممالك» وقد سار بنفسه أيضا لمشاهدة البلاد. قال في مقدمة كتابه: «فبدأت سفري هذا من مدينة السلام يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان سنة 331ه» فلما أتم رحلته كتب الكتاب المذكور ووضحه بالخرائط الكثيرة، لكل إقليم من أقاليم الإسلام خريطة أو غير خريطة، ورسم المدن والأنهار والجبال والبحار والجزر وغيرها، وتقسيمه كتقسيم الإصطخري، والعبارة تكاد تكون واحدة في كثير من الأماكن.
ثم ألف ابن الفقيه الهمذاني والمقدسي والمسعودي وغيرهم، وقد رحل المسعودي رحلات عديدة بلغ بها إلى أقاصي الهند وذكر ما شاهده وخبره في كتبه الجغرافية والتاريخية. وجميع هؤلاء من أهل القرن الرابع للهجرة وكتبهم مطبوعة الآن إلا الخرائط فقد ضاعت ولم يبق غير ذكرها أو الإشارة إليها.
وظل الناس على هذه الكتب وقليل غيرها، حتى نهض المسلمون لتأليف التاريخ وترتيبه وجمعه على ما بيناه في مكانه، فنهض جماعة ألفوا في الجغرافية كما ألفوا في التاريخ، فوضعوا المعجمات الجغرافية على أحرف الهجاء، وأشهر من فعل ذلك ياقوت الحموي المتوفى سنة 626ه فقد ألف كتابا ضخما سماه «معجم البلدان» أتى فيه على وصف البلدان والجبال والأودية والقيعان والقرى والمحال والأوطان والبحار والأنهار والأصنام والأبداد والأوثان، وضمن ذلك كثيرا من تراجم الناس في أثناء ذكره للبلاد التي ولدوا فيها أو نسبوا إليها. فهو قاموس جغرافي تاريخي أدبي. ولأبي الفداء صاحب حماة أيضا كتاب في تقويم البلدان ولغيره غيرها، فضلا عن الرحلات الكثيرة التي خدم العرب بها الجغرافية، فنكتفي بالإشارة إليها ونترك التفصيل لتاريخ آداب اللغة العربية. (3) الآداب العربية الجاهلية (3-1) الخطابة بعد الإسلام
الخطابة والشعر من الفنون الجاهلية التي زادها الإسلام رونقا وبلاغة وارتقاء، ولكن الخطابة سبقت الشعر في الارتقاء، لحاجة المسلمين إليها في الفتوحات والغزوات، والعرب يومئذ لا يزالون على بداوتهم، تتأثر نفوسهم بالتصورات الشعرية سواء سبكت في قالب الخطابة أو الشعر. والخطابة أقرب تناولا، ولم يرد في القرآن ما ينفر الناس منها كما ورد في الشعر والشعراء. فكما كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد مآثرهم ويفخم شأنهم ويهول على عدوهم ويهيب بفرسانهم، أصبح الخطيب في الإسلام مقدما على الشاعر لفرط حاجتهم إلى الخطابة
133
في استنهاض الهمم وجمع الأحزاب وإرهاب الأعداء.
والفرق بين الخطابة في الجاهلية وفي الإسلام، أن الإسلام زادها بلاغة وحكمة بما كان يتوخاه من مجاراة أسلوب القرآن واقتباس الآيات القرآنية، وقد كان للقرآن نحو هذا التأثير في الشعر أيضا، ولكن الخطابة أوسع مجالا للاقتباس. فأخذ الخطباء يرصعون خطبهم بالآيات تمثيلا أو إشارة أو تهديدا، حتى لقد يجعلون الخطبة برمتها مجموع آيات، كما فعل مصعب بن الزبير لما قدم العراق وأراد أن يحرض أهله على الطاعة لأخيه عبد الله، فصعد المنبر وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم. طسم، تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (وأشار بيده نحو الشام) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (وأشار بيده نحو الحجاز) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (وأشار بيده نحو العراق)».
134
وزادت الخطابة بعد الإسلام قوة ووقعا في النفوس، بنهضة العرب للحروب وانتصارهم في أكثر مواقعها، فازدادوا أنفة وسمت نفوسهم فسما بها ذوقهم في البلاغة، وشحذت قرائحهم بما شاهدوه من البلاد الجديدة والأمم الجديدة والألسنة الجديدة، فبلغت الخطابة عندهم مبلغا قلما سبقهم فيه أحد من الأمم التي تقدمتهم بلاغة وإيقاعا وتأثيرا حتى اليونان والرومان، لا ننكر ما كان من تفوق هاتين الأمتين في الخطابة، وما نبغ بين رجالهما من الخطباء الذين لا يشق لهم غبار كديموستنيس وأشينس وهيبريدس من خطباء اليونان، وشيشرون ويوليوس قيصر وسالوستس ولوكيرتس من خطباء الرومان، ولكن العرب لم يأتوا بأقل مما أتى به أولئك بلاغة ووقعا. وربما كان الخطباء في الإسلام أكثر عددا وخطبهم أوفر وأبلغ، مع اعتبار الفرق بين الأمتين لغة وخلقا وأدبا.
فقد ذكروا لديموستنيس أخطب خطباء اليونان 61 خطبة نصفها منسوب إليه خطأ، وهذه خطب الإمام علي تعد بالمئات. وأما في كثرة الخطباء فالعرب كانوا في صدر الإسلام من أكثر الأمم خطباء؛ لأن خلفاءهم وأمراءهم وقوادهم كان معظمهم من الخطباء حتى النساك والزهاد
135
ولا غرابة في ذلك؛ لأن العرب أهل خيال وذوو نفوس حساسة، وللبلاغة تأثير شديد في عواطفهم تقعدهم وتقيمهم. وقد كان ذلك من جملة ما ساعد على نشر الإسلام بينهم. وكثيرا ما توقف فتح البلد أو الحصن على خطاب يتلوه القائد على رجاله، فتثور فيهم النخوة وتسري في عروقهم الحماسة فيستهلكون في الدفاع أو الهجوم. وفي أخبار الفتوح أدلة كثيرة لا يساعد المقام على إيرادها. ونعرف قوادا إنما ساعدهم على النصر قوة عارضتهم وتأثير خطبهم في نفوس رجالهم. •••
فالحجاج بن يوسف كان خطيبا بليغا زادته الخطابة عظمة وسطوة. كان العراق متمردا على عبد الملك، فلما أعجزه أمره ولى عليه الحجاج، فدخل الحجاج الكوفة وصعد المنبر متلثما متنكبا قوسه واضعا إبهامه على فمه، فاحتقره الناس وكادوا يرمونه بالحصي كما كانوا يفعلون في الولاة قبله، فوقف وأزاح لثامه عن وجهه وألقى خطبته التي قال في مطلعها:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
إلى أن قال: «أما والله لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. أما والله إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وكأني أرى الدماء بين العمائم واللحى:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم «ألا وإن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أصلبها عودا فوجهني إليكم ... فإنكم أهل بغي وخلاف وشقاق ونفاق، طالما سعيتم في الضلالة وسننتم سنن البغي ... أما والله لألحونكم لحو العصا، ولأعضبنكم عضب السلمة، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ... والله ما أخلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت ... إلخ».
136
فما فرغ من خطبته حتى هابوه وأذعنوا له، وكان شديدا عليهم. وأمره مشهور. ومع ذلك فقد كان إذا رقي المنبر وذكر إحسانه إلى أهل العراق وصفحه عنهم وإساءتهم إليه، يخيل للسامع أنه صادق وأن أهل العراق ظالموه
137 ... ولذلك كان الأمراء والخلفاء يخافون الخطباء كما يخافون الشعراء، لما في أقوالهم من التأثير في تلك النفوس الحساسة.
وإذا رجعت إلى حوادث الفتح أو جمع الأحزاب أو إخماد الثورات رأيت عجبا، وأول ثورة كادت تهب في الإسلام لما بلغ أهل المدينة موت النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهاجوا حتى خاف الصحابة سوء العاقبة، فقام أبو بكر خطيبا فقال: «أيها الناس، إن يكن محمد قد مات فإن الله حي لم يمت
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
وقد علمتم أني أكثركم قتبا في بر، وجارية في بحر، فأقروا أميركم وأنا ضامن إن لم يتم الأمر أن أردها عليكم»،
138
فهذه الكلمات القليلة كانت كافية لإخماد تلك الثورة. •••
وقس على ذلك خطبته في السقيفة، وخطب من تولى بعده من الخلفاء الراشدين، وأخطبهم بلا خلاف علي بن أبي طالب، وفي كتاب «نهج البلاغة» المنشور بين ظهرانينا أكبر شاهد على ذلك، وإن لم تصح نسبة كل تلك الخطب إليه، فأكثرها من أقواله، وفيها أمثلة من كل ضروب الخطب، ومنها الدينية والأدبية والعلمية والحماسية والفخرية.
وكان أكثر الخلفاء يخطبون، ولكنهم يتفاوتون في البلاغة وقوة العارضة، على أن تلك القوة أخذت تضعف فيهم، بعد الفراغ من الفتوح والانغماس في أسباب الترف والسكون إلى الرخاء والبذخ، وتحولت من الحماسة إلى المواعظ ثم إلى الشكاية. وتداعى فن الخطابة بتداعي دولة العرب في الشرق، فلما قامت دولتهم في الأندلس بعثوه وقربوا الخطباء كما قربوا الشعراء، لكنهم قلما كانوا يستخدمونهم لإنهاض الهمم أو إخماد الفتن، لذهاب الحاجة إلى ذلك بذهاب البداوة والفراغ من الفتح. على أنهم كانوا إذا احتفلوا بتنصيب خليفة أو بالنصر على عدو أو باستقبال قادم كبير، تقدمت الخطباء للترحيب به وإعظام شأنه أو شأن مقعده ووصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة.
139
وأما الأمراء والقواد فكانوا يخطبون في الجند قبل الإغارة على العدو فيحرضونهم على الثبات. وكثيرا ما كانت الخطبة سببا للنصر، كخطبة خالد بن الوليد في وقعة اليرموك، وخطبة المغيرة في وقعة القادسية، وخطبة خليد بن المنذر في غزوة فارس، وخطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس، ونحو ذلك مما لا تسعه المجلدات.
ناهيك بشيوع الخطابة في القبائل على اختلاف أصقاعها كما كانت في الجاهلية. وكانت ترد الوفود إلى المدينة أو دمشق أو بغداد أو غيرها من عواصم المسلمين لتهنئة الخليفة أو استنفاره أو استنجاده أو استجدائه. وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم، لشيوع حب الخطابة فيهم،
140
ولاقتباس أساليب البلاغة منهم.
ويعد من قبيل الخطابة عند العرب البلاغة في المكاتبات، فقد كان الخلفاء - وخصوصا في صدر الإسلام - إذا كاتبوا أميرا في أمر تعمدوا البلاغة كأنهم واقفون على منبر الخطابة، والغالب في قوى العارضة في الخطابة أن يكون بليغا في الكتابة. وقد مر الكلام على ذلك. (3-2) الشعر بعد الإسلام (أ) الشعر وبنو أمية
لما ظهر الإسلام ودهش العرب بأساليب القرآن وبالنبوة والوحي، واشتغلوا بالغزو والفتح ونشر الإسلام، انصرفت قرائحهم الشعرية إلى الخطابة لحاجتهم إليها في استنهاض الهمم وتحريك الخواطر للجهاد واستحثاث القلوب على العبادة. فانقضى عصر الراشدين والعرب في شاغل عن الشعر، حتى إذا طمع بنو أمية في الخلافة مع كثرة المطالبين بها من أهل البيت واحتاجوا إلى من يؤيدهم، استنفروا الناس لنصرتهم وابتاعوا الأحزاب بالأموال واستخدموهم بالدهاء، فكان الشعر في جملة ما تساعدوا به على ذلك لما قدمناه من تأثير في النفوس. وكان خلفاؤهم يبالغون في إكرام الشعراء، إما ليرغبوا الناس في خلافتهم أو ليقطعوا ألسنتهم فيسكتوا عن هجوهم، ولذلك عبروا عن إجازة الشاعر بقطع لسانه.
فكان الخلفاء من بني أمية يرغبون الناس في الشعر ويجيزونهم بأعظم الجوائز، على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم في أقوالهم، وكانوا يطالبون أولادهم بحفظ الأشعار والآثار. على أن تحريض الناس على تعليم أولادهم الشعر بدأ في أيام عمر كما تقدم، أما بنو أمية فقد بذلوا المال والسعي في هذا السبيل. قال معاوية مؤسس دولتهم: «اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم»،
141
وكان يبالغ في إكرام الشعراء ولو هجوه، واقتدى به خلفاؤه وأمراؤه، حتى الحجاج فإنه كان يهتم بذلك ويسأل أدباء زمانه عن أشعر الشعراء ويبحث عن تفاضلهم، وإذا امتنع عليه ذلك مشافهة كاتبذلك مشافهة كاتب به أهل العلم، كما كاتب قتيبة بن مسلم.
142
وكانوا إذا أمسك الشعراء عن أبوابهم استوفدوهم واستزاروهم وغمروهم بالأموال والإكرام. ومن أكثرهم رغبة في الشعر عبد الملك بن مروان، فكان الناس في أيامه حيثما اجتمعوا يتناشدون ويتدارسون أخبار الشعراء.
143 •••
وقد يتبادر إلى الأذهان أنهم كانوا يفعلون ذلك رغبة في الأدب وتنشيطا لأهله؛ لأن الشعر سجية في العرب ودولة الأمويين عربية بحتة فلا يبعد أن يكون لذلك يد في الأمر، ولكن الأغلب أنهم كانوا يفعلونه للاستعانة بألسنة الشعراء على مقاومة أهل البيت، لعلمهم أن الجمهور يعتقد أن الحق في الخلافة لهؤلاء. وكثيرا ما كان الشعراء المغمورون بنعم بني أمية لا يتمالكون عن التصريح بذلك في بعض الأحوال.
فالفرزدق مثلا امتدح بني أمية ونال جوائزهم، وكان متشيعا في الباطن لبني هاشم، والأمويون يعلمون ذلك ويسترضونه. ومن جملة أخباره أن مروان بن الحكم، وكان عاملا لمعاوية على المدينة، بلغه عن الفرزدق قول أوجب حده فطلبه ففر الفرزدق إلى البصرة، فقال الناس لمروان: «أخطأت فيما فعلت، فإنك عرضت عرضك لشاعر مضر» فوجه وراءه رسولا ومعه مائة دينار وراحلة خوفا من هجائه. ومع ذلك اتفق أن الخليفة هشام بن عبد الملك ذهب إلى الحج، وبينما هو في الطواف شاهد علي بن الحسين وأنكره، فسأل عنه. وكان الفرزدق حاضرا، فنظم قصيدته المشهورة في مدح أهل البيت ومطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
ومما يدل على أن بني أمية كانوا يقربون الشعراء لغرض عائد إلى تأييد سلطانهم، أن عمر بن عبد العزيز أتقاهم وأعدلهم لما أراد أن يتمثل بالخلفاء الراشدين في التقوى والزهد، منع الشعراء من بابه وأعلن أنه لا يقبل الشعر ولا يقابل الشعراء
144
فلم يطل حكمه، وعاد خلفاؤه إلى المباراة في إكرام الشعراء والإغداق عليهم بالأموال. (ب) الشعر وبنو العباس
فلما انقضت دولة بني أمية وقامت دولة العباسيين، عدل المنصور عن إكرام الشعراء، وكانوا قد تعودوا الوفود على الخلفاء أو نيل جوائزهم، فأصبحوا إذا أتوا المنصور منعهم من الدخول عليه أياما، حتى تنفد نفقاتهم ويملوا الانتظار وحاجبه يرفع أمرهم إليه وهو يؤخرهم. ثم إذا أذن لهم بعد ذلك، اشترط عليهم أن يمدحوه كما كانوا يمدحون بني أمية
145
وكان بخيلا عليهم، فتغيرت قلوب الشعراء، فساعد ذلك على تباعد قلوب العرب عنه وميلهم إلى العلويين، فاستفحل أمر محمد بن عبد الله بالمدينة وقاسى المنصور أمر العذاب في إخماد ثورته. فأصبح الخلفاء بعد المنصور يتجنبون إغضاب الشعراء ويبالغون في إكرامهم. وكان الشعراء يتقربون إليهم بهجو العلويين، وخصوصا الرشيد، فقد كان مروان بن أبي حفصة يتقرب إليه بهجائهم
146
وبعد أن كان الشعراء يسمون في أيام بني أمية السؤال، سماهم وزيره جعفر الزوار. وبالغ المأمون في إكرامهم، حتى كان يغضي عنهم إذا هجوه. ذكروا أن دعبلا الخزاعي الشاعر هجا إبراهيم بن المهدي، فرفع إبراهيم أمره إلى المأمون، فقال له المأمون : «لك أسوة بي، فقد هجاني واحتملته وقال في ذلك:
أيسومني المأمون خطة عاجز
أو ما رأى بالأمس رأس محمد؟
إني من القوم الذين سيوفهم
قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله
واستنقدوك من الحضيض الأوهد»
فقال إبراهيم: «زادك الله حلما يا أمير المؤمنين».
147
وتزاحم الشعراء بباب المهدي والرشيد والمأمون، ونبغ بشار بن برد العقيلي وأبو نواس وأبو العتاهية وغيرهم. (ج) الشعر ودول العرب
والشعر كما قدمنا من العلوم العربية، فلما تغلب العنصر الأعجمي في دولة بني العباس وصارت الأمور إلى أيدي الأتراك ضعف أمر الشعراء، حتى إذا قامت دولة بني حمدان، وهم عرب، عاد الشعر إلى رونقه وتزاحم الشعراء بباب سيف الدولة، حتى قيل إنه لم يجتمع بباب خليفة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ما اجتمع ببابه. وكان هو أديبا شاعرا، فاشتهر في عصره أبو فراس والمتنبي والسري الرفاء وأبو العباس أحمد بن محمد النامي وأبو الفرج عبد الواحد الببغاء وأبو الفرج الوأواء وغيرهم.
فلما انقضت تلك الدولة العربية عاد الشعر في الشرق إلى الخمول، وكان قد أينع في دولة بني أمية بالأندلس وراجعت سوقه واتسع نطاقه وكثرت فنونه على ما سيجيء.
أما دول المسلمين غير العرب، فقد كان فيهم من يحب الشعر ويكرم الشعراء، ولكن الغالب فيهم أن يفعل الملك منهم ذلك على سبيل القدوة أو المباهاة ، وهو لا يفهم ما يقرأه من مدائحه. ومما يضحك من هذا القبيل أن الشعراء وفدوا على يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين وكان من بربر قبيلة لمتونة البربرية بالمغرب ونظموا القصائد في مدحه بواسطة المعتضد بن عباد، فلما أنشدوه قصائدهم قال له المعتمد: «أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟» قال: «لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخبز ...» ولما انصرف المعتمد إلى ملكه كتب إلى ابن تاشفين رسالة قال في جملتها:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودا، وكانت بكم بيضا ليالينا
فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ: «يطلب منا جواري سودا وبيضا؟» قال: «لا يا مولانا ... ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلا لأن ليالي الحزن سود ...» فقال: «والله جيد ... اكتب له في جوابه أن دموعنا تجري عليه، ورءوسنا توجعنا من بعده!»
148 (د) جمع الشعر ورواته
لما أخذ المسلمون في تفسير القرآن واحتاجوا إلى تحقيق معاني الألفاظ، كان الشعر في جملة ما رجعوا إليه في تحقيقها، فاضطروا إلى جمعه بالأخذ عن رواته. شرعوا في ذلك من القرن الأول للهجرة، وأكثر الناس اشتغالا بجمع الشعر أهل العراق مما يلي بلاد العرب أي في البصرة والكوفة، وكان أهل الكوفة أجمع للشعر من أهل البصرة،
149
وأول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية الديلمي الكوفي المتوفى سنة 155ه
150
وخلف بن حيان الأحمر الفرغاني مولى أبي بردة،
151
وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة الأصمعي وغيرهم، وأكثرهم من رواة الأدب واللغة، وقد مر الكلام على ذلك في بابه.
وبلغ ما جمع من شعر الجاهلية عشرات الألوف من القصائد، مما لم يسمع له مثيل في أمة من الأمم كما تقدم. على أن بعض الرواة كانوا ينظمون الشعر وينسبونه إلى العرب لأسباب دعتهم إلى ذلك، لكنهم لم يفعلوا في هذا النحو ما يتجاوز الأبيات القليلة. قال خلف الأحمر: «أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، حتى مرضت فقلت لهم: «ويلكم! أنا تائب إلى الله ... هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب».
152
وقال أبو عمرو بن العلاء: «ما زدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أدخلته في جملة أبيات الأعشى» وفعل حماد أيضا نحو ذلك،
153
على أن العرب ما لبثوا أن أخذوا في تمحيص الروايات بالأسانيد، بعد أن تعودوا ذلك في رواية الحديث. •••
ومن عادة العرب في رواية الشعر، أنهم كانوا من أيام الجاهلية إذا نبغ الشاعر صحبه رجل يروي أشعاره ويتلوها، أو يروي له أشعار غيره للشاهد أو نحوه. ويغلب على الراوية أن يكون مرشحا للشاعرية، كأنه تلميذ يتدرب على يد أستاذه يأخذ عنه، وكانت عمدتهم في الجاهلية على الحفظ؛ لأنهم لم يكونوا يكتبون، فكان كثير عزة راوية جميل بثينة، وجميل راوية هدبة بن خشرم، وهدبة كان راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير وابنه
154
وكان الراوية في الجاهلية وأوائل الإسلام يروي للشاعر الواحد ويصحبه وينشد له، ويعجب به إعجاب التلميذ بأستاذه ويناضل عنه ويفضله على سواه. فلما احتاج العرب إلى جمع الشعر كثر رواته أو جماعه، وكل منهم يجمعه ويرويه لغرض. فالنحويون كانوا يعتنون بحفظ الأشعار التي يستشهد بها في الإعراب، والشعراء كانوا يروون كل شعر فيه لفظ غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، والإخباريون كانوا يجمعون من الشعر ما يجدون فيه الشاهد والمثل. وكان فيهم من يروي أشعار المجانين ولصوص الأعراب والأرجاز الأعرابية القصار وأشعار اليهود، على أن هؤلاء لم يكونوا يعدون من الرواة. وتفرد جماعة بجمع كل أنواع الشعر، وهم الرواة الذين ذكرناهم ومنهم حماد وخلف وغيرهما. وكانت لهم في الحفظ نوادر غريبة، لتعود ذاكرتهم على ذلك مذ أخذ الناس في ذلك العصر بتعويد حوافظهم على حفظ القرآن والحديث، لتجنب الكتابة للأسباب التي قدمناها. فكان فيهم من يحفظ بضعة وعشرين ألف قصيدة، يرويها بأسانيدها ومعاني ألفاظها كما تقدم. وكان للشعراء عناية خاصة في حفظ أشعار العرب، لاكتساب ملكة العرب فيها؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن من يحفظ شعر شاعر فحل يشعر مثله، أو للجواب على ما قد يعرض عليهم من الأسئلة، إذ كان للخلفاء والأمراء في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية عناية كبيرة في استطلاع أشعار العرب. (ه) طبقات الشعراء
العرب مطبوعون على الشعر، ولكنه يختلف فيهم معنى وأسلوبا باختلاف العصور والأقاليم. فالبدوي الذي كان ينظم القصيدة وهو يسوق بعيره في عرض البيداء لا يرى حوله إلا رمالا أو أطلالا، إذا لذعته الشمس أو جنه الظلام أوى إلى بيت من الشعر أو الوبر، أنيسه فيه البعير والفرس، وطعامه اللبن والتمر، وضجيعه السيف والرمح، يتوسد على حذر من عدو يبغته أو حشرة تلسعه، وإذا واعد حبيبته فموعدهما الرقمتان أو العقيق فيلتقيان على أكمة أو في واد، يعبد آلهة من الحجارة أو الأخشاب أو يصنعها من التمر، وإذا جاع أكلها ... فالبدوي الذي هذه حاله لا يكون خياله الشعري مثل خيال رجل نشأ بين القصور الشماء والحدائق الغناء، ولبس الحرير وتوسد الديباج وتعود أبهة الدولة وجلال الملك، وعاشر الخلفاء والوزراء وعانى أسباب التأنق وانغمس في الترف والبذخ. فإن الشعر تختلف طبقاته باختلاف هذه الأحوال. ولذلك كان الشعر الجاهلي أقرب إلى الخشونة والمتانة، مع خلوه من زخرف الكلام وأساليب الكتابة والمجاز.
فلما جاء القرآن وشاع حفظه وحفظ الأحاديث، وعني الناس بجمع الآداب والأمثال واستظهار أحاسنها وأحاسن الشعر، نهضت طباع الناس وارتقت أذواقهم في البلاغة ورسخت ملكاتهم واتسعت تصوراتهم في الشعر والخطابة. فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أسمى رتبة وأصفى رونقا، واقتبسوا من الفرس أساليب الإطناب. ولذلك كان الشعراء الإسلاميون أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من شعراء الجاهلية. فشعر حسان بن ثابت وعمر بن ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وذي الرمة والأحوص أرفع طبقة في البلاغة والتفنن في أساليب التعبير من شعر النابغة وعنترة وعمرو بن كلثوم وزهير وعلقمة وطرفة
155
كما كان الخطباء الإسلاميون أحسن ديباجة وأبلغ عبارة من خطباء الجاهلية.
فالجاهليون طبقة أولى، تليهم طبقة الإسلاميين إلى أواخر دولة بني أمية وهم المخضرمون، ثم طبقة ثالثة في الدولة العباسية هي طبقة المولدين، تليها طبقة المحدثين، ولا يسعنا تعيين حد فاصل بين كل طبقة وما تليها؛ لأن كثيرين من الشعراء أدركوا أواخر إحدى هذه الطبقات وأوائل التي تليها. فمن شعراء الجاهلية من أدرك الإسلام، ومن المخضرمين من أدرك زمن المولدين، وقس على ذلك.
وإنما نقسم الشعراء إلى هذه الطبقات تقسيما إجماليا.
فالطبقة الأولى:
شعراء الجاهلية، والمراد بهم من كان شعره جاهليا أو نظم أكثره قبل الإسلام. ومزية الشعر الجاهلي البساطة والخشونة، فإذا وصفوا عاطفة مثلوها بطبيعتها، أو وصفوا أسدا أو بيتا أو ظبيا لم يكن في عبارتهم تكلف ولا تعمل أو مبالغة . وأشهر أهل هذه الطبقة أصحاب المعلقات.
والطبقة الثانية:
وهي المخضرمون، تشبه الأولى من حيث بقاء أهلها على البداوة في عهد الأمويين، ولكنها أسمى منها في البلاغة للأسباب التي قدمناها، وعليها مسحة من الحضارة. ومن أشهر الشعراء المخضرمين حسان بن ثابت وكعب بن زهير وجرير والأخطل والفرزدق.
والطبقة الثالثة:
المولدون، وشعراؤها من معاصري الرشيد والمأمون، في عصر الزهو العباسي، عصر الترف والبذخ والتأنق والرخاء، فرقت طباعهم وارتقت أذواقهم بالمعاشرة والمخالطة، فظهر ذلك في أشعارهم فعمدوا إلى وصف الخمر ومجالس الأنس وحدائق القصور ونحو ذلك.
فشعر المولدين يمتاز عن الطبقتين السابقتين بالرقة والخلاعة، وأشهر المولدين بشار العقيلي وأبو العتاهية وأبو نواس وأبو تمام والبحتري.
وأما الطبقة الرابعة:
فنريد بها الشعراء الذين نبغوا بعد انتشار الفلسفة اليونانية وعلوم اليونان وشيوع علم الكلام، وفي شعر أهل هذه الطبقة صبغة فلسفية حكمية جدلية، كشعر المتنبي والمعري والشريف الرضي والصفي الحلي. (و) الشعراء في الإسلام وأشعارهم
تكاثر الشعراء في العصر الإسلامي فوق تكاثرهم في العصر الجاهلي، لرواج سوق الشعر في القرون الأولى. على أن إحصاءهم بالضبط غير متيسر لضياع أكثر أخبارهم، لكننا نستدل من بعض النصوص على أن عددهم كان عظيما جدا، فقد ذكر ابن خلكان: «أن هارون بن علي المنجم البغدادي صنف كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين وجمع فيه 161 شاعرا، وافتتحه بذكر بشار العقيلي وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح»، والفترة بينهما قصيرة، وذكر المؤلف أنه اقتصر على خيرة الشعراء ونخبتهم. فقس على ذلك الشعراء المخضرمين والمحدثين من أهل الطبقة الرابعة، ناهيك بشعراء الأندلس فإنهم يعدون بالمئات.
أما مقدار ما نظمه أولئك الشعراء من القصائد والدواوين فمما لا يحصيه عد، وقد فقد معظمه في الفتن وغيرها في العصور الإسلامية الوسطى، فنكتفي منها بما ذكره صاحب كشف الظنون، فإنه ذكر نحو ستمائة ديوان لستمائة شاعر من المشاهير، أورد أسماءهم وألقابهم وسني وفاتهم، وهم من أهل العراق والشام وفارس وخراسان ومصر والأندلس وغيرها.
ويختلف حجم هذه الدواوين ومقدار صفحاتها من ألفي صفحة إلى مائة وما تحتها، وتقدير الورقة في اصطلاحهم صفحتان كل صفحة عشرون سطرا. فديوان بشار العقيلي مثلا ألف ورقة في ألفي صفحة أي 40000 سطر أو بيت، وابن هرمة 500 ورقة في 20000 بيت، وشعر أبي نواس في نحو ألف ورقة، ومسلم بن الوليد 200 ورقة، وقس على ذلك.
156
وإذا اعتبرت الدواوين التي ضاعت وفات صاحب كشف الظنون ذكرها، والشعراء الذين لم تجمع أشعارهم ولم يكن لهم دواوين، زاد استغرابك من كثرة الشعر العربي وتعداد شعرائه مما لا تجد له مثيلا في لغة من لغات العالم القديم أو الحديث. (ز) عروض الشعر
المشهور أن الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170ه، هو أول من وضع عروض الشعر العربي، أي استنبطه وأخرجه إلى الوجود وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحرا، ثم زاد فيه الأخفش بحرا واحدا سماه الخبب.
157
ولكن الغالب أن بحور الشعر كانت معروفة من قبل، ولولا ذلك لم يستطع العرب ضبط منظوماتهم على ما نراه في أشعارهم. ويؤيد ذلك قول الوليد بن المغيرة منكرا قول من قال: إن القرآن شعر: «لقد عرفت أضرب الشعر وهزجه ورجزه وكذا وكذا فلم أره يشبه شيئا من ذلك»
158
فكيف يقول هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟ فالظاهر أن الخليل أول من جعل العروض علما ورتبه هذا الترتيب وزاد فيه أنواعا من الشعر ليست من أوزان العرب
159
وربما زادوا فيه بعد ذلك شيئا من بحور اليونان أو أساليبهم؛ لأن بعض الذين كانت لهم عناية باللغة اليونانية في ذلك العصر كانوا يقابلون بين شعرها وشعر العرب. ولابن الهيثم في أوائل القرن الخامس للهجرة رسالة في صناعة الشعر ممتزجة من اليوناني والعربي
160
لم نقف عليها. على أن ابن شرشير - الشاعر المعروف بالناشئ الأكبر المتوفى سنة 293ه - كان قد نظر في قواعد العروض وأدخل عليها شبها ومثلها بغير أمثلة الخليل.
161
ولا مشاحة في أن عروض الشعر ارتقت وتفرعت بتوالي القرون، شأن كل ما هو من قبيل الأحياء (أي كل ما هو من صنع البشر)، فتولد في النظم ضروب من القصائد كالأصمعيات والشعر البدوي والحوراني وغيرها.
أما الأندلس فقد كان للشعر فيها تاريخ خاص لرواجه عندهم بعد اشتغال الأمم الأخرى عنه، فإنهم هذبوا مناحيه وفنونه حتى بلغ التنميق فيه الغاية، واستحدثوا الموشح ونظموا به الموشحات الأندلسية المشهورة. استنبطه مقدم بن معافى القبري الأندلسي في أواخر القرن الثالث للهجرة
162
ولما شاع التوشيح عندهم وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوا فنا سموه «الزجل» شهره أبو بكر بن قزمان القرطبي ويعرف بإمام الزجالين.
ثم استحدث أهل الأمصار في المغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة، نظموه بلغتهم الحضرية وسموه «عروض البلد» استنبطه ابن عمير الأندلسي. وشاع هذا الفن بفاس فنوعوه أصنافا سموها: المزدوج، والكاري، والملعبة، والغزل وغيرها، كما شاعت الآن أنواع الزجل المصري في مصر، والقريض اللبناني، والمعنى في الشام.
وكان لعامة بغداد فن من الشعر يسمونه «المواليا» تحته فنون كثيرة، ذكروا منها «القوما» و«كان وكان»
163
ومنه مفرد ومنه في بيتين وغير ذلك. ثم انتقل إلى الأمصار وتفننوا فيه، وهو شائع الآن في سوريا والعراق ومصر. (ح) الشعر والدولة
بينا في كلامنا عن الشعر في الجاهلية ما كان له من التأثير في نفوس العرب لشدة حساسيتها وسرعة تأثرها. فلما صار العرب دولة وارتقت عقولهم زاد شعورهم رقة فازدادوا حساسية وتضاعف تأثير الشعر فيهم. واتسعت دائرة ذلك التأثير باتساع دولة المسلمين واهتمامهم بالشعراء وأشعارهم. فقد رأيت ما كان من احتفاء بني أمية بالشعراء واستقدامهم إليهم، وظل ذلك في صدر الدولة العباسية وفي كل دولة عربية. فإذا وفد الشاعر على الخليفة أو الأمير استأذن في الدخول عليه، فإذا حل أنشد قصيدته جهارا والخليفة وأرباب مجلسه يسمعون
164
ويترنمون فيأمر الخليفة أو الأمير بالجائزة وقد تتجاوز مائة ألف درهم إلى ألف ألف
165
وقد يرتب له الرواتب الشهرية ويخلع عليه الخلع ويقلده الوظائف.
166
ومن أكثر الخلفاء سخاء على الشعراء المهدي والرشيد العباسيان والناصر والحكم المستنصر الأندلسيان. ومن أسخى الأمراء خالد القسري أمير العراقين في زمن الأمويين، وسيف الدولة بن حمدان.
على أن الخلفاء والأمراء عموما كانوا يبذلون الأموال للشعراء إلا نادرا، وكانوا يعينون يوما كل أسبوع أول كل شهر أو سنة يستقبلون فيه الشعراء لا يدخلون فيه سواهم
167
كأنهم يريدون التفرغ للنظر في الشعر وآدابه وكان الشعراء يتناظرون ويتنافسون في ذلك المجلس، ولا يخفى ما يترتب على تلك المناظرة من شحذ الأذهان وإنهاض العزائم. وكان الأندلسيون أكثر عناية في ذلك من سواهم؛ كان للمعتضد بن عباد أمير أشبيلية المتوفى سنة 461ه، دار خاصة بالشعراء يجلسون فيها على الرحب والسعة، فإذا آن يوم الشعراء - وهو يوم الاثنين من كل أسبوع - يدخلون عليه ولا يدخل عليه سواهم. وكان للشعراء مراتب عندهم ولهم رئيس يوليه السلطان
168
وسجل خاص يقيدون فيه أسماءهم كأنهم يعدونهم من جملة موظفي الحكومة
169
وكان أمراء الأندلس إذا عاد أحدهم من فتح جلس الناس فيقرأ القراء ثم يقوم الشعراء فينشدون. ونظنهم كانوا يبالغون في إكرام الشعراء اقتداء بخلفاء بغداد، كما اقتدوا بهم في كثير من آدابهم ونظمهم وسائر أحوالهم. (ط) الشعر والخلفاء والأمراء
ومن أسباب رواج صناعة الشعر في الدولة العربية أن الخلفاء أنفسهم كانوا ينظمون الشعر ويبحثون فيه، ولبعضهم القصائد والمقاطيع الحسنة، ومن أشهر الخلفاء الشعراء يزيد بن معاوية، فقد جمعوا شعره في ثلاث كراريس ذكر ابن خلكان أنه قرأها وحفظ أبياتها لشدة غرامه بها
170
ولا غرابة في ذلك؛ لأن يزيد نشأ في البادية، ووالدته ميسون بنت بحدل الكلبية التي لم تعجبها قصور معاوية في الشام فحنت إلى البادية وأنشدت الأبيات التي مطلعها:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
فسمعها معاوية فطلقها، فسارت إلى أهلها في نجد وهي حامل بيزيد فولدته بالبادية فأرضعته سنتين
171
هناك. ومن الخلفاء الشعراء أيضا الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهارون الرشيد. وأكثر الخلفاء العباسيين كانوا ينظمون الشعر، وأشعرهم بلا استثناء عبد الله بن المعتز المتوفى سنة 296ه، ولم يتول الخلافة إلا يوما وليلة، وكان من رجال العلم وله ديوان شعر
172
قد طبع ونشر بمصر، وآخر من نظم الشعر منهم الراضي بالله المتوفى سنة 329ه، فإنه آخر خليفة دون له شعر، وآخر خليفة خطب على منبر وجالس الندماء ووصل إليه العلماء.
173
وأما خلفاء الأندلس وأمراؤهم فقد نظم الشعر منهم عبد الرحمن الأوسط والمستعين بالله. وقد ألف الصولي كتابا مستقلا في أشعار خلفاء بني العباس، فحسدهم خلفاء بني أمية بالأندلس، فكان هم الخليفة الحكم الأندلسي من يؤلف له كتابا في شعراء خلفاء بني أمية مثل كتاب الصولي في بني العباس.
174
وإذا تدبرت ما تقدم رأيت أكثر الخلفاء والأمراء عناية في الشعر أكثرهم اقتدارا على نظمه؛ لأنهم كانوا يقدرون الشعر قدره. وذلك شأن العلم في الدول المطلقة، فإنما يروج فيها من الصنائع والفنون والعلوم والآداب ما كان للملوك أو الأمراء رغبة فيه. فالوليد بن يزيد بن عبد الملك أعطى يزيد بن منبه على قصيدة مدحه بها عن كل بيت ألف درهم
175
وهو أول خليفة عد الشعر وأعطى على البيت ألف درهم. ويقال نحو ذلك في سائر الخلفاء الشعراء، وكذلك الأمراء، فإن سيف الدولة لم يرج الشعر في عصره إلا لأنه كان هو نفسه شاعرا.
176
فكان الغرض من تقريب الشعراء في أول دولة بني أمية سياسيا، ثم صار أدبيا يندفع الخلفاء والأمراء إليه تلذذا بالشعر وآدابه. ولذلك كانوا يجالسون الشعراء ويقترحون عليهم نظم القصائد أو الأبيات، أو يستقدمونهم للسؤال عن بيت استغلق عليهم فهمه أو نسوا بعضه، وقد يكون بينهم وبين الشاعر بعد شاسع. فقد بعث هشام بن عبد الملك بدمشق إلى أميره على العراق يوسف بن عمر الثقفي أن يوجه إليه حمادا الراوية ويدفع له خمسمائة دينار وجملا مهريا، فسار حماد إلى الشام في 12 ليلة، ولما وصلها وسأل عن سبب استقدامه قال له هشام: «خطر ببالي بيت لا أعرف قائله وهو:
دعوا بالصبوح يوما فجاءت
قينة في يمينها إبريق»
فقال حماد: «يقوله عدي بن زيد العبادي» وأنشده باقي القصيدة.
177
وكثيرا ما كانوا يفعلون ذلك وهم في مجلس من مجالس الطرب لا يجوزه الشرع، فإن يزيد بن عبد الملك صاحب حبابة التي مات في سبيل تهتكه بها، كانت تغنيه ذات ليلة وتسقيه فطرب ثم غنته:
إذا رمت عنها سلوة قال شافع
من الحسن ميعاد السلو المقابر
فسألها عن قائل هذا البيت فقالت: لا أدري، فبعث إلى الزهري ليستخبره وكان قد ذهب من الليل شطره، فجاء وهو يرتعد خوفا فلما علم السبب سري عنه.
178
على أن الغالب في مجالسة الشعراء أن تكون لغرض أدبي، كوصف منظر أو أداة، كما فعل الهادي إذ استقدم الشعراء إليه واقترح عليهم أن يصفوا سيفا أهداه إليه المهدي، وهو سيف عمرو بن معديكرب، فوضع السيف بين يديه وقال للشعراء: صفوه، فنال الجائزة ابن يامين المصري.
179
وكان الرشيد من أكثر الخلفاء بحثا في الشعر وقائليه، فقد سأل أهل مجلسه مرة عن صدر هذا البيت: «ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه» فلم يعرفه أحد، وكان الأصمعي مريضا لا يقدر على المجيء، فأرسل إليه إسحاق الموصلي وبعث معه ألف دينار لنفقته، فجاء الجواب أن البيت من قصيدة لأبي النشناش النهشلي، وهذا صدره:
وسائلة أين الرحيل وسائل
ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه
180
وكثيرا ما كان الرشيد يعقد المجالس للبحث في معنى بيت، وقد سأل أهل مجلسه يوما عن معنى هذا البيت:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما
ورعا فلم أر مثله مخذولا
وكان في المجلس الكسائي والأصمعي، فطال الجدال بينهما والخليفة يسمع،
181
وأعطى الرشيد الفضل خاتما قيمته 1600 دينار مكافأة على أحسن بيت قالته العرب في الذئب،
182
والمأمون ولى ابن الجهم ولاية من أجل بيت طلبه منه واشترط عليه ذلك
183
وقس على ذلك ما كان يجري من هذا القبيل في مجالس سيف الدولة وغيره من محبي الشعر. (ي) تأثير الشعر في الدولة
ويقال بالإجمال إن الشعر كان عند العرب كل آدابهم، يتناشدونه ويتسامرون به ويتذاكرون فيه، ولم يكن ذلك مقصورا على الخلفاء أو الأمراء أو الأدباء، ولكنه كان عاما في الرجال والنساء. وكانوا لكثرة ما يحفظونه منه يرمزون باسم الشاعر إلى بيت من أبياته مشهور بمعنى ويريدون ذلك المعنى، كما اتفق لرجل كان قاعدا على جسر بغداد فوجد امرأة بارعة في الجمال قادمة من جهة الرصافة، فاستقبلها شاب فقال: «رحم الله علي بن الجهم». فقالت له المرأة: «رحم الله أبا العلاء المعري» وما وقفا بل سارا مشرقا ومغربا. قال الرجل: «فتبعت المرأة وقلت لها: والله إن لم تقولي لي ما أراد وما أردت لأفضحنك!» فقالت: أراد بعلي بن الجهم قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالخيف إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
184
فلا غرو بعد ما تقدم إن رأيت للشعر تأثيرا شديدا في نفوس كبار القوم، حتى يترتب على إنشاد البيت الواحد إيقاد نار الحرب أو قتل جماعة أو إنقاذهم من القتل.
ومن أمثلة ذلك أن أبا العباس السفاح أول خلفاء بني العباس، لما استوثق له الأمر بالخلافة تتبع بقايا بني أمية ورجالهم ووضع السيف فيهم. ولكن جماعة من كبارهم كانوا قد استأمنوا وصاروا يحضرون مجلس السفاح، فاتفق مرة أن أحدهم سليمان بن هشام بن عبد الملك كان في مجلس السفاح وقد أكرمه، فدخل سديف بن ميمون الشاعر وأنشد:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
فالتفت سليمان وقال: قتلتني يا شيخ! ثم أخذ سليمان فقتل. ودخل على السفاح شاعر آخر، وقد قدم الطعام وعنده نحو سبعين رجلا من بني أمية فأنشده:
أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس
ثم ذكر مظالم بني أمية إلى أن قال:
واذكروا مصرع الحسين وزيدا
وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أضحى
ثاويا بين غربة وتناس
فأمر بهم السفاح فضربوا بالسيوف حتى قتلوا، وبسط النطوع عليهم وجلس فوقهم فأكل الطعام وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا.
185
ويقال نحو ذلك في القصيدة التي هاجت الرشيد لمحاربة نقفور ملك الروم ومطلعها:
نقض الذي أعطيته نقفور
فعليه دائرة البوار تدور
186
وكثيرا ما كان ينجو الرجل من القتل ببيت يعجب به الخليفة فيخلي سبيله، وحكاية مالك بن طوق مع الرشيد مشهورة، فإنه بعد أن استوجب القتل وركع على النطع قال القصيدة التي مطلعها:
أرى الموت بين النطع والسيف كامنا
يلاحظني من حيثما أتلفت
إلى أن قال:
وما بي من خوف أموت وإنني
لأعلم أن الموت شيء موقت
ولكن خوفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
وإن عشت عاشوا سالمين بغبطة
أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم قائل: لا يبعد الله داره!
وآخر جذلان يسر ويشمت
فبكى الرشيد وقال: «لقد سكت على همة وتكلمت على علم وحكمة، وقد عفوت لك عن الصبوة ووهبتك للصبية، فارجع إلى ولدك ولا تعاود». فقال: «سمعا وطاعة» ... وانصرف.
187
وكم من قائد رجع عن الهزيمة ببيت تذكره فتحمس. قال معاوية يرغب الناس في الشعر: «... فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهزيمة وقد عزمت على الفرار فما ردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح»
188
وقس على ذلك كثيرا من أمثال هذه الحوادث في الجاهلية والإسلام. (4) العلوم الدخيلة
فرغنا من الكلام فيما اقتضاه التمدن الإسلامي من العلوم الإسلامية، وفي الأسباب التي دعت إلى نشوئها، وفي الآداب العربية الجاهلية ما بلغت إليه في الإسلام، ونحن متقدمون فيما يلي إلى الكلام في العلوم الدخيلة التي نقلها المسلمون إلى العربية، ونريد بها العلوم القديمة التي كانت شائعة عند ظهور الإسلام في الممالك التي عرفها المسلمون. وهي عبارة عن خلاصة أبحاث رجال العلم والفلسفة والأدب في ممالك التمدن القديم، على اختلاف الأمم والدول والأماكن والأصقاع في القرون المتوالية، من أقدم أزمنة التاريخ إلى أيامهم، وفيها زبدة علوم الآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والهنود والفرس واليونان والرومان. ولا يراد بذلك أن العرب أخذوا علم كل أمة عن أهله رأسا، ولكنهم جاءوا والعلوم قد تحلبت بتوالي العصور وتفاعل العناصر، واجتمع معظمها لليونان فبوبوها ورقوها وظهرت النصرانية فأثرت فيها، وبقي بعضها في بقايا الدول القديمة كالفرس والكلدان والهنود وغيرهم، ممن دانوا للمسلمين وانتظموا في خدمتهم، فأخذوا من هؤلاء جميعا؛ لذلك كان من جملة أفضال التمدن الإسلامي على العلم أنه جمع شتات تلك العلوم اليونانية والفارسية والهندية والكلدانية إلى العربية وزاد فيها ورقاها كما سيأتي.
فلنبحث أولا في حال العلم والأدب في البلاد التي عرفها المسلمون، وهو يتناول النظر في آداب اليونان والفرس والهنود والكلدان على ما يأذن به المقام. ثم نتقدم إلى الكلام فيما نقله العرب من ذلك والأسباب التي دعت إلى نقله. (4-1) آداب اللغة اليونانية
أصل اليونان من القبائل الآرية التي نزحت قبل زمن من التاريخ من أعالي الهند واستقرت في الأرخبيل اليوناني وما يقابله من شواطئ آسيا الصغرى حول بحر إيجه. وللشعوب الآرية آداب مشتركة وأخلاق متشابهة.
فنزل اليونان هناك ومعهم كثير من معتقدات أسلافهم وعاداتهم التي نزل بها إخوانهم الآريون إلى بلاد الهند، ودونوا معظمها في كتبهم الدينية السنسكريتية «البرهمية» في أقدم أزمنة التاريخ.
أما اليونان فكانوا يسمون هلاس أو الهيلينيين، وهم ثلاث قبائل كبرى: اليونيون
Ionoi
والأيوليون
Aeoloi
والدوريون
Dorioi . فنزل اليونيون شواطئ آسيا الصغرى، والأيوليون في لسبس وما والاها، ونزل الدوريون في المورة وصقلية وغيرهما. وكان التمدن القديم يومئذ مزدهرا في وادي النيل ووادي الفرات. وكان الفينيقيون جيران اليونيين برا والدوريين بحرا، وقد استعمروا شواطئ آسيا الصغرى مما يلي بلادهم. فأصبح اليونيون «أو اليونان الآسيويون» على مقربة منهم، فحمل إليهم الفينيقيون كثيرا من أسباب التمدن، وأكثره منقول عن البابليين والآشوريين والمصريين، فاقتبس اليونيون مبادئ العلم والأدب كالفلك والطب والدين ونقلوها إلى إخوانهم الدوريين في الجانب الغربي من بحر إيجه. وكان اليونانيون على الإجمال أهل ذكاء ونشاط، فما لبثوا حينا حتى نظموا الشعر وألقوا الخطب وهي من قرائحهم الفطرية، ونبغ منهم الشعراء والخطباء ثم الفلاسفة والعلماء والأطباء، وجعلوا للعلم قواعد لا تزال مرعية في أكثر وجوهها إلى اليوم.
ويقسم تاريخ آداب اللغة اليونانية إلى ثلاثة عصور: (1)
عصر الآداب اليونانية القديمة، ويبتدئ قبل زمن التاريخ إلى سنة 529 للميلاد، وهي السنة التي أمر فيها القيصر جستنيان بإغلاق المدارس الوثنية في مملكة الروم. (2)
العصر البيزنطي أو القسطنطيني، ويبتدئ سنة 529م، وينتهي بفتح العثمانيين القسطنطينية سنة 1453م. (3)
العصر الحديث، يبتدئ بذلك الفتح ولا يزال.
ولا يهمنا في هذا المقام إلا العصر الأول وبعض الثاني. (4-2) الآداب اليونانية القديمة من قبل التاريخ إلى سنة 529م
وتقسم الآداب اليونانية القديمة إلى ثلاثة أدوار: (1)
دور الشعر وينتهي سنة 475 قبل الميلاد. (2)
دور الروايات التمثيلية والتاريخ والفلسفة من سنة 475-300 قبل الميلاد. (3)
دور العلم بعد نضجه أو الدور الإسكندري، ويقسم إلى عصرين: العصر اليوناني، والعصر الروماني. (أ) الشعر اليوناني
اليونان من الأمم التي استنبطت آدابها الخيالية استنباطا، ولم تقلد بها أحدا ولا أخذتها عن أحد، وشأنهم في ذلك شأن العرب في علومهم الإسلامية وآدابهم العربية. وأقدم آداب اليونان الشعر، وقد أتقنوه وأجادوا فيه من قديم الزمان؛ لأن كل قبيلة منهم تولت إتقان فرع منه، فاشتغل اليونيون في الشعر القصصي، والأيوليون في الشعر الموسيقى البسيط، واشتغل الدوريون في إتقان هذا الشعر والتوسع فيه، وأخيرا اشتغل الأتيون
Attioi - وهم فرع من اليونيين - في إتقان الشعر التمثيلي وسائر الفنون الخيالية، وتطرقوا منها إلى الفنون النثرية كالتاريخ والفلسفة وغيرهما. وكانت لغات هذه القبائل تختلف بعضها عن بعض، مثل اختلاف لغات قبائل العرب في عصر الجاهلية.
ويغلب على الظن أن اليونان نظموا الشعر قبل تشتت قبائلهم، وأقدم أشعارهم «أناشيد الفصول»، تليها أشعار وصفوا بها الآلهة أو الحروب على شكل الحكايات المتقطعة كانوا يتناشدونها بالآلات الموسيقية. فلما تفرقوا اختص اليونيون بالشعر القصصي، فألفوا من تلك الحكايات الملاحم، وأقدم الملاحم الإلياذة والأوذيسة نظمهما هوميروس في القرن التاسع قبل الميلاد، وصف بهما الأيام العشرة الأخيرة من حصار طروادة.
وقد زها الشعر القصصي عند اليونان قبل سائر ضروب الشعر؛ لأنه يصف وقائعهم وحروبهم. وكانوا في أوائل أحوالهم مثل قبائل العرب، وكان أمراؤهم يحبون سماع أخبار أسلافهم من الأبطال وأنصاف الآلهة، فحببوا إلى أصحاب القرائح نظم تلك الأخبار في الملاحم. وفي أواسط القرن الثامن قبل الميلاد أخذت السلطة الاستبداية في الأفول، وأخذ اليونان يتمتعون بحريتهم الشخصية استعدادا للحكم الجمهوري. فنما شعورهم الاستقلالي، وأحس كل منهم بذاتيته، وتولد فيه الميل إلى وصف عواطفه وميوله، فنظمها شعرا هو الشعر الغنائي، وأكثر المشتغلين به الأيوليون والدوريون، وله عند كل منهما مميزات، وأشهر نوابغ الشعر الموسيقي عند اليونان سميونيدس وبندار. الأول يوني الأصل دوري النظم، وأكثر منظوماته في وصف أحوال الحرب بين اليونان والفرس، والثاني دوري المولد والمنشأ وأسلوبه ونظمه دوريان. (ب) الأدب والعلم والفلسفة عند اليونان من سنة 475-300ق.م
الأدب والتاريخ
ويسمى هذا الدور أيضا الدور الأتي أو الأتيكي نسبة إلى أتيكا في جزائر اليونان، وسكانها مزيج من اليونيين والدوريين. فبعد أن اشتغل اليونيون والأيوليون والدوريون في إنشاء الشعر ودونوا به أخبارهم ووصفوا حروبهم وعبروا به عن عواطفهم وعواطف ذويهم، استحثتهم قرائحهم الوقادة إلى ما يمثلون به تلك الأخبار ويشخصون به العواطف؛ ليراها الناس رأي العين أو يشعروا بها كأنها بين جنبيهم فأحدثوا فن التمثيل «الدراما» ومنه التراجيديا والكوميديا، وأجادوا في كليهما، ونبغ منهم مشاهير عظام من أهل هذا الفن مما يطول بنا الكلام فيه، وهو خارج عن موضوعنا. وإنما يقال بالإجمال: إن اليونان أتقنوا الشعر على اختلاف ضروبه وموضوعاته قبل أن يعتنوا بالنثر المرسل لاستغنائهم عنه بالشعر القصصي. وأقدم آثارهم النثرية وأكملها كتابات هيرودوتس الرحالة الشهير المتوفى سنة 406ق.م، وهي بالنظر إلى نثر اليونان مثل إلياذة هوميروس بالنظر إلى شعرهم.
على أن هيرودوتس ليس أول من كتب النثر المرسل عندهم، فقد ظهر قبله جماعة من العلماء دونوا به آراءهم في الفلسفة أو الميثولوجيا أو التاريخ أو غيرها من العلوم النثرية. وأما هيرودوتس فتغلب نثره على نثرهم لحسن أسلوبه وأهمية الموضوعات التي كتب فيها. فقد كتب رحلته قبل سنة 431ق.م، وهي التاريخ المعروف باسمه، بين فيه أسباب الحروب التي نشبت بين الفرس واليونان في القرن السادس وأول الخامس قبل الميلاد. ولا يزال كتابه فريدا في بابه إلى اليوم، ولذلك لقبوه بأبي التاريخ. وبعده بقليل نشبت بين أهل أثينا وأهل المورة حرب أهلية هائلة، هي الحرب المورية أو البيلوبونيسية من سنة 431-404ق.م فأرخها ثوسيدس، وكان معاصرا لهيرودوتس وأصغر منه. ثم ظهر جماعة من كتاب التاريخ عندهم كخينوفون وغيره، ثم اشتغل اليونان بالخطابة ونبغ منهم ديموستنيس وأشينس وهبريدس وغيرهم، واشتغل آخرون في وضع الشرائع مثل صولون، وآخرون بوضع قواعد اللغة أو غيرها مما لا يهمنا البحث فيه هنا.
العلم والفلسفة
وهما من نتاج الدور الآتي، فقد ظل اليونانيون على نحو ما تقدم من الآداب الشعرية والتاريخية والأدبية، حتى تنبهت أذهانهم إلى البحث في الخليقة والعلل والمعلومات بنهضة حدثت على أثر الحروب المورية المذكورة. فإنها توالت 27 سنة، وفي نهايتها دخلت أثينا في حوزة اللقديمونيين
Laecedomonoi
وأصبح الأثينيون بعد العز أذلاء، فساقتهم العبرة والمذلة إلى النظر في الوجود فنهضوا نهضة فلسفية زعيمها وواضع أساسها سقراط. والحروب يغلب أن يقعبها نهضة أدبية أو علمية أو سياسية، على ما قررناه في غير هذا المكان.
على أن اليونان تنبهوا إلى النظر في الموجودات الطبيعية وأحوالها قبل تلك النهضة، على أثر احتكاك الأفكار في أثناء حروبهم مع الفرس. وإنما كان نظرهم فيها مقصورا على تفهم نواميسها على نحو ما نعبر عنه اليوم بالطبيعيات، وأقدم من وصل خبره إلينا من الفلاسفة الطبيعيين طاليس المليطي، ولد في مليطة من بلاد يونيا سنة 640 قبل الميلاد، وقد أخذ علمه من فينيقية ومصر وكريت ويونيا، وغلب عليه النظر في النجوم والهندسة، وله آراء في الوجود والموجودات وأصل العناصر، ووضع كثيرا من القواعد الرياضية لاستخراج الكسوف والخسوف وقياس الأجسام المرتفعة بالنظر إلى ظلها، ونبغ بعده جماعة من تلامذته وتلامذتهم، ومنهم أرخيلاوس وهو الذي نقل الطبيعيات من يونيا إلى أثينا، وهناك تتلمذ له سقراط المولود سنة 469ق.م، وفي أيام هذا الفيلسوف حدثت الحروب المورية، فامتزجت الطباع وتحاكت الأفكار فهاجت القرائح وثارت العواطف، وأصبح الناس متضاغنين متنافسين، وربما كان للرجل عدو من قبيلته وأهله. •••
فلما أصيبت أثينا بالذل بعد تلك العظمة أصاب أهلها اضطراب وانكسار، والإنسان إذا أصيب بنكبة لا حيلة له في دفعها اشتغل عنها بالتعليلات الفلسفية عن الوجود وأصله ليخفف وطأة تلك المصيبة عليه، خصوصا في مثل ما أصيبت به أثينا بعد عزها ورفعة شأنها، وأصبح أهلها بعد سقوطها يتلفتون إلى الوراء آسفين وينظرون إلى الأمام خائفين، وقد ذهبت أسباب مفاخرتهم القديمة ولم تنتظم حكومتهم الجديدة، فتنبهت أذهانهم وانصرفت قرائحهم إلى النظر في شؤون الإنسان على الجملة وشؤونهم هم على الخصوص. فكانت وجهة تلك النهضة الأدب والفلسفة، فدخل القرن الرابع قبل الميلاد والناس يتناقلون آراء بعض المتقدمين من العلماء على ما يوافق أحوالهم، ونفوسهم تشتاق إلى الزيادة.
سقراط
وكان الناس في ذلك إذ نبغ سقراط الحكيم، ورأى النظر في الفلسفة الطبيعية لا يجدي نفعا في تلك الأحوال، فانصرفت عنايته إلى الفلسفة الأدبية فدرسها جيدا، وخلصها مما كان يعتورها من الرموز والغوامض، وطبقها على حاجات الأثينيين يومئذ، وقسم شرائعه إلى ما يتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، وإلى ما يتعلق به من حيث هو أب ومدبر، وإلى ما يتعلق به من حيث هو عضو في الجماعة، وذهب إلى خلود النفس. ويعتبره اليونانيون واضع الفلسفة الأدبية العلمية، أو هو محول الفلسفة القديمة من الخيال إلى العمل، قال شيشرون: «إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض».
ويندر أن ينجو النوابغ وأصحاب الآراء الجديدة من حساد يتمنون أذيتهم أو يسعون فيها. وقد كان في تعاليم سقراط ما يخالف اعتقاد الأثينيين يومئذ، فقاموا عليه واتهموه بإفساد عقول الشباب وحكموا عليه بالموت، فشرب السم ومات.
أفلاطون
مات سقراط ولم يدون شيئا من تعاليمه، فدونها تلامذته من بعده، ولكنهم اختلفوا في تفسير أقواله فانقسموا إلى ثلاث فرق تعرف بالكيرينية والكلبية والإشراقية. وهذه الأخيرة أشهرها وتسمى أيضا الأفلاطونية نسبة إلى صاحبها أفلاطون المولود سنة 428 قبل الميلاد. ومذهبه مقتبس من ثلاثة مذاهب قديمة، فإنه تبع هيرقليطس في الطبيعيات، وفيثاغورس فيما وراء الطبيعة والنقليات، وتبع سقراط في الفلسفة الأدبية والأخلاق. وقال بثلاثة أصول هي: الإله، والمادة، والإدراك. والآلهة عنده ثلاث طبقات: علويون، ومتوسطون، وسفليون، وعلم بتناسخ الأرواح. وكتب أفلاطون على أسلوب المحاورات، وسيأتي ذكرها في كلامنا عما نقله المسلمون من كتب الفلسفة إلى العربية.
أرسطو
وانقسم تلامذة أفلاطون أيضا إلى فرق، أهمها فرقة المشائين وصاحبها أرسطو أو أرسطوطاليس الذي أجمع العلماء على أنه أقدر الفلاسفة القدماء، ويسميه العرب المعلم الأول. ولد سنة 384 وتوفي سنة 322ق.م، وعنه نقل العرب أكثر كتب الفلسفة والمنطق. جمع أرسطو في كتبه زبدة ما بلغ إليه العلماء في عصره ببلاد اليونان من الفلسفة والعلم. أما الفلسفة فأخذها عن أستاذه أفلاطون، ويدخل فيها الأبحاث المنطقية والعقلية والنفسية والسياسية. وأما العلم، ويراد به الحقائق المبنية على المشاهدة والاختبار كالرياضيات والطبيعيات ونحوها، فقد كانت من جملة ما طالعه من علوم القدماء وما اختبره بنفسه، وكان غرض أرسطو إيضاح الفلسفة بالعلم وإخضاع كل بحث عقلي أو نظري إلى النواميس الطبيعية. ولم يكن يهمه تزويق العبارة أو برقشة الألفاظ، وإنما كان يهمه الغرض الأصلي من الموضوع، فكان يبذل جهده في تجريد عبارته من الخيالات الشعرية التي مازجت فلسفة أفلاطون.
فلما أظهر أرسطو فلسفته شغف الناس بها، وكان يلقيها في أروقة حول هيكل أبولو قرب أكاديمية أفلاطون، وكان يتلو دروسه وهو يمشي هناك فسمي تلامذته المشائين أو الرواقيين. ومن حظ أرسطو أن الإسكندر المقدوني ظهر في أيامه وتتلمذ له وأمده بالأموال لأبحاثه في الطب والحيوان وغيرهما. ولما سافر الإسكندر للفتح ظل أرسطو في أثينا، فلما جاء الخبر بموت الإسكندر سقط حزبه وفي جملتهم أرسطو. وكانت فتوح الإسكندر قد هزت القرائح اليونانية كما هزتها حرب المورة من قبل، فنهضت نهضة ثانية والعقول أكثر استعدادا وأقوى على الأبحاث. ولا يبعد أن يكون الإسكندر قد نقل إلى أثينا بعض علوم فينيقية وبابل وفارس، كما سيأتي، فأدخلها أرسطو في فلسفته وألف في كل موضوع عقلي وطبيعي وفلسفي ومنطقي ولغوي. ومؤلفاته كثيرة، وينسبون إليه كتبا لم يؤلفها هو. وأما الكتب التي ثبتت نسبتها إليه فنحو 19 كتابا، نقل المسلمون أكثرها إلى العربية وسيأتي ذكرها.
والكتب المنسوبة إليه خطأ أكثرها في الميكانيكيات والبلاغة والأدبيات والرياضيات، مما لا حاجة إلى ذكره، وإنما نذكر منها كتابين مشهورين له وهما: كتاب المقولات «قاطيغورياس» في المنطق، وكتاب التفسير.
قد جاء أرسطو في أواخر عصر الزهو اليوناني، فجمع ما ولدته العقول اليونانية إلى أيامه من الآراء والأبحاث والاختبارات في العلم والفلسفة، ورتبها في كتب تعليمية توخى فيها الوضوح والسهولة، فعاشت تعاليمه أدهارا ولم تستغن عنها أمة من الأمم التي تمدنت في عصر اليونان أو بعدهم كالرومان والفرس والعرب وغيرهم، ولا يزال كثير منها مرعيا إلى اليوم.
مؤلفات أرسطو
ولمؤلفات أرسطو تاريخ غريب لا بأس من إيراده: لما دنا أجله عهد بكتبه ومسوداته إلى أكبر تلامذته ثيوفراستوس، وبعد 35 سنة توفي هذا وقد عهد بها وبكتبه هو إلى تلميذ اسمه نيليوس. فرحل هذا إلى وطنه سبسس في آسيا الصغرى فبقيت عنده حتى توفي، فخاف ورثته عليها من ملك برجامس حينئذ فأخفوها في مغارة بقيت فيها 187 سنة. فلما استخرجوها في رأس المائة الأولى قبل الميلاد، وجدوا بعضها قد تهرأ بالعفونة والرطوبة والبعض الآخر أكله الدود والعث، فباعوها صفقة واحدة إلى كتبي اسمه أبليكون فأرجعها إلى أثينا. فلما استولى سولا الروماني على أثينا سنة 86ق.م، كانت مكتبة هذا الرجل في جملة غنائم الرومانيين فنقلوها إلى رومية فتوصل إليها بعض اليونانيين المقيمين هناك فاشتغلوا في نسخها وضبطها. وأول المشتغلين في ذلك تيرانيون صاحب شيشرون. ثم تولى أندرونيكوس الرودسي تصحيحها وترميمها، ثم تناقلها الناس. فكل ما وصل إلى العالم من مؤلفات أرسطو إنما هو من تصحيح أندرونيكوس المذكور في أواسط القرن الأول قبل الميلاد.
على أنها ما لبثت أن ظهرت في العالم حتى تناولها الناس واشتغلوا فيها بين درس ونقل وترجمة وتلخيص وشرح ونقد. بدأ بذلك اليونان أنفسهم، ثم الرومان فالفرس فالعرب، فأهل العصور الوسطى في أوربا. فأهل أوائل التمدن الحديث، وخصوصا فلاسفة القرون الأولى لهذه النهضة. وكانت مدرسة الإسكندرية الآتي ذكرها تعلم الفلسفة بكتب ينسبونها إلى أرسطو وكتبه لا تزال مدفونة. فلما فتح الرومان الإسكندرية - وكانوا قد وقفوا على نسخ أندرونيكوس - اعتمدوا عليها دون سواها وأصبحت عمدة التعليم في رومية والإسكندرية على السواء. حتى ظهرت النصرانية، فبطل تعليمها في رومية وظل في الإسكندرية. ولما سعى قياصرة الروم في إزالة الوثنية من مملكتهم، بحثوا عن العلوم الوثنية وأبطلوها ومن جملتها كتب أرسطو إلا بعض كتبه المنطقية. على أنهم كانوا يعلمونها سرا، حتى جاء الإسلام وانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية أيام عمر بن عبد العزيز، فانتقلت إلى هناك وظل تعليمها محظورا لا يتعلمها إلا بعض اليهود أو الحرانيين لتقوى بها حجتهم على النصرانية.
الطب والنجوم
والطب أيضا من ثمار تلك النهضة على أثر الحرب المورية، وكان اليونان قبل ذلك يعالجون مرضاهم بالكهانة، وينسبون الأمراض إلى أعمال الشياطين والعلاج إلى أعمال الآلهة. وكان الفلاسفة يتكلمون في الطب باعتبار أنه فرع من العلم الطبيعي، ولم يستقل أحد منهم بالبحث فيه. وأول من رتب الطب وبوبه وبناه على أسس صحيحة أبقراط المتوفى سنة 357ق.م، ولذلك سموه أبا الطب. وهو من نتاج الحرب المورية، فقد نشأ في أثنائها ونبغ بعد انقضائها وسافر إلى سوريا، ولعله اطلع على طب البابليين والمصريين فأضافهما إلى طب اليونان وألف فيه الكتب. وأساس علاجه الاعتماد على الطبيعة، وكان يفصد ويحجم ويكوي ويحقن ويشخص الأمراض بالسماعة ويصف المسهلات النباتية والمعدنية. وله كتب في الطب كثيرة، ذكروا منها 87 كتابا ولم يثبت له منها إلا نحو العشرين، وسيأتي ذكرها فيما نقله المسلمون من كتب الطب إلى العربية. وما زالت كتب أبقراط معول الأطباء إلى العصر الحديث، وفيهم من شرحها أو فسرها أو ترجمها أو علق عليها. وممن اشتغل من اليونانيين في ترقية العلوم الطبية بعد أبقراط أرسطو وغيره من الفلاسفة العظام، فلما أنشئت مدرسة الإسكندرية على عهد البطالسة كان للطب شأن كبير فيها كما سيجيء.
وعلم النجوم - أو علم الفلك - قديم عند سائر الأمم، كما قد رأيت في كلامنا عن علوم العرب قبل الإسلام. أخذ اليونان مبادئ هذا العلم عمن سبقهم من أمم التمدن القديم، على يد الفينيقيين وتوسعوا فيه من عند أنفسهم. وكان النظر فيه من جملة أبحاث الفلاسفة، وأقدمهم طاليس المتقدم ذكره، وقل من جاء بعده من فلاسفة اليونانيين ولم يتعرض لهذا الفن، وأشهرهم فيه أنكسيمندر وأنكسيمينس وأنكساغوراس. وكان للقسم الإيطالي من بلاد اليونان عناية كبرى في النجوم، ومقدم فلاسفتهم فيه فيثاغورس الشهير المتوفى سنة 500ق.م، أخذ بعض هذا العلم من مصر وتوسع فيه وتبعه في ذلك كثيرون. ولا يكاد يخلو فيلسوف من فلاسفة اليونان من النظر في النجوم وأحكامها مما يطول شرحه. على أن هذا العلم بلغ قمة مجده في مدرسة الإسكندرية. ويقال نحو ذلك في سائر العلوم الرياضية كالحساب والهندسة، فقد اشتغل فيها الفلاسفة لكنها لم تنضج إلا في مدرسة الإسكندرية على يد أوقليدس. (ج) الدور الإسكندري
مدرسة الإسكندرية ومكتبتها
لم يكد اليونان يتخلصون من مصائبهم بالحروب المورية حتى انقض عليهم الرجل المقدوني العظيم «الإسكندر» فغلبهم على ما في أيديهم، ثم حمل بهم على العالم المتمدن في ذلك العهد، ففتح مصر وبنى فيها الإسكندرية واكتسح الشام والعراق وفارس إلى بلاد الهند. فأصاب العالم بتلك الحروب هزة انتفضت لها أعصابه واختلطت عناصره، فالتقى اليوناني بالفينيقي والمصري والفارسي والكلداني والهندي، وتحاكت الأفكار وتلامست المطامع وتقاطعت المصالح، وكان من أقل نتائجها:
أولا:
نشر علوم اليونان وآدابهم وتمدنهم في أمم الأرض.
ثانيا:
نقل علوم الفرس والكلدان وغيرهم إلى بلاد اليونان أو مصر. فقد ذكروا أن الإسكندر لما فتح إصطخر عاصمة الفرس خرب أبنيتها وشوه نقوشها ونسخ ما كان مجموعا من ذلك في الدواوين والخزائن هناك ونقله إلى اللسان اليوناني والقبطي. وبعد فراغه من نسخ حاجته منه أحرق ما كان مكتوبا بالفارسية، وأخذ ما كان يحتاج إليه من علم النجوم والطب والطبائع وبعث به وبسائر ما أصاب من العلوم والأموال والخزائن والعلماء إلى بلاد مصر.
189
ولما مات الإسكندر سنة 323ق.م، انقسمت مملكته بين قواده، فانتقل علماء اليونان من بلادهم للإقامة في مستعمراتهم الجديدة في مصر والشام والعراق، فابتنوا المدارس في الإسكندرية وأنطاكية وبيروت وغيرها، وكان حظ البطالسة في الإسكندرية أوفر من حظوظ سائر الدول اليونانية في الشرق في ترقية شؤون العلم والفلسفة. وكان بطليموس الأول - الملقب بسوتر - أول البطالسة عادلا محبا للعلم «حكم من سنة 306-285ق.م» فتقاطر إليه العلماء والفلاسفة من بلاد اليونان على اختلاف القبائل والأماكن، فأكرم وفادتهم ونشطهم في مواصلة البحث والدرس، وأطلق لهم الأموال فزادوا احتراما له ورغبة في العلم.
وكان من جملة المقربين إليه خطيب أثيني اسمه ديمتريوس فاليروس، أشار عليه بإنشاء مكتبة يجمع إليها الكتب من أنحاء العالم فأجابه إلى ذلك، وأنشأ مكتبة الإسكندرية الشهيرة التي بحثنا عن أسباب حرقها فيما تقدم. والظاهر أن الكتب التي بعثها الإسكندر من إصطخر وغيرها وضعوها في هذه المكتبة. وديمتريوس هذا هو الذي سماه ابن القفطي «زميرة»، وسبب الفرق تصحيف في النسخ. وبإشارته أيضا أنشأ سوتر المتحف أو النادي
Museum
على هيئة مدارس أوربا الجامعة، يجتمع فيه العلماء والأدباء والفلاسفة للدرس والبحث، وهو مدرسة الإسكندرية الشهيرة.
وكان البطالسة خلفاء سوتر يقتفون أثره في تنشيط العلم، وأكثرهم من العلماء وخصوصا فيلادلفوس «من سنة 285-247ق.م» فإنه أضاف إلى المكتبة ما لم يكن فيها من كتب العلم اليونانية وغير اليونانية، فابتاع الكتب وجمع كثيرا من مؤلفات اليهود والمصريين القدماء حتى لا ينقص هذه المكتبة علم ولا خبر، وخلفه بطليموس أورجيتس «سنة 247-222ق.م» فأضاف إلى المكتبة كثيرا من كتب الأدب والشعر والتمثيل مما وجدوه في خزائن أثينا، وفرض على كل من يقيم في الإسكندرية أو يمر بها من رجال العلم أن يقدم للمكتبة نسخة من كل ما يملكه من الكتب، فزهت الإسكندرية بالعلم ونبغ فيها العلماء في كل موضوع، حتى فاقت كل ما تقدمها أو عاصرها من مدن العالم القديم، وما زالت رافلة بالعلم والعلماء إلى ظهور الإسلام، أي عبارة عن نيف وتسعمائة سنة تقسم إلى مدتين:
الأولى:
يونانية تبتدئ بولاية سوتر وتنتهي بدخول مصر في حوزة الرومان سنة 30 قبل الميلاد.
والثانية:
رومانية تبتدئ من هذه السنة وتنتهي سنة 640م، لما فتحها ابن العاص.
وكان غرضها في المدة الأولى علميا أدبيا، وغايتها ترقية العلوم اليونانية وتوسيع نطاقها، وكانت المرجع العلمي الوحيد في تلك العلوم إلى أواخر القرن الثاني للميلاد، فأخذت تتقهقر لأسباب كثيرة ، أهمها فساد الحكومة واعوجاج الأحكام وظهور مدارس أخرى من نوعها في سوريا ورودس وغيرهما، فتحولت همم رجال العلم إلى بلاد العدل والحرية. فلما دخلت الإسكندرية في حوزة الرومان اتسعت شهرتها باتساع دولتهم، ولكن رغبة رجال العلم تحولت عنها إلى رومية. واتفق ظهور الديانة المسيحية واشتغال ذوي القرائح في إثباتها أو نفيها. ونظرا لتوسط الإسكندرية وقربها من ميدان الجدال اتخذت مدرستها خطة فلسفية دينية. فلمدرسة الإسكندرية بهذا الاعتبار عصران:
الأول:
يوناني علمي أدبي.
والثاني:
روماني فلسفي ديني.
العصر الإسكندري اليوناني من سنة 306-30ق.م
زهت الإسكندرية في عصرها الأول بمن انتقل إليها من جالية اليونان، على أثر ما أصاب بلادهم من الذل بعد ذهاب استقلالهم، وحملوا معهم كتب العلم والفلسفة والطب والشعر والأدب واللغة والتاريخ، غير ما جمعه البطالسة من الكتب الأخرى كما تقدم، فأقام اليونانيون في الإسكندرية على الرحب والسعة في ظل حكومة يونانية وعادات وآداب يونانية، لكنهم كانوا قد أضاعوا أنفة الاستقلال وروح الحرية، لتقيد عواطفهم وشعائرهم بالحكم المطلق الذي لا يقترب منه إلا المتزلفون، ففسدت القرائح وضاقت العقول، فاشتغل يونانيو الإسكندرية في الشعر والخطابة والتاريخ والميثولوجيا، لكنهم لم يجيدوا شيئا منها مثل إجادتهم في أثينا والمورة وساقس وغيرها، ناهيك بانصراف الأذهان إلى العلوم الطبيعية والرياضيات، وقد كان لهذه العلوم حظ وافر في تلك المدرسة، فنبغ فيها جماعة من علماء الفلك والطب والهندسة والجغرافية، وإن كانت مؤلفاتهم في الغالب مبنية على مؤلفات القدماء أو شروحها لها.
الرياضيات
نبغ إقليدس الصوري المولود سنة 323ق.م، وقد طلب العلم في بلاد اليونان وأتقن الرياضيات بنوع خاص، وكانت الإسكندرية قد دخلت في حكم البطالسة وأفضت الحكومة إلى بطليموس فيلادلفوس، فاستقدمه إليه في جملة من استقدمهم من رجال العلم، ووسع له الرزق وأمره بتدريس الهندسة وكان فيلادلفوس أول من تلقاها عنه، وهناك ألف كتابه المعروف بأصول إقليدس ولا يزال عليه المعول في هذا الفن إلى اليوم، وقد نقل إلى كل لغات العالم المتمدن.
ونبغ من الرياضيين بعد إقليدس أرخميدس - أو أرشميدس - الصقلي المولود سنة 287 قبل الميلاد، وجاء مدرسة الإسكندرية وتلقى فيها الرياضيات وعاد إلى بلاده، وكان ملكها يحترمه فقربه إليه، وكان في حرب ضد الرومان فأعانه من علمه بما لم يستطعه القواد بسيوفهم، ولكنه ذهب ضحية تلك المساعي، فقتله بعض جنود الرومان في أثناء الفتح وهو لا يعرفه.
ولأرخميدس اكتشافات مهمة في النواميس الطبيعية المتعلقة بالهندسة أو الحساب، وذكروا له من الكتب كتابا في الكرة والأسطوانة، وآخر في تربيع الدائرة وتسبيعها والدوائر المماسة والمثلثات والخطوط المتوازية والمأخوذات والمفروضات.
190
ثم نبغ أبولونيوس المولود سنة 250ق.م صاحب الأبحاث في قطع المخروط، وهيبارخوس المتوفى سنة 125ق.م مؤسس الرأي الفلكي للسماوات، واشتغلوا في أثناء ذلك بالجغرافية الرياضية، وأول من كتب فيها أراتستين المتوفى سنة 195ق.م، وهو أول من وضع جداول أسماء الملوك الفراعنة وأول من قاس الأرض.
ثم ظهر بطليموس القلوذي الشهير في أواسط القرن الثاني بعد الميلاد، فأخذ رأي هيبارخوس وبنى عليه كتاب المجسطي الذي كان عليه المعول في مدارس العالم إلى عهد غير بعيد. ومن أقوالهم: «لا يعرف كتاب ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزائه غير ثلاثة: كتاب المجسطي في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، وكتاب أرسطوطاليس في صناعة المنطق، وكتاب سيبويه في النحو»
191
ومن مؤلفات بطليموس المذكور كتاب الأربعة، وكتاب الحرب والقتال، وكتاب الجغرافية في المعمور وغيرها.
واشتغل علماء الإسكندرية خصوصا برصد الأفلاك واستخراج الأزياج، وكان عندهم مرصد يرصدون منه الأجرام، وظل هو المرصد الوحيد في العالم إلى أيام الإسلام.
الطب
أما الطب فقد كان يعلم في مدرسة برجامس، فلما زهت مدرسة الإسكندرية توجهت الأنظار إليها وكثر طلبة الطب فيها، وكانت عمدة التدريس فيها على مؤلفات أبقراط، لكنهم اشتغلوا خصوصا في فن التشريح حتى فاقوا فيه سائر مدارس الطب في ذلك العهد، واشتهر فيها أثناء العصر اليوناني طبيبان لكل منهما مذهب في الطب والعلاج وهما: هيروفيلوس، وأراسستراتس. الأول من خلقيدونة، وتلقى العلم في مدارس اليونان واشتغل خصوصا في التشريح، وألف كتبا وافق أبقراط في أكثرها، ويعدونه في المنزلة الأولى بعده. أما الثاني فكان معاصرا لهيروفيلوس، وهو من أنطاكية وجاء الإسكندرية للتبحر في علم التشريح، وله مؤلفات ذهب فيها مذهبا غير مذهب هيروفيلوس، فكان لكل من هذين الطبيبين تلامذة يؤيدون رأيه، وأصحاب هيروفيلوس ينصرون أبقراط والآخرون ضده. وظل المذهبان إلى القرن الثاني بعد الميلاد، وقد مهد الأرستراتيون الطريق للتدجيل الذي شاع بعدئذ في الأجيال المظلمة.
انقضى عصر مدرسة الإسكندرية اليوناني وبعض العصر الروماني والأطباء فئتان لهما مذهبان متناقضان، حتى ظهر جالينوس القلوذي المولود في برجاموس سنة 130م. تلقى أصول العلم على أبيه ثم شرع في درس الطب هناك، وسافر سنة 150م إلى أزمير، ثم قدم إلى الإسكندرية لإتقان فن التشريح، وطاف بلادا أخرى في طلب العلم حتى عاد سنة 158م. إلى برجاموس وسافر سنة 164 إلى رومية وهي آهلة بالعلماء، واتفق له معالجة بعض كبار القوم وشفاؤهم على يديه فذاع صيته وسموه «الطبيب العجيب»، فحسده زملاؤه فرجع إلى بلاده سنة 168، ثم تمكن من الرجوع إلى رومية وخدم بعض أباطرتها حتى توفي سنة 200م، وله مؤلفات عديدة في الطب أشهرها يعرف بالكتب الستة عشر، وبعضها يعرف بأسماء خاصة حسب موضوعاته، وسيأتي ذكرها في جملة ما نقل من كتب الطب إلى العربية. وجالينوس ليس من أهل العصر الإسكندري اليوناني الذي نحن بصدده، وإنما ذكرناه استيفاء للكلام في تاريخ الطب.
العصر الإسكندري الروماني من سنة 30ق.م-640م
هو العصر الإسكندري الثاني، ويبتدئ في الحقيقة قبل الفتح الروماني بنصف قرن، أي منذ دخول أثينا في حوزة الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، فإن قائدهم «سولا» - بعد أن فتح أثينا - حمل منها إلى رومية أحمالا من كتب العلم والفلسفة كما تقدم، فانتقل العلم من ذلك الحين من أثينا إلى رومية، ولما أسس أوغسطس قيصر المكتبة الشهيرة في رومية قسمها إلى قسمين: لاتيني ويوناني. ولم ترث رومية كتب أثينا فقط ولكنها ورثت علماءها وفلاسفتها أيضا، فأصبح اليونان أنفسهم إذا أرادوا التبحر في العلم رحلوا إلى رومية، وليس من شأننا الآن البحث في آداب الرومان ...
فمدرسة الإسكندرية أخذت في الانحطاط قبل دخولها في حوزة الرومان، فلما صارت رومانية زادت ضعفا. وكانت علومها قد تغيرت وجهتها وانحصرت في الفلسفة؛ لأن الإسكندرية ما برحت منذ تأسيسها وفيها جماعة من اليهود، نزحوا إليها كعادتهم في الرحيل للارتزاق أو فرارا من الاضطهاد، فآنسوا في الإسكندرية ترحابا وراحة فتكاثروا. فترتب على اختلاطهم باليونان وتمازج الأذواق والأبحاث تطور مهم في الفلسفة والدين؛ لأن اليهود أهل توحيد ووحي وتقليد، واليونان أهل فلسفة ومنطق وخرافات دينية، فأدى التمازج إلى التقارب وزاد ذلك بظهور النصرانية. ولما تأيدت النصرانية واعتنقها اليونان أخذوا في تطبيق فلسفتهم على الدين، فتولد من ذلك ما يسمونه الفلسفة الأفلاطونية الجديدة
Neo-Platonic
والفلسفة الفيثاغورية الجديدة
Neo-Pythogoric ، وجملة القول إن العصر الإسكندري الثاني قلما أفاد العلم؛ لأن أبحاثه كانت غايتها فلسفية دينية.
ومما اختصت مدرسة الإسكندرية في ترقيته من العلوم:
أولا:
التشريح؛ لأن المصريين كانوا يفتحون الجثث لأجل تحنيطها فسهل عليهم درس فن التشريح بها.
ثانيا:
علم الكيمياء؛ لأنه كان في مصر قبل دخولها في سلطة اليونان، ولما أنشئت مدرسة الإسكندرية اشتغل علماؤها في درس هذا العلم وجمعوا ما كان عند الأمتين في علم واحد.
وظلت مدرسة الإسكندرية مركز التدريس في الشرق إلى أواخر القرن الأول للهجرة، حتى نقله عمر بن عبد العزيز إلى مدرسة أنطاكية فمدرسة حران وغيرها من مدارس تلك الأيام.
192
العصر البيزنطي من سنة 529-1453م
سمي هذا العصر بالبيزنطي نسبة إلى بيزنتيوم (القسطنطينية)؛ لأن آداب اللغة اليونانية هناك كان لها فيه شأن خاص، فلا بأس من الإشارة إلى ما يهمنا منه. ويقال بالإجمال إن الآداب اليونانية قلما تقدمت في تلك العاصمة، مع أن العلم كان في خزائنها كما كان في خزائن الإسكندرية، وخصوصا بعد موت جستنيان. فلما قامت الخصومة على الأيقونات كان من جملة نتائجها إعدام الكتب وإهمال العلم، واقتصر النوابغ فيها على ما لا يحتاج إلى مواهب خاصة، أو إلى بحث أو نظر، فكانوا إذا نشأ أحد القياصرة وأراد التشبه بمنشطي العلم القدماء رغب الناس في المطالعة والتأليف. وتأليفهم عبارة عن تلخيص القديم أو شرحه أو جمعه على شكل الموسوعات، وقد يفعل القيصر نفسه ذلك. فإن قسطنطين السابع (905-959م) كان محبا للعلم مشتغلا بالتأليف، فألف كتبا متسلسلة في تاريخ الحكومة ونظامها. وكذلك كانوا يفعلون في سائر الموضوعات الأدبية، كالتاريخ والشعر واللغة، بدون نقد ولا نظر كما فعل مؤلفو العرب بعد ذلك مثل هذه الحال. أما الفلسفة فتحولت عندهم إلى اللاهوت؛ لأن علماء النصرانية استخدموا الأدلة الفلسفية لإثبات العقائد أو الآراء الدينية في مجادلاتهم أو في مواعظهم، على نحو ما قدمناه عن الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. وممن اشتهر في هذا الشأن يوحنا الدمشقي (718-741م) صاحب المؤلفات الكثيرة في الدين والفلسفة وغيره مما لا حاجة بنا إلى ذكره. (4-3) آداب اللغة الفارسية قبل الإسلام
الفرس من الشعوب الآرية إخوان الهنود واليونان، وهم أمة قديمة حاربت اليونان قبل المسيح ببضعة قرون، فجردت على بلادهم جيشا قد يمتنع على أعظم دول الأرض اليوم حشده ونقله بمهماته ومؤونته من أواسط آسيا إلى البحر الأبيض، فكيف منذ بضعة وعشرين قرنا؟ فالدولة التي هذا مبلغ قوتها لا تخلو من أدب وعلم، والفرس أهل ذكاء وتعقل، وفيهم استعداد فطري لأسباب التمدن، فلا بد من إجادتهم نظم الشعر على نحو ما فعل إخوانهم الهنود في المهابهاراتة ونحوها، وإن كان ما وصل منه إلينا قليلا. ناهيك بالعلوم القديمة التي هي من قبيل الطبيعيات والرياضيات كالنجوم والأنواء، فقد أحرزوا شيئا منها وخصوصا لأنهم ورثوا البابليين والآشوريين واحتكوا باليونان وهم في إبان تمدنهم واختلطوا بجيرانهم الهنود، وكانوا يعرفون الكتابة وينقشونها على الأحجار باللغة الفهلوية، ويؤيد ذلك ما جاء في كتب الأخبار عن فتح الإسكندر بلاد فارس، وما عثر عليه في عاصمتهم إصطخر من خزائن الكتب فاستنسخها وأحرقها كما تقدم، وفيها ما كان قد جمعه الفرس من علوم الهند والصين إلى تلك الأيام.
وليس ذلك كل ما كان عند الفرس من كتب العلم، فقد عثروا في أوائل القرن الرابع للهجرة على مخابئ في رستاق جي بفارس، هي عبارة عن أزج معقود بالحجارة فوجدوا هناك كتبا كثيرة مكتوبة في لحاء التوز، وفيها أصناف من علوم الأوائل باللغة الفارسية القديمة (الفهلوية) وقد تبين من قراءتها: «أن طهمورث الملك المحب للعلوم والعلماء خاف الأمطار على كتب العلم فأودعها ذلك الرستاق» وهي كتب نفيسة في علم النجوم وعلل حركاتها مما كان عند الفرس والروم والكلدان.
193
وعثروا نحو ذلك الزمن أيضا على أزج آخر انهار فانكشف عن كتب كثيرة لم يهتد أحد إلى قراءتها.
والظاهر أن عادة حبس الكتب في المغارات أو نحوها كانت شائعة في ذلك الزمان. قال ابن النديم: «والذي رأيته أنا بالمشاهدة أن أبا الفضل بن العميد أنفذ إلى هنا في سنة نيف وأربعين (وثلاثمائة) كتبا متقطعة أصيبت بأصفهان في سور المدينة في صناديق، وكانت في اليونانية فاستخرجها أهل هذا الشأن مثل يوحنا وغيره، وكانت أسماء الجيش ومبلغ أرزاقهم ... إلخ».
على أن الشائع من علوم الفرس لم يكن يتجاوز بعض الأشعار والأخبار وكتب العقائد والأديان إلى أيام سابور بن أردشير من الدولة الساسانية في أواسط القرن الثالث للميلاد. وفي أيامه ظهرت طائفة المانوية، ونشبت بين سابور والروم حروب انتهت بنصرته، وقد حمل معه عددا كبيرا من أسراهم إلى بلاده، فأنشأ لهم في الأهواز مدينة سماها جنديسابور نسبة إليه، وأكرم وفادتهم فحببوا إليه العلم فعمل على استرجاع علوم الفرس من اليونان أو الاستعاضة بمثلها، فبعث إلى بلاد اليونان فاستجلب كتب الفلسفة وأمر بنقلها إلى الفارسية
194
واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسخها ودراستها.
فلما تولى كسرى أنوشروان العادل (من سنة 531-578) فتح للفرس مورد جديد للعلم والفلسفة بما كان من اضطهاد جستنيان قيصر الروم للفلاسفة الوثنيين على أثر إقفاله الهياكل والمدارس الوثنية، وكانت الفلسفة الأفلاطونية الجديدة قد نضجت، ففر بعض أصحابها من وجه الاضطهاد وتفرقوا في العالم، وجاء منهم سبعة إلى أنوشروان فأكرم وفادتهم، وأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية، فنقلوا المنطق والطب
195
وألفوا فيهما الكتب فطالعها هو ورغب الناس فيها. وعقد المجالس للبحث والمناظرة كما فعل المأمون بعده بقرنين وبعض القرن، حتى خيل لليونان الذين جالسوا أنوشروان أنه من تلامذة أفلاطون، والمظنون أن تلك الفلسفة كانت أساسا لتعاليم الصوفية التي نشأت بعد ذلك.
ولم يقتصر أنوشروان على نقل علوم اليونان إلى لسانه ولكنه نقل علوم الهنود أيضا من السنسكريتية إلى الفارسية
196
وأنشأ في جنديسابور مارستانا (مستشفى) لمعالجة المرضى وتعليم صناعة الطب، استقدم إليه الأطباء من الهند وبلاد اليونان، وكانوا يعلمون فيه الطبين: الهندي والأبقراطي، فجمع بين الحسنيين. وبلغ المارستان من الشهرة ما لم يسبق له مثيل، وكان له شأن كبير بعد الإسلام كما سيأتي.
وجملة القول أن الفرس اشتغلوا قبل الإسلام في الفلسفة والطب، وتثقفت عقولهم وذاع صيتهم وكان لهم اطلاع خاص في علم النجوم وأحكام الأفلاك، مما توارثوه عن أسلافهم أو نقلوه عن جيرانهم. وقد زها العلم عندهم في أيام أنوشروان العادل، والعلم لا يزهو إلا في ظل العدل والحرية. (4-4) آداب اللغة السريانية قبل الإسلام
السريان بقايا الكلدان أو البابليين القدماء، الذين أنشأوا تمدنا ووضعوا علوما هامة ورصدوا الكواكب واخترعوا المزاول ووضعوا أسس الطب قبل الميلاد بقرون، ثم دالت دولتهم واستولى الفرس على بلادهم فذهب علمهم بذهاب حريتهم، حتى إذا قامت النصرانية وانتشر دعاتها في البلاد وافترقت إلى طوائف ومذاهب، كان للسريان حظ كبير من كل ذلك وكان لهم تأثير ذو شأن في تاريخ النصرانية.
وإنما يهمنا في هذا المقام ما كان عندهم من العلم والفلسفة. وهم في ذلك تلامذة اليونان؛ لأنهم تعلموا فلسفتهم وطبهم وسائر علومهم، كما تعلمها الرومان قبلهم واقتبسها الفرس معهم وكما تعلمها المسلمون بعدهم. والسريان أهل ذكاء ونشاط، فكانوا كلما اطمأنت خواطرهم من مظالم الحكام وتشويش الفاتحين انصرفوا إلى الاشتغال بالعلم، فأنشأوا المدارس للاهوت والفلسفة واللغة، ونقلوا علوم اليونان إلى لسانهم وشرحوا بعضها ولخصوا بعضا. ومنهم خرج أكثر الذين ترجموا العلم للعباسيين وأكثرهم من النساطرة كما سيجيء. ونقتصر هنا على ذكر اشتغالهم بالعلم لأنفسهم.
كان للسريان فيما بين النهرين نحو خمسين مدرسة، تعلم فيها العلوم بالسريانية واليونانية، أشهرها مدرسة الرها وفيها ابتدأ السريان يشتغلون بفلسفة أرسطو في القرن الخامس للميلاد. وبعد أن تعلموها أخذوا في نقلها إلى لسانهم، فنقلوا المنطق في أواسط القرن المذكور. ثم أتم دراسة المنطق سرجيس الرأس عيني الطبيب المشهور، وفي المتحف البريطاني بلندن نسخ خطية من ترجمته الإيساغوجي إلى السريانية، وكذلك مقولات أرسطو لفرفوريوس، وكتاب النفس وغيرها، وقد نشر بعضها من عهد قريب.
وفي أوائل القرن السابع للميلاد اشتهرت مدرسة قنسرين على الفرات بتعليم فلسفة اليونان باللغة اليونانية، وتخرج منها جماعة كبيرة من السريان وفي جملتهم الأسقف ساويرس، فقد انقطع فيها لدرس الفلسفة والرياضيات واللاهوت. ولما تمكن من تلك العلوم نقل بعضها إلى السريانية، ولا تزال بعض ترجماته في الفلسفة محفوظة في المتحف البريطاني. وقد أتمها بعده تلميذه يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السرياني ومن تلامذة أثناسيوس جورجيوس المعروف بأسقف العرب (686م) فقد ترجم بعض كتب أرسطو. واشتغل جماعة آخرون في ترجمة كتب أفلاطون وفيثاغورس وغيرهما مما يطول شرحه. واشتهرت هناك مدارس أخرى كمدرسة نصيبين التي كان عدد تلامذتها نحو ثمانمائة، وكانت تعلم فيها كل العلوم العقلية والنقلية.
أما الطب فقد كان لهم فيه حظ وافر أثر إنشاء مارستان جنديسابور، واشتهر فيهم من أهل هذه الصناعة كثيرون، منهم سرجيس الرأس عيني المتقدم ذكره، وأتاتوس الآمدي، وسمعان الطيبوتي، والأسقف غريغوريوس، والبطريرك ثيودوسيوس، وغيرهم من الأطباء الذين أدركوا الدولة العباسية وخدموها.
وقد نقل أطباء السريان كثيرا من كتب الطب من اليوناني إلى السرياني، حتى في أثناء اشتغالهم بنقلها إلى العربية؛ لأنهم كثيرا ما كانوا ينقلونها إلى السريانية فقط أو إلى السريانية والعربية معا. فسرجيس ترجم بعض كتب جالينوس إلى السريانية، ثم نقلها في الإسلام موسى بن خالد إلى العربية
197
والطيبوتي ألف في أواخر القرن السابع للميلاد كتابا في الطب، وترجم غير كتاب، ناهيك بما كان من مؤلفات آل بختيشوع وآل حنين وغيرهما.
ولهم في النجوم مؤلفات كثيرة، لتسلسل هذا العلم فيهم عن آبائهم الكلدانيين، فإن البرديصاني له كتاب في النجوم لم يصل إلينا غير خبره، وألف الرأس عيني في تأثير القمر وحركة الشمس. وألف السبكتي في صور الأبراج. وممن ألف في النجوم أيضا يعقوب الرهاوي المتقدم ذكره، وداود البيت رباني وموسى بن كيفا وعمونيل البرشهاري وغيرهم.
واشتغل السريان أيضا في الكيمياء والحساب والرياضيات، فضلا عن اشتغالهم في لغتهم وضبط قواعدها وحركاتها. والمشهور أنهم اقتبسوا قواعد النحو عن اليونان، وحركات أحرفهم عبارة عن أحرف يونانية صغيرة توضع فوق الحروف أو تحتها. وقد استغرقوا في آداب اللغة اليونانية وشعرها، فترجموا الإلياذة والأوذيسة إلى لسانهم. ترجمها ثيوفيل الرهاوي سنة 875م وقد ضاعت الترجمة ولم يبق منها إلا بيتان. ويقال إنهم تنبهوا لاستخدام الحروف اليونانية مكان الحركات لما أراد ناظم الإلياذة ضبط الأعلام اليونانية فيها. وذلك غير النقط التي كانت تقوم عندهم مقام الحركات، وقد تقدم ذكرها في كلامنا عن حركات الخط العربي. ولا تزال الحركات عند السريان النقط والأحرف اليونانية إلى اليوم، الأولى شائعة عند السريان الشرقيين، والثانية عند الغربيين. (4-5) آداب اللغة الهندية قبل الإسلام
الهنود أمة قديمة، والطبقة العليا منهم إخوان الفرس واليونان، وقد نظموا الملاحم ودونوا الأخبار شعرا من قديم الزمان، ولهم آداب خاصة وتواريخ خاصة تولدت عندهم بتوالي القرون، كما يستدل من مراجعة تواريخهم ودرس أحوالهم. حتى أنه كثيرا ما كان ملوك الفرس يستعينون بأطباء الهنود، كما فعل أنوشروان في مارستان جنديسابور، وكما وقع للخلفاء العباسيين في أوائل نهضتهم، فإنهم كانوا يستقدمون الأطباء من الهند ويستشيرونهم في أمراضهم، بعد أن تفرغ حيل أطباء الفرس والسريان في معالجتهم؛ لأن للطب الهندي طرقا غير ما للطب اليوناني أو الفارسي، وقد اشتهر منهم عدة أطباء ألفوا في الهندية، ونقل المسلمون بعض كتبهم إلى العربية كما سيجيء، ومنهم كنكة وصنجهل وشاناق وغيرهم.
وكانت لهم معرفة حسنة بالنجوم ومواقعها وأبراجها، ولها أسماء خاصة بلسانهم، وكان لهم فيها ثلاثة مذاهب: مذهب الأرجهير، ومذهب الأركند، ومذهب ثالث يقال له بالسنسكريتية سدهنتا
Siddhanta
وهو عبارة عن زيج ذكروا فيه آراءهم في حركات الكواكب، وهو الذي وصل إلى العرب ونقلوه إلى لسانهم وسموه السندهند. والهنود هم الذين اخترعوا الأرقام، وعنهم أخذها العرب، ولهم طرق خاصة في الحساب اكتسبها العرب عنهم. وكان لهم معرفة بفن الموسيقى، ولهم فيها كتب ترجم المسلمون بعضها إلى العربية وسيأتي ذكرها. (5) الخلاصة
هذه حال العلوم في العالم وبعض نواحي المملكة الإسلامية لما عزم المسلمون على نقلها إلى العربية، وقد رأيت أن أكثرها يونانية الأصل، وضعها اليونان في أيام وثنيتهم مع ما اقتبسوه من الأمم التي تمدنت قبلهم. ثم تنوعت بالنصرانية وبانتقالها إلى الفرس والسريان، على مقتضيات آداب تلك الأمم وعاداتهم.
وكان العراق على الخصوص حافلا بالعلماء، وفيهم الأطباء والفلاسفة والمنجمون والحساب وغيرهم، ممن تجمعوا من بلاد فارس وما بين النهرين، وفيهم السريان والفرس والروم والهنود. فلما أراد الخلفاء نقل تلك العلوم إلى لسانهم وجدوا بين ظهرانيهم من يلبي الطلب ويفي بالغرض. (5-1) العلوم الدخيلة (ما الذي حملهم على طلبها؟)
قد رأيت فيما كتبناه عن «العرب والقرآن والإسلام» أن المسلمين كانوا يعتقدون في الصدر الأول «أن الإسلام يجب ما قبله»، وأنه «لا ينبغي أن يتلى غير القرآن»، وبناء على ذلك هان عليهم إحراق ما عثروا عليه من كتب اليونان والفرس في الإسكندرية وفارس. ثم اشتغلوا عن طلب تلك العلوم بما احتاجوا إليه في صدر الإسلام من أسباب إنشاء الدولة، فأصبحوا لا عناية لهم إلا بالقرآن وأحكامه وما ترتب عليه من العلوم الإسلامية في الفقه واللغة والمغازي وسير الفتح ونحو ذلك. وكان أهل البلاد الأصليون من الروم والفرس يحببون إلى الخلفاء الاشتغال بعلوم الأوائل، وخصوصا الطب والفلسفة وهم لا يصغون ولا يقبلون. يحكى أن ماسرجويه البصري من معاصري مروان بن الحكم كان عالما في الطب، وهو سرياني الجنس يهودي المذهب، وكان في أيامه كتاب في الطب هو كناش (حاوي) من أفضل الكنانيش ألفه القس أهرون بن أعين في اللغة السريانية فنقله ماسرجويه إلى العربية. فلما تولى عمر بن عبد العزيز وجد هذا الكتاب في خزائن الكتب في الشام، فحرضه بعضهم على إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به. فاستخار الله في ذلك أربعين يوما ثم أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم
198
ويدلك ذلك على التردد الذي استولى على الخليفة في إخراج هذا الكتاب مع أنه من كتب الطب وليس الفلسفة.
ولما اتسع سلطان المسلمين وفرغوا من إنشاء العلوم الإسلامية - وقد تأيدت دولتهم وذهبت عنهم السذاجة والغفلة عن الصناعات، وأخذوا في أسباب الحضارة بالحظ الوافر وتفننوا في الصناعات والعلوم - تشوقوا إلى الاطلاع على العلوم الفلسفية بما سمعوه من الأساقفة والقساوسة وهان عليهم ذلك بالإسناد إلى الحديث النبوي القائل: «الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها ممن سمعها ولا يبالي في أي وعاء خرجت»، وقوله: «خذوا الحكمة ولو من ألسنة المشركين»،
199
و«طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»، و«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، و«اطلبوا العلم ولو بالصين».
200
على أنهم لم يقدموا على طلبها دفعة واحدة وإنما طلبوها تدريجا تبعا لمقتضيات الأحوال. (5-2) أول من اشتغل بها
أقدم من اشتغل من العرب بهذه العلوم النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي، وهو ابن خالة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان قد رحل إلى بلاد فارس وغيرها كأبيه الحارث الطبيب الشهير في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، واجتمع بالعلماء وعاشر الأحبار والرهبان وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة وتعلم من أبيه صناعة الطب. وكان يجاري أبا سفيان في عداوة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ثقفي، وكان بنو ثقيف حلفاء بني أمية. فكان النضر كثير الأذى للنبي
صلى الله عليه وسلم ، يتكلم فيه بأشياء كثيرة. ثم وقع النضر أسيرا في واقعة بدر، فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم
بقتله وذهب خبره.
201
على أن النضر اقتصر من تلك العلوم على المطالعة ولم ينقل منها شيئا إلى العربية. أما أول من اشتغل في نقلها فخالد بن يزيد الأموي المتوفى سنة 85ه حفيد معاوية الأكبر، ويسمونه حكيم آل مروان. وكان طامعا في الخلافة بعد وفاة أخيه معاوية الثاني، فغلبه على ذلك مروان بن الحكم وانتقلت به الخلافة من بيت أبي سفيان إلى بيت مروان. فلما يئس خالد من الخلافة - وهو ذو مطامع وذكاء - انصرف ذهنه إلى اكتساب العلى بالعلم. وكانت صناعة الكيمياء رائجة يومئذ في مدرسة الإسكندرية، فاستقدم جماعة منهم راهب رومي اسمه مريانوس طلب إليه أن يعلمه صناعة الكيمياء، فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية، فنقلها له رجل اسمه إصطفان القديم
202
وهذا أول من نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.
وكان خالد راغبا في علم النجوم أيضا، وأنفق الأموال في طلبه واستحضار آلاته، ولعلهم ترجموا له شيئا منه لم يصلنا خبره. على أن بعض الذين اطلعوا على مكتبة القاهرة في أواسط القرن الرابع للهجرة شاهدوا فيها كرة من نحاس من عمل بطليموس وعليها مكتوب: «حملت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية».
203
ويلي نقل خالد للكيمياء نقل ماسرجويه - أو ماسرجيس المتقدم ذكره - لكناش أهرون من السرياني إلى العربي، وهو ثلاثون مقالة زاد عليه ماسرجويه مقالتين.
204 (6) نقل العلوم في العصر العباسي (6-1) المنصور والنجوم والطب
أول الخلفاء العباسيين السفاح، ولم يعن بشيء من العلم لقصر مدة حكمه، ثم أفضت الخلافة إلى أخيه المنصور (سنة 136-158ه) وكان شديدا حازما كثرت في أيامه الفتوح فاضطر إلى حروب كثيرة، وقد طالت مدة حكمه لكنه قضى معظمها في تثبيت دعائم دولته وبناء مدينته «بغداد». (أ) النجوم
وكان المنصور مع براعته في الفقه ميالا إلى التنجيم لا يكاد يعمل عملا إلا استشار المنجمين فيه، وهو أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم
205
واقتدى به أكثر الذين خلفوه. وكانت صناعة النجوم رائجة عند الفرس، ونبغ فيها جماعة تقربوا بها إليه أشهرهم نوبخت المنجم الفارسي - كان مجوسيا وأسلم على يده، وكان بارعا في اقترانات الكواكب وحوادثها، وكان يصحب المنصور حيثما توجه. ولما ضعف عن خدمته قال له المنصور: «أحضر ولدك ليقوم مقامك» فأحضره وهو أبو سهل بن نوبخت
206
وتوالى آل نوبخت في خدمة العباسيين، وترجموا لهم كتبا في الكواكب وأحكامها، وكانوا فضلاء ولهم رأي ومشاركة في علوم الأوائل.
وخدم المنصور أيضا في النجوم إبراهيم الفزاري المنجم وابنه محمد، وعلي بن عيسى الأسطرلابي المنجم.
207
ونظرا لكلف المنصور بحركات الكواكب وحبه الاطلاع عليها قصده أصحابها من بلاد فارس والهند والروم، وفي جملتهم رجل من الهند بارع في حساب السدهنتا المتقدم ذكره جاءه سنة 156ه وعرض عليه كتابا في النجوم مع تعاديل معمولة على مذاهب الهند، فأمر المنصور أن ينقل هذا الكتاب إلى العربية، وأن يؤلف فيه كتاب يتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري وعمل منه كتابا سماه المنجمون «السندهند الكبير» وظل أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام المأمون.
208
فاهتم الناس من ذلك الحين بعلم النجوم ومتعلقاتها، وجرهم النظر في الأفلاك إلى الهندسة، فكتب المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات
209
ولعل المجسطي من جملتها؛ لأنه في النجوم. والظاهر أن ترجمة هذه الكتب لم تكن مضبوطة؛ لأننا رأينا إقليدس والمجسطي في جملة ما ترجم للرشيد والمأمون. وجملة القول أن رغبة المنصور في النجوم دعت إلى ترجمة بعض كتب النجوم وما يتعلق بها. (ب) الطب
ومما اهتموا بنقله من العلوم الطبيعية في أيام المنصور الطب. والسبب في ذلك أن المنصور أصابه في أواخر أيامه (سنة 148ه) مرض في معدته فانقطعت شهوته، وكان الأطباء القائمون في خدمته يعالجونه ولا يجدي علاجهم نفعا. فجمعهم يوما وقال لهم: «هل تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيبا ماهرا؟» فقالوا: «ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجيس رئيس أطباء جنديسابور». وهو جورجيس بن بختيشوع السرياني، فقد كان ماهرا في الطب وله فيه مصنفات باللغة السريانية، وكان من الذكاء والفضل على جانب عظيم، حتى أصبح رئيس أطباء مارستان جنديسابور أشهر مدارس الطب في تلك الأيام. فبعث المنصور في طلبه على عجل، فلما جاء الرسول إلى جورجيس أراد استمهاله فهدده بالقتل إذا أبطأ. فعهد بأمر المارستان إلى ابنه بختيشوع، واصطحب اثنين من تلامذته هما إبراهيم وعيسى بن شهلا وركب إلى بغداد. فلما وصل استقدمه المنصور إليه فدخل ودعا له بالفارسية والعربية. وكان جورجيس ذا هيبة ووقار وفصاحة، فوقع عند المنصور موقعا حسنا فأجلسه أمامه وسأله بعض الأسئلة فأجابه عليها بسكون، فازداد إعجابا به فأخبره عن علته من ابتدائها. فقال له جورجيس: «أنا أدبرك كما تحب» فخلع عليه وأنزله في قصر خاص وأمر بإكرامه. ورجع في الغد ونظر في قارورة الماء (زجاجة البول) ودبره تدبيرا لطيفا، فشفي ورجع إلى مزاجه فازداد فرحه به ومنعه من الرجوع إلى بلده. ومما زاده رغبة فيه أنه رآه عفيفا صادقا في تدينه. وكان المنصور قد علم أن جورجيس خلف امرأته في جنديسابور وليس عنده في بغداد من يخدمه، فأرسل إليه ثلاث جوار روميات وثلاثة آلاف دينار فقبل الدنانير ورد الجواري، فلما عاتبه المنصور في الغد أجابه: «إننا معشر النصارى لا نتزوج إلا بامرأة واحدة، وما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها»
210
فحسن موقع ذلك عند المنصور وأطلق له الدخول إلى حظاياه وحرمه ليطببهن، وتعلق به تعلقا شديدا.
وكان جورجيس محبا للتأليف كما رأيت، وكان يعرف اللغة اليونانية فضلا عن السريانية والفارسية والعربية. فلما رأى وثوق المنصور به نقل له كتبا طبية من اليونانية إلى العربية، غير ما ألفه في السريانية. أما التأليف في الطب فقد سبقه إليه أكثر الأطباء الذين خدموا المسلمين على عهد بني أمية. وكان الطبيب إذا خدمهم ألف لنفسه أو لولده أو لأحد تلامذته كتابا أو غير كتاب في الفن الذي يتعاطاه. والغالب أن يؤلفوا الكنانيش، كالكناش الذي ألفه ثياذوق المتوفى سنة 90ه طبيب الحجاج، ألف لابنه وألف له أيضا كتابا في الأدوية ومعالجتها. وتوالى آل بختيشوع في خدمة العباسيين وخدموا الطب والعلم في ظلهم خدمة نافعة.
فالمنصور أول من عني بنقل الكتب القديمة، ولكنه اقتصر منها على النجوم والهندسة والطب. وفي أيامه ترجم ابن المقفع كليلة ودمنة. وأما الفلسفة والمنطق وسائر العلوم العقلية فترجمت في أيام المأمون. وقد ذكر صاحب الفهرست أن ابن المقفع نقل من الفارسية إلى العربية كتبا في المنطق والطب كان الفرس قد نقلوها عن اليونانية. فلعله نقلها لنفسه. (6-2) المهدي والرشيد
أما المهدي (158-169ه) فإنه اشتغل عن العلم بما ظهر في أيامه من البدع الدينية، وما انتشر من كتب ماني وابن دميان ومرقيون مما نقله ابن المقفع وغيره وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفوه في تأييد هذه المذاهب في العربية، فكثر الزنادقة وظهرت آراؤهم في الناس، فأمر المهدي أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب لإبطال تلك المذاهب. أما الهادي، فلم تطل أيامه ولم يأت أمرا يذكر.
فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد (170-193ه) كانت الأفكار قد نضجت والأذهان قد زادت تنبها إلى علوم الأقدمين بما كان يتقاطر إلى بغداد من الأطباء والعلماء من السريان والفرس والهنود. وكانوا أهل تمدن وعلم كما رأيت، وكانوا يتعلمون العربية ويعاشرون المسلمين ويباحثونهم في تلك العلوم، والمسلمون يتهيبون من ذلك لما سبق إلى أذهانهم من مخالفته للدين إلا الكتب الطبية فكانوا يرغبون في نقلها أو مطالعتها. ولكن الأطباء أنفسهم كانوا يومئذ من غير المسلمين، ويغلب أن يكونوا من محبي الفلسفة والمنطق، وكانوا من الجهة الثانية يخدمون الخلفاء ويجالسونهم ويعاشرونهم كأنهم بعض أهلهم كما سترى. فأدى ذلك إلى ائتلاف الخلفاء بذكر الفلسفة، وأصبحوا إذا فتحوا بلدا ووجدوا فيه كتبا لا يأمرون بإحراقها أو إعدامها، بل يأمرون بحملها إلى عاصمتهم والاحتفاظ بها لنقلها إلى لسانهم، كما اتفق للرشيد في أثناء حربه في أنقرة وعمورية وغيرهما من بلاد الروم، فإنه عثر هناك على كتب كثيرة حملها إلى بغداد وأمر طبيبه يوحنا بن ماسويه بترجمتها
211
ولكنها ليست من الفلسفة في شيء وإنما هي في الطب اليوناني.
212
وفي أيام الرشيد نقل كتاب إقليدس النقلة الأولى على يد الحجاج بن مطر، وتسمى الهارونية تمييزا لها عن النقلة المأمونية التي نقلها للمأمون.
213
وفي أيامه نقل المجسطي إلى العربية، وأول من عني بنقله يحيى بن خالد البرمكي، ففسره له جماعة لم يتقنوه فندب لتفسيره أبا حسان وسلما صاحب بيت الحكمة، فأتقناه واجتهدا في تصحيحه. (6-3) المأمون والفلسفة والمنطق
فالكتب الفلسفية لم يقدم المسلمون على ترجمتها إلا في أيام المأمون، لسبب متصل بالمأمون نفسه، وذلك أن المسلمين تعودوا من أول الإسلام حرية الفكر والقول والمساواة فيما بينهم، فكان إذا خطر لأحدهم رأي في خليفة أو أمير لا تمنعه هيبة الملك من إبداء رأيه. وكان ذلك شأنهم أيضا في الدين، فإذا فهم أحدهم من الآية أو الحديث غير ما فهمه الآخر صرح برأيه وجادله فيه. فلم ينقض عصر الصحابة حتى أخذ المسلمون يفترقون في المذاهب، ولم يدخل القرن الثاني حتى تعددت الفرق وتفرعت، وفي جملتها المعتزلة. والمعتزلة طوائف كثيرة، أساس مذهبهم تطبيق الأحكام العقلية على النصوص الدينية، ولو طالعت مذاهبهم لرأيت بعضها يوافق أحدث الآراء الانتقادية في الدين مع مرور الأجيال على تمحيصها. ولذلك فهم يسمون أصحاب العدل والتوحيد. (6-4) المأمون والاعتزال
ظهر مذهب الاعتزال في أواخر القرن الأول للهجرة، وكثر أشياعه بسرعة لارتياح العقل إلى أدلته. وقد تقدم في كلامنا عن الفقه أن المنصور أخذ يناصر أصحاب الرأي والقياس واستقدم أبا حنيفة إلى بغداد ونشطه لهذه الغاية، وظل الميل إلى القياس متواصلا في بني العباس. والاعتزال أقرب المذاهب إلى أصحاب الرأي؛ لأن عمدة المعتزلة في إثبات مذهبهم البرهان العقلي، ولذلك كانوا إذا رأوا رجلا مطلعا على منطق أرسطو أو أقواله في الجدل ونحوه استعانوا بما يسمعونه منه في تأييد مذهبهم، واحتاجوا إلى ذلك، خصوصا في أيام المهدي لدفع أقوال الزنادقة كما تقدم. فلعلهم احتاجوا إلى الاستعانة بمنطق اليونان وفلسفتهم، أو شعروا باحتياجهم إليها على الأقل، وأخذوا في إنشاء علم الكلام. وكان البرامكة من أصحاب الرأي أيضا، وفيهم ذكاء وميل إلى العلم، فاشتغلوا في ترجمة الكتب القديمة قبل المأمون
214
وكانوا يعقدون مجالس المباحثة والمجادلة في منازلهم ولكن يظهر أن الرشيد لم يكن يوافقهم على ذلك فلم يتظاهروا به.
فلما أفضت الخلافة إلى المأمون (198-218ه) تغير وجه المسألة؛ لأنه كان مع فطنته وسعة علمه شديد الميل إلى القياس العقلي. وقد تعلم وتفقه وطالع ما نقل إلى عهده من كتب القدماء، فازداد رغبة في القياس والرجوع إلى أحكام العقل، فتمسك بمذهب الاعتزال وقرب إليه أشياخه كأبي الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام، وجالس المتكلمين فتمكن من مذهب الاعتزال. فأخذ يناصر أشياعه وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفا من غضب الفقهاء، وفي جملتها القول بخلق القرآن أي أنه غير منزل. وكان المسلمون في أيام الرشيد يخافون في ذلك؛ لأنه ظهر فيه قبل توليه الخلافة، وكان الفضيل بن عياض يتمنى طول عمر الرشيد لما تبين له من أمر المأمون من هذا القبيل ...
فلما تظاهر المأمون بالاعتزال وقال بخلق القرآن، قامت قيامة الفقهاء وعظم ذلك على غير المعتزلة وهم أكثر عددا، ولم يعد في وسعه الرجوع عن قوله فعمل على تأييده بالبرهان، وجعل يعقد المجلس للمناظرة في هذا الموضوع.
215
وتأييدا لصحة الجدل أمر بنقل كتب الفلسفة والمنطق من اليونانية إلى العربية، واطلع هو عليها فقويت حجته وازداد تمسكا بالاعتزال. ولما يئس من إقناع الناس بالبرهان والقياس عمد إلى العنف، باشر ذلك في العام الأخير من حكمه وهو خارج بغداد، فكتب إلى عامله فيها إسحاق بن إبراهيم أن يمتحن القضاة والشهود وجميع أهل العلم بالقرآن، فمن أقر أنه مخلوق محدث خلى سبيله ومن أبى فليعلمه به
216
فالراجح عندنا أن المأمون، لسعة علمه وحرية فكره ورغبته في القياس العقلي، لم يكن يرى بأسا من نقل علوم اليونان إلى العربية، وأنه بدأ بنقل كتب الفلسفة والمنطق تأييدا لمذهب الاعتزال، ثم جعل الترجمة عامة لكل مؤلفات أرسطو في الفلسفة وغيرها. وقد ابتدأ بترجمة تلك الكتب في أعوام بضعة عشر ومائتين، فتلقى المعتزلة تلك الفلسفة تلقي الظمآن لموارد الماء، وأقبلوا على تصفحها والتبحر فيها فاشتد ساعدهم بها
217
فتولد من اشتغال المسلمين بالفلسفة علم الكلام
218
كما تولد من اشتغال النصارى بها «الفلسفة الأفلاطونية الجديدة». (6-5) المأمون ونقل الكتب
وقد ذكروا لمباشرة المأمون نقل تلك الكتب أسبابا كثيرة. قال أبو إسحاق النديم صاحب كتاب الفهرست في سبب ذلك: إن المأمون رأى في منامه أرسطوطاليس الحكيم وسأله بعض الأسئلة، فلما نهض من منامه طلب ترجمة كتبه، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنقاذ ما يختار من كتب العلوم القديمة المدخرة ببلد الروم، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع. فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل.
219
وذكر نحو ذلك ابن أبي أصيبعة صاحب طبقات الأطباء، وأبو الفرج صاحب مختصر الدول وغيرهما. والغالب في ظننا أنهم نقلوا ذلك عن ابن إسحاق المذكور. ومهما يكن السبب، فلا مشاحة في أن المأمون بذل جهده في استخدام التراجمة لنقل تلك الكتب وغيرها. وكان ينفق في سبيل ذلك بسخاء، حتى أعطى وزن ما يترجم له ذهبا. وكان لشدة عنايته في النقل يضع علامته على كل كتاب يترجم له. وكان يحرض الناس على قراءة تلك الكتب ويرغبهم في تعلمها، وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم ويلتذ بمذاكراتهم.
220
واقتدى بالمأمون كثيرون من أهل دولته، وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد، فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء العراق والشام وفارس، وفيهم النساطرة واليعاقبة والصابئة والمجوس والروم والبراهمة، يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية والنبطية واللاتينية وغيرها. وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب، وتعددت مجالس الأدب والمناظرة، وأصبح هم الناس البحث والمطالعة، وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون إلى عدة من خلفائه، حتى نقلت أهم كتب القدماء إلى العربية. (6-6) نقلة العلم في العصر العباسي
رأيت فيما تقدم أن السريان كانوا في نهضة علمية قبل الإسلام، وأنهم أخذوا في نقل كتب اليونان إلى لسانهم، ودرسوا كثيرا منها وخصوصا الفلسفة والطب، وبرزوا في هذه الصناعة حتى تولى بعضهم رئاسة مارستان جنديسابور كما تقدم، وأن اللغة اليونانية كانت تعلم في مدارسهم. فلما انتقل كرسي الخلافة إلى بلادهم «العراق» وعمرت بغداد بالوافدين من أطراف المملكة الإسلامية وغيرها، كان أولئك السريانيون من جملة الوفود التماسا للرزق، فتعلموا لسان العرب كما نتعلم نحن لغة الإنجليز اليوم لهذا السبب. وطاب لهم الاختلاط بالعرب - أو المسلمين - لما آنسوه من عدل العباسيين في أول دولتهم، وإطلاق حرية الأديان لرعاياهم، حتى كثيرا ما كانوا يوسطونهم في فض الخلاف بين طوائفهم أو أساقفتهم. ولهذا السبب أيضا انتقل جماعة من الفرس إلى بغداد، وكانوا أهل دولة وحكومة، فاستخدمهم الخلفاء في إدارة شؤون حكومتهم، وفيهم جماعة كبيرة من أهل العلم والأدب، واستقدم الخلفاء أيضا جماعة من أطباء الهند للانتفاع بطبهم.
فلما أراد الخلفاء نقل كتب العلم إلى العربية، كان واسطة ذلك النقل أهل العراق والشام وفارس والهند. فرغبهم الخلفاء في ذلك بالبذل الكثير وجعلوا لبعضهم رواتب وأرزاقا، وبالغوا في إكرامهم ومحاسنتهم، فتكاثروا، وأكثرهم من السريان النساطرة؛ لأنهم أقدر على الترجمة من اليونانية، وأكثر اطلاعا على كتب الفلسفة والعلم اليوناني، وفيهم جماعة من أهل فارس والهند وغيرهم، للنقل من الفارسية أو الهندية، وكان أكثرهم تتوالى الترجمة في أعقابه فيتولاها هو وأولاده وأحفاده. وإليك أشهر نقلة العلم في العصر العباسي: (1)
آل بختيشوع:
وهم من السريان النساطرة، وأولهم جورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور، وقد تقدم ذكره، وخلفه عندهم ابنه بختيشوع ابن جورجيس استقدمه الرشيد من جنديسابور كما استقدم المنصور أباه قبله، فلما دخل على الرشيد دعا له بالفارسية والعربية، فقال الرشيد لوزيره يحيى: امتحنه، فدعا يحيى الأطباء لامتحانه - وهم أبو قريش عيسى وعبد الله الطيفوري وداود بن سرابيون وغيرهم - فلما رأوه قال أبو قريش: «يا أمير المؤمنين، ليس في الجماعة من يقدر على الكلام مع هذا، لأنه كون الكلام وهو وأبوه وجنسه فلاسفة». ويدل ذلك على منزلة آل بختيشوع من العلم والفلسفة. فولاه الرشيد رئاسة الأطباء، وخلفه فيها ابنه جبريل وكان حظيا عند الخلفاء ونال جوائزهم وعطاياهم. وكان له من الرواتب شيء كثير قد فصلناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وخلفه ابنه بختيشوع بن جبريل، وقد بلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من أطباء عصره. ومنهم جبريل بن عبيد الله بن بختيشوع خدم المقتدر العباسي. وخلفه عبيد الله بن جبريل. فهؤلاء ستة من آل بختيشوع، كلهم من مهرة الأطباء، ولم يعن بالترجمة منهم إلا جورجيس الأول. وإنما أوردنا ذكرهم لأن أكثرهم ألف في الطب كتبا مفيدة، وبعضهم استخدم التراجمة في نقل بعض كتب الطب إلى السريانية.
221 (2)
آل حنين:
أولهم حنين بن إسحاق العبادي شيخ المترجمين، وهو من نصارى الحيرة. ولد سنة 194ه وكان أبوه صيرفيا، ولما ترعرع انتقل إلى البصرة فتلقى فيها العربية، ثم انتقل إلى بغداد ليشتغل بصناعة الطب، فلقي في ذلك مشقة؛ لأن الأطباء - وخصوصا أهل جنديسابور - كانوا يكرهون أن يدخل في صناعتهم أبناء التجار. وكان أعمر مجالس الطب في بغداد يومئذ مجلس يوحنا بن ماسويه أحد متخرجي مارستان جنديسابور، فجعل حنين يحضره. فاتفق أنه سأله مرة مسألة مما كان يقرأه عليه، فغضب يوحنا وقال: «ما لأهل الحيرة وصناعة الطب؟ فسر إلى فلان قرابتك، حتى يهب لك خمسين درهما، تشتري بها قفافا صغارا بدرهم، وزرنيخا بثلاثة دراهم، واشتر بالباقي فلوسا كوفية وفارسية، وزرنخ القادسية في تلك القفاف، واقعد على الطريق وصح: الفلوس الجياد للصدقة والنفقة! وبع الفلوس، فإنه أعود عليك من هذه الصناعة ...» ثم أمر به فأخرج من داره ...
فخرج حنين باكيا مكروبا، وقد بعثه ذلك على زيادة النشاط للسعي في تعلم الطب بلغته الأصلية. فغاب عن بغداد سنتين، ثم عاد وقد تعلم اليونانية وآدابها في الإسكندرية وحفظ أشعار هوميروس
222
فأصبح أعلم أهل زمانه بالسريانية واليونانية والفارسية فضلا عن العربية، وأصبح أطباء بغداد في حاجة إليه لنقل الكتب، حتى ابن ماسويه نفسه فإنه استخدمه في نقل بعض كتب جالينوس إلى السريانية وبعضها إلى العربية، واحتذى فيها حذو الإسكندرانيين.
223
وترجم أيضا لجبريل بن بختيشوع كتاب التشريح لجالينوس، وكان جبريل يخاطبه بالتبجيل فيقول له: «ربن حنين» في اصطلاح السريان أي: «يا معلمنا حنين». ولما أراد المأمون نقل فلسفة اليونان إلى العربية سأل عمن يستطيع ذلك فأرشدوه إلى حنين؛ لأنه لم يكن ثمة من يضاهيه وهو لا يزال شابا، فأخرج المأمون جماعة من التراجمة وهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم وعليهم حنين المذكور ليصلح ما يترجمونه.
وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله إلى العربية مثلا بمثل، ولذلك فقد كان حنين يكتب الترجمة بحروف غليظة وأسطر متفرقة على ورق غليظ جدا لتعظيم حجم الكتاب وتكثير وزنه. وذكر أن حنينا رحل بنفسه في طلب الكتب من بلاد الروم لنقلها، وكان يترجم أيضا لبني شاكر الآتي ذكرهم ولغيرهم.
وكان لحنين ولدان: داود وإسحاق، صنف لهما كتبا طبية في المبادئ والتعليم، ونقل لهما كتبا كثيرة من مؤلفات جالينوس، فأفلح إسحاق وتميز، واشتغل في الترجمة مثل أبيه من اليونانية إلى العربية، إلا أن عنايته كانت مصروفة إلى نقل كتب الحكمة، مثل كتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء.
أما أبوه فكان أكثر اشتغاله في نقل كتب الطب، وخصوصا كتب جالينوس. ويندر أن يوجد من جالينوس كتاب إلا وهو بنقل حنين أو بإصلاحه، وما لم يكن كذلك لم يكن معتبرا عندهم، لبراعة حنين في العربية فضلا عن تمهره بصناعة الطب. واشتغل حنين في زمن المتوكل (تولى سنة 233ه) فاختاره لرئاسة الترجمة، فعين جماعة من التراجمة كإصطفان بن باسيل وموسى بن خالد، فكانوا يترجمون ويتصفح حنين ترجماتهم وينقحها. وكان يلبس زنارا على عادة النصارى في تلك الأيام، وتوفي سنة 264ه.
واشتهر ابنه إسحاق أيضا، وأكثر نقله من كتب أرسطو في الفلسفة وشروحها، وكان مع أبيه ثم انقطع للقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد، وكان يفضي إليه بأسراره، وله - فضلا عن المنقولات - مؤلفات في الطب والصيدلة وغيرهما. (3)
حبيش الأعسم الدمشقي:
هو حبيش بن الحسن الدمشقي ابن أخت حنين بن إسحاق، وقد تعلم صناعة الطب منه، وكان قد سلك مسلكه في الترجمة. وقيل من جملة سعادة حنين صحبة حبيش له، فإن أكثر ما نقله حبيش نسب إلى حنين، وكثيرا ما يرى الناس شيئا من الكتب القديمة مترجما بنقل حبيش فيظنه لحنين وقد صحف، فيكشطه ويجعله لحنين.
224 (4)
قسطا بن لوقا البعلبكي:
وهو من نصارى الشام، وكان طبيبا حاذقا وفيلسوفا نبيلا، رحل إلى بلاد الروم في طلب العلم، وكان عالما باللغات اليونانية والسريانية والعربية ونقل كتبا كثيرة من اليونانية إلى العربية، وكان جيد النقل وأصلح نقولا كثيرة وألف رسائل عديدة في الطب، وكان حسن العبارة جيد القريحة. وفضلا عما نقله فله مؤلفات كثيرة في الطب والتاريخ والفلسفة والجبر والمقابلة والهندسة والمنطق والأدب والدين، ما يزيد على مائة كتاب. قال أبو الفرج الملطي: «لو قلت حقا لقلت: إنه أفضل من صنف كتابا، بما احتوى عليه من العلوم والفضائل وما رزق من الاختصار للألفاظ وجمع المعاني». (5)
آل ماسرجويه:
أولهم ماسرجويه، متطبب البصرة، وهو يهودي المذهب سرياني اللغة. وكان ينقل من السرياني إلى العربي، وقد تقدم ذكره. ثم ابنه عيسى بن ماسرجويه، وكان يلحق بأبيه ولهما مؤلفات في الطب. (6)
آل الكرخي:
أولهم شهدي الكرخي من أهل الكرخ، وكان قريب الحال في الترجمة، ثم ابنه وكان مثل أبيه في النقل ثم فاق أباه في آخر عمره، ولم يزل متوسطا. وكان ينقل من السرياني إلى العربي. (7)
آل ثابت:
أولهم ثابت بن قرة الحراني، وهو من الصابئة المقيمين في حران. وكان صيرفيا ثم تعلم الطب والفلسفة والنجوم، وكان مع ذلك يعرف اللغة السريانية جيدا، وكان جيد النقل إلى العربية، وله تصانيف كثيرة في الرياضيات والطب والمنطق، وله في السريانية كتاب في مذهب الصابئة، وكان في خدمة المعتضد العباسي، وبلغ عنده أجل المراتب، حتى كان يجلس في حضرته في كل وقت، ويحادثه طويلا ويضاحكه، فيقبل عليه دون وزرائه وخاصته. يليه ابنه سنان بن ثابت، وكان مقدما عند القاهر بالله، وله تصانيف كثيرة، وكذلك ابنه ثابت بن سنان، ولكنهما لم ينقلا شيئا. (8)
الحجاج بن مطر:
كان في جملة من ترجم للمأمون، وقد نقل كتاب المجسطي وإقليدس إلى العربية، ثم أصلح نقله فيما بعد ثابت بن قرة الحراني. (9)
ابن ناعمة الحمصي:
هو عبد المسيح بن عبد الله الحمصي الناعمي، كان متوسط النقل وهو إلى الجودة أميل. ومن بيت الناعمة الحمصي أيضا زروبا بن مانحوه، وكان أضعف من سابقه. (10)
إصطفان بن باسيل:
كان يقارب حنين بن إسحاق في جودة النقل، إلا أن عبارة حنين كانت أفصح وأحلى. (11)
موسى بن خالد:
ويعرف بالترجمان، نقل كتبا كثيرة من الستة عشر لجالينوس، وهو دون حنين. (12)
سرجيس الرأس عيني:
هو من مدينة رأس العين في العراق، نقل كتبا كثيرة، وكان متوسطا في النقل، وحنين كان يصلح نقله. (13)
يوحنا بن بختيشوع:
هو من غير آل بختيشوع المتقدم ذكرهم، وكان ينقل الكتب من اليوناني إلى السرياني وليس إلى العربي. (14)
البطريق:
كان في أيام المنصور وقد أمره بنقل أشياء من الكتب القديمة، وله نقل كثير جيد إلا أنه دون نقل حنين. (15)
يحيى بن البطريق:
كان في جملة الحسن بن سهل، وكان لا يعرف العربية حق معرفتها ولا اليونانية وإنما كان يعرف اللاتينية.
225 (16)
أبو عثمان الدمشقي:
كان من النقلة المجيدين إلى العربية. (17)
أبو بشر متى بن يونس:
من أهل دير قنى، تفقه في مدرسة مارماري على أساتذة عظام، وإليه انتهت رئاسة المنطقيين في عصره. (18)
يحيى بن عدي:
هو من أهل المنطق في القرن الرابع للهجرة، قرأ على متى بن يونس وعلى أبي نصر الفارابي، وهو يعقوبي المذهب خلافا لأكثر المترجمين السريان (إذ كانوا نساطرة) وكان سريع الخط يكتب في اليوم والليلة مائة ورقة.
226
هؤلاء أشهر نقلة العلم من اليوناني أو السرياني إلى العربي. وقد اكتفينا بما تقدم للاختصار.
وأما النقلة من الألسنة الأخرى، فمنهم من نقل من الفارسية إلى العربية كابن المقفع وآل نوبخت، وقد تقدم ذكر نوبخت كبيرهم ولابنه الفضل بن نوبخت نقل من الفارسي إلى العربي في النجوم وغيرها. ومنهم موسى ويوسف ابنا خالد، وكانا يخدمان داود بن عبد الله بن حميد بن قحطبة، وينقلان له من الفارسية إلى العربية، وعلي بن زياد التميمي ويكنى أبا الحسن نقل من الفارسي إلى العربي كتاب زيج الشهريار، والحسن بن سهل وكان من المنجمين. والبلاذري أحمد بن يحيى، وجبلة بن سالم كاتب هشام، وإسحاق بن يزيد نقل سيرة الفرس المعروفة باختيار نامه. ومنهم محمد الجهم البرمكي، وهشام بن القاسم، وموسى بن عيسى الكردي، وعمر بن الفرخان وغيرهم.
ومن الذين نقلوا من اللغة السنسكريتية (الهندية) منكه الهندي، كان في جملة إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي ينقل من اللغة الهندية إلى العربية، وابن دهن الهندي وكان إليه مارستان البرامكة نقل من الهندي إلى العربي.
227
ومن الذين نقلوا من اللغة النبطية (الكلدانية) إلى العربية ابن وحشية، نقل كتبا كثيرة سيأتي ذكرها. (6-7) السوريون ونقل العلم
إذا تدبرت ما تقدم من أخبار النقلة ومواطنهم ومللهم، رأيت معظمهم من السوريين سكان الشام والجزيرة والعراق. وللسوريين شأن كبير في نشر العلوم بين الأمم ونقلها من أمة إلى أخرى أو من لسان إلى لسان من أقدم أزمنة التاريخ، يساعدهم على ذلك نشاطهم وذكاؤهم وإقدامهم وتوسط بلادهم بين الشرق والغرب.
فالسوريون (أو الفينيقيون) هم الذين نشروا أحرف الهجاء في العالم قبل الميلاد ببضعة عشر قرنا، فحملوها معهم في أثناء أسفارهم التجارية إلى بلاد اليونان والكلدان، ولا تزال صورها وأسماؤها عند سائر أمم العالم المتمدن شاهدة بذلك إلى اليوم. وهم الذين توسطوا في نقل العلوم والآداب بين المصريين والكلدانيين، ثم نقلوها إلى اليونان القدماء كما تقدم. وكانوا يدرسون اللغات اليونانية والقبطية والبابلية وغيرها من لغات ممالك الأمم المتمدنة في تلك العصور، كما يدرسون اليوم الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من لغات ممالك التمدن الحديث، لنقل العلم أو الاتجار أو الانتفاع من الخدمة في مصالح تلك الدول.
ولما تمدن اليونان واستنبطوا الفلسفة والمنطق وغيرهما، ونضجت علومهم وانتقلت بفتوح الإسكندر إلى العراق والشام، تلقاها السوريون ونقلوها إلى لسانهم وأضافوا إليها بعد انتشار النصرانية الآداب النصرانية اليونانية، وحفظوها مع الفلسفة اليونانية في أديرتهم، ثم كانت مصدرا للعلم والفلسفة إلى بلاد فارس والهند وغيرهما.
وكان السوريون في دولة الفرس الساسانية الواسطة الكبرى في نقل علوم اليونان وطبهم وفلسفتهم إلى الفرس. ولما بنى كسرى أنوشروان مارستان جنديسابور لتعليم الطب والفلسفة كما تقدم، كان جل معتمده في ذلك على نصارى العراق والجزيرة، ناهيك بما حفظ من الآداب السامية على صبغته الوثنية في حران؛ لأن أهلها ظلوا على ديانتهم القديمة. غير ما حفظه أهل العراق من آداب قدماء الكلدان وعلومهم.
فلما ظهر الإسلام وأراد الخلفاء نقل العلوم إلى العربية، كان السوريون ساعدهم الأقوى في نقلها من اللغات المعروفة في ذلك العهد، وفيهم الحمصي والبعلبكي والدمشقي والحيري والحراني والبصري. ونقل العلوم من لسان إلى آخر لا يتيسر إلا باستيعاب تلك العلوم وتفهمها، فضلا عن إتقان اللغات اللازمة لذلك. ولهذا كان أكثر أولئك المترجمين من أهل العلم الواسع فيما اشتغلوا بنقله، وفيهم من ألف في أكثر فروع العلم أو الفلسفة أو المنطق أو الطب وغيرها.
وذلك شأن السوريين أيضا في علوم التمدن الحديث، فقد كانوا من أكثر الناس اشتغالا في نقلها من لغات أوربا المختلفة إلى اللغة العربية، ولا يزالون في ذلك إلى اليوم. (6-8) نقل العلم لغير الخلفاء
قد رأيت فيما تقدم أن الخلفاء هم الذين سعوا في نقل كتب العلم على يد التراجمة، فلما نقل بعض تلك الكتب واطلع عليها أهل بغداد، نهض جماعة من كبرائهم واقتدوا بالخلفاء في نقلها، واستخدموا التراجمة وبذلوا الأموال في البحث عنها وترجمتها.
وأشهر هؤلاء الثلاثة يعرفون ببني شاكر أو بني موسى؛ لأنهم أولاد موسى بن شاكر، وهم: محمد وأحمد والحسن، ويعرف أولادهم بعدهم ببني المنجم. وكان والدهم موسى يصحب المأمون، والمأمون يرعى حقه في أولاده هؤلاء. أما موسى فلم يكن من أهل العلم والأدب، بل كان في حداثته لصا يقطع الطريق ويتزيا بزي الجند، وكان شجاعا مجربا. وكان يصلي العتمة مع جيرانه في المسجد ثم يخرج متنكرا فيقطع الطريق على فراسخ كثيرة في طريق خراسان، ويركب فرسا له أشقر يشد على قوائمه خرقا بيضاء ليوهم من يراه في الليل أنه محجل. وكان له جاسوس يأتيه بخبر من يخرج ومعه مال، وربما لقي الجماعة وفارسهم وغلبهم فينصرف من ليلته فيصلي الصبح مع الجماعة في المسجد. فلما كثر فعله واشتهر اتهم، فشهد له الجماعة بملازمته الصلاة معهم فاشتبه أمره. ثم إنه تاب ومات وخلف هؤلاء الثلاثة صغارا، فوصى بهم المأمون إسحاق بن إبراهيم المصعبي وأثبتهم مع يحيى بن أبي منصور في بيت الحكمة. وكان المأمون إذا سافر بعث إلى إسحاق أن يراعيهم، حتى قال إسحاق: «جعلني المأمون داية لأولاد موسى». وكانت حالهم رثة رقيقة وأرزاقهم قليلة، ولكنهم خرجوا نهاية في علومهم. وكان أكبرهم وأجلهم محمدا، وكان وافر الحظ في الهندسة والنجوم، عالما بإقليدس والمجسطي وغيرهما من علوم الفلك والطبيعيات والرياضيات. وكان أخوه أحمد دونه في العلم إلا صناعة الحيل (الميكانيكيات) فإنه قد فتح له فيها ما لم يفتح مثله لأخيه. وكان أخوهما الحسن منفردا بالهندسة، وله طبع عجيب فيها لا يدانيه أحد فيه، مع أنه علم كل ما علمه من نفسه بدون تعليم، ولا قرأ كتب الهندسة إلا ست مقالات من إقليدس.
228
وتفانى أولاد شاكر في طلب العلوم القديمة، وبذلوا فيها الرغائب وأتعبوا أنفسهم في جمعها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها إليهم وأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني. وكان في جملة من أنفذوه للبحث عن الكتب حنين بن إسحاق
229
وغيره. وأقاموا التراجمة وفي جملتهم حنين وحبيش وثابت بن قرة، وكانوا ينفقون 500 دينار في الشهر للنقل والملازمة.
230
ولبني موسى مؤلفات كثيرة في الفلك والحيل والهندسة، ولهم استنباطات في هذا العلم لم يسبقهم إليها أحد. وقد برهنوا للمأمون أن محيط الأرض 24000 ميل برهانا محسوسا، فضلا عن مهارتهم في الرصد وغيره. •••
وممن بذلوا المال في نقل العلوم غير الخلفاء محمد بن عبد الملك الزيات، كان يقارب عطاؤه للنقلة والنساخ 2000 دينار في الشهر، ونقل باسمه كتب عديدة. ومنهم علي بن يحيى المعروف بابن المنجم ، كان أحد كتاب المأمون ونقل له كثير من كتب الطب، وكذلك محمد بن موسى بن عبد الملك.
ومنهم إبراهيم بن محمد بن موسى الكاتب، وكان حريصا على نقل كتب اليونانيين إلى لغة العرب، كثير البذل في سبيلها. ومنهم تادري الأسقف في الكرخ، وكان راغبا في طلب الكتب متقربا إلى قلوب نقلتها، وصنف له الأطباء النصارى كتبا كثيرة. وعيسى بن يونس الكاتب الحاسب من أهل العراق، وكانت له عناية في تحصيل الكتب القديمة والعلوم اليونانية. ومنهم شير شوع (كذا) بن قطرب من أهل جنديسابور، وكان يبر النقلة ويهدي إليهم ويتقرب إلى تحصيل الكتب بما يمكنه من المال، وكان يجيد النقل إلى السرياني أكثر مما إلى العربي. وقس على ذلك جماعة من أطباء الخلفاء، كيوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وداود بن سرابيون وسلمويه وابن الطيفوري وغيرهم، واقتدى بالخلفاء العباسيين في نقل العلوم إلى العربية أيضا كثيرون من أمراء المسلمين المستقلين عنهم، فقد كان عند سيف الدولة طبيب اسمه عيسى الرقي ينقل له من السرياني إلى العربي.
231 (7) الكتب التي ترجمت في النهضة العباسية
قد رأيت الأسباب التي حملت الخلفاء على نقل علوم القدماء في النهضة العباسية وقبيلها، وقد ذكرنا الذين اشتغلوا في ترجمتها من الألسنة المختلفة. بقي علينا أن نذكر الكتب التي نقلت وكان عليها معول علماء المسلمين فيما ألفوه بعد ذلك. وهي كثيرة تصعب الإحاطة بها لتشتت أخبارها وضياع كثير منها، على أننا نكتفي بما يبلغ إليه الإمكان.
وتسهيلا للإحاطة بموضوعات تلك الكتب واللغات المنقولة هي عنها نقسمها باعتبار اللغات التي نقلت عنها وهي: اليونانية والفارسية والهندية (السنسكريتية) والنبطية والعبرانية واللاتينية والقبطية. ونقسم منقولات كل لغة إلى أقسام باعتبار الموضوعات على ما يقتضيه المقام: (7-1) الكتب المنقولة عن اليونانية
هي أكثر ما نقلوه إلى العربية في تلك النهضة، وأكثرها في الفلسفة والطب والرياضيات والنجوم وفروع العلم الطبيعي. وإليك كتب كل علم على حدة، مرتبة باعتبار المؤلفين، وبإزاء كل كتاب اسم المترجم الذي نقله: (أ) كتب الفلسفة والأدب
كتب أفلاطون (1)
كتاب السياسة: نقله حنين بن إسحاق. (2)
كتاب المناسبات: نقله يحيى بن عدي. (3)
كتاب النواميس: نقله حنين ويحيى. (4)
كتاب طيماوس: نقله ابن البطريق وأصلحه حنين. (5)
كتاب أفلاطن إلى أقرطن: نقله يحيى بن عدي. (6)
كتاب التوحيد: نقله يحيى بن عدي. (7)
كتاب الحس واللذة: نقله يحيى بن عدي. (8)
كتاب أصول الهندسة: نقله قسطا بن لوقا.
كتب أرسطوطاليس (1)
قاطيغورياس، أي المقولات: نقله حنين بن إسحاق. (2)
كتاب العبارة: نقله حنين إلى السريانية وإسحاق إلى العربية. (3)
تحليل القياس: نقله ثيادورس وأصلحه حنين. (4)
كتاب البرهان: نقله إسحاق إلى السرياني ومتى إلى العربي. (5)
كتاب الجدل: نقله إسحاق إلى السرياني ويحيى إلى العربي. (6)
كتاب المغالطات أو الحكمة المموهة: نقله ابن ناعمة وأبو بشر إلى السرياني ويحيى إلى العربي. (7)
كتاب الخطابة: نقله إسحاق وإبراهيم بن عبد الله. (8)
كتاب الشعر: نقله أبو بشر من السرياني إلى العربي. (9)
كتاب السماع الطبيعي: نقله أبو روح الصابي وحنين ويحيى وقسطا وابن ناعمة. (10)
كتاب السماء والعالم: نقله ابن البطريق وأصلحه حنين. (11)
كتاب الكون والفساد: نقله حنين إلى السرياني وإسحاق والدمشقي إلى العربي. (12)
كتاب الآثار العلوية: نقله أبو بشر ويحيى. (13)
كتاب النفس: نقله حنين إلى السرياني وإسحاق إلى العربي. (14)
كتاب الحس والمحسوس: نقله أبو بشر متى بن يونس. (15)
كتاب الحيوان: نقله ابن البطريق. (16)
كتاب الحروف أو الإلهيات: نقله إسحاق ويحيى وحنين ومتى. (17)
كتاب الأخلاق: نقله إسحاق. (18)
كتاب المرآة: نقله الحجاج بن مطر. (19)
كتاب أتولوجيا: نقله الحجاج بن مطر.
ولكتب أرسطو شروح وتعاليق لبعض تلامذته أو من جاء بعده، كثاوفرسطس وديدوخس برفلس والإسكندر الأفروديسي وفرفوريوس الصوري، وأمونيوس وتامسطيوس ونيقولاوس وفلوطرخس ويحيى النحوي وغيرهم. ولبعض هؤلاء مؤلفات خاصة. كلها في الفلسفة وفروعها، وقد نقل كثير منها إلى العربية ولم يعلم ناقلها فأغضينا عن ذكرها، وقد ذكرها صاحب الفهرست.
وذكروا لجالينوس في جملة كتبه الطبية الآتي بيانها كتب في الفلسفة والأدب، وهي «كتاب ما يعتقده رأيا» ترجمة ثابت، وكتاب «تعريف المرء عيوب نفسه» نقله توما وأصلحه حنين، وكتاب «الأخلاق» نقله حبيش، وكتاب «انتفاع الأخيار بأعدائهم» نقله حبيش، و«المحرك الأول لا يتحرك » نقله حبيش وعيسى، وغيرها ... (ب) كتب الطب وفروعه
كتب أبقراط (1)
كتاب عهد أبقراط: نقله حنين إلى السريانية وحبيش وعيسى إلى العربية. (2)
كتاب الفصول: نقله حنين لمحمد بن موسى. (3)
كتاب الكسر: نقله حنين لمحمد بن موسى. (4)
كتاب تقدمة المعرفة: نقله حنين وعيسى بن يحيى. (5)
كتاب الأمراض الحادة: نقله عيسى بن يحيى. (6)
كتاب أبيذيميا: نقله عيسى بن يحيى. (7)
كتاب الأخلاط: نقله عيسى بن يحيى لأحمد بن موسى. (8)
كتاب قاطيطيون: نقله حنين لمحمد بن موسى. (9)
كتاب الماء والهواء: نقله حنين وحبيش. (10)
كتاب طبيعة الإنسان: نقله حنين وعيسى.
كتب جالينوس
وأشهر كتب جالينوس الكتب الستة عشر، وهي: كتاب الفرق، الصناعة، كتاب النبض، شفاء الأمراض، المقالات الخمس، الاسطقصات، كتاب المزاج، القوى الطبيعية، العلل والأمراض، تعرف علل الأعضاء الباطنة، كتاب النبض الكبير، كتاب الحميات، البحران، أيام البحران، تدبير الأصحاء، حيلة البرء، وقد نقلها كلها حنين بن إسحاق إلى العربية إلا كتاب العلل الباطنة، وكتاب النبض الكبير، وكتاب تدبير الأصحاء، وكتاب حيلة البرء، فقد نقلها حبيش، أما ما بقي من كتب جالينوس الطبية فإليك أسماءها مع أسماء ناقليها: (1)
التشريح الكبير: نقله حبيش الأعسم. (2)
اختلاف التشريح: نقله حبيش الأعسم. (3)
تشريح الحيوان الحي: نقله حبيش الأعسم. (4)
تشريح الحيوان الميت: نقله حبيش الأعسم. (5)
علم أبقراط بالتشريح: نقله حبيش الأعسم. (6)
الحاجة إلى النبض: نقله حبيش الأعسم. (7)
علوم أرسطو: نقله حبيش الأعسم. (8)
تشريح الرحم: نقله حبيش الأعسم. (9)
آراء أبقراط وأفلاطون: نقله حبيش الأعسم. (10)
العادات: نقله حبيش الأعسم. (11)
خصب البدن: نقله حبيش الأعسم. (12)
المني: نقله حبيش الأعسم. (13)
منافع الأعضاء: نقله حبيش الأعسم. (14)
تركيب الأدوية: نقله حبيش الأعسم. (15)
الرياضة بالكرة الصغيرة: نقله حبيش الأعسم. (16)
الرياضة بالكرة الكبيرة: نقله حبيش الأعسم. (17)
الحث على تعليم الطب: نقله حبيش الأعسم. (18)
قوى النفس ومزاج البدن: نقله حبيش الأعسم. (19)
حركات الصدر: نقله إصطفان وأصلحه حنين. (20)
علل النفس: نقله إصطفان وأصلحه حنين. (21)
حركة العضل: نقله إصطفان وأصلحه حنين. (22)
الحاجة إلى النفس: نقله إصطفان وأصلحه حنين. (23)
الامتلاء: نقله إصطفان وأصلحه حنين. (24)
المرة والسوداء: نقله إصطفان وأصلحه حنين. (25)
الحركات المجهولة: نقله حنين . (26)
علل الصوت: نقله حنين. (27)
أفضل الهيئات: نقله حنين. (28)
سوء المزاج المختلف: نقله حنين. (29)
الأدوية المفردة: نقله حنين. (30)
المولود لسبعة أشهر: نقله حنين. (31)
رداءة التنفس: نقله حنين. (32)
الذبول: نقله حنين. (33)
قوى الأغذية: نقله حنين. (34)
التدبير الملطف: نقله حنين. (35)
مداواة الأمراض: نقله حنين. (36)
أبقراط في الأمراض الحادة: نقله حنين. (37)
إلى تراسوبولوس: نقله حنين. (38)
الطبيب والفيلسوف: نقله حنين. (39)
كتب أبقراط الصحية: نقله حنين. (40)
محنة الطبيب: نقله حنين. (41)
أفلاطون في طيماوس: نقله حنين وإسحاق. (42)
تقدمة المعرفة: نقله عيسى. (43)
الفصد: نقله عيسى وإصطفان. (44)
صفات لصبي يصرخ: نقله ابن الصلت. (45)
الأورام: نقله ابن الصلت. (46)
الكيموس: نقله ثابت وحبيش. (47)
الأدوية والأدواء: نقله عيسى. (48)
الترياق: نقله ابن البطريق.
وهناك كتب في الطب وتوابعه ذكرها صاحب الفهرست ولم يذكر ناقليها، وأما مؤلفوها فمنها بضعة وعشرون كتابا لروفس من أهل أفسس كان قبل جالينوس، ولعلها لم تنقل كلها. ومما ذكر ناقلوه بضعة كتب لأوريباسيوس، وهي كتاب الأدوية المستعملة نقله إصطفان بن باسيل، وكتاب السبعين مقالة نقله حنين وعيسى بن يحيى إلى السريانية، وكتاب إلى ابنه اسطاث نقله حنين، وكتاب إلى أبيه أرنافيس نقله حنين، ولديسقوريدس العين زربي - ويقال له السائح في البلاد لسياحته في طلب العقاقير والحشائش - كتاب في الحشائش سيأتي تاريخ نقله. ولإسكندروس كتاب «البرسام» نقله ابن البطريق، وغير هؤلاء مما لم يعرف ناقلوه. (ج) كتب الرياضيات والنجوم وسائر العلوم
ويشتمل النظر في ذلك على علم النجوم والهندسة والحساب والموسيقى والميكانيكيات، وهاك خلاصة الكلام فيها: (1)
كتب إقليدس: منها أصول الهندسة، نقله الحجاج بن مطر نقلين: الهاروني والمأموني، ونقله إسحاق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة، ونقله أبو عثمان الدمشقي، ولا يزال هذا الكتاب باقيا إلى الآن، ومن كتب إقليدس التي لم يعرف مترجموها: كتاب الظاهرات، وكتاب اختلاف المناظر، وكتاب الموسيقى، وكتاب القسمة، وكتاب القانون، وكتاب الثقل والخفة. (2)
كتب أرخميدس: وقد تقدم ذكرها في كلامنا عن آداب اليونان، وهي عشرة لم يعرف ناقلوها. (3)
أبلونيوس: صاحب كتاب المخروطات وكتاب قطع السطوح وقطع الخطوط والنسبة المحدودة والدوائر المماسة، لم يعرف ناقلوها. (4)
منالاوس : له كتاب الأشكال الكروية وكتاب أصول الهندسة، نقله إلى العربية ثابت بن قرة. (5)
بطليموس القلوذي: صاحب كتاب المجسطي الشهير، وقد تقدم خبر نقله وتفسيره على يد يحيى البرمكي. ولبطليموس أيضا كتاب الأربعة، نقله إبراهيم بن الصلت وأصلحه حنين، وكتاب الجغرافيا المعمور وصفة الأرض نقله ثابت إلى العربية نقلا جيدا. ولبطليموس 15 كتابا آخر في الجغرافية وغيرها لم يعرف ناقلوها. (6)
أبرخس: له كتاب صناعة الجبر ويعرف بالحدود، وكتاب قسمة الأعداد، لم يعرف ناقلهما. (7)
ذيوفنطس: له كتاب صناعة الجبر لم يعرف ناقله.
وهناك كتب عديدة في الرياضيات والهيئة والأزياج ونحوها، وذكرها ابن النديم ولم يذكر ناقليها، منها: كتاب العمل بالأسطرلاب المسطح لأبيون البطريق، وكتاب جرم الشمس والقمر لأرسطرخس، وكتاب العمل بذات الحلق، وكتاب جداول زيج بطليموس المعروف بالقانون المسير، وكتاب العمل بالأسطرلاب - وكلها لثاون الإسكندري، غير ما تقدم ذكره من الكتب الرياضية في أثناء ذكر كتب الفلسفة رغبة في إيرادها لأصحابها مع سائر مؤلفاتهم، وقد نقل المسلمين من كتب الموسيقى عن اليونانية كتاب الموسيقى الكبير لنيقوماخس الجهراسيني، وكتاب الموسيقى المنسوب لإقليدس وقد تقدم ذكره، ومقالات في الموسيقى لفيثاغورس وغيره. وكتاب الريموس، وكتاب الإيقاع لأرسطكاس، وكتاب الآلات المصوتة المسماة بالأرغن البوقي والأرغن الزمري لمورطس.
ونقل لهم من كتب الميكانيكيات، غير ما جاء في كتب أرخميدس، كتاب الحيل الروحانية، وكتاب شيل الأثقال لأيرن، وكتاب استخراج المياه لبادروغوغيا، وكتاب الآلات المصوتة على ستين ميلا لمورطس. (7-2) الكتب المنقولة عن الفارسية
أكثر الكتب المنقولة عن الفارسية في النهضة العباسية من قبيل الآداب والأخبار والسير والأشعار، وبعضها في النجوم مما نقله آل نوبخت وعلي بن زياد التميمي وغيرهم. أما ما بقي من كتبهم المنقولة إلى العربية فهي مع أسماء ناقليها: (1)
كتاب رستم وأسفنديار: نقله جبلة بن سالم. (2)
كتاب بهرام شوس: نقله جبلة بن سالم. (3)
كتاب خداينامه في السير: نقله عبد الله بن المقفع. (4)
كتاب آيين نامه: نقله عبد الله بن المقفع. (5)
كتاب كليلة ودمنة: نقله عبد الله بن المقفع. (6)
كتاب مزدك: نقله عبد الله بن المقفع. (7)
كتاب التاج في سيرة أنوشروان: نقله عبد الله بن المقفع. (8)
كتاب الأدب الكبير: نقله عبد الله بن المقفع. (9)
كتاب الأدب الصغير: نقله عبد الله بن المقفع. (10)
كتاب اليتيمة: نقله عبد الله بن المقفع. (11)
كتاب هزار أفسانه: لم يذكر ناقله. (12)
كتاب شهريزاد مع أبرويز: لم يذكر ناقله. (13)
كتاب الكارنامج أنوشروان: لم يذكر ناقله. (14)
كتاب دارا والصنم الذهب: لم يذكر ناقله. (15)
كتاب بهرام ونرسي: لم يذكر ناقله. (16)
كتاب هزاردستان: لم يذكر ناقله. (17)
كتاب الدب والثعلب: لم يذكر ناقله. (18)
سير ملوك الفرس: وهي غير كتاب - ترجم أحدها محمد بن جهم البرمكي، والآخر ترجمه زادويه بن شاهويه الأصفهاني والآخر محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني.
232
ومما يجب ذكره من مترجمات الفرس، وإن كان من مؤلفاتهم بعد نشوء التمدن الإسلامي، كتاب «شاهنامة» التي نظمها الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي سنة 384ه في نحو 60000 بيت على نسق إلياذة هوميروس، وقد تضمنت تاريخ الفرس القديم نقلها إلى العربية الفتح بن علي البنداري الأصبهاني نثرا للملك المعظم عيسى الأيوبي أتم ترجمتها سنة 697ه
233
ولا ريب أن العرب نقلوا من اللغة الفارسية كتبا أخرى تاريخية وأدبية، وخصوصا مما يتعلق بالمذاهب القديمة ونحوها. (7-3) الكتب المنقولة عن اللغة الهندية
نقل العرب عن اللغة الهندية (السنسكريتية) كثيرا من كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب والأسمار والتواريخ. والكتب الطبية المنقولة عنها كثيرة وإن لم يصل إلينا من أخبارها إلا القليل؛ لأن بغداد كانت في إبان الزهو العباسي محج العلماء والأطباء والتجار والسياح من كل الملل، وكان للبرامكة عناية في استقدام أطباء الهند إليها، وقد بعث يحيى بن خالد فاستقدم بضعة صالحة منهم كمنكه وبازيكر وقليرفل وسندباز وغيرهم.
234
ويظهر مما كتبه المسلمون بعد العصر العباسي في الأدب أو الطب أو الصيدلة أو السير أنهم اعتمدوا في جملة مصادرهم على كتب هندية الأصل. راجع قانون ابن سينا مثلا أو الملكي للرازي أو غيرهما من كتب الطب الكبرى، فتراهم يذكرون بعض الأمراض ويشيرون إلى أن الهنود يسمونها مثلا كذا وكذا أو يعالجونها بكذا وكذا. وإذا قرأت العقد الفريد لابن عبد ربه أو سراج الملوك للطرطوشي، أو غيرهما من كتب الأدب المهمة، رأيت مؤلفيها إذا ذكروا بعض الآداب أو الأخلاق أو نحوها قالوا: «وفي كتاب الهند كذا وكذا». (أ) كتب الطب وفروعه
على أننا نعلم مما جاء في كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أنه اشتهر حوالي العصر العباسي جماعة من علماء الهند في الطب والنجوم والفلسفة وغيرها، منهم كنكه الهندي وهو من متقدميهم وأكابرهم وخصوصا في علم النجوم فضلا عن الطب وله مؤلفات كثيرة، منها كتاب النمودار في الأعمار، وكتاب أسرار المواليد، وكتاب القرانات الكبير والصغير، وكتاب في الطب يجري مجرى الكناش، وكتاب في التوهم، وكتاب في أحداث العالم والدور في القران. ومنهم أيضا صنجل وباكهر وغيرهما، وقد نقل كثير من مؤلفاتهم في النجوم والطب إلى اللغة العربية، إما رأسا أو بواسطة اللغة الفارسية، بأن ينقل الكتاب من الهندي إلى الفارسي ثم ينقل من الفارسي إلى العربي. منها كتاب سيرك الهندي. وقد نقله من الفارسي إلى العربي عبد الله بن علي، وكتاب آخر في علامات الأدواء ومعرفة علاجها أمر يحيى بن خالد البرمكي بنقله. وكتاب فيما اختلف فيه الروم والهند في الحار والبارد وقوى الأدوية وكتب أخرى في فروع الطب.
ومن مشاهيرهم منكه الهندي المتقدم ذكره بين المترجمين، وقد أتى بغداد بإشارة يحيى بن خالد لمعالجة الرشيد فشفاه فأجرى عليه الرشيد رزقا واسعا. وكان منكه يعرف الفارسية أيضا فكان ينقل من الهندي إلى الفارسي، وله حديث طويل ذكره صاحب طبقات الأطباء.
235
ومنهم صالح بن بهلة الهندي جاء العراق في أيام الرشيد أيضا ونال شهرة واسعة وخالط أطباءها يومئذ واختلطوا به، فإذا لم يكونوا نقلوا شيئا من كتبه فلابد من اقتباسهم شيئا من آراء الهند عنه.
ومن مشاهيرهم أيضا شاناق، وله كتاب في السموم خمس مقالات نقله من اللسان الهندي إلى الفارسي منكه الهندي، وأوعز يحيى بن خالد إلى رجل يعرف بأبي حاتم البلخي بنقله إلى العربية، ثم نقل للمأمون على يد العباس بن سعيد الجوهري مولاه. ولجودر الحكيم كتاب في المواليد نقل إلى العربية أيضا.
ومن الكتب الطبية التي نقلت من الهندية إلى لسان العرب في العصر العباسي غير ما تقدم ذكره.
236 (1)
كتاب سسرد في الطب: نقله منكه. (2)
كتاب أسماء عقاقير الهند: نقله منكه لإسحاق بن سليمان. (3)
كتاب استانكر الجامع: نقله ابن دهن. (4)
كتاب صفوة النجح: نقله ابن دهن. (5)
كتاب مختصر الهند في العقاقير: لم يذكر ناقله. (6)
كتاب علاجات الحبالى للهند: لم يذكر ناقله. (7)
روسا الهندية في علاجات النساء: لم يذكر ناقله. (8)
كتاب السكر للهند: لم يذكر ناقله. (9)
كتاب التوهم في الأمراض والعلل: لم يذكر ناقله. (10)
كتاب رأي الهند في أجناس الحيات وسمومها: لم يذكر ناقله. (ب) كتب النجوم والرياضيات
أما في الرياضيات والكواكب فللهند شأن كبير، وقد ذكرنا خبر السندهند فيما تقدم، وكان لنقل هذا الزيج تأثير في علم النجوم عند العرب وقد قلدوه وألفوا على مذهبه. وممن ألف على هذا المذهب محمد بن إبراهيم الفزاري وحبش بن عبد الله البغدادي ومحمد بن موسى الخوارزمي وغيرهم
237
والفزاري أول من عمل أسطرلابا في الإسلام.
238
وما من فلكي من فلكيي المسلمين أراد التوسع في علم النجوم إلا وطالع كتبهم، إما في اللغة الهندية أو في ترجمتها إلى العربية. وأكثر المسلمين عناية في ذلك واطلاعا على آداب الهند وعلومهم أبو الريحان البيروني المتوفى سنة 440ه فإنه طاف بلاد الهند واطلع على علومهم وآدابهم ثم ألف كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية» وله من المؤلفات ما يعد بالعشرات، ومنها كثير في علوم الهند إما ترجمة أو تصحيحا أو نقدا، ومما ذكره من كتبه التي ألفها في هذا الصدد قوله:
وعملت في السندهند كتابا سميته جوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم، جاء ما تم منه 550 ورقة. وهذبت زيج الأركند وجعلته بألفاظي إذ كانت الترجمة الموجودة منه غير مفهومة وألفاظ الهند فيها متروكة لحالها. وعملت كتابا في المدارين المتحدين والمتساويين، وسميته بخيال الكسوفين عند الهند وهو معني مشتهر فيما بينهم لا يخلو منه زيج من أزياجهم، وليس بمعلوم عند أصحابنا. وعملت تذكرة في الحساب والعد بأرقام السند والهند في 30 ورقة، وكيفية رسوم الهند في تعلم الحساب، وتذكرة في أن رأي العرب في مراتب العدد أصوب من رأي الهند فيها، وفي راسكيات الهند، وترجمة ما في إبرهم سدهاند من طرق الحساب، ومقالة في تحصيل الآن من الزمان عند الهند. ومقالة في الجوابات على المسائل الواردة من منجمي الهند. ومقالة في حكاية طريقة الهند في استخراج العمر. وترجمة كلب باره وهي مقالة للهند في الأمراض التي تجري مجرى العفونة.
وغير ذلك، فيؤخذ من هذا أن الهنود أهل علم ورأي في النجوم وعلومها وأن المسلمين نقلوا عنهم شيئا كثيرا. (ج) كتب الأدب
وأما كتب الهند في الأدب والتاريخ والمنطق والأسمار والخرافات مما نقل إلى العربية، فأولها كتاب كليلة ودمنة وقد نقل عن طريق الفارسية كما تقدم، وبعد نقله إلى العربية نظموه شعرا كما نظمه الفرس من قبلهم. وممن نظمه في العربية إبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي وعلي بن داود. (2) كتاب سندباد الكبير. (3) كتاب سندباد الصغير. (4) كتاب البد . (5) كتاب يوذاسف. (6) يوذاسف مفرد. (7) كتاب أدب الهند والصين. (8) كتاب هابل في الحكمة. (9) كتاب الهند في قصة هبوط آدم. (10) كتاب طرق. (11) كتاب دبك الهندي في الرجل والمرأة. (12) كتاب حدود منطق الهند. (13) كتاب ساديرم. (14) كتاب ملك الهند القتال والسباح. (15) كتاب بيدبا في الحكمة.
239
ومما نقله العرب من الهنود كتاب في الموسيقى اسمه في الهندية (بيافر) ومعناه ثمار الحكمة وفيه أصول الألحان وجوامع تأليف النغم.
240 (7-4) الكتب المنقولة عن النبطية
قد رأيت فيما تقدم كتبا كثيرة فلسفية وطبية نقلت من اليونانية إلى العربية عن طريق اللغة السريانية أخت النبطية أو هي عينها فلا نتعرض لذكرها. وإنما المراد بهذا الباب الكتب التي كانت مكتوبة في اللغة الكلدانية أو النبطية ونقلت إلى العربية رأسا ولولا نقلها لضاعت. وأهم تلك الكتب كتاب الفلاحة النبطية فإنه فريد في بابه، وقد نقله إلى العربية أحمد بن علي بن المختار النبطي المعروف بابن وحشية سنة 291ه، وظل معتمد أهل الزراعة إلى أمد غير بعيد، وقد نقل إلى اللغات الإفرنجية ولولا نقله إلى العربية لضاع وخسره العالم كما يؤخذ من مطالعة مقدمته، فقد قال ابن وحشية وهو يملي الكتاب على علي بن محمد بن الزيات سنة 318ه: «اعلم يا بني أني وجدت هذا الكتاب في كتب الكسدانيين (الكلدان أو النبط) يترجم معناه في العربية كتاب فلاحة الأرض وإصلاح الزرع والشجر والثمار ودفع الآفات عنها. وكان هؤلاء الكسدانيون أشد غيرة عليها، لئلا يظهر هذا الكتاب فكانوا يخفنونه بجهدهم. وكان الله عز وجل قد رزقني المعرفة بلغتهم ولسانهم، فوصلت إلى ما أردت من الكتب بهذا الوجه. وكان هذا الكتاب عند رجل متميز فأخفى عني علمه، فلما اطلعت عليه لمته في إخفاء الكتاب عني وقلت له: إنك إن أخفيت هذا العلم دثر ومضى ولا يبقى لأسلافك ذكر. وما يصنع الإنسان بكتب لا يقرأها ولا يخلي من يقرأها؟ فهي عنده بمنزلة الحجارة والمدر، فصدقني في ذلك وأخرج إلي الكتب، فجعلت أنقل كتابا بعد كتاب. فكان أول كتاب نقلته كتاب دواناي البابلي في معرفة أسرار الفلك والأحكام على حوادث النجوم، وهو كتاب عظيم المحل، ونقلت كتاب الفلاحة هذا بتمامه إلخ»
241 (2) كتاب طرد الشياطين ويعرف بالأسرار. (3) كتاب السحر الكبير. (4) كتاب السحر الصغير. (5) كتاب دوار على مذهب النبط. (6) كتاب مذاهب الكلدانيين في الأصنام. (7) كتاب الإشارة في السحر. (8) كتاب أسرار الكواكب. (9) كتاب الفلاحة الصغير. (10) كتاب في الطلسمات. (11) كتاب الحياة والموت في علاج الأمراض. (12) كتاب الأصنام. (13) كتاب القرابين. (14) كتاب الطبيعة. (15) كتاب الأسماء وأكثرها من نقل ابن وحشية.
242
غير ما لا بد من نقله من كتب الدين وأخبار الكلدان القدماء. (7-5) الكتب المنقولة عن العبرانية واللاتينية والقبطية
لا ريب أن كثيرا من تعاليم اليهود وآدابهم المدونة في التلمود وغيره من كتبهم قد نقل إلى العربية، وإن كنا لا نرى شيئا منها مدونا بصفة ترجمة؛ لأنهم كانوا ينقلونها شفاها للصحابة وغيرهم على ما تقدم، وربما دونوا منها شيئا وضاع. وأما ما وصل إلينا خبره من المنقول عن العبرانية فترجمة أسفار التوراة، نقلها سعيد الفيومي المتوفى سنة 330ه وهو أقدم من نقل التوراة إلى العربية مما وصل إلينا خبره، وله أيضا شروح وتفاسير عليها.
243
ولا يبعد أن يكون قد نقل إلى العربية بعض الكتب عن اللاتينية؛ لأنها كانت تحوي كثيرا من العلوم الفلسفية والتاريخية والشرعية وغيرها، وربما فات نقلة الأخبار ذكر ما نقل عنها. وقد رأينا في جملة المترجمين أن يحيى بن البطريق لا يعرف غير اللغة اللاتينية وأنه ترجم عدة كتب، فالظاهر أنه ترجمها عن اللاتينية.
وأما القبطية فإذا لم ينقل العرب عنها رأسا فلا نشك في أنهم نقلوا كثيرا من علوم المصريين بواسطة اللغة اليونانية، وخصوصا صناعة الكيمياء القديمة وغيرها مما برع فيه المصريون، وأما الكيمياء فقد نقلت عن القبطي واليوناني معا بأمر خالد بن يزيد.
244 (8) الخلاصة
وفي الجملة فإن المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان معروفا من العلم والفلسفة والطب والنجوم والرياضيات والأدبيات عند سائر الأمم المتمدنة في ذلك العهد، ولم يغادروا لسانا من ألسن الأمم المعروفة إذ ذاك لم ينقلوا منه شيئا، وإن كان أكثر نقلهم عن اليونانية والفارسية والهندية. فأخذوا من كل أمة أحسن ما عندها، فكان اعتمادهم في الفلسفة والطب والهندسة والموسيقى والمنطق والنجوم على اليونان، وفي النجوم والسير والآداب والحكم والتاريخ والموسيقى على الفرس، وفي الطب (الهندي) وفي الفلاحة والزراعة والتنجيم والسحر والطلاسم على الأنباط والكلدان، وفي الكيمياء والتشريح على المصريين، فكأنهم ورثوا أهم علوم الآشوريين والبابليين والمصريين والفرس والهنود واليونان، وقد مزجوا ذلك كله وعجنوه واستخرجوا منه علوم التمدن الإسلامي (الدخيلة).
ومما نلاحظه من أمر ذلك النقل أن العرب، مع كثرة ما نقلوه عن اليونان، لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر، مع أنهم نقلوا ما يقابلها عند الفرس والهنود، فقد نقلوا جملة صالحة من تواريخ الفرس وأخبار ملوكهم وترجموا الشاهنامة. ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودتس، ولا جغرافية إسترابون، ولا إلياذة هوميروس ولا أوديسته. والسبب في ذلك أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق، لأسباب تقدم بيانها. وأما التواريخ والآداب فقد كان التراجمة ينقلونها غالبا من عند أنفسهم، حبا في إظهار مآثر أسلافهم أو جيرانهم. فالمترجمون الفرس نقلوا شيئا من تواريخ الفرس وآدابهم، وكذلك فعل التراجمة السريان بآداب أجدادهم وكذلك التراجمة الهنود. فلو كان في أولئك المترجمين واحد من اليونان لنقلوا كثيرا من تواريخ أمتهم وأشعارها.
ولا ريب أن من جملة ما منعهم من نقل الإلياذة إلى العربية ذكر الآلهة والأصنام فيها، ولكن في الشاهنامة أيضا كثيرا من ذلك فلم يمنعهم من نقلها.
ويلاحظ أيضا أن العرب نقلوا من علوم تلك الأمم في قرن وبعض القرن ما لم يستطع الرومان بعضه في عدة قرون، وذلك شأن المسلمين في أكثر أسباب تمدنهم العجيب. (8-1) محاسبة الخلفاء للعلماء غير المسلمين
ومن العوامل الفعالة في سرعة نضج العلم في النهضة العباسية، وكثرة ما ترجم في تلك المدة القصيرة، أن الخلفاء أصحاب تلك النهضة كانوا يبذلون كل مرتخص وغال في سبيل نقل الكتب، ويرغبون النقلة وغيرهم بالبذل والإكرام والمحاسنة، بقطع النظر عن مللهم أو نحلهم أو أنسابهم، وقد كان فيهم النصراني واليهودي والصابئ والسامري والمجوسي. فكان الخلفاء يعاملونهم كافة بالرفق والإكرام، مما يصح أن يكون مثالا للاعتدال والحرية وقدوة لولاة الأمور في كل العصور.
بلغ من إكرام المنصور لطبيبه جورجيس بن بختيشوع
245
أنه أمر أن يحضروا له المشروب وهو محرم في الإسلام. وذلك أنه رأى وجهه يتغير على أثر إقامته في بغداد، فقال المنصور لحاجبه الربيع: «أرى هذا الرجل قد تغير وجهه ... أتكون قد منعته مما يشربه على عادته؟» قال الربيع: «لم نأذن له أن يدخل إلى هذه الدار مشروبا» فأجابه المنصور بقبيح وقال: «لا بد أن تمضي بنفسك حتى تحضره من المشروب كل ما يريده». فمضى الربيع إلى قطربل وحمل منها إليه غاية ما أمكنه من الشراب الجيد
246
وكان ذلك شأن المنصور مع أكثر أطبائه، حتى كان يستشير بعضهم في أهم الأمور. فلما طلب أهل خراسان عقد البيعة لابنه المهدي كان من أطبائه طبيب يهودي اسمه فرات بن شحاثا وكان حاضرا، فقال له المنصور: «ما تقول يا فرات؟» فأشار عليه بما يراه.
وبلغ من إكرام الرشيد لطبيبه جبريل بن بختيشوع أنه دعا له وهو في الموقف بمكة دعاء كثيرا، فأنكر عليه بنو هاشم ذلك وقالوا: «يا سيدنا، ذمي» فقال: «نعم، ولكن صلاح بدني وقوامه به، وصلاح المسلمين بي، فصلاحهم بصلاحه وبقائه» فقالوا: «صدقت يا أمير المؤمنين!»
247
أما المأمون فلطفه وإكرامه العلماء أشهر من أن يذكر.
وكثيرا ما كان الخلفاء يطلقون أيدي أطبائهم في دورهم، ويستشيرونهم في مهام أمورهم الإدارية والسياسية، وربما كلفوهم التوقيع عنهم. فكان المعتصم قد استطب سلمويه بن بنان النصراني، وبلغ من إكرامه إياه أنه كان إذا ورد إلى الخليفة كتاب يقتضي توقيعا، وكان سلمويه حاضرا، أمره أن يوقع عنه بخطه. وكل ما كان يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر أو توقيع من الخليفة فبخط سلمويه. وكذلك كان شأن داود بن ديلم مع المعتضد
248
ومن أدلة إكرام المعتصم لسلمويه أنه ولى أخاه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد وخاتمه مع خاتم الخليفة، ولم يكن أحد عنده مثل سلمويه وأخيه في المنزلة. وكان المعتصم يدعو سلمويه «أبي» وكان إذا قرب الفصح أو غيره من أعياد النصارى أذن له بالذهاب إلى بلده القادسية ليقيم في كنيستها ويتقرب، ويزوده بالأكسية والمسك والبخور. ولما اعتل سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده وقال له: «تشير علي بعدك بما يصلحني؟» فأشار عليه بيوحنا بن ماسويه. فلما مات سلمويه امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته، وأمر بأن تحضر جنازته الدار ويصلى عليه بالشمع والبخور على زي النصارى الكامل، ففعلوا وهو بحيث يبصرهم ويباهي في كرامته
249
وكذلك كان المتوكل والمهتدي وغيرهم في إكرام الأطباء وتقديمهم والإحسان إليهم، وكانوا إذا حضروا مجلس الخليفة جلسوا معه على السدة.
250
وربما جلس الطبيب والوزراء والأمراء وقوف، كما كان شأن ثابت بن قرة الصابي مع المعتضد بالله.
251
وكان مواكبهم إذا ركبوا مثل مواكب الأمراء والوزراء. وكان الخلفاء يمازحونهم ويماجنونهم، وهم أول من يدخل عليهم للنظر فيما يحتاجون إليه مما يصلح أبدانهم، ويختارون لهم الأطعمة المناسبة . ولم يكن الخليفة يتناول دواء إلا بإذن طبيبه، فإذا فعل ولم يستأذنه جر عليه غضب الطبيب واضطر لاسترضائه. ذكروا أن المتوكل احتجم بغير إذن طبيبه إسرائيل بن الطيفوري، فغضب إسرائيل فافتدى الخليفة غضبه بثلاثة آلاف دينار وضيعة تغل في السنة 50000 درهم
252
وكان جبرائيل الكحال أول من يدخل على المأمون بعد الصلاة، فيغسل أجفانه ويكحل عينيه، فإذا انتبه من قائلته فعل مثل ذلك.
253
وطبيعي أن يأنس الإنسان بطبيبه ويكرمه، وخصوصا في دور الخلفاء في ذلك العصر، والمطالبون بالخلافة كثيرون ومن أقرب الطرق إلى نيل مطالبهم أن يقتلوا الخليفة بالسم، وذلك هين على الطبيب. وكثيرا ما كانوا يخافون ذلك من ملوك الروم. فكان الخلفاء يخافون أن يفعل الأطباء ذلك طمعا في مال أو منصب، فكانوا يبذلون الجهد في أن يملأوا جيوبهم وعيونهم وقلوبهم. وكثيرا ما كانوا يمتحنون أمانتهم وسلامة ذمتهم قبل التسليم لهم، كما فعل المتوكل بحنين بن إسحاق لما أراد أن يستطبه وقد خافه على نفسه، فبعث إليه فلما حضر أقطعه إقطاعا سنيا وقرر له جاريا وخلع عليه ثم قال له: «أريد أن تصف لي دواء يقتل عدوا نريد قتله سرا» فقال حنين: «ما تعلمت غير الأدوية النافعة، ولا علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحب أن أمضي وأتعلم فعلت» فقال: «هذا شيء يطول بنا». ثم رغبه وهدده وحبسه في بعض القلاع سنة، ثم أحضره وأعاد عليه القول وأحضر سيفا ونطعا وهدده بالقتل فقال: «لي رب يأخذ لي حقي غدا في الموقف العظيم» فتبسم المتوكل وأخبره أنه أراد امتحانه.
254
ولنفس هذا السبب كان الخلفاء يوجبون على أطبائهم النصارى أو غيرهم التمسك بطقوس دياناتهم
255
ويكرمون أهل تلك الأديان من أجلهم. فقد كان ثابت بن قرة صابئيا، فلما نال حظوة عند المعتضد تجددت الرئاسة للصابئة في مدينة السلام. وقلما كانوا يريدونهم على الإسلام إلا نادرا، كما أراد القاهر بالله سنان بن ثابت المذكور فهرب ثم أسلم خوفا منه. على أن الصابئة كثيرا ما كانوا يصومون شهر رمضان مع المسلمين، كما كان يفعل أبو إسحاق الصابي الكاتب المشهور في أيام عز الدولة، ومع ذلك فلما أراده عز الدولة على الإسلام لم يفعل؛ لأنه كان متمسكا بدينه. والصابي هذا هو الذي رثاه الشريف الرضي بقصيدته الدالية التي مطلعها:
256
أرأيت من حملوا على الأعواد
أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
ولم يمنعه شرفه في الإسلام من هذا الرثاء. ويدلك ذلك على أن التعصب أو التساهل إنما يكون مصدرهما من صاحب الأمر والنهي، فإذا كان الأمير معتدلا أو متعصبا كانت رعيته مثله. ولذلك فقد كان التساهل في عصر النهضة العباسية شاملا على الخصوص أهل الخلفاء وأهل الوجاهة والعلم. ولم يكن العالم المسلم يستنكف أن يأخذ العلم عن نصراني، حتى الفارابي الفيلسوف الكبير فقد أخذ بعض علمه عن أحد نصارى حران
257
وكان النصارى من الجهة الأخرى لا يستنكفون من قراءة التوراة والإنجيل على فقيه مسلم.
258
أما بذل الأمول للأطباء فلا حاجة إلى ذكره لشهرته، ومن مراجعة ثروة جبريل بن بختيشوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب كفاية. فضلا عما كانوا يكسبونهم من الأموال غير الرواتب، فإن المأمون أمر أن كل من يتقلد عملا لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى طبيبه جبريل ويكرمه. وللمأمون شعر فيه:
أفي طبك يا جبري
ل ما يشفي ذوي العلة؟
غزال قد سبى عقلي
بلا جرم ولا زلة
259
فكيف لا يزهو العلم ويزهر ويثمر في ظل هؤلاء؟
ولم تكن تلك المحاسنة خاصة بالنهضة العباسية، بل كانت تتناول كل دولة نهضت للعلم، فالدولة الفاطمية بمصر كان أكثر أطبائها من النصارى واليهود والسامريين، وكانت لهم عندهم منزلة الأطباء في الدولة العباسية، فكانوا يغدقون عليهم الأموال، ويولونهم الوظائف والمناصب ويستشيرونهم ويكرمونهم ويلقبونهم بألقاب الشرف، كسلطان الحكماء وأمين الدولة ومعتمد الملك
260
ويخاطبونهم كما يخاطبون الأمراء والوزراء. كان طبيب العزيز بالله الفاطمي نصرانيا اسمه منصور بن مقشر، فاعتل الطبيب وتأخر عن الركوب، فلما تماثل كتب إليه الخليفة العزيز بخط يده «بسم الله الرحمن الرحيم. على طبيبنا - سلمه الله - سلام الله الطيب، وأتم النعمة عليه. وصلت إلينا البشارة بما وهبه الله من عافية الطبيب وبرئه، والله العظيم لقد عدل عندنا ما رزقناه نحن من الصحة في جسمنا. أقالك الله العثرة، وأعادك إلى أفضل ما عودك من صحة الجسم وطيبة النفس وخفض العيش بحوله وقوته».
261
ويقال نحو ذلك في دولة الأندلس، فقد كان للأطباء والعلماء في أيام الحكم المستنصر بن الناصر ما كان لهم في أيام المأمون لمشابهة بين الخليفتين. فقد كان الحكم محبا للعلم والعلماء جماعا للكتب كما سيأتي. على أن حال هؤلاء العلماء كانت تختلف باختلاف الخلفاء واختلاف العصور. (8-2) انتشار العلوم الدخيلة في المملكة الإسلامية
لم تكد العلوم الدخيلة تنقل إلى العربية حتى أخذ المسلمون في درسها والاشتغال بها. وكان اشتغالهم في بادئ الرأي على سبيل التلخيص أو الشرح أو التعليق، حتى إذا نضج تمدنهم وانتشرت العلوم في البلاد - للأسباب الآتية - أخذ المسلمون في التأليف من عند أنفسهم، وبعد أن كانت العلوم في القرنين الأولين نقلية إنما تحتاج إلى الادخار في الذاكرة، أصبحت في القرنين التاليين وما بعدهما عقلية عمدتها النظر والقياس والتحليل والتركيب.
وكانت بغداد كعبة العلم ومحج العلماء ومنبت أهل الفضل ومقر نقلة العلم في أثناء النهضة العباسية، وخصوصا في أيام المأمون. حتى إذا تولى المعتصم واستكثر من الأتراك، وظهرت منهم الإساءة لأهل بغداد نفر الناس وتباعدت القلوب، ولكن المعتصم كان على مذهب أخيه المأمون في الاعتزال وإكرام الشيعة، فظلت بغداد على نحو ما كانت عليه في أيام المأمون. وكان الواثق يتشبه بالمأمون في حركاته وسكناته، وكان يعقد المجالس مثله للمباحثة بين الفقهاء والمتكلمين في أنواع العلوم العقلية والسمعية في جميع الفروع.
262
فلما توفي الواثق سنة 233ه خلفه أخوه جعفر المتوكل، وكان شديد الانحراف عن الشيعة والمعتزلة، حتى أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل ومنع الناس من إتيانه، وكان كثير الاستهزاء بعلي
263
وكان يجالس من اشتهر ببغضه. وخالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، فأبطل القول بخلق القرآن، ونهى عن الجدل والمناظرة في الآراء، وعاقب عليه، وأمر بالرجوع إلى التقليد ونصر السنة والجماعة، وأمر الشيوخ والمحدثين بالتحديث، فانحط علم الكلام بعد أن بلغ رونقه في أيام الرشيد وخلفائه، فأخذ في التقهقر في أيام المتوكل؛ لأنه كان شديد الوطأة على أصحاب الرأي وأصحاب الفلسفة وسائر العلوم الدخيلة. وأخذ منذ تولى الخلافة في مناوأتهم، فأهلك جماعة من العلماء وحط مراتبهم وعادى العلم وأهله، ولاقى أهل الذمة منه الشدائد بتغيير زيهم وتذليلهم وإهانتهم.
264
ومن أشهر حوادث نقمته على خدمة العلم، أنه غضب على بختيشوع الطبيب وقبض ماله ونفاه إلى البحرين، وقتل أبا يوسف يعقوب المعروف بابن السكيت
265
وسخط على عمر بن مصرح الراجحي وكان من علية الكتاب، وأخذ منه مالا وجوهرا وأمر أن يصفع في كل يوم، فأحصى ما صفع به فكان ستة آلاف صفعة.
266
ومات المتوكل مقتولا سنة 247ه، قتله رجاله بتحريض ابنه فاضطربت أحوال الخلافة واستفحل شأن الأتراك، فنفرت قلوب طلبة العلم وأكثرهم من الفرس والعرب، فتفرقوا من بغداد رويدا رويدا إلى أنحاء المملكة الإسلامية شرقا وغربا، ولذلك كان أكثر من ظهر من العلماء - بعد نضج العلم في القرن الرابع للهجرة فما بعده - إنما نبغوا خارج بغداد، وفيهم الأطباء والفلاسفة والمهندسون والمتكلمون وأصحاب المنطق والفقهاء واللغويون وغيرهم.
فكان مركز الطب والطبيعيات والفلسفة - عند ظهور الإسلام - في الإسكندرية، ثم انتقل في أيام عمر بن عبد العزيز في آخر القرن الأول للهجرة إلى أنطاكية. وكان مركز العلوم الإسلامية في أول الإسلام في المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ومنها إلى الكوفة. فلما بنيت بغداد انتقلت إليها تلك العلوم، ثم انضمت إليها العلوم الدخيلة، فأصبحت بغداد أم المدائن في العلم والأدب والفلسفة والطب وسائر العلوم العقلية والنقلية. فلما اضطربت أحوال الخلافة في أيام المتوكل، ثم لما نشأت الدول الجديدة في أنحاء المملكة الإسلامية بالتفرع والتشعب على مقتضى ناموس الارتقاء، تفرق العلماء وأصبح للعلم مراكز كثيرة قد يتفاضل بعضها على ببعض. وتدرج الانتقال من بغداد أولا إلى العراق العجمي، فخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب والأندلس.
وربما كانت الأندلس أسبق من سواها إلى الأدب والشعر؛ لأنها ورثت دول المشرق في ذلك، فأصبحت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ومجتمع العلماء، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر ومناشدة الشعراء،
267
وهي في ذلك وفي غيره مدينة لبغداد وخصوصا في العلوم الدخيلة. فإن الموسيقى نقلت إليها من بغداد على يد زرقون وعلون، دخلا في أيام الحكم بن هشام.
268
وأما الفلسفة فقد دخلتها في عهد عبد الرحمن الأوسط المعاصر للمأمون وازدهت في أيام الحكم بن الناصر
269
أما الطب فدخل المغرب ثم الأندلس على يد إسحاق بن عمران، أصله من بغداد ورحل إلى المغرب ونقل الطب معه
270
في أوائل القرن الثالث. على أن أطباء الأندلس ومصر ما زالوا حينا من الدهر يرحلون في إتقان الطب وغيره من العلوم الدخيلة إلى بغداد. حتى يهود الأندلس فقد كانوا يستخرجون فقههم من يهود بغداد
271
ويقال نحو ذلك في سائر بلاد الإسلام.
وبالجملة فإن بذور العلم التي ألقاها خلفاء النهضة العباسية في بغداد، ظهرت ثمارها في خراسان والري وخوزستان وأذربيجان وما وراء النهر، وفي مصر والشام والأندلس وغيرها. وظلت بغداد مع ذلك حافلة بالعلماء بقوة الاستمرار، وبما فيها من أسباب الثروة ولأنها مركز الخلافة. فنبغ فيها جماعة من أهل العلم المسلمين، فضلا عن الأطباء النصارى الذين كانوا يخدمون الخلفاء في التطبيب والترجمة.
على أن أكثر العلماء غير المسلمين، الذين نبغوا فيها بعد تلك النهضة، كانوا يتقاطرون إليها من أنحاء جزيرة العراق وغيرها لخدمة الخلفاء، أما المسلمون فالغالب أن يكون ظهورهم خارج العراق، ولا سيما وأن أكثر ملوك الدول الجديدة التي تفرعت من الدولة العباسية اقتدوا بخلفاء النهضة العباسية، في ترغيب أهل العلم واستقدامهم إلى عواصمهم في القاهرة وغزنة ودمشق ونيسابور وإصطخر وغيرها. فالرازي من الري، وابن سينا من بخارى في تركستان، والبيروني من بيرون في بلاد السند، وابن جلجل النباتي من أهل الأندلس، وكذلك ابن باجة الفيلسوف وابن زهر الطبيب وأقاربه آل زهر وابن رشد وابن الرومية النباتي وكلهم من الأندلس.
أما مصر فأكثر أطبائها المشاهير من النصارى واليهود والسامريين، وقد نبغ فيها ابن الهيثم من أهل الفلسفة والطبيعيات، وعلي بن رضوان الطبيب الشهير والشيخ السديد رئيس الأطباء، ورشيد الدين أبو حليقة الطبيب الفيلسوف، وضياء الدين بن البيطار النباتي الشهير. أما الشام فقد نبغ منها الفارابي الفيلسوف، وأبو المجد بن أبي الحكم، وشهاب الدين السهروردي، وموفق الدين البغدادي الرحالة، ناهيك بعدد عديد من النصارى الذين خدموا الخلفاء والأمراء في الطب والفلسفة وغيرهما ممن نبغ في الشام.
ويقال نحو ذلك في علماء العلوم الإسلامية، كالفقهاء والمحدثين واللغويين والشعراء، فإنهم مع بقاء بغداد آهلة بهم فقد ظهر جماعة كبيرة منهم في خارجها، وألقابهم تدل على أماكنهم، كالبخاري والشيرازي والنيسابوري والسجستاني والفرغاني والبلخي والخوارزمي والفيروزابادي والحموي والدمشقي والفيومي والسيوطي والقرطبي والإشبيلي وغيرهم. (8-3) الخلفاء والأمراء والعلم (أ) اشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم
فلا غرو إذا احتفى الخلفاء والأمراء بأهل العلم وحاسنوهم، وهم أنفسهم كانوا من طلبة العلم ومريديه، وإذا كان الملك أو الأمير عالما زها في أيامه العلم وسعد خدمته. ومن شروط الخلافة في الإسلام أن يكون الخليفة عالما بالأمور الشرعية، ولذلك كان الخلفاء في الغالب عالمين بها، يعقدون المجالس للنظر فيها ويقربون الفقهاء والمحدثين، وتطرقوا من ذلك إلى الرغبة في النحو واللغة والتاريخ، لارتباط تلك العلوم بعضها ببعض، والعلم مترابط يطلب بعضه بعضا. فلما أقاموا في العراق، وأحاط بهم أهل العلوم الطبيعية والفلسفة والنجوم من السريان والفرس، واطلعوا على شيء من تلك العلوم، تاقت أنفسهم إليها واشتغلوا بها، وكان ذلك الاشتغال باعثا على استنارة الخلفاء والأمراء، فنبغ من ذلك العصر فما بعده جماعة من الخلفاء، انتظموا في سلك أهل العلم الطبيعي فضلا عن الأدبي.
وأعلم خلفاء بني العباس المأمون، فقد كان عالما بالشرع واللغة والنجوم والفلسفة والمنطق، ويقابله في الدول الإسلامية الأخرى الحكم المستنصر بن الناصر الأموي في الأندلس (توفي سنة 366ه) والحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر (توفي سنة 411ه) أما الحكم فقد كان مع رغبته في العلم جماعا للكتب يبذل الأموال في استجلابها من الأقطار. وأما الحاكم فقد كان عالما بالنجوم وبنى مرصدا وأنشأ مكتبة كما سيأتي، وكذلك كان عبد الرحمن الأوسط أمير الأندلس المتوفى سنة 238ه
272
وهو أول من وصلت إليه كتب الفلسفة من أمراء الأندلس واطلع عليها وتظاهر بها، اقتداء بالمأمون لقرب عهده منه. أما قبلهما فلم يكن أحد من الخلفاء يعرف الفلسفة، وإذا عرفها فلا يجسر على التظاهر بها، ولكنهم كانوا يعرفون النجوم ويشتغلون بها، كما فعل المنصور والرشيد. أما بعد النهضة العباسية فقد تظاهر بعض الخلفاء بالفلسفة والعلم الطبيعي.
أما الأدب والشعر فكان للخلفاء حظ وافر منهما، وقد ذكرنا بباب الشعر من اشتغل به منهم. أما الأدب فقد كان السفاح تعجبه المحادثة ومفاخرات العرب من نزار واليمن
273
وكان المنصور صاحب أخبار وآداب وله كتاب فيها
274
وكان الهادي يجالس الأدباء يقصون عليه الأخبار والأشعار. وابن المعتز أول من ألف في علم البديع
275
وإبراهيم بن المهدي كان من علية أهل الأدب والشعر. ويقال نحو ذلك في بني حمدان في حلب، وبني عباد في الأندلس، وبني بويه في بغداد.
وكان هؤلاء الخلفاء أو الأمراء يقدمون أهل العلم ويستوزرونهم . ومن الوزراء العلماء: يحيى بن خالد وزير الرشيد، ويعقوب بن كلس وزير العزيز بالله بمصر، وكذلك كان أكثر الوزراء في الدولة العباسية وغيرها.
وإذا كان السلطان من أهل العلم فلا غرو إذا كثر العلماء في عصره وزها العلم على يده؛ لأن الناس على ما يريد ملوكهم وخصوصا في الحكم المطلق؛ لأن الأفكار تتجه إلى إرضاء الحاكم المطلق فيشتغلون بما يرضيه. قال أسامة بن معقل: «كان السفاح راغبا في الخطب والرسائل يصطنع أهلها ويثيبهم عليها، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلبا للحظوة عنده فنلتها، وكان المنصور بعده معنيا بالأسمار والأخبار وأيام العرب يدني أهلها ويجيزهم عليها، فلم يبق شيء من الأسمار أو الأخبار إلا حفظه طلبا للقربى منه، وكان موسى الهادي مغرما بالشعر يستخلص أهله، فما تركت بيتا نادرا ولا شعرا فاخرا ولا نسيبا سائرا إلا حفظته، ولم أر شيئا أدعى إلى تعلم الآداب غير رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها».
276 (ب) تأليف الكتب للخلفاء والأمراء
وهذا هو الواقع في كل عصر، وكل دولة. فالمأمون لولا حبه العلم وإحرازه شيئا منه لم يقدم على ترجمة الكتب، وقد كان يعقد المجالس للمناظرة والمحاورة، وهو الذي أمر الفراء بجمع أصول النحو وأخلاه في غرفة وأطلق له الأموال
277
فزها العلم في أيامه وخصوصا الفلسفة؛ لأنه كان يحبها. وما من أمير ولا ملك محب للعلم إلا اجتمع العلماء حوله، وألفوا له الكتب فيما يحبه من فروع العلم وهو يجيزهم عليها. فمحمد بن إسحاق الراوية الشهير ألف كتاب المغازي للمنصور وهو في الحيرة
278
وابن بكار ألف كتاب الأخبار المعروف بالموفقيات للموفق بالله
279
والرازي ألف كتاب المنصوري باسم المنصور بن إسحاق، ولما تولى عضد الدولة بن بويه دار السلام قرب إليه أهل العلم، فقصدوه من كل بلد وصنفوا له «كتاب الإيضاح» في النحو و«كتاب الحجة» في القراءات و«كتاب الملكي» في الطب و«التاجي» في تاريخ الديلم وغيرها،
280
وسعيد بن هبة الله الطبيب ألف كتاب المغني في الطب للمقتدي بأمر الله،
281
وقد يؤلفون الكتب للوزراء والأمراء ، فقد ألف الحريري مقاماته لأنوشروان وزير المسترشد
282
وألف جبريل بن عبيد الله بن بختيشوع كتاب الكافي بلقب الصاحب بن عباد لمحبته له. وقس على ذلك كثيرين ألفوا الكتب بأسماء الخلفاء والأمراء أو الوجهاء. والغالب أن يكون الغرض من ذلك الطمع في العطايا الوافرة، وكانوا ينالون شيئا كثيرا منها. فالمنصور الأندلسي أثاب على كتاب النصوص بخمسة آلاف دينار
283
والفردوسي نظم الشاهنامة للسلطان محمود الغزنوي على أن يعطيه على كل بيت دينارا فبلغت 60000 بيت.
على أنهم لم يكونوا يجيزون على تأليف الكتب اعتباطا، وإنما كانوا ينظرون فيها فإذا لم يتوسموا فيها نفعا نبذوها وربما عاقبوا مؤلفيها، فأبو بكر الرازي الطبيب ألف للمنصور بن إسحاق المذكور كتابا في صناعة الكيمياء فأجازه عليه بألف دينار، ولكنه طالبه بإثبات ما فيه فلما عجز عن ذلك قال له المنصور: «ما اعتقدت أن حكيما يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل قلوب الناس بها . وقد كافأتك على قصدك وتعبك بألف دينار. ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب!» ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطع، ثم جهزه وأرجعه إلى بغداد.
284
وكان بعض الأمراء والسلاطين يتفاخرون بتقريب العلماء وتأليف الكتب بأسمائهم، وخصوصا في الأندلس بعد ذهاب دولة بني أمية منها وقيام دول الطوائف. فإنهم كانوا يقلدون الخلفاء في حب العلم وتنشيط العلماء، وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء ويحب أن يشتهر عنه ذلك وخصوصا عند مباديه في الرئاسة
285
وكانوا يتباهون أن يقال إن العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني. وكان العلماء والشعراء يدلون عليهم ويستعزون، وربما أبى الشاعر أن يمدح الملك إلا بمال معين يشترطه سلفا والملوك يسترضونهم بما يريدون، وقد يقترح الأمير على العالم أن يؤلف كتابا باسمه فلا يرضى ولو بالمال الكثير. حكي أن أبا غالب تمام بن غالب اللغوي القرطبي المتوفى سنة 436ه، لما ألف كتابه في اللغة بعث إليه أبو الجيش مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوبا وكساء، على أن يجعل الكتاب المذكور باسمه فيزيد في آخره : «هذا الكتاب مما ألفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد» فرد الدنانير وقال: «كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي أجعل في صدره اسم غيري وأصرف الفخر له؟» فلما بلغ هذا مجاهدا استحسن أنفته وضاعف له العطاء وقال: «هو في حل من أن يذكرني فيه لا نصده عن غرضه».
286
على أن بعض العلماء كانوا يؤلفون الكتب لأبنائهم وإخوانهم وأصدقائهم لا يلتمسون على ذلك أجرا، وقد يؤلفون لأنفسهم، ومن لطيف ما جاء في مقدمة كتاب حياة الحيوان للدميري قوله: «هذا الكتاب لم يسألني أحد تأليفه».
وجملة القول أن التمدن الإسلامي كان حافلا بأهل العلم، من قصور الخلفاء إلى المساجد ومنازل الأمراء والعامة إلى مجالس الغناء. وكانوا يعقدون المجالس للمناظرة في العلوم على اختلافها، وفي الآداب على تنوع وجهاتها، وفي الشعر وغيره، وكانوا يفرضون العلم على أولادهم وإخوانهم ومماليكهم وجواريهم وسراريهم. وكانوا يعلمون الجواري ويثقفونهن ويحفظونهن القرآن ويروونهن الأشعار والأخبار ويعلمونهن النحو والعروض والغناء ثم يتهادونهن. وقد كان عند زبيدة أم الأمين مائة جارية يحفظن القرآن، وكان يسمع من قصرها دوي كدوي النحل من القراءة
287
حتى المخانيث فقد كانوا يؤدبونهم، وكان في قرطبة في أوائل القرن الخامس للهجرة جملة من الفتيان المخانيث ممن أخذ من الأدب بأوفر نصيب ولهم فيه مؤلفات.
288
وأغرب من ذلك بذلهم الأموال للمطالعين، فضلا عن المؤلفين، فالملك المعظم شرف الدين عيسى الأيوبي صاحب دمشق كان من رغاب الأدب، فاشترط لكل من يحفظ كتاب المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه جماعة كبيرة
289
وهذه منقبة لم يسمح بمثلها. (8-4) المؤلفون والمؤلفات
فلا عجب والحالة هذه إذا كثر المؤلفون وتعددت مؤلفاتهم واتسعت مباحثهم، وكان منهم الملوك والأمراء والوزراء والأغنياء والفقراء، وفيهم العرب والفرس والروم واليهود والسريان والهنود والترك والديلم والقبط، وغيرهم من الملل الخاضعة للإسلام في أنحاء العالم المتمدن يومئذ، في الشام ومصر والعراق وفارس وخراسان وما وراء النهر والهند وفي المغرب والأندلس وغيرها. وقد حوت مؤلفاتهم البحث في كل ما أنتجته قريحة الإنسان إلى ذلك الزمان، من الطبيعيات والإلهيات والعقليات والرياضيات والنقليات. ودعت أبحاثهم الواسعة إلى تشعب العلوم وتفرعها حتى زادت على خمسمائة علم، ذكرها طاشكبرى زاده في مفاتيح العلوم، ومنها ما لم يكن له وجود قبل الإسلام، كالاقتصاد السياسي، وفلسفة التاريخ، والموسوعات التاريخية، والجغرافية. غير العلوم الإسلامية الخاصة بلغة العرب وآداب المسلمين.
وقد تعددت مؤلفاتهم حتى أصبحت تعد بعشرات الألوف، ويستدل على كثرتها مما بقي من خبرها إلى القرن الحادي عشر للهجرة على ما في كشف الظنون. فقد بلغ عدد المؤلفات المذكورة هناك 14501 غير الشروح والتعاليق، وغير ما ضاع خبره منها في النكبات المتوالية في أثناء الفتن الداخلية بين الفرق الإسلامية وغيرها، وما كان يحرقه ولاة الأمر من كتب الفلسفة ومتعلقاتها، اضطهادا لأصحابها كما سيجيء. حتى ذهب معظم ما ترجموه أو ألفوه ولم يبق منها إلا النزر اليسير.
ولا ريب عندنا أن الضائع من كتب المسلمين يزيد على أضعاف الباقي. ومما يؤيد ذلك أن بعض المؤلفين القدماء. كالمسعودي والطبري وابن الأثير وغيرهم، ذكروا في مقدمات كتبهم كثيرا من أسماء المؤلفات التي نقلوا كتبهم عنها وقلما نجد أسماءها في الفهارس.
ومن المؤلفين المسلمين من بلغت مؤلفاته بضع مئات إلى الألف، فمؤلفات أبي عبيدة 200 مؤلف في علوم مختلفة، ومؤلفات ابن سريج 400، ومؤلفات ابن حزم 400 مجلد، ومؤلفات القاضي الفاضل مائة كتاب.
وقس على ذلك مؤلفات كثير من العلماء في الموضوعات المختلفة، كمؤلفات الرازي والسيوطي وابن سينا، وقد بلغت مؤلفات بعضهم ألف كتاب كعبد الملك بن حبيب عالم الأندلس
290
وقد عدت مؤلفات جمال الدين العيني الحافظ وقسمت على عمره فبلغ كل يوم تسع كراريس.
291
ناهيك بضخامة تلك المؤلفات، فإن بعضها يتألف من عشرات المجلدات، وخصوصا كتب التاريخ، فكتاب مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي أربعون مجلدا، وتاريخ دمشق لابن عساكر ثمانون مجلدا، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 14 مجلدا، والأغاني عشرون مجلدا، وابن الأثير 12 مجلدا، ويقال نحو ذلك في غير كتب الأدب كشرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري فإنه بلغ ستين مجلدا
292
وتقدير المجلد يختلف باختلاف الأحوال، فإذا اعتبرنا تقسيم ابن الأثير والأغاني إلى مجلدات رأينا المجلد عبارة عن 200 صفحة فأكثر ولكننا رأينا في بعض النصوص أن تقدير المجلد عشر ورقات،
293
وربما اختلف ذلك باختلاف الموضوعات.
والغالب في المؤلفات الكبرى عندهم أن تكون من قبيل الموسوعات الحاوية في موضوعها وما يقاربه. فمعجم ياقوت موضوعه الأصلي في الجغرافية، ولكنه يحوي تراجم جماعة كبيرة من علماء الإسلام وأدبائه. والأغاني في الغناء ولكنه يشمل فوائد ذات شأن في تاريخ العرب وآدابهم في الجاهلية وأوائل الإسلام، والعقد الفريد كتاب في الأدب، ولكن فيه فوائد كثيرة في الشعر والعروض والأخلاق والتاريخ وغيرها، وقس على ذلك سائر كتب التراجم أو التواريخ المطولة. ومن هذا القبيل الكتب الطبية كالقانون لابن سينا، فإنه عبارة عن قاموس جامع لفنون الطب كالتشريح والفسيولوجيا والباثولوجيا والنبات والصيدلة وغيرها، وكذلك كتاب الرازي. وقد يجمع الكتاب الواحد موضوعات متباعدة، ككتاب حياة الحيوان للدميري، فإن موضوعه علم الحيوان ولكنه حوى شيئا كثيرا من التاريخ والآداب والأخلاق والطب والصيدلة والنبات ، والكشكول كتاب في الأدب والحكم ولكن فيه مقالات وفصولا في فنون متناقضة، كالجبر والهندسة والمنطق والنجوم والفلسفة والتاريخ والأدب واللاهوت والفقه والحديث وغيرها. (9) تأثير الإسلام في العلوم الدخيلة
لما نضج التمدن الإسلامي وانتشرت العلوم الدخيلة في بلاد الإسلام، عني المسلمون بدرسها ونبغ منهم جماعة فاقوا أصحابها وأدخلوا فيها آراء جديدة، فتنوعت وارتقت على ما اقتضاه الإسلام والآداب الإسلامية وما مازجها من علوم الأمم الأخرى، فأصبحت على شكل خاص بالتمدن الإسلامي. فلما نهض أهل أوربا إلى استرجاع علوم اليونان، أخذوا معظمها عن اللغة العربية وفيها الصبغة الإسلامية. فلنبحث فيما أثره التمدن الإسلامي في علوم التمدن القديم. (9-1) الفلسفة في الإسلام
قرأ المسلمون الفلسفة في كتب أفلاطون وأرسطو، وما علقه عليها اليونان من الشروح وأضافوا إليها من الآراء، وهي تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات والأخلاق. فبدأ المسلمون أولا بدرس هذه الكتب، ثم أخذوا في شرحها أو تلخيصها، ثم عمدوا إلى الكتابة في تلك الموضوعات من عند أنفسهم،. ويندر أن يشتغل الواحد منهم في الفلسفة دون الطب والنجوم، أو في الطب دون الفلسفة والنجوم، أو بالعكس. ومن أقوال حنين: «إن الطبيب يجب أن يكون فيلسوفا» لكنهم كانوا يلقبون العالم بما غلب اشتغاله فيه. (أ) الفلاسفة المسلمون في الشرق
وأكبر فلاسفة المسلمين وأشهرهم وأسبقهم يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، وهو عربي الأصل دون سواه من الفلاسفة، ويتصل نسبه بملوك كندة ولذلك سموه فيلسوف العرب. فبعد أن كان العرب في صدر الإسلام يستنكفون من الاشتغال بالعلوم حتى الإسلامية، وبعد أن عملوا على إبادة ما عثروا عليه من علوم الأقدمين في مصر وفارس، أصبحوا لا يستنكفون من الاشتغال حتى بالعلوم الفلسفية الدخيلة. وأول من اشتغل بها منهم أبناء ملوكهم. كان الكندي معاصرا للمأمون والمعتصم إلى المتوكل، وكانت له عندهم منزلة سامية، وقد برع في الطب والفلسفة والحساب والمنطق والألحان والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم، وقد نبغ وليس في المسلمين فيلسوف غيره، وحذا في تآليفه حذو أرسطوطاليس، وله ترجمات عديدة نقلها لنفسه، وكان يعد من حذاق التراجمة ولم يذكر بينهم؛ لأنه لم يرتزق بالترجمة. وقد ألف الكندي في معظم العلوم الدخيلة كتبا كثيرة، ذكرها صاحب الفهرست وإليك عددها باعتبار العلوم:
في الفلسفة
22 كتابا
في الحساب
11 كتابا
في النجوم
19 كتابا
في الهندسة
23 كتابا
في الفلكيات
16 كتابا
في الطب
22 كتابا
في الجدل
17 كتابا
في السياسة
12 كتابا
في الأحداث
14 كتابا
في الطبيعيات إلخ
33 كتابا
في الكريات
8 كتب
في المنطق
9 كتب
في الموسيقى
7 كتب
في الأحكام
10 كتب
في النفس
5 كتب
في الأبعاد
8 كتب
في تقدمة المعرفة
5 كتب
المجموع كله
231 كتابا
وأكثر هذه الكتب قد ضاع. ويتضح من مراجعة أسمائها أن الرجل كان كثير التضلع في هذه العلوم، حتى انتقد أصحابها وخطأهم. وللكندي تلامذة حذوا حذوه.
ويليه أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 339ه، أصله من فاراب ببلاد الترك لكنه فارسي المنتسب
294
وقد نشأ في الشام واشتغل فيها، وكان فيلسوفا كاملا درس كل ما درسه الكندي من العلوم، وفاقه في كثير منها وخصوصا في المنطق، وتعمق في الفلسفة والتحليل وأنحاء التعاليم، وأفاد التعليم وجوه الانتفاع بها، وألف كتبا في موضوعات لم يسبقه أحد إليها، ككتابه «في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها» وهو أشبه بقاموس علمي على شكل موسوعات العلوم لم يذهب مذهبه فيه أحد قبله، وكتاب «السياسة المدنية» وهو الاقتصاد السياسي الذي يزعم أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم، وقد كتب فيه الفارابي منذ ألف سنة، ثم كتب فيه ابن خلدون في مقدمته. وبرع الفارابي خصوصا في علم الموسيقى حتى أصبح لا يضاهيه فيه أحد، واخترع القانون كما سيأتي في باب الموسيقى، وأصلح ما بقي من الترجمات غير مصلح فسموه المعلم الثاني.
295
وممن غلبت عليه الفلسفة من علماء المسلمين الشيخ الرئيس ابن سينا المتوفى سنة 428ه، وله من المؤلفات نحو مائة كتاب منها 26 في الفلسفة فقط، ومنهم أبو حامد الغزالي الملقب حجة الإسلام المتوفى سنة 505ه، وهو إمام التصوف ... غير الذين ظهروا في الأندلس، وسيأتي ذكرهم. على أن الإفاضة في ذكر الفلاسفة ومؤلفاتهم وآرائهم من متعلقات «تاريخ آداب اللغة»، فنقتصر هنا على تاريخ الفلسفة في الإسلام وما كان من تأثيرها في الدين والعلم.
أهم ما كان من تأثير الفلسفة في الإسلام أنهم بنوا عليها علم الكلام وأيدوه بها، لتقوى حجتهم فيما قام بينهم من المجادلات المذهبية، واشتهر علم الكلام في المسلمين وعكفوا على درسه، وخصوصا المعتزلة، واشتهر به جماعة من علية القوم، وفي جملتهم الشريف المرتضى والزمخشري والباقلاني وغيرهم.
وأما الفلسفة في حد ذاتها فقد كان أصحابها متهمين بالكفر، وكان الانتساب إليها مرادفا للانتساب إلى التعطيل، ومن أقوالهم: «كان فلان - سامحه الله - يتهم بدينه لكون العلوم العقلية غالبة عليه»،
296
وقد شاع ذلك في بغداد بين العامة، حتى في أيام المأمون، ولذلك سماه بعضهم أمير الكافرين
297
ولكنهم لم يكونوا يتظاهرون بذلك، حتى ذهب عصر المأمون والمعتصم والواثق، وتولى المتوكل فأصبح مريدو الفلسفة يتجنبون الظهور بها، أو ينكرونها وهم كلفون بها فكانوا يشتغلون فيها سرا فألفوا الجمعيات السرية لهذه الغاية. (ب) جمعية إخوان الصفا
ومن جمعياتهم السرية الفلسفية جمعية إخوان الصفا، تألفت في بغداد في أواسط القرن الرابع للهجرة، وذكروا من أعضائها خمسة هم: أبو سليمان محمد بن معشر البستي ويعرف بالمقدسي ، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وزيد بن رفاعة
298
وكانوا يجتمعون سرا ويتباحثون في الفلسفة على أنواعها، حتى صار لهم فيها مذهب خاص، هو خلاصة أبحاث الفلاسفة المسلمين بعد اطلاعهم على آراء اليونان والفرس والهند، وتعديلها على ما يقتضيه الإسلام. وأساس مذهبهم أن الشريعة الإسلامية تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وأنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.
وقد دونوا فلسفتهم هذه في خمسين رسالة سموها رسائل إخوان الصفا، وكتموا أسماءهم. وهي تمثل الفلسفة الإسلامية على ما كانت عليه في إبان نضجها، وتشمل: النظر في مبادئ الموجودات، وأصول الكائنات إلى نضد العالم، فالهيولي والصورة، وماهية الطبيعة، والأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد، والآثار العلوية، والسماء والعالم، وعلم النجوم، وتكوين المعادن، وعلم النبات، وأوصاف الحيوانات، ومسقط النطفة وكيفية رباط النفس بها، وتركيب الجسد، والحاس والمحسوس، والعقل والمعقول، والصنائع العلمية والعملية، والعدد وخواصه، والهندسة والموسيقى، والمنطق وفروعه، واختلاف الأخلاق، وطبيعة العدد، وأن العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير، والأكوار والأدوار، وماهية العشق والبعث والنشور، وأجناس الحركات، والعلل والمعلولات، والحدود والرسوم ... وبالجملة فقد ضمنوها كل علم طبيعي أو رياضي أو فلسفي أو إلهي أو عقلي. وبين أيدينا خلاصة هذه الرسائل مطبوعة في ليبسك بعناية الدكتور ديتريشي في نحو 650 صفحة كبيرة. ويظهر من إمعان النظر فيها أن أصحابها كتبوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل. وفي جملة ذلك آراء لم يصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها. وفي ذلك الكتاب فصل في كيفية عشرة إخوان الصفا وتعاونهم بصدق المودة والشفقة، وأن الغرض منها التعاضد في الدين. وذكروا شروط قبول الإخوان فيها وغير ذلك.
وكان المعتزلة ومن جرى مجراهم يتناقلون هذه الرسائل ويتدارسونها ويحملونها معهم سرا إلى بلاد الإسلام، ولم تمض مائة سنة على كتابتها حتى دخلت الأندلس على يد أبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني وهو من أهل قرطبة، رحل إلى المشرق للتبحر في العلم على جاري عادة الأندلسيين فلما عاد إلى بلاده حمل معه الرسائل المذكورة وهو أول من أدخلها الأندلس
299
فما لبثت أن انتشرت هناك حتى تناولها أصحاب العقول الباحثة وأخذوا في درسها وتدبرها. (ج) فلاسفة الأندلس
وكانت الفلاسفة قد دخلت الأندلس في أيام عبد الرحمن الأوسط كما تقدم، وقد أخذ الأندلسيون بشيء منها، وظهر فيهم جماعة اشتهروا بعلوم الأوائل والنجوم، وأولهم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة توفي في أواخر القرن الثالث للهجرة. ثم يحيى بن يحيى القرطبي المعروف بابن السمينة المتوفى سنة 315ه، وأبو القاسم مسلمة بن أحمد المعروف بالمرجيطي أو المجريطي من أهل قرطبة، كان إمام الرياضيين في عصره بالأندلس توفي سنة 398ه، وأنجب تلامذة جلة، أشهرهم ابن السمح المهندس الغرناطي، وابن الصفار أستاذ الرياضيات في قرطبة، والزهراوي صاحب كتاب الأركان في المعاملات على طريق البرهان، وأبو الحكم عمرو الكرماني المتقدم ذكره، فإنه رحل إلى المشرق حتى نزل حران وتعلم فيها الهندسة والطب، ثم رجع برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس وتوفي في سرقسطة سنة 458ه.
على أن هؤلاء إنما اقتصروا من علوم الأوائل على الرياضيات والنجوم والهندسة ونحوها، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي فلم يعن أهل الأندلس بها إلا بعد دخول رسائل إخوان الصفا، وكان المستنصر بن الناصر قد استجلب كتب الفلسفة من المشرق فتداولها الناس، ولكنهم لم ينبغوا فيها إلا بعد مطالعة تلك الرسائل. فنبغ أبو بكر بن باجة الفيلسوف الأندلسي الشهير المتوفى سنة 533ه، ويعرف بابن الصائغ، ومن تلاميذه القاضي أبو الوليد بن رشد الفيلسوف القرطبي المتوفى سنة 595ه، ونبغ أيضا ابن الطفيل وابن هود وغيرهما، وقد ألفوا المؤلفات الضافية في فروع الفلسفة مما اتخذه الإفرنج قاعدة لفلسفتهم في أوائل نهضتهم.
على أن أولئك الفلاسفة كانوا عرضة لاحتقار العامة، شأنهم في مثل هذه الحال في سائر العصور. وكان الملوك يسايرون العامة في ذلك رغبة في استرضائهم لتوطيد سلطانهم، فما من ملك إلا نقم على الفلاسفة واضطهدهم ومن أشهر الحوادث من هذا القبيل نقمة المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس، في أواخر القرن السادس للهجرة، فإنه اضطهد الفلاسفة ونفاهم، وفي جملتهم ابن رشد وأبو جعفر الذهبي وأبو عبد الله قاضي بجاية وغيرهم
300
وعزم أن لا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة في بلاده، فأمر بإحراقها في النار وشدد النكير على المشتغلين بها، وأصبح العامة كلما قيل فلان يشتغل في الفلسفة أو التنجيم أطلقوا عليه اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو أحرقوه. أما الخاصة فكانوا يدرسون الفلسفة سرا، وربما أمر السلطان بقتل بعض الفلاسفة تقربا من قلوب العامة، ويكون هو نفسه يحبها.
301 (9-2) الطب في الإسلام (أ) الطب الإسلامي
الطب الإسلامي خلاصة ما بلغ إليه علم الطب عند الأمم المتمدنة قبل الإسلام؛ لأن المسلمين نقلوا إلى لسانهم كتب أبقراط وجالينوس وغيرهما من أطباء اليونان، واطلعوا على ما كان عند السريان من الطب اليوناني الممزوج ببقايا طب الكلدان القدماء، ونقل إليهم أطباء مدرسة جنديسابور طب اليونان بصبغته الفارسية، واطلعوا على طب الهنود ممن جاءوا بغداد من أطبائهم، غير ما كان عند العرب في أيام الجاهلية وتنوقل في الإسلام.
ومن تفاعل هذه العناصر وتمازجها تألف الطب الإسلامي، الذي تمثل بعد نضج العلم في الكتاب الملكي (أو الملوكي) لأبي بكر الرازي الملقب جالينوس العرب، ألفه للملك عضد الدولة بن بويه وجمع فيه كل ما وجده متفرقا من ذكر الأمراض ومداواتها في كتب القدماء إلى زمانه في أواسط القرن الرابع للهجرة، وللرازي من كتب الطب والفلسفة وغيرهما شيء كبير.
وما زال الناس يعولون على الكتاب الملوكي حتى ظهر القانون لابن سينا، وهو منشور ومشهور إلى اليوم، وإذا قلبت صفحاته علمت أنه قاموس في الطب والصيدلة، وقد جمع خلاصة أبحاث اليونان والكلدان والهنود والفرس والعرب في الأمراض ومعالجتها والعقاقير وخصائصها. وليس هو طب اليونان فقط كما توهم البعض؛ لأنك تقرأ في أماكن كثيرة منه تفصيلا لآراء الهنود وانتقاضها واستحسانها. ومما ذكره من طبهم مثلا أنهم وصفوا أنواع العلق وأشكاله وخصائص كل منها،
302
ومن آرائهم أن أكل اللبن مع الحوامض أو مع السمك يورث أمراضا منها الجذام. وقولهم: أن لا يؤكل ماست مع الفجل ولا مع لحوم الطير ولا سويق على أرز بلبن أو نحو ذلك
303
ناهيك بالعقاقير الهندية التي تدل أسماؤها على أصلها.
ومن الكتب الطبية الإسلامية التي استفاد منها الإفرنج في نهضتهم الأخيرة كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي من أهل القرن الخامس للهجرة، وهو قاموس في الطب ويمتاز عن سواه بالقسم الجراحي، وكتاب التيسير لعبد الملك بن زهر الأندلسي ألفه لابن رشد الفيلسوف في أواسط القرن السادس للهجرة، وأطباء المسلمين كثيرون، وكتبهم كثيرة لا محل لذكرها هنا. (ب) الأطباء المسلمون
ولو أحصينا الأطباء المسلمين الذين نبغوا بعد ترجمة الكتب الطبية إلى انقضاء النهضة العباسية وابتداء عصر التقهقر، أي في أثناء ثلاثة أو أربعة قرون، لزاد عدد المؤلفين منهم ممن بلغت إلينا أسماؤهم على بضع مئات ، وأكثرهم اشتغلوا بسائر العلوم الدخيلة وألفوا الكتب العديدة، وترى ذلك مفصلا في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وتراجم الحكماء لابن القفطي، وكتاب كشف الظنون وغيرها. أما عدد الأطباء على الإطلاق فمما لا يمكن حصره لضياع ذلك مع الزمان، وإنما يستدل من بعض القرائن أنه كان كثيرا جدا. فقد أحصوا أطباء بغداد وحدها في زمن المقتدر بالله في أول القرن الرابع للهجرة فبلغ 860 طبيبا احتاجوا إلى الامتحان لنيل الإذن في التطبيب، سوى من استغنى عن الامتحان لشهرته وسوى من كان في خدمة الخليفة
304
فلا يمكن أن يكون مجموع ذلك كله أقل من ألف طبيب متعاصرين في مدينة واحدة. وبلغ عدد أطباء النصارى فقط، في خدمة المتوكل بأواسط القرن الثالث للهجرة 56 طبيبا.
305
وكان سيف الدولة إذا جلس على المائدة حضر معه 24 طبيبا، ومنهم من يأخذ رزقين لتعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة أرزاق لتعاطيه ثلاثة علوم.
306
وكان للأطباء عندهم نظام وعليهم رئيس يمتحنهم ويجيز من يرى فيه الكفاءة للتطبيب، وأشهر هؤلاء الرؤساء سنان بن ثابت في بغداد ومهذب الدين الدخوار في مصر. ويقال نحو ذلك في الصيادلة، فقد كانوا كثارا، وتفشى الغش في الأدوية حتى اضطر أولو الأمر إلى امتحانهم وإعطاء الإجازات أو المنشورات إلى الذين يحسنون الصناعة ونفي الآخرين. وأول من فعل ذلك الأفشين في بغداد، فقد وكل زكريا بن الطيفوري به في حديث يطول ذكره
307
وكان من الأطباء أو الصيادلة من هو خاص بالجند يرافقه في أسفاره ومنهم من هو خاص بالخلفاء والأمراء، ولهؤلاء رواتب خاصة ويعرفون بالمرتزقين. ومنهم من يطببون العامة وهم غير مرتزقين.
وكان الأطباء طبقات وأصنافا، وفيهم الطبيب على إجماله والجراح والفاصد والكحال والأسناني، ومن يعالج النساء والمحاظي فقط أو يطبب المجانين فقط. على نحو الأطباء الإخصائيين في هذه الأيام. وكان الكحالون في مصر أكثر منهم في سواها لتعرضهم لأمراض العين، وكانوا يعالجون الماء الأزرق بقدح العين على نحو عملية الكتركتا اليوم.
ونبغ جماعة من النساء اشتهرن بصناعة الطب، منهن أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها، فقد كانتا عالمتين بصناعة الطب ولهما خبرة جيدة بمداواة النساء، وكانتا تدخلان على نساء المنصور الأندلسي وأهله ولا يقبل المنصور سواهما
308
واشتهرت في أيام بني أمية بالشام امرأة اسمها زينب طبيبة بني أود، كانت عالمة بالأعمال الطبية ومداواة العين بالجراحة
309
فضلا عمن اشتهر منهن بالعلم والأدب، كشهدة الدينورية وبنت دهين اللوز الدمشقية وغيرهما.
وكان الفحص الطبي عندهم مقصورا على فحص البول وجس النبض، فيأتي المريض ومعه قارورة الماء، أي زجاجة البول، فيسلمها إلى الطبيب فينظر فيها ثم يذوقها، ليتحقق وجود الحوامض أو القوابض أو السكر فيها، ثم يجس النبض وعند ذلك يحكم في حال المريض، لاعتقادهم أن النبض يدل على مزاج القلب، والبول على مزاج الكبد وحال الأخلاط، ومهما يكن من اعتقادهم فإن هذه الطريقة لا تزال مما يعول عليه الأطباء إلى اليوم. (ج) ما الذي أحدثه المسلمون في الطب
بقي علينا النظر فيما أحدثه المسلمون في الطب من الاختراعات الجديدة أو الآراء المبتكرة، والحكم في ذلك يستلزم درسا طويلا لا يسعه هذا المكان، على أننا نقول بالاختصار: إن المسلمين جمعوا بين طب اليونان والفرس والهنود والكلدان والعرب كما تقدم، وأضافوا إلى ذلك كثيرا من نتائج اختبارهم في هذه الصناعة، كما يظهر من مراجعة كتبهم الطبية، فإنهم كثيرا ما يذكرون رأي جالينوس أو أبقراط مثلا وينتقدونه ويبينون وجه الخطأ وصوابه.
310
فضلا عما أدخلوه من الترتيب والتبويب في الكتب التي ترجموها، كما فعل ابن أبي الأشعث بكتب جالينوس، فإنه رتبها وبوبها وفصلها تسهيلا لمطالعتها
311
غير ما أحدثوه من الشروح والذيول لكتب القدماء. ففي ذيل ابن جلجل على كتاب ديسقوريدس عقاقير لم يعرفها القدماء.
أما ما أحدثوه من عند أنفسهم رأسا فالإحاطة به من الأمور الشاقة التي يعسر تحقيقها، فنذكر ما ثبت عندنا حدوثه على سبيل المثال. من ذلك أنهم أحدثوا في الطب آراء جديدة تخالف آراء القدماء في تدبير الأمراض، وإن لم يصلنا إلا خبر القليل منها، مثل نقلهم تدبير أكثر الأمراض التي كانت تعالج قديما بالأدوية الحارة (على اصطلاحهم) إلى التدبير البارد كالفالج واللقوة والاسترخاء وغيرها، وذلك على غير ما سطره القدماء. وأول من فطن لهذه الطريقة ونبه عليها وأخذ المرضى بالمداواة بها الشيخ أبو منصور صاعد بن بشر الطبيب في بغداد، فإنه أخذ المرضى بالفصد والتبريد والترطيب ومنعهم من الغذاء، فأنجح تدبيره فعينوه رئيسا للمارستان العضدي، فرفع منه المعاجين الحارة والأدوية الحارة، ونقل تدبير المرض إلى ماء الشعير ومياه البذور، فأظهر في المداواة عجائب فاقتدى به سائر الأطباء بعده.
312
والعرب أول من استخدم المرقد
313 «البنج» في الطب، يقال: إنهم استخدموا له الزوان أو الشيلم، وهم أول من استخدم الخلال المعروف عند الأطباء.
وقد وجد محققو الإفرنج أن العرب أول من استخدم الكاويات في الجراحة على نحو استخدامها اليوم، وأنهم أول من وجه الفكر إلى شكل الأظافر في المصدورين، ووصفوا علاج اليرقان والهواء الأصفر، واستعملوا الأفيون بمقادير كبيرة لمعالجة الجنون، ووصفوا صب الماء البارد لقطع النزف، وعالجوا خلع الكتف بالطريقة المعروفة في الجراحة برد المقاومة الفجائي، ووصفوا إبرة الماء الأزرق وهو قدح العين، وأشاروا إلى عملية تفتيت الحصاة، وقد ألف العرب في بعض فروع الطب ما لم يسبق أحد إلى مثله. فالجذام أول من كتب فيه أطباؤهم، وأول كتاب في هذا الموضوع ليوحنا بن ماسويه وهم أول من وصف الحصبة والجدري بكتاب لأبي بكر الرازي، غير ما ألفوه من الموسوعات الضافية في الطب. (د) الصيدلة والكيمياء والنبات
ومن فروع الطب الصيدلة، وللعرب فضل كبير فيها. فقد بذلوا الجهد في استجلاب العقاقير من الهند وغيرها، بدأوا بذلك من أيام يحيى بن خالد البرمكي كما تقدم، ثم نبغ منهم الأطباء والصيادلة، ووجهوا عنايتهم إلى درس العقاقير، وقد نقلوا كتبا فيها من الهندية واليونانية ثم اشتغلوا هم أنفسهم في جمعها. وقد عني الإفرنج بعد نهضتهم الأخيرة بدرس تاريخ فن الصيدلة، فتحققوا أن العرب هم واضعو أسس هذا الفن، وهم أول من اشتغل في تحضير الأدوية أو العقاقير، فضلا عما استنبطوه من الأدوية الجديدة. وأنهم أول من ألف الأقرباذين على الصورة التي وصلت إلينا
314
وظل العرب في النهضة العباسية يعتمدون في المارستان ودكاكين الصيادلة على أقرباذين ألفه سابور بن سهل المتوفى سنة 255ه، حتى ظهر أقرباذين أمين الدولة بن التلميذ المتوفى في بغداد سنة 560ه. وهم أول من أنشأ حوانيت الصيدلة على هذه الصورة. ومن أقرب الشواهد على ذلك أسماء العقاقير التي أخذها الإفرنج عن العرب، ولا تزال عندهم بأسمائها العربية أو الفارسية أو الهندية كما أخذوها عن العربية.
315
على أن تقدمهم في الصيدلة تابع لتقدمهم في الكيمياء والنبات، ولا خلاف في أن العرب هم الذين أسسوا الكيمياء الحديثة بتجاربهم ومستحضراتهم، وقد تقدم أن أول من اشتغل في نقلها إلى العربية خالد بن يزيد، نقلها عن مدرسة الإسكندرية، وعنه أخذ جعفر الصادق المتوفى سنة 140ه، وبعد جابر بن حيان، ثم الكندي، فأبو بكر الرازي وغيرهم، فاكتشفوا كثيرا من المركبات الكيماوية التي بنيت عليها الكيمياء الحديثة. وقد ذكر محققو الإفرنج أن العرب هم الذين استحضروا ماء الفضة (الحامض النتريك)، وزيت الزاج (الحامض الكبريتيك)، وماء الذهب (الحامض النيتروهيدروكلوريك)، واكتشفوا البوتاسا، وروح النشادر، وملحه، وحجر جهنم (نترات الفضة)، والسليماني (كلوريد الزئبق)، والراسب الأحمر (أكسيد الزئبق) وملح الطرطير، وملح البارود (نترات البوتاسا)، والزاج الأخضر (كبريتات الحديد)، والكحول، والقلى، والزرنيخ، والبورق وغير ذلك من المركبات والمكتشفات التي لم يصل إلينا خبرها. على أننا نستدل على وجود بعض المركبات الكيماوية في أيامهم، مما لم نسمع له بمثيل في تاريخ الكيمياء قبل أواخر القرن الماضي. فقد أشار ابن الأثير إلى أدوية استخدمها العرب في واقعة الزنج سنة 269ه، إذا طلي بها الخشب امتنع احتراقه
316
ولم يذكر ما هي. ومما يعد من قبيل الكيمياء أيضا البارود، فقد ترجح لنا بالبحث أنهم هم الذين ركبوه
317
وهم أول من وصف التقطير، والترشيح، والتصعيد، والتبلور، والتذويب. وقد ألفوا في إبطال الكيمياء القديمة - أول من ألف ذلك منهم حكيمهم وفيلسوفهم يعقوب الكندي في أواسط القرن الثالث للهجرة.
318
وأما النبات فللعرب القدح المعلى في درسه والتأليف فيه، وقد أخذوا هذا العلم في النهضة العباسية عن مؤلفات ديسقوريدس وجالينوس ومن كتب الهند. نقل كتاب ديسقوريدس في أيام المتوكل، نقله إصطفان بن باسيل من اليونانية إلى العربية، فالعقاقير التي لم يعرف لها أسماء في العربية تركها على لفظها اليوناني اتكالا على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره. وحمل هذا الكتاب إلى الأندلس على هذه الصورة، فانتفع به الناس إلى أيام الناصر صاحب الأندلس في أواسط القرن الرابع للهجرة. فكاتبه ملك القسطنطينية سنة 337ه وهاداه بكتب من جملتها كتاب ديسقوريدس باليونانية «مصور الحشائش» بالتصوير الرومي العجيب، ولم يكن في الأندلس من يحسن اليونانية، فبعث الناصر إلى الملك يطلب إليه رجلا يعرف اليونانية واللاتينية لينقله إلى اللاتينية، وعارفو هذه اللغة في الأندلس كثيرون. فبعث إليه راهبا اسمه نقولا وصل قرطبة سنة 340ه، فتعاونوا على استخراج ما فات ابن باسيل تعريبه من عقاقير هذا الكتاب، ثم جاء ابن جلجل في آخر القرن الرابع فألف كتابا فيما فات ديسقوريدس ذكره من أسماء العقاقير وجعله ذيلا على ذلك الكتاب.
حتى إذا نبغ ابن البيطار المالقي النباتي في أواسط القرن السابع للهجرة، تناول الكتاب المذكور فدرسه وتفهمه، ثم سافر إلى بلاد اليونان، وإلى أقصى بلاد الروم، ولقي جماعة يعانون هذا الفن ، وأخذ عنهم معرفة نبات كثير عاينه في مواضعه، واجتمع أيضا في المغرب وغيره بكثير من علماء النبات وعاين منابته بنفسه، وذهب إلى الشام ودرس نباتها، وجاء الديار المصرية في خدمة الملك الكامل الأيوبي، وكان يعتمد عليه في الأدوية المفردة والحشائش حتى جعله رئيسا على العشابين وأصحاب البسطات. وبعد طول ذلك الاختبار ألف كتابه في النبات، وهو فريد في بابه
319
وكان عليه معول أهل أوربا في نهضتهم الأخيرة.
ومن المبرزين في علم النبات رشيد الدين بن الصوري المتوفى سنة 639ه صاحب كتاب «الأدوية المفردة»، وكان كثير البحث والتدقيق يخرج لدرس الحشائش في منابتها، ويستصحب مصورا معه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، ويتوجه إلى المواضع التي بها النبات في لبنان وسوريا فيشاهد النبات ويحققه، ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأعضائه وأصوله ويصور بحسبها بالدقة
320
وذلك غاية ما يفعله الباحثون في هذا العلم اليوم. (ه) المارستانات في الإسلام
المارستان أو البيمارستان لفظ فارسي معناه مكان المرضى ويقابله اليوم المستشفى، ولكن المارستانات كانت في التمدن الإسلامي تشمل مدارس الطب والمستشفيات معا؛ لأنهم كانوا يعلمون الطب فيها. والعرب أخذوا المارستانات عن الفرس وأنشأوها على مثال مارستان جنديسابور المتقدم ذكره.
وأول من أنشأ المارستانات في الإسلام الوليد بن عبد الملك الأموي، أنشأ مارستانا بدمشق سنة 88ه جعل فيه الأطباء، وأمر بحبس المجذومين، وأجرى لهم الأرزاق،
321
فانقضت الدولة الأموية وليس في الإسلام غير هذا المارستان، فلما حكم العباسيون كان المنصور أول من استقدم الأطباء من مارستان جنديسابور كما رأيت، ولم ينشئ مارستانا ولكنه أنشأ دارا للعميان والأيتام والقواعد من النساء
322
وأنشأ هو أو من خلفه دورا لمعالجة المجانين.
323
وأول من أنشأ المارستانات في الدولة العباسية الرشيد، فإنه لما رأى مهارة القادمين عليه من أطباء مارستان جنديسابور، أراد أن يكون لبغداد مثل ذلك، فأمر طبيبه جبرائيل بن بختيشوع بإنشاء المارستان في بغداد. وكان رئيس مارستان جنديسابور يومئذ طبيبا هنديا اسمه دهشتك، فبعث إليه ليقلده مارستان بغداد فاعتذر ودله على ماسويه فولاه إياه، ثم تولاه ابنه يوحنا بن ماسويه،
324
وكان البرامكه أهل علم ولهم رغبة في طب الهند وأطبائه كما رأيت، فأنشأوا مارستانا باسمهم وولوا عليه طبيبا هنديا اسمه ابن دهن، وهو ممن نقل إلى العربية من اللسان الهندي رأسا.
325
ولما اشتهر مارستان بغداد أخذت المدن الأخرى في تقليدها كما قلدتها في سائر أسباب ذلك التمدن، وكان الفتح بن خاقان وزير المتوكل قد أنشأ في مصر مارستانا عرف بمارستان المغافر، فلما تولاها ابن طولون أنشأ فيها سنة 259ه، مارستانا عرف باسمه وأنفق على بنائه 60000 دينار، وشرط أن لا يعالج فيه جندي ولا مملوك بل يعالج فيه العامة من المرضى والمجانين وغيرهم، وحبس ريعا يضمن بقاءه، وكان يتعهده بنفسه كل يوم جمعة حتى ساءه أحد المجانين فقطع الزيارة.
326
ولم ينقض القرن الثالث للهجرة حتى بنيت المارستانات في مكة والمدينة وغيرهما. ولما دخل القرن الرابع تسابق الخليفة المقتدر ووزراؤه إلى إنشاء المارستانات في بغداد وضواحيها، منها مارستان علي بن عيسى الوزير أنشأه بالحربية سنة 302ه، وأنفق عليه من ماله وقلده طبيبه أبا عثمان الدمشقي
327
ومارستان السيدة فتحه سنان بن ثابت بسوق يحيى سنة 306ه وبلغت النفقة عليه 600 دينار في الشهر. وفي تلك السنة أشار سنان المذكور على الخليفة المقتدر أن يتخذ مارستانا ينسب إليه، فأمر فبنوا له بباب الشام من أبواب بغداد المارستان المقتدري، وكان ينفق عليه من ماله 200 دينار كل شهر. وبنى أيضا الوزير ابن الفرات نحو ذلك الزمن مارستانا بدرب الفضل عرف باسمه،
328
وبنى غيرهم مارستانات أخرى في الري ونيسابور وغيرهما. وفي أواسط القرن الرابع بني المارستان الكافوري بمصر. ثم أنشأ عضد الدولة بن بويه المارستان العضدي سنة 368ه على طرف الجسر في الجانب الغربي من بغداد، ورتب له 24 طبيبا فيهم الجراحون والكحالون والمجبرون والفاصدون والأطباء الطبيعيون، ففاق سائر ما تقدمه من المارستانات، وكان على الأطباء رئيس يسمونه «الساعور».
وظل المارستان العضدي صدر المارستانات حتى بنى نور الدين زنكي مارستانه الكبير في دمشق في أواسط القرن السادس، ثم بنى صلاح الدين الأيوبي المارستان العتيق في القاهرة وغيره. ولما تولى السلاطين المماليك مصر بنى الملك المنصور قلاوون المارستان المنصوري بالقاهرة سنة 683ه على مثال مارستان دمشق، وصفه المقريزي وصفا مسهبا في الجزء الثاني من خططه. ولا تزال آثار المارستان المنصوري باقية إلى اليوم في شارع النحاسين. ثم بنى الملك المؤيد سنة 821ه المارستان المؤيدي بمصر، ناهيك بما أنشأوه من المارستانات في سائر بلاد الإسلام في فارس وخراسان والموصل والشام والأندلس وغيرها، مما يطول شرحه. وفي رحلة ابن جبير وصف ما شاهده بنفسه من مارستانات المسلمين في القرن السادس للهجرة هناك.
وكانت تلك المارستانات في غاية النظام يعالج فيها المرضى على اختلاف طوائفهم ونحلهم، وفيها لكل مرض قاعة أو قاعات خاصة يطوفها الطبيب المختص بها وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى، فيتفقد المرضى ويصف لهم الأدوية ويكتب لكل مريض دواءه
329
فمن شفي فيها زود السلام ومن مات كفنوه ودفنوه. وكانت تلقى فيها الدروس في الطب والصيدلة وتمارس بها هاتان الصناعتان.
وكان من ضروب المارستانات عندهم مارستان نقال يحملونه على الجمال أو البغال على نحو المستشفيات المتنقلة في دول هذه الأيام. فكان في معسكر السلطان محمود السلجوقي مارستان يحمله أربعون جملا يستصحبه العسكر حيثما توجهوا.
330 (9-3) التنجيم والنجوم أو الفلك
النجوم عند القدماء علمان: علم طبيعي ينظر في النجوم من حيث مواضعها وحركاتها وأحكامها بالنظر إلى الخسوف والكسوف، وعلم ينظر فيها باعتبار علاقاتها بحوادث العالم من حيث الحرب والسلم والولادة والوفاة والسعد والنحس والمطر والصحو ونحو ذلك. وتسهيلا للبحث نسمي الأول علم النجوم أو الفلك، والثاني على التنجيم. وقد علمت مما تقدم أن العرب كانوا يعرفون هذين العلمين، فلما تمدنوا ونقلوا العلم أضافوا ما أخذوه عن اليونان والفرس والهند والكلدان إلى ما كان عندهم، فتولد من ذلك كله التنجيم والنجوم عند المسلمين. (أ) التنجيم
وأول من عني بالتنجيم والنجوم في النهضة العباسية أبو جعفر المنصور، فترجموا له السندهند كما تقدم، واقتدى به خلفاؤه وأصبح للتنجيم شأن كبير عندهم، حتى في إبان العصر العباسي. وكان المنجمون فئة من موظفي الدولة كما كان الأطباء والكتاب والحساب، ولهم الرواتب والأرزاق
331
وكان الخلفاء يستشيرونهم في كثير من أحوالهم الإدارية والسياسية، فإذا خطر لهم عمل وخافوا عاقبته استشاروا المنجمين، فينظرون في حال الفلك واقترانات الكواكب ثم يشيرون بموافقة ذلك العمل أو عدمها. وكانوا يعالجون الأمراض على مقتضى حال الفلك، وكانوا يراقبونها ويعملون بأحكامها قبل الشروع في أي عمل، حتى الطعام والزيارة. على أن علماء الشرع الإسلامي كانوا يبينون فساد هذا الاعتقاد ويخطئونه ويردونه، والناس على اعتقادهم ولا يزال بعضهم على ذلك إلى اليوم. (ب) علم النجوم أو الفلك
كان للمسلمين حظ وافر في علم النجوم وفضل كبير عليه، يكفيك أنهم جمعوا فيه بين مذاهب اليونان والهند والفرس والكلدان والعرب الجاهلية. شأنهم في أكثر العلوم الدخيلة. فقد رأيت أن محمد الفزاري نقل السندهند للمنصور؛ ليكون قاعدة علم النجوم عند العرب، وأنه ظل معولهم عليه إلى عصر المأمون. وفي أيامه نبغ محمد بن موسى الخوارزمي، وكان منقطعا إلى بيت الحكمة وله علم واسع في النجوم، فاصطنع زيجا جمع فيه بين مذاهب الهند والفرس والروم، فجعل أساسه على السندهند وخالفه في التعاديل والميل، فجعل تعاديله على مذاهب الفرس، وجعل ميل الشمس فيه على مذهب بطليموس، واخترع فيه أبوابا حسنة فاستحسنه أهل عصره وطاروا به في الآفاق، ولكنه جعل تاريخه على الحساب الفارسي، فنقله مسلمة بن أحمد المرجيطي الأندلسي المتوفى سنة 398ه إلى الحساب العربي، ووضع أواسط الكواكب لأول تاريخ الهجرة. والزيج كتاب فيه جداول حركات الكواكب يؤخذ منها التقويم.
واشتهر منهم في علم النجوم بنو شاكر الثلاثة، وقد تقدم ذكرهم، ومن أعمالهم المأثورة أنهم قاسوا للمأمون درجة خط نصف النهار، واستعملوا فيها محيط الأرض في حديث ذكره ابن خلكان وغيره، وقد ألف بنو شاكر كتبا جليلة في الفلك والهندسة، ونبغ في عصرهم أبو معشر البلخي المتوفى سنة 272ه، كان معاصرا للكندي يغري به العامة ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة، فدس له الكندي من حسن له النظر في الرياضيات فدخل ذلك واستغرق فيه واتصل بعلم النجوم وألف فيه كثيرا. ومنهم حنين بن إسحاق العبادي المترجم الشهير، وثابت بن قرة الحراني المتوفى سنة 288ه، وأحمد بن كثير الفرغاني، وسهل بن بشر كان يخدم طاهر بن الحسين، ومحمد بن عيسى الماهاني، ومحمد بن جابر الحراني المعروف بالبتاني، وكان صابيا اصطنع زيجا عرف بالزيج الصابي وهو نسختان الثانية أصح. ابتدأ بالرصد سنة 264 إلى سنة 306ه، وأثبت الكواكب في زيجه سنة 299ه، وكان أوحد عصره في فنه وتوفي سنة 317ه
332
وغيرهم.
يليهم في القرن الرابع والخامس أبو الوفاء البوزجاني والبيروني ومعاصروه كثيرون وإمام فلكيي القرن السابع للهجرة نصير الدين الطوسي، ونبغ في عصره المؤيد العرضي وابنه محمد، والفخر المراغي بالموصل، والفخر الخلاطي بتفليس، ونجم الدين القزويني
333
وغيرهم في عصور أخرى، وتفصيل مؤلفاتهم ووصفها من شؤون «تاريخ آداب اللغة»، وإنما يهمنا في هذا المقام النظر فيما أحدثه التمدن الإسلامي في علم الفلك.
وأول ما يستلفت انتباهنا من هذا القبيل أن العرب (أو المسلمين) قالوا بإبطال صناعة التنجيم المبنية على الوهم،
334
ولعلهم أول من فعل ذلك، وإن كانوا لم يستطيعوا إبطالها، ولكنهم مالوا بعلم النجوم نحو الحقائق المبنية على المشاهدة والاختبار كما فعلوا بعلم الكيمياء، وكانوا كثيري العناية بعلم الفلك يرصدون الأفلاك ويؤلفون الأزياج، ويقيسون العروض ويراقبون السيارات، ويرتحلون في طلب ذلك العلم إلى الهند وفارس، ويتبحرون في كتب الأوائل ويتممون ما نقص منها أو يجمعون بين مذاهبها، ولعلم الفلك عند العرب تاريخ طويل لا يسعه هذا المكان، فنذكر أولا المراصد ثم نأتي على أمثلة مما استنبطوه في هذا العلم. (ج) المراصد
الرصد أساس علم الفلك وعليه المعول في تعيين أماكن النجوم وحركاتها، وكان له شأن كبير عند اليونان فرصدوا الكواكب واصطنعوا آلات الرصد. وفي القرن الثالث قبل الميلاد بنوا مرصدا في الإسكندرية بلغ قمة ارتفاعه على عهد بطليموس القلوذي صاحب المجسطي. وظل المرصد الإسكندري وحيدا في العالم، حتى نهض العرب، وأنشأوا المراصد في بغداد ودمشق ومصر والأندلس ومراغة وسمرقند وغيرها كما سيجيء.
آلات الرصد
وللرصد آلات كان منها في عهد التمدن الإسلامي بضعة عشر شكلا تختلف باختلاف الغرض منها، وهاك أهمها: (1)
اللبنة:
وهي جسم مربع مستو، يستعلم به الميل الكلي وأبعاد الكواكب وعرض البلد. (2)
الحلقة الاعتدالية:
هي حلقة تنصب في سطح دائرة المعدل، ليعلم بها التحويل الاعتدالي. (3)
ذات الأوتار:
هي أربع أسطوانات مربعة تغني عن الحلقة الاعتدالية، ويعلم بها تحويل الميل. (4)
ذات الحلق:
هي أعظم الآلات هيئة ومدلولا. وتركب من حلقة تقوم مقام منطقة فلك البروج، وحلقة تقوم مقام المارة بالأقطاب، تركب إحداهما في الأخرى بالتصنيف والتقطيع. وحلقة الطول الكبرى وحلقة الطول الصغرى تركب الأولى في محدب المنطقة والثانية في مقعرها. وحلقة نصف النهار وقطر مقعرها مساو لقطر محدب حلقة الطول الكبرى. ومن حلقة الأرض قطر محدبها قدر قطر مقعر حلقة الطول الصغرى. وهي توضع على كرسي. (5)
ذات السمت والارتفاع:
هي نصف حلقة قطرها سطح من سطوح أسطوانة متوازية السطوح، يعلم بها السمت وارتفاعه، وهي من مخترعات الرصاد الإسلاميين. (6)
ذات الشعبتين:
هي ثلاث مساطر على كرسي، يعلم بها الارتفاع. (7)
ذات الجيب:
هي مسطرتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين. (8)
المشتبهة بالناطق:
لمعرفة ما بين الكوكبين من البعد، وهي ثلاث مساطر. (9)
الأسطرلاب:
وهو أنواع كثيرة، منها: التام، والمسطح، والطوماري، والهلالي، والزورقي، والعقربي، والآسي، والقوسي، والجنوبي، والشمالي، والمبطح، والمسرطق، وحق القمر، والمغني، والجامعة، وعصا موسى، ناهيك من آلات الرصد بالأرباع وأشكالها، ولكل شكل تنوعات مما لا يحصيه عد.
335 (د) المراصد في الإسلام
لما اشتغل المأمون في نقل علوم الأوائل إلى العربية، ووقف العلماء على كتاب المجسطي وفهموا صور آلات الرصد الموصوفة به، نزعت به همته إلى السير على منهجه، فجمع علماء النجوم في عصره وأمرهم أن يصنعوا آلات يرصدون بها الكواكب كما فعل بطليموس صاحب المجسطي، ففعلوا وتولوا الرصد بها بالشماسية في بغداد وجبل قيسون في دمشق سنة 214ه،
336
ولما توفي المأمون سنة 218ه توقفوا عن العمل وقيدوا ما كانوا قد تبينوه من رصدهم وسموه الرصد المأموني. وكان الذين تولوا ذلك يحيى بن أبي منصور كبير المنجمين في عصره، وخالد المروزي، وسند بن علي، والعباس بن سفيد الجوهري، فألف كل منهم في ذلك زيجا منسوبا إليه. وأرصاد هؤلاء أول الأرصاد في الإسلام.
337
ثم بنى بنو شاكر مرصدا في بغداد على طرف الجسر عند اتصاله بالطاق، ورصدوا الكواكب فيه واستخرجوا حساب العروض الأكبر من عروض القمر
338
وبنى شرف الدولة بن عضد الدولة رصدا في طرف بستان دار المملكة في أواسط القرن الرابع للهجرة، وقد رصد فيه الكواكب السبعة أبو سهل الكوهي.
339
ولما ضعف شأن الخلافة في بغداد وتشعبت المملكة العباسية إلى فروع، تحولت الهمم إلى تلك الفروع وأكبرها المملكة المصرية في أيام الفاطميين، فأنشأوا رصدا (أو مرصدا) على جبل المقطم عرف بالرصد الحاكمي، نسبة إلى الحاكم بأمر الله المتوفى سنة 411ه، وفيه استخرج علي بن يونس الزيج الحاكمي،
340
ثم أعيد بناء هذا الرصد في أيام الأفضل بن أمير الجيوش المتوفى سنة 515ه، وذكر المقريزي خبر إنشائه في حديث طويل. وأنشأ بنو الأعلم ببغداد سنة 425ه رصدا عرف باسمهم. وذكر صاحب فوات الوفيات رصدا في حدود الشام سماه الييناني (كذا).
وما زال الرصد الحاكمي عمدة الراصدين، حتى نشأ نصير الدين الطوسي على عهد هولاكو التتري، فبنى مرصدا في مراغة من بلاد تركستان سنة 657ه، أعد فيه كل ما يلزم من الآلات وأنفق فيه الأموال الطائلة، وأنشأ له مكتبة فيها 400000 مجلد
341
ثم بنى تيمورلنك مرصدا في سمرقند، وبنى غيرهم مراصد أخرى في أصبهان ومصر والأندلس، وأرصادا خصوصية أو عمومية لم يصل إلينا تفصيلها. (ه) علم النجوم والإسلام
وفي هذه المراصد اشتغل المسلمون في رصد الكواكب ووضع الأزياج، وأطولها الزيج الحاكمي المتقدم ذكره، كتبه ابن يونس في أربعة مجلدات وكان عليه تعويل المسلمين بعدما سبقه من الأزياج البغدادية. ومن أشهر الأزياج زيج الفزاري صاحب المنصور، وأزياج الخوارزمي، وأبي حنيفة الدينوري صاحب رصد أصبهان، وأبي معشر البلخي وضع زيجه على مذهب الفرس، وزيج أبي السمح الغرناطي المتوفى سنة 426ه، وزيج أبي حماد الأندلسي، والزيج الإيلخاني لنصير الدين الطوسي، وزيج ابن الشاطر الأنصاري سنة 777ه وغيرهم
342
وقد أصلحوا في هذه الأزياج كثيرا من الأرصاد اليونانية.
وللمسلمين طرق جديدة أدخلوها في الرصد من عند أنفسهم، واخترعوا كثيرا من آلاته كذات السمت والارتفاع اللتين تقدم ذكرهما، وذات الأوتار والمشبهة بالناطق فإنها من اختراع تقي الدين الراصد.
343
والبديع الأسطرلابي البغدادي المتوفى في أوائل القرن السادس للهجرة زاد في الكرة ذات الكرسي ما كمل عملها بعد أن مرت السنون على نقصها، وألف رسالة في ذلك وكمل الآلة الشاملة التي ابتدعها الخجندي وجعلها بعرض واحد، وأقام الأدلة على أنها لا تكون لعروض متعددة، فنظر فيها البديع المذكور وعملها لعروض متعددة، غير ما اخترعه من المساطر والبراكير وغيرها.
344
وأدخل الشيخ شرف الدين الطوسي تحسينا في الأسطرلاب، فاستنبط أن يقع المقصود من الكرة والأسطرلاب في خط، فوضعه وسماه العصا وعمل فيه رسالة بديعة. وهو أول من أظهر هذا في الوجود، فصارت الهيئة توجد في الكرة وهي جسم وفي السطح وفي الخط ولم يبق غير النقطة،
345
وبين البتاني نقطة الذنب للأرض، وأصلح قيمة مبادرة الاعتدالين، وقيمة ميل دائرة البروج على دائرة خط الاستواء، وهو أول من استخدم الجيوب والأوتار في قياس المثلثات والزوايا.
346
والبيروني أول من استنبط تسطيح الكرة، وقد فصل ذلك في كتابه «الآثار الباقية»
347
وللبيروني استنباطات جليلة في الفلك والرياضيات، يستدل عليها من قراءة كتابه المذكور ومن فهرست مؤلفاته في مقدمة ذلك الكتاب. يكفيه أنه نقل علوم اليونان إلى الهند، ونقل حكمة الهنود إلى المسلمين. فقد دخل بلاد الهند وأقام فيها عدة سنين، وتعلم من حكمائها فنونهم وعلمهم طرق اليونانيين في فلسفتهم
348
في ظل السلطان محمود الغزنوي، كما فعل نصير الدين الطوسي في نشر علم النجوم بين المغول في ظل هولاكو التتري، وكما نشره عمر الخيام بين السلاجقة، ومرجع الفضل في ذلك للإسلام.
فطار خبر فلكيي المسلمين في أقطار العالم، وأصبح المرجع إليهم في تحقيق المسائل، فإن ملوك الإفرنج كانوا يرسلون في حل المشكلات الفلكية، فيعرضون عليهم المسائل ويطلبون حلها ليس في الأندلس فقط لقربها من بلادهم ولكنهم كانوا يوفدون الوفود إلى ممالك الإسلام في الشرق لهذه الغاية. ومما نقله ابن أبي أصيبعة أن الأنبرور ملك الإفرنج أنفذ إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل رسولا وبيده مسائل في علم النجوم وغيره، فبعث بدر الدين إلى كمال الدين بن يونس في حلها في حديث طويل.
349
ويعترف الأسبان أن العرب علموهم الرقاص (البندول) لقياس الزمان، ولا يخفى ما بني على الرقاص من الآلات الفلكية وغيرها. على أنهم كانوا يعرفون عمل الساعات من قبل، ويقال: إن الرشيد أهدى الملك شارلمان ساعة بديعة تناقل الإفرنج خبرها.
ومن فضل العرب على الفلك وسائر الرياضيات أنهم نقلوا عن اليونانية كتبا ضاع أصلها بعد نقلها، وحفظت العلوم في ترجماتها العربية. منها مؤلفات تموخارس وأرستلوس وكرويات منيلاوس وكرويات ثاوون وشرحه للمجسطي،
350
ولم يقتصر ذلك على كتب الفلك ولكنه تناول كثيرا من العلوم حتى كتب الأدب فإن كليلة ودمنة نقله ابن المقفع من الفارسية، وقد ضاع أصله الفارسي فلما عمد أهل أوربا إلى ترجمته نقلوه عن العربية. (9-4) الحساب والجبر والهندسة
كان العرب في صدر الإسلام يستنكفون من تعلم الحساب؛ لأنه من شأن عمال الخراج أهل الذمة والموالي، وكانوا يقتصرون على العمل بوصية عمر بتعليم أولادهم الشعر والفروسية والسباحة والمثل. فلما تحضروا ورأوا افتقارهم للحساب مالوا إليه وشاع فيهم قول ابن التوأم: «علم ابنك الحساب قبل الكتاب»
351
ثم ما لبثوا أن استغرقوا في طلب العلم كله على اختلاف أنواعه، ونقلوه إلى لسانهم فكان الحساب في جملة تلك العلوم، وهو مما اشتغل فيه الفلكيون والمهندسون ونحوهم، وقلما انفرد واحد منهم بالحساب وحده.
ومن أكبر مآثر التمدن الإسلامي في الرياضيات نقلهم الحساب الهندي والأرقام الهندية من الهند إلى سائر أقطار العالم. فالعرب يسمونها أرقاما هندية؛ لأنهم نقلوها عن الهنود، والإفرنج يسمونها عربية؛ لأنهم أخذوها عن العرب،
352
وأول من تناول تلك الأرقام من الهنود أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي
353
ومن اسمه اشتق الإفرنج لفظ
Algorism
الإفرنجية.
وأما الجبر فللعرب فضل كبير في وضعه أو تأليفه، فقد رأيت في كلامنا عن نقل العلوم اليونانية أن العرب نقلوا كتابين في الجبر، أحدهما لذيوفانتوس والآخر لأبرخس. وقد وجد الباحثون بعد نهضة التمدن الحديث أن ما كتبه هذان ليس من الجبر في شيء، أو هي أصول ضعيفة لا يعتد بها، وهم يعتقدون أن الجبر من موضوعات العرب، والحقيقة على ما نرى أن العرب بعد أن اطلعوا على حساب الهنود أضافوه إلى ما نقلوه عن اليونان، وبنوا على ذلك علم الجبر. ومن أشهر كتب المسلمين في الجبر كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي المذكور، فالظاهر أن الخوارزمي جمع بين ما عثر عليه من الأصول الجبرية عند اليونان والهنود والفرس فاستخرج منه الجبر العربي، كما جمع في زيجه بين آراء الهند والفرس واليونان. وقد عني العرب بشرح كتاب الخوارزمي مرارا. وألف أيضا في الجبر أبو كامل شجاع بن أسلم، وأبو الوفاء البوزجاني، وأكثر مؤلفاته في الحساب، وأبو حنيفة الدينوري المتوفى سنة 218ه، وأبو العباس السرخسي المتوفى سنة 286ه وغيرهم، ولما نهض الإفرنج في تمدنهم الحديث أخذوا الجبر عن العرب.
ومما أحدثه المسلمون في الهندسة أنهم طبقوها على المنطق، وقد فعل ذلك ابن الهيثم في أوائل القرن الخامس للهجرة، فإنه ألف كتابا جمع فيه الأصول الهندسية والعددية من إقليدس وأبلونيوس، ونوع فيها الأصول وقسمها وبرهن عليها ببراهين نظمها من الأمور التعليمية والحسية والمنطقية، حتى انتظم ذلك مع انتقاص توالي إقليدس وأبلونيوس، وأدخل في الجبر والحساب أساليب جديدة في استخراج المسائل الحسابية من جهتي التحليل الهندسي والتقدير العددي، وعدل فيه عن أوضاع الجبرين وألفاظهم.
354
والحسن بن موسى بن شاكر اشتغل في استخراج مسائل هندسية لم يستخرجها أحد من الأولين، كقسمة الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وطرح خطين بين خطين ذوي توال على نسبة (كذا)، وكان يحللها ويردها على المسائل الأخرى ولا ينتهي إلى آخر أمرها؛ لأنها أعيت الأولين.
355 (9-5) الفنون الجميلة
الفنون الجميلة تسمية جديدة لما تنبسط له النفس من المصنوعات لجماله ورونقه لا لمنفعته ومتانته، والفنون التي تدخل في اعتبارهم تحت هذه التسمية قسمان: الأول تظهر أشكاله محسوسة كالحفر والتصوير والنحت والتمثيل (وتسمى الآن الفنون التشكيلية)، والثاني ما لا يحس ولا يرى بل هو من قبيل الخيال كالشعر والموسيقى. أو أن الفنون المذكورة ترجع بكليتها إلى التصوير ولبعضها صور محسوسة كالمنحوتات والمرسومات، وللبعض الآخر صور خيالية كالشعر والموسيقى. والأمم التي تمدنت قبل الإسلام اشتغلت في هذه الفنون على تفاوت في إتقانها. وممن أجاد فيها المصريون واليونان والرومان، فإنهم نحتوا التماثيل وصوروا الصور ومثلوا الحوادث ونظموا الشعر وضبطوا الألحان.
ومن الاعتقادات الشائعة أن التمدن الإسلامي مقصر في هذه الفنون؛ لأنه لم يخلف ما خلفه اليونان أو الرومان من الآثار الجميلة كالأبنية والتماثيل والصور ونحوها. ولو دققنا النظر لرأينا المسلمين أو العرب من أكثر الأمم استعدادا للفنون الجميلة والإجادة فيها، لا يقلون شيئا عن اليونان والرومان، وربما فاقوهما في بعضها. أما الجمال المحسوس فقد أجادوا فيما يتعلق منه بالبناء، ولهم نمط خاص فيه مشهور، ومن آثارهم البنائية الحمراء في الأندلس وجوامع القاهرة والشام وفارس والهند، وهي تدل على تقدم عظيم في هندسة البناء، مع ما فيها من زخارفه كالفسيفساء ونحوها مما يدهش النظر. ولهم نحو ذلك في الصياغة والنسج ونحوهما من الصنائع الجميلة. أما التصوير فلم يشتغلوا فيه؛ لأنه محرم عندهم كما هو معلوم.
أما الشعر فقد بينا فيما تقدم أن العرب أكثر الأمم انطباعا على الشعر وإتقانا له وأكثرهم نظما وأوسعهم خيالا. (أ) الموسيقى
وأما الموسيقى فالعرب فاقوا سواهم فيها، وقد وضعوا الألحان واخترعوا الآلات المطربة وأتقنوا صنعها، وكان للموسيقى عندهم شأن كبير، والمشهور أن العرب كان عندهم من الألحان شيء يوافق سذاجتهم وخشونة الجاهلية، فلما ظهر الإسلام واختلطوا بالروم والفرس اقتبسوا الموسيقى عن تلك الأمم قبل سائر العلوم الدخيلة؛ لأن اقتباسها لا يحتاج إلى نقل أو ترجمة. وأول من فعل ذلك عبد مكي اسمه سعيد بن مسحج، كان حسن الصوت مغرما بالموسيقى، وكان في مكة عند حصار الأمويين لها على عهد عبد الله بن الزبير في الثلث الأخير من القرن الأول للهجرة. واستخدم ابن الزبير بعض رجال الفرس في ترميم الكعبة، فسمع ابن مسحج بعضهم يغني بالفارسية فطرب والتقط النغم منه، ثم رحل إلى الشام وفارس وأخذ الألحان الرومية والفارسية، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم مما لا يألفه الذوق العربي، وغنى على هذا المذهب. وهو أول من فعل ذلك، وأخذ عنه من جاء بعده من مغني المسلمين، فنبغ منهم جماعة كبيرة.
وكان الغناء يزداد إتقانا ويزداد نبوغ المغنين كلما قربت الدولة من الترف والقصف، ولذلك كثروا في أواخر الدولة الأموية وأواسط الدولة العباسية ومن أشهر المغنين ابن سريج والغريض ومعبد وحكم الوادي وفيلج بن أبي العوراء وسياط ونشيط وعمر الوادي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وغيرهم. ومن المغنيات جميلة وحبابة وسلامة وعقيلة وغيرهن.
ولما اشتغل المسلمون في نقل العلوم الدخيلة، كان من جملتها كتب الموسيقى لليونان والهند، فتناولها المسلمون ودرسوها وأصبحت الموسيقى علما عندهم بأصول، وقد جمعوا بين ألحان اليونان والهنود والفرس والعرب فألفوا فيه المؤلفات، فضلا عما استنبطوه من الألحان أو اخترعوه من الآلات وكان للخلفاء عناية كبرى بالغناء، يبذلون الأموال في سبيل تنشيطه كما هو مشهور. وكانوا يشترطون في المغني أن يكون حافظا للأشعار والنوادر، يحسن النحو والإعراب، فكان المغنون في الدولة العباسية من أحاسن أهل الأدب، وفيهم من يحسن الفقه فضلا عن الأدب واللغة، كإبراهيم بن إسحاق الموصلي
356
وغيره، وبعضهم كان عالما بالنجوم مثل زرياب المغني. وكثيرا ما كان الخلفاء يجمعون المغنين للمناظرة بينهم في التلحين
357
ويجيزون المجيدين ويغدقون عليهم الرواتب والجواري، فقد كان راتب الموصلي عند الهادي 10000 درهم في الشهر، غير الصلات وغلات الضياع وغيرها
358
ولما قدم زرياب المغني من العراق إلى الأندلس ركب الأمير عبد الرحمن بنفسه للقائه.
359
وقد أدخل الموسيقيون في فن الموسيقى ألحانا لم تكن من قبل، وفيها ما لم يسبق له مثيل في تأثيره. ذكروا منها ألحانا لا يقدر الشبعان الممتلئ على غنائها، ولا سقاء يحمل قربة على الترنم بها، وأخرى لا يقدر المتكئ أن يغنيها حتى يقعد مستوفزا، ولا القاعد حتى يقوم.
360
والآلات الموسيقية أخذوا أكثرها عن الفرس والأنباط والروم والهند، فقد كان لكل من هذه الأمم آلات خاصة يتغنون بها. كان غناء الفرس بالعيدان والصنوج، وغناء خراسان بالزنج ذات سبعة أوتار، إيقاعه يشبه إيقاع الصنج. وغناء أهل طبرستان والديلم بالطنابير. وغناء الأنباط والجرامقة بالعيروارات، وهي كالطنابير. والروم كان غناؤهم بآلة يسمونها الأوعر عليها 16 وترا، والسلبان له 24 وترا، واللوزا وهي كالرباب من خشب له خمسة أوتار، والقيثارة ولها 12 وترا والصليح من جلود العجاجيل، والأرغن وهو منافخ من الجلود. وكان للهند الكيلكة بوتر واحد يمد على قرعة فيقوم مقام العود والصنج. وكان عند العرب الدف والمزهر. فالمسلمون جمعوا بين هذه الآلات الكثيرة، كما جمعوا بين علوم تلك الأمم واستخرجوا أحسنها وزادوا فيها وحسنوها، فضلا عما استنبطوه من عند أنفسهم كالآلة المعروفة بالقانون، فقد اخترعها الفارابي الفيلسوف، وهو أول من ركبها هذا التركيب ولا تزال عليه إلى الآن.
واصطنع الفارابي آلة مؤلفة من عيدان، يركبها ويضرب عليها وتختلف أنغامها باختلاف تركيبها ولكنها على أي حال غريبة في بابها. ذكروا أن الفارابي حضر مجلس غناء لسيف الدولة، ولم يكن أحد من الحضور يعرفه فعاب المغنين فسأله سيف الدولة هل يحسن الغناء؟ ففتح خريطة واستخرج تلك الآلة وركبها ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيبا آخر وضرب عليها فبكى كل من كان في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها وضرب ضربا آخر فنام كل من كان في المجلس حتى البواب، فتركهم نياما وخرج!
361
وزاد المسلمون في العود وترا خامسا، زاده زرياب بالأندلس، وكان للعود أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع، فزاد عليها وترا خامسا أحمر متوسطا، ولون الأوتار وطبقها على الطبائع. وهو الذي اخترع مضراب العود من قوادم النسر، وكانوا قبله يضربون بالخشب. وعباس بن فرناس في الأندلس اصطنع الآلة المعروفة بالمثقال، يعرف بها الأوقات على غير رسم ومثال.
362
وبالجملة إن العرب لم يقصروا في الفنون الجميلة، بل هم فاقوا سواهم في أكثرها وإنما قصروا في بعضها مراعاة للدين. (9-6) المدارس في الإسلام (أ) التعليم
قد رأيت فيما تقدم أن القرآن أساس العلوم الإسلامية، فتعليمه أساس التعليم الإسلامي، وأول دروس القرآن قراءته. فأول المعلمين في الإسلام النبي
صلى الله عليه وسلم
علمه للصحابة، وهم علموه للناس مع ما ترتب عليه أو تفرع عنه من العلوم . ولهذا السبب كانت مدارس المسلمين في جوامعهم كما كانت مدارس النصارى في أديرتهم وكنائسهم. وكانوا يسمون التلامذة المجتمعين حول أستاذ يتلقون علما من العلوم «حلقة». وتفرعت العلوم بتوالي الأعوام واتسعت دوائرها، حتى أصبح للعلم الواحد عدة حلقات، والغالب أن تنسب الحلقة إلى أستاذها، فيقولون مثلا: حلقة أبي إسحاق الشيرازي في جامع المنصور أو نحو ذلك. وكانوا يجعلون في كل جامع خزانة كتب للمطالعة أو الاستنساخ.
على أن التعليم لم يكن خاصا بالمساجد، فكثيرا ما كانوا ينشئون حلقات التدريس في المارستانات أو الربط أو المنازل أو غيرها. وكان الأغنياء إذا أرادوا تعليم أولادهم أحضروا المعلمين إلى منازلهم، كذلك كان يفعل الخلفاء والأمراء، ولا يزال أهل الوجاهة يفعلون ذلك إلى اليوم.
وأشهر الجوامع في التدريس على الإطلاق الجامع الأزهر في القاهرة، فقد بني مع القاهرة في أواسط القرن الرابع للهجرة، وكانت تلقى فيه دروس القرآن والفقه على جاري العادة في سائر الجوامع. وكان جماعة من الطلبة يقيمون فيه ويسمون المجاورين، ومنهم من جاء من أقاصي البلاد الإسلامية حتى تركستان والهند وزيلع وسنار، ولكل طائفة منهم رواق باسمها كرواق الشوام أو المغاربة أو العجم أو الزيالعة أو السنارية أو اليمنية أو الهندية، فضلا عن أروقة أهل الصعيد. وبلغ عدد تلامذة الأزهر في أوائل القرن التاسع للهجرة 750 طالبا من طوائف مختلفة، وكانوا يقيمون في الجامع ومعهم صناديقهم وخزائنهم، يتعلمون فيه الفقه والحديث والتفسير والنحو والمنطق ويحضرون مجالس الوعظ وحلق الذكر. وربما بات في الجامع كثيرون من غير الطلبة للتبرك أو المأوى، وللجامع المذكور تاريخ طويل ترى تفصيله في خطط المقريزي والخطط التوفيقية. على أن حاله كانت تختلف باختلاف المذهب السائد بمصر وباختلاف مناقب الحكام. وبلغ عدد مجاوريه في عهد العائلة الخديوية بضعة عشر ألفا، والهمة مبذولة في إدخال بعض العلوم الحديثة فيه. (ب) المدارس
ومما لاحظناه من أمر التعليم في التمدن الإسلامي أن العلم نضج على اختلاف وجهاته وأثمر، ونبغ العلماء والفقهاء والأطباء والفلاسفة، وليس في الإسلام مدرسة مستقلة نحو مدارس هذه الأيام، وقد أجمع المؤرخون المسلمون تقريبا على أن أول من بنى المدارس في الإسلام نظام الملك الطوسي، وزير ملك شاه السلطان السلجوقي، في أواسط القرن الخامس للهجرة. ومن الغريب أن ينقضي العصر العباسي، ويتم نقل الكتب وينضج العلم على اختلاف موضوعاته دون أن ينشئ المسلمون مدرسة، أو أن ينشئوا المدارس ولا يرد ذكرها في تاريخهم. ولكننا رأينا الإفرنج يذكرون للمسلمين مدرسة أنشأها المأمون في خراسان وهو وال هناك،
363
ولا ندري من أين نقلوا ذلك، ولم نر له ذكرا في كتب العرب التي طالعناها. على أننا رأينا فيما ذكره المسلمون عدة مدارس أنشئت في نيسابور عاصمة خراسان قبل زمن نظام الملك، منها مدرسة ابن فورك المتوفى سنة 406،
364
والمدرسة البيهقية نسبة إلى البيهقي المتوفى سنة 450ه ... والمدرسة السعيدية بناها نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود الغزنوي الشهير، ومدرسة بناها إسماعيل الإسترابادي الصوفي الواعظ، وأخرى بنيت للأستاذ أبي إسحاق،
365
وكل هذه المدارس بنيت قبل بناء المدرسة النظامية في بغداد. حتى نظام الملك نفسه بنى مدرسة بهذا الاسم في نيسابور أيضا قبل مدرسة بغداد، بناها لإمام الحرمين في سلطنة ألب أرسلان،
366
فلعل السبب في اشتهار أسبقية نظام الملك في إنشاء المدارس الإسلامية أنه أول من بنى مدرسة كبرى في بغداد، وجعل التعليم فيها مجانا، وفرض لتلامذتها الأرزاق والجواري والمعاليم.
وعلى أي حال فإن أول من بنى المدارس في الإسلام الأمراء الأعاجم، وإذا صحت رواية الإفرنج عن مدرسة المأمون في خراسان (أو نيسابور) فقد بنيت في بلاد أعجمية لغرض أعجمي، وإلا فلماذا لم يبن المأمون مثلها في بغداد لما تولى الخلافة واشتغل في نقل العلوم؟ ... فما هو السبب في اختصاص إنشاء المدارس في الإسلام بغير الخلفاء؟
قد رأيت فيما تقدم منزلة العلماء المسلمين عند الخلفاء والأمراء، لارتباط السياسة بالدين عندهم، ولأن العلماء هم حملة الدين والداعون إليه. فكان العلماء في أوائل الإسلام يشاركون الخلفاء في النفوذ على العامة ويساعدونهم فيه. فلما ضعف شأن الخلفاء، وأفضت الحكومة إلى السلاطين والأمراء من الفرس والأتراك والديلم والأكراد وغيرهم، أصبح هؤلاء في حاجة إلى اكتساب قلوب العامة لتأييد سلطانهم بما يقوم مقام نفوذ الخلفاء الديني. وأقرب السبل المؤدية إلى ذلك الإحسان إلى الفقراء وإكرام العلماء والفقهاء. فأصبح السلطان أو الأمير إذا تولى بلدا وكان حكيما عاقلا، فأول ما يسعى فيه تقريب العلماء والفقهاء واسترضاء العامة بإنشاء الجوامع والربط والمارستانات ونحوها، وتعيين الرواتب والأرزاق للعلماء والفقراء وغيرهم، فيكتسبون بذلك ثقة العامة ورضى الخاصة، غير ما يرجونه من الثواب. كذلك فعل ابن طولون بمصر، وعضد الدولة في بغداد، ونور الدين في الشام، وصلاح الدين بمصر.
وذلك أيضا ما حمل نظام الملك على إنشاء المدارس؛ لأنه وزر للسلطان ألب أرسلان عشر سنين، وكان بمنزلة والده وله النفوذ الأكبر عنده، فلما توفي ألب أرسلان وازدحم أولاده على الملك، وطد المملكة لولده ملك شاه فصار الأمر كله لنظام الملك وليس للسلطان غير التخت والصيد. أقام على ذلك عشرين سنة، وكانت طائفة الباطنية قد استفحل أمرها في ذلك العصر وكثر المتزاحمون على السلطة. وكان نظام الملك عاقلا حكيما، فبذل جهده في استمالة الأعداء وموالاة الأولياء، فأكثر من الإحسان حتى عم العدو والصديق والبغيض والحبيب. وكان من أهم مساعيه في ذلك أنه بنى دور العلم للفقهاء، وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباط للعباد والزهاد وأهل الصلاح والفقراء، ثم أجرى الجرايات والنفقات لطلبة العلم وغيرهم. وعم بذلك سائر أقطار مملكته في الشام وديار بكر والعراقين وخراسان إلى سمرقند، فلم يكن فيها حامل علم أو طالبه أو متعبد أو زاهد إلا وكرامة نظام الملك شاملة له سابغة عليه، وقدروا ما كان ينفقه في هذا السبيل فبلغ 600000 دينار في السنة. فوشى به بعضهم إلى السلطان وقالوا: «إن الأموال التي ينفقها نظام الملك في ذلك تقيم جيشا يركز رايته في سور القسطنطينية» فعاتبه ملك شاه في ذلك فأجابه: «يا بني أنا شيخ أعجمي، لو نودي علي فيمن يزيد لم أحفظ خمسة دنانير ... وأنت غلام تركي، لو نودي عليك عساك تحفظ ثلاثين دينارا ... وأنت مشتغل بلذاتك منهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله تعالى معاصيك دون طاعتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيف طوله ذراعان وقوس لا ينتهي مدى مرماها ثلاثمائة ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور ... وأنا أقمت لك جيشا يسمى جيش الليل، إذا نامت جيوشك ليلا قامت جيوش الليل على أقدامها صفوفا بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم وأطلقوا ألسنتهم ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك ... فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تمطرون وترزقون ...» فقبل ملك شاه وسكت
367
وتوفي نظام الملك مقتولا سنة 485.
ومن الأسباب التي كانت تحمل الأمراء غير العرب على إنشاء المدارس والمساجد، غير التماس الأجر والثواب، أنهم كانوا ينشأون في بلاط السلطان ويغلب أن يكونوا من صنائعه أو مواليه، فيكون له عليهم حق الولاء أو الرق. فإذا توفي أحدهم عن مال أو ضياع وأراد السلطان قبضها فعل وحرم أبناءه منها. فكان الرجل منهم إذا بلغ الإمارة وكثر ماله خاف عادية السلطان على ما يخلفه من ذريته، فيبني المدارس أو الزوايا أو الربط، ويقف عليها الأوقاف المغلة من ضياعه أو أبنيته، ويجعل في شروط الأوقاف أن يتولاها بعض ولده وله نصيب منها، والأوقاف ثابتة فيأمن بذلك على أولاده الفقر.
وكان من أسباب إنشاء المدارس أيضا تأييد المذهب الذي يتبعه السلطان أو الأمير، فقد كانت القاهرة شيعية منذ بنيت، وكانت الدروس التي تلقى في الجامع الأزهر على مذهب الشيعة، فلما تولاها صلاح الدين الأيوبي أبطل هذا المذهب وأحيا المذهبين المالكي والشافعي، فأنشأ المدارس لتعليم هذين المذهبين فبنى المدرسة الناصرية سنة 566ه للمذهب الشافعي، وهي أول مدرسة حدثت بمصر
368
واقتدى به من جاء بعده من الأكراد والأتراك.
ومهما يكن السبب، فلا خلاف في أن نظام الملك أول من اشتهر بإنشاء المدارس في الإسلام في أواسط القرن الخامس للهجرة. فبنى المدارس في بغداد وأصبهان ونيسابور وهراوة وغيرها، وكل منها تنعت بالنظامية نسبة إليه، أشهرها المدرسة النظامية في بغداد تولى بناءها سعيد الصوفي سنة 457ه على شاطئ دجلة وكتب عليها اسم نظام الملك، وبنى حولها أسواقا تكون محبسة عليها وابتاع ضياعا وخانات وحمامات وقفها عليها، فبلغت النفقة ما يقارب 60000 دينار.
وكان للمدرسة المذكورة شأن كبير في العالم الإسلامي، وقد تخرج فيها جماعة من رجال العلم طار ذكرهم في الآفاق. أول أساتذتها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ثم الإمام أبو نصر الصباغ صاحب الشامل، ثم أبو القاسم الدبوسي، وأبو حامد الغزالي، والشاشي، والكيا الهراسي، والسهروردي، وكمال الدين الأنباري وغيرهم من أقطاب العلم. فأصبح التعليم في هذه المدرسة من أكبر أسباب الثقة بالمعلمين، وكانت تعلم فيها العلوم الدينية والفقهية واللسانية.
واقتدى السلاطين والأمراء بنظام الملك في إنشاء المدارس المجانية على هذه الصورة في أنحاء المملكة الإسلامية ، وأشهرهم على الترتيب السلطان نور الدين زنكي صاحب دمشق المتوفى سنة 577ه، وهو تركي الأصل بنى المدارس في جميع بلاد الشام وغيرها مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة، غير ما بناه من المارستانات والمساجد ودور الحديث والربط. ثم السلطان صلاح الدين المتوفى سنة 589 وهو كردي، بنى المدارس في مصر والإسكندرية والقدس وغيرها، ثم الملك المعظم مظفر الدين صاحب أربل المتوفى سنة 630ه، فقد بنى كثيرا من المدارس ودور الأيتام واللقطاء والأرامل وغيرها. واقتدى بالسلطان صلاح الدين من خلفه من أهله في مصر، فتسابقوا إلى إنشاء المدارس فيها، فبلغ عددها بعد انقضاء ملكهم 25 مدرسة. ولما أفضى الملك إلى السلاطين المماليك ساروا على خطواتهم واقتدى بهم الأغنياء، فبلغ عدد ما أنشأوه بمصر إلى أيام المقريزي في أواسط القرن التاسع للهجرة 45 مدرسة وصار المجموع 70 مدرسة. ويقال نحو ذلك في الأصقاع الأخرى. وأول من أنشأ المدارس في الدولة العثمانية السلطان أورخان المتوفى سنة 761ه، واقتدى به سلاطين آل عثمان في إنشائها، وأشهرها المدارس الثماني التي أنشأها السلطان سليمان.
369
وجاء في رحلة ابن جبير الذي طاف الشرق الإسلامي في القرن السادس أنه شاهد عشرين مدرسة في دمشق و30 في بغداد. أما الأندلس فقد نقل الأمير علي صاحب تاريخ الإسلام في الإنجليزية أن العرب أنشأوا المدارس في قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة ومالقة وغيرها، وأن مملكة غرناطة وحدها بلغ عدد مدارسها 17 مدرسة كبرى و120 مدرسة صغرى
370
ولكن يظهر أن مدارس الأندلس أنشئت على غير مثال المدرسة النظامية.
قال المقري صاحب نفح الطيب: «وليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرأون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرأون لأن يتعلموا لا لأن يأخذوا جاريا»
371
فترى في عبارة المقري نفيا صريحا للمدارس في الأندلس، فالظاهر أن الأمير عليا المذكور نقل كلامه عن الإفرنج، وهؤلاء ربما يعنون مدارس المساجد.
والمدارس في الإسلام على أشكال، منها حلقات الجوامع والربط والزوايا، ومنها المدارس المجانية الكبرى للعلوم الإسلامية والمارستانات للطب والفلسفة، غير ما قد يعقده العلماء من مجالس التعليم في منازلهم. وعدد الطلبة على أي حال يختلف باختلاف شهرة الأستاذ في فنه، فكان يجتمع في حلقة الفارابي مئات المئين من الطلبة، وقد يكون للأستاذ تلامذة تحتهم تلامذة. ذكروا أن أبا بكر الرازي الطبيب المشهور كان يجلس في مجلسه ودونه التلاميذ، ودونهم تلاميذهم، ودونهم تلاميذ أخر. فكان يجيء الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلا تعداهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي،
372
وكان الأستاذ يزداد شهرة ونفوذا بازدياد تلامذته، وإذا مشى مشوا حوله وقد يركب وهم مشاة. كان الإمام فخر الدين بن خطيب الري إذا ركب مشى حوله 300 تلميذ من الفقهاء.
373
وكان الشيخ الأستاذ إذا قرأ عليه أحد كتابا كتب هو علامته على الكتاب، شهادة بأنه قرئ عليه. ومن أكثر العلماء تلامذة الشيرازي والفارابي والرازي وابن خطيب الري وابن سينا والغزالي. وكان التعليم شاملا كل طبقات الناس، حتى المماليك والجواري والعبيد والمخانيث وغيرهم. (9-7) المكتبات أو خزائن الكتب
ما برح الناس منذ أخذوا في تدوين أعمالهم وأخبارهم وعلومهم وهم يحرصون على استبقاء ما يدونونه؛ لأنهم دونوه رغبة في استبقائه. ويعبرون عن المكان الذي يحفظون الكتب فيه بالمكتبة أو خزانة الكتب، وأقدم من أنشأ المكتبات في العالم البابليون سنة 1700 قبل الميلاد، ومن بقاياهم مكتبة عثر عليها علماء القرن الماضي في خرائب بابل وآشور، وهي عبارة عن قرميدات من الطين المجفف عليها كتابة بالحرف الإسفيني (المسماري)، يليهم المصريون القدماء فقد وصف ديودورس مكتبة وجدوها في قبر ملك مصري اسمه أوسيمندياس. ثم اليونان وهم أول من أنشأ المكتبات العامة لفائدة الناس، وأقدم منشئيها بسستراتوس في أواسط القرن السادس قبل الميلاد، وذكر بلوتارخس مكتبة في برجاموس مؤلفة من 200000 مجلد. وأنشأ البطالسة مكتبة الإسكندرية الشهيرة. ثم الرومان، وأول مكتباتهم نقلوها عن مقدونية إلى رومية سنة 167ق.م، ثم استولوا على مكتبة برجاموس المذكورة سنة 133ق.م، ثم نقلوا مكتبات أثينا سنة 86، ولما عظم شأن قسطنطين في القسطنطينية أنشأ فيها مكتبة سنة 355م، غير ما تقدم ذكره من خزائن الفرس في الرساتيق والأزج، ثم كف الناس عن إنشاء المكتبات حتى تمدن المسلمون وأنشأوا مكتباتهم. (أ) المكتبات الإسلامية
لما ظهر الإسلام ونهض المسلمون للفتح أحرقوا ما عثروا عليه من الكتب لأسباب تقدم بيانها، لكنهم ما لبثوا أن تحضروا وذاقوا طعم العلم حتى أصبحوا أحرص الناس على الكتب وأكثرهم بذلا في الحصول عليها وأشدهم عناية في صيانتها. وقد رأيت أن العرب قضوا القرن الأول ونصف القرن الثاني وأبحاثهم مقصورة تقريبا على العلوم الإسلامية، ولم يدونوها إلا في أواخر تلك المدة. فكان ما يجمعونه من الكتب محصورا في الأشعار والأخبار والأمثال مكتوبة على الرقوق أو الجلود أو الأنسجة أو نحوها. قالوا: إن كتب أبي عمرو بن العلاء كانت تملأ بيته إلى السقف، وقالوا نحو ذلك في سائر رواة الأدب والشعر كالأصمعي وحماد وأبي عبيدة.
غير أن ذلك لا يعد من قبيل المكتبات العامة التي إنما يقوم بإنشائها ولاة الأمور أو من يجري مجراهم. ومرجع الفضل في إنشاء هذه المكتبات إلى خلفاء النهضة العباسية، وإن كنا نرى ذكر خزائن الكتب في أيام بني أمية التي أخرج عمر بن عبد العزيز منها كناش هارون، فتلك على الغالب مما أنشأه الأطباء والفلاسفة الذين كانوا في خدمة تلك الدولة لأنفسهم أو لأولادهم. (ب) مكتبات بغداد
أما في الدولة العباسية فكان إنشاؤها من جملة أسباب نهضتهم لنقل العلوم، فأنشأوا مكتبة في بغداد سموها «بيت الحكمة» الغالب أن الرشيد أنشأها وجمع إليها ما كان قد نقل إلى العربية من كتب الطب والعلم، وما ألف من العلوم الإسلامية، مع ما سعى يحيى بن خالد في جمعه من كتب الهند، وما وقع للرشيد من كتب الروم في أنقرة وغيرها. ولما تولى المأمون وأنشأ مجالس الترجمة جمع في بيت الحكمة كتب العلم في لغاتها، وفيها اليونانية والسريانية والفارسية والهندية والقبطية، فضلا عن العربية، وعلم الناس رغبته في ذلك فأتوه بالكتب على اختلاف موضوعاتها وأشكال خطوطها، ومنها كتاب ذكر ابن النديم أنه بخط عبد المطلب بن هاشم جد النبي
صلى الله عليه وسلم
على جلد، وفيه ذكر حق عبد المطلب «على فلان بن فلان الحميري من أهل صنعاء عليه ألف درهم فضة كيلا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه شهد الله والملكان».
374
وكان بيت الحكمة عبارة عن مجلس للترجمة أو النسخ أو الدرس أو التأليف، فيجلس النساخ في أماكن خاصة بهم ينسخون لأنفسهم أو بأجور معينة، وكذلك المترجمون والمؤلفون والمطالعون. ومن نساخ بيت الحكمة علان الشعوبي أصله فارسي وكان راوية عارفا بالأنساب والمنافرات، وكان ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة، وله كتاب في مثالب العرب هتك فيه العرب وأظهر مثالبها،
375
وممن كان يتردد إلى بيت الحكمة للمطالعة أو التأليف محمد بن موسى الخوارزمي المنجم، ويحيى بن أبي منصور الموصلي أحد أصحاب الأرصاد في أيام المأمون، والفضل بن نوبخت المنجم، وأولاد شاكر وغيرهم. وكان للبيت المذكور قيم يدير شؤونه يسمى صاحب بيت الحكمة، وأشهر مديريها سهل بن هارون وهو فارسي شعوبي شديد التعصب على العرب، وله في ذلك كتب كثيرة. ومنهم سلم وله نقول من الفارسي إلى العربي. فترى من ذلك أن البيت أو الخزانة المذكورة أنشئت على يد الفرس، وخدمتها والمترددون إليها من الفرس، وأكثرهم من الشعوبية الذين يكرهون العرب، ولذلك سبب متصل بقيام الخراسانيين بنصرة المأمون لأسباب ذكرناها في الجزأين الماضيين من هذا الكتاب.
ثم أنشأ البغداديون المكتبات على مثال بيت الحكمة، أشهرها مكتبة وقفها سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة في محلة بين السورين في الكرخ في سنة 381ه وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد كلها بخطوط الأئمة المعتبرة، وكان المؤلفون يقفون عليها نسخا من مؤلفاتهم. واحترقت فيما احترق من محال الكرخ عند مجيء طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447ه
376
وممن تولى حفظ ما بقي منها والإشراف عليها عبد السلام البصري اللغوي المتوفى سنة 405ه.
377
واشتهر بجمع الكتب من بني العباس الخليفة الناصر بن المستضيء المتوفى سنة 622ه.
378 (ج) مكتبات الأندلس
وكان المأمون مثالا في إنشاء المكتبات في الممالك الإسلامية، كما كان مثالا في سائر أسباب النهضة العلمية . فاقتدى به بنو أمية في الأندلس، وأشبههم به الحكم المستنصر بن الناصر الذي تولى الخلافة سنة 350ه وتوفي سنة 366ه وكان محبا للعلوم مكرما لأهلها جماعا للكتب على أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله. فأنشأ في قرطبة مكتبة جمع إليها الكتب من أنحاء العالم، فكان يبعث في شرائها رجالا من التجار ومعهم الأموال، ويحرضهم على البذل في سبيلها لينافس بني العباس في اقتناء الكتب وتقريب الكتاب. وكان أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني معاصرا له، وهو أموي مثله فبعث إليه أن يرسل إليه كتاب الأغاني قبل إخراجه إلى بني العباس، وبذل له على ذلك ألف دينار ذهبا. وفعل نحو ذلك مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكيم وغيره، فاجتمع له من الكتب ما لم يسبق له مثيل في الإسلام فجعلوها في قاعات خاصة من قصر قرطبة أقاموا عليها مديرا ومشرفا ووضعوا لها الفهارس لكل موضوع على حدة. وذكروا أن فهارس الدواوين وحدها 44 فهرسا في كل فهرس عشرون ورقة
379
فإذا قدرنا للصفحة 25 اسما فقط كان مجموع عدد الدواوين 44000 كتاب، فكيف بسائر الكتب؟ ولا نظننا نبالغ إذا سلمنا مع ابن خلدون والمقري أن مجموع ما حوته تلك المكتبة 400000 مجلد.
380
واقتدى بالحكم رجال دولته وعظماء مملكته، فأنشأوا المكتبات في سائر بلاد الأندلس، حتى قالوا إن غرناطة وحدها كان فيها سبعون مكتبة من المكتبات العامة، وأصبح حب الكتب في الأندلس سجية في أهلها وأصبح اقتناؤها من شارات الوجاهة والرئاسة عندهم. وقد يكون الرئيس منهم جاهلا ويحتفل أن يكون في بيته خزانة كتب، ليقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. قال الحضرمي: «أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلى المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده. فقلت له: يا هذا! أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي، قال: فأراني شخصا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده. فقال لي: لست بفقيه ولا أدري فيه، ولكني أقمت خزانة الكتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الزرق فهو كثير. قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم، لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك ... يعطى الجوز من لا أسنان له ... وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!»
381
وظل أهل قرطبة على أي حال أحسن الأندلسيين رغبة في الكتب، كما كان أهل إشبيلية أرغبهم في اللهو الطرب، فإذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه، حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية. أما مكتبة قرطبة فما زالت في قصرها حتى بيع أكثرها في حصار البربر ثم أتم عليها الإفرنج. (د) مكتبات مصر
واقتدى بخلفاء بغداد والأندلس الخلفاء الفاطميون بمصر، بدأ بذلك منهم العزيز بالله ثاني خلفائهم، تولى الخلافة سنة 365ه وهو شاب، فاستوزر يعقوب بن كلس ، وكان يعقوب مدبرا ومحبا للعلم، فرتب له الدواوين وقرب إليه العلماء على اختلاف طبقاتهم، وأجرى لهم الأرزاق وحبب إلى الخليفة اقتناء الكتب، فجمع منها جانبا كبيرا وخصص لها قاعات في قصره وسماها «خزانة الكتب»، وبذل الأموال في الاستكثار من المؤلفات المهمة في التاريخ والأدب والفقه، ولو اجتمع من الكتاب الواحد عشر نسخ أو مائة نسخة أو أكثر. ذكروا أنه كان فيها من كتاب العين للخليل نيف وثلاثون نسخة منها نسخة بخط الخليل نفسه، وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، واشتروا النسخة بمائة دينار ، ومائة نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد. وكان عدد النسخ المكررة يزداد بتوالي الأعوام، حتى بلغ عدد النسخ من تاريخ الطبري عند استيلاء صلاح الدين الأيوبي على مصر 1200 نسخة، وكان فيها 3400 ختمة قرآن بخطوط منسوبة محلاة بالذهب. فلا عجب إذا قالوا إنها كانت تحوي 1600000 كتاب
382
في الفقه والنحو اللغة والحديث والتاريخ والنجامة والروحانيات والكيمياء، منها 18000 كتاب في العلوم القديمة، فيها 6500 جزء من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة
383
غير أدوات الهندسة والفلك.
على أننا نرى في تقدير تلك الكتب مبالغة، وقد قدرها آخرون 200000 كتاب، وغيرهم 120000، ونظن في تقديرهم التباسا من حيث المراد بخزانة الكتب أو خزائن الكتب؛ لأن العزيز بعد أن أنشأ خزانته بقصره اقتدى به جماعة من أهله فأنشأوا مثلها في قصورهم، فالظاهر أن المراد بالتقدير القليل عدد الكتب في خزانة العزيز خاصة، وبالكثير عدد ما في خزائن القصور كلها. وبهذا الاعتبار لا يقل عدد الكتب في خزائن القصور عن 1000000 مجلد أو كتاب.
وكان للعزيز عناية كبيرة بخزانته يتعهدها بنفسه حينا بعد حين، وقد رتب لها قيما يتولى شؤونها ويجالسه ويقرأ له الكتب وينادمه، وممن تولى ذلك أبو الحسن الشابشتي الكاتب المتوفى سنة 390ه.
384
وقد أصاب هذه الخزائن من الإحن بتوالي الفتن مثل ما أصاب مكتبة الإسكندرية في عهد الرومان، فألقي بعض كتبها في النار والبعض الآخر في النيل وترك بعضها في الصحراء فسفت عليه الرياح حتى صار تلالا عرفت بتلال الكتب، واتخذ العبيد من جلودها نعالا مما يطول شرحه. وبالإجمال فقد طرح ما بقي منها عند دخول الأكراد للمبيع في أواسط القرن السادس، وكان في جملة ما أخرجوه من تلك القصور نحو 120000 كتاب أعطاها صلاح الدين للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني.
385 (ه) دار الحكمة
وتسمى أيضا دار العلم وهي غير خزانة العزيز أو خزائن القصور كما توهم الأكثرون. أنشأها الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله سنة 395ه، بجوار القصر الغربي بالقاهرة، وحمل إليها الكتب من خزائن القصور، ووقف لها أماكن ينفق عليها من ريعها. ففرشوها وزخرفوها وعلقوا الستائر على أبوابها وممراتها وأقاموا عليها القوام والمشرفين، والغرض من دار الحكمة مثل الغرض من بيت الحكمة الذي أنشأه العباسيون، أي لخدمة الناس في المطالعة والدرس والتأليف. وهي طريقة القدماء في تعليم الناس، إذ يتعذر على غير الأغنياء اقتناء الكتب الكثيرة نظرا لغلائها، فمن أحب تعليم رعيته أنشأ مكتبة جمع فيها الكتب وفتح أبوابها للناس، كما فعل البطالسة في مكتبة الإسكندرية، والعباسيون في بيت الحكمة ببغداد، وقد عد بعضهم دار الحكمة مدرسة؛ لأن الحاكم أقام بها القراء والمنجمين وأصحاب النحو واللغة والأطباء، وأجرى لهم الأرزاق وأباح الدخول إليها لسائر الناس على اختلاف طبقاتهم من محبي المطالعة، ليقرأوا أو ينسخوا ما شاءوا، وجعل فيها ما يحتاجون إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر. وكان الحاكم يستحضر بعض علماء الدار المذكورة بين يديه، ويأمرهم بالمناظرة كما كان يفعل المأمون ويخلع عليهم الخلع. وقد أباح المناظرة بين المترددين إلى دار الحكمة، فكانوا يعقدون المجتمعات هناك وتقوم المناظرات وقد يفضي الجدال إلى الخصام. واتخذ بعض أصحاب البدع تلك الاجتماعات وسيلة لبث آرائهم، فاضطر الأفضل بن أمير الجيوش في أوائل القرن السادس للهجرة إلى إبطالها دفعا لأسباب الفتن، فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله وزيره المأمون بن البطائحي فأعادها سنة 517ه، ولكنه اشترط فيها المسير على الأوضاع الشرعية، وأن يكون متوليها رجل دين وأن يقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن. ولا نظن عدد كتبها يقل عن 100000 كتاب، ولما أفضت الحكومة إلى صلاح الدين الأيوبي هدم دار العلم وبناها مدرسة للشافعية.
386 (و) مكتبات الشام
لما كانت الشام مركز الخلافة في أيام بني أمية لم يكن للخلفاء رغبة في العلم ولا التفت العباسيون إليها. ولكنها اشتهرت في عهد الدولة الفاطمية بمكتبة كانت في طرابلس الشام حتى فتحها الإفرنج سنة 502 فانتهبوها
387
وذكر «جبن» أن عدد كتبها 3000000 مجلد أحرقها الإفرنج.
388
فلما تولى نور الدين الشام وأنشأ المدارس في مدائنها جعل فيها خزائن الكتب، وتعرف بالخزائن النورية، وهكذا فعل صلاح الدين.
أما بلاد فارس فقد تقدم في غير هذا الباب ما كان فيها من الخزائن المخبأة في الرساتين والأزج والقباب، مكتوبة بالحروف الفهلوية على الجلود ونحوها قبل الإسلام، فلما نضجت الحضارة الإسلامية في بغداد كان الفرس من أكبر العوامل فيها، وفي جملة مساعيهم أنشأ بيت الحكمة وغيره كما تقدم.
وأما خراسان فقد كانت بلاد علم وأدب لما علمته من إنشاء المدارس فيها قبل سائر بلاد الإسلام. وأما المكتبات فلم يتصل بنا من أخبارها إلا القليل، فقد ذكر ياقوت في معجمه أنه ترك مرو الشاهجان أشهر مدن خراسان يومئذ سنة 616ه وفيها عشر خزائن للوقف لم ير في الدنيا مثلها كثرة وجودة، وقد فصل أخبارها وأخبار واقفيها وذكر أن واحدة منها كان فيها 12000 مجلد وأنه أخذ علمه منها.
389
أما ما وراء النهر فقد ذكروا في بخارى مكتبة اشتهرت باقتباس ابن سينا علمه عنها، وكانت لنوح بن منصور سلطان بخارى، قال الشيخ الرئيس: «ورأيت فيها من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس، وما كنت رأيته من قبل... إلخ». وأنشأ هولاكو التتري لنصير الدين الطوسي في مراغة مكتبة فيها 400000 مجلد مما نهبه التتر من بغداد والشام والجزيرة.
هذا ما عثرنا على خبره من المكتبات العامة التي أنشأها الخلفاء أو السلاطين لمنفعة الناس، غير خزائن الكتب التابعة للمدارس أو المارستانات أو الجوامع، فإنها كانت كثيرة جدا ومنها ما لا تقل كتبها عن المكتبات الكبرى، وهي مرتبة أبوابا حسب الموضوعات وعليها الوكلاء والقوام. وغير الخزائن الخاصة التي كان يقتنيها العلماء لأنفسهم وهي كثيرة وعظيمة، فقد كانت كتب الصاحب بن عباد تنقل على 400 جمل، وخلف إفرايم الطبيب المصري 20000 مجلد، ولما مات موفق الدين بن المطران كان في خزانته 10000 مجلد غير ما استنسخه، وكان له ثلاثة نساخ يكتبون. وكان عند أمين الدولة 20000 مجلد، وقس عليهم كثيرين كالفتح بن خاقان وابن القفطي وغيرهما.
ولا تتضح ضخامة تلك المكتبات إلا إذا قابلناها بمكتبات هذا العصر، مع اعتبار الفرق بين العصرين وما كان لانتشار الطباعة من تسهيل اقتناء الكتب، مع مرور الأزمنة الطويلة على مكتبات هذه الأيام، وكثرة الوسائل المساعدة على اقتناء الكتب لقلة النفقة وغير ذلك. ونقتصر على المكتبات الإسلامية الكبرى التي عرفنا عدد مجلداتها ونقابلها بأشهر مكتبات أوربا اليوم:
أشهر مكتبات المسلمين في عهد التمدن الإسلامي
عدد المجلدات
بيت الحكمة في بغداد
10000
مكتبة سابور في بغداد
400000
مكتبة الحكم بقرطبة
1000000
خزائن القصور بالقاهرة
100000
دار الحكمة بالقاهرة
3000000
مكتبة طرابلس
400000
مكتبة مراغة
أشهر مكتبات هذه الأيام في عواصم أوربا الكبرى
عدد المجلدات
2700000
مكتبة باريس الأهلية
1648000
مكتبة المتحف البريطاني في لندن
1360000
مكتبة بطرسبرج القيصرية
1230000
مكتبة برلين الأهلية
924000
مكتبة فينا الملوكية
677000
مكتبة رومية الأهلية
وفي الولايات المتحدة 4026 مكتبة مجموع عدد كتبها 33051872 مجلدا. وعلى الجملة فإن المسلمين جمعوا في مكتباتهم العامة والخاصة من الكتب على اختلاف موضوعاتها ما يعد بالملايين. ولم يبق منها إلا جزء صغير جدا، وقد ضاع معظمها في أثناء القرون الوسطى وذهب بذهاب التمدن.
أما الباقي من تلك الكتب فأكثره تجمع في عاصمة الإسلام في أثناء تلك القرون وهي القسطنطينية. وقد توفق المستشرق جوستاف فلوجل، ناشر كتاب الفهرست وكتاب كشف الظنون، إلى إحراز قوائم المكتبات العربية على ما بلغت إليه من قبل النهضة الأخيرة وشيوع الطباعة في الشرق، وذيل كتاب كشف الظنون بأسماء تلك الكتب بحسب موضوعاتها. فبلغ عدد تلك المكتبات بضعا وعشرين مكتبة، منها 21 في القسطنطينية بلغ مجموع كتبها 27445 كتابا. وأما ما بقي ففي مصر ودمشق وحلب ورودس ومجموع كتبها 2400 كتاب، فيكون الباقي من كتب التمدن الإسلامي في المكتبات العامة نحو 30000 كتاب، هاك تفصيلها باعتبار أماكنها:
مكتبات المسلمين في أواخر القرون الوسطى وكتبها
عدد المجلدات
1537
مكتبة السلطان محمد الثاني في القسطنطينية
803
مكتبة السلطان سليمان في القسطنطينية
752
مكتبة قليج علي باشا بالطبخانة في القسطنطينية
412
مكتبة حافظ أحمد باشا في القسطنطينية
1448
مكتبة كيو بريلي أوغلو في القسطنطينية
2906
مكتبة شهيد علي باشا في القسطنطينية
831
مكتبة إبراهيم باشا في القسطنطينية
732
مكتبة والده سلطان في القسطنطينية
552
مكتبة بشير أغا في القسطنطينية
1336
مكتبة عاطف أفندي في القسطنطينية
1445
مكتبة أيا صوفيا في القسطنطينية
556
مكتبة سراي غلطه في القسطنطينية
2421
مكتبة عثمان الثالث في القسطنطينية
1077
مكتبة محمد راغب باشا في القسطنطينية
980
مكتبة لعله لي دفتر أول في القسطنطينية
1947
مكتبة لعله لي دفتر 2 في القسطنطينية
916
مكتبة سراي همايون في القسطنطينية
1769
مكتبة ولي الدين أفندي في القسطنطينية
1877
مكتبة عاشر أفندي في القسطنطينية
1109
مكتبة داما زاده محمد مراد أفندي في القسطنطينية
1383
مكتبة عبد الحميد في القسطنطينية
656
مكتبة حالت أفندي في القسطنطينية
27445 (مجموع الكتب في القسطنطينية)
1099
مكتبة الأزهر في القاهرة
422
مكتبة عبد الله باشا العظم بدمشق
269
مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب
609
مكتبة رودس
29844 (المجموع كله)
وبديهي أن هذه الكتب ليست كلها ما بقي من المؤلفات العربية، فقد كان منها شيء كثير في المكتبات الخاصة وغيرها، ولكنها على أي حال لا تعد شيئا بالنظر إلى ما كانت عليه في إبان التمدن. وخصوصا إذا اعتبرنا تكاثر المؤلفات بتوالي القرون، مما يدعو إلى زيادة عدد الكتب الباقية في القرون الوسطى كما لا يخفى لا إلى نقصانها، ولكن لكل شيء أجلا لا يتعداه، سنة الله في خلقه.
أنساب العرب القدماء
(1) رد على القائلين بالأمومة والطوتمية عند العرب الجاهلية
كتب إلينا صديقنا الأستاذ مرجليوث المستشرق الإنجليزي الكبير في أثناء نقله كتابنا تاريخ التمدن الإسلامي إلى اللغة الإنجليزية كتابا هذا نصه:
إن بين ما جاء في كلامكم عن أنساب العرب وبين آراء المستشرقين في هذا الصدد بونا عظيما. ولو اطلعتم على كتاب الأنساب والزواج عند العرب الجاهلية للأستاذ روبرتسن سميث
1
لرأيتم بين المشهور عندنا والموضوع في كتابكم فرقا بعيدا، فإن مسألة الأمومة مثلا قد دونت فيها مجلدات كثيرة ذهب أكثر أصحابها إلى أن العائلة القديمة ليس فيها أب معلوم، إنما ترأسها أم كثيرة الرجال. وحق الأبوة أمر مستحدث إدخاله عند العرب لم يسبق عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
بكثير. وأنساب العرب كلها أكاذيب، فإن أسماء القبائل ليست أسماء رجال قد عاشوا كما يزعمون، بل أكثرها يشبه المسمى طوتم
Totem
عند الأمم المتوحشة، أعني حيوانا ينتسبون إليه لجهلهم بترتيب الطبيعة، فيصدر عن انتسابهم إليه سنن وقوانين لا تخفى آثار بعضها عند العرب الجاهلية.
هذا هو نص كتاب الأستاذ، فنظرنا فيه نظر الاعتبار إجلالا لمقام صاحبه، وبادرنا إلى كتاب روبرتسن سميث المشار إليه، فإذا هو يدخل في نيف وثلاثمائة صفحة، فتصفحناه مليا رغبة في الاطلاع على ذلك الرأي وتدبره، لأن مؤلفه من كبار المستشرقين وله في الشرق وآدابه أبحاث ومؤلفات ذات شأن، ككتاب في أديان الساميين وغيره من المقالات الشائقة. فقرأنا الكتاب بإخلاص وإمعان، لعلنا نقتنع بصحة هذا الرأي فنرجع إليه، إذ لا غرض لنا فيما نكتبه إلا تقرير الحقيقة، فهي ضالتنا المنشودة إذا ظفرنا بها وقفنا عندها صاغرين، ولا يهمنا على يد من يكون ذلك، فتحققنا من مطالعة الكتاب ما عليه الرجل من العلم والفضل، وسعة الاطلاع على آداب الشعوب السامية ولغاتها وأديانها، وتوسمنا من خلال أدلته وسبك عبارته حجة وقوة على الإقناع، يندر مثلها بين أرباب الأقلام، ولولا ذلك ما استطاع - مع ضعف المذهب الذي أخذ على نفسه إثباته - أن يلاقي إصغاء من جلة العلماء المستشرقين، وفي جملتهم صديقنا الأستاذ مرجليوث، حتى ظهر اقتناعه بذلك في مقدمة كتابه الجليل الذي أصدره في السيرة النبوية
Mohammed and the Rise of Islam
على أن الأستاذ المشار إليه قد أسند الرأي إلى صاحبه ولم يتكلف نقده، اعتمادا على ما اشتهر به صاحبه من سعة العلم، ولا نخاله لو تكلف ذلك إلا شاعرا بما شعرنا به من وهم صاحبه في تصوره على ما سنبينه فيما يلي. وقد نكون واهمين مثله؛ لأن العصمة لله وحده. وإنما أردنا أن نقول في هذا الموضوع كلمة نلقيها بين يدي العلماء المستشرقين، ولا ندعي النجاة من الزلل، بل يكفينا أن تربو مواضع الصواب في أقوالنا على مواضع الخطأ، وربما كان الأمر بالعكس - على أن البحث لا يخلو من فائدة على أي حال.
وبما أننا سننشر هذه الرسالة باللغة العربية أيضا ليطلع عليها جمهور القراء، وفيهم من لا يزال خالي الذهن من الطوتم والأمومة ونحوهما من الأبحاث الجديدة التي قلما طرقها كتاب العربية، رأينا أن نصدر الكلام بتمهيد وجيز في المراد من هذه الألفاظ، ثم نتقدم إلى الموضوع. (1-1) الطوتمية عند القبائل المتوحشة الآن
الطوتم هو لفظ دخل اللغات الإفرنجية في أواخر القرن الثامن عشر من لغة الأوجيبي من هنود أمريكا، ويراد به كائنات تحترمها بعض القبائل المتوحشة، ويعتقد كل فرد من أفراد القبيلة بعلاقة نسب بينه وبين واحد منها يسميه طوتمه، وقد يكون الطوتم حيوانا أو نباتا أو غير ذلك. وهو يحمي صاحبه، وصاحبه يحترمه ويقدسه أو يعبده، وإذا كان حيوانا لا يقدم على قتله، أو نباتا فلا يقطعه أو يأكله، وتختلف الطوتمية عن عبادة الحيوانات والنباتات الشائعة عند بعض تلك القبائل المعبر عنها بالديانة الفتشية في أن هذه عبادة صنم بصورة حيوان، وتلك تقديس نوع من أنواع الحيوان أو النبات أو عبادته.
والطوتم بالنظر إلى مجموع القبائل ثلاث طبقات:
أولا:
طوتم القبيلة وهو عام يشترك في احترامه كل أفرادها ويتوارثونه.
ثانيا:
طوتم الجنس وهو ما يختص باحترامه أفراد أحد الجنسين الذكور أو الإناث فيكون خاصا بنساء القبيلة أو برجالها.
ثالثا:
الطوتم الشخصي وهو ما يختص باحترامه الفرد الواحد ولا يرثه أبناؤه.
والأول أحراها بالاعتبار وعليه نجعل مدار كلامنا. (أ) طوتم القبيلة
هو حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتسمون باسمه ويعتقدون أنه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد مرتبطون بعهود متبادلة ترجع إلى ذلك الطوتم. وله عندهم اعتباران، أحدهما ديني والآخر اجتماعي. فالديني يراد به ما بين الرجل وطوتمه من العلاقة المتبادلة: الرجل يحترم الطوتم، والطوتم يحميه ويحفظه. وأما الاجتماعي فهو الحقوق المتبادلة بين أفراد تلك القبيلة التي يجمعها اسم ذلك الطوتم، بالنظر إلى القبائل الأخرى المنسوبة إلى طوتمات أخرى، وقد يختلف الاعتباران في كثير من الأحوال.
فالطوتم من الوجهة الدينية يعتبر أبا للقبيلة وأنها من نسله، ولكل قبيلة حديث خرافي عن طوتمها يتناقلونه أبا عن جد، يغلب أن يكون مداره على كيفية انتقاله من الحيوانية أو النباتية إلى الإنسانية. فمن قبائل الأيروكوا - من هنود أمريكا - قبيلة تعرف بقبيلة السلحفاة، يعتقد أهلها أنهم متسلسلون من سلحفاة سمينة استثقلت صدفتها فألقتها عن ظهرها ثم تحولت إلى إنسان أولد أولادا. ومنهم قبيلة الحلزون (البزاقة) يعتقدون أنهم متسلسلون من الحلزون وأنثى الجندبادستر - وذلك أن حلزونا ذكرا خلع صدفته ونبت له يدان ورجلان ورأس وتحول إلى رجل طويل القامة جميل الصورة، فتزوج أنثى الجندبادستر وأولدها هذه القبيلة. وقس على ذلك قبائل تنسب إلى البط أو الإوز أو غيرهما من الطيور المائية. وفي سينغمبيا قبائل تنتسب إلى وحيد القرن وفرس البحر أو إلى العقرب أو الثعبان. فكل من هذه الحيوانات يعد طوتما للقبيلة التي تسمى باسمه، وهي تحترمه وتقدسه فلا تؤذيه ولا تقتله. فقبيلة البط مثلا لا تؤذي هذا الطير ولا تقتله إلا إذا عض أحدها الجوع فيأكل البطة وهو يأسف ويستغفر، وكذلك إذا كان الطوتم نباتا فإنهم يحترمونه ويتجنبون أن يدوسوه أو يأكلوه، فمن كان طوتمه الذرة مثلا فأكلها محرم عليه. وإذا كان الطوتم شجرة حرموا إحراق عيدانها.
ولا يقتصر احترامهم الطوتم على تحريم أكله أو أذيته فإن بعضهم يحرم لمسه أو النظر إليه. فقبيلة الأيل - من قبائل الأوهاما - لا تأكل لحم الأيل ولا تمس أيلا ذكرا، وقبيلة رأس الغزال لا تمس جلد غزال قط. وقد يحرمون التلفظ باسم الطوتم، فإذا اضطروا إلى ذكره عمدوا إلى الكناية أو الإشارة. فمن هنود الدولارس في أمريكا قبيلة تنسب إلى الذئب، وأخرى إلى السلحفاة، وأخرى إلى ديك الحبش (الديك الرومي) فإذا اضطروا إلى ذكر أحدها كنوا عن الأول بالقدم المستديرة، وعن الثاني بالساحف، وعن الثالث بغير الماضغ، والقبائل المذكورة تعرف بهذه الكنايات.
وإذا مات حيوان من نوع طوتم القبيلة احتفل أهلها بدفنه وحزنوا عليه حزنهم على واحد منهم، فقبيلة البومة في ساموا إذا وجد أحد رجالها بومة ميتة فإنه يقعد إلى جانبها ويأخذ في الندب والبكاء ويضرب جبينه بالحجارة حتى يدميه، ثم يكفن البومة ويحملها إلى المدفن كأنها بعض أفراد القبيلة. ويعتقدون أن من أهان الطوتم أو أساء إليه يصاب بالمصائب، ويختلف اعتقادهم ذلك باختلاف القبائل أو البلاد. فبعضهم يعتقدون أن من يأكل طوتمه تصبح نساء قبيلته عواقر، وغيرهم يعتقدون أنهم يصابون بالأمراض أو النكبات أو نحو ذلك. ويتوهم آخرون أن آكل طوتمه يجازى بالموت، بأن يقيم الطوتم في بدنه ولا يزال يأكل منه حتى يموت.
ويؤمنون من الجهة الأخرى أن الطوتم لا يؤذي صاحبه، فالذين طوتمهم الحية مثلا لا يخافون لسعها، وعندهم أن الحية لا تلسعهم. وكذلك قبائل العقرب في سينغمبيا، فهم على ثقة أن العقرب السامة تمر على جسم أحدهم ولا تؤذيه. وقس على ذلك قبائل الذئاب ونحوها. وكثيرا ما يمتحنون بذلك قرابة من يدعي انتسابه إلى أحدها، فمن زعم أنه من قبيلة الثعبان أطلقوا عليه الثعبان، فإذا لسعه قالوا إنه مدع كاذب، وعلى هذا المبدأ ينبذون كل من لا يراعي الطوتم جانبه ويتجنب أذيته.
على أنهم لا يكتفون من الطوتم أن يكف أذاه عن أصحابه أو عباده، ولكنهم يتوقعون أن يحسن إليهم ويدافع عنهم. فتعتقد قبيلة الذئاب أن الذئاب تدافع عنها في ساحة القتال، ويتوهم أكثر أصحاب الطوتمية أن الطوتم ينذر أصحابه بالخطر قبل وقوعه بعلامات أو رموز على نحو ما يعبر عنه بالفأل أو الطيرة.
ومما يتقربون به إلى الطوتم ابتغاء رضاه وحمايته أن يتشبهوا به، فيقلدوه في شكله ومظهره ويلبسوا جلده أو قسما من جلده، أو يتخذوا جزءا منه يعلقونه في أعناقهم أو أذرعهم على نحو التعاويذ في الأمم الأخرى فلا يخلو فرد من تعويذة تدل على علاقته بطوتمه.
ومن عاداتهم الدالة على اعتبارهم أنفسهم من نسل الطوتم، ما يجرونه من الاحتفال عند الولادة أو الزواج أو الوفاة ونحوها من الأحوال. فقبيلة الغزال الأحمر مثلا إذا ولد لهم طفل نقشوا ظهره بالحمرة، وإذا كان من قبيلة الذئب صاحت الولائد عند وضعه: «قد ولد لنا ذئب صغير!» ويخيطون بقميص الطفل قطعة من عين الذئب أو قلبه، وإذا تزوج واحد من قبيلة الكلب الأحمر في جاوة دهنوا العروسين برماد عظام كلب أحمر، وقس على ذلك سائر القبائل بما ينتسبون إليه من أنواع الطواتم. ويحتفلون مثل هذه الاحتفالات عند الوفاة أو الزواج.
أما الطوتم الجنسي فيراد به اختصاص ذكور القبيلة أو إناثها بطوتم خاص. فبعض القبائل في أستراليا لذكورها طوتم ولإناثها طوتم آخر، وكلاهما غير طوتم القبيلة. وكذلك الطوتم الشخصي، فإن الرجل قد يكون له طوتم خاص به غير طوتم القبيلة وغير الطوتم الجنسي.
أما طوتم القبيلة من الوجهة الاجتماعية، فيراد به تعاقد أهل القبيلة فيما بينها باعتبار علاقتها بالقبائل الأخرى. فأهل الطوتم الواحد يعدون إخوة وأخوات، يتعاونون في السراء والضراء بروابط هي أشد مما بين أفراد العائلة الواحدة اليوم. فيتزوج الرجل بامرأة من غير قبيلته وطوتم غير طوتمه، وربما نشأ الأولاد على طوتم آخر، فإذا انتشبت حرب تعاون أهل الطوتم الواحد على أصحاب الطوتم الآخر، فينفصل الرجل عن زوجته والولد عن أبيه أو أمه.
ومن شروط الطوتمية أن رجال الطوتم الواحد لا يتزوجون نساء من قبيلتهم، ولا النساء برجال منها، وهو ما يعبر عنه علماء العمران بالزواج الخارجي
Exogamy
ويعتقد أصحاب الطوتم أن التزاوج في نفس القبيلة مضر بالصحة حتى ينخر العظام، ويعاقبون من يقدم عليه بالموت أو العذاب الأليم، ولذلك فهم يتخذون نساء من القبائل الأخرى بالغزو أو المراضاة أو نحو ذلك، والأولاد يرثون على الغالب طوتم أمهاتهم، فكأن النسب يتصل بينهم بالأمهات وليس بالآباء كما هو المعهود بيننا.
وقد تتفرع القبيلة إلى بطون وأفخاذ تنسب إلى آباء من الحيوان أو النبات بينها نسبة تفرعية، مثل تفرع الحيوان إلى الأنواع وما تحتها من الفصائل والتباينات، أو بعلاقة أخرى بين طوتم القبيلة وطوتمات الفروع، كأن يكون طوتم القبيلة حيوانا وطوتم فرعها نباتا يأكله ذلك الحيوان مما لا سبيل إلى بسطه.
والطوتمية منتشرة الآن في العالم المتوحش، فهي عامة بين قبائل أستراليا، وكثيرة الانتشار في شمالي أمريكا وفي بناما والطوتم الشائع هناك «الببغاء»، ولا تخلو أمريكا الجنوبية من آثار الطوتمية على حدود كولمبيا وفنزويلا وفي جيانيا وبيرو، وللطوتمية شأن كبير في أفريقيا، فإنها شائعة في سينغمبيا وبين قبائل البقالي على خط الاستواء، وعلى شاطئ الذهب الأشانتي، وبين الدامارية والبكوانية في جنوبي أفريقيا، وفي أماكن كثيرة من تلك القارة ولها آثار في مدغشقر وبعض جزر ملقا. أما في آسيا فلها أثر في أواسط الهند بين بعض قبائل البنغال غير الآريين، وفي سيبيريا وبعض جهات الصين وجزائر المحيط. وأكثر هذه القبائل أدخلها العلماء في الطوتمية بالقياس التمثيلي؛ لأنها تقدس بعض الحيوانات أو النباتات وإن لم تتسم بأسمائها. (1-2) الخلاصة
فالطوتمية تلخص فيما يأتي: (1)
أنها شائعة الآن بين أكثر الأمم أعراقا في الوحشية. (2)
أن قوامها اتخاذ القبيلة حيوانا أو نباتا أو شيئا آخر من الكائنات المحسوسة أبا لها تعتقد أنها متسلسلة منه وتتسمى باسمه. (3)
أن كل قبيلة تقدس طوتمها أو تعبده. (4)
تعتقد كل قبيلة أن طوتمها يحميها ويدافع عنها، أو على الأقل لا يؤذيها وإن كان الأذى طبعه. (5)
الزواج ممنوع بين أهل الطوتم الواحد، وأساس التناسل عندهم التزوج ببنات من أصحاب الطوتمات الأخرى (الإكسوجامي). (6)
أن الأبوة ضائعة عندهم ومرجع النسب إلى الأم. (7)
لا عبرة عندهم بالعائلة، وإنما القرابة تنتهي إلى الطوتم، وأهل الطوتم الواحد إخوة وأخوات يجمعهم دم واحد. (أ) أصل هذا المذهب
ومذهب الطوتمية - بالنظر إلى نظام الاجتماع - حديث، أول من قاله الدكتور مكلينان الباحث الاجتماعي الإنجليزي المتوفى سنة 1881، فإنه ألف في هذا الموضوع كتابه الزواج عند القدماء
Marriage
ونشره للمرة الأولى سنة 1865، ثم كتب كتبا كثيرة في هذا الموضوع وما يتفرع عنه نشر فيها أصل مذهبه والقواعد التي بنى عليها رأيه في الطوتمية. ولم يكد ينشر رأيه حتى تصدى علماء الاجتماع لانتقاده، وفي مقدمتهم الفيلسوف سبنسر والسير جون لبك العالم الاجتماعي الشهير، ولا سيما الأول فإنه أفاض في نقد هذا المذهب بكتابه «أصول العمران» وكتاب «أصول التمدن» وغيرهما مما لا شأن لنا به. وإنما ننظر الآن في الأمر من حيث ما يهمنا ونغض الطرف عن صحة هذا المذهب أو فساده، ونبحث فيما أراده الأستاذ روبرتسن سميث من تطبيقه على العرب قبل الإسلام. (ب) رأي سميث في طوتمية العرب
يرى سميث أن العرب كانوا في أقدم أزمانهم ينتسبون إلى آباء من الحيوانات أو النباتات كانوا يعبدونها أو يقدسونها ويتسمون بأسمائها، وكان شأنهم في الزواج والأمومة وغيرها مثل شأن القبائل المتوحشة في أستراليا وأمريكا وأفريقيا، وأن المشهور من انتساب العرب إلى إسماعيل وقحطان من آباء التوراة، وتسلسل القبائل على الصورة المعروفة إنما هو حادث وضعه أهل الأغراض في زمن حديث لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، مبنيا على ديوان الإمام عمر بن الخطاب من حيث حقوق المسلمين في العطاء بالنظر إلى القبائل وأنسابها (صفحة 6 من كتابه).
ولتأييد هذا الرأي بدأ أولا بإثبات الأمومة عند العرب، فقال: إن العرب في الزمن القديم لم يكن عندهم عائلة رئيسها الأب، ولا كانت الأنساب تتصل بالآباء، بل كان الزواج عندهم نحو ما هو في بلاد التبت اليوم ويعرف بالزواج التيبتي، وذلك أن المرأة تتزوج برجلين فأكثر، وأولادها لا ينتسبون لأحدهم وإنما ينتسبون إلى القبيلة ويسمون بطوتمها كما تقدم. فعمد أولا إلى إيراد الأدلة على إثبات الأمومة وشيوعها عند العرب القدماء ولما ظن نفسه أثبتها عمد إلى إثبات الطوتمية، فبذل قصارى جهده في استخراج الأدلة والشواهد مما سنفصله ونبين وجه الخطأ فيه. (1-3) العرب القدماء وأنسابهم وأخبارهم
وقبل التقدم إلى البحث في أدلة الأستاذ سميث، نقول كلمة إجمالية في العرب وأنسابهم ورواياتهم تمهيدا للبحث.
إن من يطالع رأي صاحب طوتمية العرب، ومن يقول قوله من المستشرقين، يدرك لأول وهلة أنهم إنما حملهم على ذلك أمران:
الأول:
ضعف ثقتهم بأقوال مؤرخي العرب وبما حفظ من خرافاتهم القديمة.
والثاني:
نهوض أهل القرن الماضي لتحدي ما ثبت من مذهب الارتقاء في قواعد العمران؛ لأن شيوع هذا المذهب في أواسط ذلك القرن حمل أدباء الإفرنج على رد كل شيء إلى أسباب طبيعية، كما فعل سبنسر في رد العبادات وأكثر العادات إلى مثل هذه الأسباب.
وهكذا أراد صاحب طوتمية العرب، فإنه لما اطلع على ما كتبه مكلينان عن الطوتم في القبائل المتوحشة - وهو مستشرق مطلع على أخبار العرب سيئ الظن في جاهليتهم يحتقر أقوال رواتهم ونسابيهم - ورأى بين أسماء آباء القبائل والبطون ما يشبه أسماء الحيوانات، سبق إلى وهمه أنها من آثار الطوتمية عندهم. فوضع هذا الحكم نصب عينيه، وأخذ على نفسه أن يبرهنه. ولما كانت الطوتمية مبنية على الأمومة، عمد إلى إثبات هذه. فأتى بأدلة ضعيفة تجاوز بها حد التكلف، واستشهد بنوادر من أخبار العرب، فجعل الشاذ قاعدة وأغفل القواعد العامة الثابتة التي أجمع عليها النسابون والرواة، مما يخالف أصول البحث. وهذا غريب من عالم اطلع على أخبار الأمم وخرافاتهم، وعلم أن التاريخ القديم أكثره مأخوذ من الخرافات المأثورة عن الأسلاف، يمحصها المؤرخون ويستخرجون صحيحها من فاسدها فلا يحتقرون خرافة ولا ينكرون قولا. فإن ما في إلياذة هوميروس من أخبار الآلهة وخرافاتهم، لم يمنع العلماء من تمحيصها والتمييز بين التاريخ والدين والخرافة فيها. ويقال نحو ذلك عن أخبار الهنود القدماء، منذ نزل جماعة الآريين إلى بلاد الهند على ما هو مدون في كتبهم السنسكريتية. وهكذا ينبغي أن يقال في خرافات العرب، من أخبار عاد وثمود وطسم وجديس، وأخبار سيل العرم ونحوها. فإنها - مع بعدها عن مألوفنا - لا تخلو من حقائق تاريخية ذات بال، قد كشف الزمان صدق كثير منها، فنأتي بشذرات من ذلك على سبيل المثال: (أ) عاد وثمود
إن أعرق خرافات العرب في القدم وأبعدها عن المألوف أخبار القبائل البائدة. وما زال الباحثون إلى عهد غير بعيد يعدونها من الخرافات الموضوعة قبيل الإسلام، وظنها آخرون لبعض الأمم الأخرى وقد حفظها العرب ونسبوها لأنفسهم. ثم تبين لهم أنها لا تخلو من حقيقة ثابتة، لما وجدوه من ذكرها في كتب مؤرخي اليونان أو جغرافييهم القدماء كإسترابون وبطليموس وغيرهما. وأهم القبائل البائدة عاد وثمود. أما عاد فقد كان المظنون أنها لم تذكر في كتب اليونان؛ لأنهم لم يعثروا بين أسماء قبائل العرب على لفظ يشبهها، ولكننا بينا في مقالة لنا بهذا الموضوع (الهلال 23 سنة 6) أنهم ذكروها باسم «عاد إرم» فكتبوها
Adramitae ، تمييزا لها عن حضرموت واسمها عندهم
Xatramotitae ، ورجحنا هناك أنها وقبيلة هدورام المذكورة في التوراة بين العرب القاطنين بلاد اليمن قبيلة واحدة.
وأما ثمود فقد ذكرت مرارا في كتب اليونان والرومان، وعثروا على آثارها في أعالي الحجاز وحلوا بعض ما نقش على أحجارها، وكانوا مع ذلك يحسبون تاريخها لا يتجاوز في القدم ما وراء تاريخ الميلاد إلا قليلا، حتى عثر المنقبون على ذكرها في أنقاض آشور حوالي القرن الثامن قبل الميلاد،
2
في عرض أخبار الحروب والفتوح، مما يدل على أن تلك القبيلة كانت ذات شأن في هذا العهد. وقس على ذلك سائر أخبار القبائل البائدة، مما ضاع خبره لتقادم عهده أو اشتبه اسمه عند اليونان بالتصحيف أو نحوه، كما أصاب قبيلة «جديس» فإن اليونان كتبوها
Jolisitai
والغالب في أصلها على اعتقادنا
Jodisitai
بإبدال الدال لاما وهما متشابهان في اللغة اليونانية فاللام تكتب هكذا
Λ
والدال هكذا
Δ
تحتها شرطة وقس عليه.
ناهيك بما يؤيد أخبار العرب وأنسابهم من نصوص التوراة، وما عثروا ويعثرون عليه في آثار اليمن وغيرها. (ب) النسابون العرب
إذا كان هذا شأن خرافات العرب القديمة، فكيف بأخبارهم المدونة في الكتب مما أجمع عليه النسابون في صدر الإسلام، والرواة يومئذ لا يقبلون رواية إلا بعد التحقق منها بالإسناد الصحيح، لما تعودوه من تحقيق الأحاديث النبوية أو نحوها من الأخبار الدينية في ذلك العصر؟ فالعرب يعدون من أكثر الأمم تحقيقا في الرواية، وأكثرهم تدقيقا في حفظ ما يروونه، ولا سيما في صدر الإسلام لاعتمادهم على الذاكرة وإغفالهم الكتابة، لأسباب بيناها في الجزء الثالث من كتابنا «تاريخ التمدن الإسلامي».
ولا ننكر ما يتخلل تلك الروايات من الأمور الموضوعة أو المختلف فيها أو غير المعقولة، ولكن لا يعقل أن تكون كلها موضوعة، إذ لا يتأتى التواطؤ إلى هذا الحد. وإن جاز لنا تصديق هذا التواطؤ لم يكن لنا بد من السؤال عن الزمن الذي حصل فيه، أهو قبل الإسلام أو بعده؟ فإذا قيل قبل الإسلام فما الذي دعا إلى حصوله؟ ولا نعلم سببا يدعو إلى ذلك، ولا نظن صاحب طوتمية العرب يعلم. وإذا قيل بعد الإسلام - وهو رأيه - فقد زعم أن النسابين وضعوا الأنساب في صدر الإسلام فقسموها إلى قحطانية وعدنانية، وقسموا كلا منها إلى فروع، وأن الغرض من هذا التقسيم بيان حقوق القبائل بالنظر إلى العطاء الذي فرضه عمر - فكيف يجوز ذلك وهذه أشعار العرب الجاهلية وأقوالهم وأمثالهم وأخبارهم شاهدة بمحافظتهم على النسب وعنايتهم بالرجوع إلى أجدادهم من قحطان وعدنان؟ بل كيف يقال هذا والإسلام منذ ظهوره إلى انتشاره مبني على النسب القحطاني والعدناني، والخلفاء يحرضون المسلمين على حفظ أنسابهم والتدقيق فيها؟ ومن أقوال عمر بن الخطاب: «تعلموا النسب، ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال: من قرية كذا»
3
فهل يصح ذلك والعرب قبائل طوتمية لا رابطة بينها ولا نسب؟
وإذا افترضنا صحته وأن النسابين وضعوا هذه الأنساب في أول الإسلام للعطاء، فكيف ترضى القبائل التي أبعدها النسابون عن النسب النبوي فقل عطاؤها أو ضعفت حقوقها؟ وكيف لا تحتج على ذلك؟ بل كيف لا يشتم رائحة ذلك الاحتجاج من كلام المؤرخين؟ على أن تواطؤ النسابين على الوضع يعيد الإمكان؛ لأنهم لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما كانوا يطوفون البادية ينقلون النسب عن ألسنة الحفاظ ويدونونه أو يحفظونه. وقد يجمع النسابة أخباره من أهل نجد والحجاز واليمن بالسؤال من الثقات في تلك الأصقاع المتباعدة الأطراف، فهل يمكن تواطؤهم على ذلك؟ (ج) الشعوبية وأنسباء العرب
وإذا سلمنا بإمكانه، وأن العرب لم يبدوا معارضة احتراما للخليفة أو خوفا منه، فكيف سكت الشعوبية - ولا سيما الفرس - عن هذا الاختلاف، مع ما يفاخرهم به العرب من شرف النسب العربي، والشعوبية يبحثون عن حجة يضعون بها من شرف العرب المتصل إليهم من انتسابهم إلى إسماعيل وقحطان؟ وقد تجرأ الفرس في صدر الإسلام حتى نسبوا العرب إلى الوحشية وقالوا: «إنهم كالذئاب العادية والوحوش النافرة، يأكل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض، فرجالهم موثقون في حلق الأسر، ونساؤهم سبايا مردفات على حقائب الإبل». ولم يطعن أحد منهم في نسبهم تلميحا ولا تصريحا، ولو استطاعوا ذلك لكان فيه أقوى انتقام لهم. ولا يقال إنهم سكتوا عنه إهمالا، أو إنهم لم ينتبهوا له، فقد طعنوا في اختلاف العرب بالنسب وفي استلحاقهم الأدعياء ونحو ذلك مما يتعلق بالأنساب. قال بجير يعير العرب باستلحاق الأدعياء:
زعمتم بأن الهند أولاد خندف
وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة باسل
وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم
وأولى بقربانا ملوك الأكاسر
أتطمع في صهري دعيا مجاهرا
ولم تر سترا من دعي مجاهر
وتشتم لؤما رهطه وقبيله
وتمدح جهلا طاهرا وابن طاهر
4
ومع ذلك لم يتعرضوا لصحة أنسابهم أو فسادها. وأمة الفرس بلغت أوج تمدنها قبل الإسلام بقرون، وكان العرب ينزحون إليهم ويقيمون بينهم، وجرى لهم معهم حروب ومنافسات قبل الإسلام، وقد استولى الفرس على اليمن وأقاموا بين ظهراني العرب وعاشروهم وخالطوهم قبيل الإسلام - فهم أولى الناس بمعرفة أحوالهم في جاهليتهم، فلو وجدوا في ضبط أنسابهم شكا ما سكتوا عنه، وقد بدأوا بالنقمة عليهم من أوائل القرن الأول للهجرة. وأغرب من ذلك أن النسابين أنفسهم كان أكثرهم من العجم، فهل يضعون شيئا يكون سلاحا في أيدي أعدائهم؟ (د) اختلاف بعض الأنساب
فكل ما لدينا من أخبار العرب يرجع إلى ترتيب النسب على ما ذكروه في كتبهم أو رووه في أشعارهم، وليس عندنا ما يخالف ذلك الترتيب نصا ولا إشارة، فكيف يجوز لنا نقضه؟ ولا عبرة في ما ذكره صاحبنا من اختلاف النسابين في نسبة بعض القبائل إلى قحطان أو عدنان أو إلى قيس أو كلب أو نحو ذلك؛ لأن النسب كما قدمنا منقول في الأصل عن أفواه الناس على اختلاف الأصقاع، والإنسان غير معصوم من الخطأ، ولا يخلو أن يكون ديوان عمر بن الخطاب وفرض العطاء على النسب أوجب بعض التشويش، وانتماء بعض البطون إلى غير قبائلها، والنسابون المحققون يبنون الصحيح من الفاسد على ما يبلغ إليه إمكانهم. ولكن وجود هذا الاختلاف لا يدل على فساد النسب من أساسه، كما أن اختلاف الرواة في تفاصيل إحدى الوقائع التاريخية لا يدل على أنها لم تقع. فلو اختلف جماعة في فتح عمرو بن العاص مصر، فقال أحدهم إنه فتحها صلحا، وقال آخرون إنه فتحها عنوة، وقال غيرهم إنه جاءها بأربعة آلاف مقاتل، وقال آخرون بل جاءها بعشرة آلاف، واختلف آخرون في هل جاءها العرب على الخيل أو على الإبل - فهل يدل ذلك على أن مصر لم تفتح؟ وإذا قال ذلك قائل ألا ننسبه إلى الشذوذ في أحكامه؟
على أن اختلاف النسابين قد يكون سببه تشابه القبائل بالأسماء لفظا واختلافها معنى، وهذا كثير في أنسابهم قد وضع له النسابون كتبا مستقلة، ككتاب مختلف القبائل ومؤتلفها لأبي جعفر محمد بن حبيب المتوفى في أواسط القرن الثالث للهجرة، وقد طبع في جوتنجن سنة 1850. ولو راجعت معجمات القبائل لرأيت عدة منها باسم واحد، بعضها من قحطان والبعض الآخر من عدنان وفيها بطون من اليمنية وبطون من القيسية ... فبنو أسد بطن من الأزد من كهلان من القحطانية، وبنو أسد أيضا بطن من قضاعة من حمير، وبنو الأوس بطن من الأزد من القحطانية، وبنو الأوس بطن من العدنانية، وبنو الحرث عدة بطون من قبائل مختلفة، وبنو بكر عدة بطون بعضها من العدنانية والبعض الآخر من القحطانية، وبنو تغلب حي من وائل بن ربيعة من العدنانية، وبنو تغلب بطن من قضاعة من القحطانية، وبنو تميم من طابخة من العدنانية، وبنو تميم بطن من هذيل من العدنانية، وبنو ثعلبة بضعة عشر بطنا من قبائل مختلفة،
5
ومثلهم بنو ربيعة، وبنو سليم، وبنو عامر، وبنو عدي، وبنو كعب وغيرهم، فالاسم الواحد تشترك فيه عدة بطون ترجع إلى أصول مختلفة. وقد وجدوا بطونا كثيرة باسم بني أمية ففي قريش أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي إياد بن نزار أمية بن حذافة، وفي الأنصار أمية بن زيد بن مالك من الأوس، وفي طي أمية بن عدي بن كنانة بن مالك، وفي قضاعة أمية بن عصبة بن هصيص، وقس عليه.
وقد تتشابه أسماء القبائل صورة وتختلف لفظا ومعنى، مثل جساس بسين مشددة وجساس بسين مخففة، وأكثر ما يكون الاشتباه في الأسماء المتشابهة بصور الحروف مع غض الطرف عن النقط، وقد كان ذلك سببا كبيرا للالتباس قبيل الإسلام وفي صدره. ففي مذحج عنس (بالنون) ابن مالك بن أدد، وفي غطفان عبس (بالباء) ابن بغيض، وفي الأزد عبس (بالباء) ابن هوازن بن أسلم. وقس عليه عنزة، فإنها بهذا اللفظ في ربيعة وهي عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وفي خزاعة عيرة (بالياء) ويقال أيضا عنز، وفي الأزد عنترة بن عمرو بن عوف بن عدي بن الأزد، وفيها أيضا عبرة (بالباء) إما مضمومة العين أو مفتوحتها، ومنها غيرة بالغين والياء باختلاف الحركات. ومن هذا القبيل عنز من ربيعة وعتر من ربيعة أيضا، ومثلها غبر. وقس على ذلك أجرم وأخزم وأحرم، وكل منها من أصل غير أصل الآخرين.
6
فهذه الاختلافات بالصورة واللفظ أوجبت بعض الالتباس في أنساب القبائل. ويقال نحو ذلك في قلة عدد الآباء بالنظر إلى الزمن، فقد يكون سببه ضياع بعض الأجداد لنسيان أو غيره، أو اعتبار الجد قبيلة برأسها وليس رجلا فردا، كما هو المظنون في بعض أجداد اليهود آباء التوراة. وهذا أيضا من الأدلة على قدم الأنساب من عهد الجاهلية، إذ لو وضعها واضع بعد ذلك لأتقن صناعة التزوير وأكثر من الآباء حتى لا يبقى مكان لظهور التزييف، ولكن النسابين لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما نقلوا ما كان شائعا على ألسنة العرب محفوظا في أذهانهم على علاته.
وزد على ذلك أن من القواعد الأساسية في تمييز الحقوق «أن الأصل براءة الذمة»، فالأصل في أنساب العرب أن تعتبر كما وصلت إلينا، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو نقضها إلا بما لا يقل ثقة عن النصوص الصريحة والقرائن الثابتة بالتواتر أو نحوه. أما الاعتماد على الأقوال النادرة، أو الرجوع إلى شوارد الأخبار، واتخاذ الشواذ قواعد، فلا يصح الاعتماد عليه، أو هو استقراء ناقص، بل هو ليس من الاستقراء في شيء، وإنما هو من قبيل التحكم على خلاف القاعدة المتبعة في البحث والنقد. والأقرب إلى الصواب في إثبات قضية أن نتدرج فيها من الجزئيات إلى الكليات، فمتى ثبتت الجزئيات ثبتت الكليات. وأما صاحبنا فإنه افترض القضية الكلية وحاول إثباتها، فلم يعدم من الحوادث المبعثرة من أخبار العرب ما يتخذه أساسا يبني عليه بناء ضعيفا يظهر ببراعته كأنه صحيح.
فالأستاذ روبرتسن سميث صاحب طوتمية العرب اطلع على رأي مكلينان في طوتمية هنود أستراليا وأمريكا ونحوهما، ورأى لبعض قبائل العرب أسماء حيوانية، ووجد النسابين مختلفين في أصول بعض القبائل، فتبادر إلى ذهنه أنها بقايا الطوتم كما قدمنا، فوضع القضية الكلية: «أن العرب كانوا من أصحاب الطوتم» ثم أخذ يبحث في كتبهم عما يؤيد هذا القول، ولا يخفى عليك ما هنالك من النوادر الشاذة والحوادث المتضاربة، فاختار ما ظنه يؤيد قوله وأغفل الباقي. فلو كان السير على هذه الخطة في الاستدلال والبرهان جائزا لما أعجزنا إثبات أي قضية فرضناها، مهما يكن من غرابتها فلو أردنا الذهاب إلى أن المرأة في الجاهلية كانت مطلقة الحرية ذات شأن في الهيئة الاجتماعية مثل شأنها في أمريكا اليوم، لما عدمنا من أخبار العرب ما يسند هذا القول. وكذلك لو قلنا إنها كانت تعامل عندهم معاملة البهائم فإننا نجد ما يشاكل زعمنا. ولكن القاعدة في مثل هذا البحث أن ينظر في مجمل الأدلة ويؤخذ الراجح بالإجماع أو الأغلبية، ولم يجمع العرب في أخبارهم أو خرافاتهم أو أشعارهم أو تواريخهم أو عاداتهم على شيء مثل إجماعهم على تلك الأنساب، أفننكرها بمجرد الظن؟ وهل يزال اليقين بالشك، ثم نلتفت إلى رأي ليس في أخبار العرب ولا في تواريخهم ولا تواريخ سائر الأمم السامية ما تشتم رائحته منه؟
ثم إن تلك الأنساب وصلت إلينا بالتسلسل من النسابين إلى المؤرخين على اختلاف أماكنهم وعصورهم، وهي مع ذلك مطابقة في أكثر رواياتها، فكيف تتفق هذه المطابقة إن لم يكن أصلها صحيحا؟ وإن قيل إن ذلك الأصل وضع بعد الإسلام، فلا بد من أن يكون واضعه رجلا ذا سلطان، فمن هو هذا يا ترى؟ وكيف يخفى خبره مع كثرة أعداء العرب في ذلك العصر؟
والصحيح أن النسب قديم عند العرب، مثل قدمه عند سائر الأمم السامية، والعرب أشد تمسكا به لبداوتهم وتنقلهم مع فراغ أيديهم من جامعة أخرى يرجعون إليها. وقد بالغوا في المحافظة على الأنساب، حتى حفظوا أنساب خيولهم إلى أجيال كثيرة، فيلحقونها بما اشتهر منها في اللحاق أو السباق من جياد الخيل، كأعوج والوجيه ولاحق والغراب واليحموم.
7
ولو راجعت ما وصل إلينا من أخبار النسابين لعجبت من عنايتهم بحفظ الأنساب وتدقيقهم في ضبطها. وكان أحدهم إذا نسب واحدا تتبع نسبه من أبيه إلى رهطه فالفصيلة حتى يصل إلى القبيلة، أو بالعكس من القبيلة إلى الفرد. (ه) الشعوب السامية
وقد ذهب صاحب طوتمية العرب في مقدمة كتابه «أديان الساميين» وفي كتاب «أنساب العرب» الذي نحن في صدده إلى أن الساميين نشأوا أولا في جزيرة العرب ثم تفرعوا، فخرج العبرانيون والآراميون منها وعمروا ما حولها من البلاد وظل العرب فيها على بداوتهم، فكان ينبغي أن تكون الطوتمية عندهما كما هي عند العرب. ولكنه لم يقل ذلك، وإذا قاله فلا نظنه يوفق إلى ما يسند قوله ولو في الظاهر مثل توفيقه في طوتمية العرب؛ لأن اليهود قلما تسموا بأسماء الحيوانات لبعدهم عن البداوة الخشنة، فلا يجد بين أسماء القبائل ما يساعده على هذا الزعم. وهب أنه وفق إلى بعض الأسماء كما وفق الأستاذ كوك في مقالة نشرها في المجلة الإسرائيلية الإنجليزية سنة 1904
8
مثل كالب ويعقوب وعورب - فهي أسماء أشخاص لا أسماء قبائل ولا يصح الرجوع إليها في إثبات الطوتمية.
على أنه لو ترك الافتراض والظن ونظر في الأمر على بساطته، لرأى هذه الأمم السامية تتشابه في أمر حقيقي واضح لا التباس فيه، وهو الانتساب إلى آباء التوراة. وانتساب العرب إلى إسماعيل وقحطان ثابت مما جاء في التوراة من أنساب الأمم، إذ يظهر للمتأمل أن أنساب العرب فرع من أنساب الساميين، وقد حقق ذلك وأثبته جورج رولنسن في كتابه أصل الأمم
9
وإدوار جلازر في كتابه تاريخ العرب وجغرافيتهم،
10
ولنا مقالة في أنساب العرب منشورة في (الهلال) العشرين من السنة الخامسة، بينا فيها أنساب القبائل البائدة فضلا عن القبائل الباقية، بالإسناد إلى التوراة ومؤرخي العرب، والتوفيق بينها وبين الآثار التي كشف عنها المنقبون ونصوص مؤرخي اليونان.
فالنسب العربي ثابت بثبوت أنساب التوراة، مع اعتبار ما يراه أهل النقد من الباحثين أن أسماء بعض الآباء الأولين يراد بها القبائل لا الأشخاص، فإذا نقضنا هذه لم يبق بيدنا شيء. وهل يجوز أن نغفل هذه الأنساب الثابتة بتوالي القرون، ونرجع إلى رأي لا أساس له في كتب المشارقة ولا إشارة إليه في خرافاتهم ولا عاداتهم ولا أديانهم ولا شيء من آثارهم؟
ومما لا يحسن الإغضاء عنه أن العرب لا يصح قياسهم في أحوالهم وأنسابهم بأصحاب الطوتم من الأمم المتوحشة من هنود أستراليا وأمريكا وزنوج أفريقيا؛ لأن العرب من أرقى الأمم عقلا ونفسا، وهم أهل تمدن قديم مثل تمدن أرقى الشعوب القديمة، وقد ذهب بعض الباحثين في آثار اليمن وحضرموت إلى أن التمدن العربي القديم أصل التمدن المصري القديم؛ أي أن الفراعنة أخذوا تمدنهم من بلاد اليمن - ومهما يكن من منزلة هذا القول من الصحة، فإنه يدل على أعراق العرب في المدنية منذ آلاف من السنين.
دع عنك ارتقاء لغتهم في تركيبها وألفاظها، وهو يشهد بارتقاء عقول أصحابها من أقدم أزمنة التاريخ وقبله، فهل يعقل أن يتخذوا آباء من البنات أو الحيوان كما يفعل أعرق الأمم وحشية اليوم؟ على أن القول بالطوتمية بحد ذاتها من الغرابة بحيث يصعب علينا تصديق وجودها في الأمم المتوحشة، ونخشى أن يكون القول بها مبنيا على الاستقراء الناقص. ولنتقدم الآن إلى النظر في أدلة صاحبنا فننظر فيما يختص منها بالأمومة، ثم ما بناه عليها من الطوتمية عند العرب فنقول: (1-4) الأمومة عند العرب (أ) الأمومة على الإجمال
الأمومة الانتساب إلى الأم، ويراد بها انتساب أهل القبيلة أو الأمة إلى أمهاتهم بدلا من آبائهم، فيقال: فلان بن فلانة، كما يقال في الأبوة: فلان بن فلان. والأمومة من الأبحاث التي حدثت في أواسط القرن الماضي بعد شيوع مذهب الارتقاء، وأول من استلفت الأنظار إليها عالم ألماني اسمه باخوفن في كتاب نشره سنة 1861، فاهتم به علماء العمران لاختلافه عما تعوده من نظام العائلة المألوف. ومرجع بحثه أن الأمومة سابقة في تاريخ العائلة للأبوة، فعنده أن الزواج كان عند الأقدمين فوضى بلا شرط، وهو زواج المشاركة. فإذا ولدت بعض النساء غلاما لا يمكن تعيين والده وهو ملازم أمه للرضاع فينتسب إليها ويعرف بها، فيصير الانتساب إلى الأمهات قاعدة عامة. فأصبح للمرأة المقام الأول في الهيئة الاجتماعية وهي صاحبة النفوذ، كما هو حال الرجل اليوم. •••
ثم ظهر كتاب مكلينان الإنجليزي في الزواج عند القدماء
نشره سنة 1865 فذهب في الأمومة مذهبا جعل أساسه الزواج الخارجي؛ أي تزوج الرجال ببنات من غير قبيلتهم بالغزو لقلة البنات عندهم بالوأد (على زعمه) فنشأ عن ذلك في اعتقاده زيادة عدد الرجال، فاضطر كل جماعة منهم إلى الاكتفاء بامرأة واحدة وهو تعدد الأزواج، وانحصر النسب في الأم وعلت منزلتها. وهو قول ضعيف الإسناد متناقض المعنى - كيف يمكن حفظ النسب بالأمهات وكل منهن مجلوبة من الخارج ولها نسب خاص؟ على أن مذهب مكلينان في أصل العائلة ما لبث أن سقط بما كتبه فيه المنتقدون، وخصوصا مورجن العالم الأمريكي صاحب كتاب نظام الاجتماع عند القدماء، فقد برهن أن الزواج الداخلي لا ينافي الأمومة. وكتب في الأمومة ونظام العائلة غير واحد من علماء الاجتماع الألمان والفرنسيين والإنجليز والروس وغيرهم، مثل باجيهوت ودارجون وأميرا وويلكن وستارك وبريد وجيرو وسميث ووستر مارك وغيرهم مما يطول بنا تعداده، فنكتفي بآخر من خاض هذا العباب وهو الأستاذ ويلكن المستشرق في كلية ليدن، فإنه وضع كتابا في الأمومة عند العرب على الخصوص، كتبه بعد مطالعة كتاب الأستاذ روبرتسن سميث في طوتمية العرب، فوافقه من وجوه وانتقده من وجوه، ولكنه يرى رأيه في أن الأمومة كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام، وأن الأنساب التي يتناقل العرب أخبارها موضوعة. واستشهد بقول لوندكي المستشرق الألماني الشهير في هذا الشأن، وخلاصة قوله: الأنساب العربية التي وضعها ابن الكلبي وغيره بعد الإسلام لفقوها تلفيقا،
11
وهو قول قد بينا بعده عن الإمكان وستأتي تتمة الكلام.
ولو أردنا الإتيان على أقوال الباحثين في هذا الموضوع لضاق بنا المقام، فنتقدم إلى النظرة في أدلة سميث التي نحن في صددها ومن قال قوله. (ب) أدلتهم على أمومة العرب
ليس في أدلة سميث ولا غيره على الأمومة عند العرب قول صريح أو دليل ثابت، وإنما هي قرائن أو إشارات لو ثبتت أمومة العرب لكانت مؤيدة لها لا أن تكون هي وحدها دليلا عليها. فانتساب بعض القبائل أو البطون أو العشائر إلى أمهاتهم، وتأنيث أسماء القبائل، واشتقاق لفظ الأمة من الأم، وإطلاق لفظ الخال على أهل الأم جميعا، وامتلاك بعض النساء عصمتهن بالطلاق، وغير ذلك مما عول عليه صاحبنا في إثبات قوله على ما سنبينه ... هذه كلها - إذا فرضنا ثبوتها - لا يجوز اتخاذها دليلا على أن العرب كانوا ينتسبون إلى أمهاتهم أو أن أساس العائلة عندهم المرأة؛ لأن وجود هذه الأحوال في جاهلية العرب لا ينافي انتسابهم إلى آبائهم، بل هي تعد من قبيل الشواذ، أو أنها وقعت على سبيل الاتفاق. ولو جاز لنا أن نجعل الشواذ قواعد لفسدت أحكامنا وضللنا في أقوالنا وعقائدنا. فالثابت منذ قرون عديدة أن العرب وغيرهم من الشعوب السامية كان نظام الاجتماع عندهم كما هو الآن، أي أن الرجل رأس العائلة وهو سيدها، ويؤيد ذلك لفظ «البعل» للزوج والسيد جميعا. ناهيك بشهادة التوراة، فإنها مع قدم عهدها لم يرد في نص من نصوصها فقرة تشير إلى الأمومة أو تدل على وجودها أو أثر شيوعها عند الساميين أو غيرهم، ولو على سبيل النقد أو النهي أو الإصلاح. ولا ورد شيء من ذلك في القرآن، ولا شوهد منقوشا على الآثار في مملكة من ممالك الشرق قديما ولا حديثا، بل كل ما جاءنا من هذه السبيل يؤكد سيادة الأبوة عند الساميين. ولو افترضنا وجدودها لاقتضى أن يكون ذلك قبل أسفار موسى بمدة لا نعلم مقدارها؛ لأن هذه الأسفار لما كتبت لم يكن للأمومة أثر على الإطلاق. بل ينبغي أن تكون قد امحت آثارها قبل موسى بعدة قرون؛ لأن شريعة حمورابي التي اكتشفوا نصها مؤخرا دونت نحو القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد
12
وكل ما جاء فيها عن الزواج والطلاق ونحوهما يدل على أن نظام العائلة كان في عصر حمورابي نحو ما هو عليه الآن: الرجل رب العائلة. وليس في نص من نصوص شريعته أو موادها لفظ أو عبارة أو قرينة تدل على وجود الأمومة، لا تصريحا ولا تلميحا. ولا اطلعنا على ذكر الأمومة أو الإشارة إليها في كتاب من الكتب القديمة المتصلة بالخرافات، مع ما تتضمنه من أقاصيص الآلهة ونحوها. ولا اكتشف المكتشفون نقشا من نقوش الأطلال فيه أقل إشارة إلى ذلك، فكيف يجوز القول بوجودها والاستناد في إثباتها إلى بعض القرائن الضعيفة؟ (ج) قول إسترابون
والظاهر أن القائلين بالأمومة عند العرب نبههم إليها ما طالعوه في كتب السياح عن وجود زواج المشاركة عند بعض القبائل المتوحشة بين هنود أمريكا وأستراليا وفي بلاد التبت ونحوها، وأن العرب الجاهلية كان عندهم نوع من هذا الزواج، فذهبوا إلى شيوعها قبل الإسلام، وخصوصا بعد أن قرأوا ما قاله الرحالة إسترابون عن الزواج عند العرب في عصره؛ أي نحو القرن الأول قبل الميلاد. فقد جاء في الكتاب السادس عشر من رحلته ما ترجمته: «والزواج عندهم مشترك بين الإخوة، فللإخوة جميعا امرأة واحدة، والذي يدخل منهم إليها أولا يترك عصاه بالباب. وأما الليل فهو خاص بأكبرهم. وقد يأتون أمهاتهم، والزناة يعاقبون بالقتل، وهم الذين يتزوجون من غير قبيلتهم»
13
فقد يتبادر إلى ذهن المطالع لأول وهلة أن هذه الفقرة تؤيد الأمومة، وليس الأمر كذلك؛ لأن هذه القصة إنما تشير إلى اشتراك الإخوة في الزواج بامرأة واحدة، وليس أهل العشيرة جميعا. فهي تدل على وجود العائلة واستقلالها، مما يخالف شروط الأمومة. وتشير أيضا إلى تحريم الزواج الخارجي، وهو من أسس الأمومة عند أصحابنا، ويقول إسترابون: إن العرب كانوا يعاقبون مرتكبه بالقتل.
وهب أن نص هذه الحكاية لا يخالف ما يريدونه بالأمومة، فتكون الأمومة شائعة عند العرب حوالي تاريخ الميلاد. وقد تقدم قول الأستاذ سميث: إن العرب والعبران والآراميين كانوا في أقدم أزمانهم عائشين معا في جزيرة العرب ثم خرج العبرانيون والآراميون وظل العرب مكانهم. وبينا قبلا أن العبرانيين لا ذكر لهذا الزواج عندهم على الإطلاق، ولا سمعنا بمثله عند الآراميين، وإغفال حمورابي ذكره في نصوص شريعته يدل على أنه لم يكن معروفا في عصره في بلاد ما بين النهرين أو ما يجاورها، فكيف نصدق وجوده عند العرب نحو تاريخ الميلاد؟ فالأرجح عندنا أن يكون إسترابون قد شاهد حادثة من هذا النوع عند بعض الناس فأطلقها على سائر العرب، أو سمعها من بعض الرواة فصدقها لغرابتها، فأوردها على علاتها كما يفعل كثيرون من أمثاله، الذين يرحلون إلى بلاد الشرق فيعولون في وصف أهله وعاداتهم على ما يلقيه إليهم بعض التراجمة أو عابري السبيل، بما فيه من المبالغة أو الاختلاف، وهم أرغب في نشر الغريب استجلابا لإعجاب قرائهم، كما حدث في الأجيال الوسطى وما بعدها على أثر انتشار الإسلام.
ومع اشتغال الإفرنج بنقل العلم عن الكتب العربية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد، واختلاطهم بالمسلمين في قرطبة وطليطلة وغيرهما، فقد ظلوا يجهلون تهجئة اسم النبي فيكتبونه تارة مفمت
Mophomet ، وآونة بفمت
Bophomet ، وحينا بافون
Bafon
وكانوا يظنون محمدا صنما يعبده المسلمون. حتى يولوجيوس أحد كهنة قرطبة العلماء، مع مخالطته المسلمين في تلك العاصمة، فقد كتب عن الإسلام مفتريات لا أصل لها في كتبهم ولا في تعاليمهم، كقوله مثلا إن النبي
صلى الله عليه وسلم
أعلن أصحابه أن الملائكة ستحمله إلى السماء بعد موته بثلاثة أيام - زعم أنه نقل ذلك من مسودات لاتينية عثر عليها في بمبلونة. فقس عليه ما قد يختلقه غير العارفين، كما حدث ويحدث كل يوم إلى عهد غير بعيد. حتى الذين يقيمون بين أظهرنا أعواما فقد ينقلون عنا الأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وربما رأوا حادثة غريبة ارتكبها بعض الناس عن جهل أو اتفاق فيعدونها من القواعد المرعية عند سائر أفراد الأمة. وبين يدينا رحلات عديدة كتبت ونشرت في أثناء القرنين الماضيين عن سوريا ومصر، وفيها من المفتريات ما لا أصل له إلا في ذهن الكاتب أو ملقنه. ولولا انتشار الطباعة وخروج الناس إلى نور العلم وتصحيح تلك المفتريات، لرسخ في أذهان أهل الغرب أن الشرقي يكدن امرأته للحراثة، وأنه يزرع القوارما (اللحم المقلي) وهو يعتقد أنه سيستغل خرفانا، ويرزع الفحم ليستغل عبيدا ... فكيف في عصر إسترابون منذ نيف وتسعة عشر قرنا وهو يكتب عن قوم لا يعرف لسانهم ولا أقام بينهم؟ ويؤيد ذلك أن تتمة قوله في هذا الموضوع تدل على أنه أورده على سبيل الحكاية، ولم يغفل الإشارة إلى ضعف إسناده بقوله يزعمون
On dit ، فلا عبرة بما ذكره إسترابون فيما يختص بالأمومة، وهو بظاهره أصرح أدلة صاحب طوتمية العرب. وأما سائر أدلته فإنما هي قرائن ضعيفة لا يصح الاعتماد عليها. وحتى لا يقال إننا لم ننصفه نأتي بتلك الأدلة وننظر في كل منها على حدة وهي: (1) الانتساب إلى الأمهات (صفحة 27 و30 من كتابه)
كقولهم بنو خندف وبنو ظاعنة وكلاهما اسم امرأة نسبت القبيلة إليها - ولو نقبنا بين المئات من أسماء القبائل والبطون والأفخاذ ما وجدنا بينها من ينسب إلى أمهم إلا بضعة قليلة. فأي غرابة في ذلك وبين العائلات اليوم نحو عشرة في المائة ينسبون إلى الأمهات، كآل ظريفة وآل تقلا وآل نور وآل نائلة وآل مارية، وقس عليه أهل اللغات الأخرى؟ فهل يجوز الذهاب إلى أن هذه الأسماء من آثار الأمومة عند أسلافنا؟ أم نأتي على تعليلها من الطريق الأقرب، وهو أن بعض هذه العائلات نسبت إلى امرأة هي جدتهم العليا؛ لأن جدهم مات وهي كفلتهم وربتهم فعرفوا باسمها. وقد يكون الأب مجهولا لحصول الحمل من السفاح مما يحدث في الجاهلية وغيرها، فيولد الولد لا يعرف أبوه فينسبونه إلى أمه، كما وقع لزياد بن أبيه الصحابي الداهية، فقد كان يعرف بأمه سمية، فيقال: زياد بن سمية، ولولا استلحاق معاوية إياه بنسبه لعرف أعقابه بآل سمية، ولو تقادم عهد هذه العائلة وتنوسي خبر أمها لأضافها صاحبنا إلى أسماء أمهات القبائل وعدها من بقايا الأمومة.
ويكثر الانتساب إلى الأمهات على الخصوص في الأمم التي يتزوج رجالها امرأتين فأكثر، فيولد للرجل ولدان من والدتين يسميهما باسم واحد، فينسب كل منهما إلى أمه فضلا عن انتسابه لأبيه تمييزا له عن ابن الأم الأخرى، وقد يشتهر بنسبته إلى أمه دون أبيه، وأمثلة ذلك كثيرة قبل الإسلام وبعده. فقد كان لعلي بن أبي طالب غير امرأة، ولد له منهن عدة أولاد من جملتهم ثلاثة كل منهم اسمه محمد، فنسب أحدهم محمد الأكبر إلى أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة فسماه محمد ابن الحنفية، فلو عاش هذا في الجاهلية لعرف أعقابه ببني الحنفية بطن من هاشم أو من قريش، كما عرف بنو العدوية نسبة إلى أمهم من قبيلة عدي.
وقد يشتهر الرجل باسم أمه وإن لم يكن له سمي من إخوته، وإنما يقع ذلك لشهرة والدته. فمحمد الأمين بن هارون الرشيد اشتهر بابن زبيدة، لفضل أمه على سائر أمهات الخلفاء وشهرتها، وقس عليه. فهل يجوز أن تؤخذ هذه الحوادث أدلة على الأمومة؟ وزد على ذلك أن القبائل العربية التي تنسب إلى امرأة ترجع أخيرا إلى النسب الأبوي، وهو العام الشامل فبنو ظاعنة مثلا نسبوا إلى أمهم ظاعنة وهم ينتسبون أيضا إلى أبيهم، فيقال لهم بنو ثعلبة بن مراد بن أد. وبنو خندف هم أيضا بنو إلياس بن مضر، وقد نسبوا إلى أمهم امرأة إلياس واسمها خندف. وبنو طهية نسبوا إلى أمهم، وهو بنو سود بن مالك، وقس عليه.
14 (2) تأنيث أسماء القبائل (صفحة 28)
أي أن العرب تقول: جاءت مضر وسطت قيس إلخ، ولا يقولون: جاء مضر، وسطا قيس - فلا ندري العلاقة بين تأنيث الاسم والأمومة، والتأنيث والتذكير في العربية لا قياس لهما، ولو صحت الأمومة لما ضرها أن تكون أسماء القبائل مذكرة، كما أن تأنيثها لا يثبت وجود الأمومة. على أن لتأنيث القبائل سببا مبنيا على قاعدة من قواعد اللغة، وهو تقدير لفظ «القبيلة» قبل كل اسم، فقولنا «مضر» يراد به «قبيلة مضر»، وقولنا «قيس» يراد به «قبيلة قيس»، فالتأنيث للفظ القبيلة المحذوف. والحكمة في ذلك دفع الالتباس بين أن يكون المراد بالفاعل رجلا اسمه قيس أو مضر أو القبيلة. فإذا كان الفعل مؤنثا انصرف الذهن إلى القبيلة. وعلى هذا المبدأ يؤنثون أسماء المدن وإن لم يكن لفظها مؤنثا، فنقول: فتحت بغداد وعمرت مصر أو الشام بتقدير لفظ «مدينة». ونحن نقول اليوم: روت المقطم، وذكرت المؤيد، وقالت الهلال - فنؤنث الفعل، والفاعل مذكر لفظا ومعنى، وإنما نقدر قبله كلمة الصحيفة أو المجلة. (3) التعبير عن القرابة بالبطن (صفحة 28)
فيزعم أن تسمية القبيلة بالبطن يؤيد اعتماد العرب على قرابة الأم، والواقع أن البطن فرع من فروع القبيلة على سبيل التشعب كالشجرة، وإنما جعلوا أسماءها شبيهة بأسماء أجزاء البدن بالنظر إلى علاقتها بعضها ببعض، أو تفرعها بعضها عن بعض. فالمجموع الأكبر عندهم «الحي» كناية عن الإنسان كله ويراد به الجماعة النازلون بمربع. وهو ينقسم إلى «الشعوب» أي الفروع، والشعبان النصفان، كأنهم أرادوا انقسام الجسم إلى شطرين متساويين: أيمن وأيسر. ويليها «القبائل» وهي قطع عظم الرأس المشعوب بعضها من بعض. ثم «العمارة» كناية عن الصدر، ثم «البطن»، وبعده «الفخذ»، وأخيرا «الفصائل». فترى استخدام البطن للقبيلة أو بعض فروعها لا علاقة له بالأمومة، وإنما وفرع من فروع النسب لما يقابله من أعضاء الجسد. وإذا عدلنا عن هذا التعليل واعتبرنا كل اسم مستقلا، وقبلنا التعليل الذي تبادر إلى ذهن حضرته، لاقتضى أن يدلوا بالبطن على العائلة التي هي من بطن واحد، ولكنهم يريدون به القبيل المؤلف من عائلات. (4) اشتقاق لفظ الأمة من الأم
وهو عنده دليل على أن الأصل في النسب الأم، وخصوصا لأن الأم في العبرانية تدل على القبيلة أو الجماعة، ولكن هذا التعبير إنما هو من قبيل المجاز، مما لا يخفى على العارف بأساليب اللغة العربية، كقولهم: أم القرى، وأم المدائن، والأمهات للعناصر. وعندهم الأم الأصل، فأم كل شيءأصله وعماده، وكل شيء انضمت إليه أشياء فهو أم لها. والأصل في هذه المعاني اتباع الأطفال أمهم؛ لأنها هي المكلفة بتربيتهم في طفولتهم، فيتبعونها وينقادون لأمرها لا لأنها أصل النسب. ولهذا السبب قالوا أم الكتاب أصله، وأم القرى مكة، وأم الدنيا مصر لكثرة أهلها. وأما اشتقاق الأمة عن الأم فيعلل بنفس هذه الكيفية، لاستعارة الأمومة للرئاسة أو من التوليد، لظهور ذلك في النساء دون الرجال؛ لأن المرأة تضع النسل وهي تتولى الحضانة والتربية. فإذا ذكرنا الولادة سبق إلى أذهاننا الأم، ولذلك غلب التعبير عن القرابة بعضو التوليد بالنساء كالبطن أو الرحم، وليس لأن الأم أصل القرابة. ولو تتبعت معاني ما يقابل لفظ الأمة في سائر اللغات لرأيت لها نفس هذا المعنى، فلفظ
Nation
في اللغات الإفرنجية معناه الأمة وهو مشتق من فعل في اللاتينية بمعنى «ولد»، والإنجليز يقولون
Motherland
ويريدون بها وطن الأبوين مع أن اللفظ يقتضي أن تكون وطن الأم فقط. فعلى تعليل صاحبنا تكون هذه اللفظة دليلا على شيوع الأمومة عند الإنجليز الآن! (5) الخال والعم والكنة
وذلك أن لفظ «الخال» بالعربية لا يراد به أخو الأم على الخصوص، ولكنه يطلق على كل رجل من أهلها. وكذلك لفظ «العم» وأن هذه اللفظة أصل معناها «الشعب»، وذلك هو مؤداها في العبرانية إلى الآن. وعليه فلا تكون عند العرب عائلة خصوصية وإنما الولد يكون ابن الجماعة أو القبيلة على ما تقتضيه الأمومة أو الطوتمية - وهو قول غريب إذا صح الاعتماد عليه تشوشت أحكامنا في أنساب الإنجليز والفرنسيين وغيرهم؛ لأنك ترى عندهم نفس هذا الإطلاق أو الاشتراك، فلفظ
Cousin
في ألسنتهم يدل على كل قرابة عصبية أبعد من الأخوة، فهو ابن العم، وابنة العم، وابن العمة، وابنة العمة، وابن الخال إلخ ... مما لا مثيل له في العربية. والأصل فيه ابن الخالة؛ لأنه منحوت من
Consobrinus
في اللاتينية أي ابن أخت الأم - فهل يفيدنا إطلاقه على كل الأقرباء أن الأصل في القرابة الأم؟ وقس على ذلك لفظ
uncle
في الإنجليزية وما يقابلها في اللغات الإفرنجية الأخرى، فإنها تدل على العم أو الخال وأصلها
Avunculus
في اللاتينية ومعناها الخال ثم أطلقت على العم. والحقيقة أن لا عبرة في هذا الاختلاف فيما يختص بالأمومة، فإن اللغات تختلف في طرق الدلالة بما لا قياس له، وخصوصا من حيث درجات القرابة. ففي بعض اللغات لفظ يدل على قرابة لا يعبر عنها في لغة أخرى إلا بعدة ألفاظ: فالصهر في العربية لا يمكن التعبير عنه في اللغة الإنجليزية إلا بثلاثة ألفاظ
Brother-in-law
وكذلك الحمو فهو عندهم
Father-in-law ، والجد يعبر عنه في اللغة الإنجليزية بلفظين
Grand Father
وكذلك حفيد
grandson
وبعكس ذلك لفظ
Nephew
في الإنجليزية فلا يمكن التعبير عنه في العربية إلا بلفظين: ابن الأخ أو ابن الأخت، ومثلها
Niece
بنت الأخ أو بنت الأخت - فدلالة كل من هذين اللفظين على أولاد الأخ والأخت معا قد يتخذها أصحاب رأي الأمومة من جملة الأدلة عليها!
ولفظ «الكنة» في العربية يراد به في اللغات السامية الكنة والزوجة على السواء، فاستدل صاحبنا بذلك على أن الرجل كان يتزوج كنته (أي امرأة ابنه أو امرأة أخيه) فلا رابط للزواج بين الرجل وامرأته. والجواب على ذلك يدخل فيما تقدم بيانه من اختلاف معاني الألفاظ توسعا ومجازا. ومثلها لفظ «صهر» يراد بها زوج بنت الرجل وزوج أخته، ويراد بالصهر أيضا القرابة على العموم، والأصهار أهل بيت المرأة. ومنهم من يجعل الصهر من الأحماء، فهل يصح الاعتماد على مثل هذا التوسع في إثبات مبدأ أو رأي؟ (6) زواج المتعة
وهو الزواج الوقتي، أي أن يعقد الرجل على امرأة عقد زواج إلى أجل مسمى فمتى انقضى الأجل بطل الزواج. فيرى صاحبنا أن هذا الزواج كان شائعا عند ظهور الإسلام، وهو يحسبه يؤيد رأيه في الأمومة، وهي تقتضي إباحة نساء القبيلة لأهل القبيلة بلا عقد ولا شرط، والمتعة لا تكون بدون عقد فهي تناقض ما أراد إثباته. فالمتعة ضرب من ضروب الزواج التي كانت شائعة في الجاهلية، وكلها تنفي الأمومة؛ لأن الرجل فيها صاحب السيادة وصاحب العصمة. (7) الوأد
يرى صاحب طوتمية العرب أن شيوع الوأد في الجاهلية قلل البنات فاضطروا إلى الاشتراك في النساء، فكان يشترك عدة رجال في امرأة واحدة يستولدونها ويكون الانتساب إليها. وقد بالغ بعض الباحثين في مسألة الوأد وتوهموها عادة شائعة في بلاد العرب كلها، والناقد يرى أنها كانت منحصرة في مكان معين وزمان معين تحت أحواله مخصوصة، وإلا فلا يعقل أن يعمد الناس إلى دفن بناتهم ثم يضطروا إلى المشاركة في الأزواج وفي طاقتهم أن يتخلصوا من ذلك الضيق. وقد ذهب بعضهم إلى أن العرب كانوا يئدون بناتهم خوف الفقر، وهم في حل من هذا الفقر لو استبقوهن على قلة البنات لما يجدون من إقبال الأزواج عليهن بالمهر والهدايا. وقال آخرون إنهم كانوا يئدونهن خوف العار، وإذا صحت الأمومة لم يكن ثمة عار يخافه الآباء.
وخوفهم العار على بناتهم دلالة على الغيرة، وهي لا تكون في زواج المشاركة، وفي الحالين فإن دليله في الوأد ساقط. (8) العصمة في يد المرأة
وقد اتخذ امتلاك بعض نساء الجاهلية عصمتهن في الزواج والطلاق دليلا على سيادة الأمومة، وأن المرأة هي رئيسة العائلة - فما أغرب هذا الاستنتاج وما أنقص هذا الاستقراء ... إن المرأة في الجاهلية لم تكن عصمتها في يدها إلا في أحوال مخصوصة وحوادث نادرة، فهل نجعل الشاذ قاعدة نبني عليه، والنادر قياسا نقيس به؟ وأما القاعدة في زواجهم فهي أن تكون العصمة في يد الرجل. وهب أنها في يد المرأة، فلا تكون إلا بعقد مقيد بشروط وقوانين، وليس على سبيل الإباحة والاشتراك كما يريدون بالأمومة. وقس على ذلك سائر أدلته لإثبات الأمومة، فإن مرجعها إلى تأويل الألفاظ والاعتماد على الاستقراء الناقص كقوله إن الأب معناه المربي، وكاستخراجه الحي من حواء وذكره القرابة بالرضاعة أو المؤاكلة وتأويل لفظ آحاب إلى أخ أب، ونحو ذلك مما يقاس في رده بما قدمناه. (1-5) الخلاصة
فالقول بشيوع الأمومة في العرب الجاهلية لا يستطاع إثباته بالقرائن الضعيفة؛ لأن اليقين لا يزال بالشك، إلا إذا جاز الاعتماد على الشاذ وإغفال القواعد العامة. فقد رأيت في شروط الأمومة أن يكون الزواج من الخارج بالغزو أو السبي؛ لأن بنات القبيلة في زعمهم تقل بالوأد أو بغيره، وأن تكون المرأة زوجا لعدة رجال معا وأولادها ينسبون إليها، فلم نفهم كيف يكون الزواج بالغزو؟ وكيف يمكن الرجوع بالأنساب في القبيلة الواحدة إلى الأم؟ ولماذا تقل البنات حتى تضطر القبيلة أن تغزو غيرها للحصول على النساء؟ والقاعدة الطبيعية في تاريخ الإنسان في أدواره الأولى أن يكون النساء أكثر من الرجال، لتعرض هؤلاء للقتل ونحوه بالغزو والسطو، والأولى أن يكثر النساء حتى يتزوج الرجل عدة منهن. على أن الحصول على النساء بالغزو يبعث على الرجوع إلى النسب الأبوي؛ لأن الآباء يبقون في القبيلة. ويشبه ذلك ما كان من كثرة السبايا والجواري في صدر الإسلام، فإنهن تكاثرن حتى اختص الرجل بعشر أو عشرات منهن، وظل النسب في الرجال - ولا يمكن غير ذلك كما يظهر للمتأمل. ولو فرض أن النساء يحاربن القبائل للحصول على الأزواج بالسبي، لكان ذلك أقرب إلى حفظ النسب فيهن، أي الانتساب إليهن أو إلى قبيلتهن.
فالقول بتسلط الأمومة على الإجمال يفتقر إلى إثبات أو تعديل؛ لأن وجودها على هذه الكيفية غير معقول ولا يوافق قواعد العمران، أو هو لا يوافقها على الأقل عند العرب؛ لأن القاعدة في الزواج عندهم وعند سائر الساميين أن تكون داخل القبيلة، وإذا جنح أحدهم إلى الخارج فلسبب طارئ، هذا هو حالهم في أقدم ما نعلمه من أخبارهم في التوراة وغيرها، والعربي يسمي امرأته ابنة عمه وإن لم تكن كذلك؛ لأن الغالب في الزواج عندهم أن يكون بين أبناء العم على تفاوت درجات العمومة. واليهود أكثر الأمم محافظة على أنسابهم ويمنعون الزواج من غير قبائلهم، ويعاقبون من يخرج عن ذلك عقابا صارما، وإذا تزوج إسرائيلي بغير إسرائيلية فزواجه سفاح، ويسمون المولود من ذلك الزواج «نغلا» كما يسميه العرب «هجينا» أي لئيما، فكيف نزعم مع ذلك أن العرب القدماء كانوا يتزوجون من الخارج بالغزو؟ وإذا فرضنا أنهم كانوا كذلك فمتى انتقل الزواج إلى الداخل؟ وكيف انتقلت الأمومة إلى الأبوة أو البعولة؟ ومتى؟ كلها مسائل مهمة لا يمكن الجواب عليها، وأصحاب مذهب الأمومة أنفسهم يعترفون بعجزهم عن ذلك، فما أغنانا عن الذهاب إليه. ومن يطالع تاريخ الزواج من أول أحوال العمران إلى الآن لا يرى فيه إلا ما ينقض الأمومة. (1-6) الطوتمية عند العرب
وإذا نقض القول بالأمومة عند العرب نقض معه القول بالطوتمية عندهم؛ لأنها أساسها وأول شروطها. ومع ذلك فإننا ننظر في أدلة صاحبنا من حيث الطوتمية على حدة، فنذكر شروط الطوتم كما فسره هو، ثم ننظر في تطبيقها على أحوال العرب.
فالطوتمية يشترط فيها «أن يتفق أهل القبيلة الواحدة على حيوان أو نبات أو كائن آخر يعتقدون أنه جدهم الأعلى يتسمون باسمه ويعبدونه أو يقدسونه»، فهل ينطبق ذلك على أحوال العرب الجاهلية انطباقا كليا أو جزئيا؟ ولكي ينجلي الموضوع ويتضح البرهان نحلل القضية إلى أجزائها الأصلية وعليه فالطوتمية تقتضي:
أولا:
أن يتفق أهل القبيلة على حيوان أو نبات يعتقدون أنه جدهم الأعلى.
ثانيا:
أن يتسموا باسمه أو ينتسبوا إليه.
ثالثا:
أن يعبدوه أو يقدسوه.
ولا تثبت الطوتمية ما لم تجتمع هذه المقدمات الثلاث عند العرب. ولو أنك بحثت في أخبارهم قديمها وحديثها، من الخرافات والحقائق الثابت منها وغير الثابت، وفيما رواه غير العرب عن أحوالهم القديمة في كتب اليونان والرومان فضلا عن التوراة، وما قرئ من أخبارهم على آثار آشور وآثار ثمود وآثار اليمن وحضرموت، لما وفقت إلى العثور على ما يشير إلى وجودها. وإذا درست أحوال العرب الآن في الصحارى والمدن والأودية والجبال، لا تجد بينهم قبيلة ولا بطنا ولا رجلا يعتقد أنه متسلسل من أسد أو ثور أو ثعلب أو جميزة أو وردة. ومهما أجهدت نفسك في التنقيب والمراجعة والتأويل فإنك لا تجد أثرا لهذا الاعتقاد على الإطلاق، ولو على سبيل الخرافة أو في معرض التكذيب أو الطعن - فالمقدمة الأولى سقطت.
أما الثانية فبعضها صحيح، أي أن القبائل تسمى بأسماء الحيوانات، كبني أسد وبني النمر وبني كلب ونحوها، ولكنها لا تعتقد أن أولئك الأجداد حيوانات، بل هي تعدهم أناسا لهم أنساب متصلة بالآباء الأولين.
والمقدمة الثالثة ظاهرها صحيح وباطنها فاسد؛ لأن بعض قبائل العرب كانت تعبد آلهة على شكل الحيوانات، مثل عبادة سائر الأمم الوثنية القديمة في مصر وآشور وفينيقية، ممن كانوا يعبدون أصناما يمثلون بها القوى العلوية - لا أنها تعبد حيوانا خاصا تقدسه وتجتنب أذاه وتعتقد أنه جدها كما يفعل أصحاب الطوتم. فبنو أسد يتسمون باسم الأسد، ولكنهم لا يعتقدون أنه جدهم ولا يقدسون الأسد أو يعبدونه، وإذا عرض لهم الأسد قتلوه. وقد يكون معبودهم من الحيوانات بشكل نسر أو فرس أو غيرهما من الأصنام الحيوانية. وشرط الطوتمية إنما هو أن يعتقد بنو أسد أن الأسد جدهم، وأن يقدسوا كل أسد أو يعبدوه أو لا يؤذوه. وبنو ثور يجب أن يعتقدوا أن الثور جدهم، وأن يعبدوا الثيران أو يقدسوها ولا يذبحوها أو يؤذوها. وبنو جراد حقهم أن يعتقدوا تسلسلهم من الجراد، ويقدسوه ولا يأكلوه كما رأيت فيما تقدم من شروط الطوتمية عند الأمم المتوحشة اليوم. ولا يكفي أن تسمى القبيلة باسم الثور مثلا وتقدس الجراد، أو تتسمى باسم الأسد وتقدس الفرس. ولو فرض واتفق لقبيلة أن تسمى بحيوان وتقدسه أو تعبده فليست من الطوتمية في شيء؛ لأن الشرط الأول أن تعتقد تسلسلها عنه. وهذه الشروط الثلاثة لم يتفق وجودها في قبيلة من قبائل العرب، ولا في بطن من بطونها، ولا في فصيلة ولا فرد من أفرادها ولو على سبيل الخرافة أو الأكذوبة. حتى اجتماع الشرطين الأخيرين فإنه متعذر، إذ ليس بين قبائل العرب قبيلة تسمى باسم حيوان وتعبده، ولا يكفي أن تعبد صنما بشكل ذلك الحيوان، بل الشرط أن تقدس جنس هذا الحيوان وتتجنب أذاه، كما كان المصريون يقدسون الهر أو الجعلان. والعرب لا يقدسون حيوانا إلا نادرا وفي أحوال مخصوصة. على أن صاحبنا لم يتفق له - مع ما أجهد نفسه وتوسع في برهانه من التأويل والتفسير - أن يأتي بدليل على أن قبيلة من القبائل المسماة بأسماء حيوانية كانت تعبد صنما بشكل الحيوان الذي تتسمى به، وإن كان توفيقه إلى ذلك لا ينفعه شيئا، لأن المطلوب أن القبيلة التي تتسمى باسم حيوان يجب أن تقدس جنس ذلك الحيوان لا صنما بشكله.
فمذهب الطوتمية عند العرب ساقط سقوط الأمومة، ثم هو ساقط أيضا لبعد أحوال العرب عن شروط الطوتمية كما رأيت - ومع ذلك فلا ينبغي لنا الإغضاء عن الأدلة التي اعتمد عليها صاحب طوتمية العرب في إثبات هذا الرأي وسبب ذهابه إليه مع غرابته فنقول: (1-7) أدلته على طوتمية العرب
إن من يطالع تلك الأدلة في كتابه يتضح له من مجملها أنه لما اطلع على أحوال الطوتمية عند القبائل المتوحشة كما ذكرها مكلينان وغيره - وهو مستشرق يعرف أحوال العرب الجاهلية وقبائلها وأنسابها ومعبوداتها - ورأى بعض القبائل أو البطون تسمى بأسماء حيوانية، وكان العلماء يومئذ مولعين بالحقائق الطبيعية على مذهب الارتقاء يشتغلون برد كل الحوادث إليه كما قدمناه، ورأى النسابين العرب مختلفين في تحقيق أنساب بعض القبائل، تبادر إلى ذهنه أن أسماء هذه القبائل من بقايا الطوتمية عند العرب، فأخذ يفتش عن شروطها الأخرى، فرأى بعض القبائل تعبد أصناما بشكل بعض الحيوانات، فتمكن ذلك الرأي من ذهنه ونسي أن الشرط ليس عبادة صنم حيواني الشكل، وإنما المراد تقديس صنف من الحيوانات اسمه كاسم القبيلة، أو لعله انتبه لذلك وظن نفسه قادرا على الإتيان بحادثة يمكن تأويلها أو قرينة يستدل بها على شيء، وأخبار العرب كثيرة وفيها الغث والسمين والناقض والمنقوض، وهو قوي الحجة لطيف الأسلوب فوفق إلى أدلة توهم غير المتأمل أنه أصاب بها المرمى وهو بعيد عنه كما سترى. وإليك أدلته وبيان فسادها: (أ) تسمية القبائل بأسماء حيوانية (صفحة 188)
ليس بين أدلته على الطوتمية ما يصح اعتباره من قبيل القول الصريح إلا أسماء القبائل، وإن كانت هذه الأسماء لا تكفي وحدها لإثبات رأيه لأسباب تقدم بيانها. ولكنه يحتج بأن تسميتها بأسماء حيوانات ليست من قبيل العبث ولا بد لذلك من سبب. فعلينا أن ندفع حجته بأن هذه التسميات طبيعية لا غرابة فيها.
إن صاحبنا الأستاذ أورد من أسماء القبائل كل ما يشتم منه رائحة الحيوانية، ولم يزد عدد ما أورده منها على ثلاثين اسما، بعضها قبائل وبعضها عمائر وبعضها بطون أو فصائل وهي:
بنو أسد
بنو جعدة
بنو ضب
بنو قهد
بنو بدن
بنو جعل
بنو ضبيعة
بنو كلب
بنو بكر
بنو حداء
بنو عضل
بنو نعامة
بنو بهثة
بنو حمامة
بنو عنز
بنو نمر
بنو ثعلب
بنو حنش
بنو غراب
بنو وبر
بنو ثور
بنو دؤيل
بنو فهد
بنو هوزن
بنو جحش
بنو دب
بنو قرد
بنو يربوع
بنو جراد
بنو ذئب
بنو قنفد
ولو عددنا أسماء القبائل العربية وفروعها من العمائر والبطون والأفخاذ والفصائل لزادت على بضع مئات، وربما ناهزت الألف. فلو كانت التسمية طوتمية لوجب أن يزيد عدد الطوتمية على سائرها، ثم إن بعض ما أورده من الأسماء له غير معنى الحيوانية، ولكنه اختار الحيوانية ليزيد أسباب برهانه. فبكر مثلا تفسر بولد الناقة، ولكن لها معنى «العذراء»، و«أول كل شيء»، والسحابة، والكرم أول حمله، وغير ذلك. على أننا لو رجحنا معناها الأول، أي ولد الناقة، لما كان في التسمية شيء من الطوتمية؛ لأن العرب لو جاز أن يتسموا بحيوان ويعبدوه لكان «الجمل» أو «البعير» أولى من سواه، نظرا لاضطرارهم إليه وقدم عهده عندهم، وليس من القبائل ما يسمى به إلا بكر هذا، وهو أقرب أن يكون لقبا لقب به رجل فتي نشيط كأنه ولد الناقة.
و«البهثة» البقرة الوحشية، وابن الزناء. و«الجعدة» الأنثى من أولاد الضأن، والمرأة في شعرها جعودة، فلماذا لا يكون المراد بها المعنى الثاني لو لم يسبق إلى ذهنه الطوتمية؟ و«العضل» الجرذ، ولكنه أيضا يدل بكسر العين على الداهية من الرجال أو القبيح منهم، فلماذا لا يكون المراد أحد هذين المعنيين؟ و«القهد » نوع من ضأن الحجاز، ولكنه يدل أيضا على الرجل الأبيض اللون نقيه. وقس على ذلك - فالقبائل التي تثبت تسميتها بأسماء الحيوانات لا تزيد على بضعة وعشرين قبيلة أو فرع قبيلة.
فاتفاق هذا العدد القليل بين مئات من الأسماء لا يصح عزوه إلى الطوتمية، فإن الناس ما برحوا منذ القدم يتسمون بأسماء الحيوانات، أو يتلقبون بها ثم يذهب الاسم ويبقى اللقب كما سنبينه. (ب) التسمية
إن لأسماء الأعلام تاريخا طويلا في علم العمران، وهي تختلف صورة ومعنى باختلاف العصور وباختلاف الأمم. فكل أمة تختلف التسمية فيها عما في سواها، وتختلف في الأمة الواحدة باختلاف أدوار تمدنها. على أنها في كل حال تقتبس مما يقع في النفس موقع الاعتبار من الكائنات على اختلاف طبقاتها، فتختار من أسمائها ما يلائم عاداتها ومعتقداتها. فإذا تدينت انتسبت إلى الإله أو الآلهة، سواء كانت تلك الآلهة أجراما سماوية أو حيوانات أو أصناما أو غير ذلك. أما قبل التدين أو في حال البداوة الخشنة، فالغالب أن يختار الناس لأبنائهم أسماء ما يعجبون به أو يخافون من الأجسام الطبيعية، ولا سيما الحيوانات على ما يتوسمونه في المولود من القوة أو الشجاعة أو الدهاء أو الدعة أو الخوف. فيختارون له اسم حيوان فيه مثل هذه الطباع، فيسمون الرجل الشجاع بالأسد، والسريع الوثوب بالنمر، ويسمون الفتاة اللطيفة بالغزال أو الحمامة. وقد جرى على ذلك معظم الأمم القديمة في كل أنحاء العالم، ولا سيما الأمم الحربية أو أهل البداوة والغزو الذين يعيشون في البراري ويرحلون من نجع إلى آخر والحيوانات عشراؤهم، كما كان شأن العرب في أيام جاهليتهم فقد كانوا يعيشون بين الحيوانات حتى درسوا طبائعها ووصوفوا كلا منها بوصف خاص، فإذا ولد لهم ولد هان عليه تشبيهه بواحد منها بشكله أو طباعه ويسمونه به.
وليس هذا خاصا بالعرب، بل هو يتناول سائر أهل البادية أو من جرى مجراهم قبل تعلقهم بالدين. فاليهود كانوا في أوائل أدوارهم يجرون في التسمية على هذا النمط، ولذلك رأيت بين أسمائهم القديمة كثيرا من أسماء الحيوانات، كقولهم دبورا (نحلة) وأربة (أسد) ويونا (حمامة) وراحيل (نعجة) وشوال (ثعلب) وكالب (كلب) وديسان (غزال) أو أسماء الأجرام السماوية مثل حودش (الهلال). ومن الأوصاف الطبيعية آشور (أسود) وأيدوم (أحمر) وعيسو (كثير الشعر) وكوره (شجاع). وقس على ذلك سائر الأمم القديمة، ولا سيما قبل تدينها فقدماء الإنجليز كانوا يتسمون بأسماء الحيوانات أيضا، ومن أسمائهم القديمة
Ethelwolf (الذئب الشريف أو ذئب الحرث) وقد تسموا بالأوصاف الطبيعية كالأبيض والأسمر والطويل والقصير، ثم تدرجوا إلى الصناعات كالحداد والنجار والنقاش والسروجي. وإنما يهمنا في هذا المقام الأسماء الحيوانية، وهذه لم تخل أمة من التسمية بها، على تفاوت في ذلك بتفاوت أحوالهم من البداوة والحضارة. ولا يزال عند الأمم المتمدنة حتى الآن عدد كبير منها أو ما يقابلها من أسماء الكائنات الطبيعية كالحجارة والأشجار، وإليك أمثلة من ذلك:
فمن الأسماء اليونانية والرومانية:
كالأسد أو الأسد
Leonidas
أسد الغاب
Napoleon
صخر
محب الخيل
غزال
Darcas
أسد
Leo
ومن الأسماء الجرمانية والسكسونية والتيوتونية:
النسر أو قوي كالنسر
Arnold
الحجر الشريف
Athelston
الذئب أو قوي كالذئب
Bernard
العقاب أو قوي كالعقاب
Bertram
الخنزير البري
Everard
نعجة
Giles
عقاب
Ingram
أسد
Leonder
كالأسد أو كالعقاب
Leonard
خروف
Oven
ذئب المنازل
Randal
الذئب المشهور
Rodolph
الحية الشريفة
Ethelnid
ومن الأسماء الفارسية القديمة:
شيركوه
أسد الجبل
ببر أو بابر
الأسد
جمشيد
وجه الشمس
أردشير
الأسد الغضوب
بلاش
نوع من النمر
سيمورغ
السمك الفضي
زرسب
الجواد المذهب
بهرام
المريخ
الضحاك
الثعبان
فترى مما تقدم أن التسمية بالأسماء الحيوانية من القواعد الطبيعية المرعية عند سائر الأمم، وربما كان العرب أكثر تمسكا بها لما تقتضيه بداوتهم وخشونتهم، ولذلك كثرت عندهم الأسماء المتعلقة بالحروب أيضا، كحرب ونصر وسعد وعدوان وعبس وأشجع وسهم وصخر ونحوها - قيل لأبي الدقيش الأعرابي: «لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟» فقال: «إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا».
15
على أن المتعبدين من العرب للأصنام كانوا يتسمون عبيدا لها كعبد العزى وعبد مناة وعبد شمس وعبد سعد وعبد تيم وغيرهم. ولما أسلموا كثرت أسماؤهم المنسوبة لله أو بعض صفاته، كعبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد الأحد وعبد الصمد. وذلك شأن الأمم المتدينة في كل مكان وزمان، فالآشوريون كانوا يتسمون بالنسبة إلى آلهتهم مثل «تغلاتنين» عبد الإله تنين، و«متاغل نبو» عابد نبو، وكذلك البابليون فإنهم يضيفون أسماءهم إلى إلههم «بل» أو «نبو»، فيقولون: «بل ابني» بل صنعني، و«نبو نصر» أي نبو ينصر، و«عبد نبو» أي عبد الإله نبو، و«نبو بالوزور» نبو يحمي ابني
16
وكذلك اليونان بعد تنصرهم، ومن أسمائهم «ثيودسيوس» عطية الله، و«ثيودورس» عبد الله وغيرهما .
فتسمية العرب الجاهلية رجالهم بأسماء الحيوانات أمر طبيعي يؤيده تصغير تلك الأسماء للتحبب، كقولهم ذؤيب وأسيد وكليب ونحو ذلك، مما لا يفسر إلا إذا كانت تلك الأسماء ألقابا للناس. وظل العرب على ذلك في بداوتهم حتى تدينوا وتسموا بالأسماء الدينية كما تقدم. ولما تمدنوا تسموا بأسماء الصناع كالنحاس والصيدلاني والكحال والنجار والأسطرلابي، ولما ضعفت عصبية النسب عندهم تسموا بالنسبة إلى البلاد كالدمشقي والبغدادي والبصري والبخاري والنيسابوري وغيرها - فبقاء بضعة وعشرين من القبائل القديمة على أسماء الحيوانات ليس أمرا غريبا.
قال الجاحظ في كتاب الحيوان: «والعرب إنما كانت تسمي بكلب وحمار وحجر وجعل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانا يقول حجر أو رأى حجرا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر وأنه يحطم ما لقي، وكذلك إذا سمع إنسانا يقول ذئب أو رأى ذئبا تأول فيه الفطنة والمكر والكسب، وإن كان حمارا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد، وإن كان كلبا تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد الصوت والكسب، ولذلك صور عبيد الله بن زياد في دهليز كلبا وكبشا وأسدا وقال: كلب نابح وكبش ناطح وأسد كالح، فتطير على ذلك فطارت عليه». (ج) التلقيب
هذا على فرض أنها أسماء سمي بها آباء تلك القبائل، ولكن كثيرا منها كان في الأصل لقبا ألحق بالاسم الأصلي، ثم ذهب الاسم وبقي اللقب، مما يقع دائما وخصوصا عند العرب؛ لأنهم مفطورون على التلقيب والتكنية، ويتضح لك ذلك من مراجعة معاجمهم، فإنك ترى للأسد مئات من الأسماء أكثرها ألقاب لقبوه بها ثم صارت أسماء، وكذلك الديك والغراب والفرس والبعير والذئب والحية والجراد وغيرها من حيواناتهم، غير أسماء الأسلحة، ناهيك بالمترادفات من أسماء الشمس والمطر والبحر والبئر واللبن والعسل والخمر والنار. ومن الألقاب كالطول والقصر والشجاعة والجبن والكرم والبخل والحمق ونحوها
17
ولكل منها مائة أو مئات من المترادفات وأكثرها ألقاب أو كنايات تدل على أن ميل العرب إلى التلقيب والتكنية من فطرتهم .
وكانوا يضربون الأمثال غالبا بالبهائم، فلا يكادون يذمون أو يمدحون إلا بذلك؛ لأنهم جعلوا مساكنهم بين السباع والأحناش والحشرات، واستعملوا التمثيل بها لما ألفوه من طبائعها، وخصوصا القبائل العدنانية لسكناهم في صحارى نجد والحجاز، وبلادهم أكثر وعورة وخشونة من القحطانية، ولذلك كانت أسماء الحيوانات أكثر في قبائلهم مما في القبائل القحطانية. وقد درسوا تلك الطبائع بالمزاولة واختصوا كل حيوان بطبيعة نسبوها إليه، كالروغان للثعلب، والشجاعة للأسد، والصبر للحمار والأمانة للكلب، والغضب للنمر، والثقل مع الخساسة للفيل، ونحو ذلك وصاروا يعوضون عن الألقاب بأسماء تلك الحيوانات، فبدلا من قولهم: «شجاع» يقولون: «أسد»، وبدلا من صبور يقولون: «حمار»، ويكنون عن المراوغ بالثعلب، وإذا أرادوا أن يقولوا غضب فلان قالوا: «تنمر».
وكانوا من الجهة الأخرى يلقبون الحيوانات بأسماء الناس أو كناهم، فالفيل كنيته أبو حجاج، والأسد أبو الحارث، والذئب أو جعدة، والدب أبو رباح، والخنزير أبو قادم ويقال أبو عقبة، والثعلب أو الحصين، والكلب أبو خالد، وأبو ناصح عند بعضهم، والسنور أبو خراش ويقال أبو غزوان، والغزال أبو الحسين، والجمل أبو صفوان ويقال أبو أيوب وأبو مزاحم، والثور أبو حاتم، والكبش أبو المطرف، والنمر أبو وثاب، والفهد أبو قرة، والفرس أبو طالب، والبرذون أبو مضاء، والبغل أبو المختار، والحمار أبو زياد، وعندهم أم حبين الجرادة، وأم عوف الحمامة، وأم مهدي الدجاجة، وأم حفص الهدهد، وأبو الميت الجعالة، وأبو الصراة القملة، وأم عقبة الحية، وأم يقظان العقرب، وقس عليه.
وكان التلقيب عاما في الشعوب السامية، اعتبر ذلك بما جاء في التوراة عن تلقيب يعقوب لأولاده لما جمعهم في آخر أيامه، فعبر عن أوصاف بعضهم بأسماء الحيوانات، فسمى يهوذا شبل أسد، ويساكر حمارا، ودان ثعبانا ونفتالي أيلة، وبنيامين ذئبا. وترى أمثال التلقيب في أماكن كثيرة من التوراة، ويدل ذلك على شيوع هذا التلقيب عند الساميين قديما، ثم قل عند العبران والسريان لما سكنوا المدن وأخلدوا إلى السكون، وظل عند العرب لبقائهم على البداوة. وما زال ذلك شأنهم إلى صدر الإسلام وما بعده، ولا تزال بعض أسماء الحيوانات تستخدم للتكنية إلى اليوم، وقد تنوسي معناها الأصلي كالقرم للسيد العظيم ومعناه في الأصل «الفحل»، وكذلك «الرت» للباسل وهي اسم للخنزير، و«الأصيد» للملك وهو البعير. على أنهم كثيرا ما كانوا يلقبون بأعضاء الحيوانات المفترسة كالناب والأنف والقرن فإنها من ألقاب الشجاعة والقوة عندهم،
18
ومن عادات العرب إذا مات لأحدهم أولاد وخاف انقطاع ذريته أن يسمي أولاده بأسماء الحيوانات المفترسة، كالذئاب والنمر وغيرهما، ولا تزال هذه العادة جارية في سوريا إلى اليوم.
فترى أن التلقيب بالحيوانات كان شائعا عند العرب قبل الإسلام، على أنهم ساروا عليه بعد الإسلام فسموا حمزة عم النبي
صلى الله عليه وسلم «أسد الله» أو «أسد رسول الله»، وكذلك علي بن أبي طالب لشجاعتهما،
19
وقد سموا مروان بن محمد بالحمار لصبره. ويكون التلقيب للمدح كما رأيت أو للذم، كتسميتهم عثمان بن عفان «نعثل» وهو ذكر الضباع، وتسمية عبد الملك بن مروان «أبا زبان» لبخره و«شح الحجر» لبخله،
20
وتلقيب بني عمرو بن عمر أفواه الكلاب لبخر أفواههم.
ومن أدلة رغبتهم في التلقيب أنهم يلقبون الرجل ببيت شعر نظمه أو لفظ قاله أو حادثة جرت معه مما لا ضابط له، فالمرقش الشاعر أصل اسمه عوف بن سعد فنسي الاسم وبقي اللقب، والمتلمس اسمه جرير بن عبد المسيح، والنابغة اسمه زياد بن معاوية، وكذلك المخرق وتأبط شرا وأعصر والمستوعر وغيرهم ممن ذهبت أسماؤهم وبقيت ألقابهم - فماذا يمنع حدوث ذلك قبل التاريخ، فيلقب أبو القبيلة بما يناسب خلة من خلاله مدحا أو ذما ثم يتناسى الاسم ويبقى اللقب؟ وفي أخبار العرب أمثلة كثيرة من هذا النوع، فقيس عيلان أصل اسمه قمقة ولكنه اشتهر بلقبه، وكذلك قريش وغيره. وقد يكون للتلقيب سبب متصل بحادثة، فعنزة أبو القبيلة المعروفة سمي بذلك؛ لأنه قتل رجلا بعنزة وأصل اسمه عامر. والحظائر سمي بذلك لأن المنذر بن امرئ القيس كان جمع أسارى بكر في الحظائر ليحرقهم، فكلمه فيهم فشفعه وأصل اسمه كعب. والزبرقان سمي بهذا الاسم لجماله وسمي القمر أيضا، وكلاهما غير اسمه ولا يعرف إلا بهما. وقصي أصل اسمه زيد، وعبد المطلب اسمه عامر وكلاهما يعرف باللقب فقط. وقد يكون اللقب اسم حيوان أو لقبا من ألقابه، مثل جساس اسم الرجل المشهور، فمعناه في اللغة الأسد المؤثر في الفريسة ببراثنه وأصل اسمه عمرو بن مرة البكري، وقس على ذلك ألقاب الخلفاء بعد الإسلام، فإن أكثرهم يعرف بلقبه كالفاروق والصديق والمنصور والرشيد والمأمون وغيرهم.
فإذا اعتبرنا شيوع التسمية بأسماء الحيوانات أو التلقيب بها، وإمكان بقائها وذهاب الأسماء الأصلية، مع ميل العرب من فطرتهم إلى ذلك، فوجود بضعة وعشرين اسما حيوانيا بين مئات من أسماء القبائل لا يعد شيئا غريبا. (د) التلقيب بصيغة الجمع
على أننا رأينا صاحب طوتمية العرب يعلق أهمية كبرى على تسمية بعض القبائل بجمع أسماء الحيوانات، مثل الأنمار والكلاب والأراقم والضباب، فعنده أن وجود هذه الأسماء بصيغة الجمع لا ينطبق على تفسيرنا من حيث تلقيب أبي القبيلة بلقب يبقى ويذهب اسمه الأصلي. ويرى أن هذه الصيغة دليل قوي على الطوتمية؛ لأن أبناء قبيلة النمر يعدون أنمارا، وأبناء قبيلة كلب يعدون كلابا على مقتضى شروط الطوتمية.
والجواب على ذلك أن التلقيب بصيغة الجمع للقبيلة كان شائعا عند العرب مثل شيوع التلقيب بصيغة المفرد للفرد. وكانوا يلقبون القبيلة بصفة عامة تشترك فيها أو يغلب شيوعها بين أفرادها، كالكرم والبخل والحلم والغدر ونحو ذلك. فلما انتشر الإسلام وضعوا لأهل الأقاليم أوصافا يمتاز بها بعضهم عن بعض.
فمن أمثلة أوصاف القبائل في صدر الإسلام أن معاوية سأل دغفلا النسابة: ما تقول في بني عامر بن صعصعة؟ قال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء. وقال: فما تقول في بني أسد؟ قال: عافة قافة، فصحاء كافة. قال: فما تقول في بني تميم؟ قال: حجر خشن، إن صادفته آذاك وإن تركته أعفاك. قال: فما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث. ومن هذا القبيل أن الحجاج سأل ابن القرية عن قبائل العرب فوصف كلا منها بما امتازت به. وليس في وصفه مجون. قال:
قريش:
أعظم القبائل أحلاما وأكرمها مقاما .
بنو عامر:
أطولها رماحا وأكرمها صباحا.
بنو سليم:
أعظمها مجالس وأكرمها محابس.
ثقيف:
أكرمها جدودا وأكثرها وفودا.
بنو زبيد:
ألزمها للرايات وأدركها للثارات.
قضاعة:
أعظمها أخطارا وأعظمها نجارا وأبعدها آثارا.
وهكذا حتى أتى على معظم القبائل ثم وصف الأقاليم مما لا محل له هنا وعلى هذا النمط كانوا يلقبونهم بأسماء حيوانات يغلب في طباعها الخلة التي اشتهرت تلك القبيلة بها، وقد يذهب الاسم الأصلي ويبقى اللقب وحده وتعرف القبيلة به، كما حدث بالأنمار فإنها قبيلة من نزار لقبت بذلك لاشتهار أهلها بالقنص كأنهم أنمار في الوثوب على الفريسة، قال النابغة من معلقته:
أهوى له قانص يسعى بأكلبه
عاري الأشاجع من قناص أنمار
21
وكذلك الأراقم - قبيلة من بني تغلب - لقبوا بذلك؛ لأن عيونهم شبهت بعيون الحيات الأراقم فعرفوا بهذا الاسم،
22
والعنابس - أي الأسود - لقبوا بذلك لشجاعتهم. وقد يطلق لقب واحد على غير رجل أو غير قبيلة، وتعرف كل قبيلة باسمها الأصلي كالأراقم المتقدم ذكرها، فإنها لقب لجشم ومالك وعمرو وثعلبة والحرث ومعاوية بني بكر بن حبيب من تغلب.
23
وليس تلقيب القبائل على هذه الصورة خاصا بالعرب الجاهلية بل هو شائع في عرب هذه الأيام. وأشهر ما تداولته الألسن من هذا القبيل تلقيب النقاش لأهل لبنان في أواسط القرن الماضي، إذ أرسلته الدولة العثمانية لمسح لبنان وإحصاء سكانه، وكان ظريفا وفيه دعابة فكان إذا نزل القرية أو البلد لقب أهله بأول تشبيه يتبادر إلى ذهنه عند إقباله على ذلك البلد - وإليك ألقاب بعض أهل القرى من أقاليم الغرب، وأكثرها أسماء حيوانات بصيغة الجمع:
اسم البلد
لقب أهله
أهل جباع
الشواح
أهل نيحة
النور
أهل بعذران
الثعالب
أهل المختارة
الذئاب
أهل عين قنية
الشواح
أهل عماطور
الديوك المزهرة
أهل المزرعة
البقر
أهل عينبال
الجحاش
أهل بعقلين
الغنم
أهل جديدة الشوف
الكلاب * *
الهلال، صفحة 95 سنة 13.
وليس هذا خاصا بالعرب بل يتناول بعض الأمم المتمدنة، ففي الولايات المتحدة لأهل كل ولاية لقب خاص على هذه الصورة:
اسم الولاية
لقب أهلها
Illinois
Luchers
Missouri
Oragon
Webfoot
Ohio
Buckeye
Indiana
Hoosiers
New England
States Yankees
Alabama
Yellow Limnor
Wisconsin
Badger
وجملة القول أن تسمية بعض القبائل بأسماء الحيوانات أفرادا أو جماعات لا أهمية لها فيما نحن فيه؛ لأنه عادي وطبيعي في الأجيال القديمة والحديثة. وبالطبع لم تبق أهمية لما ذكروه من عبادة الحيوانات التي كانت شائعة في الجاهلية، وإن كانت في الحقيقة ليست من قبيل عبادة الحيوانات الطوتمية بل هي عبادة أصنام أقلها بشكل بعض الحيوانات وأكثرها بأشكال أخرى. فهي من قبيل عبادة الأوثان وليست من الطوتمية في شيء؛ لأن أهل الطوتم لا يعبدون صنما بشكل الحيوان، بل يعبدون الحيوان نفسه ويقدسونه ويتجنبون أذاه كما تقدم، وليس عند العرب شيء من ذلك - على أننا نقول كلمة في أصنام العرب لا تخلو من فائدة ... (1-8) أصنام العرب
من المشهور أن العرب وسائر الأمم السامية أهل توحيد من فطرتهم، وإذا عبدوا صنما فيغلب أن يكون ذلك الصنم دخيلا عندهم، ويصدق ذلك على العرب بنوع خاص لتوسطهم بين الأمم الوثنية القديمة، فقد كانوا في عهد جاهليتهم محاطين بالفراعنة في مصر، والفينيقيين في الشام، والآشوريين في العراق، والأحباش في الحبشة. وكانت جزيرتهم طريق أهل الهند في التجارة إلى مصر والشام. وكانوا إذا ذهبوا إلى بلد مما يجاورهم للتجارة أو للغزو ورأوا أهل ذلك البلد يعبدون صنما يعتقدون فيه الكرامة حملوه معهم في رجوعهم ونصبوه في الكعبة أو غيرها من مجتمعاتهم. وإذا مرت بهم قافلة هندية ومعهم صنم يعبدونه في أثناء أسفارهم فربما أعجب العرب فأخذوه منهم أو اصطنعوا صنما على مثاله. ولم يصل إلينا من أخبار هذه الأصنام إلا نتف مشتتة يمكن الاستدلال بها على غيرها.
وأشهر من نقل الأصنام إلى مكة في عهد الجاهلية رجل يسمونه عمرو بن لحي، ذكروا أنه غلب على مكة وأخرج منها جرهما وتولى سدانتها، وكان كاهنا فحمل إليها الأصنام من الآفاق فنقل هبل وإساف ونائلة من البلقاء،
24
ونقل ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا من ساحل جدة،
25
واختصت كل قبيلة من القبائل المشهورة يومئذ بواحد منها، فأصبح ود لقبيلة كلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير. وكان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر. ولو جمعت أصنام العرب لزاد عددها على مائة صنم، ليس منها على صور الحيوانات إلا بضعة قليلة جدا. على أنها إذا كثرت فقلما تؤيد برهانا للأسباب التي قدمناها، ولأنها دخيلة كما رأيت - ولا نقول ذلك اعتمادا على رواية العرب فقط؛ لأن صاحبنا الأستاذ لا يثق من أقوالهم إلا بما يؤيد برهانه، ولكننا ننظر في هذه الأصنام نظرا تحليليا عسانا أن نتوصل إلى نتيجة فنقول: (أ) هبل
هو أكبر أصنامهم ويسمونه الصنم الأكبر، وذكروا أنه كان مصنوعا من نحاس - وقيل من قوارير أي زجاج - على هيئة رجل ضخم، وكانوا يذبحون له ويستخيرونه في أسفارهم وحروبهم وسائر أعمالهم. ويظهر لنا أن هذا الصنم من آلهة الفينيقيين أو الكنعانيين والأدلة على ذلك:
أولا:
قول العرب أنه جاءهم من مواب بأرض البلقاء، حمله إليهم عمرو بن لحي الذي ذكرناه.
ثانيا:
أن لفظ هبل لا اشتقاق له في العربية من معناه، فهو غير مشتق من لفظ عربي، وعندنا أنه عبراني أو فينيقي أصله «هبعل» وهو اسم أكبر أصنام الفينيقيين أو الكنعانيين ومن جاورهم من أمم الشام كالموابيين والمديانيين والبابليين والليبيين. وكان للفينيقيين عشرات من الآلهة يميزون منها إلهين. أحدهما ذكر والآخر أنثى، ويسمون الذكر «هبعل» والأنثى «عشروت»، ومعنى «بعل» في لسانهم السيد والإله، والهاء في العبرانية أداة التعريف مثل «أل» العربية، فبإضافة هذه الأداة إلى بعل يريدون الإله الأكبر. والظاهر أن عمرا المذكور لما قدم مواب أعجبته عبادة الموابيين لهذا الصنم، وكانوا يستمطرونه ويستنصرونه، فحمله إلى مكة باسمه العبراني «هبعل»، وأما العين الزائدة فيسهل إهمالها بالتخفيف ثم ضياعها بالاستعمال، وخصوصا في لفظ «بعل»؛ لأن الكلدانيين كانوا يلفظونه «بل» بإهمال العين، وهو اسم هذا الإله عندهم. وربما كان الموابيون يلفظونها «هبل» فنقلها عمرو بن لحي كما كان يسمعها.
ثالثا:
أن أساليب عبادة العرب هبل تشبه أساليب عبادة الموابيين هبعل. فقد كان الموابيون ينصبون هذا الصنم على التلال المرتفعة أو سقوف البيوت، ويذبحون له الذبائح من الحيوانات والآدميين، ويحرقون له المحرقات ويستخيرونه ويفضلونه على سائر آلهتهم، وكذلك كان يفعل العرب لهبل. وكما أن هبعل أكبر أصنام الموابيين ومن جرى مجراهم، فهبل أكبر أصنام العرب وكانوا ينصبونه فوق الكعبة. (ب) إساف ونائلة
ذكروا أنهما صنمان، الأول على صورة رجل والثاني على صورة امرأة، حملهما عمرو بن لحي أيضا من البلقاء فوضعهما على بئر زمزم بالكعبة، ثم وضع أحدهما على الصفا والآخر على المروة، فربما كان هذان وهبل مثلثا وثنيا، والمثلثات الوثنية كانت شائعة عند الوثنيين في الأزمنة القديمة والغالب في هذه المثلثات أن يكون كل منها مؤلفا من رجل وامرأة وغلام، وأمثلة هذه المثلثات كثيرة عند المصريين القدماء والكلدانيين وغيرهم. (ج) يغوث
جاء في تفسير الزمخشري أنه على صورة أسد، وأن عمرو بن لحي نقله من جدة على ساحل البحر إلى مكة. فإذا كان مجلوبا من الخارج فالغالب أنه من الحبشة أو مصر؛ لأن جدة محطة المسافر من إحداهما إلى الحجاز وقد وجدنا بين آلهة المصريين صنما على صورة أسد أو لبؤة يسمونه «تغنوت»، ولا يخفى ما بين هذه اللفظة ولفظ يغوث من المشاكلة الصورية إذا اعتبرنا أن العرب كانوا يكتبون بلا نقط، فإذا كتبوا «تغنوت» التبس عليهم بين أن تقرأ يغوث أو تغنوت أو تعوت، وكثيرا ما وقع لهم ذلك حتى بعد تدوين التاريخ في إبان التمدن الإسلامي، فإمبراطور الروم الذي حاربه هارون الرشيد يسميه بعض المؤرخين يعفور، والبعض الآخر نعفور، والآخر نقفور وهو الصواب؛ لأن اسمه الروماني
Nicephorus
ألا يعقل أن يحدث مثل هذا الالتباس في عصر الجاهلية؟ وعلى هذا المبدأ تحول اسم قايين إلى قابيل، وشاول إلى طالوت، وجليات إلى جالوت، وقورح إلى قارون. (د) ود
وهذا الصنم قد وصفه ياقوت في معجمه فقال: «إنه على مثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دبر عليه - أي نقش عليه - حلتان، متزر بحلة ومرتد بحلة ... عليه سيف وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء وجعبة فيها سهام»، فما أشبه هذا الوصف بوصف ملك من ملوك الفراعنة ذاهب للحرب على مركبته. وهو يشبه إلها فينيقيا اسمه أشبو، أو سيس إله مصري. ولا يمكننا الجزم في ذلك وإنما يظهر من وصفه أنه إله غريب.
وقس على ذلك سائر الأصنام، وإن كنا لا نطمع في ردها كلها إلى أصولها، ولا أن يكون كلامنا فيها يقينيا أو قطعيا، وإنما هو من قبيل الترجيح، وهذا يكفي في هذا المقام. (1-9) الثأر والعائلة والحلف
ورأينا صاحب طوتمية العرب قد علق أهمية كبرى على اجتماع العرب للمطالبة بالثأر باسم القبيلة، فعنده أن ذلك من بقايا الطوتمية؛ لأن القبيلة كانت قديما إذا قتل أحد أفرادها اشتركت كلها في المطالبة بدمه؛ لأنها تطالب بحق الإله الذي هو جدها الأعلى، وأن العرب ليس عندهم عائلة إنما آخر أنسابهم الحي - ولا حاجة بنا إلى التطويل في بيان فساد هذا التأويل بعد أن ظهر فساد المقدمات الأخرى. فالطلب بالثأر باسم القبيلة طبيعي في أمم البادية، وضروري لحفظ جامعة النسب، ولولاها لم يكن لتلك الجامعة معنى. ولكن صاحبنا أجهد نفسه كثيرا في التفسير والتعليل، للتوفيق بين المطالبة بالثأر عند العرب ومطالبة أصحاب الطوتم بحق جدهم الأعلى. وهيهات أن يتأتى له ذلك إلا إذا ثبتت الطوتمية عند العرب فيمكن تفسير الثأر بما فسره، لا أن يكون هو من أدلة تلك الطوتمية يستعان به في إثباتها.
وأما عدم وجود العائلة عند العرب فالقول به غريب، وإنكار العائلة عند العرب يقرب من إنكار البديهيات، أو هو إنكار ضوء الشمس في رابعة النهار . وأغرب من ذلك استدلاله على طوتمية العرب بما يحدث عندهم من الترابط أو التعاون بواسطة الحلف ونحوه، فالتحالف قاعدة سياسية لا تزال جارية إلى الآن عند أرقى الأمم المتمدنة، وإنما يختلف عن الحلف عند قبائل العرب كما تختلف بداوة هؤلاء عن حضارة أولئك.
مقدمة
العصر العربي الأول
تمهيد في العرب قبل الإسلام
سياسة العرب في عصر الراشدين
سياسة الدولة في عهد الأمويين
العصر الفارسي الأول
تمهيد
سياسة العباسيين في تأييد سلطتهم
العصر التركي الأول
تمهيد
الدول الفارسية في ظل العباسيين
الدول التركية في ظل العباسيين
الدول الكردية في ظل العباسيين
الخلافة والسلطة أو الدين والسياسة
العصر العربي الثاني
الإمارات العربية والعنصر العربي
سياسة بني أمية في الأندلس
الدولة الفاطمية
العصر المغولي أو التتري
انحلال الدولة الإسلامية
المغول
الدور الثاني من ظهور الدولة العثمانية ولا يزال
مقدمة
العصر العربي الأول
تمهيد في العرب قبل الإسلام
سياسة العرب في عصر الراشدين
سياسة الدولة في عهد الأمويين
العصر الفارسي الأول
تمهيد
سياسة العباسيين في تأييد سلطتهم
العصر التركي الأول
تمهيد
الدول الفارسية في ظل العباسيين
الدول التركية في ظل العباسيين
الدول الكردية في ظل العباسيين
الخلافة والسلطة أو الدين والسياسة
العصر العربي الثاني
الإمارات العربية والعنصر العربي
سياسة بني أمية في الأندلس
الدولة الفاطمية
العصر المغولي أو التتري
انحلال الدولة الإسلامية
المغول
الدور الثاني من ظهور الدولة العثمانية ولا يزال
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الرابع)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الرابع)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
أخذنا في تأليف هذا الكتاب ونحن نعلم أهمية موضوعه ونشعر بافتقار اللغة العربية إلى مثله. ولكننا لم نكن نتوقع ما لاقاه من حفاوة أهل اللغات الأخرى في العالم الإسلامي بأسره، ولا أن يصل إعجاب كبار المستشرقين في أوروبا بموضوعه إلى مثل ما رأيناه منهم على أثر صدور الأجزاء الثلاثة الماضية، لأنهم فضلا عما كتبوه إلينا من عبارات الاستحسان والتنشيط، وما نشروه من التقاريظ في المجلات والجرائد التي تصدر في بلادهم، قد أخذوا يشتغلون بنقله إلى ألسنتهم ونشره بين مواطنيهم ونحن لم نفرغ بعد من تأليفه. وبعض هذه الترجمات قد طبع ونشر ولا يزال البعض الآخر تحت الطبع، والآخر تحت الترجمة. فقد صدر الجزء الأول من الترجمة الأوردية (الهندستانية) مطبوعا على الحجر في أمرتسار (الهند) بقلم الشيخ محمد غلام منشئ «جريدة وكيل» الهندية الشهيرة. وسيصدر الجزء الأول من الترجمة الفارسية قريبا بقلم ميرزا ذكاء الملك صاحب «جريدة تربيت» الفارسية. وكتب إلينا المستشرق الكبير الأستاذ مرجليوث المشتغل بنقله إلى الإنجليزية في جامعة أكسفورد، أنه سيفرغ من ترجمته ويبدأ في نشره في أواخر هذا الصيف. وبعث إلينا الأستاذ دانيلوف المستشرق الروسي في موسكو أنه أتم نقل الجزء الأول إلى اللغة الروسية ويليه الجزء الثاني. وقد خابرنا بعض المستشرقين بشأن نقله إلى اللغة الفرنسية وغيرها.
فنشطنا ذلك في المثابرة على التنقيب والبحث لاستطلاع دخائل التمدن الإسلامي، وكشف أسراره بما يبلغ إليه الإمكان على أسلوب لم يطرقه كتاب العرب، نتوخى فيه إرجاع الحوادث إلى أسبابها وبيان ارتباطها بعضها ببعض مع تطبيق أحكام العقل ونواميس العمران عليها. فنطالع كتب التاريخ والأدب وغيرها، على سذاجة أسلوبها في سرد الحوادث وإيراد الوقائع، ونتدبر ما نقرؤه ثم نستخرج منه فلسفة ذلك التمدن العجيب، كما يستخرج السكر من الخروب؛ لأن مؤرخي الإسلام، مع ما بذلوه من الجهد في تحقيق الحوادث وتمحيص أسانيدها ومصادرها، قلما نظروا في علاقاتها أو عللوا أسبابها، وإنما نقلوها على علاتها، وخصوصا ما يتعلق منها بسياسة الدولة، وكيفية انتقال الملك من عائلة إلى عائلة، أو أمة إلى أمة، أو طائفة إلى طائفة؛ لأن تعليل تلك الحوادث يبعث أحيانا على الطعن في أقوال بعض الخلفاء، أو تخطئة بعض المذاهب، وهم يتحاشون ذلك احتراما للدين ورجاله، ولذلك كان موضوع هذا الجزء أوعر مسلكا من موضوعات سائر الأجزاء الماضية، وأدعى إلى إعمال الفكرة، واستنباط الأقيسة، وتطبيق النتائج على المقدمات؛ لأنه عبارة عن فلسفة تاريخ الإسلام في ذلك التمدن.
موضوع هذا الجزء
بسطنا الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب عن نشوء الدولة الإسلامية وسعة مملكتها، وتاريخ نظمها الإدارية والسياسية والمالية والعسكرية والقضائية وغيرها. وخصصنا الجزء الثاني لبيان ثروة الدولة الإسلامية ورجالها، وأسباب تكون تلك الثروة وأسباب تدهورها. وجعلنا الجزء الثالث خاصا بالعلم والأدب، فبحثنا فيما كان منهما عند العرب في الجاهلية، وما أحدثه الإسلام من التغيير في القرائح والعقول، وما نقل عن اللغات الأجنبية من العلوم، وما كان من تأثير التمدن الإسلامي في كل ذلك.
فبعد أن نظرنا في التمدن المذكور، من حيث نظام الدولة وثروتها وعلومها، عمدنا إلى البحث في سياستها، فخصصنا لها هذا الجزء برمته، ولعله أهم أجزاء الكتاب وأوعرها مسلكا، لما يحول بيننا وبين أسباب الوقائع السياسية من العقبات والشكوك، ولا سيما انتقال الخلافة من دولة إلى دولة، وما يعترض ذلك من تنازع أهل الدولة على الاستئثار بالسلطة، وتأثير الاختلاف الجنسي أو المذهبي في ذلك، مما لا يتيسر العثور عليه في كتب القوم لما قدمناه من تحاشي المؤرخين الخوض في مثله. على أننا لم نعدم بصيصا من خلال تلك الظلمة، تلمسنا به سبيلنا في البحث عن الأسباب والعلل، فوفقنا إلى كشف أسباب أكثر الحوادث، فبسطناها بما يقتضيه ذلك من النظر الفلسفي والحكم العقلي والقياس التمثيلي، وتحرينا الحقيقة جهد طاقتنا.
ولما عمدنا إلى تقسيم الموضوع وتبويبه اعترضتنا عقبة أخرى لا تقل وعورة عن تلك؛ لاختلاط الحوادث وتعارض أسباب واشتراك نتائجها وتلون مظاهرها، وتعدد أوجهها من حيث الدين أو الجنس أو المكان أو الزمان، فرأينا بعد إمعان النظر أن نقسم الموضوع باعتبار العناصر التي سادت في الإسلام، وما كان من تنازعها على تلك السيادة، مع ملاحظة أطوار التمدن الإسلامي باختلاف تلك العناصر. فقسمنا تاريخ الإسلام إلى دورين كبيرين:
الدور الأول:
دور التمدن الذي نحن بصدده، يبتدئ بظهور الإسلام وينتهي بذهاب الدولة العباسية من العراق، وتدهور المملكة الإسلامية وتسلط المغول عليها.
الدور الثاني:
هو النهضة السياسية التي حدثت بعد ذلك التدهور، بتغلب الدولة العثمانية وإحياء الخلافة الإسلامية، بجمع شتات المسلمين السنيين في ظلها، وظهور الدولة الصفوية الفارسية، وجمع شتات الشيعة تحت رايتها.
وقسمنا الدور الأول إلى خمسة عصور، باعتبار تغلب أحد العناصر الإسلامية على سائرها. ولا يتيسر وضع حد فاصل بين هذه العصور لأسباب لا تخفى على المطلع، فيغلب أن تختلط أواخر كل عصر بأوائل العصر الذي يليه. وإليك هذه العصور: (1)
العصر العربي الأول: من ظهور الإسلام إلى انقضاء الدولة الأموية سنة 132ه. (2)
العصر الفارسي الأول: من قيام الدولة العباسية سنة 132 إلى خلافة المتوكل سنة 233ه. (3)
العصر التركي الأول: من خلافة المتوكل إلى تسلط الديلم سنة 334ه. (4)
العصر العربي الثاني: من قيام الدولة الفاطمية إلى انقضائها . (5)
العصر المغولي: من ظهور جنكيزخان إلى وفاة تيمور لنك.
أما العصر التركي الثاني فهو عصر الدولة العثمانية، والعصر الفارسي الثاني عصر الدولة الصفوية ومن خلفها على بلاد فارس، ويتألف منهما الدور الإسلامي الثاني، وهو خارج عن دائرة بحثنا في هذا الكتاب.
وقسمنا كلا من العصور الخمسة التي درسناها في هذا الجزء إلى فصول وأبواب على ما يقتضيه المقام. فقدمنا الكلام بتمهيد في العرب قبل الإسلام من حيث نظام الاجتماع، فوصفنا البدو والحضر وأنساب العرب وقبائلهم وبطونهم، واستفحال عصبية النسب عندهم ومنها الأمومة والخؤولة، ثم ذكرنا توابع تلك العصبية كالحلف والاستلحاق والخلع، ثم العبيد والموالي في الجاهلية وأنواعهم وأحكامهم، والنازلين من الأجانب في جزيرة العرب قبل الإسلام وخصوصا الأبناء الفرس، وختمنا التمهيد بفصل في سياسة دول العرب قبل الإسلام ومناقب العرب.
ثم تقدمنا إلى العصر العربي الأول، فقسمناه إلى أيام الراشدين وأيام بني أمية، فبينا أولا أن الإسلام قام بالجامعة الإسلامية التي جمعت كلمة العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم تحت راية الإسلام. فتساووا في الفضل من حيث أنسابهم، وتفاضلوا من حيث سبقهم إلى الدين أو جهادهم في سبيله، فتولدت طبقات إسلامية جديدة، كالمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل القادسية، مما لم يكن من قبل.
ثم وصفنا سياسة الخلفاء الراشدين وأنها مبنية على التقوى والحق والعدل، وذكرنا مزايا كل خليفة منهم، وأن سياسة عمر بن الخطاب كانت في أول خلافته تدعو إلى حصر المسلمين في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق، وأنه اضطر بطبيعة العمران إلى أن يأذن لقواده وأمرائه في الانسياح في الأرض، فانتشر العرب بالفتح أو المهاجرة، وتكاثروا بالتناسل الكثير.
وختمنا العصر الأول بفصل في العبيد والموالي وأحكامهم في الإسلام.
ثم انتقلنا إلى القسم الثاني من العصر الأول، وهو أيام الأمويين، فذكرنا أولا الأسباب التي ساعدت على انتقال الخلافة إليهم، وما كان بين بني هاشم وبني أمية من المنافسة قبل الإسلام، وكيف شق على الأمويين أن يعظم أمر بني هاشم بالنبوة وهم أقل منهم عددا وقوة. فما زالوا حتى غلبوهم على الدولة ، فأخذها معاوية بن أبي سفيان من علي بن أبي طالب بالدهاء والأطماع. وفصلنا سياسة الأمويين في تأييد سلطتهم، وبينا أن محور هذه السياسة طلب التغلب بأية وسيلة كانت. والأمويون يعلمون أن الهاشميين أحق منهم بالخلافة، فعمدوا إلى التغلب بالعصبية كما كانت في الجاهلية، وكان العرب المسلمون قد زالت عنهم دهشة النبوة، فعادوا إلى عصبية النسب أولا بين قريش وسائر العرب، ثم بين اليمنية والمضرية. وبالغ الأمويون في التعصب على غير العرب، فاحتقروا الموالي الفرس وغيرهم وضيقوا عليهم. وتحضر العرب في عصر الأمويين وألفوا السكنى في المدن، فحدثت العصبية الوطنية، أي: تعصب البلاد بعضها على بعض كالبصرة والكوفة والشام وغيرها. واضطر الأمويون في سبيل التغلب على بني هاشم إلى اصطناع القبائل والرجال ببذل المال، فحملهم ذلك على الاستكثار من الأموال. وجرهم الاستكثار منها إلى ابتزازها بحق أو بغير حق، فضيقوا على الرعية من المسلمين وأهل الذمة، حتى مل الناس أيامهم وخصوصا بعدما ظهر من استخفافهم بأحكام الشريعة، وتهتكهم وفتكهم واحتقارهم الموالي وتضييقهم على أهل الذمة. ويلي ذلك فصل طويل في أحكام أهل الذمة من زمن عمر بن الخطاب إلى آخر أيام الأمويين.
ثم تقدمنا إلى العصر الفارسي الأول، فصدرناه بفصل في انتقال الخلافة إلى العباسيين بنصرة الموالي الناقمين على بني أمية. وكيف نصروا بني العباس - وهم في الأصل من شيعة علي - وكانوا يظنون بيعتهم مشتركة بين العلويين والعباسيين؛ لأن العباسيين كانوا قد بايعوا العلويين على ذلك فسكتوا، فنقل أبو مسلم الخراساني المملكة الإسلامية من الأمويين وسلمها إلى العباسيين. فلما قبض العباسيون على زمام الدولة نكثوا البيعة، وغدروا بمن كانوا يخشون سلطانهم من العلويين وغيرهم، حتى فتكوا بجماعة من أكبر دعاتهم وأنصارهم، وفيهم أبو مسلم نفسه.
وقسمنا سياسة العباسيين إلى سياستين:
الأولى:
سياستهم في تأييد سلطتهم، وكانت مبنية على الغدر والفتك، فخافهم الفرس الذين ساعدوهم على قيام دولتهم، وكظموا غيظهم لئلا يصيبهم ما أصاب أبا مسلم وأصحابه، فاستخدمهم العباسيون في مصالح دولتهم، وسلموا إليهم مقاليد الحكومة، وجعلوهم وزراءهم وأشهرهم البرامكة. فلما اشتد ساعد البرامكة، ونالوا ما نالوه من القوة والسطوة والثروة، أخذوا يبذلون الأموال لاكتساب قلوب الناس، وقد أضمروا إرجاع البيعة إلى العلويين أو تسليم الدولة للفرس، فشعر الرشيد بذلك فنكبهم. وفصلنا مقدمات هذه النكبة وأسبابها، وبينا كيف تضاعفت نقمة الفرس على العباسيين. ولما مات الرشيد اختلف ابناه الأمين والمأمون، وكان الفرس أخوال المأمون، فنصروه وحاربوا معه وقتلوا أخاه وأعادوا الخلافة إليه، على أن يبايع بعده لعلي الرضا، أي: ينقل الدولة من العباسيين إلى العلويين، فأطاعهم حتى ملك مراده منهم ثم غدر بهم.
والثانية:
سياستهم في معاملة الرعية، وكانت مؤسسة على العدل والحق والمحاسنة، ويتخلل ذلك فصول في أهل الذمة وأحكامهم وأسباب ما لحقهم من الاضطهاد إلى عهد غير بعيد. وفصل في حرية الدين وإطلاق الأفكار، وما كان من تنازع العناصر، وكيف ذهبت العصبية العربية بذهاب دولة الأمين، وما رافق ذلك من اختلاط الأنساب، حتى ندر الدم العربي الخالص بعد ذهاب القرن الثاني للهجرة إلا في البادية.
ثم تقدمنا إلى العصر التركي الأول، وذكرنا الأسباب التي دعت إلى تدخل الأتراك في الدولة من أيام المعتصم، وكيف جمع الأتراك وجندهم وبنى لهم سامرا، وكيف تدرجوا في مصالح الدولة حتى تغلبوا على الخلفاء، وما ترتب على ذلك من احتجاب الخلفاء في دور النساء، ومعاشرتهم الخدم ووثوقهم بهم، حتى رفعوا الخدم والخصيان إلى رتب القيادة وإمارة الأمراء وغيرهما، وأطلقوا أيدي النساء في مصالح الدولة، فآل ذلك كله إلى فساد الحكم واختلال الأعمال، وذهبت هيبة الخلفاء، فعمد أصحاب الأطراف إلى الاستقلال بولاياتهم ، فتشعبت الدولة العباسية إلى فروع: فارسية، وتركية، وعربية، وكردية، وكلها تبايع الخليفة العباسي. فاستطرقنا بذلك إلى البحث في معنى الخلافة ونسبتها إلى السلطة من أول الإسلام إلى الآن.
ثم انتقلنا إلى العصر العربي الثاني، فذكرنا نقمة العرب على العباسيين منذ أهملوهم وأسقطوهم من الديوان، وأضفنا إليها نقمة العلويين والأمويين، وكيف ظهرت الدولة الأموية في الأندلس، والفاطمية في مصر، لمقاومة الدولة العباسية، وأوشك الفاطميون - وهم علويون - أن يتغلبوا على العباسيين، لو لم يقف السلاجقة في سبيلهم. على أن الفاطميين ما لبثوا أن تضعضعوا وغلبهم الأكراد على دولتهم، وأولهم صلاح الدين، فأعاد البيعة إلى العباسيين، وانقضى هذا العصر وقد تضعضعت المملكة الإسلامية وانقسمت على نفسها، وطمع فيها أعداؤها المحيطون بها، فجاءها المغول وهي في تلك الحال، فاكتسحوها وزادوها ضعفا واختلالا، وهو العصر المغولي، وبه ينتهي هذا الجزء.
وقد بذلنا الجهد في تمحيص الحقائق وتحقيق الحوادث، بالاعتماد على أوثق المصادر وأصح الروايات، وتدبرنا ذلك واستخرنا من علل الحوادث وأسبابها ما نظنه الأقرب إلى الصواب، ملتزمين الصدق والإخلاص والإنصاف، والله حسبنا ونعم الوكيل.
1
وسيكون موضوع الجزء الخامس حضارة المملكة وأبهة الدولة وآداب الاجتماع، وبه ينتهي الكتاب.
العصر العربي الأول
من ظهور الإسلام حتى سنة 132ه/749م
تمهيد في العرب قبل الإسلام
نريد بهذا العصر المدة التي كانت فيها الدولة الإسلامية في أيدي العرب، وكانت سياستها عربية وقوادها عربا وعمالها عربا، وكانت السيادة فيها للعنصر العربي. والعصر المذكور يبتدئ بالإسلام وينقضي بانقضاء الدولة الأموية. وهو ينقسم إلى دولتين: دولة الراشدين، ودولة الأمويين، ولكل منهما أحكام خاصة بها في السياسة وشؤون الحكومة سيأتي بيانها. ولا بد لنا تمهيدا لذلك أن نأتي بفذلكة في حال العرب قبل الإسلام، من حيث ما يهمنا بيانه في هذا الباب ... (1) البدو والحضر
البدو أهل البادية، والحضر أهل المدن. والبداوة أقدم من الحضارة؛ لأنها أقرب منها إلى الفطرة الطبيعية. فالإنسان كان في أول أدواره بدويا يحترف الزراعة والفلاحة، أو ينتحل القيام على تربية الحيوان من الغنم والبقر والماعز أو النحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها ، مما لا تتسع له المدن من المزارع للغرس والمراعي للمرعى. فالتجأوا إلى السهول والبراري، وكان همهم بلوغ الضروري من القوت والسكن والدفء بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويمكن من مواصلة العيش. فلما تقدمت أحوالهم وحصلوا على ما هو أكثر من ذلك من أسباب الغنى والرفاهية، عمدوا إلى السكون والدعة وتأنقوا وتمدنوا وأترفوا.
فالبداوة تقوم إما على الفلاحة والزرع، أو على تربية الحيوان. فالبدو أهل الفلاحة مضطرون للاستقرار في مواطنهم ينتظرون الغلة وهم سكان المداشر. والقرى والجبال، وكانوا قليلين في بادية العرب. وإنما يكثر هذا الصنف من البدو في بلاد البربر بشمالي أفريقيا، وفيما يجاور المدن العامرة بمصر وفارس والشام وغيرها. وأما البدو الذين يحترفون تربية الحيوان فدأبهم الظعن والارتحال، لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم. وهم صنفان: أهل سائمة، وأهل إبل. فأهل السائمة هم القائمون على الشاء والبقر، ولا يبعدون في القفر لقلة المراعي الطيبة، ويقال لهم: الشاوية نسبة إلى الشاء. وهؤلاء مثل البربر في شمالي أفريقيا، والترك وإخوانهم التركمان والصقالبة، وغيرهم ممن يقطنون بوادي تركستان وخراسان ونحوهما. •••
وأما أهل الإبل فأشهرهم بدو العرب، وهم أكثر ظعنا وأبعد في القفار مجالا من أهل السائمة؛ لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا تستغني بها الإبل في قوام حياتهم عن مراعي الشجر بالقفار، وورود مياهه الملحة والتقلب في فصل الشتاء في نواحيه فرارا من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلبا لما خض النتاج في رماله؛ لأن الإبل أصعب الحيوانات فصالا ومخاضا وأحوجها في ذلك إلى الدفء. فاضطروا إلى إبعاد النجعة والإيغال في القفار، فهم ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه، والمفترس من الحيوان، لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وقيامهم بالدفاع عن أنفسهم. فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون في الطرق، ويتجافون عن الهجوع، إلا غرارا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتفردون في القفار والبيداء واثقين ببأسهم، حتى صار البأس لهم خلقا، ولذلك كان أكثر البدو توغلا في القفار أشدهم بأسا وأصبرهم على المشاق.
فسكان جزيرة العرب معظمهم من البدو الرحل؛ ولذلك كانت المدن قليلة في تلك الجزيرة، ولا سيما في أواسطها. وأشهر المدن العربية قبل الإسلام مكة والمدينة والطائف في الحجاز، ومأرب وصنعاء في اليمن. وسكانها أخلاط من العرب والفرس والأحباش واليهود وغيرهم، يرتزقون بالبيع والشراء على من يفد عليهم من أهل البادية. (2) العصبية العربية قبل الإسلام
قلنا: إن العرب جمهورهم من البدو، والعصبية ضرورية لأهل البادية؛ لأن الناس مفطورون على المطامع، ودأبهم التخاصم والتنازع، فأهل المدن يدفع عدوانهم الحكام وأهل الدولة من أن يظلم بعضهم بعضا، وهي أيضا تدفع غارات الأعداء بما تقيمه من الأسوار وتعده من الجند والسلاح. وأما البدو فيحكم بينهم مشايخهم وكبراؤهم، بما وقر في نفوس أهل القبيلة أو الحي من الوقار لهم ... وإكرام السن من تقاليد البدو. وإذا سطا عليهم عدو في منازلهم قام بالدفاع عنها فتيانهم وشجعانهم، وهؤلاء لا يصدق دفاعهم إلا إذا كانوا عصبية تشتد بها شوكتهم ويخشى جانبهم.
وأهل البلد الواحد، أو المصلحة الواحدة، لا بد لهم من جامعة تجمع بين أفرادهم. والجامعة تختلف في الأمم باختلاف أحوالهم، فبعض الأمم يجمعهم الوطن، وآخرون يجمعهم الدين، وغيرهم يجمعهم النسب أو اللغة. وقد رأيت أن البدو لا وطن لهم، وكانوا قبل الإسلام لا دين لهم، فلم يكن لهم ما يجمعهم غير العصبية واللغة، وهما متلازمتان خصوصا في البداوة؛ لذلك عني العرب بحفظ أنسابهم وضبطها، وتفاخروا بها، وبالغوا في استقصائها، حتى ردوها إلى الآباء الأولين.
فأقرب أسباب العصبية عندهم الأخوة والأبوة والعمومة، ومنها تتألف العائلة أو الأسرة، ومن العائلات تتألف الفصيلة، كآل أبي طالب وآل العباس مثلا، فإن كلا منهما فصيلة مؤلفة من عائلات، وكلاهما من بني هاشم. ومن الفصائل تتألف الأفخاذ، مثل بني هاشم وبني أمية، وكلاهما من بني عبد مناف. ومن الأفخاذ تتألف البطون، مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، وكلاهما من قريش. ومن البطون تتألف العمائر (جمع عمارة) مثل بني قريش وبني كنانة، وكلاهما من مضر. ومن العمائر تتألف القبائل، مثل ربيعة ومضر، وكلاهما من عدنان. ومن القبائل يتألف الشعب، وهو النسب الأبعد، مثل عدنان وقحطان. (3) أنساب العرب
والذي عليه النسابون أن سكان جزيرة العرب قبل الإسلام يرجعون في أصولهم إلى قسمين: العرب البائدة، والعرب الباقية. فالقبائل البائدة هي التي بادت وضاعت أخبارها قبل ظهور الإسلام، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وجرهم وجاسم. وقد بحثنا بحثا تحليليا في نسب هذه القبائل وأماكنها في مقالة نشرت في الهلال العشرين من السنة الخامسة لا محل لها هنا. وأما العرب الباقية فهي القبائل التي ظهر الإسلام وهي موجودة ، فقامت به ونشرته وأنشأت الدولة الإسلامية. والقبائل الباقية فرقتان، ترجع كل منهما إلى أب واحد يضمها وطن تنسب إليه: الفرقة الأولى القحطانية، وترجع في أنسابها إلى قحطان وهو يقطان الذي ينتهي نسبه إلى أرفكشاد (أبو أرفخشد) من آباء التوراة، ومقر القبائل القحطانية في اليمن؛ ولذلك عرفت أيضا بالقبائل اليمنية أو عرب اليمن. والفرقة الثانية العدنانية، نسبة إلى عدنان من بعض أعقاب إسماعيل بن إبراهيم الخليل وتعرف أيضا بالإسماعيلية، ولما كان مقر أكثرها في الحجاز ونجد عرفت بالقبائل الحجازية، أو بعرب الحجاز ونجد أو عرب الشمال.
ولكل من القحطانية والعدنانية فروع من القبائل والعمائر والبطون والأفخاذ والفصائل لا يحصيها عد ولا محل لذكرها، ولكننا نأتي بما يهمنا منها في هذا المقام - فالعرب القحطانية أقدم من العدنانية، أو تمدنت قبلها على الأقل، ومنها بنو حمير الذين أنشأوا تمدنا في اليمن، ومنهم الملوك التبابعة وآثارهم في حضر موت وخرائب اليمن، لا يزال أكثرها مدفونا في الرمال وعليه نقوش بالقلم المسند. وقد تفقد آثار ذلك التمدن غير واحد من المستشرقين، ولكنهم لم يتمكنوا من الاطلاع على شيء كثير لصعوبة السلوك في تلك القفار. على أن بعضهم ألف الكتب في هذا الموضوع، وذهب إلى أن التمدن اليمني أقدم من التمدن المصري، وأن الفراعنة أخذوا أصول تمدنهم عن أولئك العرب القحطانية. والمظنون أن ملكة سبأ التي زارت سليمان الحكيم نحو القرن العاشر قبل الميلاد إنما هي من ملوك هذه الدولة. •••
وما زال اليمنية في بلاد اليمن وحضرموت، حتى كان سيل العرم أو انبثاق السد المعروف بسد مأرب. وهو عبارة عن حائط كان موصلا بين جبلين، يحجز الماء الذي كان يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما. بناه بعض ملوك تلك الدولة بناء متينا، فصبر على صدمات الماء وتأثير الهواء عدة قرون. فلما دنا القرن الثاني للميلاد (تقريبا) وكانت الدولة قد شاخت، أحسوا بقرب سقوط السد، فخافوا الطوفان والقحط، فنزحوا من ذلك المكان وتفرقوا في البلاد، بحسب قبائلهم وبطونهم، ومنهم بنو غسان في الشام، وبنو لخم في العراق، وبنو الأوس والخزرج في المدينة، والأزد في منى، وخزاعة بجوار مكة. ثم انفجر السد فهاجر من بقي هناك من القبائل اليمنية. وفي نحو القرن الخامس للميلاد استولى الأحباش على بلاد اليمن، ثم جاء الفرس فأخرجوا الأحباش وضموا اليمن إلى مملكتهم. وجاء الإسلام واليمن من أعمال مملكة الفرس.
فلما ظهر الإسلام، كانت دولة العرب القحطانية قد دالت، وهم الحضر وسكان المدن. وأما البدو القحطانية فكانوا لا يزالون كثيرين، غير من بقي من القحطانية الحضر في يثرب وغيرها من مدن الحجاز واليمن. وإليك أشهر القبائل القحطانية عند ظهور الإسلام وهي: سبأ وحمير وكهلان والأزد ومازن وغسان والأوس والخزرج وخزاعة وبجيلة وخثعم وهمدان وطيء ولخم وكندة وقضاعة وكلب وتنوخ ومراد والأشعر وغيرها. •••
وأما القبائل العدنانية، أو عرب الحجاز ونجد أو عرب الشمال، فلم يظهروا قبل الإسلام إلا قليلا، ولم ينشؤوا دولة إلا بعد الإسلام. وهم قبائل عديدة، مواطنهم غالبا في نجد والحجاز والعراق وتهامة، وكلها بادية رحالة إلا قريشا فقد كانوا حضرا يقيمون في مكة، وبعض أهل الطائف. وأعظم القبائل العدنانية قبيلة «معد»، ومنها تسلسلت قبائل عدنان كلها، ويقال: أنه كان معاصرا لأرميا النبي.
1
وتفرع من معد إياد ونزار، وسكنت إياد العراق وتشعبت إلى بطون وأفخاذ. وأما نزار ففيها العظمة والقوة، ولها الفضل الأعظم على العرب؛ لأن منها جاءهم النبي
صلى الله عليه وسلم . وانقسمت نزار إلى قبيلتي ربيعة ومضر، فسكنت ربيعة في جزيرة العراق، ومن بطونها ضبيعة وأسد وعنزة وجديلة والنمر وتغلب وبكر بن وائل وغيرهم. وأما مضر بن نزار فهم أهل الكثرة والغلب بالحجاز، أكثر من سائر بني عدنان، وكانت لهم الرياسة بمكة. ومن مضر تشعبت عدة عمائر من جملتها قريش، وتشعبت قريش إلى 25 بطنا من جملتها بنو عبد مناف، ومنهم بنو هاشم رهط النبي
صلى الله عليه وسلم ، وبه شرفت مضر بعد الإسلام على سائر العرب قحطانيها وعدنانيها.
وأشهر القبائل العدنانية، غير ما تقدم، خزيمة وكنانة والنضر وشيبان وقيس وهوازن وسليم وغطفان وذبيان وثقيف وكلاب وعقيل وتميم وهلال وباهلة ومخزوم وأمية وعبد القيس وغيرها، وبعضها فروع للبعض الآخر. ولكل قبيلة أو عمارة شؤون خاصة وحكومة خاصة وشارة خاصة. ولكل منها سمة خاصة تمتاز بها عن سائر القبائل، تعرف بها رايتها وتسم بها أبلها، أي: تنقش عليها علامة خاصة بها كيا بالنار يقال لها: الميسم
2
وكانت القبيلة تمتاز بشيء تعرف به ويذاع بين القبائل خبره، وتفاخر به سواها. فكانت مضر مثلا تفتخر بفصاحتها، وربيعة تفتخر بفروسيتها ونجدتها
3
واشتهر بعض القبائل بالعز والمنعة دون سواها، كقبيلة بهدلة من العدنانية، فقد ذكروا أن العز والقوة تسلسلا إليها من معد إلى نزار فمضر فخندف فتميم فسعد فكعب فعوف فبهدلة. (3-1) عصبية النسب
وبين القبائل، أو أفخاذها أو بطونها أو عمائرها، عصبية النسب تجمعها بعضها على بعض - الأقرب فالأقرب إلى الأبعد فالأبعد. فتجتمع الفصيلتان من الفخذ الواحد على فخذ آخر ولو كانوا جميعا من بطن واحدة، وتجتمع البطنان من عمارة واحدة على عمارة أخرى ولو كانوا جميعا من قبيلة واحدة، على حد قول المثل: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، فالقحطاني يتعصب على العدناني وهذه أوسع العصبيات، ثم إن القبائل يتعصب بعضها على بعض. والعمائر من قبيلة واحدة تتعصب بعضها على بعض، ويقال نحو ذلك في البطون من عمارة واحدة، أو الأفخاذ من بطن واحدة، حتى تصل إلى الفصائل والعائلات. فبنو العباس وبنو أبي طالب مثلا تخاصما، وكلاهما من بني هاشم، وبنو هاشم وبنو أمية تخاصما، وكلاهما من بني عبد مناف، وقس على ذلك.
وكل من القبائل أو البطون أو الأفخاذ يفاخر سواه بحسنات قومه ويذكر مثالب الآخرين. ولهم في ذلك مفاخرات يطول بنا شرحها. على أن أشهر حوادث المنافسة بين العرب إنما هو بين القبائل القحطانية (أو اليمنية) والقبائل العدنانية، وقد يرد ذكر ذلك في التاريخ ولا ينتبه له القارئ؛ لأنهم قلما يذكرون انتساب القبائل إلى إحدى هاتين العصبيتين فيقولون مثلا: «انتشبت الحرب بين قيس وكلب»، ولا يذكرون أن قيسا من العدنانية وكلبا من القحطانية، لاعتقادهم أن القارئ يعرف ذلك . وقس عليه قولهم: تفاخرت قحطان ونزار، أو معد واليمن، أو مضر وحمير، أو هوازن وكهلان، أو قيس وهمدان، أو نحو ذلك. (4) العرب والعجم قبل الإسلام
على أن العرب القحطانية والعدنانية يجتمعون على غير العرب من الفرس أو الترك ويسمونهم «العجم»، ويفاخرونهم بالأنساب واللغة ويحتقرونهم، وقد شقوا من اسمهم لفظ الأعجم للدلالة على الخرس، أو أن العجم مشتق من العجمة، فالعجمي عندهم غير العربي، والأعجم الأخرس
4
والأخزر عندهم الذي في عينه ضيق، وهذا وصف العجم وهو عند العرب من النقائص، فإذا قيل للعربي: يا أخزر عد ذلك القول إهانة؛ لأنه أخرجه من العرب. على أن العجمي في الأصل الفارسي، والعجم الفرس؛ لأن الفرس أقدم من خالط العرب من الأمم الغريبة عن لسانهم، ثم أطلقوا لفظ العجم على كل أجنبي غير عربي.
والمنافسة بين العرب والعجم قديمة، فإن الفرس في أيام دولتهم كثيرا ما كانوا يخرجون العرب من بلادهم بالسيف، والعرب كانوا يسطون على مدن الفرس حتى في أيام سابور قبل الإسلام ببضعة قرون، وكان هذا قد تعمد أذى العرب وإخراجهم من بلاده، وخصوصا قبيلة إياد، وفيه يقول الشاعر:
على رغم سابور بن سابور أصبحت
قباب إياد حولها الخيل والنعم
ولكنه تمكن منهم بالقوة والجند، فقتل منهم خلقا كثيرا، ومن أفلت لحق بأرض الروم. وفعل نحو ذلك ببني تميم في البحرين. وما زالت الضغائن بين العرب والفرس، حتى اضطر عرب اليمن إلى استنجاد كسرى على الأحباش في القرن الخامس للميلاد، فأرسل جندا أخرجوا الأحباش واحتلوا مكانهم وحكموا العرب، إلى أن جاء الإسلام وتحول السلطان إلى العرب فتسلطوا على العجم، فكبر ذلك عليهم وخصوصا في أيام بني أمية لتعصبهم على غير العرب. ونشأت فرقة الشعوبية للطعن في العرب وسيأتي بيان ذلك. (5) الأمومة والخؤولة
الأصل في العصبية عند العرب الأبوة أو الانتساب إلى الأب، مثل سائر الأمم الراقية، على أن الأمومة كان لها شأن كبير عندهم، وكثيرا ما كانت المزاوجة أو المصاهرة سببا كبيرا للعصبية، ليس ذلك لعلو منزلة المرأة على الإجمال، وإنما الفضل فيه للأمومة، فإن المرأة كانت لا تزال محتقرة حتى تصير أما ... فتعلو منزلتها وتشتد عرى الاتحاد بها. فالرجل منهم يفضل أمه على امرأته؛ لأن الأم في اعتقاده أبقى له من امرأته. ومن أمثلة ذلك أن صخر بن عمرو بن الشريد - أخا الخنساء - لما حضر محاربة بني أسد، طعنه ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه، وبقي صخر مدة في أشد ما يكون من المرض، وأمه وزوجته سليمى تمرضانه، فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة فسألتها عنه فقالت: «لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى»، فسمعها صخر فأنشد قصيدة قال منها:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي
وملت سليمى مضجعي ومكاني
وأي امرئ ساوى بأم حليلة
فلا عاش إلا في شقا وهوان
5
وكانت العرب من أجل ذلك لا يعزون في المرأة إلا أن تكون أما
6
ولم يكن ذلك خاصا بحال المرأة عند العرب، فقد كان هذا شأنها أيضا عند اليونان، لأنهم كانوا يعدون المرأة أمة يحجبونها قبل الزواج وبعده، وتشتغل بأشغال البيت من الحياكة والغزل وتمريض المرضى. وكذلك كان يفعل الفرس بنسائهم، فإذا صارت المرأة أما علت منزلتها وصار إليها الأمر والنهي في بيتها، ولا يزال هذا دأب أهل البادية إلى اليوم. ونشأت من ذلك عصبية الخؤولة عند العرب، وهي نصرة عشيرة الأم لأولادها، وبعبارة أخرى لعشيرة زوجها، ولو كان الأب من قبيلة يمنية والأم من قبيلة عدنانية، أو بالعكس. •••
وكان للخؤولة شأن عظيم عند العرب قبل الإسلام، وأقرب الشواهد عليها نصرة أهل المدينة للنبي
صلى الله عليه وسلم
في هجرته إليهم، فإن الخؤولة كانت من أهم أسباب نصرتهم؛ لأن أم النبي من بني النجار من الخزرج وهي قبيلة قحطانية، وأبوه من قريش وهي قبيلة مضرية. فلما توفي والده ذهبت به أمه إلى المدينة؛ لكي تلتجئ إلى أخواله بني النجار وهم كثيرون، وكانوا من أقرب أهلها إلى التدين، وقد ترهب أحدهم في الجاهلية، ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، واتخذ بيته مسجدا . فأقامت عندهم على الرحب والسعة، ثم ذهبت به إلى أعمامه في مكة وماتت على الطريق. فلما قام بدعوته وقاسى ما قاساه من اضطهاد أعمامه، هاجر إلى أخواله في المدينة، وأهلها يعرفون ذلك فيه؛ لأن خؤولة بني النجار جعلت الخزرج كلهم أخواله، فلما نزل المدينة رحب به أهلها، وكان أول من تابعه منهم أخواله أو من يمت إليهم بقرابة. وكانوا أشد أهل المدينة غيرة عليه ودفاعا عنه
7
ثم تهافت أهل المدينة إلى مبايعته. وكان في أثناء غزواته إذا اشتد القتال جلس تحت راية الأنصار
8
وهم يستهلكون في سبيل نصرته؛ ولا سيما آل النجار. وكان أعداء الأنصار إذا هجوهم خصوا بني النجار منهم بالذكر، لتصدرهم في ذلك أكثر من سائر أهل المدينة. فمن قصيدة قالها عمرو بن العاص يوم أحد وهو لم يسلم بعد:
خرجنا من الفيفا عليهم كأننا
مع الصبح في رضوى الحبيك المنطق
تمنت بنو النجار جهلا لقاءنا
لدى جنب سلع والأماني تصدق
فما راعهم بالشر إلا فجاءة
كراديس خيل في الأزقة تمرق
9
وظلت الخؤولة مرعية عند العرب بعد الإسلام، وكان لها تأثير كبير في العصبية وسياسة الدولة. فلما طلب معاوية الخلافة، بحجة المطالبة بدم عثمان بن عفان، نصره بنو كلب وهم يمنية؛ لأن نائلة امرأة عثمان منهم وقد تلطخت أصابعها بالدم. وكان لنصرتهم دخل كبير في قيامه، وتزوج هو واحدة منهن ولدت له ابنه يزيد. ولما أفضت الخلافة إلى يزيد، كان الكلبية من حزبه؛ لأنهم أخواله، وأمثال هذه الشواهد كثيرة في تاريخ الإسلام، منها أن المأمون نصره الفرس؛ لأن أمه منهم، وكان أخوه الأمين ضده وحزبه عربي؛ لأن أمه عربية، فلجأ المأمون إلى خراسان وأقام بمرو عند أخواله، فأخرجوا الخلافة من يد الأمين وسلموها إليه. والمعتصم كانت أمه تركية وكان ميله إلى الأتراك كثيرا، وقد جندهم فنصروه على الفرس. وقس على ذلك تأثير الأم في الدولة، مما سيأتي تفصيله. وكان رجال السياسة والتدبير من الملوك والقواد يقوون أحزابهم بالتزوج من القبائل المختلفة، فيكتسبون عصبية قبائل نسائهم. (6) توابع العصبية العربية (6-1) الحلف
فعمدة العرب في العصبية جامعة النسب من الأب، ثم الأم. على أنهم كانوا يجتمعون بأسباب أخرى، كالحلف بين القبائل وهو يشبه المحالفات أو المعاهدات الدولية في هذه الأيام. وأشهر أحلاف الجاهلية حلف المطيبين، وحلف الفضول. فالحلف يجمع بين القبائل ولو تباعدت أنسابها من القحطانية والعدنانية. وقد يكون التحالف بين العرب وغير العرب ممن ينزلون بينهم، وهو من قبيل الولاء، كاليهود الذين نزلوا المدينة من بني النضير وبني قينقاع وغيرهم، ومنهم حلفاء الأوس والخزرج، وكان أهل وادي القرى حلفاء بني هاشم، وسيأتي ذكرهم في الموالي.
وللتحالف أو الحلف عندهم شروط وأسباب، منها أن يكون الحليف أسيرا لا يستطيع فداء نفسه، فيسمونه بسمة تلك القبيلة فيعد حليفا لها
10
والحليف يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها،
11
أما إذا قتل فديته نصف دية الصريح.
12 (6-2) الاستلحاق
ومن توابع العصبية العربية قبل الإسلام الاستلحاق، وهو أن يدعي الرجل رجلا يلحقه بنسبه، وقد يكون عبدا أو أسيرا أو مولى، فيسميه مولاه وينسبه إليه. ومن أشهر حوادث الاستلحاق في الجاهلية، أن أمية جد بني أمية كان له عبد اسمه ذكوان، استلحقه بنسبه وكناه أبا عمرو، فصار اسمه عندهم أبا عمرو بن أمية، ومن نسله جاء الوليد بن عقبه أخو عثمان بن عفان لأمه، وكان من جلة الصحابة.
وأشهر حوادث الاستلحاق في الإسلام استلحاق زياد بن أبيه بأبي سفيان والد معاوية داهية العرب، وقصة استلحاقه مشهورة في كتب التاريخ. وكان زياد هذا ابن امرأة اسمها سمية، وكانت جارية، فولدت زيادا من غلام رومي من موالي ثقيف اسمه عبيد، ولم يكن ذلك مشهورا عند العرب، فكانوا يعتبرون زيادا مجهول الأب فسموه «زياد بن أبيه»، فلما طلب معاوية الخلافة واحتاج إلى من ينصره، قرب إليه جماعة من دهاة العرب ومنهم زياد المذكور، واختص زيادا بالاستلحاق، فاستشهد خمارا من أهل الطائف اسمه أبو مريم السلولي، فشهد أن أبا سفيان جاءه والتمس منه بغيا فأتاه بسمية فحملت منه بزياد، وثقات المؤرخين ينكرون ذلك ويعتقدون أن معاوية اختلق هذه القصة ليكتسب نصرة زياد، وقد تم له ما أراد. فسمى زياد من حينئذ «زياد بن أبي سفيان» بعد أن كان يعرف بزياد بن أبيه أو ابن سمية
13
وما زال آل زياد معدودين من قريش، حتى ردهم المهدي سنة 160ه إلى نسب عبيد المذكور، وصاروا من موالي ثقيف
14
ومثل هؤلاء آل أبي بكرة، فقد كانوا من موالى النبي
صلى الله عليه وسلم
وألحقوا بثقيف، فردهم المهدي إلى أصلهم.
وكانوا يسمون المستلحق «دعيا»، وقد يكون الرجل دعي أدعياء فيكون هو دعيا في رهطه ورهطه دعي في قبيلة مثل ابن هرمة، فقد كان دعيا في الخلج والخلج أدعياء في قريش، وكثيرا ما كانوا يستلحقون الرهط أو العشيرة دفعة واحدة، لنزولهم فيهم أو لنصرتهم إياهم، كما أصاب بني العم من أهل البصرة، فإنهم نزلوا ببني تميم في أيام عمر بن الخطاب، فأسلموا وغزوا مع المسلمين فقالوا لهم: «أنتم وإن لم تكونوا من العرب إخواننا وأهلنا، وأنتم الأنصار وبنو العم»، فلقبوا بذلك وصاروا من جملة العرب.
15 •••
وكانوا يعدون الدعي من أنفسهم، ويورثونه كما يورثون الابن الصريح
16
ويرثونه، وكثيرا ما كان العرب يرغبون في استلحاق مواليهم، رغبة منهم في أن يرثوهم، وقد يأبى المولى أن يلحقوه إذا عرف غرضهم، كما أصاب نصيبا المغني المشهور، إذ أراد مواليه أن يلحقوه بنسبهم فأبى وقال لهم: «والله لأن أكون مولى لائقا أحب إلي من أن أكون دعيا لاحقا، وقد علمت أنكم تريدون مالي».
17
ومن أسباب العصبية عندهم مما يشبه الحلف «المؤاخاة»، وقد تكون بين القبائل أو بين الأفراد، ولا تزال هذه العادة شائعة بين البدو إلى الآن، فإذا آخيت العربي أخذ بناصرك وحماك ودافع عنك كأنك أخوه. (6-3) الخلع
وضد الاستلحاق عندهم «الخلع»، فكان الرجل إذا ساءه أمر من ابنه، سواء كان صريحا أو دعيا خلعه، أي: نفاه عن نفسه فيتخلص من تبعة ما قد يرتكبه الولد من المكروه، وقد تفعل ذلك القبيلة أو العشيرة، فيذهب جماعة منها إلى سوق عكاظ ومعهم المراد خلعه، ويشهدون على أنفسهم أنهم خلعوه، ويبعثون مناديا بذلك فلا تحتمل القبيلة جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه. كما فعلت خزاعة بقيس بن الحدادية الشاعر الجاهلي
18
وقد يكتبون بالخلع كتابا.
ومن أشهر حوادث الخلع قبل الإسلام خلع عمرو بن العاص من عشيرته، وكان قد ذهب إلى الحبشة بتجارة في الجاهلية مع عمارة بن الوليد المخزومي واختصما في الطريق، فأساء عمارة إلى عمرو فأضمر له الشر، وعمرو من بني سهم فكتب إلى أبيه أن يخلعه ويتبرأ من جريرته إذا أذى عمارة ففعل، فخلعت كل من العشيرتين صاحبها وأرسلوا بذلك مناديا إلى مكة.
19
وكان الخلعاء في البادية كثيرين، يجتمعون ويؤلفون عصابات من الصعاليك يقطعون السبل ويتمردون على القبيلة. فلما جاء الإسلام أصبح تمردهم على الحكومة. فقد كان يعلي الأحول من شعراء الدولة الأموية خليعا، يجمع صعاليك الأزد وخلعاءها فيغير بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على السابلة. وكان بين تجار الرقيق من يبتاع الخلعاء ويذهب بهم إلى بلاد الروم. (7) العبيد في الجاهلية (7-1) الاسترقاق
الاسترقاق قديم مثل قدم الإنسان؛ لأن الإنسان مفطور على الاستبداد، والقوي يستعبد الضعيف. وكان الإنسان في أول عهد العمران إذا غلب عدوه وقبض عليه لا يستعبده بل يقتله، إلا النساء فقد كانوا يستبقونهن للاستمتاع بهن. ثم صاروا يستعبدون الأسرى ويستخدمونهم في حرث الأرض ورعاية الماشية، أو نحو ذلك من الصناعات، أو يبيعونهم بيع المتاع. ذلك كان شأنهم في عهد التمدن القديم في مصر وأشور وبابل. وكان للاسترقاق سوق رائجة في الدولة الرومانية، فكانوا يأتون بالأسرى بالمئات والألوف، ويبيعونهم بيع الأغنام ويعاملونهم معاملة الحيوانات. ولما انتظم حال تلك الدولة، صاروا يتزوجون بالجواري، وبعد أن كان الروماني يتصرف بعبيده كما يشاء من قتل أو جلد، أصبح قصاصه منوطا برأي القضاة، وإذا بالغ السيد في ظلم عبده حكم القضاة عليه.
على أن العبيد ما زالوا كثيرين في المملكة الرومانية، لا يخلو منهم بيت، وأكثرهم من الأسرى أو أبنائهم، يستخدمونهم في المنازل ويعلمونهم الصناعات على اختلاف ضروبها، ويبيعونهم في أسواق خاصة بالرقيق. ويختلف ثمن العبد عندهم من عشرين ريالا رومانيا إلى أربعة آلاف ريال، ويقال نحو ذلك في سائر الممالك القديمة. فالفرس مثلا كانوا يستعبدون الأتراك في الحرب ويتهادونهم، وقد يتهادون أبناء الأمراء منهم. ومما ذكره التاريخ من ذلك أن أبرويز ملك الفرس أهدى إلى موريقس
Mouricius
ملك الروم مائة غلام من أبناء أراكنة الترك في غاية الحسن والجمال، في آذانهم أقراط من الذهب فيها الدر واللؤلؤ، في جملة هدايا أخرى. فأهداه ملك الروم هدية فاخرة، في جملتها عشرون جارية من بنات ملوك برجان
Burgundians
والجلالقة
Gallicians
والصقالبة
Sclavs
والوشكنس
Gascons
من الأجناس المجاورة لبلاده على رؤوسهن أكاليل الجوهر.
20 (7-2) العبيد عند العرب
والعرب أيضا كانوا يستخدمون العبيد من أسرى الحرب، أو ممن يبتاعونهم من الأمم المجاورة لجزيرتهم، كالحبشة وما حولها من الأمم المتوحشة. فكان النخاسون يحملون العبيد والإماء من تلك البلاد وغيرها إلى جزيرة العرب، يبيعونهم في أسواقها في المواسم، وكانت قريش تتجر بالرقيق مثل اتجارها بسائر السلع. ومن أشهر النخاسين في الجاهلية عبد الله بن جدعان التيمي رئيس قريش في حرب الفجار،
21
فإذا اشترى أحدهم عبدا وضع في عنقه حبلا وقاده إلى منزله
22
كما تقاد الدابة. وإذا كان العبد أسير حرب جزوا ناصيته وجعلوها في كنانتهم حتى يفتدي نفسه. وكانوا يبتاعون الأرقاء ويتهادونهم ويتوارثونهم مثل سائر الأمتعة، إلا إذا دبر المولى عبده أي: قال له: «أنت حر بعد موتي» فإنه يكون حرا. وقد يخرجون العبيد في جملة صداق العرائس، وممن أخرج في الصداق بشار بن برد الشاعر الإسلامي الشهير، فإنه كان هو وأمه لرجل من الأزد تزوج امرأة من بني عقيل فساق إليها بشارا وأمه في صداقها.
23
وذلك يدل على كثرتهم، ولا سيما عند الأمراء والملوك حتى ليزيدون على المئات والألوف. فقد وفد ذو الكلاع ملك حمير على أبي بكر ومعه ألف عبد غير من كان معه من عشيرته.
24
ولم يكن شريف من أشراف العرب يخلو منزله من عبيد يستخدمهم في قضاء حاجات منزله، فعبد الله بن أبي ربيعة كان له عبيد من الحبشة يقومون بجميع المهن، وكان عددهم كثيرا وفيهم من يخرج للحرب . وقلما كانوا يثقون بأمانتهم
25
على أنهم كانوا يستعينون بهم في القتال، وكان لذلك شأن بعد الإسلام. وكانوا يجعلون الحد على العبد نصف ما على الحر
26
وإذا شهد حربا لا يضرب لهم بسهم
27
بل يكون سهمه لسيده.
وكان من أصناف العبيد عندهم «القن»، وهو العبد الذي يعمل في الأرض ويباع معها ويشبه ما يعرف باسم
Cerf
في المملكة الرومانية. ومن العبيد من يدخل الرق بالمقامرة، كما اتفق لأبي لهب مع العاصي بن هشام، فإنهما تقامرا على أن من قمر كان عبدا لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه إبله
28
وكانوا يسترقون المدينين أيضا.
وكانت العرب تتزوج الإماء، فإذا ولد لهم منهن أولاد استعبدوهم، فإذا أنجب أحدهم ألحقوه بأنسابهم واعترفوا به وإلا بقي عبدا. وأشهر حوادث الاستلحاق على هذه الصورة إلحاق عنترة العبسي بأبيه شداد، وهو ابن جاريته زبيبة. وكان شداد نفاه فلما أنجب ألحقه بنسبه
29
وقصته مشهورة. وكان العرب قبل الإسلام لا يعتقون عبيدهم إلا لسبب هام. وإذا أحب العبد العتق، استباع أي: طلب البيع، فإذا رضي صاحبه باعه لسواه. أما بعد الإسلام فقد كثر الإعتاق لحكمة سياسية دينية سيأتي ذكرها. (8) الموالي في الجاهلية
المولى عند العرب وسط بين العبد والحر، والغالب فيه أن يكون عبدا معتقا، فكل عبد أعتق صار مولى، وهو يشبه ما كان في الدولة الرومانية من العبيد المحررين ويسمونهم
Libertines
وكل عبد أو أسير أعتقه صاحبه فهو مولى له، وينسب إليه أو إلى قبيلته أو رهطه. فمولى العباس مثلا هو مولى بني هاشم، وهو أيضا مولى قريش ومولى مضر . وقد ينسب المولى إلى بلد معتقه، فيقال: فلان مولى أهل المدينة، أو مولى أهل مكة. والمولى عندهم كالقريب، ولكنهم يسمون قرابة الأهل صريحة وقرابة المولى غير صريحة. ويطلق المولى على الصاحب والقريب وابن العم والجار والحليف والابن والعم والنزيل والمحب والتابع والصهر وغير ذلك، وأكثرها يطلق على المولى بسبيل المجاز. وأما عند التحقيق فالموالي ثلاثة أنواع: مولى عتاقة، ومولى عقد، ومولى رحم. (8-1) مولى العتاقة
فمولى العتاقة هو الذي كان أسيرا أو عبدا وأعتق، وكانوا يعتقون الأسير مكافأة على إحسان، فيشترط الرجل على عبده مثلا إذا فعل كذا وكذا فهو حر، ويكون مولى لمعتقه، وكان لذلك تأثير كبير في صدر الإسلام؛ لأن المسلمين كثيرا ما كانوا يستعينون بالعبيد على أسيادهم بطريق الإعتاق. ومن أمثلة ذلك أن المسلمين لما حاصروا الطائف في السنة الثامنة للهجرة وكادت تمتنع عليهم، أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
مناديا فنادى: «أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله»، فنزل جماعة كبيرة
30
وقد يكون الإعتاق لسبب آخر.
إذا كان العبد من أسرى الحرب وأرادوا إعتاقه جزوا ناصيته وخلوا سبيله، فيصير مولى لمالك تلك الناصية. ومن قول حسان بن ثابت شاعر النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد واقعة أحد جوابا على قول هبيرة بن أبي وهب:
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت
أهل القليب ومن ألفينة فيها
كم من أسير فككناه بلا ثمن
وجز ناصية كنا مواليها
31 (8-2) المكاتبة
وقد يقع العتاق باتفاق بين العبد وصاحبه بالبيع، وهو ما يعبرون عنه بالمكاتبة، وذلك أن يكتب العبد على نفسه صكا بثمن إذا سعى وأداه عتق، وقد يجعل الدفع أنجما «تقسيطا»، فأبو سعيد المقري أحد كبار التابعين كان عبدا لرجل من جندع، وكاتبه على أربعين ألفا وشاة لكل أضحى فأداها.
32
قلنا: أن من أعتق عبدا كان ولاؤه له، ومعنى ذلك أنه يكون هو صاحب ولائه، فينسب إليه، وإذا مات كان هو وارثه. على أنهم كانوا يشترطون أحيانا ألا يكون ولاؤه لمعتقه، بل يكون لمن يؤدي ثمن المكاتبة. وقد تكون العتاقة «سائبة »، وهي أن يعتق العبد ولا ولاء له. فكان الرجل إذا قال لعبده: «أنت سائبة» يعتق ولا يكون ولاؤه لمعتقه، ويضع ماله حيث شاء. ومن أشهر المعتقين سائبة سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة، وأصله من اصطخر وكان مملوكا لبثينة امرأة أبي حذيفة، فأعتقته سائبة
33
على أن الإسلام نهى عن أن يكون الولاء لغير المعتق، فبريرة بنت سعود الثقفية دخلت على عائشة أم المؤمنين تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين، فقالت لها عائشة: «أرأيت إن عددت لهم عدة واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي؟» فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم، فقالوا: «لا، إلا أن يكون لنا الولاء». قالت عائشة: «فدخلت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فذكرت ذلك له فقال: اشتريها فاعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق»
34
إلا أن يشتري أحد ذلك الولاء من صاحبه فيصير الولاء إلى المشتري، كما أصاب أبا معشر أحد أصحاب الحديث، فقد كان مكاتبا لامرأة من بني مخزوم، فأدى وعتق ثم اشترت أم موسى بنت منصور الحميرية ولاءه.
35
ومن أسباب العتاقة عندهم التدبير، وذلك أن يقول الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي فلا يرثه أهله. (8-3) مولى العقد
ويقال له أيضا: مولى حلف أو اصطناع، وذلك أن ينتمي الرجل إلى رجل بالخدمة على اختلاف ضروبها، أو بالمحالفة أو المخالطة أو الملازمة على أن يتعاقب ذلك أجيالا. ومن أمثلة الموالي بالمحالفة أو المخالطة اليهود في يثرب (المدينة) فقد جاء الإسلام وهم يعدون من موالي الأوس والخزرج، فولاؤهم من قبيل الحلف، ولولاء اليهود في يثرب تاريخ يطول شرحه، خلاصته أن اليهود نزلوا قبل الميلاد ببضعة قرون وتوطنوها قبل أن ينتقل إليها الأوس والخزرج من عرب اليمن، فلما جاءوا إليها رأوا اليهود مستأثرين بالأرض والماشية فأقاموا في ضيق، حتى اتفق أن أميرا منهم اسمه مالك بن عجلان استشار ملك غسان بالشام في شأنهم، وكأنه استعانه عليهم فاتفقا على الكيد لهم. فجاء المدينة وفعل ذلك فذل اليهود وخافوا، وأصبحوا إذا داهمهم أحد من الأوس أو الخزرج بشيء يكرهونه، لا يمشون بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون من قبل، بل يذهب كل منهم إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيستجير بهم، فلجأ كل قوم من اليهود إلى بطن من الأوس أو الخرزج يتعززون بهم
36
ويحالفونهم على أنهم مواليهم، وفيهم من ينسب ولاءه إلى رهط خاص كموالي بني النجار أخوال النبي
صلى الله عليه وسلم
أو موالي غيرهم من عرب المدينة.
ومن هذا القبيل أكثر موالي العرب بعد الإسلام، فقد كان العرب أهل السيادة والشوكة، وأهل البلاد يلازمونهم بالخدمة أو المخالطة أو المعاشرة، فينسبون إليهم، ويسمون ذلك ولاء الموالاة، وهي أن يقول شخص لآخر: «أنت مولاي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا حييت»، فيقول الآخر: «قبلت». ولكل طبقة من العرب طبقة من الموالي، فقد كان البرامكة مثلا من موالي الرشيد، ومن هم دونهم من العجم موالي الأمراء، وهكذا.
وكان المولى في الجاهلية ربما كان نصرانيا أو يهوديا أو مجوسيا، لا فرق في ذلك عندهم، فموالي النبي
صلى الله عليه وسلم
كان أحدهم حبشي الأصل والآخر يوناني الأصل والآخر قبطي الأصل والآخر فارسي الأصل
37
وعدس مولى عتبة بن أبي ربيعة كان من أهالي نينوى وقتل يوم بدر على النصرانية
38
أما بعد ظهور الإسلام فأصبح الولاء خاصا بالمسلمين؛ لأن القرآن نهى عن تولي اليهود والنصارى بالآية:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
إلخ، وصاروا يعدون بعد الإسلام من أهل الذمة. (8-4) مولى الرحم
وأما مولى الرحم فيكتسب الولاء بالزواج من موالي بعض القبائل، فينسب إلى القبيلة التي تزوج من مواليها. ومن أمثلة ذلك سديف الشاعر، فقد كان مولى خزاعة، ثم ادعى ولاء بني هاشم؛ لأنه تزوج مولاة لآل أبي لهب (من بني هاشم).
39
وللموالي عند العرب أحكام عامة وأحكام خاصة، فأحاكمهم العامة أن المولى أحط منزلة من الحر وأرفع من العبد، فهو حر لا يباع كالعبد لكنه لا يعامل معاملة الحر في الزواج والميراث. فالمولى لا يتزوج حرة، ودية المولى نصف دية الحر
40
كأنه عبد. ويعامل نحو ذلك فيما يقع عليه من القصاص، فيجلد نصف حد الحر.
وأما أحكامهم الخاصة فتختلف باختلاف نوع الولاء، وأهمها الإرث، فمولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث، ومولى الرحم يرث ويورث
41
فمن أعتق عبدا كان الولاء له وهو يرثه؛ ولذلك يسمونه مولى النعمة. وكان الرومانيون يرثون ثلث ما يملكه مواليهم، أو يكتسبونه بالعمل أو غيره، وإذا لم يكن لهم من يرثهم من نسلهم ورثوا كل أموالهم.
42
وكان للموالي شأن في عصبية العرب قبل الإسلام، وقد عظم شأنهم في الإسلام، حتى كانوا سببا في قلب الممالك ونقل السلطة من دولة إلى دولة. (9) النزالة الأجانب في الجاهلية
كان معظم سكان جزيرة العرب من القبائل العدنانية والقحطانية ومن يتبعهم من العبيد والموالي والخلفاء ونحوهم، وفيها أيضا جماعة من النزالة نزحوا إليها من الحبشة والشام والعراق ومصر وفارس والهند، وفيهم الأحباش واليهود والروم والكلدان والعجم والهنود وغيرهم. وكان بعضهم يتوالدون فيها ويتزوجون بأهلها، فيختلطون بهم وتضيع أنسابهم فيهم، كالكلدان والسريان وغيرهم. وفيهم من يحالفونهم وينتمون إليهم كاليهود والنصارى، ومنهم من يدخلون في جملة عبيدهم ومواليهم كالأحباش والفرس والهنود، فتضيع أصولهم؛ ولذلك كان سكان جزيرة العرب عند ظهور الإسلام عربا صرفا، إلا بعض اليهود كبني قينقاع والنضير وغيرهم، وشرذمات من نصارى الروم، وطائفة من الفرس الأحرار يعرفون بالأبناء. (9-1) الأبناء
هم طائفة من الفرس كانوا يقيمون في بلاد اليمن، ويعرفون بأبناء الفرس الأحرار أو «الأبناء» تمييزا لهم عن الفرس الموالي. وأبناء الفرس الأحرار هم أبناء الجند الفارسي الذي جاء بلاد اليمن لنصرة سيف بن ذي يزن الحميري على الأحباش، وكان الأحباش قد فتحوا اليمن واستولوا عليها، ففزع سيف المذكور إلى كسرى ملك الفرس واستنجده في حديث طويل، فسير كسرى معه بضعة آلاف من جند الفرس ومعهم قائد اسمه وهرز. فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الواقعة بينهم وبين الأحباش، فاستظهر الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد، وملك سيف بن ذي يزن ووهرز أربع سنين. وكان سيف قد اتخذ من الأحباش خدما، فخلوا به يوما وهو في الصيد وقتلوه وهربوا في رؤوس الجبال، وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعا، وتضعضع أمر اليمن ولم يولوا عليهم أحدا من العرب، فظلت سيادة الفرس عليها حتى ظهر الإسلام، وفيها عاملان من قواد الفرس أحدهما اسمه فيروز الديلمي والآخر راذويه فأسلما.
فالجيش الفارسي لما استوطن اليمن تزوج رجاله فيها وتناسلوا، ورزقوا الأولاد والأحفاد وعرفوا بالأبناء. واشتهر منهم في صدر الإسلام طاوس بن كيسان أحد أعلام التابعين، ووهب بن منبه صاحب الأخبار والقصص، ووضاح اليمن الشاعر وغيرهم.
وكان مثل هؤلاء الفرس أيضا في الشام والعراق والجزيرة، واختلفت أسماؤهم باختلاف أماكنهم بعد الإسلام، فهم يسمون في اليمن الأبناء كما رأيت، وفي صنعاء خاصة يسمون بني الأحرار، وفي الكوفة الأحامرة، وبالبصرة الأساورة، وبالجزيرة الحضارمة، وبالشام الجراجمة.
43
وكان للأبناء شأن عند ظهور الإسلام، فتجندوا للمسلمين ونصروهم، وظلوا مميزين عن سائر المسلمين غير العرب بأنهم غير الموالي. (10) سياسة الدولة في الجاهلية
لم يكن للعرب دولة في جاهليتهم، إلا ما كان في اليمن من دول التبابعة مما لا يدخل في بحثنا. وإنما نريد بسياسة الدولة عندهم القواعد التي كانت تدور عليها أحكامهم ومعاملاتهم لحفظ علاقاتهم السياسية وآدابهم الاجتماعية، مما يقوم مقام القوانين الإدارية والسياسية الدولية في الأمم المتمدنة.
فالرياسة عندهم أو الإمارة إنما ينالها أهل العصبية والجاه، وإذا تساوت العصبية في جماعة قدموا أكبرهم سنا؛ ولذلك كان لفظ «الشيخ» عندهم يدل على الشيخوخة والرياسة معا، وإذا أشكل عليهم الانتخاب لأي سبب عمدوا إلى الاقتراع. وكذلك إذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب، واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعا فإنهم يقترعون بين أهل الرياسة، فمن وقعت عليه القرعة أسندوا إليه الرياسة ... ذلك هو شأن بدو العرب وهم معظمهم. وأما حضرهم في مكة فالرياسة فيهم لسادن الكعبة، وقد تقدم ذكر مصالح الحكومة عندهم في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وكان في كل قبيلة بالجاهلية بيوتات تشتهر بالرياسة والشرف، فتمتاز عن سائر القبيلة وتكون الرياسة فيها، كبيت هاشم بن عبد مناف من قبيلة قريش، وبيت آل حذيفة بن بدر الفزاري من قيس، وبيت آل زرارة بن عدي من تميم، وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام من شيبان، وبيت بني الريان من بني الحرث بن كعب من اليمن. وقد امتازت هذه البيوتات على قبائلها بالشرف؛ لتوالي ثلاثة آباء منها في الرياسة على الأقل. ولأهل البيوتات نفوذ على سائر القبيلة: وكان أهل السياسة من رجال المسلمين يلاحظون ذلك في تولية الحكام. ومن هذا القبيل وصية ابن عباس للحسن بن علي: «ول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم».
والأمير البدوي مع سلطته المطلقة قلما يستبد في أحكامه، ويغلب أن يستشير أهل بطانته وخاصته، على أنه لم يكن يحتجب عن أحد ولا يمتهن أحدا. يجالس جميع الناس ويخالطهم، رفيعهم ووضيعهم. وهم لا يعرفون ألقاب التفخيم ولا نعوت التملق، فإذا خاطب البدوي أميره ناداه باسمه وطالبه بحقه، بعبارات تشف عن عزة النفس وإباء الضيم، أو هي أنفة البداوة، على أنهم كانوا يتكلمون على الأسنان، والأمير يخاطب رعاياه بألقاب الوقار، كالأب والعم والخال والابن أو ابن الأخ، على ما تقتضيه الأسنان والأنساب. وظل ذلك شأنهم في صدر الإسلام، ينادون الخليفة باسمه ويحاجونه في شؤونه، حتى إذا تحضروا احتجبوا وتكبروا، فاتسع الفاصل بين المحكوم والحاكم. (11) مناقب العرب في الجاهلية (11-1) الوفاء
على أن العرب قلما كانوا يحتاجون إلى حاكم يفصل في الخصومة بينهم، لما فطروا عليه من المناقب الجميلة التي تقوم فيهم مقام الحاكم الصارم، وتنزههم عن ارتكاب الدنايا مما يغنيهم عن القضاء. وسيد هذه المناقب «الوفاء»؛ لأنه إذا تأصل في أمة أغناها عن القضاء - والحكومة إنما تقضي بين الذين لا يعرفون الوفاء. وكان الوفاء متمكنا في خلق العربي، ويزيد تمكنا فيه كلما بعد عن المدن وأوغل في الصحراء؛ لأن الغدر والنكث لا يعيشان إلا في القصور الشماء في ظل الحدائق الغناء.
وترى الوفاء مطبوعا في أقوال أهل البادية وأشعارهم وأمثالهم، ويتجلى في عاداتهم وأخلاقهم وفي سائر أعمالهم، وهو فيهم سجية وفي سواهم صناعة وتكلف. وحكاية حنظلة الطائلي والنعمان بن المنذر تمثل هذه الخلة أحسن تمثيل، فإن حنظلة وعد النعمان بالرجوع بعد عام لاستقبال الموت، فطلب النعمان من يضمنه فضمنه شريك بن عدي، ولم يقدم شريك على ذلك إلا وهو يعتقد صدق البدو لاشتهارهم به. وقد وفى حنظلة فجاء في الوقت المعين، لا جند يقوده ولا حراس تخفره، مما حمل النعمان على العفو عنه وقصته مشهورة.
44
وأغرب من ذلك وفاء السموأل (صموئيل) بن عادياء، وكان امرؤ القيس الكندي قد استودعه سلاحا وأمتعة تساوي مالا كثيرا، وسافر إلى بلاد الروم ومات قبل رجوعه، فبعث ملك كندة يطلب الأسلحة والأمتعة المودعة عند السموأل، فلم يسلمها. ولما ألح عليه أجابه: «لا أغدر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء الواجب علي». فجرد الملك عليه جيشا وحاصره في حصنه، فوقع ابن السموأل أسيرا عند الملك، فهدد السموأل بقتل ابنه أن لم يسلم الوديعة، فأبى التسليم وقال: «ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فافعل ما شئت». فذبح ولده و السموأل ينظر. فلما امتنع الحصن على ملك كندة عاد خائبا، وأما السموأل فصبر على ما تحمله من الثكل محافظة على الوفاء، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس.
فمن كانت هذه مناقبهم قلت حاجتهم إلى القوانين، واستغنوا عن الجند والحرس وخصوصا إذا أضفنا إليها علو الهمة وطيب النفس، وقلة احتمال الذل والسماحة والكرم والنزاهة عن الدنايا ... فهذه كلها مناقب العرب أهل البادية. (11-2) الجوار
ومن قبيل الوفاء بالعهد وحفظ الذمام أيضا «الجوار»، فإن البدوي يحافظ على جاره محافظته على نفسه. والمقصود بالجوار في الأصل أن يحافظ الرجل على جاره القريب، وهو من قبيل التعاون الطبيعي حتى قيل: «جارك القريب ولا أخوك البعيد». ولكن العرب توسعوا في ذلك حتى شقوا منه الإجارة والاستجارة والجوار، وكلها بمعنى الحماية والحفاظ، مع أن أصل المادة «جار» يفيد عكس ذلك. واستعاروا الجوار للحماية على الإطلاق، فإذا خاف أحدهم سوءا جاء إلى رجل يحميه، ويكفي أن يقول له: «أجرني» فيجيره بقدر طاقته، وقد يفرط في أهله ولا يفرط في جاره.
ومن أمثلة ذلك أن الأعشى امتدح الأسود العنسي فأعطاه جائزة من الحلل والعنبر، فرجع وطريقه على بني عامر فخافهم على ما معه من المال، فأتى علقمة بن علاثة فقال له: «أجرني ...»، فقال: «قد أجرتك ...»، قال: «من الجن والإنس ...»، قال: «نعم ...»، قال: «ومن الموت ...» قال: «لا ...»، فتركه وأتى عامر بن الطفيل فقال له: «أجرني ...»، قال: «قد أجرتك ...»، قال: «من الإنس والجن ...»، قال: «نعم ...»، قال: «ومن الموت ...»، قال: «نعم ...»، قال: «وكيف تجيرني من الموت؟» قال: «إذا مت وأنت جاري بعثت إلى أهلك الدية»، فقال: «الآن علمت أنك تجيرني».
45
وقد يجئ بعضهم ليستجير برجل فلا يجده في بيته، فيكفي أن يعقد طرف ثوبه إلى جانب طنب البيت، فإذا فعل ذلك صار جارا ووجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجيره وأن يطلب له بظلامته.
46
ومن قبيل تعظيم الجوار والمحافظة عليه أن عامر بن الطفيل لما مات نصبت بنو عامر أنصابا ميلا في ميل على قبره، لا ينشر فيه ماشية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش، إشارة إلى ما كان عليه من المحافظة على الجوار في حياته.
47
وما زال الجوار مرعيا عند العرب بعد الإسلام، إلا من خالط الأمم الأخرى في البلاد المفتوحة. على أن تأييد الدولة اقتضى ضعف الجوار؛ لأن أهل الوجاهة أصبحوا من أهل الدولة، والرجل يومئذ إنما يستجير من حاكم يطلبه، فإذا استجار به مظلوم قالوا: «إنما يجير الرجل على عشيرته، وأما على سلطانه فلا» خوفا على مناصبهم، كما أصاب ابن مفرغ لما هجا بني زياد واستجار بالأحنف بن قيس على عبيد الله بن زياد، وهو يومئذ أمير البصرة فأبى الأحنف خوف العزل، وقال له: «إذا شئت أن أجيرك من بني سعد فعلت»، فذهب إلى غيره من وجهاء العرب فأبوا إجارته لنفس هذا السبب.
48 (11-3) الأريحية
ومن المناقب التي تغني العرب عن الوازع القهري أو القوة الحاكم «الأريحية»، وهي من مقتضيات العصور الجاهلية البدوية، أو ما يجري مجراها من أحوال الفروسية التي يعبر عنها الإفرنج بقولهم:
Chevalerie ، ومرجع ذلك إلى التفاخر بالشجاعة والكرم وحسن الأحدوثة. وكان للأريحية شأن عظيم عند العرب، لدقة شعورهم وسرعة تأثرهم؛ لأنهم أهل خيال وذوو نفوس حساسة، يقيمهم البيت من الشعر ويقعدهم، وقد يسمعون الكلمة فتطير لها نفوسهم، وربما بذل العربي حياته في سبيل كلمة يقولها، أو فرارا من كلمة يسمعها؛ ولذلك كثرت عندهم ضروب المفاخرة، والمباهاة في المواسم والأندية، مما يرغب في الفضائل ويغني عن زجر الحكام.
ومناقب العرب كثيرة، كالكرم والضيافة وعلو الهمة، مما لا دخل له في موضوعنا.
سياسة العرب في عصر الراشدين
من سنة 11-41ه (1) الجامعة الإسلامية
قد رأيت أن العرب إنما كانوا يتفاضلون بالعصبة ويتفاخرون بالأنساب، فلما جاء الإسلام كان في جملة ما بدله من أحوالهم أنه جمع كلمتهم وصاروا يدا واحدة على اختلاف أنسابهم ومواطنهم. وبعد أن كان اليمني يفاخر الحجازي، والمضري يفاخر الحميري، ونحو ذلك من مفاخرات القبائل والبطون والأفخاذ، جاء الإسلام فجمعهم تحت راية واحدة باسم واحد هو «الإسلام»، فقال النبي: «المسلمون إخوة»، وقال في خطبة ألقاها يوم فتح مكة: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب»،
1
وقال من خطبة في حجة الوداع: «أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى».
2
واقتدى بالنبي خلفاؤه الأولون، لا سيما عمر بن الخطاب، فإن جبلة بن الأيهم ملك غسان بعد أن أسلم، اتفق وهو يطوف بالكعبة أن فزاريا وطئ إزاره فانحل، فرفع جبلة يده وهشم الفزاري، فشكاه إلى عمر فأراد أن يهشم أنف جبلة، فقال: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك؟» فأجابه عمر: «إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية»، فلم يحتمل جبلة ذلك فعمد إلى الفرار.
3
فيؤخذ من ذلك أن الجامعة الكبرى إنما هي الإسلام، ولكنهم كانوا يجعلون للعرب مزية على سواهم من الأمم؛ لأنهم قوام الإسلام، وأوصى عمر بن الخطاب بأهل البادية خيرا؛ لأنهم أصل العرب ومادة الإسلام
4
وقال: «إياكم وأخلاق العجم»، والإسلام نهضة عربية جمعت العرب على العجم. وعمر أول خليفة فضل العرب وجعل لهم مزية على سواهم ومنع من سبيهم، ومن أقواله: «قبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا، وقد وسع الله - عز وجل - وفتح الأعاجم»، وفدى سبايا العرب من الجاهلية والإسلام إلى أيامه
5
عملا بالحديث: «لا سبأ في الإسلام».
وكان عمر لا يدع أحدا من العجم يدخل المدينة
6
وهو الذي قسم خيبر بين المسلمين وأخرج اليهود منها، وقسم وادي القرى وأجلى يهود نجران إلى الكوفة
7
لتخلو جزيرة العرب من غير العرب. وكان كثير العناية بالجامعة العربية يوصي العرب بحفظ أنسابهم لئلا تضيع عصبيتهم، ومن وصاياه: «تعلموا النسب ولا تكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدكم عن أصله قال: من قرية كذا ...».
8 (2) الجامعة العربية
ثم إن عمر، مع حرصه على الجامعة العربية واختصاص جزيرة العرب بها، قد حرض العرب المسلمين على سكنى العراق والشام فقال: «ليست الحجاز لكم بدار إلا على النجعة ... سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها»
9
لعلمه أن في العراق والشام عربا يتحدون معهم وينصرونهم. وكان عرب العراق ناقمين على الفرس من أيام دولتهم، لما كانوا يسومونهم إياه من الاضطهاد. وكانت ديانة بعض عرب العراق والشام النصرانية، ولكنهم فرحوا بالمسلمين وكانوا ينصرونهم للعصبية العربية وليس للدين. وخصوصا عرب العراق فإنهم حاربوا مع المسلمين ودلوهم على عورات الفرس - فأبو زبيد الطائي حارب مع المسلمين في واقعة الجسر حتى قتل وهو نصراني، وإنما حارب حمية للعرب. وجاء المسلمين يوم واقعة البويب أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر - وهم نصارى - وقالوا: «نقاتل مع قومنا»،
10
وكذلك فعل جماعة من تغلب وغيرهم حمية للجامعة العربية، بقطع النظر عن الدين.
وكثيرا ما كان عرب الشام والعراق عونا للمسلمين في حروبهم، يرشدونهم وينصحونهم ويحملون إليهم أخبار أعدائهم. فلما خرج الوليد بن عقبة غازيا لقيه الروم فقاتلوه، فجاءه رجل من العرب نصراني وقال له: «إني لست من دينكم ولكنني أنصحكم للنسب، فالقوم مقاتلوكم إلى نصف النهار، فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم وإن صبرتم هربوا وتركوكم »
11
وقد نفعته هذه النصيحة.
ولم يكن عمر يجهل تلك الرابطة، فحرض المسلمين على فتح الشام والعراق. ولما رأى ما كان من نصرة عرب العراق لهم عرف فضلهم، فلما هم المسلمون بوضع الجزية على أهل الذمة وفي جملتهم عرب تغلب وإياد والنمر - وهم نصارى - أبى هؤلاء الجزية، وبلغ عمر ذلك فاستشار أصحابه فقال له بعضهم: «إنهم عرب يأنفون من الجزية، وهم قوم لهم نكاية فلا تعن عدوك عليك»، فوافق ذلك ما في نفسه ففرض عليهم الصدقة كما تفرض على المسلمين، ولكنه شرط عليهم أن لا ينصروا أولادهم.
12
كل ذلك محافظة على الجامعة العربية، وكان يعد ذلك حقا واجبا. فلما سار الوليد بن عقبة لفتح العراق والجزيرة، انضمت إليه عربها النصارى، إلا قبيلة إياد، فإنهم تحملوا إلى بلاد الروم، فكتب الوليد إلى عمر بذلك، فكتب عمر إلى ملك الروم: «بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه إلينا أو لنخرجن النصارى إليك» فأخرجهم ملك الروم.
13 (3) الانسياح في الأرض
فعمر حرض العرب على فتح الشام والعراق توسيعا للجامعة العربية، والاستعانة بها على الروم والفرس، ولكنه لم يأذن لهم بفتح ما وراءهما إلا في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، وهو ما يعبرون عنه بالانسياح في الأرض. فكانوا يتطلبون الفتح وقد طابت لهم الغنائم واستلذوا النصر، فإذا استأذنوه في فتح بلد مما وراء ذلك لم يأذن لهم، كما وقع لعمر بن العاص لما أراد فتح مصر، وكان قد عرفها من أيام الجاهلية، فلما فتحت الشام والعراق جاء إلى الخليفة عمر ورغبه في فتحها وقال له: «إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا وأعجز عن القتال والحرب» فلم يجبه عمر، ولما ألح عليه أطاعه وهو يتردد وقال له: «سر ... إني مستخير الله في سيرك، وسيأتيك كتابي إن شاء الله تعالى، فإذا أدرك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف، وإلا أن دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره». فسار عمرو بجنده مسرعا خوفا من أن يأتيه كتاب الخليفة بالرجوع. فوصله كتابه في بلد قرب العريش خارج حدود مصر، فلم يفتح الكتاب حتى نزل العريش وهي من مصر، ففض الكتاب وإذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عليه سلام الله تعالى وبركاته، أما بعد فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك، وقد دخلتها أو شيئا في أرضها فامض واعلم أني ممدك»، فمضى حتى فتح مصر.
ولما فتح المسلمون الأهواز قال عمر: «ليت بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم». ومن هذا القبيل نهيه المسلمين عن اجتياز البحر. وكان إذا هم المسلمون بالنزول في بلد أو إنشاء معسكر في البلاد المفتوحة أوصاهم أن لا يقيموا في مكان يفصل بينه وبين المدينة (مركز الخلافة) ماء، حتى إذا أراد أن يأتيهم أتاهم على راحلته، مما يدل على رغبته في العصبية العربية على أن يكون مركزها في بلاد العرب. ومع ذلك فلما لم ير بدا من الانسياح في الأرض أذن لقواده بالفتح، ولكنه ظل على رأيه في القرشيين على الخصوص، فحصرهم في المدينة ومنعهم من الخروج وقال: «أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد»، فإذا جاء الرجل منهم يستأذنه في الغزو أجابه: «قد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك». كان يفعل ذلك بالمهاجرين من قريش فقط، فلما ولي عثمان خلي عنهم، فلحق معظمهم بمعاوية في الشام وانتشروا في البلاد.
14
فسياسة عمر بن الخطاب في أوائل دولته كانت تقضي ببقاء العرب محصورين في جزيرة العرب وما يليها من الشام والعراق، وأن يختص قريشا بالإقامة في المدينة؛ لأنها مركز الإسلام وهم أساسه ومنشأه، على أنه لم يستطع وقف تيار الفتح فلم ير بدا من الإذن في الانسياح.
فالعصبية التي قام بها الإسلام هي الجامعة العربية؛ ولذلك كان اللفظان مترادفين في ذلك الحين، وخصوصا عند الأمم التي خضعت لسلطان المسلمين، فكانوا إذا قالوا: «العرب» أرادوا «المسلمين»، وبالعكس. ولفظ «طيبوتا» عند السريان يدل على العرب والمسلمين على السواء، والفرق بين هذه الجامعة قبل الإسلام وبعده أن العرب كانوا في الجاهلية عصبيات عديدة تختلف باختلاف الأنساب، فأصبحوا بالإسلام عصبية واحدة تجمعها كلمة العرب، وتركوا ذكر الآباء والأجداد عملا بما يقتضيه روح الإسلام. وكانوا في جاهليتهم يتفاضلون بالأنساب، فأصبحوا في الإسلام يتفاضلون بالتقوى والجهاد في سبيل الدين، فنشأت فيهم جامعات إسلامية فرعية لم يكن لها ذكر من قبل. (4) طبقات عربية إسلامية
لما قام النبي
صلى الله عليه وسلم
بالدعوة الإسلامية، احتاج إلى من يسمع دعوته وينصره، فاجتمع حوله جماعة من قبيلته صدقوه ونصروه، وهاجر بعضهم إلى الحبشة وهاجر الآخرون إلى المدينة معه فعرفوا بالمهاجرين، وهم أقدم الطبقات الإسلامية. ولما جاء المدينة وأقام فيها نصره أهلها وآمنوا بدعوته فسماهم «الأنصار» وهم طبقة أخرى، والطبقتان معا تسميان «الصحابة» أي: الذين صحبوا النبي أو عرفوه. وتفرع من الصحابة جماعات تعرف كل منها بجامعة خاصة لأحوال خاصة كان لها تأثير في نصرة الإسلام أو نشره. فواقعة بدر كان لها شأن عظيم في تأييد الإسلام، فامتاز الصحابة الذين شهدوها عن سائر المسلمين، ونسبوا إليها فسموا «البدريين» أو «أهل بدر»، وكذلك واقعة القادسية التي كانت عنوان فتح العراق وفارس، فإن الذين شهدوها عرفوا بأهل القادسية. وقد جعل المسلمون لكل من هذه الطبقات أو الجماعات امتيازات خاصة، وفضلوا أهل بدر وأهل القادسية بالعطاء على سائر المسلمين.
ويقال نحو ذلك في من شهد فتح مكة أو سواها من الوقائع الأخرى التي كان لها شأن في الأحزاب الإسلامية، كواقعة الجمل وواقعة صفين، فإن شيعة علي يفضلون من رجالهم الذين شهدوا واقعة الجمل؛ لأنهم انتصروا فيها ويسمونهم «أصحاب الجمل»، وشيعة بني أمية يفضلون «أصحاب صفين» لمثل هذا السبب، وقد زاد معاوية عطاء هؤلاء عن سائر أصحابه.
على أن الصحابة يتفاضلون أيضا في السبق إلى الهجرة، أو إلى البيعة، ومنهم أصحاب بيعة العقبة وأصحاب الغار. والذين لهم صحبة قبل بيعة الرضوان يفرقون عمن صاحب بعدها، ونحو ذلك مما يطول شرحه. ناهيك بالمناصب التي اقتضتها الأحوال الدينية أو الإدارية، كالحفاظ والقراء والمؤلفة قلوبهم والعمال والقضاة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم.
على أن عصبية النسب لم تذهب بعد الإسلام ذهابا تاما، ولكنها تحولت إلى وجهة دينية، فأصبح أشرف الأنساب عندهم، أقربها إلى قبيلة النبي «قريش» فالنسب القرشي أشرف الأنساب، وللقرشيين التقدم في المناصب والمراتب والعطاء وخصوصا بعد اشتهار الحديث: «الأئمة من قريش»
15
فاعتقدوا الفضل للقرشيين على الناس كافة في كل شيء، حتى في أحوال الحياة والولادة فقالوا: «لا تحمل لستين إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين إلا عربية»
16
وإنه لا تكون بنت امرأة قرشية أمة
17
وأن القرشي لا يتزندق
18
وأنه لا ينبغي للقرشي أن يستغرق في شيء من العلم غير الأخبار
19
وظلت الرياسة في قريش لا ينازعهم فيها منازع إلى عهد غير بعيد.
وكان لكل من طبقات الصحابة المهاجرين والأنصار شأن خاص وحزب خاص، ولا سيما في أيام بني أمية، إذ ذهبت دهشة النبوة وعاد الناس إلى عصبية الجاهلية، فاختصم المهاجرون والأنصار وتذكروا ما كان بين العدنانية والقحطانية من التفاخر - والمهاجرون من العدنانية (مضر) والأنصار من القحطانية (الأوس والخزرج) - فعادوا إلى المنافسة وغلب انحياز كل من الطائفتين إلى أحد الأحزاب التي نشأت في ذلك العهد، فكان الأنصار مع علي ومعظم المهاجرين مع معاوية، وعادوا إلى المهاجرة والمفاخرة بالأشعار وغيرها.
وكان الأنصار أهل المدينة من أشجع الناس وهم أهل الشورى، يعقدون الإمامة، وحكمهم جائز على الأمة وهم شيعة علي وسائر أهل البيت. فلما قام معاوية يطلب الخلافة لنفسه كانوا من أقوى مقاوميه، فكان رجاله يكرهونهم ويسعون إلى إذلالهم، وكثيرا ما كانوا ينكرون عليهم هذا اللقب - يروى أن بعض الأنصار استأذنوا للدخول على معاوية في إبان خلافته، فدخل الحاجب وقال: «هل تأذن للأنصار؟»، وكان عمرو بن العاص حاضرا فقال: «ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد الناس إلى أنسابهم». (5) سياسة الخلفاء الراشدين
لم يكن للإسلام في عصر الراشدين دولة سياسية، بل هي خلافة دينية أساس أحكامها التقوى والرفق والعدل، مما لم يسمع بمثله في عصر من العصور. ورجل هذا العصر، بل رجل الإسلام على الإطلاق «عمر بن الخطاب»، فإن ما يروونه من أعماله وأحكامه يندر اجتماعه في البشر، ومناقبه مدونة في الكتب ومشهورة. وأما أبو بكر فلا يقل عظمة عنه، لولا قصر مدة حكمه، ويكفيه من الأثر في الإسلام قتاله أهل الردة؛ إذ رجع بعض الناس عن الإسلام بعد موت النبي، فخاف المسلمون ذهاب دولتهم وهي لا تزال في طفولتها، فشمر أبو بكر عن ساعد الجد وقاتل المرتدين وأيد الدين، وكذلك يقال عن علي وعثمان. (5-1) أبو بكر
وعصر الراشدين هو في الحقيقة عصر الإسلام الذهبي، ومناقب الخلفاء الراشدين مشهورة بالزهد والتقوى والعدل. فقد أسلم أبو بكر وعنده من ماله أربعون ألفا، وهي ثروة طائلة يومئذ، أنفقها كلها في سبيل الإسلام مع ما اكتسبه من التجارة. وكان له في خلافته بيت مال ينفق كل ما فيه على المسلمين، ولما مات لم يجدوا فيه غير دينار. وكان منزله في السنح بضواحي المدينة يغدو إليه على رجليه، ويندر أن يركب فرسه. فإذا جاء المدينة صلى في الناس، فإذا جاء العشاء عاد إلى السنح. وكان مع ذلك يغدو كل يوم إلى السوق يبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج بنفسه فيها. وكان قبل الخلافة يحلب للحي أغنامهم، فلما صار خليفة سمع جارية تقول: «الآن لا يحلب لنا منائح دارنا» فقال: «بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه». وبعد خلافته بستة أشهر تحول إلى المدينة وقال: «ما تصلح أمور المسلمين مع التجارة، وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شؤونهم». فترك التجارة، فصار ينفق من مال المسلمين ما فرضوه له: 6000 درهم في السنة. فلما حضرته الوفاة وصى بقطعة أرض كانت له، أن تباع ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين. (5-2) عمر بن الخطاب
أما عمر بن الخطاب، ففي أيامه فتحت البلاد وكثرت الغنائم، وانصبت خزائن كسرى وقيصر بين يدي رجاله، ومع ذلك فإنه كان من الزهد والتقشف بما ليس بعده غاية، حتى قيل: إنه كان يقف للخطابة وعليه إزار مرقع بجلد. وإذا أنفق عطاءه واحتاج إلى المال أتى صاحب بيت المال فاستقرضه على أن يؤديه من عطائه. وكان شديد الحرص على أموال المسلمين، لا ينفقها إلا في مصالحهم، ويتولى أمورهم بنفسه دينا وسياسة، فيسعى في نشر الإسلام، ويعلم العرب قواعد الدين، فيطوف الأسواق ويقرأ القرآن ويحرض الناس على التقوى، وإذا حرضهم على شيء بدأ بنفسه. ووضع على من يشرب الخمر ثمانين ضربة، وكان يبعث أناسا من القراء يعلمون أهل البادية القرآن، ثم يبعث من يمتحنهم فمن لم يقرأ شيئا منه عاقبه بالضرب، وربما فرط الضارب حتى يقتل المضروب
20
وكان شديدا على عماله وقواده، يحاسبهم ويدقق في استطلاع أحوالهم، فمن رأى فيه اعوجاجا قومه، لا يبالي من هو حتى خالد بن الوليد القائد الإسلامي الشهير، فإن عمر نقم عليه لأمر يخالف قواعد التقوى، فاستقدمه إليه ووبخه وهدده كأنه غلام وخالد لا يجيبه
21
وقد يضرب عامله بالدرة أو يوبخه، وليس فيهم من يرد في وجهه أو يعترضه، وكان شديد العقاب على من يشرب الخمر، أو يطمع في أموال المسلمين. ومع ذلك فقد كان يعامل الناس معاملة الأب لبنيه، فيطعمهم على موائد يجفن لهم فيها عشرة عشرة، وإذا غاب قواده تفقد بيوتهم وتعهد أهلهم بما يحتاجون إليه
22
وكان عادلا في الناس رفيقا بغير المسلمين. وكانت الدنيا في أيامه مجمعة على الطاعة، والناس يدخلون في الإسلام أو يبقون تحت راية المسلمين عن رضى وراحة، كأنه كان قابضا على شؤون الدولة وأعنة الحكومة بيد من حديد. فلما قتل تزعزعت أركانها، ونقض كثير من أهل الأمصار وخصوصا خراسان وسجستان
23
وغيرهما من الأطراف البعيدة. (5-3) عثمان بن عفان
وكان عثمان مثل سائر الخلفاء الراشدين، لولا ضعفه واستسلامه إلى بعض ذوي قرابته من بني أمية، حتى نقم عليه سائر المسلمين، وخصوصا أهل المدينة لأسباب تقدم بيانها وقتلوه، فاتخذ بنو أمية قتله حجة لطلب الخلافة لأنفسهم. على أن عثمان أول خليفة اقتنى المال لنفسه، فقد ذكروا أنه كان عند خازنه 15000 دينار و1000000 درهم، وله ضياع بوادي القرى وحنين وغيرهما قيمتها 100000 دينار، فضلا عما خلفه من الخيل والإبل، وفي أيامه اقتنى الصحابة الضياع وابتنوا الدور واختزنوا الأموال
24
وتعودوا الغنى والترف، فلما جاءهم على بعده بما كان عليه عمر من الزهد والتقشف كابروه، وساعدهم على التمنع قيام معاوية وأطماعهم في الأموال، وسيأتي بيان ذلك. (5-4) علي بن أبي طالب
أما علي فحكاياته في الزهد والتقوى كثيرة، وكان شديد التمسك بالإسلام، حر القول والفعل، لا يعرف الدهاء ولا يركن إلى الحيلة في شأن من الشؤون، وإنما همه الدين وعمدته في أعماله الصدق والحق. فمن أمثلة تقشفه وزهده أنه تزوج فاطمة بنت النبي وليس له فراش إلا جلد كبش كانا ينامان عليه بالليل ويعلقان عليه ناضحهما بالنهار، ولم يكن عنده خادم يخدمه. وجاءه مال من أصبهان في أيام خلافته فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة، وكان يلبس قطيفة لا تقيه البرد. ورآه بعضهم يحمل تمرا في ملحفته قد اشتراه بدرهم، فقال له: «يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟»، فقال: «أبو العيال أحق بحمله ...». ومن أقواله في كيف يجب أن يكون المسلمون قوله: «خمص البطون من الطوي، يبس الشفاه من الظمأ، عمش العيون من البكاء».
25
ومن أمثلة عدله أنه رأى درعا له عند رجل فتقاضيا إلى شريح القاضي. فوقف علي بجانب خصمه احتراما للعدل. وكان إذا بعث رجاله في حرب أوصاهم أن يرفقوا بالناس وأن يكفوا الأذى عن النساء.
وكان شديدا في محاسبة رجاله حرصا على العدل والحق، كما كان يفعل عمر. ولو تولى أمور المسلمين في زمن عمر، والناس في دهشة النبوة وصدق التدين؛ لكان نصيبه من الحكم أطول، ولما بدا في تدبيره ضعف، ولكنه تولاها وقد فسدت النيات، وطمع العمال في الأحكام، وأطمعهم وأدهاهم معاوية بن أبي سفيان، فإنه جمع الرجال حوله بالدهاء والحيلة والبذل، وعلي يضيع الأحزاب بتدقيقه في محاسبة عماله وقواده، والمبالغة في المحافظة على الدين وأسباب التقوى، ففارقه جلة الصحابة حتى ابن عمه عبد الله بن عباس، وكان عاملا له على البصرة. فوشى به أبو الأسود الدؤلي إلى علي، فكتب علي إلى ابن عباس بذلك ولم يذكر اسم الواشي، فأجابه: «أما بعد فإن الذي بلغك باطل، وإني لما تحت يدي لضابط وله حافظ، فلا تصدق الظنين والسلام». فكتب إليه علي: «أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت، وفيما وضعت ». فكتب إليه ابن عباس: «أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزاة ما بلغك، إني رزئته من أهل هذه البلاد، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام»، واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر، فاجتمعت معه قيس كلها، فحمل مالا وقال: «هذه أرزاقنا اجتمعت»، فتبعه أهل البصرة إلى مكة
26
ولم ينتفع علي به ولا بأحزابه فعلي لم يفعل بابن عمه غير ما كان عمر يفعله بعماله، ولكن الأحوال كانت قد تغيرت، وقام معاوية يبتاع الأحزاب بالعطاء ويجتذب القواد بالدهاء.
وزد على ذلك أن رجال عمر كانوا مثله غيرة وحمية. وكانت لا تزال فيهم الأريحية والأنفة وحرية البداوة والوفاء، وجاء الإسلام فكمل الأسباب الباعثة إلى الاتحاد والنهضة والقوة.
على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران، أو تقتضيه سياسة الملك، وإنما هي خلافة دينية وفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في عصر، وإلى أحوال يكفي منها الجامعة الإسلامية والحمية الدينية والأنفة البدوية والأريحية العربية. فهذه كلها اجتمعت في عصر واحد وتلاءمت فأتت بالعجائب، فانتشر الإسلام وفتح العالم في بضع عشرة سنة كما هو مشهور
27
فأهل العلم بطبائع العمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك العصر العجيب. وإن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد - سنة الله في خلقه. (6) انتشار العرب في الأرض
قد رأيت رغبة عمر بن الخطاب رجل الإسلام في جمع كلمة العرب، وتوثيق عرى الاتحاد بين قبائلهم وتأكيد العلائق بين منازلهم، فحرضهم على فتح العراق والشام، لعلمه بما هنالك من قبائل العرب. فإذا انضموا إلى عرب الحجاز واليمن زادوا الإسلام قوة. ولكنه منعهم مما وراء ذلك، وأمرهم إذا بنوا بلدا في دار الفتح أن لا يبنوه في مكان يحول بينه وبين المدينة ماء، خوفا على الجامعة العربية أن يزداد تباعد أطرافها فتتمزق، ورغبة منه في استبقاء مركز الخلافة في المدينة دار الهجرة، على أن يستبقي البلاد المفتوحة لاستدرار ما فيها من غلة أو مال لأهل الحجاز؛ ولهذا السبب أيضا نهى المسلمين عن الزرع وشدد في منعهم اعتمادا على الحديث القائل: «السكة (المحراث) ما دخلت دار قوم إلا دخله الذل»
28
ولأن الاشتغال بالزرع يشغلهم عن الحرب، وهو يريد أن يقيمهم حامية لجمع الخراج والجزية واستبقاء السلطة، ولم تكن المدن التي بنوها في صدر الإسلام كالبصرة والكوفة والفسطاط إلا حصونا أو معسكرات، ينزل فيها جند العرب نزول الحامية أو جيش الاحتلال؛
29
ولهذا السبب أيضا أخرج غير المسلمين من جريرة العرب عملا بوصية النبي
صلى الله عليه وسلم «أن لا يترك في جزيرة العرب دينان»،
30
وأن لا يأتي الحج أحد من المشركين
31
فأخرجهم وتخلص من خطرهم، إذ لو بقوا هناك على غير دين الإسلام لأقلقوا الراحة، وربما كانوا عونا لغير المسلمين كما كان نصارى الشام والعراق ينصرون الروم بعد ذلك، كما سترى.
فكانت السياسة في صدر الإسلام أن يبقى المسلمون في بلاد العرب وضواحيها، وكان القواد الذي فتحوا الشام والعراق قد ذاقوا لذة الفتح مع سهولته عليهم، فلم يكفوا عن عمر حتى أذن لهم بفتح ما وراءه ذلك كما تقدم، فكان عمر وهو في المدينة قابضا على أطراف الدولة يشدها نحوه، ورجاله يحاولون الذهاب بها شرقا وغربا، حتى اضطر أخيرا إلى مجاراتهم وأذن بانسياحهم في الأرض، فتفرق العرب وفتحوا مصر وفارس وأفريقية وغيرها. ولما تولى عثمان أطلق العنان لقريش أن يخرجوا من المدينة، فخرجوا وتفرق العرب في الأرض وانتشروا في مصر والشام والعراق وفارس وما وراءها، وعددهم يومئذ لا يزيد على 200000 نفس
32
وهم جند المسلمين وعليهم حماية مملكتهم الجديدة واستغلالها، وسكانها يزيدون على مئة مليون ودولة الروم واقفة لهم بالمرصاد. (6-1) الاستكثار بالتناسل
كانت العرب في الجاهلية قليلة العدد بالقياس على ما صارت إليه بعد الإسلام. ذكروا أن أكبر جيش اجتمع في الجاهلية لم يزد عدد رجاله على ثمانية آلاف رجل، وهو جيش يوم الصفقة
33
والذين تجندوا للإسلام وقاموا بنصرته كانوا في صدر الإسلام قليلين كما رأيت، ومملكتهم الواسعة تحتاج إلى رجال، فعمدوا إلى الاستكثار بالتناسل، وهو من قواعد العصبية العربية من أيام الجاهلية. فإن عبد المطلب جد النبي، لما ظهرت قريش عليه، نذر لله إذا رزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذودوا عنه، أن ينحر أحدهم قربانا لله، فجاءه عشرة أولاد فاشتد أزره بهم.
فالمسلمون لما رأوا قلة عددهم، وما وقع في أيديهم من السبايا الروميات والفارسيات والقبطيات، استكثروا من أمهات الأولاد، فضلا عن الزوجات، فكثر نسلهم - والترف يزيد الدولة في أولها قوة بكثرة النسل - وتسابقوا إلى إحراز الجواري، حتى إن بعضهم أحصن ثمانين امرأة معا، كالمغيرة بن شعبة فقد جمع في منزله أربع نسوة و76 أمة
34
فلا غرابة إذا ولد لأحدهم خمسون ولدا أو مئة ولد أو أكثر. ذكروا أنه وقع للأرض من صلب المهلب 300 ولد
35
وخلف عبد الرحمن بن الحكم الأموي 150 ذكرا و50 أنثى
36
وخلف تميم بن المعز الفاطمي أكثر من مئة ذكر و60 أنثى
37
وكان لعمر بن الوليد تسعون ولدا منهم ستون يركبون الخيل
38
وولد لابن سيرين 30 ولدا من امرأة و11 بنتا
39
وقس على ذلك مما يطول شرحه، وفي التاريخ أدلة كثيرة على قيام الدولة بعصبية الملك من الأولاد والإخوة والأعمام، كالعباسيين والأيوبيين وغيرهم. (6-2) انتشار العرب بالفتح
كان العرب في الجاهلية محصورين في جزيرة العرب وما يجاورها من جزيرة العراق وضواحي الشام. فلما ظهر الإسلام اجتمعت كلمة العرب على نصرته، ونهضوا للفتح وأوغلوا في البلاد وفتحوا الأمصار، ولم يكن زجر عمر ليوقف تيارهم فانساحوا في الأرض، حتى نصبوا أعلامهم على ضفاف نهر الكنج شرقا وشواطئ المحيط الأطلسي غربا، وضفاف نهر لوار شمالا وأواسط أفريقيا جنوبا، وملأوا الأرض فتحا ونصرا، واحتلوا مدائن كسرى وقيصر ، وأقاموا في المدن وركنوا إلى الحضارة وتعودوا الترف، واختلطت أنسابهم بتوالي الأجيال وضعفت عصبيتهم فضاعت سلطتهم. والقبائل التي قامت بنصرة الإسلام ونشره قبائل مضر وأنصارها من العدنانية والقحطانية، وإليك أسماء القبائل التي مهدت قواعد الدولة الإسلامية ونشرت الدين الإسلامي بالفتح من أول الإسلام:
من العدنانية
من القحطانية
مضر
ربيعة
كهلان
حمير
قريش
تغلب بن وائل
الأوس والخزرج
قضاعة وبطونها
كنانة
بكر بن وائل
غسان
كلب
خزاعة
شكر
الأزد
سليح
أسد
حنيفة
همدان
تنوخ
هذيل
عجل
خثعم
بهراء
تميم
ذهل
مذحج
عذرة وغيرها
غطفان
شيبان
مراد
سليم
تيم الله
زبيد والنخع
هوازن
النمر بن قاسط وغيرها
الأشعريون
ثقيف
لخم وكندة
سعد بن بكر وعامر ابن صعصعة
على أن هذه القبائل لم تكن في أوائل الفتح تنزل القرى وتختلط بالناس، بل كانت رابطة ثم اختلطوا وتفرقوا في الأرض، وأنفقتهم الدولة الإسلامية العربية، فنبا منهم الثغور القصية وأكلتهم الأقطار المتباعدة، واستلحمتهم الوقائع وضاعت أسبابهم بتوالي الأجيال حتى خرجت الدولة من أيديهم. (6-3) انتشار العرب بالمهاجرة
على أن انتشار العرب في الأرض لم يكن بالفتح فقط، ولكنهم تفرقوا أيضا بالمهاجرة بأهلهم وخيامهم وأنعامهم، التماسا لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة. فقد جلت بطون من خزاعة إلى مصر والشام في صدر الإسلام؛ لأن أرضهم أجدبت فمشوا يطلبون الغيث والمرعى
40
وكذلك كانت تفعل العرب كلما أصابها جدب، حتى كانت لهم أعوام خاصة يجلون فيها إلى مصر والشام، يسمونها أعوام الجلاء
41
وكانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام: إذا أجدبت أرضهم يمموا العراق وفارس، فيعطيهم الفرس التمر والشعير، ولكنهم كانوا لا يقيمون هناك بل يرجعون إلى بلادهم
42
خوفا من الذل في سلطان دولة أعجمية. أما بعد الإسلام فكان المقام يطيب لهم في بلاد فتحها آباؤهم أو أعمامهم أو أخوالهم، وغرسوا عليها أعلامهم وجعلوها فيئا لهم.
على أن الغالب في نزوح العرب عن أحيائهم وانتجاعهم المدن أو أكنافها، أن يكون بإيعاز بعض الخلفاء أو الأمراء، وخصوصا بعد رجوع العرب إلى عصبية النسب بين قحطان وعدنان، أو مضر وقيس في عهد الدولة الأموية. فكان الأمير أو الخليفة إذا تولى بلدا وخاف على سلطانه من أمير آخر ذي عصبية أخرى، استقدم جماعة من قبيلته، أو من ينتمي إليها بالحلف ونحوه، يسكنهم في ضواحي بلده لاستنصارهم عند الحاجة، فيطلق لهم المرعى ويفرض لهم العطاء، كما حدث في ولاية الوليد بن رفاعة على مصر في خلافة هشام بن عبد الملك الأموي، وكان هشام يقرب قبيلة قيس (العدنانية)؛ لأنهم نصروه وأيدوا خلافته، ولم يكن منهم في مصر إلا بعض البطون، وقيس قبيلة كبيرة تحتها عدة قبائل وبطون وأفخاذ، وأول من نبه هشام إلى نقلهم عبيد الله بن الحبحاب، فإنه وفد عليه فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتا، فأذن له في إلحاق ثلاثة آلاف منهم وتحويل ديوانهم إلى مصر، أي: أن يقبضوا رواتبهم من حكومة مصر، على أن لا ينزلهم في الفسطاط، فأنزلهم في الحوف الشرقي (الشرقية والدقهلية) ولا سيما في بلبيس وأمرهم بالزرع،
43
ثم تقاطروا بعد ذلك وتكاثروا فيها. (6-4) بنو سليم وبنو هلال
وقد يكون الباعث على استقدامهم وإقرارهم رغبة الأمير أو الخليفة في التخلص من شرهم، كما فعل العزيز بالله الفاطمي ببني سليم وبني هلال، وهما بطنان من مضر، كان رجالهما إلى زمن العزيز المذكور في القرن الرابع للهجرة لا يزالون أحياء ناجعة أهل بادية، محلاتهم وراء الحجاز مما يلي نجد: بنو سليم من جهة المدينة، وبنو هلال من جبل غزوان عند الطائف فكانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. ثم ظهر القرامطة فتحيز بنو سليم لهم، وعاثوا في البلاد، وقد عجز الخلفاء العباسيون عن قمعهم. فلما أفضت خلافة مصر إلى العزيز بالله الفاطمي، كان القرامطة قد تغلبوا على الشام، فانتزعها العزيز منهم وردهم إلى قراهم في البحرين، ونقل أشياعهم من بني هلال وسليم وأنزلهم بالصعيد، في العدوة الشرقية من نهر النيل، فأقاموا هناك. وكان لهم أضرار في البلاد، والخلفاء يدارونهم ويبحثون عن وسيلة يتخلصون بها منهم. فاتفق بعد سنين أن المعز بن زيري عامل الفاطميين في أفريقية، شق عصا الطاعة وبايع للدولة العباسية، وقطع اسم الخليفة الفاطمي من الخطبة والطراز والرايات، فعظم الأمر على الخليفة بالقاهرة، وهو يومئذ المستنصر بالله، فأشار عليه وزيره أبو محمد الحسن بن علي اليازوري، أن يقرب إليه أحياء هلال وسليم المذكورين، ويصطنع مشايخهم ويوليهم أعمال أفريقية، ويرسلهم لاستلام أمورها، فإذا فازوا كانت إحدى الحسنيين، وإلا فإنه يتخلص من شرهم. فبعث الخليفة وزيره إلى هذه الأحياء سنة 441ه وحرضهم على الذهاب إلى المغرب وتملكه، ففرحوا وأجازوا النيل وساروا برا إلى برقة ففتوحها. ثم تبعهم غيرهم من بطون دياب وزغب طمعا في الكسب، وأصبحت أفريقية مقر هذه القبائل من ذلك الحين، فاقتسموا البلاد فيما بينهم.
44
وقس على ذلك ما كان من انتقال العرب المسلمين إلى الأندلس بعد إتمام فتحها، إذ صرف عرب الشام وغيرهم الهمم إلى الحلول بها لخصبها وطيب هوائها، فنزل بها من أصول العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم، وفيهم قبائل من العدنانية والقحطانية
45
وكل قبيلة كانت تنزل البلد الذي يشبه بلدها بإقليمه ومرعاه. ناهيك بما كان يتنقل من القبائل أو البطون في أثناء الحروب في عصر الأمويين للنجدة أو نحوها. (7) العبيد والموالي في الإسلام
للعبيد والموالي شأن كبير في الدولة الإسلامية، وقد أثروا في سياستها وجندها وفي سائر أحوالها من العلم والأدب والفقه، فلا غرو إذا أفردنا الكلام عنهم فصولا خاصة. (7-1) الرق في الإسلام
قلنا: إن الاسترقاق عند العرب الجاهلية كان أكثره بالأسر أو الشراء، وأما في الإسلام فأكثر الاسترقاق بالأسر، وخصوصا في أثناء الفتوح لكثرة من كان يقع في أيديهم من الأسرى. فإذا غلبوا جندا أو فتحوا بلدا، أسروا رجاله وسبوا نساءه وأطفاله، واقتسموا الأسرى والسبايا والغنائم، وهي كثيرة ربما زاد عدد الأسرى في المعركة الواحدة على عشرات الألوف، فيختمون أعناقهم ويقسمونهم على الأسهم، وقد يصيب الفارس من العرب مائة أسير ومائة جارية في واقعة واحدة، فيجتمع عند بعضهم بتوالي الأيام ألف عبد أو أكثر
46
وهم عند الأمراء أكثر مما عند غيرهم، وقد تزايدوا على الخصوص بعد عصر الراشدين. على أن الخليفة عثمان كان عنده ألف عبد.
47
والغالب في الأسرى إذا كانوا كثارا أن يباعوا بالجملة قبل تفريق الأسهم، فينادون على الأسير بمائة درهم وأقل أو أكثر، وربما اقتضى لبيع أسرى معركة واحدة عدة أشهر. ومن أكثر الفتوح أسرى وغنائم فتوح الأندلس، فقد ذكروا أنهم ظلوا يبيعون الأسرى والغنائم بعد معركة هناك ستة أشهر
48
وتكاثرت الأسرى على المسلمين بعد واقعة عمورية، حتى نادوا على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة للسرعة
49
وكثرت الأسرى والغنائم عليهم في واقعة الأرك بالأندلس، حتى بيع الأسير بدرهم والسيف بنصف درهم.
50
على أنهم كانوا يعدون البلد المفتوح عنوة ملكا للفاتحين، بما فيه من الناس والدواب والبساتين والأنهار والأشجار، وقد تمسك بنو أمية بذلك وبالغوا فيه، كقول سعيد بن العاص: «السواد بستان قريش»، وقول عمرو بن العاص لصاحب خربتا: «إن مصر فتحت عنوة وأهلها عبيدنا ندير عليهم كيف شئنا».
51
والغالب في عامة الجند من المسلمين أن يبيعوا أسراهم ويحرزوا أثمانهم، لعجزهم عن القيام بمعاشهم، فلم يكن يستبقي الأسرى في حوزته عبيدا إلا الأمراء، حتى يفتديهم أهلهم أو يعتقهم هو لسبب من الأسباب.
ومن مصادر الرقيق في الإسلام - غير الأسر - أن بعض العمال، وخصوصا في أفريقية وتركستان ومصر، كانوا يؤدون بعض خراج أعمالهم من الرقيق
52
وكان بعض أهل الذمة من البربر ونحوهم يقدمون بدل الجزية رقيقا من أولادهم
53
غير ما كان يقع في أيدي المسلمين من الرقيق الأصلي في جملة الغنائم.
أما أحكام الأسرى في الإسلام فالخليفة (أو من يقوم مقامه) مخير بين أربعة أشياء: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما المن عليهم بغير فداء، فإن أسلموا سقط القتل وكان الخليفة على خياره في أحد الثلاثة الباقية،
54
فكانوا يتصرفون في ذلك على ما تقتضيه الأحوال.
ومن ملك رقيقا بالأسر أو الشراء أو غير ذلك كان مخيرا في استبقائه أو بيعه أو المن عليه بالعتق، ومن أعتق عبدا صار مولاه. وللعتق أسباب كثيرة ، أهمها في الإسلام إظهار التقوى أو الغيرة على الدين، فإذا أسلم العبد وأظهر التقوى أطلقه سيده، فقد أعتق عبد الله بن عمر بن الخطاب على هذه الصورة ألف عبد
55
وأعتق محمد بن سيلمان 70000 مملوك ومملوكة، وقد يعتقونهم فداء عن يمين، أو وفاء لنذر، أو التماسا للثواب، أو شكرا لله على نعمه، أو نحو ذلك. وكان بعض أهل الورع يبتاعون العبيد ويعتقونهم ابتغاء مرضاة الله . وأقسم عمر بن أبي ربيعة لما أسن أن لا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة، وقد نظم وبر بقسمه غير مرة،
56
وكانوا يعتقون العبيد ترغيبا لهم في الجهاد، كما فعل الجنيد بن عبد الرحمن المري صاحب خراسان بهشام بن عبد الملك في واقعة الشعب، لما احتدم الوطيس وخاف الجنيد الفشل، فصاح في العبيد: «أي عبد قاتل فهو حر»، فقاتل العبيد قتالا أعجب منه الناس وانهزم الأعداء،
57
وكثيرا ما كانوا يرغبون العبيد في نصرة الإسلام وهم عند أعدائهم بأن يعدوهم بالعتق، كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم حصار الطائف، إذ قال: «كل عبد نزل إلي فهو حر»،
58
وكما فعل المسلمون في بعض البلاد التي فتحوها، فكانوا يعدون عبيدها بالعتق إذا أسلموا، فيدخل بعضهم في الإسلام على نية أن يرجعوا عنه بعد ذهاب الحرب، ولكنهم لما أرادوا ذلك عدهم المسلمون مرتدين فحل حربهم.
على أن الإسلام جاء رحمة للأرقاء، فأوصى النبي بهم خيرا بقوله: «لا تحملوا العبيد ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون»
59
وقال: «لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي».
وفي القرآن الكريم:
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا . والإسلام من الجهة الأخرى يحرض العبد على التقوى وحسن العبادة
60
وقد اختص العرب المسلمين بالنجاة من الرق والسبي بقول الأئمة: «لا سبأ في الإسلام، ولا رق على عربي في الإسلام». ومن أحكام العبيد عندهم أن يعاملوا معاملة نصف الحر ، فالعبد إذا أذنب ضرب نصف ما يضرب الحر
61
وإذا أحسن كانت جائزته لمولاه، والأسرى الذين يقعون في أيدي العرب بالفتوح من أهل البلاد المفتوحة فيهم النصراني واليهودي والمجوسي والصابي والسامري وغيرهم، فهؤلاء إما أن يفتديهم أهلهم، أو يبيعهم المسلمون لبعض تجار الرقيق، أو يستبقوهم في خدمتهم لقضاء حاجات المنازل، أو رعاية الإبل أو الماشية، أو لبري القسي ورمي النبل أو جمع النبال المتساقطة وقت القتال، أو لرواية الشعر أو حفظ القرآن أو الحديث أو غير ذلك. فكانت قيمة العبد تختلف باختلاف نوع صناعته، فالعبد الذي لا يعرف صناعة يساوي مائة دينار، فإذا كان راعيا للإبل يحسن القيام بها يقدرون قيمته ب 200 دينار، فإذا كان عارفا بصناعة النبل والقسي يباع بأربعمائة دينار، فإذا كان يحسن رواية الشعر صارت قيمته 600 دينار. تلك أثمان العبيد في أواسط دولة بني أمية.
62
وأما القن فهو العبد الذي يشتغل في الأرض، وهو خاص بالقرى، ويسمى المزارع المقيم «فلاحا فرارا»، فإذا أقطعت أرضه، أو بيعت لأحد، أو دخلت في ملك أحد بالفتح أو غيره، كان الفلاح تبعا لها وصار «عبدا قنا»، إلا أنه لا يرجو أن يباع أو يعتق، ولا يستطيع مولاه ذلك لو أراد، بل هو قن ما بقي حيا، وكذلك أولاده بعده، فإنهم يكونون عبيدا لمالك الأرض أو مقتطعها، وقد أشرنا إليه في كلامنا عن العبيد في الجاهلية. (7-2) الموالي في الإسلام
والباقون في الأسر إذا اعتنقوا الإسلام نجوا من الرق غالبا، إذ يغلب أن يعتقوهم مكافأة لهم، ومن أعتق منهم صار مولى؛ ولذلك كان الموالي من المسلمين غير العرب، استنكافا من استرقاق المسلم، ثم أطلقه بنو أمية على كل مسلم غير عربي، فإذا قالوا: «الموالي» أرادوا المسلمين من الفرس وغيرهم الذين كانوا مجوسا أو ذميين واعتنقوا الإسلام، أو كانوا ممن لازم العرب أو التجأوا إليهم، ويسمونهم «الحمراء» فإذا قالوا: «الحمراء» أرادوا الموالي. والحمراء في القاموس العجم، وهم كل من سوى العرب.
وأصبح الموالي في الإسلام طبقة خاصة من طبقات الهيئة الاجتماعية، كان لها شأن عظيم في تاريخ الإسلام، ويمكن اعتبارهم من قبيل العصبية العربية، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم»
63
وقوله: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»
64
وأهل الرجل عند العرب الموالي والذراري. ويثق الرجل بمولاه كما يثق بابنه؛ لأنه لم يعتقه إلا حبا فيه، والموالي يعد عتقه منة لمولاه عليه، فيترك نسبه إلى أهله وينتسب إلى مولاه، فيقال: فلان مولى فلان ولا يقال: ابن فلان. أو ينتسب إلى قبيلته فيقال مثلا: ابن سريج مولى بني نوفل، ومحرز مولى عبد الدار، وحكم الوادي مولى الوليد بن عبد الملك، وابن عياد مولى بني مخزوم، وقس عليه؛ ولذلك كانت رابطة المولى بمولاه وثيقة، وخصوصا من يعيش من الموالي في بيت مواليهم، ولكن الغالب أن يخرجوا لعمل يعملونه، حتى إذا انتشبت حرب اجتمعوا تحت لوائهم.
وللموالي فضل كبير في الإسلام؛ لأن معظم الحفاظ وأهل التفسير واللغة والشعر وسائر العلماء وأكثر التابعين منهم، لاشتغال العرب عن هذه العلوم بالسياسة والسيادة والتنازع على السلطة
65
ومعظم الموالي الذين خدموا العرب في صدر الإسلام من بقايا الفيء والغنائم في فارس وغيرها. وأكثرهم كانوا غلمانا في جملة السبي، فربوا في الإسلام ونبغوا فيه أو نبغ أولادهم - منهم أربعون غلاما كانوا يتعلمون الإنجيل في عين التمر لما فتحها خالد بن الوليد، فغنمهم وبعثهم إلى أبي بكر بالمدينة ففرقهم في أهل البلاد من جملة الغنائم، فاعتنقوا الإسلام وأعتقهم مواليهم فنبغ من أولادهم جماعة كانوا عونا كبيرا للمسلمين في السياسة والحرب والعلم والدين، منهم موسى بن نصير فاتح المغرب والأندلس فإن أباه منهم، وحمران مولى عثمان بن عفان
66
وأيضا محمد بن إسحق صاحب المغازي والسير، فإن جده يسار منهم
67
وقس على ذلك سائر مشاهير الموالي الذين أصلهم من السبي في أثناء الفتح أو بعده.
فأبو صفر من سبى دبا في أيام أبي بكر، وحماد الراوية أصل أبيه ديلمي من سبي مكنف بن زيد الخيل
68
وسائب خاثر أصله من فيء كسرى، ومروان بن أبي حفصة الشاعر الشهير أصله يهودي من سبي اصطخر
69
والهروي اللغوي المشهور أسير وقع في سهم عرب نشأوا في البادية
70
وابن الأعرابي سندي الأصل، وأبو دلامة كوفي أسود كان عبدا لرجل من بني أسد فأعتقه
71
وقل نحو ذلك عن سائر حملة العلم في الإسلام.
وقد يكون المولى من أصل رفيع واسترقه الأسر ولم يتوفق له الفداء، فإن بعض موالي المنصور من أولاد المرازبة
72
وأبو علي بن بذيمة الذي يروى عنه، وأبو زهير جد المطلب بن زياد أصلهما من أبناء الأكاسرة، وقعا في الأسر يوم المدائن فأهداهما سعد الفاتح إلى سمرة بن جنادة الصاحبي فأعتقهما ابنه جابر.
73
وانتقى أبو موسى الأشعري ستين غلاما من أولاد الدهاقين من سبي بيروذ بفارس، وفرق بعضهم في المسلمين، غير الذين افتداهم أهلهم.
74
وكان للخلفاء والأمراء ثقة كبرى بمواليهم، يعهدون إليهم بكل شؤونهم، فأكثر حجاب الخلفاء الراشدين من مواليهم، لا فرق في أن يكون أصلهم فارسيا أو ديلميا أو حبشيا أو روميا، فموالي أبو بكر أولهم بلال بن رباح كان عبدا حبشيا لرجل من مكة، اشتراه أبو بكر بخمس أواق وأعتقه. وهو أول من أذن في المدينة، وكان له مقام رفيع في الإسلام، وكذلك عامر بن فهيرة، وأبو نافع ومرة بن أبي عثمان وغيرهم
75
وقس على ذلك موالي عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الخلفاء وكبار الصحابة. وكلهم يستهلكون في سبيل مواليهم؛ لاعتقادهم الفضل لهم عليهم، وفي التاريخ شواهد كثيرة من هذا القبيل على اختلاف الأعصر - من ذلك أن محمد بن يزيد المهلبي، لما نشبت الفتنة بين الأمين والمأمون، كان هو من حزب الأمين، وأراد أن يحفظ له الأهواز من أصحاب طاهر بن الحسين قائد جند المأمون فباغته طاهر بجنده قبل أن يتحصن وضايقه، فالتفت المهلبي المذكور إلى مواليه وقال لهم: «ما رأيكم؟ إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن خذلانهم ولا أرجو رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي حتى يقضي الله بما أحب، فمن أراد الانصراف فلينصرف، فوالله لأن تبقوا أحب إلي من أن تموتوا». فقالوا : «والله ما أنصفناك إذن ... تكون قد أعتقتنا من الرق، ورفعتنا من الضعة، وأغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذا الحال؟ فلعن الله الدنيا والعيش بعدك؟». ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم واستقتلوا بين يديه.
76
على أن المولى لا يزال أحط مقاما من العربي. وكان الموالي في صدر الإسلام يتولون كثيرا من مصالح الدولة التي تفتقر إلى أمانة وثقة، فضلا عن العلم والدين. ولهم الرواتب السنية
77
لكنهم كانوا محرومين من المناصب الرفيعة التي تحتاج إلى شرف وعصبية، كالقضاء مثلا، فإنهم كانوا يعدونه فوق مرتبتهم، فإن عمر بن عبد العزيز لما أراد أن يولي مكحولا القضاء أبى وقال: «قال النبي: لا يقضي بين الناس إلا ذو الشرف في قومه، وأنا مولى».
78
سياسة الدولة في عهد الأمويين
من سنة 41-132ه
قد رأيت مما تقدم أن سياسة الدولة في أيام الراشدين إنما كان قوامها الجامعة العربية، وعمادها العدل والرفق والأريحية، ففتحوا العالم وأسسوا الدولة الإسلامية، وأخضعوا معظم المعمور في بضع وعشرين سنة، ووجهتهم دينية وسلاحهم التقوى والحق، والعمل بالكتاب والسنة، وغايتهم نشر الدين والتماس الثواب في الآخرة، وحكومتهم بالانتخاب والشورى، وسترى في سياسة بني أمية ما يخالف ذلك من كل الوجوه. (1) انتقال الخلافة إلى الأمويين
لما طمع بنو أمية في الخلافة، كانت قد أفضت إلى علي بن أبي طالب صهر النبي وابن عمه، والمسلمون يعتقدون أنه أحق الناس بها، لقرابته من النبي وتقواه وشجاعته وعلمه، وسابقته في الإسلام وفضله في تأييده. فتصدى له معاوية بن أبي سفيان، وكان أبوه وإخوته من أشد الناس مقاومة للإسلام عند ظهوره، ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وإنما أقدموا على ذلك مضطرين، لما رأوا الإسلام قد تأيد في جزيرة العرب ولم يبق سبيل إلى مقاومته.
وكان أبو سفيان والد معاوية زعيم أهل مكة، وقد حارب النبي في عدة أمكان. وجاهر بعداوته وطعن فيه. فلما ظفر المسلمون في غزواتهم، واشتد آزرهم وهموا بفتح مكة ومشوا حتى أقبلوا عليها، كان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا منها يتجسسون . فلقيهم العباس عم النبي، فقال له أبو سفيان وقد أسقط في يده: «لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيما»، فأشار عليه العباس أن يستأمن، فلم ير له حيلة في غير ذلك فاستأمن، ثم فتحت مكة ولم يكن له بد من الإسلام فأسلم هو وأولاده وفيهم معاوية، وقد تألفهم النبي بالعطاء ليثبتوا في إسلامهم.
1
المنافسة بين بني أمية وبني هاشم
والسبب في طلب معاوية للخلافة متصل بالجاهلية. وذلك أن بني عبد مناف هم أشرف بطون قريش وأكثرهم عددا وقوة، وهم فخذان: بنو أمية وبنو هاشم، وكان بنو أمية أكثر عددا من بني هاشم وأوفر رجالا، وكان لهم قبل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان وجد معاوية. وكان حرب المذكور رئيسهم في واقعة الفجار قبل الإسلام، وله جاه وشوكة في الفخذين جميعا، فلما جاء الإسلام، والنبي من بني هاشم شق ذلك على بني أمية وكانوا من أقوى الساعين في مقاومته، فلم يفلحوا ولكنهم حملوا النبي على الهجرة من مكة إلى المدينة، وقد نصره الأنصار هناك وهم من القحطانية حتى استتب له الأمر، وقد مات عمه أبو طالب وهاجر بنوه مع النبي إلى المدينة. ثم لحقهم أخوه حمزة ثم العباس وغيره من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم، فخلا الجو لبني أمية في مكة، واستغلظت رياستهم في قريش، وزادت سطوتهم بعد واقعة بدر؛ إذ هلك فيها عظماء قريش من سائر البطون. فاستقل أبو سفيان بشرف أمية بمكة والتقدم في قريش، وكان رئيسهم في واقعة أحد وقائدهم في واقعة الأحزاب وما بعدها. فلما استفحل أمر المسلمين وفتحوا مكة واستأمن أبو سفيان كما تقدم، رأى النبي من حسن السياسة أن يمن على قريش كافة بعد أن ملكهم بالفتح عنوة، فمن عليهم وأطلق سبيلهم وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وفيهم معاوية، فأسلموا جميعا.
فلما مات النبي وتولى الخلافة أبو بكر، جاء القرشيون ومعظمهم من بني أمية، وشكوا إليه ما وجدوه في أنفسهم من التخلف عن رتب المهاجرين والأنصار، فقال لهم أبو بكر: «لقد جئتم الإسلام متأخرين، فأدركوا إخوانكم في الجهاد»، فجاهدوا في حروب الردة. ولما تولى عمر بن الخطاب أدرك ما في نفوسهم، فخاف بقاءهم في المدينة، فرمى بهم الروم ورغبهم في الشام، فاستعمل يزيد بن أبي سفيان عليها، فانتقل معه سائر قريش، واستطابوا فاكهة الشام فأقاموا فيها حتى توفي يزيد المذكور، فولى عمر مكانه أخاه معاوية. ولما تولى عثمان سنة 23ه أقر معاوية على الشام ، فاتصلت رياسة بني أمية على قريش في الإسلام كما كانت في الجاهلية، وبنو هاشم مشتغلون بالنبوة وقد نبذوا الدنيا.
معاوية وعلي
وكان بنو أمية ينظرون إلى ما ناله بنو هاشم بالنبوة من السلطان والجاه، ويتوقعون فرصة للقبض على أزمة الملك. فلما قتل عمر بن الخطاب وأمر بالشورى، اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية، ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب من دسيسة أموية، وكان عثمان ضعيفا يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة، فاغتنم الأمويون ضعفه وتولوا الأعمال واستأثروا بالأموال، فشق ذلك على سائر الصحابة فنقموا عليه، ثم استشهد بعد ذلك على ما هو معروف.
فاتخذ الأمويون قتله ذريعة للقبض على الخلافة، ورئيسهم معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام ومعه رجال قريش. وكان أهل المدينة قد بايعوا علي بن أبي طالب، وجمهورهم الأنصار. فأصبح المسلمون يومئذ حزبين رئيسيين: (1)
الأنصار ويريدون الخلافة لأهل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم
جريا على نصرتهم إياه يوم هجرته. (2)
بنو أمية في الشام ويطلبونها لمعاوية ابن زعيمهم في الجاهلية.
وجمهور الصحابة يرون الحق لعلي، فلم ير معاوية سبيلا إلى نيل بغيته إلا بالدهاء والتدبير. وكان أدهى أهل زمانه بلا منازع. فنظر في الأمر نظرة رجل يطلب الملك كما يطلبه أهل المطامع وطلاب السيادة في كل عصر بلا علاقة بالدين. وقد ساعده على ذلك أن خصمه عليا كان يعتبر الخلافة منصبا دينيا، وهو زاهد في الدنيا لا مطمع له في غير الثواب والحسني. وإن رجال معاوية قد ذهبت منهم حرمة الدين، ونسوا دهشة النبوة وذاقوا لذة الثروة وتعودوا السيادة فاتسعت مطامعهم، فأثمرت مساعي معاوية في اصطناع الأحزاب بقاعدة ذكرها في حديث دار بينه وبين عمرو بن العاص: إذ قال معاوية: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فقال عمرو: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «إن هم شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت».
فأول شيء فعله معاوية أنه استعان بثلاثة من كبار الصحابة يعدهم المؤرخون أدهى رجال العرب - ومعاوية أدهاهم جميعا - وهم: عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، والمغيرة بن شعبة. ولولاهم لم يستتب له الأمر؛ لأن ابن العاص احتال في نجاته من واقعة صفين، بعد أن كادت الدائرة تدور عليه، إذ ظهرت جيوش علي على جيوشه، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يرفع المصاحف لإيقاف الحرب، ثم أشار بالتحكيم وخدع أبا موسى الأشعري نائب علي في ذلك التحكيم فخلع عليا وبايع معاوية. ونال عمرو في مقابل ذلك ولاية مصر طعمة له طول العمر.
2
وزياد بن أبيه رجل لا يعرف له أب، فلما رأى معاوية دهاءه قربه منه وادعى أنه أخوه، واستلحقه بنسبه وسماه زياد بن أبي سفيان، في حديث طويل ذكرنا خلاصته فيما تقدم. واستلحاق زياد أول عمل ردت به أعلام الشريعة الإسلامية علانية
3
وكان زياد عونا كبيرا لمعاوية في حفظ العراق وفارس. أما المغيرة بن شعبة فهو أول من ضرب الزيوف في الإسلام وأول من رشى
4
وهو الذي حرض معاوية على مبايعة ابنه يزيد، وجعل الخلافة وراثية في نسله وساعده على ذلك.
فهؤلاء وغيرهم من كبار القواد اكتسب معاوية مساعدتهم بالدهاء والأطماع، فأطعم ابن العاص مصر، وأطعم المغيرة فارس، وجعل زيادا أخاه، وكان يتساهل في محاسبة عماله ويغضي عن سيئاتهم
5
ويبالغ في إكرامهم. ولو رأوا من علي بعض ذلك لكانوا معه، ولكن عليا كان دقيقا في محاسبتهم، متصلبا في رأيه لا يحيد عما يقتضيه ضميره - كذلك كان يفعل أبو بكر وعمر، ولكن المسلمين كانوا في أيامهما لا يزالون في إبان الحمية الدينية والأريحية العربية، ينصاعون لأوامر خليفتهم بكلمة؛ ولذلك عدوا تصرف علي ضعفا منه. فلما رأوا ضعفه انحازوا إلى معاوية بعد أن كانوا معه، وأولهم المغيرة بن شعبة، فهذا جاء عليا يوم بويع ومعاوية واقف له بالمرصاد، فأشار عليه أن يحاسن معاوية ولا يعزله عن عمله في الشام، ريثما يستتب له الأمر فيعزله إذا شاء، فلم يطعه علي، فعاد إليه في اليوم التالي وخادعه، وأشار عليه أن يعزل معاوية ويفعل كما يشاء، ثم انحاز المغيرة إلى معاوية وصار من أكبر أنصاره.
وقس على ذلك تصرف علي مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وكيف كدره وأخرجه من حوزته بتدقيقه كما تقدم. ولما قتل علي خلفه ابنه الحسن، فرأى نفسه عاجزا عن منازلة معاوية، فتنازل له عن الخلافة سنة 41ه، فرسخت قدم معاوية فيها. وسار بنو أمية بعده على خطته، وسار العلويون على خطة علي، وكان الفوز دائما لأهل الدهاء، فقضى العلويون معظم أيامهم خائفين شاردين، ومات أكثرهم قتلا مع أنهم أهل تقوى ودين وحق، وأولئك على الضد من ذلك - مما يدلك على أن السياسة والدين لا يلتحمان إلا نادرا، وما التحامهما أيام الراشدين إلا فلتة قلما يتفق مثلها. على أننا لا نعد دولة الراشدين حكومة سياسية، وإنما هي خلافة دينية. (2) رغبة بني أمية في السيادة
إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية، والغرض الذي كانوا يرمون إليه، إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية، بقطع النظر عن وعورة المسالك المؤدية إلى ذلك، أو وخامة الأسباب التي تمسكوا بها. وقد فازوا بغايتهم، فاتسعت المملكة الإسلامية في أيامهم واشتدت شوكتها، ما لم تبلغ إليه دولة العباسيين بعدها.
6
وكانوا يطلبون السلطة على أن لا يشاركهم فيها أحد، وكان أشدهم فتكا عبد الملك بن مروان يقول: «لا يجتمع فحلان في أجمة».
7
فرغبة بني أمية في السلطة على هذه الصورة، مع وجود من هو أحق منهم بها، جرهم إلى ارتكاب أمور آلت إلى توجيه المطاعن إليهم. وقد ظهرت هذه الدولة وتغلبت على سائر طلاب الخلافة في أيامهم بشيئين: العصبية القرشية، واصطناع العصبيات أو الأحزاب الأخرى، وهما أساس كل ما ظهر من سياسة بني أمية كما سترى. (3) العصبية العربية في عصر الأمويين (3-1) العرب وقريش
كانت العصبية العربية في الجاهلية بين القبائل بحسب الأنساب، فلما جاء الإسلام تنوسيت تلك العصبية، واجتمع العرب كافة باسم الإسلام أو الجامعة الإسلامية، وما زالت الجامعة الإسلامية تشمل العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم طول أيام الخلفاء الراشدين. حتى إذا طمع بنو أمية في الملك، وقبضوا على أزمة الخلافة، استبدوا وتعصبوا للعرب، وحافظوا على مقتضيات البداوة وتمسكوا بعاداتها، فظلت خشونة البادية غالبة على حكومتهم وظاهرة في سياستهم، مع ذهاب مناقب البدو التي ذكرناها. وإنما حفظوا من أحوال جاهليتهم تعصبهم لقبيلتهم «قريش»، وإيثار أهلهم على سواهم. فجاشت عوامل الحسد في نفوس القبائل التي كان لها شأن في الجاهلية وضاع فضلها في الإسلام، وخصوصا أهل البصرة والكوفة والشام؛ لأن أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولا هذبتهم سيرته ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم من جفاء الجاهلية وعصبيتها، فلما استفحلت الدولة إذا هم في قبضة المهاجرين والأنصار، من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم، ومصادمة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس من ربيعة وكندة، والأزد من اليمن، وتميم وقيس من مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، فعادت العصبية إلى نحو ما كانت عليه في الجاهلية.
بدأت هذه العصبية بتعصب العرب كافة على قريش، حسدا لهم كما ذكرنا، ولاستبدادهم بالسلطة دون سائر الصحابة أو التابعين مع استئثارهم بالفيء - إلا الذين تألفهم معاوية من القبائل اليمنية أو العدنانية. وأول خلاف وقع بين المسلمين من هذا القبيل حدث في أيام عثمان، ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة اختار وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة لمجالسته، فكانوا يسمرون عنده وفيهم جماعات من كل القبائل. وكان بنو أمية وغيرهم من الصحابة قد أخذوا في امتلاك العقار وبناء المنازل، وبنو أمية أطول باعا يومئذ في ذلك لقرابتهم من الخليفة. فاتفق في إحدى مسامراتهم عند سعيد بن العاص أن بعضهم ذكر جود طلحة بن عبيد الله أحد كبار الصحابة، فقال سعيد: «إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادا، ولو كان لي مثله لأعاشكم الله به عيشا رغدا». والنشاستج ضيعة في الكوفة كانت لطلحة، وهي عظيمة كثيرة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمرها فعظم دخلها.
8
فلما قال سعيد ذلك قام غلام من الحضور فقال له: «لوددت أن هذا الملطاط لك». والملطاط ما كان للأكاسرة على جانبي الفرات مما يلي الكوفة. فنهض بعض الحاضرين من غير قريش وانتهر الغلام فاعتذر أبوه عنه وقال: «غلام فلا تجاوزه». فقال: «كيف يتمنى له سوادنا؟» أي: سواد العراق فقال سعيد: «السواد بستان قريش». وكان الأشتر النخعي حاضرا، وهو من اليمنية، وكان شديد التعصب لعلي بن أبي طالب، فغضب وقال لسعيد: «أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟» فقال عبد الرحمن الأسدي صاحب شرطة سعيد فقال للأشتر: «أتردون على الأمير مقالته؟» وأغلظ لهم، فأشار الأشتر إلى رفاقه فوثبوا على الرجال فوطئوه وطأ شديدا حتى غشي عليه، ثم جروا برجله ونضحوه بالماء فأفاق، فنظر إلى سعيد وقال: «إن الذين انتخبتهم لمسامرتك قتلوني». فقال سعيد: «والله لا يسمر عندي أحد أبدا».
9
فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين، وخصوصا بينهم وبين اليمنية، ومنهم الأنصار. وثبت الأنصار في نصرة أهل البيت ضد أهلهم من قريش مثلما فعلوا في أول الإسلام، إذ جاءهم النبي مهاجرا فرارا من أهله. ولما جرت واقعة صفين سنة 37ه بين علي ومعاوية عدوها بين اليمنية «الأنصار» وقريش. فلما احتدم القتال في تلك الواقعة قال رجل يمني من أنصار علي: «أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (أي: السيوف)؟ والذي نفسي بيده لنقاتلنكم على تأويله (القرآن) كما قاتلناكم على تنزيله»، وتقدم وهو يقول:
نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل المهاب عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
10 (3-2) القبائل اليمنية والمضرية
ثم صار أكثر اليمنية شيعة علي وأنصاره، إلا الذين تألفهم معاوية بالعطاء؛ لعلمه أن اكتفاءه بقريش ونحوهم لا يجديه نفعا، فقرب منه قبيلة كلب وتزوج منها بجدل أم يزيد ابنه، واستنصرهم على قتلة عثمان؛ لأن امرأة عثمان كانت كلبية، واستغواهم بالمال فحاربوا معه، ولما فاز في حروبه ورسخت قدمه في الخلافة تقربت منه قبائل كثيرة من مضر واليمن، وظلت كلب على نصرة يزيد ابنه بعده؛ لأنهم أخواله.
فلما مات يزيد وابن الزبير في مكة يطالب بالخلافة، واختلف بنو أمية على اختيار خالد بن يزيد أو مروان بن الحكم (وكلاهما من أمية)، ووقع الخصام بين دعاة ابن الزبير ودعاة بني أمية، كان أنصار ابن الزبير من قيس (مضرية) يدعون لابن الزبير، وأنصار بني أمية بنو كلب (يمنية) يدعون لخالد بن يزيد؛ لأنه ابن أختهم. ونهض أناس من بني أمية فاعترضوا على صغر سن خالد، فأجمعوا على بيعة مروان لشيخوخته على أن تكون الخلافة بعده لخالد. ثم جرت واقعة مرج راهط بين أصحاب مروان وأصحاب ابن الزبير، أي: بين كلب وقيس، وفاز مروان وثبتت قدمه في الخلافة. ثم توفي مروان ولم يف لخالد، فخلفه ابنه عبد الملك بن مروان الشديد الوطأة، وظلت كلب معه وقيس مضطغنة عليه، وانقسم العرب في سائر أنحاء المملكة الإسلامية بين هذين الحزبين: قيسية وكلبية، أو مضرية ويمنية، أو نزارية وقحطانية. وقامت المنازعات بينهما في الشام والعراق ومصر وفارس وخراسان وإفريقية والأندلس. وفي كل بلد من هذه البلاد وغيرها حزبان: مضري ويمني، تختلف قوة أحدهما أو الآخر باختلاف الخلفاء أو الأمراء أو العمال. فالعامل المضري يقدم المضرية، والعامل اليمني يقدم اليمنية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، وله تأثير في كل شيء من تصاريف أحوالهم، حتى في تولية الخلفاء والأمراء وعزلهم، وكثيرا ما كانت الولاية والعزل موقوفين على الانحياز إلى أحد هذين الحزبين.
فقد رأيت أن قبيلة قيس كانت على عبد الملك بن مروان، ولكنها كانت أول نصير لابنه هشام، فنصرته فقربها وألحقها بالديوان أي: فرض لأهلها الرواتب والجرايات. وفي أيامه نقل كثير من بطونها وأفخاذها إلى بلاد الإسلام وخصوصا مصر والشام. وفي أيام هشام ارتفع شأن القيسية، وصارت سائر المضرية أنصارا لبني أمية، ولا سيما لما قتل الوليد بن يزيد وأمه قيسية
11
فقام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية يطالب بدمه رغبة في نصرتهم ليشتد أزره بهم، فأجمع المضرية على نصرة مروان، وما زالوا كذلك إلى آخر أيامه، فلما قامت شيعة بني العباس كانت اليمنية من أنصارها.
وكانت تحت هذين الحزبين الكبيرين أحزاب فرعية تتخاصم وتتحارب. على أن مقام قريش ما زال في كل حال محفوظا ومفضلا على مقام سائر القبائل شرفا ونفوذا، فكانوا إذا خافوا عصيان بعض الولايات على عاملها ولوا عليها عاملا من قريش، فيذعنون له ويجمعون على طاعته.
12
على أن قريشا كانوا منقسمين فيما بينهم، وأهم انقساماتهم بين بني أمية وبني هاشم، فكان الناس يتعصبون لأحدهما على الآخر تبعا لغرضه أو وطنه، وكثيرا ما كانوا يتشاجرون في هذا السبيل فيشغلون أوقاتهم بالمناظر والمفاخرة، حتى تحتدم نار الخصام وتتحول إلى حرب يطير شرارها وتسفك فيها الدماء. وكانت قوة بني هاشم في الحجاز والعراق، وقوة بني أمية في الشام، ويختلف هذا التحديد باختلاف العصور. وكثيرا ما كان الخصام يبدأ بين الشعراء، واشتهر بعضهم على الخصوص في هذه المطاعنات، وأشهر مناظراتهم في هذا السبيل ما كان بين سديف الشاعر، الذي ينتسب بولائه إلى بني هاشم، فقد كان يتعصب لهم، وسياب الشاعر وكان يتعصب لبني أمية، فكان هذان الشاعران يخرجان إلى ظاهر مكة يذكران المثالب والمعائب، والناس ينقسمون في التعصب لهما، حتى تولد من ذلك عصبتان كبيرتان عرفتا بالسديفية والسيابية، وتواصل ذلك إلى أيام الدولة العباسية، وتغير اسمهما إلى الحناطين والجزارين
13
وسديف هذا هو الذي قال شعرا بين يدي السفاح قتل به سليمان بن هشام الأموي. (4) عصبية العرب على العجم
وكما كان القرشيون في أيام بني أمية مقدمين على سائر قبائل العرب، فإن العرب على الإجمال كانوا مقدمين على سائر الأمم الذين دانوا بالإسلام. ولم يكن هؤلاء يستنكفون من ذلك، بل كانوا يعتقدون فضل العرب في إقامة هذا الدين، وأنهم مادته وأصله، ولا كانوا يأنفون من أن يسموا العرب أسيادهم ويعدوا أنفسهم من مواليهم، بل كانوا يعدون طاعتهم وحبهم فرضا واجبا عليهم، عملا بالحديث المأثور: «من أبغض العرب أبغضه الله»
14
وكثيرا ما كانوا يعترفون بفضلهم عليهم في العقل والحزم وسائر المناقب، فإن عبد الله بن المقفع المنشئ الشهير - وكان عريقا في النسب الفارسي - ضمه مجلس في بيت بعض كبراء الفرس بالبصرة، وفيه جماعة من أشراف العرب، فتصدى هو للكلام فسأل بعض الحضور: «أي الأمم أعقل؟» فظنوه يريد أمته فقالوا: «فارس» فقال: «كلا ... لأنهم وإن ملكوا الأرض وضمت دولتهم الخلق، لكنهم لم يستنبطوا شيئا بعقولهم»، فقالوا: «الروم» فقال: «لا» حتى سئموا فقالوا: «قل أنت»، قال: «العرب. وإذا فاتني حظي من النسبة إليهم فلا يفوتني حظي من معرفتهم. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت عليها، أصحاب إبل وغنم وسكان شعره وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده، ويشارك ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيحسن فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم». (4-1) العرب والموالي
فكان العرب يزدادون بأمثال هذه الأقوال افتخارا على سائر الأمم، وخصوصا على المسلمين منهم، فكانوا يترفعون عنهم ويسمونهم الموالي كما تقدم. ومن أقوال أهل العصبية للعرب على العجم: «لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر، وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان، كما في الأثر - أن قوما يقادون إلى حظوظهم بالسواحير. وكما قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل. على أننا تعرضنا للقتل فيهم، فمن أعظم عليك نعمة ممن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم وفرض علينا جهادكم ورغبنا في مكاتبتكم».
وكانوا يكرهون أن يصلوا خلف الموالي، وإذا صلوا خلفهم قالوا: إننا نفعل ذلك تواضعا لله. وكان نافع بن جبير التابعي الشهير إذا مرت به جنازة قال: «من هذا؟»، فإذا قالوا: «قرشي» قال: «وا قوماه!»وإذا قالوا: «عربي» قال: «وا بلوتاه!» وإذا قالوا: «مولى» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء».
15
وكانوا يقولون: «لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب، أو مولى». وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يدعونهم يتقدمونهم في المواكب، وإن حضروا طعاما قاموا على رؤوسهم، وإن أطمعوا المولى لسنه وفضله وعلمه أجلسوه في طريق الخباز؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب - وسيأتي الكلام على أحكام الموالي في هذا العصر.
وكان العرب في أيام هذه الدولة يترفعون عن سائر الأمم من الموالي وأهل الذمة، ويعدون أنفسهم فوقهم جبلة وخلقة وفضلا، وكانوا يسمونهم «الحمراء» كما تقدم، وربما أرادوا بالحمراء الموالي على الخصوص. فكان العربي يعد نفسه سيدا على غير العربي، ويرى أنه خلق للسيادة وذاك للخدمة؛ ولذلك لم يكن العرب يشتغلون في صدر الإسلام إلا بالسياسة والحكومة، وتركوا سائر الأعمال لسواهم وخصوصا المهن والصناعات. ومن أمثالهم «أن الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين»؛ لأنها صناعات أهل الذمة
16
وتخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر صاحب العراق فقال المولى: «لأكثر الله فينا مثلك»، فقال العربي: «بل كثر الله فينا مثلك»، فقيل له: «أيدعو عليك وتدعو له؟»، قال: «نعم، يكسحون طرقنا ويخرزون خفافنا ويحوكون ثيابنا».
17
ولم يكن العرب يعتنون بشيء من العلم غير الشعر والتاريخ؛ لأنه لازم للسيادة والفتح، وأما الحساب والكتابة فقد كانت من صناعات الموالي وأهل الذمة؛ ولذلك كان العمال في أيام بني أمية مع تعصبهم للعرب، قلما يولونهم الدواوين؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يحسبون.
18
وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعا وأرقاء. فلما تكاثر الموالي أدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب، فهم أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم. وقبل مباشرة ذلك استشار بعض كبار الأمراء من رجال بطانته، وفيهم الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب، فقال لهما: «إني رأيت هذه الحمراء (يعني: الموالي) وأراها قد قطعت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فرأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق، فما ترون؟». فقال الأحنف: «أرى أن نفسي لا تطيب ... أخي لأمي وخالي ومولاي وقد شاركناهم وشاركونا في النسب»، وأما سمرة فأشار بقتلهم وطلب أن يتولى ذلك هو بنفسه، فرأى معاوية أن الحزم في رأي الأحنف فكف عنهم. فاعتبر مقدار استخفاف العرب بسواهم، وكيف يخطر للخليفة أن يقتل شطرا منهم بغير ذنب اقترفوه كأنهم من الأغنام.
وكأن العرب سكروا بخمرة السيادة والنصر، بارتقائهم من رعاية الإبل إلى سياسة الممالك في بضعة عشر عاما، فتوهموا في فطرتهم ما ليس في سواهم من المناقب والسجايا كما توهم الرومان قبلهم، وكما يتوهم أهل هذا العصر في بعض الأمم السائدة، فيعتقدون امتيازها بأصل فطرتها عن سائر الأمم، فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم ... حتى في أبدانهم وأمزجتهم فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين إلا عربية كما تقدم، وأن الفالج لا يصيب أبدانهم، ولا يضرب أحدا من أبنائهم، إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن فيعرض الفالج لمن يلدنه؛
19
ولذلك كانوا في أيام بني أمية شديدي العناية في حفظ أنسابهم من شوائب العجمة، ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء، فقالوا: «لا يصلح للقضاء إلا عربي»
20
وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيا، وكان ذلك من جملة ما احتج به هشام على يزيد بن علي بن الحسين، إذ قام يطلب الخلافة لنفسه فقال له هشام بن عبد الملك: «بلغني أنك تخطب الخلافة ولا تصلح لها؛ لأنك ابن أمة»
21
مع أن أمه من بنات ملوك فارس. وأول من ولي الخلافة من أبناء الإماء يزيد بن الوليد الأموي سنة 101ه، وكانوا يسمون العربي من أم أعجمية «الهجين»، ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرا، وإن كانت هي من أحقر القبائل. فإن بعض دهاقين الفرس أراد أن يتزوج امرأة من باهلة كانت في بعض قصور الترك فأبت، مع أن باهلة من أحقر قبائل العرب. ولم يكن أثقل على طباعهم من استرقاق العربي.
22
وكان فضل العرب على سواهم قضية مسلمة في صدر الإسلام لا تحتاج إلى دليل، فلما بالغ بنو أمية في الاستخفاف بغير العرب وقد ذهبت دهشة النبوة، أخذ هؤلاء في التذمر ونصروا آل علي والخوارج وغيرهم من أعداء الأمويين، وهان عليهم الرد على العرب في مفاخراتهم، فنشأ من ذلك طائفة يعرفون بالشعوبية، لا يعترفون بفضل العرب على سواهم، وتصدوا لدفع حجج القائلين: بفضل العرب على سائر الشعوب. ولم يكن الشعوبية يستطيعون الظهور في أيام بني أمية
23
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس وانحط شأن العرب بعد قتال الأمين والمأمون، ظهروا وألفوا الكتب في مثالب العرب، كما سيأتي. (4-2) آثار بني أمية في الإسلام
فالدولة الأموية كانت شديدة الحرص على منزلة العرب، كثيرة العناية في حفظ الأنساب، فجعلت في كل ديوان من دواوينها سجلا يقيدون فيه من يولد من أبناء العرب المقيمين في البلاد المفتوحة
24
وهي التي جعلت الإسلام دولة، وقد كان في أيام الراشدين دينا، فصار على عهد الأمويين عصبية وسيفا، ثم صار دولة أيدوها بنشر اللغة العربية في المملكة الإسلامية، بنقل الدواوين من القبطية والرومية والفارسية إلى العربية. وبعد أن كانت مصر قبطية والشام رومية والعراق كلدانية أو نبطية، أصبحت هذه البلاد بتوالي الأجيال عربية النزعة وتنوسيت لغاتها الأصلية، وهي تعد الآن من البلاد العربية، وإذا نزلها التركي أو الإفرنجي أو غيرهما من أي أمة كانت وتوالد فيها عد نسله عربيا.
وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفائهم. وكان خلفاؤهم يرسلون أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم ،
25
وظل كثير من عادات الجاهلية شائعا في أيامهم، كالمفاخرة والمباهلة ومناشدة الأشعار في الأندية العامة، فكان أشراف أهل الكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون ويتذاكرون أيام الناس. وكان خارج البصرة بقعة يقال لها: المربد، يجتمع إليها الناس من البصرة وغيرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون
26
كما كانوا يفعلون في عكاظ. وكان في المربد حلقات للعلماء أو الشعراء يجتمع عليهم الطلبة أو المريدون، في جملتها حلقة كانت لراعي الإبل. والفرزدق وجلساتهما بأعلى المربد
27
وقس على ذلك ما كان يقع هناك من المفاخرة والمناضلة، كأنهم بعصبيتهم إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام. ولم يبلغ العرب من العز والسؤدد ما بلغوا إليه في أيام هذه الدولة، وقد تكاثروا على عهدها وانتشروا في ممالك الأرض. (5) العصبية الوطنية في عصر الأمويين
لم يكن للعرب قبل الإسلام جامعة وطنية يجتمعون بها أو يدافعون عنها؛ لأنهم كانوا لا يستقرون في وطن؛ لتغلب البداوة على طباعهم وتنقلهم بالغزو والرحلة. فلما أسلموا وفتحوا البلاد ومصروا الأمصار وابتنوا المدن وأقاموا فيها، تحضروا ونشأت فيهم الغيرة على تلك المواطن والدفاع عنها والتعصب لها، وهي ما عبرنا عنه بالعصبية الوطنية. (5-1) تحضر العرب بعد الفتح
وقد تدرج العرب إلى الحضارة تدريجا، ولم يكن ذلك مقصودا في بادئ الرأي وإنما سيقوا إليه بطبيعة العمران؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام لا يزالون على بداوتهم، وإذا ساروا للفتح ساقوا معهم أولادهم ونساءهم وإبلهم وسائمتهم كما كانوا يتغازون في أيام جاهليتهم، وإذا فتحوا بلدا نصبوا خيامهم في ضواحيه والتمسوا المراعي لإبلهم وخيلهم. وقد نهاهم عمر عن الزرع، فكأنه نهاهم عن التحضر رغبة منه في استبقائهم جندا محاربا، لا يمنعهم عن الجهاد عقار ولا بناء، ولا يقعدهم عن القتال ترف ولا قصف. فكانوا يقيمون في معسكراتهم بضواحي المدن كما تقيم جيوش الاحتلال في هذه الأيام، وكانوا يعبرون عن ذلك بالحامية أو الرابطة. فكان المسلمون في عصر الراشدين فرقا تقيم كل فرقة في ضاحية مدينة من المدن الكبرى وتسمى جندا. وكانت عساكر الشام أربعة أجناد، تقيم في ضواحي دمشق وحمص والأردن وفلسطين ومنها تسمية هذه الأقاليم بالأجناد. وعساكر العراق كانت تقيم على ضفاف الفرات مما يلي جزيرة العرب، في معسكرين صارا بعدئذ مدينتين هما: البصرة والكوفة. وكانت جنود مصر تقيم في معسكر على ضفاف النيل في سفح المقطم مما يلي بلاد العرب، حيث بنيت الفسطاط بعد ذلك.
وكان العرب (أو المسلمون) يقيمون في تلك المعسكرات بأولادهم ونسائهم، لا يختلطون بأهل القرى، حتى إذا جاء الربيع يسرحون خيولهم للمرعى في القرى، يسوقها الأتباع من الخدم أو العبيد ومعهم طوائف من السادات. فإذا فرغوا من رعاية الخيل عادوا إلى خيامهم، وهم إلى ذلك الحين أهل بداوة وغزو، ومركز دولتهم في المدينة وفيها مقر الخليفة وإليها مرجع المسلمين عند الحاجة.
فلما طال مقامهم في تلك المعسكرات، وأفضت الخلافة إلى بني أمية ورغبوا في الشام عن الحجاز، هان على المسلمين إغفال أمر المدينة وسائر الحجاز وطاب لهم المقام في الشام وسائر الأمصار، وأغفلوا وصية عمر فاقتنوا الأرض والضياع وغرسوا المغارس، فتحولت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال إلى مدن عامرة، أشهرها البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان من المدن التي بناها المسلمون، غير المدن القديمة التي استوطنوها في الشام ومصر والعراق وفارس وغيرها. وما زالوا حتى اقتنوا المغارس والضياع، وابتنوا المنازل والقصور، واشتغلوا بالزرع وتعلموا أشغال أهل المدن من تجارة وصناعة.
تدرجوا إلى ذلك في أعوام متطاولة، لاستغنائهم عن الريع لمعاشهم؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام شركاء فيما يرد على بيت المال من الفيء أو الغنائم من العراق وغيره من البلاد المفتوحة، ولكل مسلم الحق في ذلك الفيء حيثما كان مقامه. فأهل المدينة مثلا يتمتعون بفيء العراق، وكذلك أهل الشام.
فلما بدأوا بالاستيطان في أواخر عصر الراشدين، وأراد أهل كل مصر أن يستقلوا بمصرهم، كان ذلك مجحفا بأهل المدينة؛ لأن معاشهم من فيء البلاد المفتوحة، فشكوا ذلك إلى الخليفة إذ ذاك عثمان بن عفان، وطالبوه بفيئهم من الأرض بالعراق، فاستبدله لهم من أهل العراق بأرض كانت لهؤلاء في الحجاز أو اليمن أو غيرهما من بلاد العرب.
28 (5-2) تعصب المدن الإسلامية بعضها على بعض
ومما زاد المسلمين إيغالا في العصبية الوطنية انقسام الأحزاب السياسية يومئذ باعتبار المدن. وأول خلاف وقع بين بلدين إسلاميين الخلاف الذي وقع بين الشام والكوفة في أيام عثمان بن عفان،
29
ثم حدث الانقسام الوطني السياسي بعد مقتله، وكان أساسه الميل إلى أحد طلاب الخلافة يومئذ، وهم علي ومعاوية وطلحة والزبير، فكان أهل الشام مع معاوية ؛ لأنه أميرهم ومعظمهم من قريش، وكان أهل المدينة مع علي وهم الأنصار وتبعتهم مصر، وكان أهل الكوفة مع الزبير، وأهل البصرة مع طلحة. فلما كانت واقعة الجمل سنة 36ه وقتل طلحة والزبير انحاز أهل العراق إلى علي فضلا عن أهل المدينة ومصر، وظل أهل الشام مع معاوية. ولما كانت واقعة صفين ومسألة التحكيم سنة 37ه، وغلب عمرو بن العاص بمكره، بويع معاوية وتركت مصر لعمرو بن العاص عندما صارت مصر في حوزة معاوية. ولما قتل علي سنة 40ه ومات الحسن ثم قام الحسين يطالب بالخلافة بعد موت معاوية وخلافة يزيد، استعان الحسين بأهل العراق وانتقل إليهم، فبايع أهل الحجاز لابن الزبير. فأصبح الحجاز مع ابن الزبير والعراق مع الحسين والشام ومصر مع معاوية.
وقس على ذلك انحياز تلك البلاد إلى الخلفاء باختلاف الأحوال، فأصبح لكل بلد بتوالي الأعوام استقلال خاص وعوائد خاصة تميزه عن سواه، على أنها كانت تمتاز بعضها عن بعض في ذلك من أيام معاوية، فقد سأل معاوية ابن الكواء عن أهل الأمصار فقال: «أهل المدينة أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأهل الكوفة يردون جميعا ويصدرون شتى، وأهل مصر أوفى الناس بشر وأسرعهم إلى ندامة، وأهل الشام أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم».
وكان لأهل كل بلد غرض خاص في السياسة عبرنا عنه بالعصبية الوطنية، وهي غير عصبية النسب، إذ قد يجتمع أهل البلد الواحد على غرض واحد ويعرفون بجامعة واحدة، كأهل البصرة والكوفة والشام والفسطاط، وهم أخلاط من قبائل شتى. فكان لكل بلد في عصر بني أمية جامعة خاصة يجتمع بها ويحارب باسمها. وهو مؤلف من قبائل تختلف نسبا وعصبية، وفيهم قبائل اليمن ومضر وربيعة وغيرها، يقيم كل منها في حي خاص بها يعرف باسمها، فكانت البصرة مثلا مؤلفة من خمسة أقسام تعرف بالأخماس، كل خمس لقبيلة، وهي الأزد وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية. والمراد بأهل العالية بطون قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة
30
وقس على ذلك سائر البلاد.
فإذا تحارب بلدان وقفت كل قبيلة من أهل البلد الواحد أمام ما يقابلها من قبيلتها في البلد الآخر. ففي واقعة الجمل كانت الحرب بين البصرة والكوفة، فلما انتشب القتال تصدت قبائل اليمن البصرية لقبائل اليمن الكوفية، ونزلت قبائل مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة. وكذلك في واقعة صفين، وهي بين أهل الشام وقائدهم معاوية، وأهل العراق وقائدهم علي. فلما التحم القتال سأل علي عن أهل الشام فعرف مواقفهم، فأخذ يستحث من معه من القبائل على إخوانهم في معسكر عدوه، فقال لأزد: «اكفونا الأزد»، وقال لخثعم: «اكفونا خثعم»، وأمر كل قبيلة معه أن تكفيه أختها في عسكر الشام. إلا أن تكون قبيلة ليس لها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى في الشام ليس بالعراق منها أحد
31 - فتأمل كيف غلبت الجامعة الوطنية على جامعة النسب؛ وإنما غلبت لأن الأحوال اقتضتها فرأى الناس يها ما يسد مطامعهم.
على أن أهل البلد الواحد كانوا يختلفون عددا ونسبا باختلاف عصبية الأمير أو الخليفة، كما تقدم في كلامنا عن عصبية النسب. ويختلف غرض البلد الواحد باختلاف تلك الأحوال مما لا ضابط له، فتنشب الحروب بين البلدين كما تنشب بين القبيلتين. ومن أشهر حوادث الخلاف بين البلاد في صدر الإسلام خلاف أهل الكوفة والبصرة ومفاخرتهما. ففي أيام علي والخوارج كانت البصرة عثمانية، والكوفة علوية، والشام أموية، والجزيرة خارجية، والحجاز سنية
32
وتقلبت هذه الأحوال كثيرا، واختلفت باختلاف الدول والعصور. فحدث بتوالي التقلبات السياسية تعدد الجامعات: أولها الجامعة العصبية أو جامعة النسب بين مضر واليمن، والثانية جامعة الوطن بين العراق ومصر والشام، والثالثة جامعة المذهب بين الفرق الإسلامية كالسنة والشيعة والمعتزلة، وربما اجتمعت كل هذه الفرق في رجلين.
33
ومما ساعد على نشوء الجامعة الوطنية أن أهل الحجاز كانوا يجتمعون بالحرمين ويفاخرون المسلمين بهما؛ لأن الإسلام لا يستغني عنهما وفيهما شيعة علي ولا سيما المدينة. فكان الأمويون - مع عداوتهم للعلويين - لا يرون بدا من زيارة الحرمين ورعاية أهلهما، فيقف ذلك حجر عثرة في سبيل سلطانهم، وخصوصا بعد أن احتمى ابن الزبير بالكعبة وأخرج بني أمية وأحزابهم من الحجاز، فلم يستطع الأمويون التغلب عليه إلا بضرب الكعبة بالمنجنيق؛ ولهذا السبب خطر للأمويين أن ينقلوا منبر النبي من المدينة إلى الشام؛ ليجمعوا عندهم الدين والسياسة. ولعل الحجاج بنى القبة الخضراء في واسط لمثل هذه الغاية، كما بنى المنصور في بغداد بعد ذلك قبة خضراء على مسجد بغداد تصغيرا للكعبة.
34
والغرض من ذلك كله تحويل القلوب عن الحجاز وتصغير أمر العلويين، فلم يجدهم ذلك نفعا. (6) اصطناع الأحزاب في عصر الأمويين (6-1) سياسة معاوية
ومما احتاج إليه بنو أمية في سبيل التغلب لنيل الخلافة اصطناع الرجال واجتذاب الأحزاب، كما فعل معاوية بن أبي سفيان في اكتساب نصرة عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، اكتسبهم بالدهاء والعطاء، ثم صار بعد ذلك قاعدة سار عليها بنو أمية في تثبيت دعائم ملكهم، والعلويون أبناء بنت النبي وأحفادها ينازعونهم عليه. على أنه لم يقم في بني أمية رجل مثل معاوية في الدهاء والتعقل، مما يعبر عنه أهل هذا الزمان بالسياسة.
وإذا قسنا أعمال هذا الرجل بأعمال أعاظم رجال السياسة من أهل هذا العصر وغيره، لرأيناه يفوق أكثرهم تعقلا وحكمة ودهاء، وخصوصا إذا اعتبرنا موقفه بإزاء طلاب الخلافة من أهل بيت النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبناء عمه وأبناء بنته، والمسلمون يعتقدون حقهم فيها وأن معاوية طليق لا تحل له الخلافة.
35
وأنه لم يعتنق الإسلام إلا مكرها، ومع هذا غلب عليهم جميعا فقبض على أزمة الملك وجعله إرثا في نسله، ولم يسفك في سبيل ذلك دما كثيرا، وإنما كانت عمدته سعة الصدر والدهاء وبذل الأموال.
أما سعة الصدر فإنه كان يغضى عن مطاعن أهل البيت عليه، ولو فعلوا ذلك بين يديه، وبدلا من أن ينتقم منهم كان يبذل لهم الأموال ويقربهم. فربما دخل عليه الرجل منهم وهو في مجلسه وبين أمرائه، فيطعن فيه ويعرض باختلاسه الملك ويفضل عليا عليه، فيلين له الجواب ويهبه الأموال فينقلب معه ولو كان من أقرباء علي. ذكروا أن عقيلا أخا علي بن أبي طالب وفد على معاوية وعلي لا يزال حيا، فرحب به معاوية وسر بوروده لاختياره إياه على أخيه، وأوسعه حلما واحتمالا، فقال له معاوية: «كيف تركت عليا؟» فقال: «تركته على ما يحب الله ورسوله، وألفيتك على ما يكره الله ورسوله»، فقال معاوية: «لولا أنك زائر منتجع جنابنا لرددت عليك جوابا تألم منه». ثم أحب معاوية أن يقطع الحديث مخافة أن يأتي بشيء يسوءه، فوثب من مجلسه وأمر له أن ينزل وأوصل إليه مالا عظيما. فلما كان من غد جلس معاوية وبعث إلى عقيل، وقال له: «كيف تركت عليا أخاك؟». قال: «تركته خيرا لنفسه منك، وأنت خير لي منه».
36
وأخبار معاوية مع صعصعة بن صوحان العبدي، وغيرها من رجال علي ومريديه كثيرة، تدل على سعة صدر وحلم. فإن لم يكفه الحلم عمد إلى المخادعة أو البذل، فلا يلتقي به واحد ممن يخاف بطشهم إلا رجع راضيا. وقد يأتيه الرجل مستجديا وهو يتعمد خداعه، فينخدع له ويطاوعه ويجيزه. ذكروا أن ابن الزبير - قبل قيامه بالدعوة لنفسه - هرب من عبد الرحمن بن أم الحكم إلى معاوية، وقد أحرق عبد الرحمن داره بالكوفة، فجاء معاوية متظلما، وقال له: «إن عبد الرحمن أحرق داري»، فقال معاوية: «وكم تساوي دارك؟» قال: «100000»، فطلب منه شاهدا فأتاه بشاهد من أصدقائه، فأمر له معاوية بالمال. فلما انصرف الرجلان قال معاوية لجلسائه: «أي الشيخين عندكم أكذب؟ والله إني لأعرف داره، وما هي إلا خصائص قصب، لكنهم يقولون فنسمع ويخادعوننا فننخدع»،
37
وكان ذلك وأمثاله مما أسكت ابن الزبير وغيره عن القيام لطلب الخلافة في أيامه.
فأين هذا من تدقيق علي في محاسبة عماله، حتى أغضب أكثرهم وخسر نصرتهم، وفي جملتهم ابن عمه عبد الله بن عباس بعد أن كان أكبر نصير له، فأغضبه من أجل وشاية لا طائل تحتها كما تقدم؟ على حين أن معاوية كان يهب لعماله الولاية طعمة لهم، وإذا وفد أحدهم عليه بالغ في إكرامه والترحيب به، فكان معاوية بن حديج إذا قدم على معاوية في الشام زينت له الطرق بقباب الريحان تعظيما لشأنه.
38
وكان معاوية يحتمل الطعن والنقد على الخصوص من رؤساء القبائل وأهل البيوتات، وزعماء الأحزاب ولو أطلقوا ألسنتهم عليه. فالأحنف بن قيس التميمي، أحد السادة التابعين وأهل النفوذ، كان على رأي علي وقد نصره في واقعة صفين. فاتفق أنه وفد على معاوية بعد أن استقر له الأمر بالخلافة فلما دخل عليه قال له معاوية: «والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة»، فقال له الأحنف: «والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تدن من الحرب فترا ندن منها شبرا، وإن تمش إليها نهرول لها» ثم قام وخرج ولم يكلمه معاوية. وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: «يا أمير المؤمنين من هذا الذي يهدد ويتوعد؟». قال: «هذا الذي إذا غضب، غضب لغضبه مائة ألف من تميم لا يدرون فيم غضب».
39
على أن معاوية كان إذا خاف عدوا لا يقدر عليه بالسيف ولا يستطيع اصطناعه بالمال احتال على قتله غيلة بالسم، كما فعل بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان قد عظم شأنه عند أهل الشام ومالوا إليه بما عندهم من آثار أبيه، ولغنائه في بلاد الروم وشدة بأسه، فخافه معاوية فأمر ابن الأثال الطبيب أن يحتال في قتله، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه خراج حمص. فدس ابن الأثال إليه شربة عسل مسمومة مع بعض مماليكه فشربها ومات
40
ونجا معاوية منه. وفعل نحو ذلك بالأشتر النخعي مالك بن الحارث، وكان من أشد رجال علي بطشا أو هو أشدهم جميعا ، وقد أبلى معه في صفين بلاء حسنا. فلما اضطربت أحوال مصر بدسائس معاوية، وكانت لا تزال في حوزة علي، بعث الأشتر واليا عليها، فعلم معاوية أنه إن وليها امتنعت عليه، فبعث إلى المقدم على أهل الخراج في القلزم - وهي في طريق الأشتر لا بد من مروره بها عند قدومه إلى مصر - وقال له: «إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت». فخرج حتى أتى القلزم وأقام به، فلما جاء الأشتر استبقاه ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده، فأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياها، فلما شربها مات. وأخذ معاوية يقول لأهل الشام: «إن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه» فكانوا يدعون عليه كل يوم، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيبا وقال: «أما بعد فإنه كان لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين (يعني عمار بن ياسر) وقطعت الأخرى اليوم (يعني الأشتر)»
41
فلما بلغ خبر الأشتر إلى عمرو بن العاص قال: «إن لله جنودا من العسل».
42 (6-2) عمرو بن العاص
فكان معاوية وأصحابه لا يضيعون فرصة، ولا يبالون في إنفاذ أغراضهم ما يرتكبون من القتل أو نحوه. أما علي وأصحابه فكانوا لا يحيدون عن مناهج الدين ومقتضى الأريحية، وكانت أريحيتهم هذه مساعدا كبيرا لفوز معاوية عليهم. ففي واقعة صفين كانت كفة النصر راجحة لعلي، ولو تم له ذلك لقضي على معاوية وأغراضه، وذهبت مساعيه أدراج الرياح، ولذهب أمر بني أمية بذهابه واستتب الأمر لعلي وأهل بيته. وإنما منع من فوز علي دهاء عمرو بن العاص؛ لأن معاوية لما احتدمت المعركة، ورأى الضعف في عسكره وأيقن الخذلان، لجأ إلى عمرو بن العاص وكان محاربا معه وقال له: «هلم مخبآتك يا ابن العاص فقد هلكنا، وتذكر ولاية مصر». فأشار عليه عمرو يومئذ برفع المصاحف، وأن ينادوا: «كتاب الله بيننا وبينكم! من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم والترك ومن للكفار؟» فخدع رجال علي بهذه الحيلة وأوقفوا القتال، ثم اتفقوا على التحكيم وبه أتم ابن العاص حيلته، فخلع عليا وبايع معاوية. فلولا عمرو بن العاص لفشل معاوية وذهب أمره، ولولا أريحية أبداها علي في تلك المعركة لقتل عمرو قبل تدبير تلك الحيلة، وذلك أن عمروا كان قد برز للنزال، فبرز له علي فلما التقيا عرفه علي، فشال السيف ليضربه ويتخلص منه، فلما أيقن عمرو بالموت كشف عن عورته وقال: «مكره أخوك لا بطل»، فثارت الأريحية في نفس علي فحول وجهه عنه وقال: «قبحت!» ونجا عمرو بتلك الحيلة
43
وذهب عمل عمرو هذا مثلا وفيه يقول الشاعر:
ولا خير في صون الحياة بذلة
كما صانها يوما بذلته عمرو
وكذلك كان أصحاب علي من حيث الأريحية والتقوى وصدق اللهجة، تلك كانت طبيعة الإسلام والمسلمين في ذلك العصر الذهبي، إلا من طمع في الدنيا وانحاز إلى معاوية. وكانت هذه المناقب في علي على أقوى أحوالها، ولو تساهل فيها أو أغضى عن شيء منها لنجا من شرور كثيرة؛ ولذلك قالت قريش: «إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكنه لا رأي له في الحرب».
44
فبالدهاء ونحوه تمكن معاوية من نيل الخلافة وتوريثها لابنه، ثم صارت في بني مروان من أمية، ولكنه لم يستطع قطع شأفة المقاومين من طلاب الخلافة، وهم كثيرون أهمهم أولاد علي. على أنه كان يسكتهم بالمسالمة والبذل، وكانوا يهابونه ويسكنون إلى سياسته ويتوقعون من الجهة الأخرى رجوع الخلافة إليهم بعد موته.
فلما رأوه نقلها إلى ابنه يزيد، ثار المطالبون بالخلافة في الحجاز والعراق وغيرهما، وكل منهم يزعم أنه صاحب الحق فيها. فاجتمع سنة 68ه أربعة ألوية في عرفات، كل منها لزعيم يطلب الخلافة لنفسه، أحدها لبني أمية، والآخر للعلويين باسم محمد بن الحنفية، والثالث لعبد الله بن الزبير، والرابع لنجدة الحروري من الخوارج. ثم قام غيرهم ولم يفز بالملك إلا بنو أمية، للعصبية العربية واصطناع الأحزاب. وإليك الأسباب التي ساعدتهم على اصطناع الأحزاب، غير ما تقدم ذكره من دهاء معاوية وضعف رأي علي في السياسة. (7) بذل المال في عصر الأمويين (7-1) العطاء من بيت المال
العطاء من أكبر العوامل التي ساعدت بني أمية في اصطناع الرجال وكسر شوكة أعدائهم؛ لأن العطاء رواتب الجند أو رواتب المسلمين، وكانوا في صدر الإسلام كلهم جندا، ولكل منهم رواتب يختلف باختلاف نسبه من النبي، أو سابقته في الإسلام، أو غير ذلك مما تراه مفصلا في كلامنا عن الديوان في أيام عمر
45
وترى الرواتب فيه للمسلمين على اختلاف طبقاتهم حتى النساء والأولاد. وأصل هذا العطاء من أموال الفيء، وهناك طبقة أخرى من المسلمين الذين لا يستطيعون الحرب، فهم من الفقراء ويأخذون أعطيتهم من أموال الصدقة وهي الزكاة، ولكل من الصدقة والفيء ديوان خاص وحساب خاص.
فمن قبض على بيت المال قبض على رقاب المسلمين، فيجدر بهم أن يتقربوا منه أو يتزلفوا إليه. فإذا قبض عليه رجل حكيم مثل معاوية يعرف كيف يعطي ولمن يعطي، أغناه ذلك عما سواه. فكان معاوية يزيد العطاء أو ينقصه أو يقطعه على حسب الاقتضاء، والغالب أن يبذل الأموال ويضاعف الأعطية حيث يتوسم نفعا، وأخوف ما كان يخافه في خلافته قيام العلويين أو غيرهم من أهل بيت النبي ينازعونه الخلافة، فبذل لهم العطاء بسخاء.
فبعد أن كان عطاء الحسن والحسين بحسب ديوان عمر 5000 درهم في السنة جعلها معاوية مليون درهم، أي إنه ضاعفها 200 مرة، وأعطى مثل هذا المبلغ أيضا إلى عبد الله بن عباس؛ لأنه ابن عم النبي ويخشى منه. وكذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وغيرهم من كبار أبناء الصحابة أهل النفوذ في الإسلام ممن يقيمون في المدينة. فكان من جهة يتألفهم بالأموال ويشغلهم بالرخاء عن النهوض للمطالبة، ومن جهة أخرى يتألف بهم أهل المدينة؛ لأنهم كانوا ينفقون تلك الأموال في أهلها للتمتع بملاذ الحياة، ومنهم من كان ينفق عطاءه على المغنين والشعراء. وأكثرهم سخاء وبذلا من هذا القبيل عبد الله بن جعفر، وهو ابن عم الحسن والحسين، فإنه كان يفد على معاوية في الشام فيدفع إليه عطاءه فيعود إلى المدينة فيفرقه في أهلها. وكان معاوية يعلم ذلك فيقربه ويحسن إليه ليستألف أهل المدينة به.
ويقال: إنه قدم على يزيد بن معاوية بعد توليه الخلافة، فقال له يزيد: «كم كان عطاؤك؟» فقال: «ألف ألف درهم»، قال: «قد أضعفناها لك»، قال: «فداك أبي وأمي، ما قلتها لأحد قبلك»، قال: «قد أضعفناها لك ثانية» فقيل ليزيد: «أتعطي رجلا واحدا 4000000 درهم؟» فقال: «ويحكم إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده فيها إلا عارية».
46
وقس على ذلك بذل معاوية في تألف القبائل، فقد كان يفرض للقبائل التي تحارب معه، ولو بعدت عن نسبه كاليمن مثلا، فإنه كان يتألفها بالأموال خوفا من بطشها، وكان يفرض لها ولا يفرض لقيس وهي أقرب إليه؛ لأنه لم يكن يخاف بأسها، حتى إن أحد رجالها كان يأتي معاوية يطلب منه أن يفرض له فيأبى، كما فعل بمسكين الدارمي، فإنه طلب من معاوية أن يفرض له فأبى، فقال شعرا يعاتبه فيه ويذكره بما بينهما من النسب، ومن ذلك قوله:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء - فاعلم - جناحه
وهل يقنص البازي بغير جناح؟
وما طالب الحاجات إلا مغرر
وما نال شيئا طالب كجناح
فلم يعبأ به لأنه إنما كان ينظر إلى مصلحة نفسه. فاعتزت اليمن واشتد بأسها واستطالت على الدولة، وتضعضعت قيس وسائر عدنان. فبلغ معاوية أن رجلا من اليمن قال يوما: «لهممت أن لا أدع بالشام أحدا من مضر، بل هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشام» فخاف معاوية بأس اليمنية، ورأى أن يضربهم بالمضرية، ففرض من وقته لأربعة آلاف من قيس وغيرها من عدنان، وبعث إلى مسكين يقول له: «لقد فرضنا لك وأنت في بلدك، فإذا شئت أن تقيم بها أو عندنا فافعل، فإن عطاءك سيأتيك». وصار معاوية يغزي اليمن في البحر وقيسا في البر
47
ولولا دهاؤه وحسن أسلوبه لما استطاع التوفيق بينهما.
ويقال نحو ذلك في زيادة العطاء للذين شهدوا الوقائع الهامة ونصروا الأمويين، كواقعة صفين فإن معاوية زاد عطاء أصحابها
48
كما فعل عمر فيمن شهد القادسية. وسار خلفاء بني أمية على خطوات معاوية، فأعطوا أحزابهم حتى فرضوا الأعطية للشعراء، التماسا لقطع ألسنتهم أو ليتقربوا إلى قلوب الناس. وكان أهل التقوى يرون ذلك مجحفا بحقوق بيت المال، ويعترضون على إعطاء الناس من مال الفيء فإنه مال الله أو مال المسلمين . وكان ذلك من جملة ما غير أصحاب علي على معاوية يوم صفين
49
فلما تولى عمر بن عبد العزيز، وسار على نهج الخلفاء الراشدين منع العطاء عن الشعراء، فلما مات عادوا إلى ما كانوا عليه.
وكانوا يفرضون لأي من جاءهم، ولو كان أعرابيا، حتى كان أهل البادية كثيرا ما يبيعون إبلهم ويأوون إلى المدن يطلبون الفرض لهم. ومع ذلك فأهل الأنفة منهم كانوا يدركون ما وراء ذلك من استعباد النفوس، لغرض يعتقدون أنه ضد الحق، وأنه تأييد لدعوة القائمين على أهل البيت فتعافه نفوسهم. يحكى أن امرأة جيها الأشجعي من أهل البادية حرضت زوجها على الذهاب إلى المدينة ليبيع إبله ويفترض في العطاء، فأطاعها وساق إبله حتى إذا دنا من المدينة شرعها بحوض ليسقيها، فحنت ناقة منها ثم نزعت، وتبعها الإبل، وطلبها ففاتته، فقال لزوجته: «هذه الإبل لا تعقل وتحن إلى أوطانها». ثم قال شعرا:
قالت أنيسة: دع بلادك والتمس
دارا بطيبة ربة الآطام
تكتب عيالك في العطاء وتفترض
وكذاك يفعل حازم الأقوام
فهممت ثم ذكرت ليل لقاحنا
بذوي عنيزة أو بقف بشام
إذ هن عن حسبي مداود كلما
نزل الظلام بعصبة أغنام
إن المدينة لا مدينة فالزمي
حقف السناد وقبة الأرحام
يجلب لك اللبن القريض وينتزع
بالعيس عن يمن إليك وشام
وتجاوري النفر الذين بنبلهم
أرمي العدو وإذا نهضت مرام
الباذلين إذا طلبت بلادهم
والمانعي ظهري من الغرام
50
ومن أقوال عبد الملك بن مروان: «أنعم الناس عيشا من له ما يكفيه، وزوجة ترضيه، ولا يعرف أبوابنا الخبيثة فنؤذيه».
51
وكان هم بنو أمية أهل المدينة؛ لأنهم شيعة علي وفيهم الأنصار ونخبة القرشيين، فكان عامل بني أمية فيها إذا اجتمع إليه مال الصدقة من الأطراف أقرض من أراد من قريش منه، وكتب بذلك صكا عليه فيستعبدهم به ويختلفون إليه ويدارونه. فإذا غضب على أحد منهم استخرج المال منه، وما زال هذا شأنهم إلى أيام الرشيد، فكلمه عبد الله بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك فحرقت.
52
وكانوا إذا عصاهم أحد من المسلمين قطعوا عطاءه، ولو كان العاصون بلدا برمتها، كما فعل الوليد لما ثار عليه زيد بن علي، فقطع عطاء أهل الحرمين جميعا
53
وحرم الوليد آل حزم من العطاء؛ لأن قتلة عثمان دخلوا إليه من دارهم في المدينة، وقبض أموالهم وضياعهم، وظلوا كذلك إلى أيام المنصور فأفرج عنهم
54
وكثيرا ما كان الأنصار يمكثون بلا عطاء
55
ولا ذنب لهم إلا أنهم ينصرون أهل البيت. وقطع عبد الملك بن مروان أعطية آل سفيان، مع أنهم أمويون مثله، وإنما فعل ذلك لموجدة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية.
56
فلا غرو إذا اضطر الناس إلى مسايرتهم والإذعان لهم، وهم يعلمون أنهم يخالفون الحق بإذعانهم، وقد يصرحون بذلك فيما بينهم. كما حدث لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد، فأقعده في قبة حمراء وأقبل الناس يسلمون على معاوية بالخلافة، ثم على ابنه يزيد بولاية العهد، حتى جاء رجل منهم فسلم على الاثنين، ثم رجع إلى معاوية فقال: «يا أمير المؤمنين، أعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها». وكان الأحنف بن قيس التميمي حاضرا، فقال له معاوية: «ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟» فقال: «أخاف الله إذا كذبت، وأخافكم إذا صدقت»، فقال معاوية: «جزاك الله على الطاعة خيرا»، وأمر له بمال. فلما خرج لقيه ذلك الرجل فقال له: «يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت».
57 (7-2) تدقيق علي وبخل ابن الزبير
ومما ساعد الأمويين على اصطناع الرجال بالأموال، أن مناظريهم أهل البيت وعبد الله بن الزبير كانوا قليلي العطاء، إما عن إمساك أو عن ورع، حتى قالوا: «وما رؤي في الناس أبخل من أهل البيت، ولا من عبد الله بن الزبير»
58
وكثيرا ما كان إمساكهم سببا في فشلهم وانحياز الناس إلى بني أمية، فمن أمثلة ذلك أن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان عاملا لعلي على أزدشيرخره، فرأى أسرى كان بعض رجال لعلي قد أسرهم، فاشتراهم منه شفقة عليهم، وهم 500 إنسان بخمسمائة ألف، وأطلق سراحهم.
فطالبه علي بالمال، فأدى نحو النصف وطمع في الباقي، فألح عليه أصحاب علي فقال مصقلة: «أما والله لو كان ابن هند (يعني معاوية) ما طالبني بها، ولو كان ابن عفان لوهبها لي»، فقالوا: «إن عليا لا يترك شيئا»، فهرب مصقلة من ليلته ولحق بمعاوية.
59
ومن أمثلة بخل ابن الزبير الذي أفسد عليه الأمر، أن أخاه مصعبا لما قتل المختار بن أبي عبيد في العراق، وأخضع العراق لأخيه، وقد ساعده على ذلك وجوه أهل العراق، فجاء بهم حتى أتى أخاه في مكة وكان لائذا بالكعبة وقال له: «يا أمير المؤمنين، جئتك بوجوه أهل العراق لم أدع لهم بها نظيرا لتعطيهم من هذا المال»، فقال عبد الله: «جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله؟ والله لا فعلت». فلما علموا ذلك وسمعوا منه جفاء انصرفوا من عنده، وكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب
60
وكان ذلك سببا في ذهاب دولة ابن الزبير.
وقس على ذلك بخل العلويين في فرض العطاء، إلا لأهل التقوى أو من في معناهم. على حين أن بني أمية كانوا يفرضون للرجل ولأهله وأولاده، فقد فرض عبد الملك لعامر الشعبي (وما هو من رجال الحرب) ألفين في العطاء، وجعل عشرين من ولده، وأهل بيته في ألفين ألفين من أجل حديث حدثه إياه
61
وكانوا يفرضون للشعراء أعطية معينة يقبضونها في أوقاتها غير الجوائز، فمنهم من عطاؤه ألفان أو أكثر أو أقل. وإذا مدحوهم زادوا أعطيتهم ترغيبا لهم في مدحهم، وكذلك كان يفعل عمالهم في سائر أنحاء المملكة الأموية. وأهل التقى من الخلفاء لا يرون للشعراء حقا في بيت المال
62
فعمر بن عبد العزيز كان إذا أحرجه شاعر، ولم ير مناصا منه أعطاه من ماله الخاص.
63
على أن غير الأتقياء منهم كانوا يقطعون عطاء الشاعر إذا حاد عما يريدونه، كما فعل عبد الملك بن مروان بابن قيس الرقيات لما مدحه، فقال له عبد الملك: «والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء»
64
وكان عمر بن الخطاب يحرض القراء على التماس الرزق من عند أنفسهم، وألا يكونوا عالة على الناس
65
فكيف بالشعراء! (8) الاستكثار من الأموال في عصر الأمويين
وبذل الأموال لاصطناع الأحزاب جر بني أمية إلى خرق كثير من القواعد التي وضعها الخلفاء الراشدون لاقتضاء الأموال وإنفاقها. فقد كانت الأموال التي ترد على بيت المال تعد ملكا للمسلمين، وليس الخليفة أو عامله إلا حافظا لها؛ لينفقها في مصالحهم وتدبير شؤونهم، وله منها راتب معين يتناوله مثل سائر المسلمين، وقد رأيت أن أبا بكر توفي وليس في بيت ماله غير دينار، وأن عمر كان إذا احتاج إلى المال فوق راتبه استقرضه من بيت المال حتى يؤديه من عطائه. وكان عمر يرى أنه لا ينبغي أن يبقى في بيت المال شيء، ونهى عن اختزان المال، وقد أشرنا إلى غرابة هذا الرأي في الجزء الثاني من هذا الكتاب. ونهى عمر أيضا عن الزرع، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع؛ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع من بيت المال. أراد بذلك أن يبقوا جندا على أهبة الرحيل، وأن تبقى البلاد التي فتحوها فيئا يؤخذ من خراجها وجزية أهلها للإنفاق على المسلمين. ووضعوا لكل من الخراج والجزية والصدقة أحكاما لجمعها وتفريقها على مقتضى الشرع.
66 (8-1) عمال بني أمية
فلم اضطر بنو أمية إلى اصطناع الرجال وجمع الأحزاب واسترضاء القبائل وبناء المدن، أغضوا عن كثير من تلك الأحكام، وتوفقوا إلى عمال أشداء لا يبالون بالدين ولا أحكامه في سبيل أغراضهم، مثل زياد بن أبيه عامل معاوية، وعبيد الله بن زياد عامل ابنه يزيد، والحجاج بن يوسف عامل عبد الملك بن مروان، وخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك وغيرهم. فكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بجمع الأموال وحشدها، والعمال لا يبالون كيف يجمعونها. فقد كتب معاوية إلى زياد يقول: «اصطف لي الصفراء والبيضاء»، فكتب زياد إلى عماله بذلك وأوصاهم أن يوافوه بالمال ولا يقسموا بين المسلمين ذهبا ولا فضة
67
وكان العمال من الجهة الأخرى يختصون أنفسهم بجانب من تلك الأموال وليس ثمة من يحاسبهم، وقد أطلق الخلفاء أيديهم في الأعمال ترغيبا لهم في البقاء على ولائهم، فكان العمال يختزنون لأنفسهم الأموال الطائلة، حتى بلغت غلة أحدهم عشرة ملايين درهم في السنة وزادت ثروته على مائة مليون درهم
68
وزادت نفقاتهم زيادة فاحشة، ولم يعد عندهم لراتب العمالة قيمة، حتى كتب أمية بن عبد الله إلى عبد الملك بن مروان يقول: «إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي»،
69
فلما رأى الخلفاء استئثار العمال بالأموال عمدوا إلى مصادرتهم، فكانوا إذا علموا بمال عند أحدهم أنفذوا إليه من يقبض أمواله ويتولى العمل مكانه، والكل طامعون في الكسب لأنفسهم.
وكان العمال لا يرون حرجا في ابتزاز الأموال من أهل البلاد التي فتحوها عنوة، لاعتقادهم أنها فيء لهم كما تقدم. وكقول عامل بني أمية في العراق: «السواد بستان قريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركناه». وقد سأل صاحب إخنا بمصر عمرو بن العاص أن يخبره بما عليه من الجزية فأجابه: «لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك بما عليك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم».
70
ومن قال ذلك يعد مصر فتحت عنوة، وقال غيره: «الصغد بستان أمير المؤمنين». (8-2) الإسلام والجزية
فكان العمال يبذلون الجهد في جمع الأموال بأية وسيلة كانت، ومصادرها الجزية والخراج والزكاة والصدقة والعشور. وأهمها في أول الإسلام الجزية لكثرة أهل الذمة، فكان عمال بني أمية يشددون في تحصيلها، فأخذ أهل الذمة يدخلون في الإسلام، فلم يكن ذلك لينجيهم منها؛ لأن العمال عدوا إسلامهم حيلة للفرار من الجزية وليس رغبة في الإسلام، فطالبوهم بالجزية بعد إسلامهم. وأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف
71
واقتدى به غيره من عمال بني أمية في أفريقية وخراسان وما وراء النهر، فارتد الناس عن الإسلام وهم يودون البقاء فيه، وخصوصا أهل خراسان وما وراء النهر، فإنهم ظلوا إلى أواخر أيام بني أمية لا يمنعهم عن الإسلام إلا ظلم العمال بطلب الجزية منهم بعد إسلامهم، فبعث إليهم رجلا اسمه أبو الصيداء فقال الرجل: «أخرج إليهم على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية»، فقال أشرس: «نعم» فشخص إلى سمرقند ودعا أهلها إلى الإسلام على أن توضع الجزية عنهم. فسارع الناس إلى الإسلام وقل الخراج، فكتب عاملها إلى أشرس: «إن الخراج قد انكسر»، فأجابه: «إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة في الإسلام، وإنما أسلموا تعوذا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه»، ففعل الناس ذلك وبنوا المساجد، وكتب العمال بذلك إلى أشرس فأجابهم: «خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه» فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند، وكانت بسبب ذلك فتنة ارتد عن الإسلام بسببها أهل الصغد وبخارا واستجاش الترك. وما زالوا كذلك حتى تولى خراسان نصر بن سيار وقد عرف موضع الخطأ، فأعلن سنة 121ه أنه وضع الجزية عمن أسلم، وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين، فلم يمض أسبوع حتى أتاه 30000 مسلم كانوا يؤدون الجزية.
72
ناهيك بما كان يرتكبه بنو أمية من زيادة الخراج وضرب الضرائب
73
والاستئثار بالفيء. ولم يقم من خلفائهم من نهي عن ذلك إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه لم ينفق من بيت المال درهما على نفسه ولا أخذ منه شيئا
74
وأمر أهله بذلك فلم يلق سامعا. وهو الذي كتب إلى عماله لما ولي الخلافة: «ضعوا الجزية عمن أسلم، إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا»، ولم تطل مدة حكمه
75
وأراد يزيد بن الوليد أن يتشبه به فتبعه. وكان في جملة ضرائبهم أن يأخذ الخليفة لنفسه نصف دية المعاهد، فأبطلها عمر بن عبد العزيز.
76 (8-3) الصدقة والرشوة
واضطر الأمويون للاستكثار من الأموال أن يمدوا أيديهم إلى أموال الصدقة، وهي الزكاة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتنفق في فقرائهم، خلافا لسائر أموال الدولة كالفيء والغنيمة والجزية فإنها تفرق في المقاتلة والجند. فكان بنو أمية كثيرا ما يعطون جوائز الشعراء ونحوهم من أموال الصدقة
77
وحقها أن تعطى من مال الخليفة الخاص، أو من مال الفيء ونحوه باعتبار أن تلك الجائزة مما ينفع المسلمين في تأييد دولتهم. أو لعل الخليفة اعتبر الشعراء من فقراء المسلمين فأعطاهم من الصدقة، وهو خلاف المألوف؛ لأنه إنما أجازهم؛ لأنهم مدحوه فعليه أن يجيزهم من ماله الخاص. وكانوا أيضا كثيرا ما يعطون أرزاق المسلمين من مال الصدقة، والمحاربون يستنكفون من ذلك ويعدونه حطة في مقامهم، كما اتفق لأهل المدينة وقد جاءهم الخليفة عبد الملك حاجا وأمر للناس بالعطاء، فخرجت البدر مكتوب عليها «الصدقة» فأبى أهل المدينة قبولها، وعدوا ذلك إهانة لهم تعمدها عبد الملك؛ لأن أهل المدينة من أنصار أهل البيت وقالوا: «إنما عطاؤنا من الفيء» فضرب عبد الملك مثلا كشف لهم به عما بينه وبينهم من التضاغن من عهد مقتل عثمان ويوم الحرة.
وكانوا كثيرا ما يعمدون إذا أعوزهم المال إلى بيع الولايات بالرشوة، وخصوصا في أيام ضعفهم وفساد دولتهم. فإن الوليد بن يزيد لما تولى الخلافة زاد أعطيات الناس ترغيبا لهم في طاعته، فلم يجد مالا يكفيه، ولم يكن عنده من العمال الأشداء من يوافيه بالأموال حالا، فكان من جملة ما استعان به على جمع الأموال أنه باع ولاية خراسان وأعمالها ليوسف بن عمر، وصارت الولايات في أيامه بالرشى للخليفة وأصحابه
78
وكانت الولايات تعطى في أيام أسلافه جزاء على خدمة، كما أعطى معاوية عمرو بن العاص مصر مكافأة لنصرته على علي، فاقتدى به خلفاؤه. فكانوا إذا التمس أحدهم الأحزاب أطمع رؤساءها بالولايات، وصار ذلك مشهورا حتى أصبح الأمير إذا دعي لنصرة أحد الخلفاء اشترط مالا أو ولاية معينة. ومما يحكى أن عبد الملك بن مروان، في أثناء محاربته مصعب بن الزبير في العراق، بعث إلى أهل الكوفة والبصرة يدعوهم إلى نفسه ويمنيهم، فأجابوه وشرطوا عليه شروطا وسألوه الولايات. ومن غريب الاتفاق أن أربعين رجلا منهم سألوه ولاية أصبهان، فقال عبد الملك لمن حضره: «ويحكم! ما أصبهان هذه؟» تعجبا ممن يطلبها.
79 (9) الاستخفاف بالدين وأهله
لما طلب الأمويون الخلافة لأنفسهم، وهم يعلمون أن أهل البيت أحق بها منهم، وأن حجة أهل البيت في طلبها مبنية على أساس صحيح، كان أكثير الفقهاء والعلماء وسائر رجال الدين يرون رأيهم ويؤيدون دعوتهم، ولكن العصبية كانت مع الأمويين، والقوة غالبة. أما الفقهاء وسائر أهل التقوى فكانوا لا ينفكون عند سنوح الفرصة عن تفضيل أهل البيت، وتذكير الأمويين بما يرتكبونه في سبيل التغلب من الظلم والقسوة والتعدي، ويعظونهم ويذكرونهم بتقوى الله. وكان معاوية لحلمه ودهائه يغضي عن أقوالهم، ويقطع ألسنتهم بالعطاء والمحاسنة والحلم. فتعودوا ذلك وبالغوا فيه، حتى إذا أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان عمد إلى الشدة والعنف، فحج سنة 75ه بعد مقتل ابن الزبير، ولما جاء المدينة وفيها أنصار أهل البيت خطب فيها خطابا قال فيه:
أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد). ألا وأني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.
فهو أول من نهى عن المعروف
80
فعظم ذلك على أعداء بني أمية حتى تحسروا على أيام معاوية، وقالوا قول ابن الزبير فيه لما جاءه نعيه: «رحم الله معاوية، إنا كنا لنخدعه فيتخادع لنا». (9-1) استهانة بعض الأمويين بالمقدسات
أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف، ولو خالف أحكام الدين. وقد يتبادر إلى الذهن أنه فعل ذلك اقتداء بعامله ونصيره ومؤيد دولته الحجاج بن يوسف، ولا نظنه مقتديا بذلك؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة، وكان قبلها يتظاهر بالتدين فلما تولاها استهوته الدنيا. ذكروا أنه لما جاءوه بخبر الخلافة كان قاعدا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: «هذا آخر العهد بك» أو «هذا فراق بيني وبينك»
81
فلا غرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب الكعبة بالمنجنيق، وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة،
82
والكعبة حرم لا يجوز القتال فيها ولا في جوارها، فأحلوه وظلوا يقتلون الناس فيها ثلاثا، وهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها
83
مما لم يحدث مثله في الإسلام، ودخلوا المدينة وهي أحد الحرمين وقاتلوا أهلها وسفكوا دماءهم، لم يغلق لها باب إلا أحرق ما فيه، حتى إن الأقباط والأنباط كانوا يدخلون على نساء قريش فينزعون خمرهن من رؤوسهن وخلاخلهن من أرجلهن، بسيوفهم على عواتقهم والقرآن تحت أرجلهن.
84
ناهيك بمن قتلوه من الصحابة والتابعين وأهل التقوى صبرا، وإنما أرادوا بذلك تحقير أمر علي وشيعته تأييدا لسلطانهم؛ ولهذا السبب أيضا لعنوه على المنابر، وأمروا الناس بلعنه وقتلوا من لم يلعنه. وأول من قتل صبرا في هذا السبيل حجر بن عدي الكندي في أيام معاوية
85
وظلوا يلعنون عليا على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأبطل ذلك. (9-2) الخلافة والنبوة في رأي بعض العمال
وفق بنو أمية إلى عمال أشداء زادوهم استبدادا وشدة، بما توخوه من تمليقهم بالتعظيم والتغرير مما يخالف أحكام الدين. وأول من تجرأ على ذلك الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك، فإنه سمى الخليفة «خليفة الله»، وعظم أمر الخلافة حتى فضلها على النبوة فكان يقول: «ما قامت السموات والأرض إلا بالخلافة، وإن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين؛ لأن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وأسكنه جنته ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفة، وجعل الملائكة رسلا». وإذا حاجه أحد في ذلك قال: «أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله في حاجته؟». وكان عبد الملك إذا سمع ذلك أعجب به
86
واقتدى بالحجاج من جاء بعده من العمال الأشداء كخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك فقد كان يقول قول الحجاج، وخطب الناس في مكة مرة فقال: «أيها الناس، أيهما أعظم، أخليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟» يعرض أن هشاما خير من النبي
87
واقتدى بالعمال سائر المملقين من وجوه الدولة، وفيهم جماعة كبيرة إنما أسلموا رغبة في الدنيا فزادوا الأمور فسادا. وكانوا يملقون العمال من هذا القبيل ويجرئونهم على خرق حرمة الدين: ذكروا أن خالد القسري كان قليل العناية في حفظ القرآن، فإذا تلا آية أخطأ فيها وألحن في نطقها، فوقف مرة للخطابة فقال وأخطأ، ثم ارتج عليه وفشل، فنهض صديق له من تغلب فقال: «خفض عليك أيها الأمير ولا يهولنك، فما رأيت قط عاقلا حفظ القرآن، وإنما يحفظه الحمقى من الرجال» فقال خالد: «صدقت، يرحمك الله!».
88
فلا غرو بعد ذلك إذا قيل لنا: أن الوليد بن يزيد، سكير بني مروان، رمى القرآن بالنشاب وهو في مجونه وسكره. فقد ذكروا أنه عاد ذات ليلة بمصحف فلما فتحه وافق ورقة فيها
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد
فأمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس والنبل وجعل يرميه حتى مزقه ثم قال:
أتوعد كل جبار عنيد؟
فها أنا ذاك جبار عنيد!
إذا لاقيت ربك يوم حشر
فقل لله: مزقني الوليد!
89
فلم يكن يهم بني أمية نشر الإسلام، وإنما كان همهم الفتح والتغلب وحشد الأموال، فتوقف نشر الإسلام على عهدهم في الأطراف البعيدة كالسند وتركستان مع رغبة أهلهما فيه، وإنما نفرهم منه شدة بني أمية وجشعهم، فكانوا يسلمون ثم يرتدون تبعا لما يرونه من المعاملة الحسنة أو السيئة. فلما تولى عمر بن عبد العزيز التقى الورع، وسار على خطوات سميه ابن الخطاب، كتب إلى ملوك السند وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكانت سيرته قد بلغتهم فأسلموا أو تسموا بأسماء العرب. فلما قتل عمر المذكور سنة 101ه، وعاد بنو أمية إلى سابق سيرتهم ارتد أولئك عن الإسلام.
90
وقس على ذلك ما ارتكبه الأمويون من قتل أبناء علي وصلبهم والمثلة بهم، غير من قتلوه من التابعين وأهل الصلاح صبرا، وأكثرهم إقداما على ذلك عاملهم الحجاج بن يوسف. (10) الفتك والبطش في عصر الأمويين
كان المسلمون في أيام الراشدين يرون الطاعة للإمام واجبة، لا يحتاجون في سياسة شؤونهم إلى حيلة أو عنف، ولا يحيدون عن الحق في أعمالهم أو أقوالهم. إذا أذنب أحدهم اعترف بذنبه وأذعن لما يفرضه الخليفة عليه من القصاص ونحوه، فلم تكن الأحكام تحتاج إلى بحث أو نقض أو حيلة، ولا تنفيذها يفتقر إلى شدة أو عنف. وربما اقتصر القصاص على التوبيخ أو اللوم، وإذا أخطأ الخليفة حكم على نفسه كما يحكم على رعيته. ولم يكن عندهم سجن يحبس فيه الناس، وأول من وضع السجن معاوية، وهو أيضا وضع الحرس
91
لقلة الحاجة إلى ذلك في عصر الراشدين، فكان عمر بن الخطاب يأمر القائد من كبار الصحابة أن يأتيه فيأتي صاغرا، مع علمه أنه لو امتنع عن المجيء لعجز الخليفة عن استقدامه. وقد يأمر بجلد الرجل منهم فيذعن مطيعا. وكان عمر لا يتغاضى عن الذنب الصغير خوفا من الذنب الكبير؛ ولذلك اشتهر بالحزم والصرامة.
فلما تولى الخلافة معاوية، وسلم الأعمال إلى دهاته في العراق، وفارس ومصر وغيرها، والمسلمون لا يزالون في أريحيتهم وأنفتهم، وقد أطلق معاوية ألسنتهم بحلمه وسعة صدره، خاف العمال أن يجر ذلك إلى استفحال الأمر فعمدوا إلى الشدة. وأول من توخى الشدة والعنف زياد بن أبيه عامل معاوية على العراق، زعم أنه يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب في إقامة السياسات بالصرامة والحزم، ولكنه أسرف وتجاوز الحد. وهو أول من شدد أمر السلطة وأكد الملك لمعاوية، فجرد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة
92
وتولى العراق بعده ابنه عبيد الله بن زياد في خلافة يزيد بن معاوية، وفي أيامه قام الحسين بن علي يطالب بالخلافة، وقد نقض بيعة يزيد وحمل على العراق، فكتب يزيد إلى ابن زياد: «احبس على التهمة، وخذ بالظنة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك».
93
ولما أفضت ولاية العراق إلى الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان (65-86ه)، وقد كثر المطالبون بالخلافة، أراد الحجاج أن يتشبه بزياد وابنه في الشدة والعنف، فبالغ في ذلك حتى أهلك ودمر
94
ولم يكن الحجاج أشد وطأة من زياد أو ابنه، ولكن زيادا كان يزجره حلم معاوية، وابن زياد يزجره أمر يزيد أن لا يقاتل إلا من قاتله. وأما الحجاج فقد أعانته شدة عبد الملك على المبالغة في الشدة، فأكبر المسلمون ذلك ونقموا على تلك الدولة، وكثر الخارجون عليها واتهموا خلفاءها بالمروق من الدين. ومن أقوال الخوارج فيهم: «أن بني أمية فرقة بطشهم بطش جبارين: يأخذون بالظنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب».
95 (10-1) بسر بن أرطاة وقتل الأطفال
على أن سياسة بني أمية كانت من أول أمرها مبنية على الشدة والحزم، على ما تقتضيه سياسة الممالك في ذلك العصر، ثم تجاوزوا الحدود ولم يبالوا بالفتك والقتل في سبيل تأييد دعوتهم والتغلب على أعدائهم. فكانوا يطلقون أيدي عمالهم في الأحكام، يقتلون ويصلبون على ما يتراءى لهم بدون مشورة الخليفة، مع أن ذلك لم يكن جائزا في أيام الراشدين؛ لأن الخليفة منهم كان وهو مقيم في المدينة يدير شؤون الرعايا في أطراف المملكة، وهذا الذي أراد عمر بن عبد العزيز أن يرجع إليه في أيام خلافته فلم يفسح له الأجل.
96
فلما مات كتب خليفته يزيد بن عبد الملك إلى عماله أن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبلا من الشدة والبطش.
97
فكان الخلفاء من بني أمية يرون في إطلاق أيدي عمالهم أو قوادهم تشجيعا لهم وتنفيذا لأغراضهم. وربما حرضهم الخليفة على الفتك عند الحاجة، حتى في أيام معاوية، فإنه أرسل بسر بن أرطاة بعد تحكيم الحكمين وعلى بن أبي طالب يومئذ حي، وأرسل معه جيشا. ويقال: إنه أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي، ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان. فسار بسر على وجهه حتى انتهى إلى المدينة، فقتل فيها أناسا من أصحاب علي وهدم دورهم، ومضى إلى مكة وغيرها يقتل ويهدم، حتى أتى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس عامل علي وابن عمه، وكان غائبا فرارا من القتل، فوجد بسر ابنين له صبيين أسماهما عبد الرحمن وقثم، فأخذهما وذبحهما بيده بمدية كانت معه.
98
وذكروا أن الغلامين كانا عند رجل من كنانة بالبادية، فلما أراد بسر قتلهما قال الكناني: «تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما» فقتله وقتلهما معه ، فصاحت امرأة من كنانة: «يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ولا الإسلام، والله يا ابن أرطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء». وقالت أم الصبيين شعرا في رثائهما كانت تنشده في المواسم مطلعه:
يا من أحس بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
على أننا لا نظن معاوية كان راضيا عن ذلك العمل الفظيع؛ لأنه يخالف دهاءه وحلمه، ونظنه أطلق يد بسر ولم يعين له حدودا، وكان بسر سفاكا للدماء فلم يستثن طفلا ولا شيخا. ويؤيد ذلك ما أراد فعله بأولاد زياد بن أبيه بعد موت علي، إذ خاف معاوية زيادا وكان عامله على فارس فأمر بسر أن يستقدمه إليه، فأمسك بسر أولاد زياد وكتب إليه: «أما تأتي حالا أو أقتل أولادك»، فلما بلغ معاوية ذلك منع بسرا من قتلهم.
99
فإذا كان هذا حال العمال في أيام معاوية مع حلمه وطول أناته، فكيف في أيام عبد الملك مع شدته وفتكه. فهل يستغرب ما يقال عن فتك الحجاج وكثرة من قتلهم صبرا ولو كانوا 120000، وهل يستبعد أن يكون في حبسه عند موته 50000 رجل و30000 امرأة؟
100
وكان عبد الملك أشد وطأة منه وأجرأ على الغدر والفتك، بل هو أول من غدر في الإسلام بعد أن أعطى الأمان - وذلك أن عمرو بن سعيد الأشدق أحد أمراء عبد الملك طمع في الملك لنفسه، فاغتنم خروج عبد الملك من دمشق سنة 69ه لحرب مصعب بن الزبير في العراق، وجاء إلى الشام ووضع يده عليها. فبلغ عبد الملك ذلك وهو في الطريق، فرجع حالا إلى دمشق وقاتل عمرا أياما فلم يقدر عليه، فخاف على سلطانه فاحتال في عقد الصلح فرضي عمرو وكتبا بينهما كتابا فيه أمان عبد الملك له. فاطمأن خاطر عمرو المذكور، وخرج إلى الخليفة حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك، ثم دخل عليه فاجتمعا ودخل عبد الملك دمشق.
وبعد دخوله بأربعة أيام أرسل إلى عمرو فأجابه أنه آت العشية، وأتاه في مئة من مواليه، ودخل على عبد الملك وعنده جماعة من بني مروان، وقد بقي مواليه خارجا. فاستقبله عبد الملك حتى أجلسه معه على السرير وجعل يحادثه، ثم أمر أحد الغلمان أن يأخذ سيفه وقال له: «أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك؟» فأعطاه السيف. ثم قال عبد الملك: «يا أبا أمية (عمرو) إنك حينما خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة»، فقال له الحضور من بني مروان: «ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟»، قال: «نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟». فقال بنو مروان لعمرو: «أبر قسم أمير المؤمنين»، فقال: «قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين». فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة وقال: «يا غلام قم فاجمعه فيها»، فقام الغلام فجمعه فيها فقال عمرو: «أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس»، فقال: «أمكر يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس». ثم جذبه جذبة فوقع وأصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: «اذكر الله يا أمير المؤمنين، كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك»، فقال عبد الملك: «والله لو أعلم أنك تبقي علي لو أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه». فلما رأى أنه يريد قتله قال: «أغدر يا ابن الزرقاء؟» ثم قتله عبد الملك.
101
وترى مما دار بينهما أن الذي جر عبد الملك إلى هذا الغدر كثرة الطامعين في السلطة، ولا رادع لهم من عند أنفسهم كما كانوا في عصر الدين والتقوى، فأصبح القوي يأكل الضعيف ومن سبق إلى قتل صاحبة ملك، وهي سياسة الفتك. وقد نفعتهم هذه السياسة في تأييد سلطانهم، ثم صارت سنة فيمن ملك بعدهم من بني العباس وغيرهم. وآخر حادثة جرت من هذا القبيل فتك محمد علي باشا بالمماليك، وقد عمد بنو أمية إلى ذلك استعجالا للنصر وتخلصا من أسباب النزاع، فإذا خرج عليهم خارج جعلوا همهم قتله، لعلمهم أنه إذا قتل تفرق أصحابه، وإذا لم يتفرقوا استرضوهم بالأموال أو نحوها. (10-2) خزانة الرؤوس
وكانوا يقتلون الخارجين عليهم ويمثلون بقتلاهم إرهابا لأحزابهم، فيقطعون رأس الرجل ويطوفون به من بلد إلى بلد أو يصلبون الجثة حيث تزدحم الأقدام - كانوا يفعلون ذلك على الخصوص برؤساء الأحزاب ولا سيما العلويين، فكان العامل الأموي يقتل الخارج على الدولة ويبعث برأسه إلى الخليفة في الشام ليطاف به في الأسواق. وأول رأس حمل من بلد إلى بلد رأس عمر بن الحمق الخزاعي
102
أحد قتلة عثمان، وأول رأس طيف به في الأسواق رأس محمد بن أبي بكر
103
وأول رأس حمل إلى الخلفاء رأسا هانئ وابن عقيل من أشياع الحسين في الكوفة، ثم رأس الحسين بن علي، أرسله ابن زياد من الكوفة إلى يزيد بن معاوية في الشام، وكذلك فعل المختار برؤوس قتلة الحسين، فإنه أرسلها إلى محمد بن الحنفية.
104
وهكذا فعل الحجاج برأس عبد الله بن الزبير ورؤوس أصحابه، فإنه أرسلها من مكة إلى عبد الملك بن مروان في الشام، وكذلك فعل عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، فإنه سيره من الكوفة إلى الشام فنصب فيها.
105
ومن غريب ما يحكى أنهم لما جاءوا إلى عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، وهو جالس في طاق بالكوفة، كان ابن عمير اللخمي حاضرا عنده، فلما رأى الرأس بين يدي عبد الملك ارتعد. فقال له عبد الملك: «ما لك؟»، قال: «أعيذ بالله أمير المؤمنين! كنت في هذا الطاق بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بين يديه في هذا المكان، ثم كنت مع المختار بن أبي عبيد الثقفي، فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت فيه رأس المختار بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك!» فتشاءم عبد الملك من ذلك، وقام فأمر بهدم ذلك الطاق.
106
وصار قطع الرؤوس على هذه الصورة سنة في عصر بني أمية ومن جاء بعدهم من بني العباس، وصار للرؤوس في دار الخلافة خزانة يحفظونها فيها: كل رأس في سقط خاص
107
وجرت العادة أيضا بصلب الجثث أو الرؤوس. لكنهم لم يكونوا ينصبون إلا رؤوس الخوارج
108
ويطوفون بها على رمح، وكان بنو أمية يعدون العلويين خوارج، فكانوا إذا قتلوا أحدهم صلبوه.
ومن هذا القبيل تشديدهم في العذاب قبل القتل، ولعل ذلك من مخترعات الحجاج لإرهاب أعدائه وإخضاعهم بالعنف. فمن ضروب التعذيب أنه كان يأتي بالقصب الفارسي، فيشقه ويشده على الرجل وهو عار، ثم يسله قصبة قصبة حتى يقطع جسده، ثم يصب عليه الخل والملح حتى يموت
109
فعل ذلك ببعض الذين حاربوه مع ابن الأشعث إرهابا لسواهم. وكان الخوارج أيضا يفعلون نحو ذلك بمن ظفروا به من أعدائهم، حتى لقد يضعون الأطفال في القدور وهي تفور
110
إما اشتفاء أو انتقاما أو إرهابا. (11) الموالي وأحكامهم في عصر الأمويين (11-1) تكاثر الموالي
أفضت الخلافة إلى الأمويين في أواسط القرن الأول للهجرة، وعدد الموالي آخذ في الزيادة بموالاة الفتح وتكاثر الرقيق بالأسر أو الإهداء؛ لأن العمال كثيرا ما كانوا يبعثون بمئات أو ألوف من الرقيق الأبيض والأسود إلى بلاط الخليفة هدية أو بدلا من الخراج أو نحوه
111
والخليفة يفرق ذلك في أهل بطانته أو قواده، وهؤلاء يفرقونه فيمن حولهم أو يبيعونه فينتقل إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فمن أنجب من أولئك الأرقاء أو أعتق لسبب من الأسباب صار مولى، وذلك كثير وعادى يومئذ - غير الذين كانوا يدخلون في الولاء بالعقد وغيره. فتزايد عدد الموالي في عصر الأمويين زيادة عظيمة، وصاروا يتقربون من مواليهم بما يحتاجون إليه من شؤونهم، فاستخدمهم العرب في مصالحهم الصناعية أو الزراعية أو الدينية أو العلمية، واشتغلوا هم بالرياسة والسياسة؛ ولذلك كان أكثر القراء والشعراء والمغنين والكتاب والحجاب من الموالي.
وقد يثري المولى فيبتاع العبيد ويعتقهم فيصيرون من مواليه، وهؤلاء إذا استطاع أحدهم أو بعض أولاده اقتناء العبيد وإعتاقهم صاروا مواليه، وهكذا حتى يتفق أحيانا أن يكون الرجل مولى مولى، أو مولى مولى مولى أو أكثر - فعبد الله بن وهب الفقيه المالكي الشهير كان مولى يزيد بن زمانة، وهذا مولى يزيد بن أنس الفهري. وكذلك حماد بن سامة، والليث بن سعد، وأبو أسامة وغيرهم. وكان ابن مناذر الشاعر مولى سليمان القهرمان، وسليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة، وعبيد الله من موالي النبي
صلى الله عليه وسلم .
112
وأغرب من ذلك أن عبيد الله هذا ادعى أنه عربي من ثقيف، وادعى سليمان القهرمان أنه عربي من تميم، وادعى ابن مناذر أنه عربي من بني جبير بن يربوع، فيكون ابن مناذر مولى مولى مولى، ودعيا لمولى لمولى دعي مولى دعي. وقد بلغت نسبة الولاء عندهم إلى خمس درجات، فداود بن خالد بن دينار وإخوته من أهل الحديث، وكلهم من موالي آل حنين، وآل حنين موالي مثقب، ومثقب مولى مسحل، ومسحل مولى شماس، وشماس مولى العباس بن عبد المطلب
113
فهو مولى مولى مولى مولى مولى. وقس على ذلك، مما يدل على تكاثر الموالي في ذلك العصر، وفيهم الفارسي والفرغاني والتركي والديلمي والخراساني والرومي والبربري والسندي وغيرهم، يشتغلون بما يحتاج إليه العرب من المهن والصناعات والآداب.
ناهيك بالموالي المحاربين، فقد كان في كل قبيلة من العرب عدد كبير منهم، ربما زاد على عددها، فإذا خرجت للحرب خرجوا معها، وحاربوا في سبيل نصرتها. واختلف عدد الموالي بالنسبة إلى مواليهم باختلاف الأعصر، ففي أيام على كانت نسبة الموالي الأحرار ممن يخرجون إلى الحرب كنسبة واحد إلى خمسة،
114
ثم تكاثر الموالي في عصر الأمويين حتى زاد عددهم على عدد الأحرار. وبنو أمية مع ذلك يحتقرونهم ويضطهدونهم، وهم يصبرون على ذلك أو يفرون من سلطانهم إلى أطراف المملكة . وممن فر من جور بني أمية ميمون جد إبراهيم الموصلي المغني المشهور.
115 (11-2) نقمة الموالي على العرب
فلما تكاثر الموالي ورأوا ما كان فيه الأمويون من التعصب للعرب على سواهم - ولا سيما الموالي، حتى كانوا يستخدمونهم في الحروب مشاة ولا يعطونهم عطاء ولا شيئا من الغنائم أو الفيء - عظم ذلك عليهم، ورأوا في نفوسهم قوة فنفرت قلوبهم من بني أمية، وأصبحوا عونا لكل من خلع الطاعة أو طلب الخلافة من العلويين أو الخوارج. فكل من قام لمحاربة الأمويين استعان عليهم بالموالي والعبيد، وهم الفئة المظلومة، وأشهر من حاربهم بالموالي والعبيد المختار بن أبي عبيد الذي قام في العراق للمطالبة بدم الحسين سنة 66ه، ثم طلب الخلافة لمحمد بن الحنفية - فالمختار المذكور أطمع موالي العراق في الغنيمة وأركبهم على الدواب، وكانوا ناقمين على أسيادهم ومواليهم لسوء معاملتهم، فجاءوه متطوعين وجاءه عدد كبير من أباق العبيد، وفيهم من ترك الإسلام غيظا من بني أمية. فكان عدد الموالي في جند المختار أضعاف عدد الأحرار
116
وقد أبلوا في الحرب معه أكثر من بلاء الأحرار، لنقمتهم على أسيادهم؛ ولذلك كان أكثر القتلى في تلك الحرب من الموالي، فقد بلغ عدد قتلاهم في معركة سنة 67ه 6000، ليس فيهم من العرب الأحرار إلا 700، وسائرهم من الموالي
117
وفاز المختار بالانتقام للحسين فوزا حسنا وقتل قتلته. ولما رأي وجهاء الكوفة انتصار المختار بمواليهم وعبيدهم بعثوا إليه يقولون: «إنك آذيتنا بموالينا. فحملتهم على الدواب وأعطيتهم فيئنا» فأجابهم: «إن أنا تركت مواليكم، وجعلت فيئكم لكم، تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطونني على الوفاء عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الإيمان؟» فلم يرضوا. والمختار أول من جند الموالي وفاز بهم، فجرأهم ذلك على الدولة واستخفوا بها ونصروا أعداءها، وأصبح الخلفاء العقلاء يسترضونهم بالعطاء ونحوه وأول من فرض لهم العطاء من بني أمية معاوية، فإنه جعل لكل واحد 15 درهما، فعبد الملك جعلها 20، ثم أبلغها سليمان إلى 25، وجعلها هشام 30
118
على أن ذلك الفرض قلما كان يعطى لهم؛ لأن العمال كانوا يستخدمونهم غالبا بلا عطاء ولا رزق.
119
والمولى إذا آنس من مولاه رضاء ومحاسنة استهلك في نصرته، وكان لسيده ثقة فيه، حتى خلفاء بني أمية فقد كانوا يقربون جماعة من مواليهم، يعهدون إليهم بمهامهم ويرفعون منزلتهم ويستشيرونهم في أمورهم، والموالي يخلصون لهم ويستميتون في الدفاع عنهم، كما كان موالي بني هاشم يستميتون في نصرة مواليهم، وكانت تقوم المفاخرات بين الحزبين، وأشهرها مفاخرات سديف وسياب وقد تقدم ذكرها.
وقد يكون المولى من أصل رفيع، أو يرتقي إلى أعلى المراتب، حتى في أيام بني أمية رغم اضطهادهم وتعصبهم عليهم، وأعظم موالي العراق وأشهرهم فيروز مولى أهل الخشخاش، فإنه ولي الولايات وخرج مع ابن الأشعث على الحجاج، فقال الحجاج: «من جاءني برأس فيروز فله عشرة آلاف درهم»، فقال فيروز: «من جاءني برأس بالحجاج فله 100000 درهم». فلما غلب ابن الأشعث هرب فيروز إلى خراسان، فقبض عليه ابن المهلب هناك وبعث به إلى الحجاج، فقتله بعد أن عذبه بسل القصب المشقوق على جسمه.
120 (11-3) زواج الموالي بالعربيات
على أن الموالي في أيام بني أمية كانوا على الإجمال أعداء الدولة، يقومون عليها مع القائمين انتقاما لما كانوا يقاسونه من الاحتقار والجور من عصبية العرب على العجم، فازداد الأمويون تحقيرا لهم. فبعد أن قال النبي: «مولى القوم منهم» منعوا زواجهم بالعربيات، كما كان الفرس يمنعون زواج العرب ببناتهم قبل الإسلام
121
فإذا تجرأ مولى على الزواج بعربية وبلغ أمره إلى الوالي طلقها منه، كما حدث لأعراب بني سليم في الروحاء، فإنهم جاءوا الروحاء فخطب إليهم بعض مواليها إحدى بناتهم فزوجوه، فوشى بعضهم إلى والي المدينة بذلك، ففرق الوالي بين الزوجين وضرب المولى مائتي سوط وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال محمد بن بشير الخارجي في ذلك بعد مدح عمل الوالي واسمه أبو الوليد:
حمى حدبا لحوم بنات قوم
وهم تحت التراب أبو الوليد
وفي المئتين للمولى نكال
وفي سلب الحواجب والخدود
إذا كافأتهم ببنات كسرى
فهل يجد الموالي من مزيد؟
فأي الحق أنصف للموالي
من أصهار العبيد إلى العبيد
122
وكثيرا ما كانوا يفعلون مثل ذلك بالموالي ، ولو كانوا من أهل المنزلة الرفيعة أو أهل العلم والتقوى، فإن عبد الله بن عون من كرام التابعين ولكنه كان مولى، فتزوج عربية فضربه بلال بن أبي بردة بالسياط.
123
على أن ذلك المنع كان شائعا قبل الإسلام، وظل العرب يستنكفون منه رغم ما كان من نص الحديث المذكور وغيره. فسلمان الفارسي نصر المسلمين في حروبهم من أيام النبي، وله فضل كبير في الإسلام، فخطب إلى عمر بن الخطاب ابنته فوعده بها؛ لأنه لم ير في زواجه بها بأسا، أما ابنه عبد الله فلما بلغه ذلك غضب وشكاه إلى عمرو بن العاص فقال له: «هنيئا لك يا أبا عبد الله، أن أمير المؤمنين يتواضع لله - عز وجل - في تزويجك بابنته»، فغضب سلمان وقال: «لا والله لا تزوجت إليه أبدا».
124
فتزويج المولى بالعربية بالغ الأمويون في تقبيحه تعصبا للعرب على سواهم، وهو عندهم أقبح من زواج العربي بغير العربية. ولكن ذلك لم يكن محرما في الدين ولا اعتبره أهل التقوى، فعلي بن الحسين بن علي المعروف بزين العابدين - وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين - كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، فلما توفي أبوه زوجها بثريد مولى أبيه وأعتق جارية له وتزوجها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيره بذلك. فكتب إليه زين العابدين: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وقد أعتق رسول الله صفية بنت حيي بن أخطب وتزوجها، وأعتق زيد بن حارثة وزوجه بنت عمته زينب بنت جحش».
فالإسلام يرفع منزلة المولى، وأما الأمويون فرأوا تحقيره باعتبار أنه غير عربي، وشاع ذلك في أيامهم وأصبح الناس يعيرون بمصاهرة الموالي. ومن أشعارهم في رجل من بني عبد القيس بالبحرين زوج ابنته من أحد الموالي قول أبي بجير يؤنب آل عبد القيس لتزويجهم الموالي ومنهم الزارع والتاجر قال:
أمن قلة صرتم إلى أن قبلتم
دعارة زراع وآخر تاجر؟
وأصهب رومي وأسود فاحم
وأبيض جعد من سراة الأحامر؟
شكولهم شتى وكل نسيبكم
لقد جئتم في الناس إحدى المناكر
متى قال: إني منكم فمصدق
وإن كان زنجيا غليظ المشافر
أكلهم وافى النساء جدوده
وكلهم أوفى بصدق المعاذر
وكلهم قد كان في أولية
له نسبة معروفة في العشائر
على علمكم أن سوف ينكح فيكم
فجدعا ورغما للأنوف الصواغر
فهلا أتيتم عفة وتكرما
وهلا وجلتم من مقالة شاعر ؟
تعيبون أمرا ظاهرا في بناتكم
وفخركم قد جاز كل مفاخر
متى شاء منكم مغرم كان جده
عمارة عبس خير تلك العمائر
وحصن بن بدر أو زرارة دارم
وزبان زبان الرئيس بن جابر
فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسيا
لعل تجارا من هلال بن عامر
وعل رجال الترك من آل مذحج
وعل تميما عصبة من يحامر
وعل رجال العجم من آل عالج
وعل البوادي بدلت بالحواضر
زعمتم بأن الهند أولاد خندف
وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة باسل
وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم
وأولى بقربان ملوك الأكاسر
أأطمع في صهري دعيا مجاهرا
ولم تر شرا من دعي مجاهر؟
ويشتم لؤما عرضه وعشيره
ويمدح جهلا طاهرا وابن طاهر
125
وغرس هذا الاعتقاد في أذهان الناس حتى إن الموالي أنفسهم كانوا يستنكفون من تزويج المولى بالعربية. ذكروا أن ابنا لنصيب المغني الشهير - وهو مولى - أحب بنت مولاه وكان مولاه قد مات، فخطبها من أخيه فأجابه إلى طلبه، فعرف نصيب بذلك فجمع وجوه الحي فلما حضروا أقبل نصيب إلى أخي مولاه وقال له: «أزوجت ابني هذا من ابنة أخيك؟» قال: «نعم»، فقال نصيب لعبيد له سود: «خذوا برجل ابني هذا فجروه فاضربوه ضربا مبرحا» ففعلوا، ثم قال لأخي مولاه: «لولا أني أكره أذاك لألحقتك به». ثم نظر إلى شاب من أشراف الحي فزوجه الفتاة، وأنفق على العقد من جيبه.
126
ومع ذلك فالمولى لم يكن يخطب امرأة لنفسه ولا يزوج ابنته لرجل ما لم يستشر مولاه، فإذا أحب رجل أن يخطب فتاة من بنات الموالي لا يذهب إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها من مواليها، فإن رضي مولاها زوجت وإلا فلا. وإن زوجها الأب أو الأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها عد ذلك سفاحا.
127
وجملة القول: أن تعصب بني أمية للعرب جرهم إلى تحقير غير العرب وخصوصا الموالي، فنقم هؤلاء عليهم وكانوا أكبر المساعدين في إخراج الدولة من أيديهم. (12) أهل الذمة وأحكامهم في عصر الأمويين (12-1) عهود أهل الذمة في أول الإسلام
الذمة في اللغة العهد والأمان والضمان، وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين. قيل لهم ذلك؛ لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وأكثرهم من النصارى واليهود، وقد دعاهم القرآن «أهل الكتاب» نسبة إلى الكتاب المقدس التوراة والإنجيل، وقد أثنى عليهم وأوصى بهم خيرا. وفي الحديث النبوي أقوال كثيرة بمحاسنة أهل الذمة، وخصوصا قبط مصر، فقد رووا عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما» إشارة إلى أن أم إسماعيل أبي العرب منهم، وقال: «الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فإن لهم نسبا وصهرا».
وكان الخفاء الراشدون إذا أنفذوا جيشا للفتح أوصوا قوادهم بأهل الذمة خيرا، ولا سيما النصارى ورهبانهم. وإذا جاءهم أهل المدن بالصلح صالحوهم وعاهدوهم على الحماية، في مقابل ما يؤدونه من الجزية عن رؤوسهم. ويختلف مقدار الجزية ونوعها باختلاف الأحوال، وعلى مقتضى التراضي بين المسلمين وأهل الكتاب، ولكل صلح شروط تختلف باختلاف البلاد، ولكنها في كل حال تقضي على المسلمين بحماية أهل الذمة والدفاع عنهم. فإذا امتنعوا عن أداء الجزية امتنع المسلمون عن حمايتهم، وإذا عرض للمسلمين ما يمنع حمايتهم جاز لأهل الذمة الإمساك عن الدفع.
128
وفي تاريخ الفتوح عهود كثيرة كتبت لأهل الذمة، عاهدهم المسلمون فيها بحمايتهم وتسهيل أعمالهم، في مقابل ما يؤدونه من الجزية، ككتاب النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى صاحب أيلة (في العقبة)، وإلى أهل أذرح في أثناء غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة. وهاك كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى صاحب أيلة:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد رسول الله ليحيى بن رؤبة وأهل أيلة: سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ما يردونه، ولا طريقا يردونه من بر أو بحر.
129
وهاك كتابه إلى أهل أذرح وأهل مقنا:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني حبيبة وأهل مقنا: سلم أنتم، فإنه أنزل على أنكم راجعون إلى قربتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون، ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وأن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به. لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله، وأنه لا ظلم عليكم ولا عدوان، وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يجيركم مما يجير منه نفسه، فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة، إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله، وأن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عرككم وربع ما اغتزلت نساؤكم، وإنكم قد ثريتم بعد ذلك ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيرا فهو خير له، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو أهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وكتب علي بن أبي طالب في السنة التاسعة.
130
واقتدى بالنبي
صلى الله عليه وسلم
قواده في أثناء الفتح بالشام ومصر والعراق وفارس، وكتبوا العهود لأهل الذمة على نحو ما تقدم في مقابل الجزية - منها عهد خالد بن الوليد الذي كتبه لأهل الشام، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق: إذا دخلها أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم. لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إلا إذا أعطوا الجزية.
131
وإليك صورة عهد أبي عبيدة إلى أهل بعلبك:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك، رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم، وأهل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلا، ولا ينزلوا قرية عامرة، فإن مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية، والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدا.
132
وقس عليه عهود سائر الفاتحين، مثل عمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، في مصر والعراق وفلسطين وفارس وأفريقية والأندلس وغيرها، على أنهم كانوا يشترطون في الجزية أن يؤديها أهل الذمة عن يد وهم صاغرون.
أما شروط الصلح فكانت تختلف شدة ورفقا باختلاف البلاد والأحوال التي فتحت بها، فصلح مصر يختلف عن صلح الشام، وصلح الشام غير صلح العراق. (13) العهدة النبوية
وبين أيدي الناس نسخ من عهد يقولون: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كتبه إلى النصارى ورهبانهم يسمونه «العهدة النبوية»، والنسخ المذكورة تختلف نصا وتتفق مغزى. ويقولون: أن العهد المذكور كتب بخط علي بن أبي طالب، ووضع في مسجد النبي في السنة الثانية للهجرة، وحملت منه نسخ إلى الأديار، ومن ذلك نسخة كانت محفوظة في دير طور سينا، فنقلها السلطان سليم الفاتح العثماني إلى الأستانة في أوائل القرن السادس عشر للميلاد، بعد أن عرضها على مجلس شرعي، فنقلوها إلى اللغة التركية، وأبقوا النسخة التركية في الدير وصورة الأصل العربي مع عهود برعاية حقوقهم الواردة في نص في ذلك العهد، وحملوا النسخة العربية الأصلية إلى الآستانة
133 - وإليك نص العهدة النبوية نقلا عن كتاب «منشآت سلاطين» لأفريدون بك بعد البسملة:
134
هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، رسوله مبشرا ونذيرا ومؤتمنا على وديعة الله في خلقه؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما، كتبه لأهل ملة النصارى ولمن تنحل دين النصرانية، من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجمها معروفها ومجهولها، جعل لهم عهدا فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره، كان لعهد الله ناكثا ولميثاقه ناقضا وبدينه مستهزئا وللعنته مستوجبا، سلطانا كان أم غيره من المسلمين - وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم أذب عنهم من كل غيرة لهم بنفسي وأعواني وأهلي وملتي وأتباعي؛ لأنهم رعيتي وأهل ذمتي وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج، إلا ما طابت له نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا في بناء منازلهم، فمن فعل شيئا من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والجنوب والشمال، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولا عشر، ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم، ولا يعاونون عند إدراك الغلة، ولا يلزمون بخروج في حرب وقيام بجبربة، ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما هو أكثر من اثني عشر درهما بالجملة في كل عام، ولا يكلف أحد منهم شططا ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن، ويحفظونهم تحت جناح الرحمة، يكف عنهم أذية المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا - وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليها برضاها ويمكنها من الصلاة في بيعها، ولا يحال بينها وبين هوى دينها، ومن خان عهد الله واعتمد بالضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله، ويعاونون على مرمة بيعهم ومواضعهم، وتكون تلك مقبولة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد، ولا يلزم أحد منهم بنقل سلاح بل المسلمون يذبون عنهم، ولا يخالف هذا العهد أبدا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا. ا.ه.
والغالب في اعتقادنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
إذا كان قد أعطى عهدا للنصارى والرهبان عموما فهو غير هذا العهد، أو لعله كان مختصرا وطولوه، أو تنوسي وضاع أصله فكتبوه من عندهم، أو أن النصارى وضعوا هذا العهد من عند أنفسهم لغرض سياسي، إذ لم يذكر خبر هذا العهد أحد من مؤرخي الفتوح أو غيرهم من كتاب المسلمين في الأزمنة الأولى، فضلا عما في عبارته وألفاظه مما لم يكن معروفا في صدر الإسلام، وخصوصا في السنة الثانية للهجرة. (14) عهد عمر
ويذكرون أيضا عهدا يعرف بعهد عمر بن الخطاب لأهل الشام، أشار إليه غير واحد من مؤرخي المسلمين، وقد أورده بعضهم بنصه منهم أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي المتوفى سنة 520ه، أورده في كتاب «سراج الملوك» نقلا عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري المتوفى سنة 78، وإليك صورة العهد المذكور برواية ابن غنم قال:
كتبنا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين صالح نصارى أهل الشام: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة (كذا) إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان مختطا منها في خطط المسلمين في ليل ولا نهار. وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم. ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا، ولا نكتم غشا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا، ولا ندعو إليه أحدا، وألا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراد، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب بالسروج، ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور. وأن نجز مقادم رؤوسنا ونلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا وكتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نتطلع إلى منازلهم)، فلما أتيت عمر - رضي الله عنه - بالكتاب زاد فيه (ولا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وضمنا على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق)، فكتب إليه عمر (أمض ما سألوه وألحق فيه حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوه على أنفسهم: أن لا يشتروا شيئا من سبايا المسلمين، ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. ا.ه.
135
ويلحق بالعهد المذكور أحكام تتعلق بالكنائس وضعها عمر أيضا، وذلك أنه أمر فهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع من أن تحدث كنيسة بعد الإسلام، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من كنيسة إلا كسر على رأس صاحبه.
136
وترى في نص هذا العهد ضغطا على النصارى وتصغيرا لهم، خلافا لما جاء في سائر عهود الأمان أو كتب الصلح في صدر الإسلام، وخلافا لما هو معروف من عدل عمر بن الخطاب ورفقه بأهل الذمة، كما يستدل من سيرة حياته فإنها تدل على صدق لهجته في الفكر والقول والعمل، فكان إذا أساء مسلم إلى مسيحي اقتص له منه ولو كان المسلم من كبار الصحابة، كما اقتص لذلك القبطي من عمرو بن العاص وابنه وقال لعمر: «يا عمرو مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟».
137
فنرى لأول وهلة تناقضا بين هذه المناقب ونص هذا العهد، فيتبادر إلى الذهن أنه موضوع بعد عصر عمر بأزمان، كما قلنا عن نص العهدة النبوية، ولكن حاله يختلف عن حالها بما يرجح صحته. فلننظر أولا في صحة نسبته إلى عمر، ثم في سبب التناقض الظاهر بينه وبين مناقبه. (15) نسبة هذا العهد إلى عمر
الأرجح في اعتقادنا أن عمر كتب عهدا لنصارى الشام، إن لم يكن هذا هو بنصه فهو بمعناه على الأقل، وسبب هذا الترجيح: (1)
أن العهد المذكور وارد في كتب المسلمين بنصه الأصلي بطريق الإسناد، فالطرطوشي وإن كان من أهل القرن السادس للهجرة، فإنه أورد نص العهد بطريق الإسناد إلى الراوي الأصلي، على عادة المؤرخين المحققين في أوائل الإسلام، مما يدل على أنه نقله من كتاب قديم. (2)
أن «سراج الملوك» الذي أورد نص هذا العهد هو من كتب الأدب والسياسة المهمة، وليس من كتب الفكاهة، ومؤلفة من أكبر علماء الأندلس، صحب أبا الوليد الباجي وأخذ عنه مسائل الخلاف وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب والأدب، وجاء بغداد ومصر وتفقه على أبي بكر الشاشي وعلي أبي أحمد الجرجاني، وأتى الشام وسكنها ودرس بها وكان إماما فقيها عالما زاهدا ورعا. وكان مع ذلك متعصبا على النصارى يرى تحقيرهم، واتفق أنه دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بمصر وبجانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى ثم أنشد:
يا ذا الذي طاعته قربة
وحقه مفترض واجب
إن الذي شرفت من أجله
يزعم هذا أنه كاذب
وأشار إلى النصراني فأقامه الفضل من موضعه
138
ولعل تعصبه هذا حمله على إثبات هذا العهد في كتابه، مع رغبة أكثر الذين سبقوه في إغفاله لما توهموا فيه من المغايرة لمناقب الخلفاء الراشدين. ولا يقال: أن الطرطوشي وضع هذا العهد من عند نفسه؛ لأن من كان في منزلته من الزهد والتقوى ينزه نفسه عن الكذب. (3)
إن أكثر مواد هذا العهد واردة في كتب الفقه من أحكام أهل الذمة، كما وردت في هذا العهد بمعناها الحرفي تقريبا
139
وأكثر هذه الأحكام كتب قبل زمن الطرطوشي. ناهيك بما جاء من ذلك في كتب السياسة والإدارة، وبعضها أشار إلى هذا العهد إشارة صريحة وأورد بعض نصه. فقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي المتوفى سنة 450ه (أي: قبل الطرطوشي بخمس وسبعين سنة) بباب الجزية والخراج قوله: «وإذا صولحوا - النصارى - على ضيافة من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، ولا يكلفهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبيت دوابهم من غير شعير، وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن - إلى أن قال - ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب، أما المستحق فستة شروط: (1)
أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له. (2)
أن لا يذكروا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بتكذيب له ولا ازدراء. (3)
أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه. (4)
أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح. (5)
أن لا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دمه. (6)
أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم.
فهذه الستة الحقوق ملتزمة فتلزم بغير شرط، وإنما تشترط إشعارا لهم وتأكيدا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم. وأما المستحب فستة أشياء: (1)
تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار. (2)
أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية. (3)
أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم. (4)
أن لا يجاهروهم بشرب الخمر ولا بإظهار صلبانهم. (5)
أن يخفوا دفن موتاهم. (6)
أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقا وهجانا إلخ.
140
فقول الماوردي هذا يكاد يكون نص عهد عمر حرفيا بعد الترتيب والتبويب.
فالعهد المذكور كان معروفا قبل كتاب سراج الملوك. ويؤيد ذلك أن ابن الأثير أشار إليه إشارة تدل على اعترافه بفحواه وبنسبه إلى عمر، كقوله في حوادث سنة 484ه: «وأخرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب».
141 (4)
أن الخلفاء الأولين في القرون الأولى للإسلام كانوا إذا أرادوا تجديد عهود أهل الذمة، ولا سيما النصارى، فرضوا عليهم مثل فحوى هذا العهد من تغيير الزي ونحوه. مما يدل على اتصال هذا العهد بالقرن الأول، وأقدمهم عمر بن عبد العزيز الخليفة التقي المشهور باقتفائه آثار سميه وجده لامه عمر بن الخطاب، وهو أول خليفة أموي أراد رد النصارى إلى ما شرطه عليهم عمر، وكانوا قد أغفلوا أكثر شروطه وخصوصا من حيث اللباس، وتشبهوا بالمسلمين بلبس العمامة، فأمرهم أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام. وقس على ذلك سائر الخلفاء الذين اضطهدوا النصارى، فإنهم كانوا يرجعون إلى فحوى عهد عمر كما سترى. (16) عهد عمر ومناقبه
أما ما يظهر من التناقض بين هذا العهد ومناقب عمر ففيه نظر، ولا بد في بيانه من المقابلة بين مناقب عمر وفحوى ذلك العهد: (16-1) مناقب عمر بن الخطاب
أظهر مناقب عمر العدل مع الصراحة وحرية الضمير والشدة، والتقوى مع الغيرة الشديدة على الإسلام والرغبة في تأييده ونشره، فقد كان عادلا حتى لا يبالي أن يحكم على ابنه أو على نفسه، فهو مثال للعدل مجسم لا يزال المسلمون إلى اليوم يتمثلون بأحكامه ويحاولون الاقتداء به، ولم يستطع أحد منهم أن يدرك شأوه. وكانت غيرته على الإسلام لا مثيل لها، فلا يعمل عملا أو يقول قولا إلا وهو ينظر من ورائه إلى نشر الإسلام ورفع مناره وجمع كلمة العرب في نصرته. فالعدل يقضي عليه أن ينصف أهل الذمة ويحاسنهم، ولكن رغبته في نشر الإسلام كانت تظهر من خلال ذلك الإنصاف. فقد أطلق حرية الدين في مملكته، وأبقى أهل الذمة على ما كانوا عليه من أمر دينهم وطقوسهم وقسسهم وكنائسهم، ولكنه منعهم من إحداث كنائس جديدة لكي تنحصر النصرانية فيتغلب الإسلام عليها ثم يمحوها . والعدل قضى عليه أن يحسن إلى نصارى العرب مكافأة لنصرتهم المسلمين في العراق، ففرض عليهم الصدقة بدلا من الجزية، ولكن رغبته في جمع كلمة العرب تحت لواء الإسلام قضت بالاشتراط عليهم أن لا ينصروا أولادهم.
142 (16-2) فحوى عهد عمر
وفحوى العهد المذكور يرجع إلى أربعة شروط أولية وهي: (1)
ألا يحدث النصارى معبدا. (2)
أن ينزلوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام. (3)
ألا يؤووا في كنائسهم جاسوسا ولا يكتموا غشا للمسلمين. (4)
ألا يقلدوا المسلمين بشيء من اللباس أو الركوب أو تعلم القرآن، أو نقش اسمهم بالعربية على أختامهم.
وأنه بغير هذه الشروط لا يكون لهم أمان على أنفسهم وذراريهم وأموالهم، فالشرط الأول ينطبق على رغبة عمر في تأييد الإسلام ونشره كما تقدم.
والشرط الثاني تستلزمه حال المسلمين في بلاد الفتح، فقد كانوا غرباء بين أهل الذمة، والعرب أهل ضيافة ولم يكن أهل تلك البلاد يألفون تلك العادة، فجعلها عمر شرطا واجبا عليهم رحمة بالمسلمين في أسفارهم للحرب وغيرها.
أما الشرطان الثالث والرابع فلا بد في تطبيقهما على أخلاق عمر من مقدمة صغيرة ... (17) نصارى الشام وقيصر الروم
أول ما يلاحظ في هذا العهد أن عمر أخذه على نصارى الشام دون سائر أهل الذمة في الشام ودون نصارى سائر الأمصار. فهو لا يسري على قبط مصر أو نبط العراق، ولا على صابئة حران ولا مجوس فارس، ولا على اليهود في بلد من البلاد. فلا بد لذلك من سبب متصل بما حواه ذلك العهد من الشدة، وإلا فلماذا لم يجعله عاما على سائر بلاد الإسلام؟ ولماذا لم يدخل فيه اليهود والصابئة وغيرهم من أهل الذمة؟ وزد على ذلك أنهم ينسبون إلى عمر عهدا
143
آخر لأهل الذمة كافة، وليس فيه ضغط ولا تضييق وإنما مرجعه إلى التسامح والرعاية والحماية، ويشبه العهدة النبوية في أكثر نصوصه، ورأينا فيه مثل رأينا في تلك العهدة؛ لأن عبارته تخالف عبارة صدر الإسلام، ولم يذكره أحد من كتاب المسلمين القدماء، ولكنه يوافق روح ذلك العصر بفحواه لمشابهته أكثر عهود الصلح التي كتبت يومئذ وذكرنا بعضها فيما تقدم. فمن المعقول أن يعطي عمر لأهل الذمة عهدا بهذا المعنى؛ لأنه ينطبق على عدله ورفقه في معاملتهم، وهو عام لهم يشمل كل طوائفهم.
أما العهد الذي نحن بصدده فقد أعطى لنصارى الشام على الخصوص، وكأنه اختصهم بالتضييق. فهو لم يفعل ذلك إلا لسبب دعاه إليه. والغالب في اعتقادنا أنه اشترط هذه الشروط صيانة لبلاد الشام من رجوع الروم إليها بمساعي أهلها النصارى، إذ يكونون عيونا للروم على المسلمين، لما بينهم وبين الروم من الرابطة الدينية، وهي أقوى الجامعات في الشرق من أقدم أزمانه إلى هذا اليوم. فكل طائفة من الطوائف الشرقية تفضل أن يحكمها حاكم من مذهبها ولو كان ظالما، على أن تخضع لحاكم من غير دينها ولو كان عادلا. وفي التواريخ شواهد كثيرة تؤيد هذا القول حتى في عصرنا الحاضر، مع ما دخل نفوس المشارقة من التسامح الديني. فإن كل طائفة من أهله تفضل أن يحكمها ابن دينها، لا تبالي بعدله أو ظلمه. النصراني يفضل حاكما مسيحيا، والمسلم يفضل حاكما مسلما، فكيف بتلك العصور والدين مرتبط بالسياسة؟
ونصارى الشام أذعنوا للجزية، ودخلوا في سلطان المسلمين، وظلوا على ما كانوا فيه من حيث الدين وطقوسه، يقيمون الصلاة في كنائسهم كما كانوا يقيمونها قبل الإسلام، يأتيهم القسس والأساقفة من القسطنطينية أو أنطاكية، ولسانهم لسان دولة الروم، ومعتقدهم مثل معتقدها. وقد بينا في غير هذا المكان أن الفتح الإسلامي كان في صدر الإسلام احتلالا عسكريا، ولم يكن المسلمون يتعرضون للمسيحيين في شيء من طقوسهم الدينية ولا أحوالهم الشخصية ولا أحكامهم القضائية، وكانوا يعترفون لصاحب القسطنطينية بسيادته في ذلك على نصارى الشام. فإذا حدث ما يمس هذه السيادة احتج ملك الروم على الخليفة، وخصوصا من حيث الكنائس. وكان الخلفاء يراعون عهودهم في هذا الشأن، حتى إذا استفحل أمر بني أمية خرقوا حرمة تلك العهود كما خرقوا سواها مما أقره الراشدون.
ذكروا أن الوليد بن عبد الملك سمع صوت ناقوس، فقال: «ما هذا؟» قيل: «بيعة» فأمر بهدمها وتولى بعض ذلك بيده فتسابق الناس يهدمون فرفع النصارى أمرهم إلى قيصر القسطنطينية فكتب إلى الوليد: «أن هذه البيعة قد أقرها من كان قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا».
144
ولم يجد اعتراضه نفعا. ولكن ذلك يدل على أن نصارى الشام كانوا في صدر الإسلام تحت حماية الروم، أو هم يعدون قيصر الروم حاميا لكنائسهم، كما يعتقدون الآن في بعض دول أوروبا. فضلا عما غرس في قلوبهم من حب دولة الروم بواسطة كهنتهم وتعاليمهم. وهب أنهم كانوا ناقمين على تلك الدولة من بعض الوجوه الدينية، فأصبحوا بعد دخولهم في سلطة العرب يفضلون بقاء القديم على قدمه، وذلك عادي في الأمم التي تعودت الرضوخ لسواها، فإنها لا تستقر على حال ولا يهون إخضاعها إلا بطريق الدين. ناهيك بما كان يجدده الكهنة والأساقفة من أسباب الميل إلى قيصر القسطنطينية، والفتح يومئذ حديث والقيصر يرجو استرجاع تلك البلاد إلى سلطانه، على أن يستعين على ذلك بأهل مذهبه المقيمين بجوار المسلمين فيتخذهم عيونا له عليهم.
وكان بعض نصارى الشام لا يدخرون وسعا في هذا السبيل، فينقلون أخبار المسلمين إلى الروم، وإذا جاء جواسيس الروم آووهم في منازلهم وأعانوهم في استطلاع الأخبار. فربما دخل النصراني بين المسلمين وهو في مثل لباسهم، وقد نقش اسمه بالعربية على خاتمه مثلهم، وحفظ شيئا من القرآن ليوهم المسلمين أنه منهم. والشام لم يتم فتحها بعد، وعمر لا يزال يخاف انتقاضها لبعدها عن مركز الخلافة. فخوفا من مثل ذلك اشترط على أهلها أن لا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من اللباس أو الركوب وغيره، وأن لا يؤووا أحدا من جواسيس الروم، ولا يكتموا غشا للمسلمين.
ولنحو هذا السبب أيضا أوصى عمر أن لا يستعملوا أهل الكتاب؛ لأنهم أهل رشى ولأن بعضهم أولياء بعض. ويقال: أن أصل هذا المنع منقول عن النبي في حديث جرى له يوم خروجه إلى بدر
145
على أن هذه الوصية لم يمكن العمل بها لاضطرار المسلمين إلى من يعرف الحساب والكتابة، وخصوصا في أول الإسلام إذ كانت الدواوين لا تزال بلغاتها الأصلية.
فالأرجح عندنا أن عمر كتب عهدا لنصارى الشام (أو استكتبهم عهدا) إن لم يكن هذا نصه فهو فحواه، ولا يستبعد وقوع بعض التغيير في نصه بعد ذلك. أن السبب فيما حواه من الشدة خوفه من نصارى الشام ؛ لأنهم أقرب نصارى الشرق إلى كنيسة القسطنطينية. أما القبط فقد كانوا أعداء تلك الكنيسة، وهم الذين واطأوا المسلمين على الروم وسهلوا لهم الفتح. وأنه لم يفعل ذلك للتضييق على النصارى تعصبا للدين أو كرها للنصرانية. ثم أطلق المسلمون هذا العهد على سائر أهل الذمة. (18) الأمويون وأهل الذمة
كذلك كانت أحكام أهل الذمة لما أفضت الخلافة إلى بني أمية، وكانوا لا يخافون الروم على الشام؛ لأن مقر خلافتهم فيها وقد احتلوا الشواطئ وتغلبوا على أهلها، وصاروا يغزون الروم في البحر. أي أنهم ضيقوا على أهل الذمة من جهة الجزية في جملة مساعيهم في حشد الأموال لاصطناع الأحزاب والتمتع بأسباب الدنيا، فزادوا الجزية والخراج وشددوا في تحصيلهما، وضيقوا على الناس حتى أخذوا الجزية ممن أسلم. وأما من بقي على دينه من أهل الكتاب فكانوا يسومونهم سوء العذاب؛ ويحتقرونهم لأنهم ليسوا عربا ولا مسلمين. ولا غرابة في ذلك بعدما علمت من احتقار بني أمية لغير العرب من المسلمين. وكانوا يعدون الناس ثلاث درجات أولها العرب، ثم الموالي، ثم أهل الذمة. ويؤيد ذلك رأي معاوية في أهل مصر، قال: «وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم ناس فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس فالموالي، والثلث الذين هم لا ناس فالمسالمة» يعني القبط.
146
ولما رأى القبط أن الإسلام لا ينجيهم من الجزية أو العنف في تحصيلها، عمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة، والرهبان لا جزية عليهم، فأدرك عمال بني أمية غرضهم فوضعوا الجزية على الرهبان، وازدادوا غيظا منهم حتى أراد بعضهم اقتضاءها من الأموات فضلا عن الأحياء، بأن يجعلوا جزية الموتى على أحيائهم
147
وأمثال هذه الحوادث كثيرة في عهد بني أمية، ذكرنا كثيرا منها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، مع الطرق التي كان يتخذها عمال بني أمية لابتزاز الأموال من أهل الذمة.
فعل الأمويون ذلك وأغضوا عن شروط عمر، حتى إذا أفضت الخلافة إلى حفيده ومريده عمر بن عبد العزيز كان من جملة ما قلده فيه أنه كتب إلى عماله بإحياء ذلك العهد كقوله: «وأمروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية، ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدا من الكفار يستخدم أحدا من المسلمين، ولا تستخدموا أحدا من أهل الذمة»
148
ونهى النصارى عن ضرب النواقيس وقت الأذان.
ونظرا لاهتمام بني أمية بجمع الأموال للأسباب التي قدمناها، وأهل الذمة أقدر على مساعدتهم في جمعها من سواهم، لاقتدارهم في الحساب والكتابة وأعمال الخراج، استخدموهم في هذا السبيل رغم إرادتهم، ولم يكن يهمهم ذلك من وجه ديني لنشر الإسلام أو حصر النصرانية، ولولا ذلك ما ولوا خالدا القسري العراقيين، وأمه نصرانية رومية كان يراعي جانبها ويكرم النصارى من أجلها، فاعتز النصارى في أيامه. وأراد خالد أمه على الإسلام فلم تسلم، فابتنى لها بيعة في ظهر القبلة بالمسجد الجامع في الكوفة، فكان المؤذن إذا أراد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس
149
وكان خالد يولي النصارى والمجوس على المسلمين عكس وصية عمر بن عبد العزيز، ويطلق أيديهم في الحكومة فيستبدون بالمسلمين. وعمر بن أبي ربيعة الشاعر المشهور كانت أمه نصرانية ماتت والصليب في عنقها،
150
وكان النصارى في أيام بني أمية يدخلون المساجد ويمرون فيها فلا يعترضهم أحد. وكان الأخطل الشاعر النصراني يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن، وهو سكران وفي صدره صليب ولا يعترضه أحد، ولا يستنكفون من ذلك؛ لأنهم كانوا يستعينون به في هجو الأنصار.
151
على أن الخلفاء من بني أمية كانوا إذا قربوا نصرانيا أو يهوديا طلبوا إليه أن يدخل في الإسلام، فلا يمنعه من الرفض مانع، إلا من يغضب الخليفة عليه ولم يكن يحتاج إليه فينتقم منه، كما أصاب شمعلة وكان من رهط الفرس نصرانيا، فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال له: «أسلم يا شمعلة» قال: «لا والله لا أسلم أبدا، ولا أسلم إلا طائعا إذا شئت» فغضب وأمر فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها. أما الأخطل فإن عبد الملك قال له مرة: «ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف؟» قال: «كيف بالخمر؟» قال: «وما نصنع بها؟ وإن أولها لمر وآخرها لسكر» فقال: «أما إذا قلت ذلك فإن بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة من الفرات بالإصبع» فضحك.
أما عمال بني أمية فكانوا يضايقون النصارى في استخراج الأموال، فمن سهل لهم استخراجها أكرموه، وفي خطط المقريزي فصول في انتقاض القبط فلتراجع هناك.
152 (19) الخلاصة
وجملة القول: أن الدولة الأموية دولة عربية أساس سياستها طلب السلطة والتغلب، فاستعان أصحابها على ذلك بالعصبية القرشية واصطناع الأحزاب. فجرتهم تلك العصبية إلى انقسام العرب إلى قبائلها كما كانت في الجاهلية وانقسمت أيضا إلى عصبيات وطنية. وبالغوا في التعصب للعرب وامتهان غير العرب من الموالي وأهل الذمة. وأعوزهم اصطناع الأحزاب إلى الاستكثار من الأموال لإنفاقها في اجتذاب قلوب الرجال. والاستكثار منها بعثهم على الظلم في تحصيلها والخروج بذلك عما يقتضيه العدل، ومدوا أيديهم إلى أموال الصدقة وغيرها، واستأثروا بالفيء، ورأوا أعداءهم العلويين يطلبون الخلافة بالحق، وسلاحهم الدين والتقوى وإذا جادلوهم غلبوهم، فاستخفوا بالدين تحقيرا لأهله وعمدوا إلى الدهاء والحيلة والإغضاء عن الأريحية، وبالغوا في الشدة والعنف واشتهر ذلك عنهم ولم ينكره أحد من المؤرخين حتى أهلهم من أعقابهم. فأبو الفرج صاحب الأغاني أموي
153
وأكثر ما يعرف من مساوئ بني أمية مقتبس من كتابه.
والفضل في ثبات دولتهم لثلاثة من خلفائهم اشتهروا بالدهاء والسياسة والتدبير، حكم كل منهم نحو عشرين سنة وهم: معاوية بن أبي سفيان (حكم من سنة 41-60ه) وعبد الملك بن مروان (من 65-86ه) وهشام بن عبد الملك (من سنة 105-125ه) وكان المنصور العباسي لما أفضت الخلافة إليه يتتبع هشام في سياسته
154
وأما عمر بن عبد العزيز فقد كان أحسنهم تدينا، ولكنه جاء في غير أوانه فلم يطل مقامه . ولولا هؤلاء السواس لذهبت الدولة من أيديهم عاجلا، لما تداول الخلافة بينهم من الخلفاء الضعفاء أهل الترف واللهو والقصف. وأولهم يزيد بن معاوية المتوفى سنة 64ه، فقد كان مغرما بالصيد كثير العناية باقتناء الجوارح والكلاب والقرود والفهود، وكان يحب الطرب والمنادمة على الشراب، فجرى عماله على مثاله وأظهروا الشراب، وفي أيامه ظهر الغناء في مكة والمدينة واستعملت الملاهي، ولم يكن المسلمون يعرفونها من قبل ذلك.
155
ومنهم يزيد ابن عبد الملك المتوفى سنة 105ه ويسمونه خليع بني أمية، فقد تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز وسار في طريق غير طريقه، فشغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه وغنت يوما حبابة:
بين التراقي واللهاة حرارة
ما تطمئن ولا تسوغ فتبرد
فطرب يزيد ثم قال: «أريد أن أطير» وأهوى ليطير فقالت: «يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة» فقال: «والله ل أطيرن» فقالت: «على من تدع الأمة؟» قال: «عليك» وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: «سخنت عينك فما أسخفك!». وخرج يوما ليتنزه في ناحية الأردن ومعه حبابة، وبينما هما في الشراب رماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت. فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها، حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلموه في أمرها حتى أذن بدفنها، وعاد إلى قصره كئيبا حزينا وسمع جارية له تتمثل بعدها:
كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى
منازل من يهوى معطلة قفرا
فبكى، وبقي بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، أشار عليه أخوه مسلمة بذلك مخافة أن يظهر منه ما يسفهه عند الناس
156
ولم يحكم إلا أربع سنوات.
ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك المتوفى سنة 126ه كان خليعا سكيرا همه الصيد وشرب الخمر، حتى جعل الخمر في برك يغوص فيها ويشرب
157
وأول شيء فعله لما ولي الخلافة أنه بعث إلى المغنين في المدينة ومكة وأشخصهم إليه، واستقدم أهل المجون والخلاعة ونادمهم، وبالغ في التهتك والمكر ولكنه لم يحكم إلا سنة واحدة.
على أن العرب أعظموا تهتك بني أمية من أيام يزيد بن معاوية، واستغربوا البيعة له، فكيف بعد الذي شاهدوه من يزيد والوليد وغيرهما، حتى قال بعض الشعراء يخاطبهم:
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم
إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم
فثم لا حسرة تغني ولا جزع
فأين هؤلاء من دهاة بني أمية الذين ذكرناهم، ولم يكن فيهم من يمس الخمر أو يتماجن أو يتخالع؟ حتى هشام بن عبد الملك، مع أنه جاء في أواخر الدولة، فكان لا يشرب الخمر ولا يسقي أحدا في حضرته مسكرا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه.
158
فلما انغمس بنو أمية في الترف والقصف، مع ما كان من تعصبهم على غير العرب واحتقارهم الموالي وإساءتهم إلى أهل الذمة وسائر أهل القرى، بما كانوا يسومونهم إياه من نهب غلتهم في أثناء السفر - إذ كان جند المسلمين في أواخر أيام بني أمية إذا مروا بقرية غصبوا من يمرون بهم أموالهم
159 - فأصبح الناس يتحدثون بقرب زوال دولتهم، ولم يمض إلا سنوات قليلة حتى ذهبت وقامت الدولة العباسية مقامها.
العصر الفارسي الأول
من خلافة السفاح سنة 132ه إلى خلافة المتوكل سنة 232ه
تمهيد
دعونا هذا العصر فارسيا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك الدولة على كونها عربية من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها، فهي فارسية من حيث سياستها وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها، ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شؤونها، ومنهم وزراؤها وكتابها وحجابها. وقد حملهم على القيام بنصرتها ما علمته من عصبية بني أمية على غير العرب، واحتقار الموالي وأكثرهم من الفرس، فكانوا ينصرون كل ناقم على تلك الدولة من الشيعة والخوارج. على أنهم كانوا أكثر رغبة في نصرة الشيعة، لما رأوه في دعوتهم من قوة الحجة يومئذ؛ لأنهم يدعون إلى بيعة صهر النبي أو أبناء بنت النبي. فكان العلويون يبثون دعايتهم في العراق وفارس وخراسان وغيرها من البلاد البعيدة عن مركز الخلافة الأموية، والفرس يبايعونهم وينصرونهم على أمل التخلص من ظلم بني أمية.
ثم قام بنو العباس لطلب الخلافة، وفازوا بها على أيد أبي مسلم الخراساني، واستعانوا بانقسام العرب يومئذ ونقمة اليمنية على بني أمية، ولم يبق من العرب من ينصر الأمويين إلا مضر، فاستعان أبو مسلم باليمنية على الأمويين، حتى فاز بمشروعه. وإليك البيان. (1) انتقال الخلافة إلى العباسيين (1-1) الشيعة العلوية
ظهر بنو أمية وتسلطوا واستبدوا وآل علي بن أبي طالب يطالبون بالخلافة ويسعون في إدراكها. وأول من طلبها بعد علي ابنه الحسن، ثم تنازل عنها لمعاوية سنة 41ه، فغضب أشياع العلويين في الكوفة من تنازله وهاجوا - وأمير الكوفة يومئذ زياد بن أبيه الداهية الشهير، فشدد في إخماد الثورة وقتل جماعة من أشياع علي، فيهم حجر بن عدي وأصحابه. فتربص العلويون ينتظرون موت معاوية، لعل انتخاب الأمة يقع على واحد من أبناء علي فترجع الخلافة إلى أهل البيت، ولم يخطر لهم أن يبايع معاوية لابنه. فلما علموا ببيعته نقموا عليه، وزادهم نقمة ما علموه من تهتكه وقصفه واشتغاله بالصيد عن أمور الخلافة - ومن قول عبد الله بن هشام السلولي في ذلك:
خشينا الغيظ حتى لو شربنا
دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم
تصيدون الأرانب غافلينا
1
وكان أوجه العلويين يومئذ الحسين بن علي، فلما مات معاوية سنة 60ه وتولى ابنه يزيد أبى الحسين أن يبايعه. على أن أكثر الذين بايعوه من أهل التقوى عدوا بيعتهم خرقا لحرمة الدين.
2
وكان الحسين في المدينة، فلما طلبوا منه أن يبايع يزيد فر إلى مكة، وأكثر شيعته في الكوفة، فكتبوا إليه وحرضوه على القدوم إليهم لينصروه فأطاعهم، ولما اقترب من الكوفة قعدوا عن نصرته ... وبعث إليه أمير الكوفة يومئذ عبد الله بن زياد جندا حاربه، فدافع عن نفسه وأهله حتى قتل قتلته المشهورة في كربلاء، يوم عاشوراء من سنة 61ه.
ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان بن الحكم سنة 64ه يطالبون بدمه وسموا أنفسهم «التوابين»، وأمير الكوفة لا يزال عبيد الله بن زياد، فأخرجوه منها وولوا عليهم رجلا منهم. فتغلب ابن زياد عليه. فنهض المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو من جملة الذين طمعوا في السيادة لابتزاز الأموال في أثناء تلك الفوضى واختلال الأحوال. وكان المختار عالي الهمة فجاء الكوفة يطالب بدم الحسين، ويدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية أخي الحسين من أبيه. فتبعه على ذلك جماعة من الشيعة سماهم «شرطة الله»، وزحف على ابن زياد فهزمه وقتله وقتل أكثر قتلة الحسين. ولكن محمد بن الحنفية لم يكن راضيا عن تلك الدعوة، فبعث إلى المختار يتبرأ منه. فحول المختار دعوته إلى عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله قد نهض عند نهوض الحسين، لأن أباه الزبير بن العوام كان من جملة الطامعين في الخلافة بعد مقتل عثمان كما تقدم، وأقام عبد الله في مكة يدعو إلى نفسه. على أن المختار لم يخلص النية في دعوته لأحد؛ لأنه إنما كان يريدها لنفسه. فلما علم ابن الزبير بغرضه، بعث أخاه مصعبا على العراق فحارب المختار وقتله سنة 67ه.
أما الشيعة العلوية فانقسمت بعد مقتل الحسين إلى فرقتين، إحداهما تقول: إن الحق في الخلافة لولد علي من فاطمة بنت النبي، والأخرى تقول: بتحولها بعد الحسن والحسين إلى أخيهما محمد بن الحنفية، وهي الفرقة الكيسانية. وأكثرهما ظهورا وتصديا الفرقة الأولى، فبايعوا بعد الحسين ابنه عليا المعروف بزين العابدين، وتسلسلت الخلافة بعده في أعقابه حتى صار الأئمة 12 إماما وهم: علي، والحسن، والحسين، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد التقي، وعلي النقي، وحسن العسكري، ومحمد المهدي. وتفرع من الشيعة العلوية أيضا فرق أخر، بايعت غير واحد من أعقاب علي، كالزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين، والإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وفرق أخر لا محل لذكرها.
وكان بنو أمية إذا سمعوا بظهور أحد دعاة العلوية بذلوا جهدهم في قتله، فقتلوا بعضهم وسموا البعض الآخر وصلبوا آخرين، فأصبح دعاة الشيعة يتسترون خوف الفتك بهم. فلاقى العلويون في أيام بني أمية ضنكا شديدا، وكادوا يهلكون جوعا وأصبح هم أحدهم قوت عياله، حتى تولى خالد القسري عامل بني أمية المتوفى سنة 126ه فأعطاهم الأموال ورفق بهم، فعادوا إلى طلب الخلافة
3
وخالد هذا غريب الأخلاق، فمع كونه من عمال بني أمية فقد كان ينصر العلويين ويستعمل أهل الذمة كما تقدم. (1-2) الشيعة العباسية
وكان من جملة المطالبين بالخلافة من أهل البيت بنو العباس عم النبي، لكنهم كانوا لا يتصدون لطلبها والأمويون في إبان دولتهم، وإنما كانوا يدعون إلى أنفسهم سرا. وكان العلويون والعباسيون في أيام ضيقهم واضطهادهم يتقاربون؛ لأنهم من بني هاشم، وكلا الرهطين أعداء بني أمية من قبل الإسلام - والمضطهدون يتقاربون على أي حال.
وظل العباسيون يتسترون في دعوتهم، وهم مقيمون في الحميمة من أعمال البلقاء بالشام، حتى ضعف شأن بني أمية فهموا بالنهوض. واتفق في أثناء ذلك أن الفرقة الكيسانية دعاة ابن الحنفية صارت دعوتها بعده إلى ابنه أبي هاشم، وكان أبو هاشم هذا يفد على خلفاء بني أمية من المدينة إلى الشام، فيمر في أثناء الطريق بالحميمة. ففي بعض وفداته على هشام بن عبد الملك، آنس هشام منه فصاحة وقوة ورياسة، مع علمه بطمعه في الخلافة، فدس إليه في أثناء رجوعه إلى المدينة رجلا سمه في لبن. فشعر أبو هاشم بالسم وهو في بعض الطريق، فعرج إلى الحميمة، وصاحب الدعوة العباسية يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فنزل عنده. ولما أحس بدنو الأجل خاف ضياع البيعة وهو بعيد عن أهله، فأوصى إلى محمد المذكور بالخلافة بعده. وكان معه جماعة من شيعته، سلمهم إليه وأوصاه بهم. فلما مات أبو هاشم، تهوس محمد بالخلافة وأيقن بالنجاح؛ لأنه اكتسب حزب الكيسانية جميعا، فأخذ في بث الدعاة سرا. ثم توفي وقد أوصى بالخلافة بعده إلى ابنه إبراهيم، وعرف بالإمام.
فأخذ إبراهيم الإمام في بث دعاته، وبدأ بخراسان لوثوقه بأهلها أكثر من سائر أهل الأمصار؛ ولأن الشيعة الكيسانية أكثرهم من خراسان والعراق، وقد نصروا العلويين مرارا. فبعث إليهم دعاة الكيسانية الذين كانوا مع أبي هاشم، وأوصاهم أن يطلبوا بيعة الناس باسم «آل محمد» أي: أهل النبي، ولم يعين العلويين ولا العباسيين . وكان الخراسانيون قد ملوا الدولة الأموية، فهان عليهم أن يبايعوا لآل محمد، وهم يحسبون الأمر يكون مشتركا بين العباسيين والعلويين. وتوفق إبراهيم الإمام في أثناء ذلك إلى أبي مسلم الخراساني القائد العجيب، فأتم أمرهم وسلم لهم الدولة كما هو مشهور. (1-3) بيعة المنصور للعلويين ونكثه
وكان بنو هاشم - العلويون والعباسيون - لما رأوا اختلال أمر بني أمية، اجتمعوا بمكة وفيهم أعيان بني هاشم، علويهم وعباسيهم، وتداولوا في قرب انحلال دولة الأمويين، وفيمن يخلفهم من أهل البيت. وكان في جملة الحضور أبو العباس المعروف بالسفاح، وأخوه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو أبو جعفر المنصور، وغيرهما من آل العباس. فأجمع رأيهم على مبايعة أوجه العلويين يومئذ، وهو محمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي، الملقب بالنفس الزكية. فبايعوه لتقدمه فيهم، ولما علموه له من الفضل عليهم، وبايعه أبو جعفر المنصور في جملتهم
4
ولعل هذه المبايعة هي التي أسكتت العلويين عن طلب الخلافة، في أثناء انتشار دعاة العباسيين في طلبها، كأنهم اتفقوا أن تكون الخلافة مشتركة في أهل البيت؛ لأن العباسيين كانوا يطلبون بيعة الناس باسم «آل محمد»، وليس باسم الإمام إبراهيم أو غيره من بني العباس.
أما دعاة الشيعة العلوية، الذين كانوا يدعون للعلويين في العراق وفارس وخراسان قبل انتقال البيعة إلى العباسيين، فقد رضوا بذلك الانتقال غير مخيرين. وفي جملتهم أبو سلمة الخلال المثري الفارسي الشهير، وكان قيم في حمام أعين بضواحي الكوفة، وكان شديد التمسك بدعوة العلويين، وقد بذل ماله وجاهه في سبيل نشرها. فلما سمع بانتقال البيعة إلى بني العباس، كظم غضبه وتربص ليرى ما يقول الناس. ثم علم أن إبراهيم الإمام عين أبا مسلم وأرسله إلى خراسان ومعه الوصية المشهورة (من اتهمته فاقتله)، وقد أطاعه النقباء فأطاعه أبو سلمة في جملتهم، وهو يتوقع أن تكون البيعة شورى بين الشيعيين
5
ولما بلغه أن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قتل إبراهيم الإمام، أضمر الرجوع إلى الدعوة العلوية
6
ثم جاءه أخوة الإمام، وفيهم أبو العباس السفاح وإخوته وسائر أهل بيته وقد انتقلت البيعة إلى أبي العباس المذكور، فأنزلهم أبو سلمة عنده ورأى نفسه عاجزا عن نقل البيعة، فسكت فبقيت لآل العباس. وكان أبو مسلم وسائر النقباء والقواد يحاربون عساكر الأمويين في خراسان وفارس والعراق، فلما غلبوهم وملكوا خراسان وما يليها جاءوا العراق وبايعوا أبا العباس، فسكت العلويون خوفا على أنفسهم من ذلك التيار العظيم، وهم يتوقعون مع ذلك أن تكون الخلافة شورى بين الرهطين.
وعلم العباسيون بما كان يضمره أبو سلمة من نقل الخلافة إلى العلويين، فشكوه إلى أبي مسلم سرا. فدس إليه رجلا قتله بالكوفة غيلة، وأشاعوا أن بعض الخوارج قتله، وقد قتلوا كثيرين غيره ممن شكوا في إخلاصهم، حتى تم الأمر لهم.
أما آل الحسن بن علي، الذين كانوا قد بايعوا أحدهم محمد بن عبد الله في المدينة وبايعه معهم سائر بني هاشم ومنهم أبو جعفر المنصور، فلما علموا بذهاب دولة بني أمية ومبايعة أبي العباس السفاح سنة 132ه، جاءوا إليه في الكوفة يطالبونه ببيعتهم، فاسترضاهم أبو العباس بالأموال وقطع لهم القطائع. وكان في جملة القادمين إليه عبد الله بن الحسن والد صاحب البيعة فأكرم السفاح وفادته وعرض عليه ما يرضاه من المال وقال له: «احتكم علي» فقال عبد الله: «بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط ...»، ولم يكن هذا المال موجودا عند السفاح، فاستقرضه له من رجل صيرفي اسمه ابن أبي مقرن ودفعه إليه. واتفق - وعبد الله المذكور عند السفاح - أن بعض الناس جاءه بالجواهر التي كانت عساكر العباسيين قد اغتنمتها من مروان بن محمد، فجعل السفاح يقلب الجواهر بين يديه وعبد الله ينظر إليها ويبكي، فسأله عن السبب فقال: «هذا عند بنات مروان، وما رأت بنات عمك مثله قط ...» فحباه به، ثم أمر الصيرفي أن يبتاعه منه فابتاعه بثمانين ألف دينار (نحو مليون درهم) وأمر أبو العباس بإكرام عبد الله وإنزاله على الرحب والسعة، وهو يتوجس مما في ضميره، فبث عليه العيون فآنس عنده طمعا فزاده عطاء ، فعاد عبد الله إلى المدينة مثقلا بالأموال ففرقها في أهله، وكانوا أهل فاقة فلما رأوا تلك الأموال سروا.
وأما عبد الله فما زال مضمرا المطالبة بالخلافة لابنه
7
على ما تمت المبايعة عليه، والعباسيون يخافون ذلك والسفاح يسترضيه وسائر أهله بالأموال كما رأيت. فلما توفي السفاح سنة 126ه خلفه أخوه أبو جعفر المنصور، وكان رجلا شديد البطش لا يبالي بما يرتكبه في سبيل تأييد سلطانه. فكان همه قبل كل شيء أن يتحقق ما في نفس بني الحسن في المدينة؛ لأن لهم في عنقه بيعة، فبث عليهم العيون وأراد اختبارهم، فبعث بعطاء أهل المدينة على جاري العادة من قبل، وكتب إلى عامله فيها: «أعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه، وتفقد بني هاشم ومن تخلف منهم عن الحضور، وتحفظ بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن» ففعل العامل ذلك، فلم يتخلف عن العطاء إلا محمد وإبراهيم المذكوران، فكتب إليه بذلك، فتحقق المنصور أنهما ينويان القيام عليه، وقد سكتا في أثناء خلافة أخيه؛ لأنه كان يكرمهما ويغدق عليهما والمنصور لا يرى ذلك، فلما رأوا تضييقه عزموا على الخروج، فبثوا الدعاة في خراسان وغيرها يدعون شيعتهم إلى بيعتهم. فعلم أبو جعفر بذلك، فبعث من يقبض على كتبهم في الطريق، واحتال في استطلاع أسرارهم، وأراد استقدام ابني عبد الله وكتب إليه يستقدمه بهما، فأنكر عبد الله أنه يعرف مقرهما، فأصبح هم المنصور التخلص منهما ومن سائر طلاب الخلافة من العلويين، وخصوصا بني الحسن وهم يقيمون في المدينة، فبعث إلى عامله فيها أن يقبض عليهما جميعا، ثم أمره أن ينقلهم إلى العراق، فنقلهم وهم مثقلون بالقيود والأغلال في أرجلهم وأعناقهم، وقد حملهم على محامل بغير وطاء، ولكن ليس فيهم محمد ولا إبراهيم ابنا عبد الله لاستتارهما، فجاءوا ببني الحسن وعدتهم بضعة عشر رجلا، فأمر المنصور بقتلهم فقتلوا إلا بضعة قليلة.
أما محمد بن عبد الله صاحب البيعة فلم يقع في الفخ، فبعث المنصور إلى عامله في المدينة يشدد في طلبه، فلم ير محمد بدا من القيام. فظهر بالدعوة، فبايعه أهل المدينة بعد أن استفتوا إمامهم مالك بن أنس، فأفتاهم بالخروج معه فقالوا: «إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر»، فقال: «إنكم بايعتموه مكرهين، وأن بيعة محمد بن عبد الله أصح منها؛ لأنها انعقدت قبلها»
8
وكان أبو حنيفة أيضا على هذا الرأي، يقول بفضل محمد هذا ويحتج إلى حقه، فحفظ لهما المنصور هذا القول فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك. فلما تمكن من محمد وقتله سنة 145ه أصبح من أكبر المضطهدين لهما فضرب مالكا على الفتيا في طلاق المكره، وحبس أبا حنيفة على القضاء كما هو مشهور.
وكان لنكث المنصور بيعة محمد بن عبد الله تأثير عظيم في أذهان العلويين؛ لأنها جاءتهم بغتة، وكانوا يظنون أن ذلك لا يصدر من أهل البيت كما صدر من بني أمية، فتحسروا على أيام بني أمية وتمنوا رجوعها - ذكروا عن محمد بن عبد الله، في أثناء قيامه على المنصور، أنه سمع شاعرا يرثي بني أمية فبكى، فقال له عمه: «أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد؟» فقال له: «يا عم، لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقل خوفا لله منهم، وإن الحجة على بني العباس أوجب منها عليهم. ولقد كان للقوم أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر».
9
سياسة العباسيين في تأييد سلطتهم
(1) القتل على التهمة
قد رأيت فيما تقدم أن بني العباس قاموا يدعون إلى أنفسهم وهم بين خطرين عظيمين: الأول أن يحاربوا بني أمية ويتغلبوا على أحزابهم، والثاني أن يأمنوا جانب العلويين في مسابقتهم إلى الخلافة. وكانت الحوادث قد علمتهم أن الدولة لا تقوم بالدين والتقوى فقط، كما قامت في عصر الراشدين وكما أرادها بنو علي، وأن العلويين إنما عجزوا عن نيلها لاعتمادهم في دعوتهم على شرف نسبهم وصدق تدينهم، وأن معاوية لم يغلب إلا بالدهاء والحيلة، وأن عبد الملك لم يستطع استبقاءها إلا بالفتك وشدة البطش. فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين، بمبايعة أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لمحمد بن علي العباسي كما تقدم، ثم أفضت بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام، وتوفق هذا إلى أبي مسلم الخراساني ورأى فيه الشدة والدهاء، جعله قائدا على نقبائه ودعاته وأوصاه وصية هي محور سياسة العباسيين في تأييد دولتهم هذا نصها:
إنك رجل منا أهل بيت، أحفظ وصيتي: أنظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم. واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار. واقتل من شككت فيه. وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل. وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله
1 ...
فخرج أبو مسلم من عند الإمام إبراهيم بهذه الوصية، وقد عمل بها وعول عليها، فكان يقتل كل من اتهمه أو شك فيه، فبلغ عدد الذين قتلهم في سبيل هذه الدعوة 600000 نفس قتلوا صبرا
2
بدون حرب في بضع سنين، وفي جملتهم جماعة من كبار الشيعة، وفيهم غير واحد من جلة النقباء وكبار الدعاة، كأبي سلمة الخلال الذي نصر الدعوة العباسية بماله كما نصرها أبو مسلم بسيفه، وكان يقال له: وزير آل محمد كما يقال لأبي مسلم: أمير آل محمد. فحالما استشار السفاح أبا مسلم في شأنه واتهمه بنقل الخلافة إلى العلويين، أشار أبو مسلم بقتله فقتلوه وقتلوا عماله على الأطراف. وفعل نحو ذلك أيضا بسليمان بن كثر، وهو من أكبر دعاة الدولة العباسية قبله، وكان شيخا جليلا لم يدخر وسعا في نصرة تلك الدعوة. فبعد قتل أبي سلمة بلغ أبا مسلم عنه مثل ما بلغه عن أبي سلمة، فأحضره إليه وقال له: «أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟» قال: «نعم» قال: «فإني قد اتهمتك!» فخاف سليمان وقال: «أناشدك الله ...» قال: «لا تناشدني، فأنت منطو على غش الإمام»، وأمر بضرب عنقه
3
ناهيك بمن قتلهم من غير الشيعة، وفيهم الأمراء والقواد. وقتل بعضهم بالحيلة والبعض الآخر بالغدر، ومنهم الكرماني وأولاده وكبار رجاله
4
وغيرهم بشر كثير، حتى سئم الناس فعله وملوا سفك الدماء، وأصبح المسلمون - حتى رجاله - لا يدعى أحدهم إلى مقابلته إلا أوصى وتكفن وتحنط. وثار من ذلك بعض الأمراء من شيعة بني العباس وصاح في رجاله: «ما على هذا اتبعنا آل محمد: أن سفك الدماء وأن يعمل بغير الحق ...»، فتبعه على رأيه أكثر من 30000 رجل، فوجه إليهم أبو مسلم جندا قاتلهم وقتلهم. (2) المنصور والدولة العباسية
فبهذا وأمثاله مهد أبو مسلم الخلافة لبني العباس، فساعدهم أولا على إخراجها من بني أمية إلى أهل البيت، ولم يكتف ببيعة أبي العباس وقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولكنه حرضهم على قتل من بقي من بني أمية بالإغراء أو التخويف على ألسنة الشعراء. ويقال: إنه هو الذي أوعز إلى سديف الشاعر مولى بني هاشم أن يقول ذلك الشعر في مجلس السفاح، وفيه سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان السفاح قد أمنه وأكرمه وأمن سائر بني أمية - فيقال: أن سديفا دخل يوما على السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشد سديف قوله:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
فتأثر السفاح وأمر بسليمان فقتل. ودخل شاعر آخر فقال شعرا آخر، وكان عند السفاح نحو سبعين من رجال بني أمية، فقتلهم وبسطت له النطوع على جثثهم فأكل الطعام وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا
5
وقل في كيفية قتلهم غير ذلك، وأن الذي قتلهم عبد الله بن علي عم السفاح، وهو مشهور بكرهه لبني أمية وشدة نقمته عليهم، ولكن لا خلاف في أنهم قتلوا غدرا سنة 132ه وهم آمنون كما قتل الأمراء المماليك بمصر في أوائل القرن الماضي.
والغالب أن أبا مسلم أوعز إلى العباسيين بقتلهم؛ لئلا يقفوا في سبيل دولتهم، فأشار إلى سديف أن يحرضهم على ذلك بشعره. ولم يقل سديف ذلك حبا ببني العباس بل كرها لبني أمية وانتقاما لآل علي؛ لأنه من الشيعة العلوية وهو يظن الخلافة شورى بين الشيعتين. فلما رأى المنصور استقل بها بعد ذلك، نقم على العباسيين وهجاهم بأشعار بلغ خبرها المنصور، فكتب إلى عامله أن يأخذ سديفا فيدفنه حيا ففعل.
6
وبعد أن قتل العباسيون من كان في قبضتهم من الأمويين، عمدوا إلى استئصال شأفتهم من سائر البلاد. ولم ينج منهم إلا قليلون، أهمهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ففر إلى المغرب وأسس دولة بني أمية بالأندلس كما سيأتي. وتولى استئصال شأفة الأمويين من بني العباس عبد الله بن علي، فبالغ في ذلك حتى نبش قبورهم ومثل بجثثهم، انتقاما لما فعلوه قبلا بالأئمة من آل علي، وخصوصا زيد بن زين العابدين. فاستخرج جثة هشام بن عبد الملك من قبره وهو لم يبل، فضربه ثمانين سوطا ثم أحرقه.
7
وبعد أن تخلص المنصور من الأمويين، لم يدخر أبو مسلم وسعا في تخليص الدولة من أقربائه آل العباس أنفسهم، وفي جملتهم عبد الله بن علي المتقدم ذكره، وقد طمع في الخلافة فحاربه بأمر المنصور وغلبه، واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. فأراد المنصور أن يوجه همه إلى بني الحسن منافسيه في الخلافة، فاشتغل خاطره بأبي مسلم وأصبح خائفا منه على سلطانه، بعد ما بلغ إليه من النفوذ والشهرة والدالة. ولم يكن همه إلا قتله ليفرغ للعلويين، فاتهمه بأنه ينوي إخراج الملك منهم فاستحق القتل عملا بوصية الإمام.
وكان المنصور قد خاف أبا مسلم وعزم على قتله، من عهد خلافة أخيه أبي العباس، ولكن أبا العباس لم يرد الإقدام على ذلك. فلما مات السفاح وخلفه المنصور صمم على قتله، ولكنه استخدمه في حرب عمه عبد الله بن علي، فضرب عدويه أحدهما بالآخر، فأيهما قتل صاحبه انفرد فيسهل على المنصور قتله. فلما فرغ أبو مسلم من حرب عبد الله بن علي، احتال المنصور في استقدامه إليه من خراسان في حديث طويل، وأدخله عليه دخول الزائر الأمين، وقد أكمن له أناسا بالسلاح وراء الستر، فأخذ سيفه منه وحادثه، وتدرج من العتاب إلى التوبيخ، حتى إذا أزفت الساعة صفق المنصور، فخرج الكامنون بأسلحتهم وقتلوه سنة 137ه فأمر به فلفوه بالبساط، ثم دعا بعض رجال خاصته وشاورهم في قتله - ولم يقل: أنه قتله - فقال له أحدهم: «إن كنت قد أخذت من رأسه شعرة فاقتله ثم اقتله»، فأشار المنصور إلى البساط، فلما رأى أبا مسلم فيه وتحقق موته قال: «عد هذا اليوم أول يوم خلافتك ...».
8
ولما فرغ المنصور من أبي مسلم، لبث يتوقع ما يبدو من رجاله الخراسانية؛ لعلمه أنه ركب بقتله خطرا عظيما، فما عتم أن ثار عليه جماعة منهم يعرفون بالراوندية، وكادوا يفتكون به لو لم يدافع عنه معن بن زائدة. فقتل الراوندية جميعا، ولكنه أصبح لا يأمن على نفسه من مثل هذه الثورة، فبنى مدينة بغداد بشكل حصين يقيه غائلة ذلك عند الحاجة، ثم عمد إلى تخليص الخلافة من آل علي، فحارب محمد بن عبد الله وقتله. ثم رأى من آل العباس من ينازعه عليها، منهم عمه عبد الله، وكان أبو مسلم قد غلبه ولكنه لم يتمكن من قتله، فاحتال المنصور في استقدامه بأمان بعثه إليه مع ولديه، فجاء فحبسه عنده. ثم علم سرا أن ابن عمه عيسى بن موسى ينوي الخروج عن طاعته، وكان واليا على الكوفة، فتجاهل وبعث إليه وقد دبر أمرا كتمه عن رجال بطانته، فلما جاء عيسى استقبله المنصور بالترحاب والإكرام، ثم أخرج من كان في حضرته من الحاشية واستبقاه وحده، وأقبل عليه وقال: «يا ابن العم ... إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله، ولا أرى سواك مساعدا لي على حمل ثقله، فهل أنت في موضع ظني بك، وعامل ما فيه، بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي؟» فقال له عيسى: «أنا عبد أمير المؤمنين، ونفسي طوع أمره ونهيه ...»، فقال المنصور: «إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته، واعتمد على ما بعضه يبيح دمه، وفي قتله صلاح ملكنا، فخذه إليك واقتله سرا ...» فأطاعه عيسى، فسلم إليه عمه فمضى به إلى الكوفة. وأضمر المنصور أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص. وسلمه إلى أعمامه إخوة عبد الله ليقتلوه به، فيكون قد استراح من الاثنين معا. أما عيسى فكأنه شك في نية المنصور، والناس يومئذ يتهمون بعضهم بعضا خوفا من وصية الإمام، فاستشار بعض ذوي مشورته فحذروه من عاقبة ذلك، فحبس عمه ولم يقتله. ولما طلبه المنصور منه دفعه إليه حيا، فقتله في بيت جعل أساسه على الملح.
9
وأمثلة ما أتاه المنصور من الدهاء والفتك في تأسيس دولته كثيرة. وكان يعطي الأمان ثم ينكث، كما رأيت فعله بعمه عبد الله، وكما فعل بابن هبيرة عامل بني أمية على واسط، لما بويع السفاح وأرسل أخاه المنصور لمحاربته، فجرت السفراء بينهما واتفقا على أن يدخل ابن هبيرة في أمان بني العباس، فكتب له المنصور أمانا ظل ابن هبيرة أربعين ليلة وهو يشاور فيه العلماء حتى تحقق صحته ورضي به. فبعثه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس فأمره بإمضائه. وكان رأي أبي جعفر في بادئ الأمر أن يفي بما أعطاه، ولكن أبا مسلم (وكان لا يزال حيا) أشار على السفاح أن يقتله قائلا: «إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد. لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة ...»، فبعد أن جاء ابن هبيرة إلى أبي جعفر مستأمنا غدر به وقتله
10
لأنه اتهمه. ثم اتهم أبا مسلم وقتله بعد أن أمنه كما رأيت. وشاع نكث الأمان والغدر عن المنصور وتحدث به الناس. فلما قام محمد بن عبد الله العلوي في المدينة، خافه المنصور كما تقدم، فبعث إليه يعرض عليه الأمان ويعده خيرا، فأجابه محمد: «أي أمان تعطيني؟ أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك عبد الله، أم أمان أبي مسلم؟».
11
وظل المنصور وأبو مسلم قدوة لمن جاء بعدهما في الدهاء والفتك. على أنهم لم يكونوا يبطشون أو يفتكون إلا بمن نازعهم على الخلافة، فهذا يقتلونه على الشك. أما أحكامهم فيما خلا ذلك ففي نهاية العدل والرفق، كما سيأتي أما من كان في نفسه مطمع في الخلافة أو ما يتعلق بها فحكمه حكم المجرمين، فكل من يطلب الخلافة لنفسه أو يسعى فيها لأحد كانت حياته في خطر، فإذا دعي للمثول بين يدي الخليفة اغتسل وتحنط استعدادا للموت.
وكان المنصور أيضا قدوة لعبد الرحمن بن معاوية، مؤسس دولة بني أمية في الأندلس، وقد فر من العراق فالشام إلى المغرب خوفا من القتل، فنصره رجاله وخصوصا مولى له اسمه بدر، سعي في تأييد سلطانه مثل سعي أبي مسلم في الدولة العباسية، فلما استتب له الأمر سلبه كل نعمة وسبحنه ثم أقصاه حتى مات، وفعل نحو ذلك في رؤساء الأحزاب الذين نصروه، وسيأتي الكلام على ذلك.
واشتهر فتك العباسيين بالذين ينصرونهم في تأييد دولتهم، حتى صار الخلفاء أنفسهم يشيرون إلى ذلك إذا أعوزهم الاستدلال به. فالأمين لما رأى طاهر بن الحسين يتفانى في نصرة أخيه المأمون، وقد تولى قيادة جند الخراسانيين وغلب على جند الأمين وكاد يذهب بدولته، كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، اعلم أنه ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا وكان جزاؤه إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع ...».
12
وفي الواقع أن المأمون لما استتب له الأمر في الخلافة بسيف طاهر المذكور عمل على قتله بحجة مثل حجة المنصور بقتل أبي مسلم، فأهدى له خادما كان رباه وأمره أن يسمه ففعل.
13 (3) سياسة الدولة العباسية في معاملة الرعية (3-1) الموالي الفرس
قد رأيت أن الدولة العباسية قامت بالفرس وغيرهم من الرعايا، وفيهم الموالي وأهل الذمة وكانوا ناقمين على دولة بني أمية، فنصروا أهل البيت انتقاما منها، والجمهور الأهم منهم الفرس. (3-2) الفرس والعرب قبل الإسلام
الفرس أهل سياسة وسلطان، وقد أنشأوا الدول وساسوا الناس ووضعوا الأحكام من قديم الزمان. وضخمت دولتهم وقويت شوكتهم حتى حاربوا اليونان والرومان، ونبغ فيهم القواد والعلماء والحكماء، وترجموا العلم والفلسفة، وكان لهم شأن كبير في التاريخ القديم، واشتهر فيهم فضلا عن الأسر المالكة والداهقين والأساورة بيوتات شريفة، أشهرها سبعة كان الشرف فيها. وعلى إطلال اصطخر عاصمة الفرس القدماء، وغيرها من بقايا مدنهم القديمة، نقوش كتابية، مثل التي خلفها الفراعنة واليونان والرومان وغيرهم.
وكان في مملكة فارس قبائل كثيرة من العرب، يقيمون على حدودها بين النهرين في العراق والجزيرة، وكانت لهم دولة عربية تحت رعاية الفرس. وهم المناذرة في الحيرة، وكثيرا ما كان الفرس يتعلمون لغة العرب وينظمون الشعر العربي، حتى ملوكهم فإنهم لم يكونوا يستنكفون من ذلك - حكي أن بهرام بن يزدجرد بن سابور نشأ بين العرب بالحيرة وتعلم العربية ونظم فيها شعرا،
14
وكانوا يستخدمون العرب في دواوينهم، للكتابة أو الترجمة بينهم وبين من يفد على ملك الفرس من عرب الحجاز أو اليمن أو نجد، وخصوصا بعد أن دخلت اليمن في حوزتهم على عهد كسرى أنو شروان.
وأشهر كتاب العرب في دواوين الفرس آل عدي بن زيد من المضرية، وكان عدي وأبوه وجده من مهرة الكتاب، على قلة من يحسن الكتابة من العرب في ذلك العهد، وكانوا يخدمون الفرس في دواوينهم. فجده حماز بن زيد بن أيوب كان كاتبا عند النعمان في الحيرة، وتقرب من الفرس وولد له زيد، فأوصى به إلى دهقان كان صديقا له وهو من أهل الدولة، فرباه الدهقان وعلمه الفارسية فنبغ في اللسانين، فتقدم الدهقان إلى كسرى أن يوليه البريد. ولم يكن ينال هذا المنصب إلا أبناء المرازبة، فتقدم يزيد في الدولة حتى صار كسرى يستشيره في مهامه، وولد لزيد ابنه عدي وتثقف وتعلم مثل أبناء الأساورة، وأتقن ألعاب الفرس على الخيل بالصوالجة، فقربه كسرى وجعله كاتبا في ديوانه بالمدائن، وصار من أصحاب السطوة والكلمة النافذة وكسرى يأذن له مع الخاصة ويبعث به في المهمات الكبرى إلى ملك الروم وغيره. وإذا فسد العرب على الفرس وتمردوا توسط عدي في إصلاحهم، وإذا مات ملك العرب في الحيرة لا يولي كسرى من يخلفه إلا بمشورة عدي. فشق ذلك على ملوك الحيرة حسدا له؛ لأنهم يمنية وعدي مضري، فوشى به بعضهم إلى كسرى حتى قتل، وتولى بعده ابنه زيد بن عدي في المكاتبة عن كسرى إلى ملوك العرب في أمورها وفي خواص أمور الملك. وكانت لكسرى وظائف يؤديها إليه العرب كل عام، فكان زيد يتولى ذلك وغيره.
15
وجملة القول: أن العرب كانوا يخدمون الفرس في أيام دولتهم قبل الإسلام، كما خدم الفرس العرب في أيام دولتهم بعد الإسلام، على أن الفرس بلغ من ضخامة سلطانهم وسعة ملكهم قبل الإسلام أن كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد ويعدون سائر الناس عبيدا لهم، أي: أنهم أصيبوا بما أصاب العرب بعد ذلك، وبما يصاب به غيرهم من الأمم التي توفق إلى السيادة فيغلب عليها الغرور وتترفع عن سواها.
فلما ظهر الإسلام وقامت دولة الخلفاء مقام دولة الأكاسرة، كان ذلك شديدا على الفرس، وخصوصا بعد ما لا قوة من ضغط بني أمية، واحتقارهم، فكانوا ينتقضون فيحاربهم الأمويون، ويبالغون في إهانتهم وظلمهم ويضربن مدائنهم بالمجانيق ويقتلون أهاليها، حتى أفنوا أكثر البيوتات القديمة ووجوه الأساورة الذين كانوا يأوون إلى أصخر
16
فلا لوم عليهم بعد ذلك إذا نصروا كل قائمة على الدولة الأموية. على أنهم لم يفوزوا إلا بطلبها للعباسيين كما رأيت، وكانوا يعدون ذلك فوزا لأنفسهم، تخلصا من عصبية العرب عليهم، وطمعا في الرجوع إلى ما كانوا عليه من السلطة والشوكة. (3-3) استخدام الموالي الفرس
فلما قبض العباسيون على أزمة الملك، جعلوا عاصمة مملكتهم بين شيعتهم في العراق، فأقاموا أولا في الكوفة ثم في الهاشمية، حتى بنى المنصور مدينة بغداد على دجلة فجعلوها دار الخلافة. وقربوا الموالي الفرس، وخصوصا أهل خراسان، فجعلوهم بطانتهم ورجال دولتهم، ولاسيما الذين حاربوا مع أبي مسلم في طلب الخلافة لهم. وأشهرهم خالد بن برمك جد الوزراء البرامكة، فإنه كان من قواد جند أبي مسلم، وشهد معه الوقائع وأبلى بلاء حسنا في نصرة أهل البيت، وكان أبوه برمك من مجوس بلخ، وكان يخدم بيتا من بيوت النار هناك اسمه النوبهار، اشتهر هو وبنوه بسدانته، وكان برمك عظيم المقدار عند الفرس. فأسلم خالد ودخل في جند أبي مسلم، وكان عاقلا حازما فلم يجعل للعباسيين محلا للشك في صداقته، كما فعل أبو مسلم. فقدمه أبو العباس وولاء الوزارة، ثم تولاها للمنصور وخدمه بعد مقتل أبي مسلم في محاربة الأكراد، وكانوا قد تغلبوا على فارس
17
وتوالت الوزارة في أعقابه إلى يحيى ابنه، فجعفر ابن ابنه ، وهو الذي نكب البرامكة على عهده لسبب سنذكره.
وكذلك فعل العباسيون في استخدام الموالي في مهماتهم. وأول من استخدمهم لذلك المنصور، فإنه استعمل مواليه وغلمانه وصرفهم في مهماته وقدمهم على العرب، فاقتدى به الخلفاء بعده حتى سقطت دولة العرب، كما سيجيء. ولما حضرته الوفاة أوصى بثلث ماله لمواليه
18
وأوصى بإكرامهم. ومن أقواله في وصيته لابنه المهدي: «وانظر إلى مواليك فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك إن نزلت بك ... وأوصيك بأهل خراسان، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده».
19
ولا غرو إذا أكرم العباسيون أهل خراسان، بعد أن آثروهم على أهلهم وأبنائهم وقتلوا من خالفهم. ولكن العرب كانوا يستغربون ذلك لأول وهلة، فكانوا إذا جاءوا مجلس الخليفة رأوا الخراسانيين يذهبون ويجيئون ويدخلون على الخليفة كأنهم من أهله، والعرب يقفون ببابه لا يؤذن لهم إلا بمشقة - ذكروا أن أبا نخيلة الشاعر العربي وفد على أبي جعفر المنصور، ووقف ببابه واستأذن فلم يؤذن له، وهو يرى الخراسانية تدخل وتخرج وتهزأ به، فيرون شيخا أعرابيا جلفا فيعبثون به، فسأله صديق له رآه في تلك الحال: «كيف ترى ما أنت فيه من هذه الدولة؟»، فقال:
أكثر خلق الله من لا يدري
من أي خلق الله حين يلقى
وحلة تنشر ثم تطوى
وطيلسان يشترى فيغلى
لعبد عبد أو لمولى مولى
يا ويح بيت المال ماذا يلقى
20
وكان المهدي بن المنصور إذا أراد الشورى جمع خاصته للمداولة، وأول من يتكلم منهم الموالي
21
وقس على ذلك في سائر الأحوال. فأصبحت بطانة الخليفة ورجال دولته وخاصة حكومته من الموالي الفرس، وهم نظموا الحكومة ودواوينها، ورتبوا أحوالها ومنهم الوزراء والقواد والعمال والكتاب والحجاب كأنها دولتهم؛ لأن الغالب في هذه المناصب أن تنتقل من الرجل إلى بعض أولاده، مثل منصب الخلافة، فاشتهر بعض البيوتات بالوزارة أو الولاية، كآل برمك وآل وهب وآل قحطبة وآل سهل وآل طاهر وغيرهم.
وكانت أمور الدولة ترجع إلى الوزراء: يولون ويعزلون، وإذا تولاها أحدهم ولى الأعمال رجالا من أصحابه أو مريديه، ومن ناحية أخرى تغيرت الأحوال على أهل البلاد، واطمأنت خواطرهم وتفرغوا للعمل في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ونسوا ما كانوا فيه من ضغط بني أمية واستبدادهم، وأطلقت حرية العمل وحرية الدين، وذهبت عصبية العرب، ورتع الناس في بحبوحة الأمن.
ولما استبد الأتراك في الدولة وضعفت شوكة الفرس، بعد المأمون كما سيأتي، ظل الموالي من أصحاب النفوذ في دولة الخلفاء، يعتمد عليهم الخليفة في أموره الخاصة والعامة من الكتابة إلى القيادة، ولم يعد التقدم فيهم للفرس بنوع خاص، ولكنهم أصبحوا أخلاطا منهم ومن سواهم، وإنما تجمعهم كلمة الموالي ويتفانون في خدمة الخليفة أو الأمير. (4) أهل الذمة في الدولة العباسية
لما أخذ الموالي الفرس في تنظيم الحكومة وترتيب دواوينها، أحسوا بافتقارهم إلى من يعينهم على ذلك من أهل الذمة في العراق والشام، وكانوا أهل معرفة في الحساب والكتابة والخراج فضلا عن العلوم، فأطمعوهم بالرواتب والجوائز وسهلوا لهم أسباب المعيشة وقربوهم وأكرموهم. فاطمأنوا لتلك الدولة وتقاطروا إلى بغداد، وخدموا العباسيين بعقولهم وأقلامهم، بما آنسوه من تسامحهم وإطلاق حرية الدين لهم، فاستخدمهم العباسيون في دواوينهم وولوهم خزائنهم وضياعهم.
فالجهابذة (الصيارف) كان أكثرهم من اليهود، والكتاب كان فيهم جماعة كبيرة من النصارى. وكثيرا ما كان النصارى يتقلدون ديوان الجيش، وربما عظمت منزلة صاحب هذا الديوان - وهو نصراني - حتى يتسابق أكابر رجال الدولة من المسلمين إلى تقبيل يده. وممن تقلدوا ديوان الجيش من النصارى في الدولة العباسية ملك بن الوليد، قلده إياه المعتضد بالله، وإسرائيل النصراني، قلده إياه الناصر لدين الله. وقد أدرك بعضهم رتبة الوزارة، فتقلد أمرها أبو العلاء صاعد بن ثابت في أيام المتقي بالله.
22
وسرى ذلك الاعتدال والتسامح في الدين إلى الدولة الفاطمية بمصر، وكان لأهل الذمة فيها شأن عظيم، فتقلد الوزارة أو الكتابة (وهي كالوزارة في مصر) غير واحد منهم، وقويت شوكتهم في الدولة، فاستوزر العزيز بالله الفاطمي رجلا نصرانيا اسمه عيسى بن نسطوروس، وآخر يهوديا اسمه منشا، فعز النصارى واليهود في أيامهما
23
ومن نافذي الكلمة في الدولة الفاطمية من أهل الذمة، فهد بن إبراهيم النصراني كاتب برجوان، صاحب النفوذ الأعظم في أيام الحاكم بأمر الله. فكان فهد هذا يوقع عن برجوان، ويخاطب بالرئيس. وله نفوذ عظيم. وارتفع شأن النصارى في أيامه، حتى كادت الدولة تكون في أيديهم
24
على أن الكتابيين - أهل الذمة - كانوا في أيام الحاكم هم أهل الدولة، وكذلك في أيام الحافظ
25
وكتاب الجيش في أكثر الأحايين من اليهود.
ناهيك بمن كان الخلفاء والأمراء يستخدمونهم من أطباء أهل الذمة وحكمائهم وتراجمتهم وكتابهم، وخصوصا نصارى الشام، فإنهم خدموا التمدن الإسلامي في نقل العلوم من اليونانية والفارسية والسريانية وغيرها إلى اللغة العربية، على ما فصلناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وبينا ما كان من محاسنة الخلفاء لهم تقديمهم ورعاية جانبهم وإكرامهم، وفيهم النصراني واليهودي والمجوسي والسامري والصابي وغيرهم، والكل راتعون في بحبوحة السكينة والطمأنينة يتكسبون من خزائن الخلفاء والأمراء.
وكان الخلفاء في صدر الدولة العباسية يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، فالهادي كان يستدعي إليه الأسقف تيموثاوس في أكثر الأيام ويحاوره في الدين، ويبحث معه ويناظره، ويطرح عليه كثيرا من المشكلات، وله معه مباحث طويلة ضمنها كتابا ألفه الأسقف المذكور في هذا الموضوع. وكذلك كان يفعل معه هرون الرشيد
26
وغيره، وأغضوا عن بعض ما في عهد عمر بن الخطاب من التضييق على النصارى، كمنعهم من أحداث الكنائس
27
أو الاحتفال بالأعياد، أو منعهم من خدمة الدولة، وسهلوا لهم الاختلاط بهم وأظهروا احترام مذهبهم، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم، وكثيرا ما كان الأساقفة يطلبون من الخلفاء أن يثبتوهم في مناصبهم للاعتزاز بذلك على أخصامهم أو منازعيهم. (4-1) اضطهاد أهل الذمة في العصر العباسي
على أن ذلك لم يمنع تضييق بعض الخلفاء على النصارى، بمقتضى عهد عمر، وهدم كنائسهم - فإن الملوك المستبدين تختلف سياستهم باختلاف أخلاقهم وأطوارهم، فقد يتراءى لبعضهم التضييق على النصارى لسبب أو لغير سبب، كما فعل هرون الرشيد والمتوكل من خلفاء بني العباس، فالمتوكل المتوفى سنة 247ه كان شديد الوطأة على النصارى، ولعله أشد الخلفاء العباسيين وطأة عليهم؛ لأنه أمر بهدم الكنائس المحدثة بعد الإسلام، ونهى أن يستعان بهم في الأعمال، أو أن يظهروا الصلبان في شعانينهم، وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب، وأن يلبسوا الطيالسة العسلية، ويشدوا الزنار، ويركبوا السروج بالركب الخشب بكرتين في مؤخر السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب، قدر كل واحدة أربع أصابع ولون كل واحدة غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا، ومنعهم عن لبس المناطق وغير ذلك.
28
ولا يستغرب هذا التضييق من المتوكل، فإنه نقم مثل هذه النقمة على سائر أهل الدولة وغيرهم، وشدد النكير على الشيعة وأهلك العلماء والكتاب، وكان شديد التعصب على الشيعة، فاضطهدهم وعذبهم، ولاقى أهل الذمة منه الشدائد
29
على أنه لم يرتكب هذا الشطط بغير سبب دعا إليه، فقد حمله عليه انتصار النصارى لأعداء الدولة - وذلك أن أهل حمص المسلمين وثبوا بعاملهم سنة 241ه فأعانهم النصارى عليه، فكتب العامل إلى المتوكل فأمره بإخراج النصارى وهدم كنائسهم، وكان هذا من أسباب نقمته عليهم.
30
ويقال نحو ذلك فيما صدر في أيام الرشيد من الأوامر بهدم الكنائس في الثغور، وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم
31 - فعل الرشيد ذلك على أثر رجوعه من حرب الروم في هرقلة، فالظاهر أن نصارى الثغور (الحدود بين مملكة الروم ومملكة الإسلام) ساعدوا أبناء طائفتهم الروم في التجسس على أحوال المسلمين واستخدموا الكنائس لهذه الغاية، فأمر الرشيد بالتضييق عليهم انتقاما منهم، وخصص أمره هذا بأهل الثغور على الحدود، وشدد على الخصوص في مخالفتهم هيئة المسلمين في لباسهم، دفعا لتنكرهم وتجسس أحوال المسلمين - وإلا فالرشيد من أحسن خلفاء بني العباس عدلا ورفقا بأهل الذمة، وكان أحد عمال أخيه الهادي قد هدم بعض الكنائس بمصر، فلما أفضت الخلافة إليه أمر بإعادة بنيانها.
32
وهكذا يقال في اضطهاد النصارى بمصر على عهد الدولة الفاطمية، مع ما تقدم من منزلتهم وحرية الدين عندهم، وأقدم ما قاسوه من تضييق الحكام في طقوسهم وكنائسهم في أيام الحاكم بأمر الله سنة 395ه، وسبب ذلك ما ذكرناه من تقدم النصارى في مصالح الدولة في أيامه حتى صاروا كالوزراء، وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم، فتزايدت مكايدتهم للمسلمين على عهد عيسى بن نسطوروس وفهد بن إبراهيم النصرانيين، فغضب الحاكم بأمر الله - وكان إذا غضب لا يملك نفسه فيبلغ غضبه إلى حد الجنون. فأمر بقتل هذين الرجلين وشدد على النصارى فأمرهم بلبس ثياب الغيار وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين والتظاهر بما كانت عادتهم فيه، وقبض على ما في الكنائس وأدخله في الديوان، ومنع النصارى من شراء العبيد، وهدم كنائسهم وأجبرهم على الإسلام، وغير ذلك من التشديد والعنف
33
مما لا يقاس النصارى مثله من قبل، ولعله أعظم ما أصابهم من الاضطهاد في إبان التمدن الإسلامي. ولا جناح على التمدن الإسلامي منه؛ لأن مرتكبه أتاه عن حمق أو جنون.
وقد سوغ للحاكم المبالغة في اضطهاد النصارى حرب كانت بين الروم والمسلمين يومئذ، فخرب الروم بعض جوامع المسلمين ومنها جامع كان في القسطنطينية، فانتقم الحاكم منهم بالتضييق على أهل مذهبهم في بلاده، وكان في جملة ما هدمه من الكنائس كيسة القيامة بالقدس. فلما تولى الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بعد الحاكم، عقدت الهدنة بينه وبين ملك الروم سنة 418ه واتفقا على إعادة بناء جامع القسطنطينية، وأن يعاد بناء كنيسة القيامة، وأن يؤذن لمن أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية إذا شاء، فرجع إليها كثيرون.
34
وربما كان السبب الذي حمل الحاكم على ذلك التضييق طفيفا، فعظمه تعصبه وحمقه فأمر بالهدم والقتل. على أنه كثيرا ما كلف رعاياه من المسلمين وغيرهم أمورا مضحكة تشبه الجنون الصريح، كإصداره المنشورات بمنعهم من أكل الملوخيا أو من البقلة المسماة بالجرجير، أو منعهم من عمل الفقاع، ومنع النساء من التبرج أو المسير في الطرق، والأمر بسبب السلف ولعنهم، ونقش ذلك على المساجد وأبواب الحوانيت على المقابر، ونحو ذلك من الأوامر التي تدل على اختلال في عقله. على أننا قلما نراه أتى أمرا إلا لسبب، وإن كان ضعيفا - فالسبب في منعه الناس من أكل الملوخيا مثلا أن معاوية بن أبي سفيان عدو الشيعة كان يحبها، والدولة الفاطمية شيعية. ومنعهم من أكل بقلة الجرجير؛ لأنها منسوبة إلى عائشة أم المؤمنين، ومنعهم من أكل المتوكلية؛ لأنها تنسب إلى المتوكل وهو من أعداء الشيعة. ومنع الناس من شرب الفقاع لأن علي بن أبي طاب كان يكرهه
35
وقس على ذلك سائر ضروب الحماقة والغرابة، ومن هذا القبيل اضطهاد النصارى وتخريب كنائسهم. على أنه عاد، لسبب طفيف أو بلا سبب، فأمر ببناء تلك الكنائس
36
وخير النصارى في الرجوع إلى دينهم فارتد كثير منهم - وقد تقدم أن ذلك كان في أيام ابنه الظاهر. ومن أعماله الغريبة أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارا وفتحها ليلا، فظل الناس على ذلك دهرا طويلا
37
فمن كانت هذه أعماله لا يستغرب منه اضطهاد، ولا يعد اضطهاده عارا على الدولة أو الأمة.
على أن أفظع ما قاساه النصارى واليهود من الاضطهاد، إنما كان في دور الاضمحلال أو التقهقر في العصور الإسلامية الوسطى، وخصوصا بعد الحروب الصليبية؛ لأنها كانت سببا كبيرا في إثارة التعصب بين الأمتين. فالنصارى تذكروا تقدم المسلمين عليهم واضطهاد حكامهم لدينهم، وزاد حقد المسلمين على رعاياهم النصارى لما كان من نصرتهم الإفرنج سرا، فبالغ أمراء المسلمين في الفتك بهم. فنصارى «قارا» مثلا - بين دمشق وحمص - كانوا يسرقون المسلمين في أثناء تلك الحرب، ويبيعونهم خفية للإفرنج، فلما مر بها السلطان الملك الظاهر في أثناء عودته من بعض غزواته سنة 664ه أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، واتخذ صبيانهم مماليك فتربوا بين الأتراك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراء
38
كما فعل العثمانيون بتجنيد الإنكشارية بعد ذلك بزمن غير بعيد.
وتزايدت الضغائن بعد تلك الحروب بين المسلمين وأهل الذمة في بلادهم، حتى أصبحت كل من الطائفتين تبذل جهدها في أذى الأخرى، ولما كانت الحكومة إسلامية فالنصارى هم المغلوبون. فإذا احترقت حارة للمسلمين اتهموا النصارى واليهود بإحراقها، فتأمر الحكومة بإحراقهم أو إحراق كنائسهم
39
وهذا التعصب من مقتضيات تلك العصور المظلمة ؛ لأن الدول النصرانية كانت تعامل المسلمين في بلادهم مثل هذه المعاملة أو أشد منها. وكثيرا ما كانوا يهددون أسرى المسلمين بالقتل أو يتنصروا
40
وإذا دخلوا بلدا إسلاميا بالحرب عنوة ضربوا نواقيسهم في الجوامع،
41
ولما تغلب نصارى الأندلس على المسلمين أجبروهم على حمل علامة كان يحملها اليهود وأهل الدجن، ولما غلبوهم في آخر الدولة خيروهم بين النصرانية والموت فتنصروا عن آخرهم.
42 (4-2) تعصب العامة على النصارى
قلنا: إن الخلفاء والأمراء قدموا النصارى في مصالح الدولة، وأغدقوا عليهم الأموال وأكرموهم ورفعوا منزلتهم، وإنهم فعلوا ذلك لاحتياجهم إليهم في إبان ذلك التمدن؛ لنقل العلوم أو الطب أو الحساب أو الكتابة أو غيرها مما تحتاج إليه الدولة في تنظيم شؤونها، لاشتغال المسلمين يومئذ بالرياسة. وكان أولو الأمر من الجهة الأخرى يقدمون المسلمين في المعاملات الرسمية على سواهم من أهل الذمة، كما كان الأمويون يقدمون العرب على غير العرب، فنشأ التحاسد بين عامة المسلمين وعامة المسيحيين. وذلك طبيعي في كل مملكة يتنازع العمل فيها ملتان أو طائفتان، ولا يزال ذلك جاريا على نحو هذا الشكل إلى يومنا هذا.
نشأ هذا التحاسد أولا بين العامة ونحوهم من أهل المهن العلمية أو الحرف الصناعية، الذين يحومون حول الخلفاء والأمراء للارتزاق بما يعوزهم من أسباب المدنية، أو يرضيهم من عوامل الرخاء والترف كالشعر والغناء والكتابة والحساب وغيرها. وأما أهل الطبقة العليا (الشرفاء) والأغنياء ورجال الدولة، فقلما كانوا يتعصبون أو يتباغضون، وإنما كانوا ينظرون إلى الرجال من حيث هم بقطع النظر عن مذاهبهم، فالشريف الرضي الذي كتب إلى الخليفة القادر بالله:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا، كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
رثى أبا إسحق الصابي بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
أرأيت من حملوا على الأعواد؟
أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
فلم يقع ذلك موقع الاستحسان عند العامة، فعابه بعضهم لكونه شريفا يرثي صابئا فقال له: «إنما رثيت فضله».
43
وأما العامة ومن جرى مجراهم ، أو استعان بهم على بعض المصالح أو المناصب، فكانوا يظهرون التعصب على النصارى، ويسعون في أذيتهم لدى ولاة الأمور، فإذا كان صاحب الأمر حازما لا يصغي للوشاية - ذكروا أن رجلا نصرانيا من أهل بغداد اتهمه بعض المسلمين سنة 284ه أنه شتم النبي
صلى الله عليه وسلم
فاجتمع أهل بغداد وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد بالله يومئذ وطالبوه بإقامة الحد عليه، وكأنه اعتقد براءة الرجل فلم يجب طلبهم،
44
واتصل الأمر بالخليفة وكان له شأن كبير. والحكم صاحب الأندلس في أوائل القرن الثالث للهجرة صلب أحد عماله؛ لأنه ظلم أبناء أهل الذمة.
45
فلما اقتربت الدولة من الشيخوخة أخذ هذا التعصب يسري من العامة إلى الخاصة، لرغبة الناس يومئذ في التقرب من رجال الدولة بالتزلف والتملق التماسا للكسب، فينتحلون الأسباب المساعدة على ذلك، ويتسابقون إلى دس الدسائس واختلاق الوشايات. وأسهل وسائل التزلف في الدولة الإسلامية التدين، لاشتراك الدين والسياسة في مصالحها، فكان بعضهم يستعينون في إظهار التدين والغيرة على الإسلام بالطعن في الأديان الأخرى، فإذا كان صاحب الأمر ضعيفا انطلى عليه ذلك، واضطهد أهل تلك الأديان؛ ولذلك كان التعصب على أهل الذمة، ولا سيما النصارى، يزداد بتقدم الدولة الإسلامية نحو الشيخوخة. وقد اشتد في الأجيال الإسلامية الوسطى على أثر الحروب الصليبية، فأصبح الحكام وأرباب المناصب العلمية وغيرها يجاهرون باحتقار غير المسلمين، ويبالغون في اضطهادهم ويعاملونهم معاملة الأعداء. وتمكنت العداوة بين الفئتين، وكل منهما تحاول أذية الأخرى، حتى أصبح النصارى يودون التخلص من دولتهم بأية وسيلة كانت. فلما جاء التتر لفتح بغداد سنة 656ه كان هوى أهل الذمة معهم. وتعاظم هذا التباغض على الخصوص قبيل النهضة الأخيرة، أي: منذ قرن وبعض القرن، حتى في المعاملات الرسمية ولا سيما في البلاد البعيدة عن المدنية - فقد اطلعنا صديق عالم على صورة رخصة من جانب الشرع الشريف في ديار بكر، بدفن رجل مسيحي توفي فيها ننشرها لغرابة عبارتها وهي:
من جانب الشرع الشريف في ديار بكر إلى مطران طائفة كفرة السريان «أيها المكروه بالنظر والمعتقد ، أن يعقوب الكافر من طائفتكم المكروهة حيث إن الملعون قد فطس وهلك؛ فلأجل إدخال جثته الكريهة ضمن الأرض، قد صدر الاسترحام من مرشد محلته وجرى أخذ الخراج، وإن تكن الأرض لا تقبل جثته الخبيثة؛ ولكي لا تكون سببا لفساد الهواء، قد أعطيناه الرخصة بعنوان الشرع الشريف أن تدفن، ضمن مدينتكم المخصوصة بموجب مذهبكم الباطل إلى زمرة جهنم. اقتضى إعطاء هذه الرخصة لكي لا يكون مانع من طرف أحد في 26 جمادى الأولى سنة 1203». انتهى.
فأي مسلم أو مسيحي من أهل هذا العصر يطلع على هذا ولا ينكره أو يستغربه؟ ولولا ثقتنا بصدق الناقل لأنكرناه نحن أيضا. وقد هون علينا تصديقه أن صديقا آخر مقيما في القاهرة أكد لنا وجود رخص كثيرة في بعض البطركخانات بمصر في مثل هذه العبارة. وقد أخذ هذا التعصب في الزوال من بدء هذه النهضة، ومتى نضجت نرجو أن يزول تماما بإذن الله. (4-3) تحاسد النصارى
على أنك لو تدبرت ما كان يلحق النصارى من الأذى في إبان التمدن الإسلامي لرأيت سببه في كثير من الأحوال وشاية بعض طوائف النصرانية بالبعض الآخر، كالنساطرة واليعاقبة في العراق. وكثيرا ما كان أهل النفوذ من النصارى أنفسهم أشد وطأة على أهل دينهم من حكامهم المسلمين، كما كان عيسى بن شهلا الطبيب لما تولى الطبابة. ونال منصبا في دار الخلافة، فاغتنم تلك الفرصة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه، حتى إنه كتب إلى مطران نصيبين كتابا يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء عظيمة المقدار ويهدده، ومن أقواله له: «ألست تعلم أن أمر الملك بيدي، إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته؟»، فبعث المطران بالكتاب إلى الربيع حاجب الخليفة فانتقم الخليفة منه.
واعتبر ما أجراه بختيشوع بن خبرائيل الطبيب مع حنين بن إسحق المترجم الشهير، لما رأى من منزلته عند الخليفة المتوكل، فحسده عليها وعمل على الكيد له من طريق الدين، وذلك أنه اصطنع أيقونة (صورة) للسيدة العذراء وفي حجرها السيد المسيح. وأوعز إلى بعض خاصته أن يحملها هدية إلى الخليفة في وقت عينه له، وذهب إلى مجلس الخليفة في الميعاد المضروب، وكان هو المستقبل للأيقونة من يد الخادم والحامل لها، وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل، فاستحسنها المتوكل جدا، وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مرارا كثيرة، فقال له المتوكل: «لم تقبلها؟» فقال له: «يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟» فقال له المتوكل: «وكل النصارى يفعلون كذلك؟» فقال: «نعم يا أمير المؤمنين وأفضل مني؛ لأني أنا قصرى حيث أنا بين يديك. ومع تفضيلنا معشر النصارى، فإني أعرف رجلا من النصارى في خدمتك، وأفضالك وأرزاقك جارية عليه، يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل»، فقال له المتوكل: «من هذا الذي هذه صفته؟» فقال له: «حنين المترجم» فقال المتوكل: «أوجه أحضره، فإن كان الأمر على ما وصفت نكلت به وخلدته في المطبق، مع ما أتقدم به في أمره من التضييق عليه وتجديد العذاب» فقال: «أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين أمره إلى أن أخرج وأقيم ساعة، ثم تأمر بإحضاره»، فقال: «إني أفعل ذلك». وخرج بختيشوع توا إلى حنين وأخبره: «أن الخليفة أهديت إليه أيقونة كذا، وقد استحسنها. وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه، احتقرنا وقال لنا: هذا ربكم وأمه مصوران. وقد سألني أمير المؤمنين عن رأيي فيها، فقلت له: مثلها يكون في الحمامات والكنائس وغيرها مما لا نبالي به. فطلب إلي أن أبصق عليها فبصقت، فإذا دعا بك أفعل مثل فعلي»، فصدقه حنين. ولما دعاه الخليفة فعل كما قال له بختيشوع، فحالما بصق على الأيقونة أمر الخليفة بحبسه، ووجه إلى ثيودوسيوس الجاثليق يومئذ فأحضره، فلما رأى الأيقونة وقع عليها وقبلها، ولم يزل يقبلها ويبكي طويلا، ثم أخذها بيده وقام قائما فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فدعاه إلى الجلوس والأيقونة في حجره، فطلب الجاثليق إليه أن يتركها له. ثم سأله الخليفة عما يستحق الذي يبصق عليها، فقال: «إذا كان مسيحيا عارفا فإني أحرمه دخول الكنيسة ومن القربان، وأمنع النصارى من ملامسته وكلامه وأضيق عليه»، فأعطى الخليفة الأيقونة للجاثليق مع جائزة، وأمر بحنين فجلد بالسياط والحبال، وأمر بنقض منازله وحبسه، ولم ينج من ذلك حتى اعتل المتوكل واحتاج إلى مشورته فأفرج عنه.
46
فإذا كان هذا فعل المتوكل في هذه الحال، وهو كما وصفناه من شدة وطأته على النصارى وغيرهم من أهل الذمة، فكيف في غيره من الخلفاء المعتدلين؟ وقد رأيت من حديث حنين هذا أن الخلفاء كانوا يفرضون على النصارى صدق التدين في النصرانية، فضلا عن إعفائهم من الإسلام، إلا من أراده باختياره. وكانوا أيضا يشاركون النصارى في احتفالاتهم بالأعياد الكبرى، كالميلاد والشعانين، ويخرجون معهم إلى أماكن النزهة كأنهم أمة واحدة
47
ولم يكن ذلك مقصورا على العراق والشام، فإن المصريين كانوا يحتفلون بأعياد النصارى السنوية كما يحتفل بها النصارى أنفسهم، وكان الخليفة يفرق في الناس الهدايا في عيد الميلاد والغطاس، ويفرح المصريون جميعهم معا.
48
وكانت الحكومة إذا أنشأت معهدا خيريا كان حظ أهل الذمة منه مثل حظ المسلمين، وخصوصا المستشفيات ودور المرضى، فإنها كانت تبنى لمعالجة المسلم والذمي، فإذا لم يكن فيها ما يكفي الاثنين قدموا المسلم.
49
على أن المسلمين في إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، على اختلاف طوائفهم ونحلهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام تعصبا للدين، حتى في أيام بني أمية مع ضغطهم على غير العرب في طلب المال، فقد رأيت ما كان من خالد القسري وغيره. وأما بنو العباس فكانوا أقرب إلى الاعتدال وحرية الدين؛ ولذلك تعددت البدع الدينية في أيامهم من المجوس وغيرهم، ناهيك بالفرق الإسلامية وتعددها. وكان أكثر الخلفاء تسامحا في الدين المأمون، فكان هو نفسه شيعيا، وكان وزيره يحيي بن أكثم سنيا، ووزيره أحمد بن أبي داود معتزليا
50
يكفيك من تسامحه في الدين انتصاره للمعتزلة في القول بخلق القرآن - وأول من قال بذلك رجل يهودي اسمه لبيد الأعصم ، الذي يقال: إنه سحر النبي
صلى الله عليه وسلم . فكان لبيد يقول: إن التوراة مخلوقة، ثم قال: بخلق القرآن، وعنه أخذ طالوت ابن أخته، وأخذه إبان بن سمعان عن طالوت، وأخذه الجعد بن درهم عن إبان في أيام هشام بن عبد الملك الأموي، وأظهر مقالته في خلق القرآن وإنكار ما فيه، وإن فصاحته لا تعجز الناس بل يقدرون على مثلها وأحسن منها
51
فغضب عليه هشام وبعث به إلى خالد القسري أمير العراقيين وأمره بقتله، فحبسه ولم يقتله. فالح عليه، فأخرجه يوم الأضحى، وبعد أن صلى قال: «أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا» ثم ذبحه.
52
ولما تولى مروان بن محمد كان يقول بخلق القرآن مثل الجعد
53
حتى إذا تولى المأمون نصر المعتزلة - ولعله أخذ الاعتزال من يحيي بن المبارك مؤدبه - وتبعه الواثق بالله فقال مثل قوله، فعظم ذلك على عامة المسلمين وأنكروه وسموا الواثق كافرا
54
كما سموا المأمون أمير الكافرين
55
وكان ما كان من المحنة في ذلك أيام المتوكل. وانقسم المسلمون إلى حزبين، والخلفاء ضد المعتزلة وقد شددوا النكير على القائلين: بخلق القرآن، وتناشدت الشعراء ذلك طعنا فيهم وتكفيرا لهم، كقول أبي خلف المعافري:
لا والذي رفع السما
ء بلا عماد للنظر
ما قال خلق في القرآ
ن بخلقه إلا كفر
لكن كلام منزل
من عند خلاق البشر
56
وبالجملة فقد كانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية في تلك العصور، لا يكره الرجل على معتقده أو مذهبه، فربما اجتمع عدة إخوة في بيت واحد وكل منهم على مذهب. فأولاد أبي الجعد ستة، كان منهم اثنان يتشيعان واثنان مرجئين واثنان خارجيين.
57
فسياسة الدولة العباسية في معاملة الرعايا من المسلمين وأهل الذمة إنما هي المحاسنة والعدل والرفق. وقد أتينا بأمثلة من عدل الخلفاء الأولين من بني العباس ورفقهم في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكانوا يحاسنون الفرس وسائر أهل النفوذ من الموالي على الخصوص، ولاسيما بعد أن صارت الحكومة إليهم وقبضوا على جندها ومالها، فكان الخلفاء يقدمونهم ويكرمونهم ويطلقون أيديهم في شؤون الدولة ، فإذا داخلهم شك في إخلاصهم ولو على سبيل الوشاية فتكوا بهم فتكا ذريعا، كما اتفق للبرامكة وغيرهم من وزراء العصر العباسي الأول. (5) العصبية العربية في العصر العباسي (5-1) سياسة التقسيم
على أن المنصور كان همه منصرفا إلى العرب؛ لأنهم أهل عصبية إذا اجتمعوا تغلبوا على الدولة وفعلوا ما أرادوه، لما يعلمه من جرأتهم في طلب الحق وتقبيح الظلم جهارا ولا يحملون ضيما، وهو كما علمت بما ارتكبه في تأسيس دولته من الغدر والفتك، مما لا تصبر عليه النفوس الأبية. وقد زاده حذرا منهم ما كان يسمعه من أقوالهم الدالة على إباء الضيم ولو كان فيه ما يسوءه، كما اتفق له وهو في بعض حجاته، وكان يطوف بالكعبة ليلا، إذ سمع قائلا يقول: «اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع»، فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فطلب أن يؤمنه حتى يقول الحق فأمنه. فقال له: «إن الذي حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين». قال المنصور: «ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟». فقال الرجل: «لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد وحجابا معهم الأسلحة وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير، وما أحد إلا وله من هذا المال حق ... إلخ».
فهذا وأمثاله نبه المنصور لجرأة العرب، فجعل يفكر في إذلالهم ويستنبط له الحيل، وكان للعرب ديوان خاص لهم فيه الرواتب على أنسابهم ومراتبهم، وفيهم اليمنية والمضرية. فلما فرغ المنصور من تأييد دولته بمقاتلة العلويين والخوارج وغيرهم، وقد بنى بغداد وحصنها وأنشأ فيها منازل الجند، نظر إلى من حوله منهم على الإجمال، فإذا هم ثلاث فرق كبرى: اليمنية والمضرية والخراسانية، فاتفق سنة 151ه أن بعض الجند شغبوا عليه وحاربوه على باب الذهب، وهو قصره في بغداد، فأوجس خيفة من تكرار ذلك؛ لعلمه أن دولته إنما قامت بالجند، فإذا اجتمعوا عليه أخرجوها من يده، وهو يعلم أيضا أن لكل من هذه الفرق هوى مع بعض دعاة الخلافة العلويين أو غيرهم، فليس أهون عليهم من ردها إلى دولة جديدة.
وكان كبير بني العباس يومئذ قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس، وهو شيخهم وله الحرمة والتقدم عندهم، فاستشاره المنصور في ذلك قائلا: «أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا؟ وقد خفت أن تجتمع كلمة هؤلاء فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فماذا ترى؟». قال: «يا أمير المؤمنين عندي رأي إن أظهرته لك فسد، وإن تركته أمضيته وصلحت خلافتك وهابك جندك». قال له: «أفتمضي في خلافتي شيئا لا أعلمه؟» قال له: «إن كنت عندك متهما فلا تشاورني، فإن كنت مأمونا عليها فدعني أفعل رأيي». فقال له المنصور: «فأمضه». فانصرف قثم إلى منزله فدعا غلاما له فقال: «إذا كان الغد فتقدمني واجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فانهض وخذ بعنان بغلتي، واستحلفني بحق رسول الله وبحق العباس وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك عند ذلك وأغلظ لك فلا تخف وعاود المسألة، فإني سأضربك فعاود وقل لي: أي الحيين أشرف، اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر». ففعل الغلام كما أمره، وفعل قثم به ما قاله، إلى أن قال: «مضر أشرف؛ لأن منها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله». فامتعضت اليمن من قوله؛ لأنه لم يذكر لهم شيئا، وقال بعض قوادهم: «ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة لليمن». ثم قال لغلام له: «قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها» ففعل حتى كاد يعقبها، فامتعضت مضر وقالوا: «يفعل هذا بشيخنا؟» فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان ودخل قثم على المنصور، وافترق الجند العربي من ذلك الحين، فصارت مضر فرقة واليمن فرقة والخراسانية فرقة، وقال قثم للمنصور: «قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث حدثا فتضربه بالآخر».
58
وكان المهدي بن المنصور قد جاء من خراسان، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها، فهنأوه بمقدمه فأجازها وكساهم، وفعل المنصور بهم مثل ذلك، فقال قثم للمنصور: «قد بقي عليك بالتدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك «المهدي» فتنزله في ذلك الجانب من بغداد، وتحول معه قطعة من جيشك، فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبائل الأخرى» فقبل رأيه واستقام ملكه، وبنى المهدي بلدا سماه الرصافة - فاستعان المهدي في استبقاء دولته بسياسة التقسيم.
وما زال شأن العرب يضعف في الدولة العباسية تدريجا، وحزب الفرس يقوى حتى أصبحت الدولة في أيام الرشيد بين عاملين كبيرين: أحدهما فارسي والآخر عربي كل منهما يحاول الاستئثار بالسلطة. وكانت بطانة الخليفة أيضا حزبين، أحدهما ينتمي إلى الفرس والآخر إلى العرب، مرجعهما إلى ابني الرشيد الأمين والمأمون؛ لأن الأول أمه عربية هاشمية (زبيدة) وأم الثاني أمة فارسية يقال: إن الرشيد اشتراها لتلد له؛ لأن امرأته زبيدة أبطأت الحمل، فولدت له عبد الله المأمون، ثم حملت زبيدة فولدت محمدا الأمين
59
فوقع بين الوالدتين من التحاسد مثل الذي وقع بين سارة وهاجر امرأتي إبراهيم الخليل. وسرى هذا التحاسد في البطانة ومنه إلى سائر رجال الدولة، وهو بني هاشم وسائر العرب مع الأمين، وهوي سائر رجال الدولة من الفرس وغيرهم مع المأمون، وكان زعيم الحزب العربي الربيع بن يونس وأبناؤه من بعده.
والربيع يتصل نسبه بكيسان مولى الحرث مولى عثمان بن عفان، فجده مولى مولى. ودخل الربيع في جملة موالي المنصور، فولاه حجابته ثم جعله وزيره، وكان المنصور شديد الميل إليه حسن الاعتماد عليه، فسأله يوما عما يتمناه منه فقال: «أن تحب ابني الفضل». فقال المنصور: «كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟». فقال : «لأنك إذا أحببته كبر عندك صغير إحسانه وصغر عندك كبير إساءته». ومات الربيع في أيام الهادي سنة 170ه. ولما تولى الرشيد الخلافة واستوزر البرامكة، سقط في يد الفضل بن الربيع لخروج الوزارة من يده، فرام التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، فكان في نفسه منهم إحن وشحناء، فسعى بهم عند الرشيد، وكان سعيه من جملة أسباب نكبتهم. (5-2) ذهاب عصبية العرب بذهاب دولة الأمين
وكان المأمون، فضلا عن نسبه الفارسي من أمه، قد ربى في حجر جعفر بن يحيي البرمكي، وهو الذي سعى له في ولاية العهد
60
ورباه على حب الفرس. والفضل بين الربيع سعى في تأييد بيعة الأمين. ولما توفى الرشيد بعد مقتل البرامكة، كان الفضل بن الربيع هو الذي حمل الأمين على نقض بيعة المأمون
61
واختلف الإخوان على البيعة، وكان المأمون عند أخواله بخراسان، والأمين في أهله ببغداد، وانتشب القتال بين الفريقين - وهو قتال بين الفرس والعرب؛ لأن العرب في معظم المملكة العباسية كانوا من حزب الأمين.
62
وقد نصر الخراسانيون ابن أختهم المأمون، بتدبير الفضل بن سهل. وكان الأمين يحرض جنده في بغداد بمشورة الفضل بن الربيع. وكان العرب من الجند العباسي قد أنهكتهم الحضارة والترف، وتبددوا بسياسة التقسيم، فلم يستطيعوا دفاعا. فلما ضاق الحال بالأمين، ولم يبق عنده مال للتجنيد، استنجد رعاع أهل بغداد، وفيهم العيارون والشطار وكانوا طوائف كبيرة. وأمر بعض قواده أن يتتبعوا أصحاب الأموال والودائع والذخائر من أهل الملة وغيرهم، فلم يزده ذلك إلا ضعفا. وانقضت تلك الحروب بفوز المأمون، وسيأتي تفصيل ذلك. فأخرج الخراسانيون الخلافة من العرب وسلموها إلى المأمون، كما أخرجوها قبلا من بني أمية وسلموها إلى أجداده.
فاستفحل أمر الفرس في أيام المأمون وازداد العرب ضعفا، حتى كثيرا ما كانوا يتعرضون له في الشوارع يشكون إغضاءه عنهم، ومن أقوالهم: «يا أمير المؤمنين، انظر إلى عرب الشام كما نظرت إلى عجم خراسان ...».
63
فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم سنة 218ه، وقد جمع ما جمعه من الأتراك والفراغنة، كانت الضربة القاضية على العرب في الدولة العباسية؛ لأنه كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعلوا وهم يستعيذون بالله من ذلك، وانحط شأن العرب من ذلك الحين.
64
ومنعوا من الولايات. وآخر من ولي مصر منهم عنبسة بن إسحق، صرف عنها سنة 242ه
65
فتمكن الفرس من الدولة وزادت رغبتهم في نزعها من العرب على الإطلاق، فقام مرداويج في أصفهان سنة 322ه يريد أن يأخذ بغداد وينقل الدولة إلى الفرس، ويبطل دولة العرب
66
فلم يفلح، على أن النفوذ تحول بالتدريج إلى الخدم، كما سترى. (5-3) الشعوبية والعرب
وفي أيام المأمون ومن جاء بعده تظاهر الشعوبية بالطعن على العرب، وكان المأمون يقربهم ويجعلهم من بطانته ويجيزهم، ومنهم سهل بن هارون قيم بيت الحكمة، وكان شديد التعصب على العرب - وأبو عبيدة الراوية الشهير، وعلان الشعوبي. وألف الشعوبية الكتب في ذكر مثالب العرب والرد على القائلين بتفضيلهم على سواهم من الأمم.
والشعوبية يقولون: بالمساواة بين بني الإنسان؛ ولذلك سموهم أيضا: «أهل التسوية»، ومن أقوالهم في الرد على العرب: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نفسه ساوى بين المسلمين على اختلاف جنسياتهم بقوله: «المسلمون إخوة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم». وقوله في خطبة حجة الوداع: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى». وما جاء في القرآن:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم . والشعوبية ينوبون بدفاعهم عن كل أمم الأرض في ذلك العهد، إلا العرب، فإذا افتخروا (أي: الشعوبية) بملوكهم ذكروا الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وافتخروا بسليمان الحكيم والإسكندر الكبير وبملوك الهند. وإذا فاخروهم بالأنبياء والمرسلين ذكروا الأنبياء من آدم إلى أيامهم، وإنهم جميعا من غير العرب، إلا أربعة هم: هود، وصالح، وإسماعيل، ومحمد
صلى الله عليه وسلم . وإذا فاخروهم بالعلم والصناعة والفلسفة، ذكروا اختراع لعبة الشطرنج ورمانة القبان والاسطرلاب، وفخروا بفلسفة اليونان وأشعارهم وسائر علومهم وعلوم الهند والفرس وغيرهم. وبلغ من جسارة بعض الشعوبية في بعض ردوده أن قال: «فما الذي تفخر به العرب على العجم؟ فإنما هي كالذئاب العادية والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل».
67
واستشهدوا على ذلك بأبيات من أقوال العرب تدل على ضعف غيرتهم على العرض وقالوا: «لا يفلح العربي إن لم يكن معه نبي ينصره».
68
وعيروهم باستلحاق الأدعياء ونظموا الأشعار طعنا فيهم. وممن نظم المطاعن عليهم الحسن بن هانئ وبشار بن برد وغيرهما، على أن بشارا كان تارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء.
وقام المتعصبون للعرب فألفوا الكتب في الرد على الشعوبية. ومن أشهر ما ألف في ذلك كتاب «تفضيل العرب» لابن قتيبة، وقد رد الشعوبية عليه في مناظرات يطول شرحها. وعلى أي حال فإن السياسة وطبيعة العمران قضت بذهاب دولة العرب. (6) نكبة الوزراء الفرس (6-1) الوزراء الفرس قبل البرامكة
قد رأيت أن الخلفاء العباسيين قربوا الموالي الفرس وولوهم المناصب الكبرى، فاتخذوا منهم الوزراء والعمال، فاعتز الفرس وتاقت نفوسهم إلى الاستبداد بالدولة والرجوع إلى ما كانوا فيه على عهد الأكاسرة. وهم يعلمون أن ذلك لا يتيسر لهم في إسلام إلا بصبغة دينية تحت راية الخلافة الإسلامية. وربما كان ذلك الأمل في جملة ما حملهم على التشيع لأهل البيت في أيام بني أمية ونصرتهم في طلب الخلافة.
فلما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين وبويع هؤلاء بالخلافة، ثم جعلها المنصور محصورة فيهم دون العلويين، وقاتل آل الحسن وقتلهم بعد أن قتل أبا مسلم وغيره من شيعته، لم ير الفرس بدا من الرضوخ لسلطانه خوفا من بأسه. على أنهم ظلوا على مذهب الشيعة، وتربصوا يتوقعون فرصة يثبون فيها على الدولة أو ينشؤون لأنفسهم دولة شيعية.
وكان الخلفاء يلاحظون ذلك ويحاذرون الوقوع فيه، فيستخدمون الفرس في أكبر مصالح الدولة على حذر. فإذا رأوا من أحدهم ميلا إلى التشيع عزلوه أو قتلوه؛ ولذلك كان الوزراء يكتمون تشيعهم، والخلفاء يبثون عليهم العيون في منازلهم، كما فعل المهدي بوزيره يعقوب بن داود، وأصله من موالي العرب، وكان في بادئ أمره كاتبا عند إبراهيم بن عبد الله العلوي الحسني أخي محمد بن عبد الله الذي قام في المدينة وقتله المنصور. وكان يعقوب قد خرج مع محمد هذا على المنصور، ثم رجع في جملة الراجعين، وكتم ميله واتصل بالمهدي فاستخدمه وأحبه كثرا ووثق به، حتى آخاه وأعلن ذلك في الدواوين، فقال سلم الخاسر في ذلك:
قل للإمام الذي جاءت خلافته
تهدي إليه بحق غير مردود
نعم القرين على التقوى أعنت به
أخوك في الله يعقوب بن داود
وأحرز يعقوب المذكور نفوذا عظيما، حتى غلب على أمور المهدي وسهل له الإسراف والاشتغال عن مصالح الدولة، وتفرغ هو للعمل، والعرب لا يعجبهم ذلك، فجعلوا يعرضون به بالأشعار ونحوها، والمهدي يسمع أقوالهم ولا يبالي بها - روي أن المهدي حج مرة فمر بمكان عليه كتابة قرأها فإذا هي:
لله درك يا مهدي من رجل
لولا اتخاذك يعقوب بن داود
فقال المهدي لمن معه اكتبوا تحته: «على رغم أنف الكاتب لهذا وتعسا لجده».
فلما لم يجد أعداؤه حيلة في تغيير قلب المهدي عليه تحولوا إلى الوشاية من جهة لا بد للخليفة أن يتنبه لها، فقالوا له: «إن يعقوب يميل إلى العلوية، وأنه كان معهم عند قيامهم على أبيه» فاشتغل خاطره، وكان يعقوب يكتم ذلك عنه، فأراد أن يمتحنه. فدعا به يوما وهو في مجلس فرشه موردة وعليه ثياب موردة وعلى رأسه جارية جميلة، ثم أظهر المهدي أنه مسرور منه فأهداه المجلس بما فيه والجارية أيضا، ثم تقدم إليه بمهمة طلب قضاءها - وهي أن رجلا من العلوية يريد المهدي أن يتخلص منه، فأوصى يعقوب أن يقتله، فوعده بذلك بعد أن أقسم الإيمان. وذهب إلى منزله واستقدم ذلك العلوي وكلمه فرآه لبيبا، وتوسل الرجل إليه أن يحقن دمه، فحن له يعقوب وعفا عنه وأوصاه بالفرار وساعده بالمال. وكانت الجارية في بعض جوانب البيت تسمع ما جرى، فنقلت الحكاية كما جرت. فبعث المهدي حتى قبض على الرجل وخبأه، وأتى بيعقوب فاعترف له بما فعله فحبسه بالمطبق عدة سنين، ولم يخرج إلا في السنة السادسة من خلافة الرشيد ، شفع له يحيي بن خالد البرمكي؛ لأنهما من طينة واحدة ومذهب واحد، وكان يعقوب قد عجز فخيره الرشيد في الإقامة حيث يشاء، فاختار مكة فسيروه إليها وتوفي فيها سنة 187ه وهي السنة التي نكب فيها البرامكة. (7) الوزراء البرامكة (7-1) مرتبتهم في الدولة
لما توفي المهدي والهادي وأفضت الخلافة إلى الرشيد استوزر البرامكة؛ لأن خالدا جدهم من قواد أبي مسلم، وقد جاهد في نصرة العباسيين جهادا حسنا، فأستوزره أبو العباس واستعمله المنصور في الحروب كما تقدم. وكان خالد كبير العقل واسع الصدر، لم يبلغ أحد من ولده مبلغه في الجود والرأي والبأس والعلم، واشتهر ابنه يحيى بموفور العقل وسداد الرأي، وكان مقربا من المهدي يعول على رأيه. وولد ليحيى سنة 148ه غلامه الفضل، قبل ولادة الخيزران للرشيد بسبعة أيام، وربى الطفلان معا فأرضعت الخيزران الفضل من لبن ابنها، فكان الفضل بن يحيي أخا الرشيد من الرضاعة، وفي ذلك يقول سلم الخاسر:
69
أصبح الفضل والخليفة هرو
ن رضيعي لبان خير النساء
ولما ترعرع هرون عهد المهدي إلى يحيى بتربيته، فشب الرشيد في حجره وكان يدعوه: «يا أبت»، فلما مات المهدي سنة 169ه في جرجان كان أكبر رجال الدولة المقربين يومئذ يحيى بن خالد والربيع بن يونس. وخاف الرشيد اختلال الأمر إذا علم الناس بموت أبيه وهم في تلك الحال، فاستشار يحيى فأشار عليه برأي كان فيه الصواب، حتى رجعوا إلى بغداد وقد هاج الناس، وفيها الخيزران أم الهادي والرشيد، فبعثت إلى الربيع ويحيى لتشاورهما، فأجابها الربيع ولم يجبها يحيى، وأوصاه أن يقوم بأمر الرشيد كما كان في أيام أبيه ووبخ الربيع.
وأول شيء خطر للهادي بعد قبضه على أزمة الخلافة أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد، ويحول الإرث إلى ابنه لتبقى الخلافة في نسله، كما كان يفعل معظم الخلفاء في مثل هذه الحال. فأعلن الهادي عزمه لبعض خاصته فوافقوه، وخلعوا هرون وبايعوا جعفر بن الهادي، وتنقصوا من الرشيد في مجلس الجماعة. فأمر الهادي ألا يسار بين يديه بالحربة، على جاري العادة في المسير بين يدي ولي العهد، فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه، ورضي هو بذلك . ولكن يحيى لم يرض، بل حرضه على التمسك بحقه في ذلك، فوشى بعضهم إلى الهادي أن يحيى يفسد الرشيد عليه، فبعث الهادي إلى يحيى فقال له: «يا يحيى، ما لي ولك؟». قال: «ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته». فقال: «لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي؟» فقال: «من أنا حتى أدخل بينكما؟ إنما صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك». فطابت نفس الهادي بهذا القول. فاغتنم يحيى رضاءه وقال: «يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الإيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة»، قال: «صدقت» وصرفه.
فلما لقي الهادي القواد الذين خلعوا الرشيد حملوه على معاودة الخلع، فبعث إلى يحيى فحبسه، فكتب إليه يحيى وهو في الحبس: «إن عندي نصيحة»، فأحضره وسأله عما عنده فقال يحيى: «يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر الذي لا نبلغه ونسأل الله أن يعدمنا قبله؟ (يعني موت الهادي) أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الرشد، أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟». وقال: «ما أظن ذلك». قال: «يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان، ويطمع فيها غيرهم فتخرج من ولد أبيك؟ والله إن هذا الأمر لو لم يعقده المهدي لأخيك لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي؟ ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ (جعفر) أشده أتيت بالرشيد فخلع نفسه له وبايعه». فقبل الهادي قوله وعمل به.
70
وتوفي الهادي ولم يملك إلا سنة، وأفضت الخلافة إلى الرشيد، ويحيى أول من بشره بها وأتاه بالخاتم وهو نائم، فعرف الرشيد فضله في ذلك وقال له: «يا أبت أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر». ودفع إليه خاتمه وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه. وكان يعظمه، فإذا ذكره قال: «أبي» وفي هذه الوزارة يقول الشاعر:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
فلما ولي هرون أشرق نورها؟
بيمن أمين الله هرون ذي الندى
فهرون واليها ويحيى وزيرها
وخلف يحيى أولادا أحسنهم الفضل في جوده ونزاهته، وجعفر في كتابته وفصاحة لسانه، ومحمد في بعد همته، وموسى في شجاعته وبأسه. وقد تولوا أرفع المناصب وتصرفوا في الدولة، وخصوصا جعفر والفضل، فضلا عما اشتهروا به من الجود والسخاء، وكان أبوهم يحيى جوادا مثلهم، فاشتق الناس من اسمهم فعلا للسخاء فقالوا: «تبرمك الرجل» أي: جاد وسخا.
وأراد الرشيد إكرام يحيى، فولى ابنيه الفضل وجعفر أعظم الأعمال، فقسم المملكة بينهما، فجعل جعفر عاملا على الغرب كله من الأنبار إلى إفريقية، وقلد الفضل الشرق كله من شيروان إلى أقصى بلاد الترك. فشخص الفضل إلى خراسان سنة 176ه فجعلها مركز عمله، وأزال سيرة الجور منها وبنى المساجد والحياض والربط وأحرق دفاتر البقايا، وزاد الجند ووصل الزوار والقواد والكتاب، لكنه لم يقم فيها إلا قليلا، فاستخلف على عمله وشخص إلى العراق سنة 179ه، فأكرمه الرشيد ثم ولاه الوزارة، ورأى بعد قليل أن ينقلها إلى جعفر فخاطب أباهما قائلا: «قد أحببت أن أنقل ديوان الخاتم من الفضل إلى جعفر، وقد استحييت من مكاتبته في هذا المعنى فاكتب أنت إليه». فكتب يحيى إلى الفضل: «قد أمر أمير المؤمنين - أعلى الله أمره - أن تحول الخاتم من يمينك إلى شمالك»، فأجابه الفضل: «قد سمعت ما أمر به أمير المؤمنين في أخي، وما انتقلت عني نعمة صارت إليه، ولا غربت عني رتبة طلعت عليه».
71
وتمكن جعفر عند الرشيد وغلب على أمره، وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه، حتى اتخذ الرشيد ثوبا له زيقان، فكان يلبسه هو وجعفر جملة. وتصرف جعفر في المملكة تصرفا مطلقا، لم يكن يمضي أمرا إلا أمضاه الرشيد، ولو كان فيه هبة نصف مملكته أو تزويج بعض بناته. وفي حكايته مع عبد الملك بن صالح الهاشمي ما يمثل ذلك الإطلاق أحسن تمثيل: كان الرشيد متغيرا على عبد الملك؛ لأنه من بني عمه وله طمع في الخلافة، فاتفق أن عبد الملك المذكور كان مرة في مجلس شراب بمنزل جعفر، فلما أراد الانصراف قال له جعفر: «اذكر حوائجك» فشكا إليه أن الرشيد متغير عليه، فقال له: «قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك»، فقال: «وعلي 4000000 درهم دينا»، قال: «تقضى عنك وإنها لحاضرة، ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف بك وأدل على حسن ما عنده لك». قال: «وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة». قال: «قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته». قال: «وأوثر التنبيه على موضع برفع لواء على رأسه». قال: «قد ولاه أمير المؤمنين مصر». وخرج عبد الملك والحضور يعجبون من إقدام جعفر على ذلك من عند نفسه، وخافوا أن يغضب الرشيد من هذه الجسارة، فما عتم أن علموا بإمضاء الرشيد كل ذلك وهو يقول: «أحسن أحسن».
72
ناهيك بما كان من إطلاق يده في خزائن الدولة وفي رقاب الناس. ومع ذلك فإن الرشيد حالما أوجس منه على سلطانه نكبه ونكب سائر أهله نكبتهم المشهورة، واختلف المؤرخون في سببها وهو ما نذكره. (8) نكبة البرامكة (8-1) الرشيد والشيعة
كان البرامكة من الشيعة، وكان جدهم خالد قد بايع للعلويين قبل العباسيين مثل سائر أهل خراسان وفارس. فلما غلب العباسيون وشاهد فتكهم بأبي سلمة ثم بأبي مسلم وسواه ممن يريد الخلافة للعلويين، رأى من الحكمة وسداد الرأي أن يغضي عن ذلك الأمر، وأخلص الخدمة للسفاح ثم للمنصور. وسار ابنه يحيى وأولاده على نحو ذلك، وهواهم لا يزال مع الشيعة العلوية من إيثار آل علي، لكنهم كانوا يكتمون ميلهم وخصوصا في خلافة الرشيد؛ لأنه كان شديد الوطأة على العلويين وشيعتهم يتتبع خطواتهم ويقتلهم
73
وكان يكره الشيعة منذ صباه، وهم يخافونه من قبل الخلافة. فلما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعا من بغداد إلى المدينة.
74
واشتهر بذلك حتى أصبح الشعراء يتقربون إليه بهجائهم، وكان شعراء العلويين يهجونه لهذا السبب، وهم لا يجسرون على الظهور في حياته. فلما مات ودفن في طوس، قال دعبل بن علي يعرض بما ارتكبه العباسيون جميعا بقتل العلويين، من قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد، وأشار إلى اجتماع القبرين في طوس - قبر الرشيد وقبر الرضا - قال:
وليس حي من الأحياء نعلمه
من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم
كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة
فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
أرى أمية معذروين أن قتلوا
ولا أرى لبني العباس من عذر
أربع بطوس على القبر الزكي إذا
ما كنت تربع من دير إلى وطر
قبران في طوس: خير الناس كلهم
وقبر شرهم، هذا من العبر!
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
له يداه فخذ ما شئت أو فذر
75
وكان البرامكة يكرهون تعصب الرشيد على العلوية، ويعدون عمله حراما
76
ويكظمون. على أنهم كانوا يساعدون الشيعة سرا بما يبلغ إليه إمكانهم، وكان كبارهم يجتمعون إلى جعفر، وجيه البرامكة يومئذ وصاحب الصوت الأعلى عند الرشيد، ويذكرون أعمال الرشيد، وجعفر يحاذر أن يبلغ ذلك إليه، ولكن حساده في بلاط الخليفة - وأكثرهم من العرب أو من ينتمي إليهم - كانوا يسعون به إلى الرشيد، وأشدهم غيظا منه وأقدرهم على الكيد به زبيدة أم الأمين؛ لأنه فضل ابن ضرتها المأمون على ابنها. وقد اضطغنت عليه منذ كانوا في الكعبة، وقد جاءها لتعليق كتابي العهد للأمين والمأمون، فلما حلف الأمين اليمين على جاري العادة وهم بالخروج من الكعبة، رده جعفر وقال له: «إن غدرت بأخيك خذلك الله»، وطلب إليه أن يحلف على ذلك ثلاثا، فشق طلبه على أمه زبيدة فحقدتها عليه، وكانت من جملة من حرض الرشيد على الإيقاع به
77
فضلا عما بينهما من العداوة العنصرية، وناهيك بمن كان يحسد البرامكة من أمراء العرب، وخصوصا آل الربيع وآل مزيد الشيباني، فإن البرامكة أضعفوا نفوذهم في الدولة وأغروا الرشيد بهم
78
غير حسادهم من الفرس، حتى عمهم محمد بن خالد، فإنه كان من جملة حسادهم والساعين في أذاهم.
79
هؤلاء جميعا كانوا يوغرون صدر الرشيد على جعفر، تارة من حيث تشيعه وطورا من حيث استبداده بالدولة، وآونة من حيث استئثاره هو وأهله بالأموال، والرشيد يحفظ ذلك ويتدبره، وقد غلب عليه ما غرس في نفسه من أفضال يحيى عليه، وآثار أبنائه في تنظيم دولته وإحياء معالمها، وإن يكن ساءه ما يبديه جعفر أحيانا من نصرة العلويين أو استنصارهم، فإن جعفر لما ولاه الرشيد المغرب استخلف على مصر رجلا شيعيا
80
فكان الرشيد صابرا على ذلك يترقب الفرص. (8-2) الشيعة العلوية بخراسان
وكان الخراسانيون ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم - قبل قيام العباسيين - من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبى مسلم أو خوفا منه. فلما رأوا ما حل به من القتل غدرا، غضبوا وتعاقدوا على الأخذ بثأره، ثم رأوا المنصور فتك بالراوندية إخوانهم وهم من أصحاب أبي مسلم، ثم بنى بغداد وتحصن فيها، فتربصوا وإذا هو قد حارب العلويين وبطش فيهم، وفر من بقي من ولد علي إلى أطراف المملكة الإسلامية في خراسان والمغرب، وأخذوا يبثون دعاتهم وينشرون دعوتهم سرا، فكان الخراسانيون من أقوى أنصارهم انتقاما من المنصور، لقتله أبي مسلم وعملا بتعاقدهم عليه.
فكان العباسيون إنما يخافون على دولتهم من خراسان؛ لأنها شيعة العلويين وأهلها أشداء ولهم رهبة في قلوب الناس، منذ نقلوا الخلافة من بني أمية إلى بني العباس. وكان داعية الشيعة هناك في أيام الرشيد يحيى أخا محمد بن عبد الله الذي حاربه المنصور وقتله. فظهر يحيى هذا في الديلم سنة 176ه وقويت شوكته حتى خافه الرشيد، فسرح إليه الفضل بن يحيى، فاستنزله الفضل من بلاد الديلم بالحسنى، على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فكتب له أمانا أمضاه الرشيد وجلة بني هاشم، وجاء الفضل ومعه يحيى إلى بغداد، فوفى له الرشيد بكل ما أحب وأجرى له أرزاقا سنية.
ثم خطر له أن يحبسه خوفا منه، ولعل بعض الأعداء الشيعة حرضوه على حبسه، لكنه لم يكن يستطيع ذلك لعهد الأمان الذي بيده. فاستشار الفقهاء في الأمان فقال بعضهم: الأمان صحيح، فحاجه الرشيد فقال الآخر - وهو أبو البختري القاضي: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه الرشيد وصمم على حبس الرجل، فدفعه إلى جعفر فحبسه وهو يرى أنه مظلوم؛ لأنه جاء على الأمان وقد نكث الرشيد الأمان، فحدثته نفسه أن يطلقه بما له من النفوذ والدالة، ولم يكن يظن الرشيد يسأل عنه. فبعث إلى يحيى المذكور من الحبس فخاطبه، فتوسل الرجل إليه وقال: «اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون غدا خصمك محمد
صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا» فرق له جعفر وقال: «اذهب حيث شئت من بلاد الله». قال: «وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ؟» فوجه معه من أداه إلى مأمنه.
81 (8-3) الرشيد وجعفر
وكان حساد جعفر يراقبون حركاته، وخصوصا الفضل بن الربيع؛ لأنه كان يرشح نفسه للوزارة بعد أبيه فسبقه إليها أولئك العجم، وكانت له عيون على جعفر فأخبروه بما فعله، فرفع الخبر إلى الرشيد فأنكره، ولكنه انتهر الفضل وأظهر أن جعفر إنما فعله بأمره. ثم بعث إلى جعفر فدعاه إلى الطعام معه، وجعل يلقمه ويحادثه ثم سأل عن يحيى فقال: «هو بحاله في الحبس» فقال: «بحياتي؟» ففطن جعفر فقال: «لا وحياتك ...»، وقص عليه أمره وقال: «قد علمت أنه لا مكروه عنده»، فقال الرشيد: «نعم ما فعلت، ما عدوت ما في نفسي». وقد كظم غيظه وعزم على الإيقاع به من ذلك الحين، ولما قام جعفر عنه قال في نفسه: «قتلني الله إن لم أقتلك!» ولكنه مكث يترقب الفرص ويدبر الحيل، لما يعلمه من نفوذ البرامكة بما يبذلونه من الأموال للناس على اختلاف طبقاتهم، حتى بني هاشم أنفسهم.
وأراد أن يغالطه لئلا ينتبه جعفر لما في نفس الرشيد عليه، فأظهر أنه يريد أن يوليه خراسان، فأخذ الخاتم ودفعه إلى أبيه يحيى، وعقد له على خراسان وسجستان ثم عزله عنها بعد عشرين يوما
82
فهو إما ولاه إياها تمويها أو ولاه ثم خافه.
وكان في جملة حساد البرامكة علي بن عيسى بن ماهان، فسعى بموسى بن يحيى أخي جعفر واتهمه في أمر خراسان ، وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ويحرضهم على خلع الطاعة، فصدق الرشيد الوشاية فحبسه ثم أطلقه، ولكنه تغير على البرامكة جميعا وظهر ذلك في بعض معاملاته. فكان يحيى بن خالد مثلا يدخل على الرشيد بغير إذن، فعرض الرشيد في بعض حديثه استهجانه ذلك فكف يحيى عنه. وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان، فأوصى الرشيد مسرورا خادمه ألا يقوموا له، فشعر يحيى بهذا التغير وتناقل الناس خبر ذلك، ولبثوا يتوقعون شرا يصيب البرامكة وليس من يجرؤ على إخبارهم به. على أنهم كانوا يعرضون في أثناء الغناء بما يخافون عليهم - ومن ذلك ما كان يغنيه ابن بكار أحيانا:
ما يريد الناس منا؟
ما تنام الناس عنا؟
إنما همهم أن
يظهروا ما قد دفنا
وكان الرشيد يستعظم الإقدام على ذلك الأمر، ويخاف أنصار البرامكة إذا هو فتك بهم، فأراد أن يستطلع أفكار خاصته في هذا الشأن ليرى وقعه في قلوبهم، والمغنون أحسن وسيلة لذلك لمخالطتهم الناس في حال سكرهم وطربهم، والسكر يبعث صاحبه على الإفشاء بما في ضميره والتصريح بما يجول في خاطره، فسأل الرشيد مغنية إسحق الموصلى مرة: «بأي شيء يتحدث الناس؟» فقال: «يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولى الفضل ابن الربيع الوزارة» فأظهر الرشيد الغضب وصاح به: «ما أنت وذاك؟ ويلك!» فأمسك.
83
وكان للرشيد عيون على البرامكة في منازلهم ودواوينهم، يحصون عليهم أنفاسهم فلا يخلو أن تبدر منهم بادرة تلميحا أو تصريحا، والوشاة يعظمونها له.
وكان في جملة جواسيس الرشيد خادمان خزريان رباهما وأهداهما إلى جعفر، فكانا ينقلان إليه كل ما يدور في مجالس جعفر يوميا. وكان لجعفر مجلس أنس يعقده في منزله مرة في الأسبوع، يحضره أرباب الدولة وأهل الوجاهة من الفرس، يلبسون أثوابا لونها واحد يخلعها عليهم جعفر ويلبس هو مثلهم. ففي أحد هذه المجالس دار الكلام على أبي مسلم وبطشه، وكيف استطاع وحده أن ينقل الدولة الإسلامية من عائلة إلى عائلة. فقال جعفر: «لا يستغرب ذلك منه ولا فضل له به؛ لأنه لم يدركه إلا بقتل 600000 نفس سفك دماءهم صبرا، وإنما الرجل من ينقل الدولة من قوم إلى قوم بغير سفك دم»
84
وكان الغلامان الخزريان يسمعان قوله فنقلاه إلى الرشيد، وأفهماه أنه يعرض بنقل الدولة من العباسيين إلى الفرس أو العلويين، فازداد خوف الرشيد منه.
فلما كانت السنة التي نكبوا فيها (سنة 187ه) كان الرشيد قادما من الحج وقد صمم على الفتك بجعفر، فأظهر رضاءه عنه وولاه كورة خراسان، أراد بذلك أن يطمئنه ليأخذ الخاتم منه بحجة الولاية، وخلع عليه وعقد له لواء وعسكرا بالنهروان، فضرب الناس مضاربهم هناك ومكثوا يتأهبون للسفر، وفيهم نخبة من أصحاب جعفر، وبقي هو ببغداد يتأهب للحاق بهم.
وكان له صديق من الهاشميين غيور عليه اسمه إسماعيل بن يحيى، قد علم ما في نفس الرشيد على جعفر وأهله، فأراد أن يتوسط في إصلاح ما بينهما، فجاء جعفر في أثناء تأهبه للخروج إلى خراسان، وخلا به وحادثه في شؤون شتى حتى تطرق إلى الموضوع الذي جاء من أجله، فقال له: «يا سيدي أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده». فلما سمع جعفر قوله غضب كان ما يجول في نفس الرشيد لم يخطر بباله وقال: «والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا. أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله مالا، وما زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع؟» والله لئن سألني شيئا من ذلك ليكونن وبالا عليه!» كأنه يهدده بذهاب خراسان. فلما سمع إسماعيل تهديده ورأى غضبه، خرج من عنده واحتجب عنه وعن الرشيد؛ لأنه صار متهما عندهما.
فسمع ذلك الحديث أحد جواسيس الرشيد ونقله إليه، فصمم على الفتك به. ولعله كان ينوي القبض عليه وحبسه فقط، فلما بلغه هذا التهديد عزم على قتله. وأكبر الإقدام على ذلك، فاستشار زبيدة امرأته وصرح بما يجول في خاطره قائلا: «إني خائف إن تمكن هؤلاء من خراسان أن يخرج الأمر من يدي» فحرضته على سرعة الفتك به، ويقال: إنها ذكرت له أمورا ارتكبها جعفر في بيت الرشيد
85
تتعلق بالعباسية أخته. فاغتنم الرشيد بعد جعفر عن رجاله ومريديه، وهم في عسكره بالنهروان وهو في بغداد، وبعث خادمه مسرورا ليأتيه برأسه، فذهب إليه وقتله كما هو مشهور. ووجه الرشيد من أحاط بأبيه يحيي وسائر أولاده وبأخيه الفضل ليلا، فحبسهم وقبض ما وجده لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، وأرسل إلى سائر البلاد يقبض على أموالهم ووكلائهم ورقيقهم وأسبابهم، ولم يتعرض لمحمد بن خالد؛ لأنه كان من جملة الساعين بهم، وأسند الوزارة بعدهم إلى الفضل بن الربيع عدوهم. ثم ندم الرشيد على قتل البرامكة وكان إذا ذكرهم بكى
86
وقد أصاب جعفر من الرشيد، كما أصاب بزرجمهر وزير كسري أبرويز، إذ اتهمه كسرى بالزندقة فقبض عليه وقتله ثم ندم على قتله.
87
فالرشيد فتك بالبرامكة؛ لأنه خافهم على سلطانه، عملا بسياسة العباسيين في تأييد دولتهم، إذ اتهم جعفر وشك فيه فقتله، وهي غير سياستهم في معاملة رعاياهم، فإنها كانت مؤسسة غالبا على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية ويستدعيه الحق، مع رفق وحلم وبذلك ومحاسنه. ولاسيما الرشيد فقد كان إذا وعظته بكى، وإذا استعطفته عفا وإذا استجديته سخا، حتى جرى خبره مجرى الأمثال. أما العلويون فكان لا يخاف الله فيهم
88
ولا فيمن يدعو إليهم أو ينصرهم. (9) الأمين والمأمون أو العرب والفرس
لما قتل البرامكة على هذه الصورة غضب أهل خراسان، وتضاعفت نقمتهم على الدولة العباسية، وتعاقدوا على الأخذ بثأر أبي مسلم والبرامكة، وتربصوا يترقبون الفرص. وتوجهت آمالهم إلى المأمون؛ لأن أمه فارسية، وقد شب في حجر جعفر البرمكي على الميل إلى الشيعة العلوية - ولم تكن الشيعة يومئذ مذهبا دينيا كما هي اليوم، وإنما كانت حزبا سياسيا يراد به جماعة الفرس أو غيرهم من أنصار العلويين . فتمكن حب الفرس ومذهبهم من نفس المأمون منذ نعومة أظفاره، وكان يحيى بن خالد قد اختار الفضل بن سهل السرخسي لخدمة المأمون. والفضل أصل من مجوس خراسان، أسلم على يد المأمون
89
سنة 190ه وتشيع طمعا في نصرة الفرس في خراسان، وكان هماما فقدمه يحيي في الدولة حتى صار من خاصته، ثم جعله قهرمانا له. وتوسم الفضل في المأمون نجابة وتعقلا، فتوقع أن تصير الخلافة إليه فلزمه وخدمه وتقرب منه. وكان المأمون يجله ويقدمه، ولم يكن الفضل طامعا في أقل من الوزارة - يحكى أن مؤدب المأمون قبل الخلافة لما رأى جميل رأيه في الفضل وإكرامه إياه، نقل ذلك للفضل وقال له: «لا أستبعد أن يحصل لك منه 1000000 درهم»، فاغتاظ الفضل وقال: «والله ما صحبته لأكتسب منه مالا قل أو جل، ولكني صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب».
90
وكان الرشيد لما بايع لأولاده بولاية العهد جعل للأمين العراق والشام إلى آخر المغرب وهو الخليفة بعده، وجعل للمأمون خراسان وسائر المشرق
91
على أن يتولى الخلافة بعد أخيه الأمين. وكل ذلك بتدبير جعفر وغيره من أحزاب الشيعة، وفي جملتهم الفضل بن سهل، وأراد الرشيد سنة 192ه أن يسير إلى خراسان، فأمر ابنه المأمون أن يبقى في بغداد حتى يرجع وكان الرشيد مريضا، فخاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه هدرا، فجاء إلى المأمون وقال له: «لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك، وأن أحسن ما يصنعه بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه». فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولا، ثم أجاب - ولا بد لامتناعه من سبب كان يجول في خاطره، وهو يتوقع قرب أجله ويرى لأولاده عليه رقباء
92
يحصون أنفاسه ويستطيلون بقاءه.
فسار المأمون مع أبيه والفضل معهما، واهتم الفضل في أثناء الطريق بتأييد أمر المأمون، فأخذ له البيعة على كل من في عسكر الرشيد من القواد وغيرهم، وأقر له الرشيد وهو في طوس والأمين في بغداد، وله عيون مع الرشيد أشدهم غيرة عليه الفضل بن الربيع، وزير الرشيد بعد البرامكة. فلما بلغ الأمين اشتداد المرض على أبيه بعث إلى ابن الربيع وغيره يستحثهم على بيعته. فلما مات الرشيد هناك سنة 193ه احتال ابن الربيع على من كان في ذلك العسكر، والمأمون غائب في مرو وحرضهم على اللحاق بالأمين، فأطاعوه رغبة منهم في الرجوع إلى أهلهم وأولادهم في بغداد، وأغفلوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون، وحملوا ما كان في عسكر الرشيد إلى الأمين، وتمت البيعة له. ثم حسن الفضل بن الربيع للأمين أن يخلع أخاه المأمون من ولاية العهد، ففعل. (9-1) الفضل بن سهل وعلي الرضا
فلما بلغ المأمون موت أبيه، ورجوع رجاله إلى أخيه بالأموال والأحمال، وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته بمرو وشاورهم في الأمر، وأظهر لهم ضعفه وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا. وقال له الفضل بن سهل: «أنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، اصبر وأنا أضمن لك الخلافة»، فاطمأن خاطر المأمون بهذا الوعد الصريح، وقال له: «قد صبرت وجعلت الأمر إليك فقم به» وسماه ذا الرياستين، أي: رياسة السيف ورياسة القلم.
فبذل الفضل جهده في نصرة المأمون؛ لأنه إنما يعمل لنفسه ووطنه وأمته، واستمال الناس وضبط الثغور، وتعاظمت العداوة بين الأخوين، وقطعت الدروب بينهما من بغداد إلى خراسان، وأبطل كل منهما اسم أخيه من الخطبة، وتجردت الجيوش وحدثت معارك هائلة فاز فيها جند المأمون، وهم الفرس بقيادة طاهر بن الحسين، وانتهت الحرب بفتح بغداد وقتل الأمين سنة 198ه، وقد حملوا رأسه إلى المأمون في خراسان. فلما تحقق المأمون صدق ما عاهده الفضل عليه، أصبح آلة بيده لا يخالفه في شيء. فاستبد الفضل في الدولة، وولى أخاه الحسن بن سهل كور الجبال والعراق وفارس والأهوار والحجاز واليمن، على أن يكون مقامه في بغداد، ثم اغتنم هذه الفرصة لنقل الخلافة إلى العلويين. وكان داعيتهم يومئذ في خراسان علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، المعروف بعلي الرضا . فبذل الفضل جهده في تحريض المأمون على بيعة علي الرضا بولاية العهد بعده، أي: أن يخرج الخلافة من بني العباس إلى العلويين. وربما جعل تلك البيعة شرطا لمساعدته في استرجاع الخلافة له، أو أنه حسن له ذلك ولم يشترطه، فأجابه المأمون إلى طلبه، أما وفاء لوعده، أو مجاراة له للمكر به، أو أنه فعله عن حسن ظن في العلويين؛ لأنه رضع حب الشيعة من طفولته وكان يظهر التشيع
93
فبايع لعلي الرضا سنة 201ه وجعله الخليفة بعده، ولقبه «الرضا من آل محمد»، وأمر جنده بطرح السواد لباس العباسيين ولبس الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.
فلما بلغ ذلك الخبر إلى بغداد ضج الهاشميون وأتباعهم، وأعظموا الأمر وامتنعوا عن البيعة لعلي المذكور، وقالوا: لا تخرج الخلافة من ولد العباس، وقد تحققوا أن تلك البيعة إنما هي دسيسة من الفضل بن سهل، فأنكروا ولاية أخيه الحسن بن سهل على بغداد. وأقروا أخيرا على خلع المأمون وبيعة عمه إبراهيم بن المهدي، فبايعوه ولقبوه «المبارك»، وبعث الهاشميون إلى المأمون يهددونه بالقتل إذا بقي على عزمه.
وكان الفضل بن سهل يخفي هذه الأخبار عن المأمون؛ لئلا يخاف فيندم وينكث البيعة فيخلع عليا فيذهب سعيه عبثا. وكان علي الرضا مطلعا على ما حدث في بغداد، وأبت نفسه أن يحدث ذلك بسببه، ولا يطلع المأمون عليه فجاءه بنفسه وأخبره بما صار إليه حال بغداد، وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي. فاستغرب المأمون الخبر ولم يصدقه، وقال: «بل هم ولوه عليهم في أثناء غيابي، كذلك أخبرني الفضل». فقال له: «إن الفضل قد كذبك» فأدرك المأمون دسيسة الفضل، وأنه إنما نصره لهذا الغرض، وشك فيه فحل قتله عنده، فدس إليه أناسا قتلوه في الحمام بسرخس مغافصة، ثم حاكمهم على قتله وقتلهم به.
94
وفكر في بيعة علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان ويقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك فدس إليه من أطعمه عنبا مسموما فمات
95
فذهبت الأسباب التي أغضبت أهل بغداد، فخلعوا إبراهيم بن المهدي وعادوا إلى بيعة المأمون. فهرب إبراهيم والفضل بن الربيع وسائر الذين كانوا مع الأمين في تلك الثورة، وجاء المأمون بغداد سنة 204ه واستقر بها. ودفعا للشبهة فيما اشتهر به من حب آل أبي طالب، اضطهدهم ومنعهم من الدخول عليه وأمرهم بلبس السواد.
96
فاضطرب أمر الشيعة في بغداد، مع بقاء النفوذ للفرس وهم يكتمون تشيعهم إلى آخر خلافة الواثق، فلما تولى المتوكل سنة 232ه اضطهد الشيعة وشدد النكير عليهم؛ لأنه كان قد ربي من حداثته بين جماعة أهل عصبية عربية يكرهون الفرس أو الشيعة، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة، وعمرو بن فرخ الرخجي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة، الذي كان يت قرب إلى الرشيد يهجو العلويين وهو من موالي بني أمية. وكانوا يخوفون المتوكل من الشيعة على الإجمال، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين. فأثرت أقوالهم فيه، وشب على كره الشيعة وكره الخلفاء الذين كانوا ينصرون الشيعة قبله، وهم المأمون والمعتصم والواثق
97
كما أثرت تربية البرامكة في المأمون وحببوا إليه الشيعة وأهلها.
فلما تولى المتوكل أمر بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المباني ومنع الناس من إتيانه، وبالغ في بغضه عليا وأهل بيته حتى جعله سخرية - ذكروا أنه كان في جملة ندمائه مخنث اسمه عبادة، كان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهو أصلع تشبها بالإمام علي، ويرقص ويقول: «قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين» (يعني عليا)، والمتوكل يشرب ويضحك
98
وغلبت السنة في الدولة من ذلك الحين وقوامها الأتراك، كما سيأتي. وبذهاب أمر الشيعة من بغداد ذهب نفوذ الفرس منها، وبخلافة المتوكل ينقضي العصر الفارسي الأول. (10) الأسرار في الدولة العباسية
واشتهر بنو العباس على الخصوص بحفظ الأسرار والتكتم فيما ينوونه، وكانوا يفرضون ذلك على مواليهم ورجال بطانتهم، ولا سيما فيما يحتاجون إليه لتثبيت دعائم دولتهم، كما رأيت من تصرف الخلفاء مع قوادهم ووزرائهم من أول دولتهم ، وخصوصا المنصور مع أعمامه وأبي مسلم وغيرهم، وتصرف الرشيد مع البرامكة، والمأمون مع الفضل بن سهل وعلي الرضا وطاهر بن الحسين. وكانوا يرون كتمان مشروعاتهم شرطا من شروط نجاحها، كما فعل قثم بن العباس في التفريق بين فرق الجند بحيلة لم يشأ أن يطلع المنصور عليها. وكانوا يستعينون على ذلك بالعيون والأرصاد، وكل منهم يتجسس على صاحبه، فيبث الخليفة العيون على قواده ووزرائه، ووزراؤه يقيمون الأرصاد عليه. فربما كان خادم الرجل وجاريته عينا عليه، وقد يقيم الخليفة الجواسيس والرقباء على أولاده أو إخوته، أو يقيم ولاة العهد الرقباء على آبائهم، كما فعل الأمين والمأمون بأبيهم الرشيد، فقد كان رقيب المأمون على أبيه مسرورا الخادم، ورقيب الأمين جبرائيل بن بختيشوع الطبيب، وكانوا يحصون أنفاسه
99
كما تقدم.
ولما تولى المأمون الخلافة وأتى بغداد كان يتجسس على إبراهيم بن المهدي، فألزمه رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظه جدا أو هزلا
100
وهكذا كان سائر الخلفاء، وخصوصا في أواخر الدولة؛ لأن التجسس يكثر إذا مالت الدولة إلى السقوط وتدانت من الهرم، كما سيجيء. وكان للوزراء عيون على الخلفاء، وللخلفاء عيون على العمال، هم أصحاب البريد أو أصحاب الأخبار، غير ما كانوا يبثونه من الخدم والجواري والمغنيات لهذه الأغراض - كانوا يفعلون ذلك خوفا على سلطانهم، فبالغوا في التكتم إلى ما يفوق الوصف. فكان للمأمون على كل واحد صاحب خبر، وكان يغتفر كل شيء إلا الفدح في الملك وإفشاء السر والتعريض بالحريم.
101
وبمحافظتهم على الأسرار والتكتم في أعمالهم، أشكل على الناس كثير من الحوادث التي جرت في أيامهم ولم يفهموا أسبابها، فنكبة البرامكة مثلا تكهن المؤرخون في تدوينها رجما بالغيب، وذهبوا في أسبابها كل مذهب. وكم من قتيل لم يعرف قاتله فحسبوه مات من أكلة عنب أو تمر أو غير ذلك، وإنما قتل مسموما بدسيسة بعض الخلفاء أو القواد أو ولاة العهد إلى طبيبه أو صاحب داره.
102 (11) اختلاط الأنساب بعد الإسلام
قد رأيت ما كان للعرب من العناية في حفظ أنسابهم حتى كانوا يحتقرون من لم يكن مولودا من أبوين عربيين، فإذا كان أبوه غير عربي سموه المذرع، وإن كانت أمه أعجمية سموه الهجين. وإذا كانت أمه أمة استعبدوه، فإذا أنجب اعترفوا به، وإلا ظل عبدا، والعرب لا تورث الهجين، وهو من قبيل احتقارهم غير العرب كما تقدم. (11-1) أبناء الإماء
ولما جاء الإسلام وغلب العرب على أمم الشرق من فارس والترك وغيرهما، وكثرت السبايا في أثناء الفتوح، اتخذوا من النساء أظئارا ودايات ومراضع، واقتنوا الجواري للفراش، وكانوا في بادئ الرأي يكرهون التزوج بهن ويحتقرون أبناءهن، وخصوصا في الحجاز مركز الجامعة العربية، حتى نشأ في المدينة ثلاثة من كرام الرجال أمهاتهم من الإماء، وهم علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وفاقوا أهل المدينة فقها وعلما وورعا فرغب الناس في السراري.
103
على أن بني أمية ظلوا يحتقرون أبناء الإماء، تعصبا للعرب على العجم، فبلغ عبد الملك يوما أن علي بن الحسن تزوج جارية له وأعتقها، فكتب إليه يؤنبه فأجابه علي: «إن الله رفع بالإسلام الخسيسة وأتم النقيصة وأكرم به من اللؤم، فلا عار على مسلم، وهذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد تزوج أمته وامرأة عبده»، فلما تلا عبد الملك جوابه قال: «إن علي بن الحسين يشرف من حيث يتضع الناس». على أن العرب أصبحوا بعد الإسلام يرفعون من شأن الهجناء، اعتمادا على أن النسب ليس من قبيل الأم، وإنما النسب للآباء عملا بقول الشاعر:
لا تشتمن امرأ من أن تكون له
أم من الروم أو سوداء عجماء
فإنما أمهات القوم أوعية
مستودعات، وللأحساب آباء
أم بنو أمية فظلوا على احتقارهم بني الإماء إلى أواخر دولتهم، وكانوا لا يستخلفونهم، وقالوا: لا تصلح لهم العرب؛ ولذلك لما قام زيد بن علي بن الحسين يطالب بالخلافة في أيام هشام بن عبد الملك عيره هشام بقوله: «أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة وأنت ابن أمة؟» قال: «يا أمير المؤمنين، إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبيا وجعله للعرب أبا، فأخرج من صلبة خير البشر محمدا»،
104
فالعلويون كانوا أقرب للاختلاط بغير العرب، استنكافا من شدة تعصب بني أمية للعرب؛ ولذلك كان الموالي أكثرهم شيعة العلويين.
وكان العرب في صدر الإسلام بهذا الاعتبار طائفتين، فيهم من يحقر أبناء الإماء وفيهم من لا يجعل لنسب الأم قيمة - ذكروا أن عبد الملك بن مروان سابق ولديه سليمان ومسلمة، فسبق سليمان فقال عبد الملك:
ألم أنهكم أن تحملوا هجناءكم
على خيلكم يوم الرهان فتدرك
وما يستوي المرآن: هذا ابن حرة
وهذا ابن أخرى ظهرها مشترك
وتضعف عضداه ويقصر سوطه
وتقصر رجلاه فلا يتحرك
وأدركنه خالاته فنزعنه
إلا إن عرق السوء لا بد يدرك
وهاك ما قاله حاتم الطائي:
وما أنكحونا طائعين بناتهم
ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا
فما زادها فينا السباء مذلة
ولا كلفت خبزا ولا طبخت قدرا
ولكن خلطناها بخير نسائنا
فجاءت بهم بيضا وجوههم زهرا
وكائن ترى فينا من ابن سبية
إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا
ويأخذ رايات الطعان بكفه
فيوردها بيضا ويصدرها حمرا
كريم إذا اعتز اللئيم تخاله
إذا ما سرى ليل الدجى قمرا بدرا
105
على أن طبيعة العمران غلبت على ما أراده الأمويون من حفظ النسب العربي، وقضى الاختلاط بالأعاجم باختلاط الأنساب، حتى في الخلفاء من بني أمية، فبايعوا في أواخر دولتهم لأبناء الإماء. وأول من تولى الخلافة من الخلفاء الهجناء يزيد بن الوليد بن عبد الملك سنة 126ه، ولكن أمه كانت من نسل يزدجرد بن كسرى، سباها قتيبة ببلاد الصغد وأرسلها إلى الحجاج فقدمها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك فأولدها يزيد،
106
ويقال: أن بني أمية حظروا مبايعة بني الإماء، ليس لاستهانة بهم ولكنهم كانوا يرون زوال دولتهم على يد ابن أمة، فلما تولى يزيد المذكور ظنوه الذي يذهب ملكهم على يده، فلم يلبث سبعة أشهر حتى مات، ووثب مكانه مروان بن محمد وأمه أمة كردية، فذهب ملكهم على يده. (11-2) الخلفاء الهجناء
أما بنو العباس فقامت دولتهم بالموالي، وقد ضعفت في أيامهم العصبية العربية لكثرة الاختلاط، فأصبحوا لا يعتدون بالأم على الإطلاق، وكان أكثر خلفائهم من بني الإماء من إبراهيم الإمام فما بعده، وفيهم الإماء من الفرس والترك والروم والأكراد والبربر والأحباش والزنج وغيرهم، وإليك أسماء بعض خلفاء بني العباس من أبناء الإماء:
اسم الخليفة
جنس أمه
اسم الخليفة
جنس أمه
إبراهيم الإمام
بربرية
المأمون
فارسية
المنصور
بربرية
المنتصر بالله
حبشية رومية
الرشيد
حرشية
المستعين بالله
صقلية
إبراهيم بن المهدي
زنجية
المعتز
جارية؟
المهتدي
رومية
المستضيء
أرمنية
المقتدر
تركية
الناصر
تركية
المكتفي
تركية
وقس على ذلك الخلفاء من الدول الأخرى. فإن المستنصر بالله الفاطمي أمه أمة سودانية، وعبد الرحمن الداخل الأموي أمه بربرية. ناهيك بأبناء الخلفاء الذين لم يتولوا الخلافة حتى في صدر الإسلام، فإن محمد بن الحنفية أمه جارية سندية سوداء.
فإذا كان هذا حال اختلاط النسب في الخلفاء، فكيف في سائر طبقات الناس؟ فالنسب العربي لم يكن خالصا إلا في الجاهلية وصدر الإسلام إلى أواسط الدولة الأموية، وظل بعد ذلك محفوظا من حيث الآباء فقط، أما من حيث الأمهات فإنه اختلط اختلاطا عظيما. ونحن نعلم الآن أن الولد يرث من أمه كما يرث من أبيه، وربما كان من حيث الأخلاق أقرب إلى أمه مما إلى أبيه. فالعرب بعد القرن الثاني للهجرة قل فيهم الدم العربي الخالص، إلا في البادية أو حيث لم يكثر اختلاطهم بالأعاجم. فضلا عما أثر فيهم من طبائع الأقاليم التي نزلوها وعادات أهلها.
فالعرب الحضر في القرن الثالث للهجرة هم غير العرب في صدر الإسلام، فكيف في حضر هذه الأيام وقد توالى فيهم الاختلاط والتزاوج؟ ناهيك بمن يتعرب وينتسب إلى البلاد، فأهل الشام ومصر والعراق والمغرب مثلا يعدون من العرب، وهم في الحقيقة أخلاط من العرب والترك والديلم والجركس والروم والفرس والأرمن والكرج وغيرهم، ولكن الرجل إذا نزل بعض هذه البلاد عد في بادئ الرأي غريبا، فإذا قطنها وتناسل فيها كان أولاده مولدين، فإذا توالت عليهم الأجيال سموا عربا.
العصر التركي الأول
من خلافة المتوكل سنة 232 إلى تسلط الديلم سنة 234ه
تمهيد
نريد بهذا العصر المدة التي استبد فيها الأتراك بالدولة العباسية، وهم الأجناد، تمييزا له عن العصر العباسي الفارسي الذي استبد فيه الفرس، وهم الوزراء. وليس بين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر، بل هما تعاصرا مدة كان الأول في أواخره، والآخر في أوائله. (1) الأتراك القدماء
الترك أمة قديمة جدا مؤلفة من قبائل وبطون وأفخاذ، كانت مواطنهم على جبال الألطاي أو جبال الذهب في أواسط آسيا بين الهند والصين وسيبريا. وهم يذهبون في أصل اجتماعهم مثل مذهب الرومانيين في مؤسس دولتهم «روملس»، فيعتقدون أن برتزينا أول قوادهم رضع من ثديي الذئبة، فلما شب قادهم في الحروب والغزو بخيامهم وأنعامهم؛ لأنهم أهل بادية، فحاربوا الأمم المجاورة لهم وخصوصا سكان الصين. وخلف برتزينا غير واحد من أبنائه، وكانوا قد شاهدوا مدن الصين وعمراتها فأحب بعضهم أن يبني المدن فمنعه بعض أمرائه، ومن نصائحه في هذا الشأن قوله: «نحن يا مولاي أقل من عشر أهل الصين عددا وقوتنا إنما هي بإطلاق حريتنا، إذا رأينا في أنفسنا قوة على الحرب هجمنا وإلا رجعنا إلى البادية، وأهل المدن محبوسون داخل الأسوار كأنهم في قفص»، فأعجبه رأي الرجل وعدل عن التحضر. وتلك كانت حال العرب في صدر الإسلام، فإن بداوتهم كانت من أهم أسباب تغلبهم.
وما زال الأتراك أهل بادية وغزو وخيام، يزدادون قوة وعددا حتى اجتمع منهم نحو 400000 رجل حاربوا أهل الصين والفرس والرومان خمسين سنة، وظفروا في معظم حروبهم، وقد عقدوا مع الرومان في أيام جوستنيان صلحا، وظلت العلائق حسنة بينهم وبين خلفائه، وتبودلت السفارات بين الأمتين غير مرة. وفي أيام خاقان ديزابول أرسل إليه الرومانيون في جبال الذهب وفدا عقدوا معه محالفة على محاربة الفرس في زمن كسرى أنوشروان فلم يقووا عليه، وكانوا قد انتشروا في بلاد تركستان، وأقام بعضهم في المدن. (2) الأتراك بعد الإسلام
ولما ظهر الإسلام وانتشر العرب في أنحاء العالم، وطئت حوافر خيولهم بلاد الترك، وهم يعبرون عنها بما وراء النهر، ففتحوا بخارا وسمرقند وفرغانة وأشروسنة وغيرها من تركستان في أيام بني أمية. ولما تولى العباسيون كانت تلك المدن خاضعة للمسلمين يؤدون عنها الجزية والخراج، وكانوا يحملون في جملة الجزية، أولادا من أهل بادية تركستان يبيعونهم بيع الرقيق، وهم في الغالب من السبي أو الأسرى على جاري العادة في تلك الأعصر. فضلا عمن كان يقع منهم في أيدي المسلمين في أثناء الحروب بالأسر أو السبي ويعبرون عنهم بالمماليك، ويفرقونهم في بلاط الخلفاء ومنازل الأمراء. فأخذوا يدينون بالإسلام مثل سواهم من الأمم التي خضعت للعرب في ذلك العهد، ومنهم العبيد والموالي كما تقدم.
وكان الأتراك يومئذ يمتازون عن سائر الشعوب التي دانت للمسلمين بقوة البدن والشجاعة والمهارة في رمي النشاب والصبر على الأسفار الشاقة فوق ظهور الخيل، والثبات في ساحة الوغى مع قلة العناية بالعلوم ولا سيما الفلسفة والعلم الطبيعي، وقلما اشتغل أحد منهم بدرسها في إبان التمدن الإسلامي. واشتهر ذلك عنهم حتى أصبحوا إذا سمعوا بتركي يشتغل بالعلم الطبيعي ذكروه مع الاستغراب، كما فعل ابن الأثير لما أشار إلى معرفة قتلمش علم النجوم فقال: «ومن العجب أن قتلمش هذا كان يعلم علم النجوم، وقد أتقنه مع أنه تركي ويعلم غيره من علوم القوم». ويعرف الأتراك في تاريخ الإسلام بأسماء كثيرة تختلف باختلاف أصولهم، وفروعهم، وقبائلهم كثيرة مثل قبائل العرب. (3) الجند التركي في الدولة العباسية (3-1) المعتصم والأتراك
أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء المنصور العباسي، ولكنهم كانوا شرذمة صغيرة لا شأن لها في الدولة، وإنما كان الشأن الأكبر يومئذ للخراسانيين «الفرس» والعرب. ولما اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد، وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين وتسلط الفرس أنصار المأمون وأخواله، واستبدوا في الدولة، كانت الحضارة قد أضرت بالمسلمين وأذهبت منهم قوة التغلب والفتح. ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك التي ذكرناها مع الميل إليهم؛ لأنهم أخواله، كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين، حتى أصبح يخافهم على نفسه. ولم يكن له ثقة بالعرب، وقد ذهبت عصبيتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم، فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش، مع الجرأة على الحرب والصبر على شظف العيش. فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم في العراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها. فاجتمع عنده عدة آلاف، وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود.
1
وأكثر الأتراك الذين اجتمعوا عنده ينسبون إلى فرغانة وأشروسنة.
فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عونا له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذى كثير، وربما أردوا الواحد بعد الواحد قتيلا على قارعة الطريق. فاتفق أن المعتصم خرج بموكبه يوم عيد فقام إليه شيخ فقال له: «يا أبا إسحق!» فأراد الجند ضربه فمنعهم، وقال: «يا شيخ ما لك؟» قال: «لا جزاك الله عن الجوار خيرا جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمائك الأتراك فأسكنتهم بيننا، فأيتمت بهم صبياننا وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا»، والمعتصم يسمع ذلك، فدخل منزله ولم ير راكبا إلى مثل ذلك اليوم. فخرج فصلى بالناس العيد، ولم يدخل بغداد بل سار يلتمس معسكرا لأجناده، حتى أتى سامرا فاتخذها معسكرا فأعجبته وسماها سر من رأى، واختط فيها الخطط وأقطع أتراكه القطائع على حسب القبائل ومجاورتهم في بلادهم، وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار. فبنى الناس وارتفع البنيان وشيدت القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه، وتسامع الناس إن دار الملك قد انتقلت إلى هناك فقصدوها، وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس، فكثر العيش واتسع الرزق. وما زالت سامرا قاعدة الدولة العباسية من سنة 221ه إلى أيام المعتمد، فعاد إلى بغداد سنة 279ه، وهو أول من عاد إليها منذ بنيت سامرا.
2
وكان المعتصم ينظم المماليك فرقا عليهم القواد منهم، مثل نظام الجند في ذلك الزمن. ولم يكتف بجمع المماليك الأتراك بالشراء أو المهاداة ، ولكنه رغب أمراء الأتراك وأولاد ملوكهم في القدوم إليه والإقامة في ظله. وممن جاء منهم على هذه الصورة جف بن بلتكين من أولاد ملوك فرغانة، وكانوا قد وصفوه له بالشجاعة والتقدم في الحروب، فوجه المعتصم إليه من أحضره، وأحضر غيره من أبناء الأمراء فبالغ المعتصم في إكرامهم، ولما بنى سر من رأى «أو سامرا» أقطعهم فيها القطائع، وظلت قطائع جف تعرف باسمه هناك عدة قرون.
3
وكان أكثر الأتراك لما جمعهم المعتصم إليه يدينون بالمجوسية أو الوثنية على ما كانوا عليه في بلادهم، وفيهم جماعة قد دخلوا الإسلام. أما غير المسلمين فلما صاروا من جند الخليفة، وتربوا في ظل المسلمين أسلموا، وفيهم من أظهر ذلك تزلفا للخلفاء كالافشين، وكان مجوسيا وأظهر الإسلام طمعا في الكسب من الغنائم بالحروب.
وكان المعتصم شديد الرغبة في استبقاء أتراكه على فطرتهم، ويخاف تحضرهم واختلاطهم بالأمم الأخرى فتذهب عصبيتهم وتضعف نجدتهم، فابتاع لهم الجواري التركيات فأزوجهم منهن ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدا من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم إلى بعض، وأجرى للجواري أرزاقا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين فلم يكن يقدر أحد منهم أن يطلق امرأته أو يفارقها.
4 (3-2) الجند التركي ومصالح الدولة
فاشتد ساعد الأتراك بذلك وقويت شوكتهم وغلبوا على أمور الدولة، وخصوصا بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الخرمي، وفتحوا عمورية ونصروا الإسلام فتحول النفوذ إليهم. وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك، أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقواد، واشتهر من الوزراء في أثناء تلك المدة جماعة من كبار الرجال، كابن وهب وابن الفرات وعلي بن عيسى وابن مقلة وغيرهم. وكانوا يسابقون الأتراك إلى النفوذ وابتزاز الأموال بالمصادرات ونحوها من المظالم كما سيجيء.
وكانت الدولة قد تجاوزت طور الشباب وأخذت في التقهقر، وانغمس الخلفاء في الترف والقصف وعجزوا عن القيام بشؤون الحكومة، فأصبحوا لا يبلغون منصب الخلافة إلا بالجند (الأتراك)، وهؤلاء لا يعملون عملا إلا بالمال، فمن استطاع استخدام الجند ملك، ولا عصبية هناك ولا جنسية ولا جامعة دينية ولا وطنية. فأصبح الأتراك محور تلك الحركة وهم أهل شجاعة وحرب كما تقدم، فأصبح البطش والفتك أكبر عوامل السيادة.
وكانت جنود الدولة العباسية في أوائلها العرب من مضر واليمن، والفرس - ونريد بالفرس سكان ما بين العراق وأطراف خراسان شرقا إلى نهر جيحون (الأندوس)، ويدخل في ذلك أهل خوزستان وفارس وكرمان ومكران وسجستان وقوهستان وخراسان وغيرها - وقد قام هؤلاء بنصرة المسلمين انتقاما من بني أمية أو رغبة في الملك، ومعظمهم من الجنود الأحرار بلا بيع ولا عتق، وإنما سموا الموالي إشارة إلى أنهم ليسوا عربا على اصطلاح ذلك العصر. واختار الخلفاء جماعة منهم قدموهم في مصالح الدولة، فنبغ منهم الوزراء والأمراء والعلماء، وولاهم الخلفاء الولايات، فاستقلوا بها وأنشأوا الدول المستقلة تحت رعاية الخلافة العباسية كما سيأتي.
فلما تولى المعتصم واقتنى الأتراك بالترغيب أو الشراء، أصبح الجند العباسي أكثره من المماليك الأتراك وأخلد الخلفاء بعده إلى نصرتهم واختصوا بعضهم بالخدمة في بلاطهم، وجعلوا من بطانتهم في جملة الخدم أو الحرس، وتقدم بعضهم في مناصب الدولة حتى قادوا الجند واستبدوا بالأحكام. فانتقلت سياسة الدولة من أيدي الموالي الفرس - وأكثرهم من الشيعة - إلى الجند الأتراك وأكثرهم من السنة. وتمكن هذا المذهب منهم منذ جاهر الخلفاء العباسيون باضطهاد الشيعة، وأولهم المتوكل على الله. ورسخ الأتراك في مذهب السنة من ذلك الحين، ولا يزالون عليه إلى اليوم.
أما استبدادهم في بلاط الخلفاء فابتدأ في أيام المتوكل؛ لأنه لما تولى الخلافة سنة 232ه، وكان ما كان من كرهه الشيعة واستبداده فيهم، زاد في تقديم الأتراك ورعايتهم فزاد طمعهم في الدولة. ثم أغراهم ابنه المنتصر بعده، ولم تطل مدة حكمه أكثر من بضعة أشهر فمات وضميره يخزه. وتولى بعده المستعين بالله سنة 248ه ثم المعتز بالله سنة 251ه، وقد استفحل أمر الأتراك استفحالا عظيما - ومما يحكى عن استبدادهم بالخلفاء أنه لما تولى المعتز قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: «انظروا كم يعيش الخليفة وكم يبقى في الخلافة ...»، وكان في المجلس بعض الظرفاء فقال: «أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته ...»، فقالوا له: «فكم تقول: إنه يعيش وكم يملك؟» قال: «مهما أراد الأتراك ...»، فلم يبق في المجلس إلا من ضحك.
5
وقد قتلوا المعتز هذا شر قتلة، فإنهم جروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس بالدار فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر وبعضهم يلطمه بيده.
6
والمستكفي سملوا عينيه ثم حبسوه حتى مات في الحبس
7
وبلغ من فقر القاهر بالله أنهم حبسوه وهو ملتف بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب
8 - فلا غرو إذا أصبح الخلفاء آلة في أيدي الأتراك: إذا تنازعوا على السلطة كان الخليفة مع الحزب الغالب،
9
وبعد أن كان القواد يحلفون للخليفة بالطاعة صار الخليفة يحلف لهم.
10
فلما تقدم الأتراك في الدولة العباسية، وعلم إخوانهم في بلادهم بذلك، تقاطروا مئات وألوفا يطلبون الارتزاق بالجندية، ورغبوا في الإسلام وجعلوا يدخلون فيه بالألوف وعشرات الألوف. فقد أسلم منهم سنة 350ه 200000 خركاه دفعة واحدة، والخركاه الخيمة ولا يقل أهل الخيمة الواحدة عن خمسة أنفس، فعدد الذين أسلموا في هذه الدفعة نحو مليون نفس. وأسلم سنة 435ه 10000 خركاه من أهل بلاساغون وكاشغر دفعة واحدة، وضحوا عشرين ألف رأس غنم.
11
وكان الجند الأتراك يومئذ أشبه شيء بالفرق التي كانت عند الرومان، ويسمونها
أو هم كالباشبوزق في الدولة العثمانية يستخدمهم من شاء بالمال. فكل من وصلت يده إلى السلطة اقتنى الغلمان الأتراك إما بالشراء أو بالأجرة. وتألفت منهم الفرق بتوالي الأعوام، وكل منها تنسب إلى صاحبها كالساجية نسبة إلى أبي الساج، والصلاحية إلى صلاح الدين، وقس على ذلك الأسدية والنظامية وأمثالهما. وكثيرا ما كانت الحروب تشب بين هذه الفرق تنازعا على النفوذ أو على الأموال. ولما استولى الديلم على بغداد في أيام بني بويه توالت الحروب بين الترك والديلم وغلمان الخلفاء أو الموالي. وما من دولة قامت في ذلك العصر إلا استخدمت الأتراك في جندها، سواء كانت شيعية أو سنية. فكانوا يحملون إلى بغداد أو غيرها من المدائن الإسلامية تباعا، وقلما يتوالدون فيها؛ ولذلك كانوا يتفاهمون بالتركية، وقد يتعلمون العربية ولا يتكلمونها تكبرا.
وكان للأمراء والقواد عناية كبيرة في تدريب جنودهم الأتراك على الحركات العسكرية، فضلا عن تعليمهم الفرائض الدينية. على أنهم كانوا يعلمونهم هذه الفرائض وهم أحداث - فإذا جاء التاجر بمملوك للبيع عرضه على الأمير أو السلطان، فإذا أعجبه اشتراه وأنزله في الطبقة التي يماثلها من مماليكه، وسلمه إلى الطواشي برسم الكتابة. فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن. وكان في دولة المماليك المصرية لكل طائفة من الغلمان فقيه يحضر إليها كل يوم ويعلمها القرآن والخط وآداب الشريعة الإسلامية وملازمة الصلوات. فإذا شب المملوك علمه الفقيه شيئا من الفقه، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذوا في تعليمه فنون الحرب من رمي النشاب، ولعب الرمح ونحو ذلك. وإذا ركب الأتراك لرمي النشاب أو اللعب بالرمح لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم. فإذا أتقن فنون الحرب تنقل في أطوار الخدمة رتبة بعد رتبة، حتى يصير من الأمراء، ولا يصل إلى هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وقد ينبغ منهم الفقهاء والأدباء والشعراء والحساب.
12
على أن أهل البلاد كانوا يهابون الأتراك ويخافون بطشهم، فإذا جاءوا بلدا خافهم أهله، إذ كثيرا ما كانوا ينزلون في دور الناس
13
ويتعرضون للحرم والغلمان، فأصبح عامة بغداد يكرهونهم كرها شديدا. (4) الخدم ونفوذهم في الدولة العباسية
أقدم من سمعنا به من الخدم النابغين في الدولة العباسية مسرور خادم الرشيد، ولم يكن له شأن كبير. وأول من قرب الخدم واستكثر منهم الأمين بن الرشيد، فإنه لما تولى الخلافة طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وعين منهم جماعة سماهم الجرادية وجماعة من الحبشان سماهم الغرابية. ولم يقرب الأمين الخدم لحمايته أو سياسة دولته، ولكنه فعل ذلك انهماكا في الترف والقصف. ومن أقوال الشعراء في عصره يصفون انصرافه إلى اللهو بالغلمان ويسمون بعضهم قولهم:
ألا يا أيها المثوى بطوس
عزيبا ما تفادي بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان هقلا
يحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه
وفي بدر فيا لك من جليس
وما للمعصمي شيء لديه
إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالا
لديه عند مخترق الكؤوس
لهم من عمره شطر وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب والوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيما
فكيف صلاحنا بعد الرئيس؟
فلو علم المقيم بدار طوس
لعز على المقيم بدار طوس
14
وكان لهوه من أعظم أسباب سقوطه. (4-1) سبب نفوذهم
ولم يكن للخدم شأن في أيام المأمون ولا المعتصم ولا الواثق، فلما استبد الأتراك وعلت كلمتهم في أيام المتوكل فما بعده، وصاروا يولون الخلفاء ويعزلونهم أو يقتلونهم، كان في جملة ما استعانوا به على الاستبداد بهم أن يحجروا عليهم قبل الخلافة، ويحبسوهم في القصور ليزيدوهم ضعفا. وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يميلون إلى حبس أولادهم وأقاربهم
15
خوفا من تواطئهم مع بعض الأتراك على خلعهم أو قتلهم. ولا عشير لهم في أثناء الحجر إلا الخدم والخصيان، فألفوا أخلاقهم وتحققوا بالاختبار أن حياتهم تتوقف بالأكثر على أمانة أولئك الخدم لما آنسوه من غيرتهم عليهم، وخصوصا الخصيان إذ لا عصبية فيهم تمنعهم من التفاني في خدمة أسيادهم ولا مطمع لهم في الملك لأولادهم وأهلهم. فأصبح ولاة العهد إذا أفضت الخلافة إليهم بالغوا في تقريب الخدم بالعطايا والإكرام، التماسا لحمايتهم إذا أراد الأتراك الفتك بهم. فعمدوا إلى الاستكثار من الخدم، وكانوا يقدمونهم ويكرمونهم ويستشيرونهم في أمورهم، فازداد الخدم نفوذا وسطوة حتى أصبح الأتراك يخافونهم، وقد ارتقى كثيرون منهم في العصر التركي من الخدمة في المنازل إلى قيادة الجند أو الإمارة على الأقاليم. (4-2) فرق الخدم وطبقاتهم
ولما تكاثر الخدم في دور الخلفاء جعلوهم طبقات وفرقا تعرف بأسماء خاصة، وفيهم الرومي والتركي والحبشي والأرمني والسندي والبربري والصقلبي، في فرق أشبه بفرق الجند ولهم الرواتب والجواري.
والمراد في الأصل بالخدم الغلمان أو العبيد أو المماليك الذين يقيمون في دور الخلفاء أو الأمراء للخدمة فيما يحتاجون إليه من مهام المنازل. فكانوا يبتاعون الغلمان وفيهم الحائك والسائس والحجام والخباز وغيرهم. ثم صاروا يستكثرون منهم للاستعانة بهم في حماية تلك المنازل أيام الشدة، على قدر ما يستطيعون بذله من المال في ابتياعهم. وأثمانهم تتفاوت من مئة دينار إلى ألف دينار أو أقل أو أكثر. وربما بلغ عدد الخدم عند بعض الأمراء إلى خمسمائة غلام أو ألف أو أكثر. فغلمان بغا الشرابي أحد قواد الأتراك بلغ عددهم 500، وزاد عدد غلمان يعقوب بن كلس وزير الفاطميين بمصر على 4000.
أما في دور الخلفاء فكان الغلمان فرقا تعرف بأسماء خاصة، كفرق الغلمان الأصاغر، والغلمان الحجرية، والرجال المصافية والركابية وغيرها. والفرق بين فرق الجند التركي وفرق الغلمان، أن الأجناد عساكر الدولة ينتظمون في خدمة المملكة، ويتقاضون رواتبهم من بيت المال، وفيهم المبتاع والمأجور، وأما الغلمان فهم مختصون بالأمير أو الخليفة لخدمته الشخصية أو حماية داره، وهم ملكه وينفق عليهم من ماله الخاص. وقد تتحول فرق الغلمان إلى فرق من الجند، أو يعملون معا في خدمة الدولة على ما تقتضيه الأحوال. وقد يبتاع الخليفة العبيد؛ ليتقوى بهم على أعدائه مما لا ضابط له. وكثيرا ما تستبد بعض فرق الخدم بالخليفة أو الأمير حتى تغلبه على أمره، وتفعل ما تشاؤه فيضطر الخلفاء أحيانا إلى الفتك بهم غيلة بمساعدة فرق أخرى.
16
وكان في دور الخلفاء صنف من الخدم الخصيان يغلب استخدامهم في دور النساء، وكانوا يستكثرون منهم أيضا وأكثرهم من الطواشية السود. وكان أهل بغداد يسخرون بهم ويهزأون بأشكالهم ويتعرضون لهم في الطرق وينادونهم بعبارات التهكم كقولهم: «يا عقيق صب ماء واطرح دقيق ... يا عاق يا طويل الساق»، وهم يشكونهم إلى الخلفاء، وأصاب الناس في أيام المعتضد شدة بسبب ذلك، فإن بعض أهل بغداد تعرضوا لبعض الطواشية السود سنة 284ه فاجتمعوا وكلموا المعتضد بما يلحقهم من ذلك، فأمر المعتضد بجماعة من العامة ضربوا بالسياط
17
على أن الخصيان كثيرا ما كانوا يرتقون في الدولة إلى مصاف الأمراء. (4-3) القواد والوزراء من الخدم
وأول من استكثر من الخدم وقربهم ورفع منزلتهم المقتدر بالله، فقد تولى سنة 295ه وعنده من الخدم والخصيان 11000 خادم من الروم والسودان
18
وكثير من المال والجوهر، فتمكن من الحكم 25 سنة رد فيها رسوم الخلافة إلى ما كانت عليه. وكان يقدم الخدم ويستعين بهم، وقد ولاهم قيادة الجند وغيرها. وفي أيام نبغ مؤنس الخادم، فقدمه وكان يستشيره في أموره، فتصرف مؤنس في مصالح الدولة كما يشاء، وتولى رياسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال، واستبد بكل شيء، لكنه على الإجمال خدم الخليفة المقتدر خدمات ذات بال فلقبه الخليفة بمؤنس المظفر، ثم كانت بينهما وحشة تكررت حتى أدت إلى حروب انتهت بقتل المقتدر، وحملوا رأسه إلى مؤنس فلما رأى رأس مولاه بكى ولطم وجهه.
فالخلفاء إنما لجأوا إلى تحكيم الخدم والخصيان استبقاء لحياتهم أو إحياء لنفوذهم، ودفع استبداد جند الأتراك. ولم يكن ذلك خاصا بالدولة العباسية، بل شمل معظم الدولة الإسلامية المعاصرة. ولا هو من مخترعات الإسلام؛ لأنه كان شائعا في معظم الدول القديمة، فاسطفان المعتق (المولى) استبد بشؤون الدولة الرومانية من قتل وتنصيب وعزل، وكذلك سليمان الخصي وغيرهما.
أما في الإسلام فاشتهر من الخدم في مناصب الدولة جماعة كبيرة، تولوا القيادة أو الإمارة أو بيت المال أو غير ذلك من المناصب الكبرى. فبدر غلام المعتضد تولى قيادة الجند ونقش اسمه على التروس والأعلام، وأبلى في خدمة مولاه بلاء حسنا حتى قتل في سبيل نصرته سنة 289ه
19
وبجكم أصله من الغلمان، وارتقى حتى صار أمير الأمراء وهي أعلى رتب الدولة العباسية في عصرها الثاني
20
وجوهر قائد جند الفاطميين الذي فتح لهم مصر وبنى القاهرة في أواسط القرن الرابع للهجرة كان مملوكا روميا، وبلغ من تعظيمهم أمره وإكرامه أنه لما أقلع عن المغرب قادما إلى مصر لفتحها ترجل أولاد الخليفة المعز وأهله، ومشوا بين يديه،
21
وكان قبله كافور الأخشيدي، وهو خصي أسود ارتقى بمصر حتى استقل بأحكامها سنة 355ه، ويانس الصقلي الخصي أصله خادم مؤنس الخادم تقدم مع ذلك في أعمال الدولة، وعظمت منزلته حتى ولي الولايات وتداخل في السياسة. وبرجوان الستاذ كان خصيا أبيض ارتقى في الدولة الفاطمية إلى رتبة الوزارة، ووزر للعزيز بالله والحاكم وتلقب بأمين الدولة، وهو أول من لقب بذلك في الدولة الفاطمية
22
وقراقوش الطوشي وزير صلاح الدين الأيوبي بلغ أرقى مناصب الحكومة في الدولة الأيوبية. وعميد الملك أحد كبار القواد الأتراك كان من الخصيان، وكذلك شقير الخادم صاحب البريد في مصر والشام أيام بني طولون. ومؤتمن الخلافة في الدولة الفاطمية كان خادما خصيا، وقس على ذلك تقدم الصقالبة في دولة بني أمية بالأندلس، وتقدم الخصيان في دولة السلاجقة وبني بويه وسائر دول الإسلام في تلك العصور. (5) تأثير النساء في سياسة الدولة
للمرأة تأثير كبير في أعمال الرجل، مهما يكن نوعها وفي أي عصر كان وأية أمة كانت، وإن اختلف مقدار ذلك التأثير باختلاف عادات الأمم وآدابها. فإذا كانت الدولة ملكية مطلقة كان للمرأة شأن كبير في سياستها، حتى في الإسلام مع شيوع الطعن في آرائهن وقولهم: أن مشاورتهن في الأمور مجلبة للعجز ومدعاة إلى الفساد. وما من عظيم من عظماء الإسلام إلا ونهى عن مشورتهن وإدخالهن في الأمور. قال المنصور في وصيته لابنه المهدي: «إياك أن تدخل النساء في أمرك»، وقال النخعي: «من اقتراب الساعة طاعة النساء»، وقال أبو بكر: «ذل من أسند أمره إلى امرأة»، ولعلي أقوال كثيرة في النهي عن مشورة النساء، ومع ذلك فقد أثرت المرأة في سياسة الدولة تأثيرا عظيما. (5-1) أمهات الخلفاء
وتأثير النساء في الدولة من قبيل تأثير الأم في الأبناء، وقد بينا ذلك في باب الأمومة، ويعظم أثره على الخصوص في تأثير أمهات الخلفاء على أولادهن، ولا سيما في أواسط الدولة عند احتجاب الخلفاء واستسلامهم إلى الخدم.
على أن العباسيين حتى في صدر الدولة كانوا يصغون إلى النساء، فأحرزت المرأة نفوذا كبيرا وخصوصا أمهات الخلفاء، وأول من استبد منهن الخيزران أم الهادي والرشيد، وهي قرشية وكانت ذات نفوذ وقوة يخافها أولادها، ومن خالفها منهم أو اعترضها قتلته. وكانت في أيام زوجها المهدي صاحبة الأمر والنهي وهو يطاوعها، فلما تولى ابنها الهادي أرادت الاستبداد بالأمور دونه، وأن تسلك به مسلك أبيه، فلم يمض أربعة أشهر حتى انثال الناس إليها، وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابها فساءه ذلك، وكلمته يوما في أمر فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا فقالت: «لا بد من إجابتي إليه فإني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك» فغضب الهادي وقال: «ويلي على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا أقضيها لك»، قالت: «إذن والله لا أسألك حاجة»، قال: «لا أبالي»، وقامت مغضبة فصاح بها: «مكانك ... والله إنا نفي من قرابتي من رسول الله، لئن بلغني أنه وقف بباك أحد من قوادي أو خاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك وإياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي!»، فانصرفت وهي لا تعقل، ولم تنطق عنده بعدها. ثم إنه قال لأصحابه: «أيما خير: أنا أم أنتم، وأمي أم أمهاتكم؟»، قالوا: «بل أنت وأمك خير» قال: «فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخير أمه فيقال: فعلت أم فلان وصنعت؟» قالوا: «لا نحب ذلك»، قال: «فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها؟»، فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها فحقدتها عليه، حتى إذا علمت أنه يريد خلع أخيه الرشيد والبيعة لابنه جعفر أمرت بعض جواريها بقتله بالغم والجلوس على وجهه
23
فقتلنه.
فلما كانت أيام الرشيد استبدت الخيزران بالأحكام، واحتشدت الأموال فبلغت غلتها في العام 160 مليون درهم، أي: نحو نصف خراج المملكة العباسية في ذلك العهد، ولما ماتت توسع الرشيد بأموالها. وقس على ذلك ثروة سائر أمهات الخلفاء.
24
أما من حيث النفوذ فقد كان للسيدة أم المقتدر - وهي تركية - سطوة غريبة على رجال الدولة في خلافة ابنها، وكانت تتصرف في الأحكام دونه بالاشتراك مع الحجاب والخدم، وكان الوزراء يهابونها ويرتعدون خوفا من ذكرها.
25
ويقال نحو ذلك في أم المستعين بالله المتوفى سنة 251ه، وكانت صقلية الأصل، فأطلق المستعين في أمور الدولة يدها ويد اثنين من قواد الأتراك هما أتامش وشاهك الخادم، فكانت الأموال التي ترد إلى بيت المال من النواحي يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة.
26
على أن تسلط النساء في الدولة العباسية كان على معظمه في أيام المقتدر، لتسلط الخدم والحجاب، وقد اشتهر من النساء في ذلك العهد السيدة أم المقتدر والخالة وأم موسى الهاشمية القهرمانة، فهؤلاء كن يرتشين بالاشتراك مع موسى الخادم ونصر الحاجب والكتاب ونحوهم، ويمشين الأمور كما يردن ويريد هؤلاء، وكان لأم موسى المذكور دهاء ونفوذ، حتى تكفلت مرة بالخلافة لأحد العباسيين من أصهارها، وأخذت تبذل الأموال للقواد وغيرهم، فوشى بعضهم إلى المقتدر فقبض عليها وأخذ منها أموالا عظيمة، وقس على ذلك نفوذ نساء القصور في الدولة العباسية، وهو من قبيل نفوذ الموالي في هذه الدولة؛ لأن أكثر أولئك النساء من غير العرب. (6) فساد الأحكام في الدولة العباسية (6-1) التنازع على النفوذ
بلغت الدولة العباسية عصرها الذهبي في أيام خلفائها الأولين، وخصوصا الرشيد والمأمون بتدبير الوزراء الفرس ولا سيما البرامكة. فاتسع سلطانها في أيامهم وامتدت سطوتها على معظم العالم المعمور في ذلك العهد، فبلغت الهند شرقا والمحيط الأطلسي غربا وبلاد سيبيريا وبحر قزوين شمالا وبحر فارس وبلاد النوبة جنوبا. وقد بينا أقسامها وجغرافيتها في الجزء الثاني. فلما نكب البرامكة ثم استبد الجند التركي بالحكومة أصبحت الأحكام فوضى، وخصوصا بعد المتوكل؛ لأنهم أقدموا على قتله وكان ذلك فاتحة جرأتهم على الخلفاء بعده من عزل وتولية وقتل وسمل. فعجز الخلفاء عن القيام بشؤون الدولة، وهم أصحابها المسؤولون عنها والأحكام تصدر بأسمائهم، وإن كانوا مدفوعين إلى إجراءاتهم ببعض أرباب النفوذ في بلاطهم، من الوزراء والقواد. فأقدرهم على إرضاء الخليفة أو أشدهم دهاء ومكرا يفضي النفوذ إليه، فإذا ملك قياد الحكومة بذل جهده في حشد الأموال، إذ لا يأمن أن يستبدل هذا الخليفة بآخر لا يرضاه، أو لعل بعض أعدائه يغلبه بدسائسه وسعايته فيعزله، فإذا لم يكن له مال عاش ذليلا مهانا. على أن القواد كانوا يحاولون الاستئثار بالنفوذ في بلاط الخليفة بالتهديد أو بالوشاية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص .
ويقال بالإجمال إن النفوذ أصبح ضائعا بين الوزراء والقواد، وكلاهما لا يرجون من وراء عنايتهم وجهدهم منفعة لأنفسهم، غير ما يكتسبونه من المال في أثناء نفوذ كلمتهم. فأصبح الغرض الأول من تمشية الأحكام إنما هو حشد المال. فالوزير الذي يتولى أمور الدولة ولا يدري ما يكون مصيره بعد عام أو عامين من عزل أو قتل أو حبس لا يهمه غير الكسب من أي طريق كان، ولا يبالي بما قدم يترتب على ذلك فيما بعد، عملا بالقاعدة التي وضعها ابن الفرات كبير وزراء ذلك العصر، وهي قوله: «إن تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها على الصواب».
27
وانتبه الخلفاء إلى مطامعهم، فأصبحوا إذا عزلوا وزيرا صادروه وأخذوا أمواله، وقد فصلنا ذلك في باب المصادرة في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ثم عمت المصادرة سائر رجال الحكومة، حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال. فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشأوا للمصادرة ديوانا خاصا مثل سائر دواوين الحكومة
28
فكان المال يتداول بالمصادرة كما يتداول بالمتاجرة. (6-2) أنواع المصادرة ومقاديرها
قال الوزير ابن الفرات: «تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدت 10 ملايين دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري (ابن الجصاص)، فكان مثل ذلك» فكأنه لم يخسر شيئا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة، ويدفعون بالمصادرة. وإذا صودر أحدهم على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلا أجلوه بالباقي، وساعدوه على تحصيله أو جمعه برد جاهه وتغيير زيه وإنزاله في دار كبيرة فيها الفرش والآلة الحسنة؛ ليستطيع التمحل في جمع الأموال من الناس.
29
وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها، حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة لها. وهاك قائمة بما قبضه ابن الفرات من المصادرة على أيام الراضي بالله، ننشرها بنصها حرفيا أنموذجا لأنواع المصادرات ومقاديرها:
30
دينار
7300
من أحمد بن محمد البسطامي عن النصف مما بقي عليه من مصادرته لسنة 300ه.
11000
من علي بن الحسين الباذبيني الكاتب عما تولاه بالموصل .
30000
من محمد بن عبد الله الشافعي عما تصرف فيه لعلي بن عيسى.
80000
من محمد بن علي بن مقلة عما تصرف فيه.
100000
من محمد بن الحسين المعروف بأبي طاهر.
13000
من الحسن بن أبي عيسى الناقد عما ذكر أنه وديعة لعلي بن عيسى.
4000
ومنه أيضا عن نفسه.
20000
من إبراهيم بن أحمد المادرائي.
36360
من عبد الواحد بن عبد الله بقية مصادرة والده.
10000
من أحمد بن يحيي عن مصلحة وجبت.
6000
من إبراهيم بن أحمد الجهبذ عن صلحه.
4000
من محمد بن عبد السلام عما عنده من الوديعة لمحمد بن علي وإبراهيم المادرائي.
40000
من عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله عن صلحه.
10000
من محمد بن عبد الله بن الحرث عن صلحه.
250000
من محمد بن أحمد عما تصرف فيه بالموصل وغيرها.
15000
من إبراهيم المادرائي عن الباقي عليه.
3000
من أبي عمر بن الصباح عن الباقي على ابن العباس أحمد.
7000
من علي بن محمد بن الحواري وقتل.
7000
من هرون بن أحمد الهمذاني.
2000
من عبد الله بن زيد بن إبراهيم.
15000
من عبد الله بن زيد صلحا عن نفسه.
60000
من علي بن مأمون الإسكافي وقتل.
70000
من يحيي بن عبد الله عما تصرف فيه مع حامد.
1300000
من حامد بن عباس وقتل.
150000
من محمد بن حمدون الواسطي.
42000
من علي بن عيسى.
10000
من إبراهيم جهبذ حامد بن عباس.
1200000
من الحسن المادرائي.
1000000
ومنه أيضا.
1000000
من محمد المادرائي.
10000
ومنه أيضا بخط آخر.
درهم
20000
من أبي الفضل محمد بن أحمد بن بسطام.
500000
من علي بن الحسن الباذبيني صلحا عما تصرف فيه بالموصل وقتل.
100000
من أبي عمر بن الصباح عن ضمانة الباقي من مصادرة أبي ياسر.
100000
من عبد الله بن أحمد اليعقوبي.
100000
من الحسن بن إبراهيم الخرائطي صلحا عما اقتطعه من مال الرئيس.
100000
من الحسين بن علي بن نصير.
2000
من علي بن محمد بن أحمد السمان عن ورثة قرقر.
10000
من أبي بكر الجرجاني من ضياع بن عيسى.
230000
من الحسين بن سعد القطربلي.
1500000
من محمد بن أحمد ...
3000000
من أبي الحسن بن بسطام.
50000
من أحمد بن محمد بن حامد بن عباس.
230000
من سليمان بن الحسن بن مخلد. (6-3) ابتزاز الأموال
فالوزير يتولى الوزارة عاما أو عامين، ثم يعزل أو يستقيل وله عدة ملاين من الدنانير، فضلا عن الضياع والمباني، وقد اكتسب هذه الثروة بالرشوة ونحوها من أسباب المظالم. وكان الوزير لا يولي عاملا على ولاية ما لم يقبض منه مالا على سبيل الرشوة يسمونه «مرافق الوزراء». ومن أغرب حوادث التولية بالرشوة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله ولي في يوم واحد تسعة عشر ناظرا للكوفة وأخذ من كل واحد رشوة. وإذا لم يكن للعامل أو الناظر ما يفي المبلغ المتفق عليه مع الوزير، دفع بعضه معجلا وأجل البعض الآخر إلى مدة معينة أو غير معينة، والخلفاء يعلمون ذلك ولا ينكرونه أو يرون فيه غرابة أو ظلما.
والعامل الذي يتولى عمله بالرشوة وهو لا يزال مدينا ببعضها يهون عليه ابتزاز أموال الرعية - أو هو يطلب الولاية لهذه الغاية - فيأخذ العمال في حشد الأموال، إما بالتلاعب في جباية الحكومة، فينفقون دينارا في بعض مصالحها فيقيدونها عليها عشرة دنانير، أو باستخراج أموال الرعية بالرشوة، أو بضرب الضرائب الفادحة على الباعة وأهل الأسواق في المدن
31
أو بسلب الفلاحين في القرى بعض غلاتهم، وقد يقاسمونهم إياها فإن بعض العمال كان يبعث رجاله إلى البيدر فيقسمونه كما يشاءون، وإذا تكلم الأكار (الفلاح) شتموه وحلقوا لحيته وضربوه
32
وقد لا يرضيهم ذلك فيغتصبون الضياع برمتها.
ومن أغرب طرق الاغتصاب أن يغتصب العامل أو الوزير أو غيرهما من رجال الدولة ضيعة لبعض الناس، فيأخذها بغير ثمن ويستغلها لنفسه، وإذا استحق عليها الخراج أداه صاحبها الأول، مخافة أن يثبت الملك لمغتصبها إذ يدون خراجها باسمه في الديوان فيبطل حق مالكها في ملكيتها،
33
فيضطر المالك إلى دفع الخراج أعواما ريثما يتوفق إلى من ينصفه ممن يفضي النفوذ إليهم من أهل العدالة أو يهتدي إلى وساطة أو حيلة.
ناهيك بما كانوا يغتصبونه من أموال الرعية باقتضاء خراج الأرض مضاعفا أو مكررا، على أنهم قد يرون لهم نفعا من ترك خراج بعض الأرضين ، فيتركونه لأصحابها على أن يخدموهم في مصلحة لهم، وربما بلغ مقدار الخارج المتروك مالا كثيرا جدا . فقد كان لرجل يدعى أبا زنبور في وزارة ابن الفرات ضياع مساحتها مئة فرسخ بمئة فرسخ لم يأخذ منه من حقوق بيت المال درهما،
34
وكثيرا ما كانوا يتركون أمثال هذه الضياع بلا خراج لأهل الوساطة أو الدالة أو النفوذ عند الخليفة أو غيره. (6-4) الجاسوسية واللصوصية
ومن وسائل ابتزاز الأموال أن يقسط الوزير أو من يقوم مقامه على أرباب الدواوين والقضاة أو غيرهم مالا على وجه القرض، على أن يسبب لهم عوضه من أهل النواحي،
35
فتقع الخسارة على الرعية. فتضايق أهل الأسواق في المدن والفلاحون في القرى والرساتيق وضاقت أبواب الرزق على الناس، وأصبحت الحقوق فوضى، من استطاع حيلة في اختلاس المال سرا أو جهرا استخدمها، وكثر العيارون والشطار في المدن، وتعدد اللصوص في القرى، وفيهم جماعة أصلهم من جنود الدولة، طمع الوزراء أو القواد في أرزاقهم فخرجوا يتعرضون للمارة ويسلبونهم أموالهم وأمتعتهم، وإذا عوتبوا أو حوكموا احتجوا بذلك. وكان قطاع الطرق يسطون على قوافل التجار ويأخذون أموالها باعتبار أنها حق لهم؛ لأن أصحابها لم يؤدوا زكاتها لبيت المال وقد منعوها، وتجردوا فتركت عليهم فصارت أموالهم بذلك مستهلكة، واللصوص في حاجة إليها بسبب فقرهم فإذا أخذوا تلك الأموال - وإن كره التجار أخذها - كان ذلك لهم مباحا؛ لأن عين المال مستهلكة بالزكاة وهم فقراء يستحقون أخذ الزكاة شاء أرباب الأموال أو كرهوا؛
36
لأن الزكاة صدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرق في فقرائهم، وكان لها شأن كبير في أول الإسلام ثم أهملت في أواسط الدولة العباسية، فاتخذ اللصوص ذلك حجة لسلب أموال التجار.
وزد على ذلك ما نجم عن فساد الأحكام من الضيق المالي وغلاء الأسعار في المدن، وما انتشب من الفتن بين الأحزاب ولا سيما السنة والشيعة، وراجت الدسائس وتكاثرت السعايات برجال الدولة، وانتشرت الجاسوسية في قصور الخلفاء ودواوين الوزراء والكتاب. وأصبح لكل منهم جواسيس على الآخرين ينقلون إليه أخبارهم، فتسابق أسافل الناس إلى السعاية بأفاضلهم ، يرفعون إلى الخليفة أو إلى صاحب النفوذ في دولته كتبا يختلقون بها المطاعن على الأبرياء للانتفاع بأذاهم. وأكثر ما تكون وشايتهم بأهل الدولة في حال اعتزالهم، أو فيمن يخافونهم إذا ألقيت مقاليد الأحكام إليهم، وقد يجتمع عند الخليفة أو الوزير صناديق مملوءة بتلك الكتب، فإذا تكاثرت أو ذهبت الحاجة إليها أحرقوها.
37
فلما فسدت الأحكام في دار الخلافة، واستبد الوزراء والقواد بشؤون الدولة، رأى العمال في الولايات أن يجتزئوا من ذلك الاستبداد في ولاياتهم، فأخذوا يستقلون فتشعبت المملكة العباسية إلى ممالك يحكمها الأمراء من الفرس والأتراك والأكراد والعرب وغيرهم. ومنها ما جاءها التغلب من الخارج ففتحها، كما أصاب مصر لما فتحها الفاطميون. (7) تفرق المملكة العباسية
لما أصبحت الدولة العباسية فيما تقدم من فساد الأمور، والفوضى في سلطتها وأحكامها بين الفرس والأتراك، أو بين الوزراء والأجناد، أو بين الخدم والنساء، وذهبت هيبة الخلفاء بما أصابهم من التضييق والاحتقار، هان على عمالهم في أطراف المملكة أن ينفصلوا عنهم بأحكامهم الإدارية والسياسية، وأن يستأثروا بجباية أعمالهم وهو الاستقلال. وكان أسبقهم إليه أبعدهم عن مركز الخلافة. وأسبق عمال العباسيين إلى ذلك إبراهيم بن الأغلب في شمال إفريقيا استقل سنة 184ه، ولا يعد استقلاله من نتائج فساد الدولة؛ لأنه حدث في عصر الرشيد والدولة العباسية في معظم سطوتها، وإنما ساعده على ذلك بعده عن مركز الخلافة. وأم استقلال العمال بذهاب هيبة الخلفاء أو اختلال شؤون الدولة، فالأسبق إليه الفرس ثم الأتراك فالأكراد، مثل تواليهم في التغلب على الخلفاء. وتدرج كل من هذه الأمم من العمالة إلى الإمارة إلى الملك أو السلطنة. فأول من استقل من الفرس العمال، فأنشأوا الإمارات الصغرى ثم الدول الكبرى، وكذلك فعل الأتراك والأكراد. فنقدم الكلام عن الفروع الفارسية، ثم نذكر الفروع التركية والكردية. أما العربية فسيأتي ذكرها في الكلام على العصر العربي الثاني.
الدول الفارسية في ظل العباسيين
(1) الدول الصغرى
لما أعاد الفرس مقاليد الخلافة إلى المأمون ازدادوا دالة عليه واستخفافا بالسلطة العباسية، ثم استبد الأتراك بالخلفاء بعد المعتصم وغلوا أيديهم وكسروا شوكتهم، فكان للفرس على الإجمال حظ كبير من ذلك. فلما رأوا ذهاب نفوذهم في دار الخلافة استعاضوا عنه بالاستقلال بإماراتهم.
على أن الذين استقلوا من القواد أو الأمراء ما زالوا يعترفون للعباسين بالسلطة الدينية، فيطلبون الاستقلال تحت رعايتهم. فتفرعت المملكة العباسية إلى إمارات مستقلة عملا بسنة الارتقاء. وإليك أهم الفروع الفارسية باعتبار تاريخ استقلالها وأسماء مؤسسيها:
الدولة
مقرها
مدة حكمها
مؤسسها (1) الطاهرية
خراسان
205-259ه
طاهر بن الحسين (2) الصفارية
فارس
254-290
يعقوب بن الليث الصفار (3) السامانية
ما وراء النهر
261-389
نصر بن أحمد الساماني (4) الساجية
أذربيجان
266-318
يوسف بن أبي الساج (5) الزيارية
جرجان
316-434
مرداويج بن زيار
فانظر كيف تفرعت بلاد فارس إلى إمارات فارسية، فانتعشت الشيعة، ونالوا بعض ما كانوا يؤملونه من مساعيهم في نصرة العلويين من أن يعيدوا دولة الفرس الضخمة كما كانت قبل الإسلام. ولكن تلك الإمارات لم تمكث طويلا - كما ترى في الجدول - حتى قامت دولة آل بويه، وهي أكبر دولة فارسية شيعية ظهرت في الشرق في عهد ذلك التمدن في ظل الدولة العباسية. (2) دولة آل بويه
رجال هذه الدولة وأنصارها الديلم من الجيلان وراء خراسان، ولكن ملوكها آل بويه من الفرس، ويرتفع نسبهم إلى ملوك الفرس القدماء، وإنما سموا ديلم؛ لأنهم سكنوا بلاد الديلم. وكان العلويون يسعون في نشر دعوتهم هناك أيام الرشيد، وآخر من نجح في ذلك الحسن بن علي الأطروش من نسل الحسين، فدعا الديلم إلى مذهبه في أواخر القرن الثالث فأجابوه.
وجد آل بويه الأقرب الذي أسس هذه الدولة اسمه بويه ولقبه أبو شجاع، كان له ثلاثة أولاد: علي ويلقب عماد الدولة، وحسن ويلقب ركن الدولة، وأحمد ويلقب معز الدولة. وكان بويه رقيق الحال، فانتظم أولاده في الجندية؛ لأنها كانت يومئذ بابا من أبواب الرزق الواسعة، وكان عماد الدولة في خدمة مرداويج مؤسس الدولة الزيارية، فارتقي عنده حتى ولاه الكرج، ثم اتسعت أحواله فكتب إلى الخليفة العباسي وهو يومئذ الراضي بالله المتوفى سنة 329ه، أن يقاطعه على أعمال فارس بمال يحمله إلى دار الخلافة، على جاري عادتهم مع الدولة العباسية في ذلك العهد، فأجابه الراضي وبعث إليه بالخلعة. وأخوه حسن ركن الدولة تملك خوارزم، وجاء الإخوان واتحدا مع أخيهما الثالث معز الدولة في شيراز، وساروا غربا حتى أتوا بغداد في أيام المستكفي سنة 334ه، فرحب بهم وخلع عليهم ولقبهم الألقاب المذكورة، وجعل معز الدولة أمير الأمراء، واستبدوا بالمملكة واستولوا على الخلافة، وعزلوا الخلفاء وولوهم، فرفعوا منار الشيعة وأحيوا معالمها وأضعفوا نفوذ الأتراك والخلافة العباسية لا تزال في بغداد. ولما أقضت إمارة الأمراء إلى عضد الدولة لقب الملك، وهو أول من خوطب بهذا اللقب في الإسلام. وحكم آل بويه من سنة 320-447ه.
الدول التركية في ظل العباسيين
(1) الدول الصغرى
لما قويت شوكة الأتراك في الدولة العباسية وهابهم الخلفاء كما تقدم، طمع بعضهم في الولايات كما طمع الفرس، فاستقلوا بها فنبتت للدولة العباسية فروع تركية خارج بلاد فارس، كما نبتت الفروع الفارسية في بلاد الفرس. وإليك الفروع التركية في العصر العباسي حسب سني نشأتها وأسماء مؤسسيها وبلادها:
اسم الدولة
مقرها
مدة تأسيسها
مؤسسها (1) الطولونية
مصر
254-292ه
أحمد بن طولون (2) الإيلكية
تركستان
320-560
عبد الكريم ستق (3) الإخشيدية
مصر
323-358
محمد الإخشيد (4) الغزنوية
أفغانستان والهند
351-582
البتكين
وتدرج الأتراك في الولايات الإسلامية كما تدرج الفرس قبلهم، أي: من الإمارة إلى السلطنة وهم أول من سموا سلاطين في الإسلام، وأولهم سلاطين الدولة الغزنوية التي منها السلطان محمود الغزنوي فاتح الهند وناشر الإسلام فيها. (2) الدولة السلجوقية وفروعها
على أن هذه الإمارات نشأت فروعا للدولة العباسية، وكان أمراؤها وسلاطينها من عمال الدولة العباسية أو قوادها.
وكانت السنة قد تقوت بظهور الإمارات التركية، فلما قامت دولة آل بويه في أواسط القرن الرابع للهجرة بالعراق وفارس وعاصرتها الدولة الفاطمية بمصر، عظم أمر الشيعة في العالم الإسلامي وتضعضعت السنة فتشتت شمل المملكة العباسية. ثم ظهرت الدولة التركية الكبرى في أواسط القرن الخامس، وتعرف بالدولة السلجوقية نسبة إلى جدها سلجوق، فجاءت في حال الحاجة إليها؛ لأنها لمت شعث المملكة العباسية ونصرت مذهبها (السنة) بعد أن كادت تضمحل بين يدي الشيعة في مصر والشام والعراق وفارس وخراسان. وكانت الدولة الفاطمية قد نشرت سلطتها على المغرب، وأوشكت أن تستولي على المشرق كله، فجاء السلجوقيون من أقاصي الشرق فاستولوا على المملكة العباسية وجمعوا شملها. وبعد أن كانت ولايات مستقلة يملكها أمراء من الفرس والأتراك والأكراد والعرب، جعلوها مملكة واحدة يحكمونها تحت رعاية الخليفة العباسي.
ومؤسس الدولة السلجوقية سلجوق بن تكاك، أمير تركي كان في خدمة بعض خانات تركستان، فعلم باختلال المملكة العباسية فطمع فيها، وعلم أنه لا يبلغ ذلك وهو على دين غير دين الإسلام، فأسلم هو وقبيلته وسائر جنده ورجال عصبيته دفعة واحدة، ونهض بجميع هؤلاء من تركستان وساروا غربا، فقطعوا نهر جيحون وتدرجوا في الفتح ونشر سلطانهم حتى اكتسحوا المملكة العباسية، وامتد سلطانهم من أفغانستان إلى البحر الأبيض. وأصبح العالم الإسلامي تتنازعه ثلاث دول إسلامية، أكبرها دولة السلاجقة في المشرق، ثم الدولة الفاطمية في مصر والمغرب، والثالثة دولة بني أمية في الأندلس. فشأن الدولة السلجوقية غير شؤون الدول التركية الصغرى التي تقدمتها؛ لأن هذه إمارات نشأت في حجر الدولة العباسية وتفرعت من مملكتها، وأما الدولة السلجوقية فقد نشأت مستقلة وجاءت من الخارج بقوة وجند، وأنقذت الخلافة العباسية من الضياع على أيدي البويهيين وغيرهم من الشيعيين. والدولة الإيلكية نشأت مستقلة أيضا، لكنها قلما أثرت في المملكة الإسلامية.
وللسلاجقة منزلة عظمى في تاريخ الإسلام، وفي أيامهم تكاثر نزوح الأتراك إلى المملكة الإسلامية في فارس والعراق والشام، للسكنى والارتزاق في ظل أبناء جلدتهم، والسلاجقة أول من أنشأوا المدارس في المملكة الإسلامية، بأرقى ما بلغت إليه في عهد ذلك التمدن على يد نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي في أواسط القرن الخامس، وقد فصلنا ذلك وعللناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
ونظام الملك فارسي الأصل من أولاد الدهاقين، ولكنه أنشأ ما أنشأه من المدارس والتكايا والرباطات والمساجد والمارستانات باسم سلطانه ملك شاه.
والسلاجقة دول تفرعت من أصل واحد وعرفت باسم واحد، ولكنها تمتاز بعضها عن بعض بأماكن حكمها، وأكبر هذه الدول السلاجقة العظام، وهم أصل سائر الفروع وأقوى منها جميعا. وإليك الدول السلجوقية ومقدار حكمها: (1)
السلاجقة العظام: حكموا من سنة 429-552ه. (2)
سلاجقة كرمان: حكموا من سنة 433-583ه. (3)
سلاجقة الشام : حكموا من سنة 487-511ه. (4)
سلاجقة العراق وكردستان: حكموا من سنة 511-590ه. (5)
سلاجقة بلاد الروم (آسيا الصغرى): حكموا من سنة 470-700ه.
فحكمت الدولة السلجوقية على الإجمال نحوا من ثلاثة قرون، وبلغ اتساع مملكتهم من حدود الصين إلى آخر حدود الشام. (2-1) انتقال المملكة السلجوقية إلى الأتابكة
وكان السلاجقة في أيام سلطتهم يولون الأعمال أو الولايات قوادا من مماليكهم يسمونهم الأتابكة، واحدهم أتابك، وهو لفظ تركي معناه «الأب الأمير»، واستعملوه أولا بمعنى وزير ثم صار بمعنى الملك. وأخذ الأتابكة يستقلون بولاياتهم شيئا فشيئا، حتى اقتسموا المملكة السلجوقية فيما بينهم، إلا الفرع الرومي في آسيا الصغرى، فإنه ظل في حوزة السلاجقة، حتى أتى العثمانيون في أواخر القرن السابع - وإليك تفرع المملكة السلجوقية الكبرى إلى مماليكهم الأتابكة وغيرهم وسني حكم كل دولة منها: (1)
الدولة البورية في دمشق من سنة 497-549ه. (2)
الدولة الزنكية في الجزيرة والشام من سنة 521-648ه. (3)
الدولة البكتجينية في أربلاء وغيرها من سنة 529-630ه. (4)
الدولة الأرتقية في ديار بكر وماردين من سنة 495-712ه. (5)
دولة الشاهات في أرمينيا من سنة 493-604ه. (6)
أتابكة أذربيجان في أذربيجان من سنة 531-623ه. (7)
الدولة السلغرية في فارس من سنة 543-686ه. (8)
الدولة الهزارسبية في لورستان من سنة 543-740ه. (9)
الدولة الخوارزمية في خوارزم من سنة 470-628ه. (10)
الدولة القطلغية في كرمان من سنة 619-703ه.
وما زالت هذه الممالك في حوزة الأتابكة وغيرهم من مماليك الدولة السلجوقية وقوادها، حتى جاء المغول فاكتسحوها كلها واستولوا عليها. (2-2) سلاجقة الروم
أما الفرع السلجوقي الذي ظل سائدا دون سائر الفروع، فهو سلاجقة آسيا الصغرى، وهي بلاد الروم في اصطلاح تلك الأيام. على أن مملكتهم هناك تفرعت إلى عدة فروع يحكم كلا منها عائلة سلجوقية صغيرة، وهاك أسماءها مع أسماء العائلات السلجوقية التي كانت تتولاها:
اسم الإمارة
اسم العائلة (1) ميسيا
آل كراسي (2) بيسيديا
آل حميد (3) فريجيا
آل كرميان (4) ليسيا
آل تاكة (5) ليديا
آل سروخان وأيدين (6) كاريا
آل منتشا (7) بفلاغونيا
آل قزل أحمدلي (8) ليكونيا
آل قرمان
وما زالت هذه الإمارات في سلطة الأمراء السلاجقة، حتى أتى العثمانيون فاستولوا عليها وأنشأوا الدولة العثمانية في أوائل القرن الثامن للهجرة.
الدول الكردية في ظل العباسيين
(1) الدول الصغرى
الأكراد قوم أشداء وأكثرهم أهل بادية وخشونة وجفاء، يقيمون في الخيام وينقسمون إلى قبائل وعشائر وبطون، وهم أقل قبولا للحضارة من الفرس والترك وغيرهما من الأمم الشرقية التي دانت للإسلام في إبان التمدن الإسلامي، وقد ظلوا أهل ظعن ورحلة في معظم ذلك التمدن. وكانت الدولة تستعين بهم في الحروب البدوية الشبيهة بالغزو كما كانت تستعين بالأعراب، ومقامهم على الأكثر في كردستان وأرمينيا وجزيرة العراق كالموصل وديار بكر، ولا يزال سوادهم هناك إلى الآن.
ونظرا لتمسكهم بالبداوة والخشونة لم تستخدمهم الدولة العباسية في أعمالها إلا قليلا، فلم ينبغ فيهم أحد من رجال الإمارة المستقلة أو أهل السياسة والتدبير إلا بعد دهر طويل من عهد ذلك التمدن. وأول من أنشأ دولة كردية مستقلة في الإسلام حسنويه بن حسين البرزكاني، زعيم بعض قبائل الأكراد في كردستان، في أواسط القرن الرابع للهجرة، وامتدت سلطته على معظم تلك المملكة وفيها ديناور (أو الدينور) وهمذان ونهاوند وسرماج وغيرها. وقد اعترف خليفة بغداد بسلطانه ولقب ابنه بعده بناصر الدولة. ولم يطل عمرها كثيرا فحكمت من سنة 348-406ه ثم استقل من الأكراد أبو علي بن مروان في ديار بكر سنة 380ه، وامتدت سلطته على آمد وآرزان وميافرقين، وبايع خلفه للفاطميين حينا من الزمن وذهبت دولته سنة 489ه. (2) الدولة الأيوبية
على أن الأكراد لم يكن لهم شأن يذكر في الإسلام إلا على عهد الدولة الأيوبية من سنة 564-648، ومؤسسها السلطان صلاح الدين الأيوبي. وهو من أعظم رجال الإسلام تعقلا وسياسة وبسالة وتدبيرا، أنشأ دولته على أنقاض الدولة الفاطمية بمصر وبايع فيها للعباسيين، وحارب الصليبيين وردهم عن سوريا وأنقذ بيت المقدس من أيديهم، ومآثره أشهر من أن تذكر. وارتفع شأن الأكراد في أيام دولته، وتولوا الإمارات والولايات في مصر والشام وكردستان واليمن وخراسان، ولما مات اقتسم مملكته إخوته وأولاده وأولاد إخوته؛ ولذلك لم يطل حكمها. فغلبهم على معظمها مماليكهم الأتراك، كما غلب الأتابكة ملوكهم السلاجقة قبلهم، فكان للمماليك بمصر دولتان تعرفان بالسلاطين المماليك كما سيجيء.
ومما يحسن التنبيه إليه في هذا المقام أن الإسلام قد أثر في أمم المشرق تأثيرا خاصا وساقها إلى التمدن تدريجا، فتسابقت إلى إنشاء الدول وتأسيس الممالك باعتبار أسبقيتها في الإسلام، وقربها من العالم الإسلامي. فأول من أسلم من تلك الأمم العرب وأسسوا الدولة الإسلامية العربية، فاحتك بهم أولا الفرس وهم أقرب أمم المشرق إلى جزيرة العرب فكانوا أسبق الأعاجم إلى إنشاء الدول. ثم جاء الأتراك من وراء بلاد فارس، فلما انتشر الإسلام بينهم أسسوا الدول ونظموا الحكومات. ثم ظهر الأكراد وهم أقرب من الأتراك إلى العالم الاسمي يومئذ، لكنهم تمدنوا بعدهم؛ لأن الأتراك أقرب منهم إلى سياسة الدول. وامتد الإسلام في تركستان وما وراءها من بلاد التتر أو المغول فنهض هؤلاء وأغاروا على بلاد الإسلام للنهب والقتل، لكنهم ما كادوا يحتكون بالعالم الإسلامي حتى أخلدوا إلى النظام وأنشأوا الدول. ويقال نحو ذلك عن تأثير الإسلام في المغرب، خصوصا قبائل البربر في شمالي أفريقيا كما تقدم.
الخلافة والسلطة أو الدين والسياسة
لما ظهر الإسلام كان النبي رئيس المسلمين في أمور الدنيا والدين، وهو حاكمهم وقاضيهم وصاحب شريعتهم وإمامهم وقائدهم. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف خوله السلطتين السياسية والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل وأن يعلم الناس القرآن. ولكنه ما لبث أن فصل بين المنصبين فيمن كان يوليهم أمور الرعية، فبعث في السنة الثالثة للهجرة أبا زيد الأنصاري وعمرو بن العاص ومعهما كتاب منه يدعو الناس إلى الإسلام، وقال لهما: «إن أجاب القوم إلى شهادة الحق وأطاعوا الله ورسوله، فعمرو الأمير وأبو زيد على الصلاة وأخذ الإسلام على الناس وتعليمهم القرآن والسنن».
على أن ذلك لم يكن قاعدة عامة؛ لأن الأمير كثيرا ما كان يتولى الخراج والحرب والصلاة معا، كما تولاها يزيد بن المهلب في العراق من قبل سليمان بن عبد الملك
1
ويقال بالإجمال: إن مصالح الدولة الإسلامية بعد أن كانت محصورة في النبي
صلى الله عليه وسلم
سياسيا ودينيا تفرعت في أيام الخلفاء إلى عشرات من المناصب، إلا الخلافة فإنها ما زالت حتى الآن (حوالي سنة 1910) تشمل الرياسة في أمور الدين والدنيا.
والخلافة في الأصل منصب ديني تولاه الخلفاء الراشدون؛ لإتمام العمل الذي بدأ به النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو نشر الإسلام والجهاد في سبيله، وكانوا يتولون أمور المسلمين السياسية أيضا لما يقتضيه الجهاد من الحرب وأسبابها، كإدارة الجند وتنظيمه لحماية البلاد، ويدخل في ذلك ولاية الأعمال وجباية الخراج. على أنهم كانوا يفعلون ذلك بصفة دينية، أي: أن كل ما يعملونه فإلى الدين ينتهي الغرض منه، فكانوا يجندون الرجال ويفتحون البلاد في سبيل الدين. فلما انتشر الإسلام وتوطدت دعائمه وذهبت الحاجة إلى الجهاد، جاز للرياسة الدينية أن تستقل عن السيادة السياسية، أو تنقسم الرياسة إلى الخلافة والسلطة، كما حدث في النصرانية وغيرها.
ولكن الارتباط بين الدين والسياسة في الإسلام يختلف عما في النصرانية؛ لأن النصرانية انتشرت أولا في عامة الناس ثم انتقلت إلى رجال الدولة. وأما الإسلام فإنه ظهر أولا في رجال الدولة، وانتقل منهم إلى العامة؛ لأن أقدم أهل الإسلام الصحابة وهم جند المسلمين وأمراؤهم، نشروا الإسلام في الأرض وجاهدوا في سبيل نصرته بأنفسهم. فلما تأيد الدين وقامت دولة المسلمين ورغب الأمراء في السلطة الدنيوية، كان منصب الخلافة من أكبر أسباب تغلبهم، لتأثير الدين على أذهان الناس في تلك الأيام، فقد كانوا لا يجتمعون إلا تحت رايته وخصوصا في الشرق، ولا يزالون على ذلك حتى الآن.
على أن أهل التقوى من المسلمين كانوا يجعلون حدا فاصلا بين الخلافة والسلطة، فلما طلب معاوية السيادة كما يطلبها أهل المطامع بالدهاء والقوة، خالفوه وأبوا مبابعته، فلما قتل علي وتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، لم ير المسلمون بدا من مبايعته على الطاعة كما يبايعون الملوك، لكنهم استنكفوا من أن يسموه «خليفة» أو يعترفوا له بسلطة دينية فسموه «ملكا»، وهو يأبى إلا أن يجمع الرياستين لعلمه أن الرياسة الدنيوية وحدها لا تفيد شيئا - ذكروا أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية بعد أن استقر الأمر له وقال: «السلام عليك أيها الملك» فضحك معاوية وقال: «ما عليك لو قلت: يا أمير المؤمنين؟». فقال: «تقولها جذلان ضاحكا؟ والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به».
فيظهر من ذلك أنهم كانوا ينزهون الخلافة عن السياسة والدهاء، ويعتقدون أن بني أمية نقلوا الإسلام من الدين إلى العصبية والسيف ثم إلى الملك البحت. (1) الخلافة لأزمة للسلطة المطلقة
وفي اعتقادنا أن الحكم المطلق لا يتأيد ويتسع نطاقه ويطول مكثه إلا بالدين أو ما يقوم مقامه. فما من دولة مطلقة طال حكمها واتسعت مملكتها إلا وفي سلطتها صبغة دينية تحميها من طمع الطامعين، بأن تجعل لملوكها مزية على سائر الناس. وإذا أريد فصل الدين عن السياسة فلا بد من تقييد الحكومة بالشورى، وهي أفضل الحكومات وأطولها عمرا، وإلا فإنها تنحل سريعا، ويكفي لانحلالها أن يتولى شؤونها ملك قليل التدبير ناقص الاختيار فيغتصب ملكه بعض وزرائه أو قواده. وإذا تدبرت تاريخ الدول الإسلامية رأيت للسلطة الدينية تأثيرا كبيرا في طول بقائها واتساع نطاقها - اعتبر ذلك في الدول التي نشأت في أثناء التمدن الإسلامي من الفرس والترك والكرد والجركس، كالبويهيين والسلاجقة والأيوبيين وغيرهم من الدول الضخمة، فإن بين ملوكها جماعة من دهاة الرجال وقهارمة السياسة، ولم تطل أعمارها رغم استقوائها بالخلافة العباسية. وانظر إلى الدول العربية التي جمعت بين الخلافة والسلطة، كالعباسيين والفاطميين والأمويين في الأندلس، مع ما طرأ عليها من أسباب السقوط، فقد صبرت وطال جهادها. وإذا نظرت إلى الدول الأعجمية رأيت أطولها عمرا وأوسعها ملكا الدولة التي جمعت بين السلطتين وهي الدولة العثمانية. وبنو أمية في الشام لو لم يتخذوا لقب الخلافة ويقبضوا على أزمة الرياسة الدينية ما استطاعوا إلى الحكم سبيلا، فإنهم إنما حكموا الناس وأيدوا سلطتهم بما في الخلافة من الصبغة الدينية، وتوفقوا إلى أعوان عرفوا أن العامة لا تحكم بمثل الدين، فجعلوا همهم تعظيم الخلافة حتى جعلوها فوق النبوة، وسموا الخليفة «خليفة الله» وقالوا: «خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته». كما تقدم - والعلماء ينكرون ذلك ولا يصدقونه، وأما العامة فكانوا يساقون إلى الطاعة بالإرهاب، رغم ما كان يعتور صحة خلافة بني أمية من الشكوك.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، وهم من بني هاشم ومن أولى الناس بالخلافة، كان المسلمون أطوع لهم مما لبني أمية، واعتقدوا أن خلافتهم تبقى أبد الدهر حتى يأتي السيد المسيح
2
وغرس في أذهان الناس بتوالي الأزمات أن الخليفة العباسي إذا قتل اختل نظام العالم، واحتجبت الشمس وامتنع القطر وجف النبات.
3
وكان الخلفاء لا يأنفون من ذلك التفخيم، حتى الرشيد مع تعقله وانتشار العلم في عصره، فقد ذكروا أنه كان يحتمل أن يمدح بما يمدح به الأنبياء، فلا ينكر ذلك ولا يرده، حتى قال فيه بعض الشعراء: «فكأنه بعد الرسول رسول»
4
فكيف يكون حال الخلفاء في عصر الاضمحلال، إذ يقوم الوهم مقام الحقيقة ويكثر المتزلفون والمتملقون ويكتفي أولو الأمر بالكلام دون الأعمال؟
وإذا شاخت الدولة تمسك أهلها بالعرض وتركوا الجوهر، فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل «ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»،
5
أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
6 (1-1) الخلفاء والفقهاء
ويدل ذلك على ما كان للخلافة من المنزلة المقدسة عند عامة الناس، والأصل في هذا التقديس إنما هو الدين، وتعظيم الخلافة فرع منه؛ ولذلك كان بين الخلفاء الأوليين وعلماء الدين الإسلامي، كالحفاظ والمحدثين والفقهاء، علاقة متبادلة وكل منهم يتقوى بالآخر - ومعنى ذلك أن الخليفة هو صاحب السيادة الدينية والسلطة الدنيوية، فهو أمير الناس في السلم، وقائدهم في الحرب، وإمامهم في الصلاة، وهو قاضيهم وفقيههم كما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
في أول الإسلام. فلما اتسعت الفتوح ومست الحاجة إلى تقسيم الأعمال بمقتضى سنة العمران، عمد الخليفة إلى إنابة من يتولى تلك الأعمال عنه. فالوالي إنما هو نائب الخليفة في العمل الذي يتولاه ، والقاضي نائبه في القضاء، وقائد الجند يتولى قيادته بالنيابة عن الخليفة. وقس على ذلك سائر المناصب الإدارية والسياسية والقضائية، وكذلك في المهن الدينية، فالقراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء يتولون أعماله بالنيابة عن الخليفة. فكما يحتاج الخليفة إلى نصرة العمال والقواد والقضاة في تأييد سلطته الدنيوية، فهو يفتقر أيضا إلى نصرة الفقهاء والعلماء لتأييد سيادته الدينية؛ ولذلك رأيت الخلفاء يقربون أهل العلم ولا سيما في أوائل الإسلام (وهم يومئذ الحفاظ أو القراء)، وكان إليهم المرجع في حل المشكلات الدينية أو القضائية أو الفقهية، وهي أساس الأحكام السياسية في الدولة الإسلامية؛ ونظرا لتمسك العامة بالدين على الإجمال كان للفقهاء تأثير شديد في الدولة، فلا قطع الناس بأمر هام إلا باستفتائهم حتى في تنصيب الخلفاء، فإذا أنكر الفقهاء بيعة أحدهم أنكرها الناس؛ ولذلك كان الخلفاء يجلون العلماء ويقربونهم ويعولون على مشورتهم في عصر الراشدين والدولة على سذاجتها لم يلابسها غش ولا دهاء، فإذا نهوا الخليفة أو الأمير عن عمل انتهى وأخذ بنصيحتهم.
فلما طمع بنو أمية في الخلافة والتمسوها من طريق الدهاء والبطش، كان في جملة ما أهملوه من قواعد الراشدين الأخذ بأقوال أهل العلم؛ لأنهم لو أطاعوهم ما تيسر لهم الملك. فقاسى العلماء في أوائل دولة الأمويين عذابا شديدا من المقاومة والضغط، فاضطر بعضهم للإفتاء بما يرضي أهل الدولة وأبى البعض الآخر إلا الحق، فاضطهدوهم وضيقوا عليهم - بدءوا بذلك من أيام عثمان والعمال يومئذ من بني أمية، وقد أخذوا يمهدون السبيل لسلطانهم بجمع الأموال والاستئثار بالنفوذ. وفي حكاية أبي ذر الغفاري مع معاوية بن أبي سفيان دليل ناطق على ما كان من جرأة أهل العلم على الخلفاء وإنكار الأمويين ذلك. وقد فصلناها في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
فلما استتب الأمر لبني أمية حبست الأفكار وتقيدت الألسنة، ولم يتقدم من العلماء في مناصب الدولة إلا المتملقون. وبعد أن كان الخليفة لا يعمل عملا إلا بمشورة فقهاء المدينة، أغفل بنو أمية المدينة وفقهاءها إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه عاد إلى مشورتهم. فظل الأحرار من الفقهاء في زوايا الإهمال معظم أيام بني أمية. فلما تسلط العباسيون وأظهروا أنهم يريدون إحياء السنة وتقويم ما اعوج من سبل الدين في عهد الأمويين، ظهر أهل الأفكار المستقلة من الفقهاء والعلماء والزهاد، وقربهم الخلفاء وأكرموهم فعادوا إلى جرأتهم في خطاب من يأنسون منه إصغاء، كما فعل ذلك الرجل بالمنصور وهو يطوف - وقد أشرنا إليها أيضا في الجزء الثاني من هذا الكتاب - وكما فعل سفيان الثوري لما استدعاه الرشيد إلى بغداد ليكرمه ويقربه، فكتب إليه سفيان كتابا قال فيه: «أما بعد، فإني كتبت إليك أعلمك أني صرمت حبلك وقطعت ودك، وإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك أنك هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه. ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عن حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك. فأما أنا فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا كتابك وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل. يا هرون! هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم ... هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل ...؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم (يعني العاملين)؟ أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل، أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟».
7
ودخل سفيان المذكور على المهدي مرة ولم يسلم بالإمارة، فلم يغضب عليه المهدي بل استعطفه
8
وكان أكثر الخلفاء الأولين من بني العباس إذا لقوا فقيها أو زاهدا طلبوا إليه أن يعظهم، فإذا وعظهم بكوا حتى تخضل لحاهم. وأشهر المتعظين من الخلفاء المنصور والرشيد والمعتصم والواثق، ولهم حكايات مشهورة.
فالفقهاء واسطة السيادة الدينية بين الخليفة والعامة، مثل توسط الأمراء والقواد في تأييد السيادة الدنيوية، وقد يغني الفقهاء عن الواسطتين جميعا؛ لأن عامة المسلمين ينقادون إلى فقهائهم ويستسلمون إليهم كما ينقاد عامة النصارى إلى كهنتهم. فالخلفاء العباسيون كانوا يحتاجون إلى الفقهاء للاستعانة بهم على إخضاع العامة وامتلاك قلوبهم، وكذلك كان يفعل السلاطين والأمراء لنفس هذا السبب أو لسبب آخر. والنفع متبادل بين الفئتين؛ لأن الفقهاء كانوا يكتسبون بتقربهم من الخلفاء مالا وجاها، ولكن ما يكتسبه الخلفاء منهم أعظم وأبقى. فرسخ احترام الفقهاء في قلوب العامة وتمسكوا بهم وعظموهم باسم الدين.
وكان الخلفاء يذعنون للعامة باسم الدين أيضا. حتى إنهم كثيرا ما كانوا يضطرون إلى مسايرة بعض الناس في بعض اعتقاداتهم الدينية، ولو كان ذلك الاعتقاد مخالفا لما في نفوسهم أو مناقضا للواقع، كما فعل المهدي إذ جاءه رجل بنعل زعم أنها نعل النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقبلها المهدي منه وأجازه عليها مع اعتقاده كذبه، وإنما خاف إن كذبه أن يحمل العامة قوله على الفتور في الدين.
9
ولم يكن للخلفاء بد من إظهار التقوى والقيام بالفروض الدينية؛ لئلا يفسد عليهم العامة ويحتقروا سلطانهم ولو كان الخليفة لا يعتقد ذلك. ذكروا أن الوليد بن يزيد الأموي مع اشتهاره بالخلاعة والتهتك، كان إذا حضرت الصلاة يطرح ما عليه من الثياب المصبغة والمطيبة، ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويؤتى بثياب بيض نظاف من ثياب الخلافة، فيصلي فيها أحسن الصلاة بأحسن قراءة وأحسن سكوت وسكون وركوع وسجود، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب.
10 (1-2) الدول الإسلامية والخلافة
فلهذا السبب كان الأمراء الذين يستقلون عن الدولة العباسية بالإدارة والسياسة لضعف الخليفة عن حربهم لا يستطيعون الاستقلال عنه بالدين، إذ لا يستغنون عن بيعته لتثبيت سلطانهم. فإذا أراد أحدهم الاستقلال بولاية أو فتح بلد أو إنشاء إمارة لنفسه، بعث إلى الخليفة في بغداد يبايعه ويطلب منه أن يعطيه تقليدا أو عهدا بولاية ذلك البلد، أو أن يلقبه ويخلع عليه، وإذا أبى الخليفة أن يجيبه غضب وعد ذلك تحقيرا له، وقد يجرد عليه الجند ليكرهه على تثبيته.
فالإمارات أو الممالك التي استقلت عن الدولة العباسية، في فارس وخراسان وتركستان وما بين النهرين والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها، قبل قيام الدولة الفاطمية، كان أصحابها يخطبون لخليفة بغداد ويبعثون إليه بمال معين في العام، مع أنهم في أمن من سطوته، وإنما يريدون أن يرضى العامة عن سلطانهم.
وكذلك كان شأن الأجناد الأتراك وأمرائهم، فقد كانوا مع استبدادهم بخلفاء بغداد قتلا وخلعا لا يجسرون على استبقاء منصب الخلافة خاليا يوما واحدا، لاعتقادهم أنه بدون الخليفة لا تستصلح العامة. حتى الملوك أو السلاطين الذين تسلطوا على بغداد وقبضوا على كل شيء فيها وأصبح الخليفة آل في أيديهم، مثل آل بويه وآل سلجوق، فقد كانوا يحاربون الخليفة ويجردون عليه الجيوش، حتى إذا ظفروا به وغلبوه بايعوه وأكرموه ورفعوا مقامه وتبركوا به. فعضد الدولة البويهي ملك بغداد واستبد بها، وهو شيعي على غير مذهب الخليفة. وكان يغالي في التشيع ويعتقد أن العباسيين غصبوا الخلافة من مستحقيها، فلم يكن ثمة باعث ديني يدعوه إلى طاعة خليفة بغداد، ومع ذلك فإنه بايعه وعظم شأنه، وأعاد من أمر الخلافة ما قد نسي، وأمر بعمارة دار الخلافة والإكثار من الآلات، وعمارة ما يتعلق بالخليفة وبطانته وأكرمه غاية الإكرام.
11
وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يعرفون حاجة الأمراء المسلمين إلى رضاهم، فإذا ساءهم أحد منهم هددوه بالخروج من بغداد، فيضطر إلى استرضائهم؛ لأن خروجهم بغضب العامة
12
ويجرئهم على خلع الطاعة، لتقديسهم شخص الخليفة وتنزيهه عن الخطأ - ولذلك لم يكن من سبيل إلى نزع سلطته أو الاعتراض عليها إلا من وجه ديني، فكان الذين يقومون على الخلفاء يجعلون سلاحهم الدين، فيلبسون الصوف ويدعون إلى المعروف أو يعلقون في أعناقهم المصاحف
13
أو نحو ذلك مما يحرك عواطف العامة. وإذا أراد أحد الخلفاء أن يصلح ما بينه وبين العامة أصلحه بالتقوى. فلما ضمن الفضل بن سهل الخلافة للمأمون أوصاه بإظهار الورع والدين؛ ليستميل القواد
14
ولما رأى أبو مسلم الخراساني أهل اليمن في مكة قال: «أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة» يريد تحريك عواطفهم الدينية بالوعظ والبكاء. فلم يكن للممالك الإسلامية بد من خليفة تبايعه ليثبت ملكها. وقد يستاء بعض الأمراء المستقلين من خليفة بغداد فيكظم ولا يخلع بيعته إلا إذا رأى خليفة آخر يبايعه. فلما قامت الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر خلعت كثير من البلاد بيعة خليفة بغداد وبايعت للفاطميين في القاهرة. ولما تغلب السلطان صلاح الدين الأيوبي على مصر، وذهبت الدولة الفاطمية منها، فأول شيء فعله أنه خطب بجامع القاهرة للخليفة العباسي في بغداد، وطلب المنشور منه والخلع عليه. وكانت الخلافة العباسية في غاية الاضمحلال والضعف، وهو في غنى عن بيعتها، ولكنه علم أنه إذا لم يبايع الخليفة فلا يرضى عنه الناس.
وكذلك فعل السلاطين المماليك الذين ملكوا مصر بعد الدولة الأيوبية، فإنهم بايعوا للعباسيين وكانت الخلع تأتيهم من بغداد إلى القاهرة بتثبيت سلطتهم. فلما سطا التتر على بغداد وفتحوها سنة 656ه، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله توقف شأن الخلافة، فاضطربت أحوال مصر وبذل سلاطينها جهدهم في إيجاد خليفة يبايعونه،
15
ولو أعوزهم خليفة ولم يجدوه ربما اختلقوا واحدا ليحكموا العامة به
16
على أنهم ما زالوا يبحثون عن بقية الخلفاء العباسيين الذين كانوا في بغداد، حتى ظفروا بالهاربين منهم فاستقدموهم إلى القاهرة، وفرضوا لهم الرواتب واحتفلوا بها احتفالا عظيما، وبالغوا في احترامهم وإكرامهم
17
مع علمهم أن أولئك الخلفاء لا يغنون عنهم شيئا، ولكنهم خافوا اختلال دولتهم بدونهم. وظل ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالأطراف البعيدة يبايعون للخليفة العباسي بالقاهرة، ويطلبون التقليد منه أو المنشور لإثبات سلطتهم على يد السلاطين المماليك،
18
فما الذي بعث أولئك الملوك على طلب التقليد من خليفة لا ينفع ولا يشفع لولا ما يتوقعونه من أثر ذلك في أذهان العامة؟ ولا ننكر أن بعضهم كان يطلب بيعة الخليفة تدينا، ولكن الكثيرين كانوا يطلبونها لاستصلاح العامة بها. (1-3) الخلافة في غير قريش
ومما يستحق النظر والاعتبار أن ملوك المسلمين غير العرب، على اختلاف مواطنهم وأجناسهم ولغاتهم ودولهم، من الفرس والأتراك والأكراد والبربر والجركس وغيرهم، مع ما بلغوا إليه من سعة الملك وعز السلطان، ومع حاجتهم إلى السيادة الدينية لتستقيم دولتهم وتجتمع الرعية على طاعتهم، لم يخطر لأحد منهم أن يطلب الخلافة لنفسه قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني، بعد تضعضعه بفتوح المغول، ولا ادعاها أحد من العرب غير قريش. وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة السلطان سليم العثماني.
على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن، من الأمراء المسلمين أو القواد غير العرب، كانوا إذا طمعوا في السيادة الدينية أو الخلافة انتحلوا لأنفسهم نسبا في قريش، كما فعل أبو مسلم الخراساني لما رأى من نفسه القوة على إنشاء الدولة ، وربما طمع في الخلافة فانتحل لنفسه نسبا في بني العباس، فقال: إنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس.
19
وأما الملوك أو السلاطين الأعاجم فلما ضخمت دولهم في أواخر العصر العباسي، ورأوا اضمحلال الخلافة وتقهقرها تمنوا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلا إلى ذلك إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع في النفوذ الديني من طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة. وأول من فعل ذلك عضد الدولة بن بويه المتوفى سنة 372ه، فإنه حمل الطائع لله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد ابنته ولدا ذكرا فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب
20
ولم يوفق إلى مراده.
ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة، تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى التقرب بالمصاهرة أيضا، ولكن على أن يتزوج السلطان طغرل بك السلجوقي ابنة الخليفة، وهو يومئذ القائم بأمر الله، فخطبها إليه ووسط قاضي الري في ذلك، فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج، إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا أكفاؤهم بالنسب. وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده، فأخذ في استعطافه؛ ليعفيه من إجابة طلبه، فأبى السلطان إلا أن يجاب. وحدثت أمور يطول شرحها خيف منها على الدولة، فاضطر الخليفة إلى القبول - فعقد له عليها سنة 454ه، وهذا ما لم يجر مثله قبله؛ لأن آل بويه لم يطمعوا في ذلك ولا تجاسروا على طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب
21
إذ يكفي من الخليفة تنازلا أن يتزوج بنات الملوك لا أن يزوجهم بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرك بك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في السنة التالية، قبل الأرض بين يديها وهي جالسه على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت له، وظل أياما يحضر على هذه الصورة وينصرف. على أنه لم يوفق لإتمام ما أراده؛ لأنه توفي في تلك السنة. أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين، فلما فتح السلطان سليم مصر وجد فيها آخر الخلفاء العباسيين الذين كان السلاطين المماليك قد استقدموهم، فتنازل له عن الخلافة سنة 923ه.
العصر العربي الثاني
الإمارات العربية والعنصر العربي
نريد بالعصر العربي الثاني العصر الذي جدد فيه العرب سطوتهم، وأعادوا سلطانهم ونفوذهم في الدولة، بعد أن غلب الفرس على أمورهم واستبدوا بهم. فقد رأيت أن شوكة العرب ضعفت بذهاب الدولة الأموية، وتغلب الفرس في الدولة العباسية، حتى غلب الأمين فانكسرت تلك الشوكة وتضعضع شأن العرب، ثم جاء المعتصم فقطع أعطيتهم ومنعهم من مصالح الدولة، فذلوا ونقموا على العباسيين ولبثوا يترقبون الفرص لاسترجاع سلطانهم، وأصبحوا ينصرون كل من يخرج على تلك الدولة في العراق أو الشام أو مصر، حتى الأكراد والأعراب والقرامطة، فلم ينفعهم ذلك إلا قليلا لتغلب الأتراك في مصالح الحكومة.
على أن بعض القبائل العربية تمكنت بأسباب مختلفة من إنشاء إمارات صغيرة فيما بين النهرين والشام تحت رعاية العباسيين، وقد ساعدهم على ذلك ما قام من الفتن والحروب بين الخلفاء العباسيين ووزرائهم الفرس وأجنادهم الأتراك في القرن الرابع للهجرة، ورأوا الفرس والترك يستقلون بولاياتهم فقلدوهم، فاستقل آل حمدان من بني تغلب بالموصل وحلب وغيرهما من سنة 317-394ه، وكانت دولتهم عربية أحيوا بها معالم العرب وآدابهم وعرفت بالدولة الحمدانية، أشهر أمرائها سيف الدولة، وقد اشتهر بما نظمه فيه أبو الطيب المتنبي.
ونشأ في حلب في ذلك القرن أيضا دولة عربية أخرى اسمها المرداسية، نسبة إلى أسد الدولة صالح بن مرداس من قبيلة بني كلاب من المضرية، فحكم في حلب هو وأولاده من سنة 414-472ه، وخلف الحمدانية بالموصل دولة بني عقيل من كعب من المضرية، فتولوها من سنة 386-489ه، وظهرتعلى أن هذه الدول قلما في أثناء ذلك دولة عربية رابعة عرفت بالمزيدية نسبة إلى مزيد الشيباني من قبيلة أسد، وقد أنشأوا مدينة الحلة في العراق وحكموا من سنة 403-545ه.
وهناك دولتان أنشأهما رجال من العرب في العصر العباسي الأول وفي بلاد غير عربية، فالأولى أن تعدا من الدول الأعجمية، وهما الدولة الدلفية التي أنشأها أبو دلف العجلي في كردستان ، والعلوية التي أنشأها الحسن بن زيد في طبرستان، وإذا أضفنا إلى ما تقدم دولة الأغالبة التي استقلت بالمغرب قبل سائر فروع الدولة العباسية، ودولة الأدراسة الآتي ذكرها، بلغ عدد الدول العربية الصغرى في النهضة العربية الثانية ثماني دول، هذا بيانها مع أسماء مؤسسيها ومدة حكم كل منها، ننشرها بحسب تاريخ تأسيسها:
الدولة
مقرها
مدة حكمها
مؤسسها (1) الإدريسية
مراكش
172-375ه
إدريس بن عبد الله (2) الأغلبية
تونس وغيرها
184-289
إبراهيم بن الأغلب (3) الدلفية
كردستان
210-285
أبو دلف العجلي (4) العلوية
طبرستان
250-316
الحسن بن زيد (5) الحمدانية
حلب والموصل
317-394
بنو حمدان (6) المزيدية
الحلة
403-545
مزيد الشيباني (7) العقيلية
الموصل
386-489
بنو عقيل (8) المرداسية
حلب
414-472
صالح بن مرداس
غير الإمارات العربية الصغرى التي ظهرت في بلاد اليمن، كالزيادية في زبيد، واليعفورية في صنعاء، وغيرهما.
على أن هذه الدول قلما أثرت في إحياء سطوة العنصر العربي أو إرجاع شوكة العرب؛ لأنها كانت تعترف بخلافة العباسيين وتبايع لهم، إلا العلوية والأدارسة. ولا حرج عليهم، فإن الفرس والترك والديلم كانوا قد استبدوا بأكثر إمارات المملكة العباسية، ورسخ في أذهان الناس أن الدولة العباسية باقية إلى رجوع المسيح، فبات الشرق كله تحت سيطرة العباسيين، يخطب لهم ويضرب النقود باسمهم، فاتجهت آمال العرب نحو الغرب.
وكان الأمويون أصحاب العصبية العربية، وأكبر أعداء الفرس ومن جاورهم من الأعاجم، قد أنشأوا دولة عربية في الأندلس من سنة 138ه سيأتي الكلام عليها. فالعرب الذين كانوا يطمعون في إحياء العنصر العربي، ويكبرون ذهاب دولة العرب في ظل العباسيين، كانوا ينزحون إلى الغرب فينزلون في الأندلس أو يقيمون في إفريقيا في ظل السيادة العربية بعيدين عن سلطة الدولة العباسية.
وأكثر العرب نفورا من تلك الدولة وأشدهم بغضا لها شيعة العلويين، لا سيما بعد أن قضى على آمالهم في الشرق بما توخاه العباسيون من التفرد بالخلافة هناك. وكان بعض أصحاب هذه الدعوة قد فروا من وجه العباسيين نحو الغرب في أوائل دولتهم، فأنشأوا هناك دولة علوية عرفت بالدولة الإدريسية، نسبة إلى إدريس بن عبد الله حكمت من سنة 172-375ه، ولم يطمع أمراؤها في لقب الخلافة .
وبقي في الشرق جماعة من العلويين كانوا لا يزالون يؤملون الفوز بشيعتهم الموالي الفرس، فلما رأوا العباسيين غلبوهم على ما في أيديهم بعد فتنة الأمين والمأمون واستبداد رجال الأتراك في الدولة ومقاومتهم العنصرين الفارسي والعربي جميعا، يئسوا من نصرة الموالي فنزح بعضهم إلى المغرب تدريجا، وظل البعض الآخر في المشرق يترصدون ضعفا يبدو لهم من الدولة العباسية، فيغتنمون الفرصة للوثوب بها لا يبالون بمن يستنصرون أو على من يعولون. فكانوا يقومون تارة بالفرس اوالخراسانيين، وطورا بالأكراد أو الديلم أو غيرهم من الأمم الناقمة على الأتراك، أو الفئات المظلومة من فساد الأحكام واستبداد الخدم، ولم يفز أحد منهم بإنشاء دولة غير الحسن بن علي في طبرستان صاحب الدولة العلوية التي ذكرناها، ولم يطل عمرها. وكثيرا ما كانت تلك الفئات المظلومة تنتحل الدعوة العلوية للوثوب على الدولة، كما فعل صاحب الزنج في العراق، فإن أقلق راحة الدولة العباسية وأجنادها وعمالها بضعة عشر عاما، بما جمعه من أباق العبيد والزنوج الذين كانوا يكسحون السباخ في ضواحي البصرة والكوفة، واستنهض سائر السودان فتركوا أسيادهم وقاموا معه فحارب الدولة في وقائع كثيرة قتل فيها نحو 2500000،
1
وكانوا يفعلون ذلك باسم الدعوة العلوية وزعيمهم دعى اسمه علي بن محمد زعم أنه من نسل الحسين، وانتهت تلك الثورة بقتل الدعي وتشتت رجاله.
على أن الشيعة العلوية لم يكن لها شأن يذكر، إلا بعد ظهور الدولة البويهية الشيعية في الشرق، واستيلائها على بغداد واستبدادها بالخلافة، وكان الشيعة قد أنشأوا خلافة علوية في بلاد المغرب، فاشتد أزرهم بذلك وحملوا على المشرق يلتمسون افتتاح المملكة العباسية، فجاءوا مصر وفتحوها في أواسط القرن الرابع للهجرة وأقاموا فيها، وكانت دولتهم ضخمة عرفت بالدولة الفاطمية وهي أكبر دول الشيعة، وسيأتي ذكرها.
وجاءت الدولة الفاطمية مزاحمة للدولة العباسية، وقد قام بنصرتها العرب والبربر، وهؤلاء ينتحلون لأنفسهم نسبا في العرب. وكانت الآمال متعلقة بإحياء العنصر العربي على يدها كما كان في صدر الإسلام، فبايعها معظم العالم العربي يومئذ حتى في العراق وما بين النهرين، فإن أهل الكوفة والموصل بايعوها مدة مع قربهم من بغداد عاصمة العلويين
2
على أنهم لم يستطيعوا إحياء ذلك العنصر، لذهاب دولة آل بويه من المشرق، وظهور الدولة السلجوقية التركية هناك، وانتصارها للعباسيين وانتحالها مذهبها ودفاعها عنها، فظلت الموازنة محفوظة بين الشرق والغرب: الأول سني والثاني شيعي.
فلما تغلب الأكراد على الدولة الفاطمية، وأخرجوا مصر من حوزتها على يد صلاح الدين الأيوبي، أعادوا البيعة العباسية إليها سنة 567ه، وكان العنصر العربي قد ضعف بمصر قبل انقضاء تلك الدولة بمن استبد بالأحكام من الأتراك والأرمن وغيرهم كما سيجيء، فعاد العنصر العربي إلى الضياع، إلا إمارات صغيرة ظهرت في جزيرة العرب ولا يزال بعضها باقيا إلى الآن (حوالي سنة 1910).
فالعصر العربي الثاني عبارة عن إحياء العنصر العربي في المغرب بعد انحلاله في المشرق، وأكبر العوامل في إحيائه الدولتان الأموية بالأندلس والفاطمية بمصر، وكان قيامهما نهضة عربية لم يطل مكثها ولا كان لها تأثير يذكر، ولم يقم للعرب قائمة في الدولة الإسلامية من ذلك الحين - إلا ما أبدته بعض القبائل من النهوض في بلاد العرب أو غيرها بدعوة سياسية أو دينية، كقيام الوهابية في نجد والدراويش في السودان. ولما عزم محمد علي مؤسس العائلة الخديوية على إنشاء دولة إسلامية كبرى في أوائل القرن التاسع عشر، أراد أن يستعين على إنشائها بعصبية إسلامية، وأقوى العصبيات بمصر يومئذ الترك والعرب، والعصبية التركية للدولة العثمانية، فاختار عصبية العرب، فحامت الآمال حوله، وخصوصا بعد حربه الوهابية واجتماعه بشريف مكة وغيره من رؤساء القبائل، فأحيا العنصر العربي، ونشط العصبية العربية بما أنشأه من المدارس والمطابع ونشره من الكتب. فكان للعرب نهضة قلما أفادته في غرضه السياسي، لما حال دون مطامعه من أغراض دول الإفرنج في المملكة الإسلامية، ولكنها أفادت أهل الشرق من العرب فائدة أدبية علمية، بتمهيد السبيل للنهضة التي نحن فيها الآن، أما ما تتناقله الجرائد من أخبار اليمن ونجد وتمرد بعض رؤساء القبائل، فلا نتوقع له نتيجة تذكر، لأسباب عمرانية سياسية لا محل لها هنا.
فالنهضة العربية في العصر العربي الثاني الذي نحن في صدده قلما أثرت في إحياء العنصر العربي. وقد تقلبت على كل من الدولتين الأموية في الأندلس والفاطمية بمصر أحوال مختلفة في سياستها وشؤون حكومتها لا بأس من الإتيان على خلاصتها، وإن كانتا في الحقيقة مقلدتين للدولة العباسية في أكثر أحوالهما.
سياسة بني أمية في الأندلس
من سنة 138-422ه
اقتدت هذه الدولة في سياستها بالدولة العباسية، مثل سائر الدول التي عاصرتها أو نشأت بعدها. فمؤسسها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان كان شديدا مثل جده عبد الملك، نجا من مذبحة أهله من مجلس السفاح سنة 132ه وهرب من العراق يطلب بلاد المغرب بمساعدة مولى له اسمه بدر، لم يدخر وسعا في إنقاذه وحمايته في أثناء ذلك الفرار، والمسافة طويلة وأهل البلاد ناقمون على الأمويين. فلما وصل به إلى المغرب سعى له في جمع الأحزاب، فقطع مضيق جبل طارق إلى الأندلس، وفيها من موالي بني أمية نحو خمسمائة رجل، فأخبرهم بقدوم مولاه وحرضهم على نصرته لاستبقاء هذه الدولة هناك، فنصروه وجمعوا كلمة المضرية واليمنية - وجمعها صعب في ذلك العهد. فبعد حروب كثيرة مهدوا له الدولة واستقدموه إليهم، فدخل الأندلس وتولى أمورها سنة 138ه (756م)؛ ولذلك سموه الداخل.
وقد حكم عبد الرحمن أولا باسم الدولة العباسية، وخطب بها للمنصور نحو سنة، ولم يجسر في بادئ الرأي على إنشاء خلافة أخرى مع وجود الخلافة العباسية؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
واحد وخليفته واحد. وكان لعبد الرحمن ابن عم يقال له: عبد الملك بن عمير بن مروان، شديد العصبية للأمويين واسع الأمل في إرجاع خلافتهم، وكانوا يسمونه شهاب آل مروان لشجاعته وسرعة فتكه ، وقد حارب في نصرة ابن عمه حروبا ثبتت له بها الدولة، فحرضه على قطع الخطبة العباسية، ولما آنس منه ترددا صاح فيه: «اقطعها وإلا قتلت نفسي!» فقطعها ولكنه لم يجسر أن يسمي نفسه خليفة، فكانوا يسمون أمويي الأندلس في أوائل دولتهم الأمراء، ثم سموهم الخلفاء.
واتفق في أثناء ذلك أن المنصور العباسي أهان ملك بن أنس إمام المدينة، لما علمه من إفتائه بخلع المنصور؛ لأنه كان قد بايع للعلويين، فاغتنم الأمويون نقمة مالك عليه وقربوه منهم وأكرموه، فانتفع كل منهما بصاحبه. فالأمويون رأوا فيه إماما كبيرا ينصر دعوتهم أو يؤيدها من حيث الدين، ويطعن في خلافة بني العباس. ورأى مالك في الأمويين ملجأ كبيرا وتعزية لما ذاقه من شدة بني العباس. فشاع مذهب مالك في الأندلس من ذلك الحين، وكانوا قبلا على مذهب الأوزاعي مثل أهل الشام. وقد نقلوا الفتوى إلى رأي مالك في أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل.
1
وكان عبد الرحمن هذا يقلد سياسة المنصور العباسي في تأييد دولته، وكانا متشابهين من عدة أوجه: منها أن والدة كل منهما بربرية، وكان عبد الرحمن مثل المنصور من حيث الشدة والعزم وضبط الأمور. واتفقا في أن كلا منهما قتل ابن أخيه، فقتل المنصور ابن أخيه السفاح، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.
2
وقد اقتدى عبد الرحمن بالمنصور في سياسة الفتك والغدر لتأييد سلطانه بقتل الذين ساعدوه على تأييده، فسخط على بدر مولاه لفرط دلاله عليه، ولم يرع حق خدمته وصدق مناصحته، فأخذ ماله وسلبه نعمته ونفاه سنة 156ه إلى مكان بقي فيه إلى أن هلك، كما قتل المنصور أبا مسلم الخراساني بعد بلائه في إنشاء دولته.
3
وقتل عبد الرحمن أيضا أبا الصباح بن يحيى رئيس العرب اليمانية، وكان قد ساعده على القيام وله فضل عليه.
4
ففعل به مثل ما فعل بنو العباس بأبي سلمة وابن كثير وغيرهما. وقام اليمانية رجال أبي الصباح يطلبون بثأره، فأوقع عبد الرحمن بهم وأكثر القتل فيهم، واستوحش من العرب قاطبة وعلم أنهم يصحبونه على غل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك ليتقوى بهم على أعدائه، فبعث إلى كبراء مملكته يبتاع مواليهم، فاقتنى موالي الناس من كل ناحية، واعتضد بالبربر فوجه إليهم في بر العدوة على شواطئ أفريقية واستوفدهم، فجاءه منهم كثيرون فأكرم وفادتهم وأحسن إليهم وقربهم، فرغبوا في خدمته فاستكثر منهم ومن العبيد حتى بلغ جنده من هؤلاء نحو 40000 رجل، غلب بهم على أهل الأندلس من العرب، فاستقامت مملكته وتوطدت دعائمها، كما تأيدت الدولة العباسية بالخراسانيين. (1) الصقالبة
ثم عمد الأمويون بعده إلى استخدام الخصيان الصقالبة، وهم غلمان كان النخاسون يحملونهم من شمالي أوروبا يتجرون ببيعهم في أنحاء العالم، وكان الاتجار بهم رائجا. والسبب في رواجه أن قبائل السلاف (الروسيين) نزلوا في أوائل أدوارهم شمالي البحر الأسود ونهر الطونة، ثم أخذوا ينزحون غربا جنوبيا نحو أواسط أوروبا، وهم قبائل عديدة عرفت بعدئذ بقبائل السلاف أو (السكلاف) والسرب والبوهيم والدلمات وغيرهم. فاضطروا وهم نازحون أن يحاربوا الشعوب التي في طريقهم، كالسكسون والهون وغيرهم، فتكاثر الأسرى من الجانبين. وكان من عادات أهل تلك العصور أن يبيعوا أسراهم بيع الرقيق، فتألفت لذلك جماعات كبيرة من التجار يحملون الأسرى، عن طريق فرنسا فأسبانيا إلى أفريقيا ومنها إلى الشام ومصر، فلما وقعت هذه البلاد في أيدي المسلمين راجت تلك التجارة. فكان التجار من الإفرنج وغيرهم يبتاعون الأسرى من السلاف والجرمان، من جهات ألمانيا عند ضفاف الرين والألب وغيرهما إلى ضفاف الدانوب وشواطئ البحر الأسود - ولا يزال أهل جورجيا والجركس إلى اليوم يبيعون أولادهم بيع السلع (إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى) - فإذا عاد التجار من تلك الرحلة ساقوا الأرقاء أمامهم سوق الأغنام، وكلهم بيض البشرة على جانب عظيم من الجمال وفيهم الذكور والإناث، إلى أن يحطوا رحالهم في فرنسا ومنها ينقلونهم إلى أسبانيا (الأندلس)، فكان المسلمون يبتاعون الذكور للخدمة أو الحرب، والإناث للتسري. وغلب على أولئك الأرقاء انتسابهم إلى الجنس الصقلي، وكانت كلمة «سلاف» تلفظ عندهم «سكلاف»، فعربها العرب «صقلب»، ومنها «صقلبي وصقالبة»، وأصبح هذا اللفظ عندهم يستعمل للرقيق الأبيض على الإجمال.
على أن عبد الرحمن الداخل قلما رغب في الصقالبة، وأول من استكثر منهم حفيده الحكم بن هشام (180-206ه) فإنه استكثر من اقتناء المماليك وارتبط الخيول ببابه وتشبه بالجبابرة. وهو أول من جند الجند المرتزقين بالأندلس، فجعل المماليك من المرتزقة فبلغت عدتهم 5000 مملوك، وكانوا يسمونهم الخرس لعجمة ألسنتهم، ثم تدرج الأمويون في استخدام الصقالبة، حتى تكاثروا في أيام عبد الرحمن الناصر (300-350ه)، وجعلهم بطانته وجنده كما فعل المعتصم العباسي بالأتراك قبله. واستقل بنو أمية بمملكتهم هذه في أوروبا عن سائر ممالك الإسلام في آسيا وأفريقيا، ولم يكونوا يطمعون في التغلب على الممالك الأخرى، فقطعوا علاقاتهم معها ومنعوا أهل دولتهم من الحج إلى الحرمين
5
مخافة أن يقع أحد منهم في أيدي العباسيين، فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم، وما أبيح لهم الحج إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوع مملكة الأندلس إلى ملوك الطوائف غير العرب. (2) ملوك الطوائف بالأندلس
وبلغت الأندلس إبان مجدها في أيام عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة 350ه، وكان عاقلا كريما توفرت الثروة في خلافته، وكانت أيامه مثل أيام هرون الرشيد في بغداد من حيث الرغد والرخاء. وخلفه ابنه الحكم المستنصر، وكان محبا للعلم والعلماء مثل المأمون بن الرشيد، وبلغت مملكة الأندلس في أيام هذين الخليفتين إلى أوج مجدها سطوة وأبهة وثروة، وأخذ شأن الخلافة بعدهما في الاضمحلال، فاستبد أهل الدولة وجندها بالأحكام، وهم موالي الأمويين من البربر والصقالبة، كما استبد الفرس والأتراك في الدولة العباسية.
وكان العرب في مقدمة رجال الدولة وأهل العصبية، ولهم المقام الرفيع والكلمة النافذة؛ لأن الأمويين أهل عصبية للعرب كما تقدم، فلما استبد الصقالبة والبربر بالمناصب والأعمال أخذت شوكة العرب في الضعف تدريجيا، حتى غلب ابن أبي عامر وزير الحكم بن الناصر على أمور الدولة في أيام هشام بن الحكم في أواخر القرن الرابع للهجرة، ومكر بأهل الدولة وضرب بين رجالها وقتل بعضا ببعض، ومنع الوزراء من الوصول إلى الخليفة، وهو عربي الأصل من اليمنية، فأصبح يخاف الجند على نفسه، فعمل على تفريق جموعهم فبدأ بالصقالبة الخدم بالقصر فنكبهم بدسيسة وأخرجهم من القصر، ثم فتك بالجند الصقالبة وآخر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، واستقدم إليه رجالا من برابرة أفريقية وزناتة وقدمهم واستعان بهم. فانكسرت شوكة العرب في الأندلس من ذلك الحين.
وما زالت الدولة هناك آخذة في الانحلال حتى اقتسمها الولاة البربر وغيرهم، بأسرع مما حدث في الدولة العباسية، لضعف اعتقاد المسلمين بصحة خلافة بني أمية؛ ولأن العباسيين أرسخ قدما في الخلافة لقرابتهم من النبي
صلى الله عليه وسلم ، فانقسمت مملكة الأندلس في أوائل القرن الخامس للهجرة إلى إمارات تولاها أصحاب الأطراف والرؤساء، وفيهم العرب والبربر والموالي، فتغلب كل إنسان على ما في يده، فصاروا دولا صغيرة متفرقة؛ ولذلك سموا ملوك الطوائف. وهاك أشهرهم مع أسماء إماراتهم:
اسم الدولة
اسم المملكة
مدة الحكم
بنو حمود
مالقة والجزيرة
407-449ه
بنو عباد
إشبيلية
414-484ه
بنو زيري
غرناطة
403-483ه
بنو جهور
قرطبة
422-461ه
بنو ذي النون
طليطلة
427-478ه
العامريون
بلنسية
412-478ه
بنو هود التجيبيون
سرقسطة
410-536ه
ولم تطل سيادة هذه الدول كما رأيت، فغلبت عليهم دولة المرابطين ثم الموحدين، وظل الانقسام متتابعا بين تلك الممالك، والخصام متواليا والإفرنج يغتنمون ضعفهم وانقسامهم، ويسترجعون إماراتهم واحدة بعد واحدة وبلدا بعد بلد، حتى غلبوا على المسلمين وأخرجوهم من الأندلس. وآخر مدينة افتتحها الإفرنج من تلك المملكة غرناطة، وكانت في حوزة بني نصر نسبة إلى يوسف بن نصر من سنة 629ه، توالى عليها منهم بضعة وعشرون ملكا، آخرهم أبو عبد الله محمد بن علي، فاستخرجها الإفرنج من يده سنة 897ه، وفر أبو عبد الله، وكان ذلك آخر عهد المسلمين بالأندلس.
الدولة الفاطمية
من سنة 297-567ه (1) الشيعة في المغرب
قد علمت حال الشيعة في أيام بني أمية بالشام وما قاسوه من القتل والصلب، ثم ما كان من حالهم في الدولة العباسية، وخصوصا في أيام المنصور والرشيد والمتوكل، من الاضطهاد والقتل، فحملهم ذلك على الفرار إلى أطراف المملكة الإسلامية، فهاموا على وجوههم شرقا وغربا كما تقدم. وكان فيمن جاء منهم نحو الغرب إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى، أخو محمد بن عبد الله الذي بايعه المنصور ثم نكث بيعته. فأتى إدريس مصر وهي يومئذ في حوزة العباسيين، فاستخفى في مكان أتاه إليه بعض الشيعة سرا، ومنهم صاحب البريد فحمله إلى المغرب في أيام الرشيد، فتلقاه الشيعة هناك وبايعوه، فأنشأ دولة في مراكش عرفت بالدولة الإدريسية من سنة 172-375ه، على أن هؤلاء لم يسموا أنفسهم خلفاء .
أما ظهور الشيعة وتغلبهم وارتفاع شأنهم حقيقة فالفضل فيه للدولة الفاطمية، نسبة إلى فاطمة بنت النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أصحابها ينتسبون إليها، وتسمى أيضا الدولة العبيدية نسبة إلى مؤسسها عبيد الله المهدي. وكان شأن الشيعة قد بدأ بالظهور في المشرق على يد بني بويه في أواسط القرن الرابع للهجرة.
ولما تغلب البويهيون على بغداد كانت الدولة الفاطمية قد اشتد ساعدها في المغرب وهمت بفتح مصر. وكان آل بويه يغالون في التشيع، ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافة من مستحقيها، فأشار بعضهم على معز الدولة البويهي أن ينقل الخلافة إلى العبيديين أو لغيرهم من العلويين، فاعترض عليه بعض خاصته قائلا: «ليس هذا برأي. فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، لو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لقتلوك، فرجع معز الدولة عن عزمه».
1
على أن الشيعة اعتزت في الشرق بهذه الدولة، وأحيا البويهيون كثيرا من الاحتفالات الدينية الشيعية، ومنها عاشوراء تذكار مقتل الحسين
2
وحملوا الخليفة على أن يخطب لعضد الدولة في بغداد، أي: أن يذكر اسمه في الخطبة. فخطب له وهو أول من خطب له فيها. فوقع التحاسد بين الأتراك والديلم هناك، ونشأت الفتن بين السنة والشيعة من ذلك الحين، والترك يمثلون السنة والديلم أو الفرس يمثلون الشيعة. فحمل الأتراك أهل بغداد على الاحتفال ببعض الأعياد عكس احتفال الشيعة
3
نكاية بهم. (2) الشيعة في مصر
على أن ظهور الشيعة في الشرق هون على الدولة العبيدية فتح مصر والانتقال إليها، وكانت قصبتها قبلا مدينة المهدية بإفريقية وخلفاؤها ينتسبون إلى الحسين بن علي، وللمؤرخين في انتسابهم إليه أقوال متناقضة، فالذين يتعصبون للعباسيين ينكرون ذلك عليهم. ويغلب في اعتقادنا صحة انتسابهم إليه، وأن السبب في وقوع الشبهة طعن العباسيين فيه تصغيرا لشأنهم.
4
والمصريون كانوا يحبون عليا من صدر الإسلام، وكانوا من حزبه يوم مقتل عثمان، ولكن قلما كان لهم شأن في الشيعة العلوية ؛ لأن العلويين استنصروا أولا أهل العراق وفارس كما تقدم. فلما قامت الدولة العباسية وتأثرهم المنصور بالقتل والحبس، وقتل محمد بن عبد الله الحسني وبعض أهله وفر سائر العلويين من وجه الدولة العباسية، كان في جملتهم علي بن محمد بن عبد الله، فجاء مصر بأمر دعوته بعض رجال الشيعة، لكنه ما لبث أن حمل إلى المنصور واختفى.
5
وكان حال الشيعة العلوية بمصر يتقلب بين الشدة والرخاء، يتقلب أحوال الخلفاء في بغداد، فإن تولى خليفة يكره العلويين ضيق على الشيعة واضطهدهم والعكس بالعكس، فلما تولى المتوكل واضطهد الشيعة العلوية كتب إلى عامله بمصر بإخراج آل أبي طالب إلى العراق فأخرجهم سنة 236ه، ولما قدموا إلى العراق أرسلوهم إلى المدينة واستتر من بقي في مصر على رأي العلوية؛ لأن عمال المتوكل كانوا يبالغون في إظهار الكره للشيعة تزلفا للخليفة - يحكى أن رجلا من الجند اقترف ذنبا أوجب جلده. فأمر يزيد بن عبد الله عامل مصر يومئذ بجلده، فأقسم الرجل عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه فزاده تلاتين ضربة. ورفع صاحب البريد إلى المتوكل ذلك الخبر، فورد كتابه إلى العامل أن يضرب الجندي المذكور مائة سوط فضربه، وتتبع يزيد المشار إليه آثار العلويين، فعلم برجل منهم له دعاة وأنصار، فقبض عليه وأرسله إلى العراق مع أهله وضرب الذين بايعوه.
ولما تولى المنتصر بن المتوكل سنة 247ه كتب إلى عامله بمصر أن لا يضمن علوي ضيعة ولا يركب فرسا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطراف مصر، وأن يمنعوهم من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإذا كان بينهم وبين أحد الناس خصومة قبل قول خصمه فيه بغير أن يطالب ببينة. فقاسى العلويون عذابا شديدا بسبب ذلك.
ولما استقل أحمد بن طولون بإمارة مصر سنة 254ه اضطهد الشيعة؛ لأنه تركي ولأنه على رأي الخليفة العباس، فاقتص آثار العلويين وحاربهم مرارا. حتى إذا ضعف أمر بني طولون بمصر واختلت أحوال الدولة العباسية في بغداد وتغلب آل بويه عليها في القرن الرابع للهجرة أخذ حزب الشيعة ينتعش ويتقوى. فلما جاءهم جند المعز لدين الله الفاطمي سنة 358ه بقيادة جوهر الصقلي كانت الأذهان متأهبة لقبول تلك الدعوة، ففتح جوهر مصر على أهون سبيل، وخطب فيها للعلويين وأقام شعارهم وأزال شعار العباسيين، وبنى مدينة القاهرة وانتقل إليها مولاه المعز لدين الله، وتوالى من دولة الفاطميين بمصر عشرة خلفاء، وجملة خلفائهم منذ أنشأوا دولتهم في أفريقية إلى انقضائها بمصر 14 خليفة حكموا من سنة 297-567ه، وانتقلت مصر منهم إلى الأكراد الأيوبيين. (3) سياسة الدولة الفاطمية
إن الفاطميين من جملة الدول الإسلامية التي قلدت الدول العباسية في نظام حكومتها وسائر شؤونها. إلا ما يتعلق منها بالدين، فإنهم أيدوا كل ما يوافق مذهب الشيعة من إيثار العلويين وتقديمهم والعمل بأقوال أئمتهم، فألف يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله الفاطمي كتابا يتضمن الفقه على ما سمعه من المعز لدين الله وابنه العزيز بالله، وبوبه على أبواب الفقه فبلغ حجمه نصف حجم صحيح البخاري، وهو يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية. وقد بذلت الدولة الفاطمية جهدها في نشر هذا الفقه بين المسلمين، حتى كان الوزير المشار إليه يجلس بنفسه لقراءة هذا الكتاب على الطلبة، وبين يديه خواص الناس وعوامهم وسائر الفقهاء والقضاة والأدباء، وجعله مرجع القضاء في الفتوى، وأفتى الناس به ودرسوه في الجامع العتيق (جامع عمرو)، وعمل الخلفاء على ترغيب الناس في حفظه بالبذل والعطاء، فأجرى العزيز بالله على 35 رجلا من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير، ويلازمونه أرزاقا تكفيهم، فضلا عما كان يصلهم من مال العزيز بالله في الصلات السنوية، وأمرهم ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر، وكان يخلع عليهم في عيد الفطر ويحملهم على البغال ترغيبا لهم في نشر فقه الشيعة وتعاليمهم، وأجلسوا أناسا في قصر الخلافة لقراءة علوم أهل البيت على الناس؛ لأنه بانتشار ذلك المذهب تتأيد تلك الدولة، لارتباط السياسة بالدين كما قدمنا. وتعقبوا من يطالع غير ذلك الكتاب وشددوا في عقابه، فاتفق أنهم عثروا على رجل وجدوا عنده كتاب الموطأ لمالك، فضربوه وطافوا به في المدينة. وكان يعقوب الوزير المذكور يهوديا وأسلم، وخدم الدولة الفاطمية خدمات جزيلة في تأييد دعوتهم كما رأيت، فلا عجب إذا عاده العزيز في مرضه وقال له: «وددت لو أنك تباع فأبتاعك بملكي».
6
ومشى سائر الخلفاء الفاطميين على هذه الخطة في نشر مذهب الشيعة، فأنشأ العزيز والحاكم دور الكتب للمطالعة والنسخ لنشر كتبهم، ولما تولى الخليفة الظاهر سنة 411ه، أخرج من كان في مصر من الفقهاء المالكية وغيرهم. وشددوا الأوامر على الناس أن يحفظوا كتاب «دعائم الإسلام»، و«مختصر الوزير»، وجعلوا لمن حفظ ذلك مالا
7
ومن مقتضيات فقه الدولة الفاطمية في المواريث توريث ذوي الأرحام، فالبنت عندهم إذا انفردت استحقت المال بأجمعه
8
تأييدا لحقهم في وراثة الخلافة؛ لأنهم ينتسبون إلى فاطمة بنت النبي وهي منفردة بالإرث. (3-1) أدوار الدولة الفاطمية
مرت الدولة الفاطمية في ثلاثة أدوار تشبه الأدوار التي مرت بها الدولة العباسية، فقد رأيت أن نفوذ الكلمة في الدولة العباسية كان في أوائلها مشتركا بين العرب والفرس، ثم صار إلى الفرس ثم إلى الأتراك. والفاطميون عرب قامت دولتهم بالعرب والبربر، فكان النفوذ في أولها مشتركا بين هذين العنصرين، ثم صار إلى البربر ثم إلى الأتراك.
والبربر قوم أشداء، مساكنهم في شمال أفريقية، وقد نصروا الشيعة العلوية في المغرب كما نصرها الفرس في المشرق، وهم قبائل شتى مثل قبائل العرب الرحل، وقد قاسى المسلمون في إخضاعهم عذابا شديدا؛ لأنهم ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة وثبوا فيها كلها على المسلمين، ولم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير في أواخر القرن الأول. ولما نقم الناس على بني أمية لتعصبهم على غير العرب كان البربر في جملة الذين خرجوا عليهم وتطاولوا للفتك بهم. وقد سرهم ذهاب دولة الأمويين، ولكن ساءهم انتقالها إلى الأندلس على مقربة منهم؛ لأنهم كانوا يكرهونهم للعصبة فنصروا العلويين نكاية فيهم - إلا من اصطنعهم الأندلسيون بالمال، وللبربر فضل كبير في نشر الإسلام في أواسط أفريقية، مثل فضل الأتراك في نشره في أواسط آسيا، إلى الهند والصين؛ لأن البربر لما ثبت الإسلام فيهم نهضوا لفتح ما وراء بلادهم في أفريقية الغربية فنشروا الإسلام هناك.
فلما قامت الدولة الفاطمية في المغرب كان البربر من أنصارها، لا سيما قبائل كتامة وهوارة وهما من قبائل صنهاجة فأخذوا بيد الفاطميين منذ قيامهم على أيام عبيد الله المهدي أول خلفائهم في أواخر القرن الثالث للهجرة. فلما تأيدت دولتهم اتخذ خلفاء الفاطميين بطانتهم منهم وجعلوهم من أهل الدولة وأول من فعل ذلك أبو عبد الله الشيعي، وظلوا كذلك في خلافة ابنه القائم بأمر الله «سنة 322ه»، ثم المنصور بنصر الله «سنة 334ه» ثم المعز لدين الله «سنة 341ه»، وساعدوهم في تملك المغرب كله وإخراجه من البيعة العباسية. وفي أيام المعز لدين الله فتح الفاطميون مصر وبنوا القاهرة ونقلوا دولتهم إليها.
فلما أفضت الخلافة إلى العزيز بالله بن المعز سنة 365ه، أراد التشبه بالعباسيين فاصطنع الأتراك والديلم واستكثر منهم وقدمهم وجعلهم خاصته، كأنه خاف على حياته من البربر. فقامت المنافسة بين البربر والأتراك وعظم التحاسد حتى توفي العزيز بالله وخلفه الحاكم بأمر الله سنة 386، وكان يقدر فضل البربر، فقدمهم وقربهم فاشترطوا أن يتولى أمورهم ابن عمار الكتامي (من البربر)، فولاه الوساطة وهي كالوزارة عندهم. فاستبد في أمور الدولة وقدم البربر وأعطاهم وولاهم وحط من قدر الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز. فاجتمعوا إلى كبير منهم اسمه برجوان وكان صقلبيا وقد تاقت نفسه إلى الولاية، فأغراهم بابن عمار حتى وضعوا منه فاعتزل الوساطة وتولاها برجوان، فقدم الأتراك والديلم واستخدمهم في القصر. ثم بدأ للحاكم أن يقتل ابن عمار فقتله وقتل كثيرا من رجال دولة أبيه وجده، فتضعضع البربر وقوي الأتراك.
ولما مات الحاكم وخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله سنة 411ه أكثر من اللهو والقصف ومال إلى الأتراك، والمشارقة، فانحط جانب البربر وما زال قدرهم يتناقص حتى كاد يتلاشى. فلما ملك المستنصر سنة 427ه بعد الظاهر وكانت أمه أمة سوداء استكثرت في جنود ابنها من العبيد أبناء جلدتها، حتى بلغوا ألف عبد أسود، وكان هو يستكثر من الأتراك فأصبح الجند طائفتين كبيرتين تتنافسان وتتسابقان إلى الاستئثار بالنفوذ، وآل التنافس إلى حرب شقيت بها مصر واضطر الخليفة إلى استنصار رجال دولته في الشام، فأتاه أمير الجيوش بدر الجمالي من سوريا وهو أرمني الأصل فقتل الكثير من أهل الدولة وأقام بمصر جندا من الأرمن، وصار من حينئذ معظم الجيش منهم وذهب نفوذ البربر وصاروا من جملة الرعية، ولم يبق لهم شأن في الدولة بعد أن كانوا وجوهها وأكابر أهلها.
9
وكان السلاجقة في أثناء ذلك قد غلبوا على العراق وفارس، وذهبت دولة آل بويه وضعف أمر الشيعة هناك، وولى السلاجقة مماليكهم وقوادهم (الأتابكة) على الولايات، واستقل كل منهم بولايته كما تقدم، ومنهم نور الدين زنكي في الشام. وكان في جملة قواد نور الدين جماعة من شجعان الأكراد، منهم نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شيركوه، وقد بلغا عنده منزلة رفيعة، وكانت خلافة مصر قد أفضت سنة 555ه إلى العاضد بن يوسف، وكان ضعيف الرأي، وقد غلب وزراؤه على دولته وتنافسوا على الاستئثار بالنفوذ، وطال تنافسهم حتى أخربوا البلاد والخليفة لا يستطيع عملا.
وكان في جملة المنافسين وزير اسمه شاور، قد غلب على أمره فذهب إلى نور الدين زنكي واستنجده على رجل آخر كان ينافسه في الوزارة وهو ضرغام، فاغتنم نور الدين تلك الفرصة للاستيلاء على مصر، وأنجده بأسد الدين شيركوه في جند من المماليك، فرد الوزارة إلى شاور وصار هذا يدفع ثلث خراج مصر إلى نور الدين.
وكانت الحروب الصليبية في تلك الأثناء قد احتدمت، فزاد تداخل نور الدين في شؤون مصر ونائبه فيها شيركوه، ومعه ابن أخيه يوسف بن نجم الدين، وهو صلاح الدين الأيوبي الشهير. ومات شيركوه بمصر سنة 564ه فخلفه صلاح الدين في منصب النيابة وهي الوزارة.
وكان صلاح الدين من أهل المطامع الكبرى، فلما قبض على أزمة النيابة، وهي كالوزارة، ورأى ضعف الخليفة أراد مصر لنفسه وليس لأميره نور الدين. فلما مات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، خطب صلاح الدين بالقاهرة للخليفة العباسي ونقل حكومة مصر من الشيعة إلى السنة، وقبض على أزمة الأحكام، واستفحل أمر الصليبيين في تلك الأيام فتولى صلاح الدين أمر حربهم وقام بأعمال لا يزال التاريخ يردد صداها إلى اليوم، أهمها استرجاع بيت المقدس ومد سلطته على الشام وغيرها. وأنشأ الدولة الأيوبية، وهي كردية الجنس سنية المذهب، فعادت مصر إلى ظل الدولة العباسية من حيث البيعة فقط.
وعمد صلاح الدين ومن خلفه من أهله إلى الاستكثار من المماليك الأتراك والجراكسة للجندية، على جاري العادة في تلك الأعصر، حتى إذا كثروا استبدوا بشؤون الحكومة وطمعوا في السلطة. فلما ضعف أمر الدولة الأيوبية قبضوا هم على أزمة الحكومة وأنشأوا بمصر دولتين، عرفتا بدولتي السلاطين المماليك وهما المماليك البحرية والمماليك البرجية، حكمت الأولى من سنة 648-792ه، والثانية من سنة 784-923ه وكانتا تبايعان للخليفة العباسي وهو مقيم في بغداد. فلما جاء التتر وفتحوا بغداد سنة 656ه وقتلوا الخليفة (المستعصم) فر من بقي من بني العباس، والتجأوا إلى سلاطين مصر على عهد الملك الظاهر بيبرس، فاختار واحدا منهم قلده الخلافة وبايعه، وبهذا انتقت الخلافة العباسية إلى القاهرة، وظل خلفاء العباسين والبيعة لهم حتى جاء السلطان سليم الفاتح العثماني وفتح مصر سنة 923، وكان الخليفة العباسي عامئذ المتوكل على الله آخر خلفائهم، فبايع للسلطان سليم وسلم إليه الآثار النبوية، فانتقلت الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين من ذلك الحين.
العصر المغولي أو التتري
انحلال الدولة الإسلامية
من قيام جنكيزخان سنة 603ه، حتى وفاة تيمور لنك سنة 807ه
قد رأيت فيما تقدم أن الدولة العباسية، لما فسدت أحكامها وضعف شأن خلفائها واستبد بها جندها وخدمها، ضعفت علاقة أطراف مملكتها بدار الخلافة، فتفرعت إلى فروع بعضها فارسي وبعضها تركي أو كردي والبعض الآخر عربي، وكلها تبايع للخليفة العباسي في بغداد، حتى نشأت الدولة الفاطمية في المغرب وخلافتها علوية، ففتحت مصر ونازعت الدولة العباسية على الشام وغيرها، ثم أصابها ما أصاب تلك فمالت إلى الشيخوخة مثلها، ولكنها انقرضت قبلها على يد صلاح الدين الأيوبي، وعادت مصر إلى مبايعة العباسيين.
على أن الخلافة العباسية كانت يومئذ قد بلغت منتهى الضعف، واستبد السلاجقة بمملكتها في الشام والعراق وفارس وما وراء النهر حينا، ثم اقتسمها مماليكهم الأتابكة كما تقدم.
فانقضى القرن السادس للهجرة والمملكة الإسلامية قد تولاها الضعف والانقسام، ولا سيما في المشرق بمن تنازع على سلطتها من الأتراك قواد السلاجقة ومماليكهم، وأهمهم الخوارزمية في خراسان وتركستان، والخلافة العباسية قد تناهت في الضعف وبلغت الهرم، حتى أشرفت على الانحلال، وإنما استبقاها أصحاب الأطراف ليستعينوا بها على تأييد سلطانهم بالبيعة، وأصبحت مملكتهم الواسعة تتنازعها ثلاث أمم، كأنهم اقتسموها فيما بينهم، وهم: (أ)
الأتراك السلاجقة وقوادهم في المشرق. (ب)
والأكراد الأيوبية في مصر والشام. (ج)
والبربر في المغرب والأندلس (الموحدون).
وقد ذهبت دولة العرب ذهابا تاما إلا إمارات صغيرة بقيت في اليمن ونحوها. وهذه الدول على اختلاف أجناسها وأطوارها مجمعة على مبايعة الخليفة العباسي في بغداد على ضعفه وانحلال دولته، ولكنها تختصم على الاستئثار بالسلطة في العالم الإسلامي.
فلما رأى أعداء الدولة الإسلامية المحيطون بها ضعفها وانقسامها عمدوا إلى الانتقام منها، فأغاروا عليها من الشمال والغرب والشرق وكل منهم يريد اغتيالها. فهاجمها الكرج والأرمن واللان من الشمال هجوم الغزاة للسلب والنهب، حتى إنهم كثيرا ما كانوا يدخلونها بعشرات الألوف فيكتسحون أذربيجان وما جاورها، يقتلون وينهبون ويعودون بالأسرى والسبايا والغنائم، وكانت سبايا المسلمين تزيد أحيانا عن عدة آلاف غير القتلى
1 - كما كان العرب يفعلون في أوائل دولتهم. على أنهم لم يستطيعوا فتحا ولا رسخت لهم قدم في مملكة الإسلام.
وهجم عليها من الغرب أمم الإفرنج الصليبيين هجوم الفتح، وقد تكاتفوا لاكتساح المملكة الإسلامية بحجة الدين؛ لأن القبر المقدس فيها، ففتحوا فلسطين وبعض سوريا وملكوا بيت المقدس حينا، ولو اجتمعت كلمتهم لافتتحوا ما وراء ذلك، ولكنهم انقسموا على أنفسهم وجاءهم صلاح الدين الأيوبي ببسالته ودهائه وتدبيره، فغلبهم على ما في أيديهم وأخرجهم من بيت المقدس سنة 583ه، فضعف أمرهم وأخذ المسلمون يستعيدون البلاد منهم شيئا فشيئا، حتى أزالوهم من الشام تماما على أيام الناصر قلاوون.
أما من الشرق فجاءها التتر أو المغول بقبائلهم وبطونهم، وهم في خشونة البداوة وقوة الأبدان، وقد توفقوا إلى رجل شديد البطش وهو جنكيزخان القائد الشهير، فحمل بهم من أواسط آسيا على العالم المتمدن في أوائل القرن السابع للهجرة، وليس للمسلمين يومئذ رجل مثل صلاح الدين، فدوخ جنكيزخان مملكة الإسلام من أقصى أطرافها الشرقية إلى حدود العراق، غير ما افتتحه من بلاد الهند والصين حتى بلغت مساحة مملكته 400000 ميل مربع.
المغول
المغول أو المغل قبيلة من التتر كانت تقيم حوالي بحيرة بيقال (أو بيكال) في جنوبي سيبيريا، وتاريخهم القديم سقيم؛ لأنهم لم يظهروا إلا بظهور جنكيز خان في أوائل القرن السابع للهجرة، وكانوا قبله مثل سائر القبائل الرحل، يعيشون بالغزو والنهب والصيد والقنص في تلك البلاد البعيدة عن التمدن، وقد كفوا الناس خيرهم وشرهم ولا شأن لهم بين الأمم؛ لأنهم كانوا لا يزيدون على 40000 خيمة، فإذا حسبنا في الخيمة عشر أنفس لم يزد عددهم على 400000 نفس، فلما كانت أيام جنكيزخان حمل بهذا العدد القليل من بدو المغول على ما يحيط ببلادهم من الممالك العامرة واكتسحوها في بضعة عشر عاما، كما خرج بدو العرب في أول الإسلام وافتتحوا مملكتي الروم وفارس في نحو تلك المدة. وفي الحالين كان النصر للبداوة على الحضارة؛ لأن المسلمين كانوا في أيام جنكيزخان قد تحضروا وانغمسوا في الترف وانقسموا على أنفسهم، كما كان الروم والفرس عند ظهور الإسلام - والتاريخ يعيد نفسه. (1) جنكيزخان
كان والد جنكيزخان أميرا على 13 قبيلة من المغول، تحت رعاية الخان الأكبر ملك التتر بعهود متبادلة بينهما، ولد جنكيزخان سنة 548 فسموه تموجين وهو اسمه الذي كان يعرف به في نشأته الأولى. وبعد أربع عشرة سنة توفي أبوه فاستخف رؤساء القبائل بتموجين وتمردوا عليه، وأصبح كل منهم يطالب بالسيادة لنفسه. وكان تموجين شديد البطش من حداثته، فجمع رجاله وحارب الثائرين وتغلب عليهم. وهذه أول وقائعه فهابه الناس، على أنه لم يستغن عن استنجاد الخان الأعظم، فأنجده وأكرمه وثبته في إمارة أبيه وزوجه ابنته.
وكان تموجين قد شب على ظهور الخيل وتعلم رمي النشاب، وضرب السيف وأتقن الفروسية بسائر فروعها، وكان قوي البدن شجاعا صبورا على التعب والجوع والعطش والبرد والألم، وعود رجاله على ذلك فاجتمعت كلمتهم على نصرته وانقادوا لأمره .
ولما علت منزلة تموجين عند الخان هاجت عوامل الحسد في أعضاء أسرته وغيرهم من رجال الدولة، وكان تموجين قد أغرى الخان بأولئك الأمراء فضيق الخان عليهم، فأوعرت صدورهم فثاروا عليه وشقوا عصا الطاعة وحاربوه وغلبوه، فاستنجد تموجين فأنجده وأعاده إلى كرسيه ومثل بأعدائه، حتى ألقى سبعين رجلا منهم في الماء الغالي وهم أحياء.
فلما ظفر تموجين وأظهر القسوة والشدة خافه حموه وحسده، وأدرك تموجين ذلك فسعى في إصلاح ما بينهما بالحسنى فلم ينجح، فعزم على محاربته فتحاربا فانتصر تموجين فخافه الأمراء وحسدوه وحاربوه وكان الفوز له، فتولى عرش المغول.
وحارب تموجين بعد ذلك حروبا فاز فيها، فازداد أمراؤه تعلقا به، واحتفلوا بتهنئته احتفالا عظيما في سهل على ضفاف سلنكا، فاجتمع الأمراء والخانات فوقف فيهم خطيبا وكان قوي العارضة فأبدع. ثم جلس على لبادة سوداء فرشوها له هناك، وأصبحت تلك اللبادة أثرا مقدسا عندهم من ذلك الحين. ثم وقف بعض الحضور وكان من أهل التقوى والنفوذ فقال: «مهما بلغ من قرتك فإنها من الله، وهو سيأخذ بيدك ويشد أزرك. فإذا فرطت في سلطانك صرت أسود مثل هذه اللبادة، ونبذك رجالك نبذ النواة». وفي هذا القول من حرية البداوة والجرأة مثل ما يروونه عن جرأة العرب على خلفائهم وأمرائهم في صدر الإسلام. ثم تقدم سبعة أمراء أنهضوه باحترام، وساروا بين يديه حتى أقعدوه على عرشه، ونادوا باسمه ملكا على المغول، وكان في جملة الحضور شيخ يعتقدون فيه الكرامة والقداسة، فتقدم وليس عليه كساء وقال: «يا إخوتي، قد رأيت في منامي كأن رب السماء على عرشه الناري تحدق به الأرواح، وقد أخذ في محاكمة أهل الأرض، فحكم بأن يكون العالم كله لمولانا تموجين، وأن يسمى جنكيزخان أي: الملك العام». ثم التفت إلى تموجين وقال: «لبيك أيها الملك، فإنك تدعى منذ الآن جنكيزخان بأمر الإله». ولم يعد يعرف بعد ذلك إلا بهذا الاسم.
فلما تهيأ له تأسيس دولته وتدريب جنده، عمد إلى فتح العالم فسار أولا نحو الشرق إلى مملكة الصين، وكان لإمبراطور الصين جزية على المغول يؤدونها كل سنة، فلما استفحل أمر جنكيزخان أبى الدفع، ومعنى ذلك الإباء إشهار الحرب. فحمل جنكيزخان بجيشه على الصين واخترق سورها العظيم، وأمعن فيها قتلا ونهبا، والصينيون يومئذ أسبق الأمم في الاختراعات الحربية، فاستخدموا النار اليونانية التي استعان بها اليونان على دفع العرب، وقذفوا على المغول كرات فيها البارود قبل أن يعرفه أهل الغرب بأزمان، على أن ذلك لم يكن ليرد غارات تلك القبائل، فما زال جنكيزخان زاحفا حتى احتل بكين عاصمة الصين وسائر بلادها الشمالية. فازداد ذلك الفاتح رغبة وقوة، فتحول بجنده الجرار نحو الغرب أي: غربي بلاده وهي مملكة الإسلام.
وكانت المملكة الإسلامية بما وصفناه من الضعف والاختلال، وقد انقسمت إلى عدة ممالك كردية وتركية وفارسية، وأقربها من بلاد المغول المملكة الخوارزمية من السلاجقة والأتراك، وسلطانها يومئذ علاء الدين خوارزمشاه، وكانت سلطة علاء الدين قد امتدت في أواخر أيامها على معظم العراق العجمي وسجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وفارس وما وراء النهر وقسم من أفغانستان وبعض الهند. وكانت قصبة تلك الدولة مدينة خوارزم، ومنها سمي سلطانها «خوارزم شاه»، فحمل جنكيزخان نحو الغرب وجنده يزيد على 700000 مقاتل، واكتسح تركستان وما وراءها، وأوغل فيها قتلا ونهبا مما تقشعر له الأبدان.
ومما حمله على ارتكاب الفظائع، أنه لما وصل بجنده إلى تركستان سير جماعة من التجار الأتراك ومعهم الذهب إلى سمرقند وبخارى من بلاد ما وراء النهر (تركستان)؛ ليشتروا له ثيابا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك اسمها أترار وهي آخر مملكة خوارزمشاه مما يلي بلاد جنكيزخان، وكان لخوارزمشاه هناك نائب، فلما جاءته هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزمشاه يعلمه بوصولهم ويذكر ما معهم من الأموال، فبعث خوارزمشاه يأمر بقتلهم وأخذ ما معهم وإنفاذه إليه. فقتلهم وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا ففرقه خوارزمشاه في تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم. وعذره في هذه المعاملة أن المغول كانوا قد غزوا كاشغار وبلاساغون وغيرهما من تركستان، وصاروا يحاربون عساكره؛ فلذلك منع الميرة عنهم.
فلما قتل نائب خوارزمشاه أصحاب جنكيزخان، حمي غضبه وجمع من الرجال فوق ما كان عنده وحمل على مملكة الإسلام، وكتب إلى علاء الدين خوارزمشاه يقول: «تقتلون أصحابي وتأخذون أموالهم؟ تهيأوا للحرب. فإني قادم إليكم بجمع لا قبل لكم به». فلما قرأ خوارزمشاه الرسالة قتل الرسول وأمر بحلق لحى الجماعة، وأعادهم إلى جنكيزخان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له: «إن خوارزمشاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا، حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك» - فاستخف خوارزمشاه بالمغول كما استخف هرقل بالعرب إذ جاءته كتبهم في أوائل الإسلام.
وقد فعل جنكيزخان كما قال تماما، فزحف بعساكره على المملكة الإسلامية، فدوخوها من بلاد تركستان فما وراءها غربا، وهم ينتقلون من مدينة إلى أخرى يفتكون وينهبون ويحرقون ويهدمون، لا يخلفون وراءهم إلا الأطلال البالية مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسان. وهنا يفترق بدو المغول عن بدو العرب، فإن هؤلاء أبقوا على البلاد التي فتحوها وأمنوا أهلها وجعلوهم في ذمتهم، واقتبسوا تمدنهم وبنوا عليه تمدنا من عند أنفسهم. وأما المغول فلم يكن همهم غير القتل والنهب كالوحوش الكاسرة، وليس هنا محل الإفاضة في سيرة هذا الرجل.
1
وإنما يقال بالإجمال: إنه تمكن في حياته من إنشاء مملكة لم يتوفق لمثلها أحد من الفاتحين قبله ولا بعده، لا الإسكندر المقدوني ولا يوليوس قيصر الروماني ولا نادرشاه الفارسي ولا نابليون بونابرت الفرنسي - أنشأ مملكة تمتد من البحر المحيط إلى البحر الأسود، ودخل في سلطانه ملايين من الصينيين والتنكوت والأفغان والهنود والفرس والأتراك غيرهم.
أنشأ جنكيزخان هذه المملكة الواسعة وهو لا يعرف الكتابة ولا القراءة، وكذلك معظم رجاله، فاستعان في وضع الشرائع والنظام بمن دخل في سلطانه من المسلمين ورعاياهم، كما استعان العرب في إنشاء دولتهم أول الإسلام بالفرس والروم وغيرهم، وقد توفي جنكيزخان سنة 624ه وهو في السادسة والسبعين من عمره بعد أن حكم 22 سنة.
وبعد وفاته اقتسم أولاده مملكته على عادة المغول في هذه الحالة، باعتبار أن البلاد ملكه فيورثها لأعقابه فيقتسمونها كما يقتسمون سائر أمواله، فانقسمت مملكة المغول بعده إلى أربعة فروع تفرقت في أولاده الأربعة، ثم تفرع كل منها إلى غير فرع مما يطول شرحه، فنكتفي بذكر ما يهمنا منها:
إن أولاد جنكيزخان الذي أفضت الحكومة إليهم أربعة: أقطاي وطلوي وجوجي وجقطاي، فانقسمت المملكة فيما بينهم على ما يأتي، ويعرف ملوكها بالخاقانات وهم: (1)
دولة أقطاي في زنقاريا وغيرها من سنة 603-1043ه. (2)
دولة طلوي في بلاد المغول من سنة 654-750ه. (3)
دولة جوجي في بلاد القفجاق وغيرها من سنة 621-907ه. (4)
دولة جقطاي في ما وراء النهر من سنة 624-760ه.
فالدولة الأولى (أقطاي) كانت لها السيادة العظمى، وأول ملوكها جنكيزخان نفسه ولا يهمنا تاريخها في هذا المقام. أما الدولة الثانية فيهمنا من فروعها فرع له شأن في تاريخ الإسلام، نعني به فرع «هولاكو» وهو ابن طولوي بن جنكيزخان، تولى بعض المقاطعات في مملكة أبيه واستقل بها وملك فارس سنة 654ه، وعرفت دولته فيها بدولة إيلخان أو مغول الفرس، وكان في بلاد فارس بقايا مملكة خوارزمشاه فضمها إليه، وأقدم على ما لم يقدم عليه أحد من أسلافه - وذلك أنه لما استقر له الملك في فارس حمل على بغداد. (2) هولاكو وسقوط بغداد
والسبب في ذلك أن المنافسات بين السنة والشيعة ببغداد تكررت في أواخر الدولة، فلا تمضي سنة لا يقع فيها بين الطائفتين قتال تتوسط الحكومة في إصلاحه، وبما أن الحكومة سنية فالضغط كان يقع غالبا على الشيعة، كانوا يقيمون معا في الكرخ ببغداد وهم صابرون على ما يكابدونه من الاضطهاد، والحكومة مع ذلك توليهم مصالحها وتعهد إليهم بتدبير شؤونها. وكان الخليفة في أيام هولاكو المستعصم بالله، تولى الخلافة سنة 640ه، وكان ضعيف الرأي ووزيره رجل من الشيعة اسمه مؤيد الدين بن العلقمي ذو دهاء ومكر. فاتفق وقوع فتنة بين السنة والشيعة على جاري العادة. وكان لتخليفه ولد اسمه أبو بكر شديد العصبية على الشيعة، فاستعان بقائد الجند (الدوادار)، وأمر العسكر أن يفتكوا بالشيعة، فهجموا على الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي ولم يعد يستطيع صبرا، فكتب إلى هولاكو سرا وأطمعه في ملك بغداد، وأرسل إليه أخاه ليحرضه على القدوم، فزحف هولاكو على بغداد بجيش عظيم، فلما علم الخليفة المستعصم بقدومهم، بعث الداودار فيمن بقي ببغداد من الجند وهم لا يزيدون على 20000 مقاتل، فالتقى الجيشان على مرحلتين من بغداد فانهزم عسكر الخليفة وتشتت.
أما هولاكو فأقبل حتى نزل الجانب الشرقي من بغداد، وأرسل قائدا من قواده نزل الجانب الغربي قبالة دار الخلافة، والمستعصم لا يعلم بما دبره ابن العلقمي، فأنفذه لمخابرة هولاكو بشأن الصلح، فكمل مكيدته وعاد وقال للخليفة: «إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر». وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه في جمع من أكابر أصحابه، فأنزلهم في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل، فاجتمع هناك جميع سادات بغداد، فلما اجتمعوا أمر هولاكو بقتلهم فقتلوا، ثم بذلوا السيف في بغداد، وهجموا على دار الخلافة وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف، إلا الأطفال فأخذوهم في جملة الأسرى والسبي. ودام القتل والنهب في دار السلام أربعين يوما، ثم نودي بالأمان ودخلت بغداد في سلطة هولاكو سنة 656ه، وذهبت الخلافة العباسية من العراق على يد الشيعة العلوية، كما كان يخاف ذهابها المنصور والمهدي والرشيد، وقد نكبوا وزراءهم وقوادهم خوفا من ذلك. على أن الخلافة العباسية لم تنقرض تماما، بل انتقل من بقي من العباسيين بعد مذبحة هولاكو إلى مصر، وأقاموا في ظل السلاطين المماليك كما تقدم.
أما هولاكو فلما ملك عاصمة الإسلام في ذلك العهد طمع في فتح ما وراءها، فحمل على الشام وكانت في حوزة السلاطين المماليك بعد الدولة الأيوبية فردوه عنها، فقنع بما دخل في حوزته، وقد امتدت مملكته من الهند إلى الشام وأورثها لأولاده، فانقضت دولته ولم يتم عليها القرن «654-750ه»، وانقسمت إلى ولايات صغيرة ما زالت في اضطراب وتضعضع حتى أخضعها تيمور لنك. (3) تيمور لنك
ينسب هذا القائد العظيم إلى دولة جنكيزخان. وليس هو من نسله ولكنه من عائلته، وكان جده وزيرا جقطاي بن جنكيزخان . ولد تيمور سنة 736ه، ولما ترعرع تولى بعض الأعمال في دولة أقطاي في ما وراء النهر، ثم ترقى إلى رتبة الوزارة فطمع في الملك، فغلب على ملكه محمود وحمل على العالم كما حمل جنكيزخان قبله، ففتح بلاد فارس بعد حروب كثيرة سفكت فيها دماء غزيرة، ولم تمض سبع سنوات حتى دوخ خراسان وجرجان ومازندران وسجستان وأفغانستان وفارس وأذربيجان وكردستان، ثم جاء العراق فاستخرج بغداد من الجيلارية وكانوا قد تملكوها بعد هولاكو، ثم حول أعنة خيوله شرقا نحو الهند، فغزا كشمير ودلهي، وتحول غربا لفتح آسيا الصغرى وكانت في حوزة العثمانيين وسلطانهم يومئذ بايزيد، فبلغ تيمور لنك في فتوحه إلى أنقرة وحارب بايزيد وأسره سنة 804ه، واكتسح سائر بلاد المشرق إلى آخر حدود الشام، وبايعه سلاطين مصر على الطاعة، فتحول لمحاربة الصين، فمات في الطريق سنة 807ه، قبل أن ينظم حكومته، فذهبت فتوحه هدرا فعادت البلاد التي فتحها إلى ملوكها الأولين، وعادت الأحوال إلى ما كانت عليه قبله. على أن الدولة التيمورية طال حكمها في ما وراء النهر إلى سنة 906ه، بوفاة تيمور لنك ينقضي العصر المغولي، وبانقضائه ينقضي الدور الأول من تاريخ الإسلام.
الدور الثاني من ظهور الدولة العثمانية ولا يزال
قد رأيت أن المغول لم ينشؤوا دولة ثابتة في بلاد الإسلام، ولم يكن لهم شأن في التمدن الإسلامي، وإنما علاقتهم بهذا التمدن أنهم جاءوه والدولة الإسلامية في آخر دورها الأول، وفي منتهى التضعضع والضعف بمن حمل عليها من الإفرنج والكرج والأرمن واللان، فزادوها ضعفا وذهبوا ببقية الخلافة العباسية في بغداد، وعادوا عنها وهي تكاد تكون في حال الاحتضار، وقد تبدد شملها وليس فيها دولة حية تجمع شتاتها، على أن ذلك كان مقدورا للدولة العثمانية في العصر التركي الثاني، ولدولة شاهات الفرس في العصر الفارسي الثاني، ويتألف منهما الدور الثاني من تاريخ الإسلام. فعاد التتر عن المملكة الإسلامية في أوائل القرن التاسع للهجرة، ومصر في حوزة السلاطين المماليك يتنازعون على السلطة، ويتخاصمون على الكسب، والشام بعضها في أيدي أولئك المماليك، وبعضها في أيدي بعض أعقاب الأيوبيين، حتى يكاد يكون كل بلد مستقلا بنفسه. والعراق وبلاد الفرس وما بين النهرين يتنازع عليها الإيلخانية والجيلارية والمظفرية والقراقيونلية والتيمورية وغيرهم. وما وراء النهر وأفغانستان في سلطة المغول التيمورية، وآسيا الصغرى يتنازعها العثمانيون وبقايا السلاجقة. وسائر بلاد المشرق يختصم عليها بقايا التتر أو بقايا الأتابكة. وشمالي أفريقيا كان منقسما بين المرينية والحفصية. والأ،دلس لم يبق منها في سلطة المسلمين إلا الدولة النصرية في غرناطة. وجزيرة العرب تحكمها إمارات صغيرة تتحارب وتتعادى. وهذه الدول مع ضعفها واختلال أحوالها تجمعها خلافة أضعف منها، هي بقية الخلافة العباسية في الديار المصرية.
تلك كانت حال العالم الإسلامي من الاضطراب والتضعضع عند تغلب الدولة العثمانية، فجاءت في إبان الحاجة إليها فافتتحت القسطنطينية، وقد يئس المسلمون من فتحها بعد أن حاولوه مرارا. وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوروبا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فينا عاصمة النمسا وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ أسبانيا، فارتعدت أوروبا خوفا منهم، وفتحوا المشرق إلى العراق، ثم ساروا جنوبا غربيا حتى فتحوا الشام ومصر، وفيها بقية الدولة العباسية، فتنازل العباسيون لهم عن الخلافة كما تقدم. فامتدت مملكتهم في أيام السلطان سليمان «سنة 926-974ه» من بودابست على ضفاف الطونة إلى أسوان على ضفاف النيل، ومن الفرات بالعراق إلى مضيق جبل طارق، فاجتمع العالم الإسلامي الغربي تحت جناح الدولة العثمانية. وكان اجتماع الخلافة والسلطة فيها سببا لطول بقائها أكثر مما تقدمها من الدول الإسلامية، حتى العباسيين مع طول مدة ملكهم؛ لأن سلطتهم أصبحت بعد القرن الثالث من إنشاء دولتهم اسما بلا رسم.
ونهض الصفويون من الجهة الأخرى في بلاد فارس وبين النهرين، فأنشأوا دولة شيعية كبرى، ثم انتقلت إلى الدولة الفاجارية وجمعت البلاد الشيعية كما جمعت الدولة العثمانية البلاد السنية.
مقدمة
نظام الاجتماع في المملكة الإسلامية
طبقات الناس قبل الإسلام
نظام الاجتماع في العصر العباسي
الآداب الاجتماعية
آداب العرب في الجاهلية
آداب العرب في صدر الإسلام
حضارة الدولة الإسلامية
عمارة المدن والقصور
الثروة والرخاء ونتائجهما
أبهة الدولة
مقدمة
نظام الاجتماع في المملكة الإسلامية
طبقات الناس قبل الإسلام
نظام الاجتماع في العصر العباسي
الآداب الاجتماعية
آداب العرب في الجاهلية
آداب العرب في صدر الإسلام
حضارة الدولة الإسلامية
عمارة المدن والقصور
الثروة والرخاء ونتائجهما
أبهة الدولة
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الخامس)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الخامس)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
هذا الجزء الخامس من تاريخ التمدن الإسلامي هو آخر أجزاء الكتاب، فنحمد الله لأننا وفقنا إلى إتمام هذا العمل الشاق، مع ما يعتوره من العقبات ويحتاج إليه من إعمال الفكرة والمراجعة لما توخيناه فيه من التحقيق والتدقيق، ولا سيما بعد أن عمدنا إلى ذكر المراجع في هوامش الصفحات، مع الإشارة إلى الكتاب والجزء والصفحة من كل منها، ولا يخفى ما يقتضيه ذلك من التيقظ والتعب في ضبطه والتوفيق بين أجزائه، ولكنه أعاننا من الجهة الأخرى على الإيجاز في بعض الأماكن، اكتفاء بالإشارة إلى خلاصة الموضوع وإحالة القارئ في استيفائه إلى المصدر الأصلي لئلا يخرجنا إيراده إلى التطويل.
على أن كثرة الموضوعات وتعدد فروعها وتداخلها، قد حملنا أحيانا على إيراد بعض النصوص في جزء مع ورودها في جزء آخر قبله، وإنما فعلنا ذلك رغبة في استيفاء الأدلة وإحكام البرهان، وبتنسيق المقدمات ونتائجها وتفاديا من إرجاع القارئ إلى بعض الأجزاء السابقة، وإن كنا لم نعمد إلى هذا التكرار إلا عند الضرورة؛ لأن وجهتنا الأولى في كتابتنا إنما هي بسط العبارة وإيضاح الموضوع، حتى ينجلي للقارئ كأنه مجسم، على أننا كثيرا ما أحلنا المطالع إلى مراجعة ما سبق ذكره في أماكنه.
والجزء الذي نحن بصدده أكثر سائر الأجزاء طلاوة وأقربها إلى أفهام المطالعين على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم؛ لأنه يبحث في مثل ما ألفوه من العادات والآداب مما تلذ مطالعته وتتوق النفس إلى معرفته، من الأبحاث الاجتماعية والموضوعات العمرانية والأحوال العائلية، مما يريده الناس عادة بقولهم «حضارة» أو «مدنية»، وهو في الحقيقة بعض ظواهرهما على ما تبين لك في الأجزاء السابقة.
فموضوعات هذا الجزء سهلة على المطالع، ولكنها شاقة على المؤلف، لخلو كتب القوم من أمثالها على الأسلوب الذي تطلبناه في هذا الكتاب، ولو بحثت فيما كتبه أسلافنا في التاريخ والأدب والعلم وغيرها، ما رأيت لأحدهم فصلا ولا جملة ولا فقرة في نظام الاجتماع مثلا أو طبقات الناس أو الآداب الاجتماعية أو الحضارة أو الأبهة، إلا ما قد يرد عرضا في أثناء النوادر أو الحكم أو التراجم أو الوقائع مما استعنا به في الاستدلال على بعض الحقائق المذكورة.
وأبحاث هذا الجزء تنتظم في أربعة أبواب كبرى: (1)
نظام الاجتماع. (2)
الآداب الاجتماعية. (3)
حضارة المملكة. (4)
أبهة الدولة.
فنظام الاجتماع أساسه طبقات الناس، ولذلك قدمنا الكلام بفصول في طبقاتهم قبل الإسلام في جزيرة العرب وما يحدق بها من البلاد العامرة في الشام والعراق ومصر وفارس وإفريقية، ثم طبقاتهم بعد الإسلام وما طرأ عليها من التغيير في أيام الراشدين فالأمويين فالعباسيين، وبسطنا الكلام في نظام الاجتماع في العصر العباسي، فقسمنا الناس إلى طبقتين كبيرتين: الخاصة والعامة، وجعلنا الخاصة أربع طبقات: الخليفة، وأهله، وأهل دولته، وأرباب البيوتات، وأضفنا إلى الخاصة طوائف من الناس يصح إلحاقهم بها سميانهم «أتباع الخاصة» وهم: الجند، والأعوان، والخدم، ويدخل في طائفة الخدم: العبيد، والجواري، والخصيان، وبينا ما كانت عليه كل طبقة أو طائفة في عهد ذلك التمدن.
وجعلنا العامة طبقتين كبيرتين: الأولى المقربون وهم فئة من العامة سمت بهم قرائحهم أو هممهم إلى اللحاق بالخاصة، كأصحاب الفنون الجميلة وأهل الأدب والشعر والغناء وأرباب التجارات الثمينة والصناعات العليا ... وذكر ما كان يكتسبه هؤلاء من الأموال المتدفقة من خزائن الدولة، وأما الطبقة الثانية من العامة فهم معظم الأمة، وينقسمون إلى فئتين: الأولى أهل القرى وهم السواد الأعظم، والثانية عامة أهل المدن وهم أكثر سكانها، ويتعاطون الصناعات اليدوية والتجارات الصغرى، وبينهم طوائف العيارين والشطار والمخنثين وغيرهم، وذكرنا تاريخ كل منها.
وأما الآداب الاجتماعية فصدرناها بتمهيد في تاريخها من زمن الجاهلية، فذكرنا مناقب البدو كالعصبية والأنفة والوفاء والسخاء والنجدة والأريحية والعفة، وكيف تسرب الفساد إلى هذه المناقب تدريجا بتقدم القوم في معارج الحضارة، وذكرنا الأسباب التي بعثت على تبديل بعضها في عصر الراشدين فالأمويين إلى العصر العباسي، وبسطنا الكلام في آداب هذا العصر بسطا وافيا؛ لأنه هو المراد بهذا الباب، فقسمنا الكلام فيه إلى فصول في العائلة ونظامها وما يتخلل ذلك من حال المرأة العربية، فبينا عفتها وأنفتها في الجاهلية وأوردنا أمثلة ممن اشتهرن فيها بالشجاعة والحزم والرأي، وكيف تبدلت أحوالها في عصر الترف بما أدخله عليها الرجل من الجواري والسراري، حتى ذهبت الغيرة ونشأ سوء الظن فحبسها وضيق عليها، وأفردنا فصلا لأسلوب الارتزاق في عهد ذلك التمدن بالسخاء المتسلسل على سنة العرب.
وجعلنا كلامنا في المعيشة العائلية فصولا في الطعام واللباس والمأوى، فأجملنا في تاريخ كل منها في أيام الجاهلية وما أحدثه فيه ذلك التمدن.
ثم أتينا إلى الباب الثالث من هذا الجزء وهو حضارة المملكة، فقسمناه إلى قسمين: أولهما العمارة أو العمران، وثانيهما الثروة والرخاء، والعمارة إما في المدن أو في القصور، فأتينا بأمثلة من عمارة أهم المدن الإسلامية، وأشهر القصور والمباني في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة وغرناطة وغيرها، أما الثروة فيدور الكلام فيها على أبحاث في ثروة الخلفاء والأمراء وما تقتضيه من التأنق في الطعام والتنعم باللباس والتزين بالأثاث والرياش والمجوهرات ونحوها ... ثم القصف وما يلابسه من التسري وعقد مجالس الغناء والشراب، ثم السخاء وقد نظرنا فيه من أيام الراشدين إلى العباسيين، وكيف تدرج القوم في مقدار الصلة ونوعها، ويتخلل ذلك فصول في الغناء وتاريخه من الوجهة الاجتماعية والأدبية، والمسكر وخلاصة أقوالهم في تحريمه وتحليله وتاريخ انتشاره وانغماس الخاصة فيه، فضلا عن العامة وما نتج عن ذلك من التهتك والإسراف والفحشاء.
أما أبهة الدولة فجعلنا مدار الكلام فيها على الخلفاء وأحوالهم، من سذاجة الراشدين وتقشفهم إلى بذخ العباسيين وأبهتهم، وقسمنا البحث في هذا العصر إلى فصول عديدة في مجالس الخلفاء ومواكبهم واحتفالاتهم وعلاقاتهم بالدول المعاصرة وملابسهم وألعابهم وملاهيهم، ويتفرع القول في مجالسهم إلى المجالس العامة ومجالس الأدب والغناء والمناظرة وغيرها، فوصفنا المجلس وفرشه ومراتب الجلاس فيه وشروط الاستئذان في الدخول والتحية وآداب المجالسة وعلامة الصرف ونحو ذلك، وقسمنا ملاهيهم إلى فصول في الصيد والسباق والكرة والصولجان ورمي البندق وارتباط السباع وغيرها.
وذيلنا هذا الجزء بجدول أسماء الكتب التي ذكرت في هوامش الأجزاء الخمسة مع اسم المؤلف وسنة نشر الكتاب ومحل طبعه، فضلا عن فهرس هذا الجزء.
وقد بذلنا الجهد في تحري الحقيقة وتوخينا الإنصاف والإخلاص بما يبلغ إليه الإمكان، فإن أحسنا فذلك قصدنا وأقصى مرادنا، وإن أسأنا فعن غير عمد منا وما العصمة إلا لله وحده.
نظام الاجتماع في المملكة الإسلامية
موضوع هذا الباب النظر في حال الهيئة الاجتماعية في إبان التمدن الإسلامي، وبيان الجماعات التي كانت تتألف منها طبقاتهم وعلاقاتهم بعضها ببعض، ولزيادة الإيضاح نمهد بالكلام عن نظام الاجتماع على عهد الروم والفرس في البلاد التي فتحها المسلمون من تينك المملكتين، وما كان من تأثير الإسلام في ذلك النظام، وكيف تدرج في الارتقاء من أيام الراشدين فالأمويين فالعباسيين، ثم نبسط القول في نظام الاجتماع في العصر العباسي.
طبقات الناس قبل الإسلام
ويقسم الكلام في ذلك إلى وصف طبقات الناس: (1)
في الشام والعراق. (2)
في مصر. (3)
في إفريقيا. (4)
في بلاد فارس. (5)
في جزيرة العرب. (1) طبقات الناس في الشام والعراق
نريد بهذين البلدين ما بين دجلة في الشمال الشرقي وآخر حدود الشام في الجنوب الغربي، وسكان هذه البقعة أكثر أمم الأرض اختلاطا في أجناسهم وأديانهم وآدابهم لكثرة الدول التي توالت عليها من أقدم أزمنة التاريخ، وللعلماء أبحاث طويلة وآراء متضاربة في أحوالهم لا محل لها ولا فائدة منها، وخلاصة ما يستخرج من أبحاثهم أن أقدم من عرف من أهل تلك البلاد بطون من الساميين، وكانت مساكن القبائل السامية تمتد من دجلة عند ما بين النهرين شمالا شرقيا إلى سواحل سوريا حتى العريش فالبحر الأحمر غربا، وشواطئ اليمن وحضرموت جنوبا، فخليج فارس وبحر عمان شرقا، وهي عبارة عن بلاد ما بين النهرين والعراق وسوريا وفلسطين وجزيرة سينا وجزيرة العرب.
والساميون ثلاثة فروع كبرى: (1)
الآراميون، وهم القبائل السامية الشمالية، كانت مواطنهم فيما بين النهرين والعراق وسوريا إلا قسما من شواطئها. (2)
العبرانيون، وهم القبائل السامية الوسطى، وموطنهم في فلسطين وشواطئ سوريا. (3)
العرب، وهم القبائل السامية الجنوبية، ومقامهم في جزيرة العرب وما يليها من بادية الشام والعراق وجزيرة سينا. (1-1) الآراميون
فالآراميون كانت لغتهم فرعا من اللغة السامية يعرف باللغة الآرامية، وانقسموا بتوالي الأجيال إلى أمم اشتهرت في التاريخ، أهمها أمة السريان فيما بين النهرين والعراق، والكلدان في أعالي سوريا، وانقسمت اللغة بهذا الاعتبار إلى الفرعين السرياني والكلداني.
والعبرانيون يراد بهم أبناء إبراهيم عليه السلام، وقد استقروا في فلسطين نحو القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ويلحق بهم الفينيقيون وكانوا يتكلمون لغة تشبه العبرانية.
وأما العرب فكانوا يتفاهمون بلغة من اللغات السامية هي العربية، ومن فروعها أو أخواتها الحميرية والحبشية، وأقرب القبائل العربية إلى الشام الأنباط، وكان لهم شأن في أثناء تسلط الرومان على الشام سيأتي ذكره.
فما بين النهرين والعراق والشام وفلسطين كانت في أقدم أزمنة التاريخ مأهولة بشعوب سامية تتقارب نسبا ولغة، أما قبل نزول الساميين فكانت مقاما لأمم لا يعرف أصلها، وكان الساميون أقوى منهم فغلبوهم على بلادهم واستقروا فيها، وأخذ أولئك في الانقراض قبل الميلاد بعدة قرون، وهاك ترتيب مساكن الساميين هناك من الشمال إلى الجنوب: السريان، فالكلدان، فالفينيقيون، فالعبرانيون، فالأنباط، وخالطتهم أمم شتى غير سامية، أقامت بين أظهرهم في بقاع مختلفة من بلادهم ، غير بقايا الشعوب الأصلية مما يطول بيانه، ولكن الساميين تغلبوا عليهم جميعا وعاشت أديانهم وآدابهم وعاداتهم.
على أن مركز هذه البلاد الجغرافي جعلها عرضة لمطامع الفاتحين من الأمم القديمة، كالحثيين والآشوريين والفرس، فكانوا يتناوبون فتحها أو اكتساحها وتتقاطر شعوبهم إليها، ولكن الأمر لم يستقم لدولة من هذه الدول في سوريا كما استقام لليونانيين خلفاء الإسكندر، فإن هذا القائد العظيم فتح هذه البلاد في القرن الرابع قبل الميلاد، وأوغل فيها وغرس في نواحيها بذور الحضارة الإغريقية، وقد اختلطت هذه العناصر الإغريقية بعناصر الحضارات الأصلية في هذه البلاد ونشأ عن ذلك ما يعرف بالحضارة الشبيهة بالهيلينية
Hellenistic ، وتوافد إليها اليونان وأقاموا فيها واختلطوا بأهلها ولا سيما بعد ظهور النصرانية وهي في سلطة الرومان، ولكن العنصر اليوناني ما زال متغلبا عليها، وأكثر تغلبه على سواحل بحر الروم، ويضعف شأنه في الداخل تدريجا.
ومع ذلك الاختلاط ظلت الشعوب السامية محافظة على آدابها وعاداتها ولغاتها، ولا سيما اليهود فإنهم مع ما أصابهم من الاضطهاد والسبي ظلوا من حيث الآداب والدين على نحو ما كانوا عليه في أيام داود وسليمان، إلا ما أصاب لغتهم من التغيير في أثناء السبي ببابل، فإنها اختلطت بالسريانية والكلدانية وعرفت باللغة الآرامية أو الكلدانية، وبها كتبوا التلمود وانقسموا إلى اليهود والسامريين، أما من بقي من الشعوب السامية ولا سيما السريان فتنصروا وانفردوا بآدابهم وعاداتهم، وأكثرهم كانوا يقيمون في العراق وما بين النهرين وأعالي سوريا إلى فلسطين. (1-2) الأنباط
فكانت حدود الشام الغربية على سواحل بحر الروم يغلب عليها العنصر اليوناني، وحدودها الشرقية مما يلي البادية يغلب عليها العنصر العربي، وكان هناك في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد أمة عربية عرفت بالأنباط أو النبط، كان مقامهم وراء فلسطين غربا جنوبيا على أنقاض الأدوميين، في بقعة تمتد من جزيرة سينا إلى حوران، تعرف بالبلاد العربية الصخرية
Arabia petraea ، ولا تزال آثار مدينة بطرا باقية إلى الآن وفيها الأبنية المنقوشة والتماثيل المنحوتة ونحوها، حاربهم الروم سنة 312ق.م بقيادة انتيجونوس وكان الأنباط عشرة آلاف مقاتل، وذكر ديودورس أنهم يجتنبون الزراعة رغبة في الرحلة، ويعيشون على اللحوم والألبان ويحرمون الخمر تحت طائلة القتل، وإنما شرابهم الماء يحلونه بالمن وهو كثير عندهم، وكانوا يتجرون بالمر والأطياب يحملونها من شواطئ البحر الأحمر وبلاد العرب، وبالحمر أو القار يحملونه من البحر الميت إلى مصر ليستخدمه المصريون في التحنيط، وكانت طرق التجارة بين مصر وسائر المشرق لا تسلك إلا على يدهم، وإلا فإنهم يهاجمون القوافل وينهبون التجار، ثم تغلب عليهم البطالسة وقهروهم، فتباعدوا عن حدود مصر ونزلوا حوران، ونبغ منهم في القرن الأول قبل الميلاد ملك يسميه اليونانيون اريتاس (الحارث) حارب عامل دمشق وغلبه على مدينته واستولى عليها وعلى ملحقاتها تحت رعاية الرومانيين نيفا وأربعين سنة، ثم صار الأنباط حلفاء الرومان في القرن الأول للميلاد، وامتدت شوكتهم في أثناء ذلك إلى جزيرة العرب مما يلي سواحل البحر الأحمر.
وظلت مدينة بطرا مركزا تجاريا بين الشرق ومصر، حتى اكتشف الناس الطريق من القصير إلى قفط على النيل فأخذت بطرا في التقهقر، وكان الأنباط قد تحضروا فذهبت خشونتهم وعجزوا عن الغزو والحرب وركنوا إلى الزراعة وأووا إلى المنازل وانغمسوا في الترف، فجاءهم تراجان الروماني سنة 105م فحاربهم وأخضعهم وأذلهم فذهبت عصبيتهم وانحلت قواهم وأخلدوا إلى الدعة، واختلطوا بأهل البلاد الأصليين من السريان أو الآراميين، وانتشروا على حدود سوريا وفلسطين مما يلي البادية بين جزيرة سينا والفرات، ولم تقم لهم قائمة من ذلك الحين.
ولما جاء المسلمون لفتح الشام وجدوا بقايا هذه الأمة هناك يتكلمون اللغة الآرامية أو السريانية، لغة أهل العراق وما بين النهرين، فحسبوا الأنباط والعراقيين أمة واحدة فأطلقوا عليهم جميعا اسم «الأنباط»، والذي اتفق عليه المحققون أن أنباط بطرا وما يليها عرب، وإنما تكلموا الآرامية على أثر اختلاطهم بأهل الشام والعراق بعد ذهاب دولتهم، ويظن علماء التوراة أن النبطيين ينسبون إلى نباطوط من آباء التوراة.
ولما ضعف الأنباط ظهر مكانهم على حدود الشام والعراق أجيال جديدة من العرب، اتخذهم الروم والفرس حلفاء يردون عنهم غارات إخوانهم أهل البادية، أو ينصرونهم في الحروب التي كانت تنشب بين تينك الدولتين قبيل الإسلام، فأقام حلفاء الروم في جهات حوران وهم الغساسنة، وأقام حلفاء الفرس على شاطئ الفرات في الحيرة وهم المناذرة، فإذا انتشبت حرب بين الروم والفرس تجند الغساسنة للروم والمناذرة للفرس، ودافع كل منهما عن أصحابه، فكانوا مع بداوتهم وسذاجتهم عونا قويا لهاتين الدولتين الضخمتين ينصرون إحداهما على الأخرى، ولنحو هذا السبب أقام العرب على الحدود بين الفرس والروم فيما بين النهرين والعراق، وفيهم بطون من إياد وربيعة ولخم وتنوخ.
فسكان الشام والعراق عند ظهور الإسلام كان معظمهم من بقايا الآراميين الأصليين، وهم السريان في الشمال والشرق، واليهود والسامريون في الجنوب، وبقايا الأنباط في الغرب، يليهم العرب الغساسنة والمناذرة ثم قبائل إياد وربيعة بين النهرين، ويتخلل هذا المجموع شتات من أمم أخرى كالجراجمة في جبل اللكام
1
والجرامقة في الموصل
2
وأخلاط من مولدي اليونان والرومان على الشواطئ، ومولدي الفرس والأكراد في الشمال، وكانت جامعة الدين قد غلبت على جامعة النسب أو الجنس أو اللغة، فأصبحت الطوائف تنتسب إلى مذاهبها الدينية، كالنصارى واليهود والسامريين، وينقسم النصارى إلى ملكيين ويعاقبة ونساطرة وموارنة وغيرهم، وكانت الديانة والسياسة مرتبطتين إحداهما بالأخرى، والحزب الديني عبارة عن حزب سياسي يستخدم في تأييد الدولة، فالكنيسة القسطنطينية كانت أم كنائس المشرق، وشعوب هذه الكنائس تنقاد إلى تلك الكنيسة لتأييد سلطة القيصر صاحب العرش فيها، والكلام في تفصيل ذلك يطول. (1-3) نظام الاجتماع في الشام والعراق
أما موقف الأهالي من الحكومة فكان على غير المألوف بيننا، لبعد النسبة بين الحاكم والمحكوم في تلك الأيام، ولا سيما في البلاد التي يحكمها الغرباء البعيدون عن أهلها لغة أو دينا أو جنسا. فالرومان كانوا يعدون البلاد وأهلها ملكا لهم يتصرفون فيهم كيف شاءوا، وكان الفلاحون في كثير من البلاد يعدون من توابع العقار، فينتقل العقار من مالك إلى آخر، وفلاحوه معه يسمونهم
serfs
أي الأقنان (جمع قن)، إلا الذين تسمو بهم هممهم إلى التقرب من رجال الدولة بالصناعة أو الأدب أو التجارة وهم قليلون. فكان الناس طبقتين: طبقة الخاصة وهم الملك وأهله وأعوانه ورجال الدين ومن جرى مجراهم، والعامة أهل البلاد الأصليون وأكثرهم الفلاحون أو الأكرة.
فخاصة أهل الشام في العصر الروماني حكامها وهم البطارقة، والبطريق غير البطريرك. وكان البطارقة عند الرومانيين جماعة من أشراف المملكة الرومانية، نشأوا مع مدينة روما وكان لهم نفوذ عظيم في الدولة الرومانية، وانحط شأنهم بعد انقسامها ولم يبق لهم عمل، فلما امتدت سطوة الروم إلى المشرق رأوا تلك البلاد البعيدة لا يستطيع الحكم فيها وإخضاع أهلها إلا أهل السطوة والهيبة، فعهدوا بذلك إلى البطارقة وولوهم المستعمرات الشرقية وفي جملتها الشام ومصر، وكانت الشام ولاية واحدة تقسم إلى 11 إقليما، على كل إقليم بطريق معه الجند كأنه حاكم مستقل،
3
وكانت حدود الشام بالنظر إلى الحكومة تنتهي من الشمال الشرقي إلى الفرات، ولا يدخل العراق وما بين النهرين فيها، وإنما جعلناهما في كلامنا عن الأهالي؛ لأنهم وأهل الشام من أصل واحد كما رأيت. (2) طبقات الناس في مصر
إن سكان مصر أقل اختلاطا بغيرهم من سكان الشام والعراق، ومع ذلك فقد توالت الهجرة إلى مصر من أقدم أزمنة التاريخ قبل زمن الفراعنة.
والفراعنة أكثرهم من الفاتحين الغرباء، فكانوا إذا فتحوا مصر واستقام الأمر فيها هاجر إليها أهل عصبيتهم لاستثمار ذلك الفتح، فيأتون على أن تكون إقامتهم وقتية ريثما يجتمع لهم المال، ولكن أكثرهم لا يرجعون ولا تمضي بضعة أجيال حتى يختلطوا بالسكان ويصيروا جزءا منهم، كما حدث في زمن الرعاة والفرس واليونان والرومان وغيرهم ممن فتحوا مصر قبل الإسلام، والغالب في الفاتحين أنهم لا يزالون يميزون عصبيتهم على عصبية سائر رعاياهم، حتى ينتقل الأمر من أيديهم إلى فاتح آخر فتتناسى عصبيتهم ويندمجون في جملة الوطنيين، ناهيك بمن يأتي مصر للاتجار أو الاستثمار لاشتهارها بالخصب والرخاء.
وكان الفاتحون يترفعون غالبا عن الاختلاط بسائر أفراد الأمة، فيكون منهم الجند ورجال الدولة والكهنة ونحوهم من أهل السيادة، ويجعلون مقامهم في المدن الكبرى ويبقى الشعب للفلاحة والصناعة والخدمة، فالبطالسة حكموا مصر نحو 300 سنة، وتقاطر اليونان في أيامهم بكثرة، وكانوا يقيمون في الإسكندرية أو غيرها من العواصم، وأكثرهم من الجند أو التجار أو رجال الدولة لإدارة الحكومة، وكذلك كان شأن الرومان، فإنهم تولوا وادي النيل ستة قرون، والروماني يجتهد في أن يميز نفسه عن المصري لغة ومذهبا وخلقا، وكانوا يقيمون في المعاقل والحصون أو المدن الكبرى كما كان حالهم في الشام.
فلما ظهر الإسلام كان سكان مصر طبقتين: (1)
الرومان أو الروم، وعاصمتهم الإسكندرية ومنهم رجال الدولة والأجناد وبعض رجال الدين. (2)
الأهالي وهم الأقباط الأصليون، يخالطهم بعض المولدين من اليونان والرومان وغيرهم من النازحين للتجارة أو الخدمة أو غيرهما، من أهل الشام واليمن والعراق والنوبة وإفريقية، وكان بين الحكومة والأهالي فاصل آخر مذهبي، فكان الروم على مذهب الملك وهم الملكيون، والأقباط على مذهب يعقوب البردعي وهم يعاقبه. (3) طبقات الناس في إفريقية
يريد العرب بإفريقية البلاد الواقعة في شمال إفريقيا، حيث الآن تونس وطرابلس والجزائر ومراكش، وهي في الأصل مستعمرة سامية لبعض النازحين من فينيقية قبل الميلاد بعدة قرون، بنوا فيها مدينة قرطاجة أو قرطجنة وأنشأوا دولة تعتبر شرقية باعتبار أصلها وإن كانت غربية في موقعها؛ لأن أهلها ساميون ولغتها من أخوات اللغة العربية، وقد حارب القرطجنيون الرومانيين ونازعوهم على السيادة، فقطعوا إليهم البحار وجبال الألب حتى حاصروا روما وكادوا يذهبون بدولتها، ولو فعلوا ذلك لتغير وجه الأرض عما نعرفه، ولكنهم أخفقوا فرجعوا ثم ارتد عليهم الرومان وحاربوهم في بلادهم حتى أفنوهم وخربوا مدينتهم، وتوالى على قرطاجة بعدهم أمم شتى كالرومان والوندال وغيرهم.
أما أهل البلاد الأصليون فقد كان معظمهم قبل القرطجنيين أقواما من الجنس البربري يعتصمون بالجبال دأبهم النهب والغزو، ولما ذهب القرطجنيون وخلفهم الرومان وجدوا أهل تلك البلاد طبقتين؛ إحداهما: حضرية تتوطن السواحل فيما هو الآن مراكش والجزائر وتونس يتعاطون التجارة والصناعة، والأخرى: تسكن الجبال والبادية، فسموا الأولى الموريتانيين والثانية النوميديين، وكان النوميديون من القبائل الرحل الأشداء فلم تقو الدولة الرومانية على إذلالهم، بل كانوا كثيرا ما يهاجمون حاميتها في المدن ويعودون إلى جبالهم، ذلك كان شأنهم مع من فتح إفريقية بعد الرومان ، وما زالوا على ذلك حتى جاء المسلمون وفتحوا إفريقية وأهلها طبقتان: الأولى أهل المدن وهم الموريتانيون ومن اختلط بهم من الأمم الفاتحة كالروم والوندال وقد اعتنقوا النصرانية وتحضروا، والثانية النوميديون وهم لا يزالون على بداوتهم وظلوا ممتنعين في جبالهم إلى أواخر القرن الأول للهجرة، وهم الذين يسميهم العرب قبائل البربر على ما هو مدون في كتبهم، ولهم شأن كبير في تاريخ الإسلام. (4) طبقات الناس في بلاد فارس
نريد ببلاد فارس ما بين دجلة في الغرب الجنوبي ونهر جيحون في الشرق الشمالي، ويدخل فيها خوزستان وكرمان ومكران وبلاد الجبال وخراسان وأذربيجان وأرمينيا وغيرها، وهي تحوي شعوبا شتى من أمم مختلفة لا يمكن حصرها وتمييزها بعد أن طال العهد عليها، ولكنها تمتاز على أي حال عما يجاورها من سكان العراق والشام وامتيازا كليا في الجنس واللغة والدين: أما الجنس فسكان بلاد فارس أكثرهم من الجنس الآري وهو غير الجنس السامي الذي عمر الشام وما وراءها كما تقدم، أما اللغة فالفارسية من اللغات الآرية أخوات لغات أوربا وهي غير اللغات السامية، وأما الدين فالمذهب الذي كان شائعا في تلك البلاد قبل الإسلام هو الزردشتية أو المجوسية في حين أن ديانة أهل العراق والشام كانت النصرانية واليهودية.
وتوالى على بلاد فارس دول كثيرة حتى فتحها الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد، فلما مات واقتسم المملكة قواده لم يستطيعوا استبقاء تلك البلاد في حوزتهم، فاقتسمها أمراؤها وهم المعروفون بملوك الطوائف، حتى قام أردشير بن ساسان سنة 224م فجمع كلمتها بالسيف وتوالى عليها أهله إلى ظهور الإسلام، وهي الدولة الساسانية.
فلما ظهر الإسلام كان سكان تلك المملكة طبقتين: العامة والخاصة، أما العامة فأهل البلاد الأصليون ومنهم الفلاحون والصناع والخدم وغيرهم من نتاج الاختلاط قرونا بين القبائل الآرية وبعض القبائل الطورانية من الأتراك والديلم، وكانوا يسمون عند ظهور الإسلام «الطاجية»، ولا يعرف أصل هذه اللفظة تماما،
4
ولكنهم يريدون بها طبقة العامة، والطاجية ضخام الأجسام أقوياء الأبدان.
وأما الخاصة فالملك وأهله ورجال دولته ورجال الدين والأشراف من بقايا الدول السالفة، فبعد الملك وأهله تأتي طبقة الشهارجة «شهريجان» أو السهارجة،
5
وهم أشراف السواد وأرباب الدولة كالبطارقة عند الروم، تليهم طبقة الدهاقين - وأحدهم دهقان - وينتسبون إلى الملوك القدماء من الدول السالفة، وهم أصحاب الأرض وفي أيديهم أكثر البقاع التي يستغلونها على رقاب الطاجية، والدهاقين خمس مراتب، وقد يتولون الإمارات ويتعاطون الحكومة كأمراء بخارا (بخارا خدا) فقد كانوا عند ظهور الإسلام من الدهاقين، وكذلك هرات، وقد يكون الدهقان مثل بعض العامة.
وكانت مملكة فارس - عند ظهور الإسلام - في حوزة الدولة الساسانية، تقسم إلى عمالات يتولى كل عمالة أمير يسمونه «مرزبان» وأصل معنى هذه اللفظة قائد الحدود، على أن بعض العمال كانوا يتمتعون بشيء من الاستقلال في أحكامهم، ولا سيما في الإمارات البعيدة، وكان بعضها مستقلا استقلالا تاما ويتخذ كل أمير لقبا خاصا به، مثل «رتبيل» لقب أمير سجستان، و«رنجان» لأمير سمندجان، و«جيغويه» لصاحب طخارستان، و«اصبهبذ» لصاحب بلخ، و«باذان» لمرو الروذ، «شهرك» للطالقان، و«أخشيد» لصاحب فرغانة، وقس عليه، على أن بعض الولايات، كمرو وسرخس وطوس، كان يتولاها المرازبة.
وأكبر نفوذا وسطوة من أشراف المملكة وملوكها رجال الدين وهم كهنة الزردشتية، ويسميهم المسيحيون المجوس، واسمهم عند الفرس الموبذان وأحدهم «موبذ»، وهم كالأساقفة عند النصارى، رئيسهم يسمونه «موبذ موبذان» مثل رئيس الأساقفة، وكان نفوذهم في الدولة يفوق نفوذ الملك،
6
ومنهم القضاة أو من يقوم مقامهم في الحكومة بين الناس.
وكان في بلاد الفرس جماعات تجمعهم نسبة أو صفة يقيمون في بلد أو يتنقلون في البلاد، كالأساورة والسيابجة والزلط والأحامرة ونحوهم.
7 (5) طبقات الناس عند العرب الجاهلية
قد علمت أن سكان جزيرة العرب من الشعوب السامية إخوان الآراميين والعبرانيين، ولكنهم لم يصبهم ما أصاب إخوانهم في العراق والشام من الاختلاط، لامتناع جزيرتهم على الفاتحين بما يحدق بها من البوادي التي يعسر سلوكها على الجيوش، وقد هم بها الآشوريون واليونان والروم وغيرهم ورجعوا عنها بلا طائل، حتى إذا كان القرن الخامس للميلاد فتح الأحباش قسمها الجنوبي (اليمن) وعجزوا عن الحجاز، فاستنصر اليمنيون الفرس فنصروهم وأخرجوا الأحباش وحلوا محلهم واختلطوا بأهل اليمن وعرفوا بالأبناء الأحرار.
على أن بلاد العرب كانت ملجأ النازحين من الشام أو مصر أو العراق، فرارا من ظلم أو ضغط أو امتناعا على الحكومة لسبب من الأسباب، وأكثر الأمم نزوحا إليها اليهود، لكثرة ما قاسوه من الاضطهاد منذ خروجهم من مصر إلى أن اضطهدهم الروم في عهد طيطس وغيره، وهاجر إليها كثيرون من اليونان والرومان والفرس والهنود والأحباش وغيرهم بلا حرب ولا اضطهاد، ومع ذلك فإن العرب ظلوا مستقلين بأنسابهم وعاداتهم وآدابهم، ويقسمون باعتبار النسب أو الوطن إلى: قحطانية أو يمنية، وعدنانية أو حجازية، وانقسمت لغتهم بهذا الاعتبار إلى حميرية ومضرية، وقد فصلنا طبقات العرب وقبائلهم وحلفاءهم ومواليهم وعبيدهم في الجزء الرابع من هذا الكتاب. (6) نظام الاجتماع في عصر الراشدين
بينا في الجزء الرابع ما أحدثه الإسلام من التغيير في العصبية العربية، وما تولد به من الطبقات الجديدة التي لم تكن قبل الإسلام، كالمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل القادسية، وما اقتضاه النسب الهاشمي أو القرشي من العصبيات الجديدة، ومنهم طبقات الأشراف من العلويين أو العباسيين وأبناء الأنصار والمهاجرين، على ما وضعه عمر في ديوانه من مراتب العطاء باعتبار تلك الطبقات
8
وما يلحق بذلك من طبقات التابعين وتابعي التابعين والانتساب إلى مشاهير الصحابة كآل الزبير وآل أبي بكر وغير ذلك مما اقتضاه الإسلام والفتوح، فتولد من ذلك بيوتات إسلامية غير البيوتات العربية التي كانت قبل الإسلام.
وعندما سار العرب لفتح الشام والعراق كان أول من لقيهم على حدودها العرب أبناء لغتهم وأهل عصبيتهم، ولما أوغلوا في هذين البلدين استأنس أهلوها باللسان العربي لقربه من لسانهم الآرامي أو السرياني، مع بعد لسان حكامهم يومئذ الرومي أو الفارسي عنهم - فكان ذلك من جملة ما مهد لهم أسباب الفتح - أما طبقات الناس الأصلية في هذين القطرين فقلما أصابها تغير في عصر الراشدين؛ لأن المسلمين لم يكونوا يخالطونهم ولا يدخلون في شيء من أحوالهم الإدارية أو الدينية أو السياسية، وإنما كان همهم اقتضاء الجزية والخراج وحماية من دخل في ذمتهم من أهل الكتاب، فكانوا يقيمون في مضاربهم أو معاقلهم بضاحية البلد المفتوح بما يشبه الاحتلال العسكري - إلا من دخل في حوزتهم من الأرقاء بالأسر أو السبي ومن أعتقوه فصار من الموالي - وهناك طبقة جديدة نشأت بانتشار الإسلام خارج جزيرة العرب، وهم المسلمون من غير العرب، ولهم شروط وأحوال تخالف ما للعرب على ما بيناه في الجزء الرابع. (7) نظام الاجتماع في عصر الأمويين
كانت قصبة الإسلام على عهد الراشدين في المدينة بجوار قبر النبي
صلى الله عليه وسلم ، فنقلها الأمويون إلى الشام قرب البلاد المفتوحة، وعملوا على توسيع دائرة مملكتهم، فجردوا الجيوش وفتحوا المدن حتى وطئت حوافر خيولهم ما وراء النهر في أقصى الشرق ... وركبوا بحر المجاز (مضيق جبل طارق)، إلى إسبانيا ففتحوها وما وراءها من بلاد الإفرنج إلى منتصف غالة وهي ما يعرف الآن بفرنسا، ونصبوا أعلامهم على أعظم مدائن الفرس والترك والروم والإسبان والإفرنج، وهددوا القسطنطينية، وحولوا الاحتلال المؤقت إلى السيادة الدائمة، وأقاموا دولة الإسلام في هذه الأقطار وأيدوها بنقل دواوين الحكومة في الشام ومصر والعراق من اليونانية والقبطية والفارسية إلى العربية، وبعد أن كانت تلك الدواوين يتولاها أهل البلاد غير المسلمين جعلوها في أيدي المسلمين، وضربوا النقود العربية فاستعاضوا بها عن نقود الروم والفرس، ونقشوا عليها الآيات القرآنية بدلا من الصور والرموز، ونقلوا طراز الدولة من اليونانية أو الفارسية إلى العربية، فآل ذلك كله إلى انتشار العرب في الأرض وسيادة العنصر العربي ونشر اللغة العربية.
وقد استمسك العرب بعصبيتهم خلال العصر الأول الذي تلا الفتح، وفرقوا بين أنفسهم وبين الموالي تفرقة واضحة، وانقسموا هم أنفسهم إلى قحطانيين وعدنانيين، وظل العرب في أيامهم على بداوتهم بما كانوا يتوخونه من المحافظة على خشونة الجاهلية وسذاجتها وآدابها.
فطبقات الناس في العصر الأموي تقدمت خطوة عما كانت عليه في زمن الراشدين، فكان الناس طبقتين كبيرتين: المسلمين وغير المسلمين، والمسلمون طبقتان: العرب وغير العرب وهم الموالي، وظل غير المسلمين، وهم أهل الذمة من القبط والأنباط والروم والفرس وغيرهم ، على ما كانوا عليه قبل الإسلام، إلا من دخل منهم في خدمة المسلمين من الأطباء والكتاب والمترجمين؛ فقد نشأت منهم طبقة جديدة من أهل الذمة لم تكن قبل الإسلام، هذا إلى ما حدث في أثناء الفتوح الأموية والحروب الأهلية من انتقال بعض الطوائف والجماعات من بلد إلى آخر، كانتقال السيابجة والزط إلى سواحل الشام في أيام معاوية، ونقل الحجاج لجماعة من زط السند إلى العراق وإسكانه إياهم بأسافل كسكر، وسبى عبيد الله بن زياد خلقا من أهل بخارا وإنزاله إياهم البصرة، ولما بنى الحجاج مدينة واسط نقل كثيرا منهم إليها فأقاموا فيها وتناسلوا
9
فضلا عمن كانوا يصطحبونهم أحيانا في حملاتهم البعيدة للفتح أو الغزو، فقد يكون في الحملة جماعات من البرابرة والأنباط والأقباط والجرامقة والجراجمة
10
فهؤلاء إذا فتحوا بلدا أقاموا فيه وتناسلوا واختلطوا بأهله.
وبالجملة فإن الهيئة الاجتماعية في أيام الأمويين كانت في بدء انتقالها من حالها القديمة في عصر الروم والفرس إلى حالها الجديد الذي ستكون عليه في العصر الإسلامي، ولم يتم ذلك الانتقال وتتكيف هذه الهيئة الاجتماعية بشكلها الخاص بالإسلام والتمدن الإسلامي إلا في العصر العباسي، لترفع الأمويين عن الاختلاط بغير العرب ورغبتهم في البقاء على البداوة، ومع إيغال جنودهم في بلاد فارس وخراسان وتركستان ومصر والمغرب والأندلس، فإنهم قلما اختلطوا بأهلها أو اقتبسوا منهم أو قلدوهم في شيء من عاداتهم وأخلاقهم، إلا ما اتخذوه من الحرس والبريد والسرير على ما يأتي بيانه، أما العباسيون فنظرا لتغلبهم بالموالي على الأمويين فقد جعلوا مقامهم بين أشياعهم الفرس، فبنوا بغداد على الحدود بين الفرس والسريان، أو بين الآريين والساميين، أو بين المجوس والنصارى، وقربوا الفرس واتخذوا منهم الوزراء والعمال ورجال الدولة، فنظموا لهم الدواوين على نحو ما كانت عليه في الدولة الساسانية.
هوامش
نظام الاجتماع في العصر العباسي
كل ما قدمناه من الكلام على طبقات الناس في العصور السالفة إنما هو تمهيد للكلام عن العصر العباسي، عندما نضج التمدن الإسلامي وتكيفت طبقاته على شكل خاص بهذا التمدن، وكان على أتم أشكاله في مدينة بغداد قصبة العالم الإسلامي، فهي أوضح أنموذج يمثل به نظام الاجتماع في ذلك العصر.
كان الناس في العصر العباسي طبقتين: الخاصة والعامة، تحت كل منهما طبقات وأتباع وفروع سيأتي تفصيلها: (1) طبقات الخاصة
كان الخاصة خمس طبقات: (1)
الخليفة. (2)
أهله. (3)
رجال دولته. (4)
أرباب البيوتات. (5)
توابع الخاصة.
فالخليفة صاحب السلطتين الدينية والسياسية
1
فأحر بمن كان هذا منصبه أن يعظم الناس شأنه، ويتقربوا إليه بالطاعة وبذل الخدمة والتزلف بالمدح والإطراء، وسيأتي الكلام على الخلفاء ومجالسهم ومواكبهم والآداب المتبعة في مخاطبتهم وغير ذلك في باب أبهة الدولة من هذا الجزء.
وأهل الخليفة هم بنو هاشم، وكانوا أرفع الناس قدرا بعده ويسمونهم الأشراف وأبناء الملوك،
2
فإذا دخلوا على الخليفة جلسوا على الكرسي، وسائر الناس دونهم على الوسائد أو البسط، إلا هو فإنه يجلس على السرير، وكانوا يرتزقون على الغالب برواتب يقتضونها من بيت المال، فضلا عما ينالونه من النعم والهدايا بحسب ما يتراءى للخليفة في أمرهم، فإذا خاف تطاول أحدهم للملك أثقل يديه بالهدايا وقطع لسانه بالعطاء؛ تلك كانت سياسة العباسيين منذ تأسيس دولتهم، وكان الهاشميون في أوائلها عونا كبيرا في تأييدها، يتولون الأعمال ويقودون الجند ويعينون الخليفة بالرأي والسياسة، فلما تأيدت أصبح الخلفاء يخافون مطامع أهلهم، فأخذوا يبذلون لهم الأموال، فمن أعجزهم كف أذاه بالمال عمدوا إلى الفتك به، باشر ذلك أبو جعفر المنصور وسار الخلفاء على خطته، فكانوا يعطون أهلهم الرواتب الباهظة والهدايا الفاخرة ويسهلون عليهم أسباب القصف واللهو ليشتغلوا بذلك عن طلب الملك وتعجز هممهم عن النهوض.
فكان الهاشميون في الغالب من أهل السعة والرخاء، يتمتعون بشرف الملك ولا يحملون أوزاره وأعباء تبعته، فانغمس أكثرهم في الترف وانهمكوا في الشراب والغناء وابتنوا القصور الشماء والحدائق الغناء، واستكثروا من الجواري وجمعوا إليهم المغنين والقيان وقربوا الشعراء والأدباء، وأكثر مقامهم في البصرة، بعيدين عن دور الخلفاء ودسائسها إلا من ولاه الخليفة عملا أو جندا، واشتهر بعضهم بالثروة الطائلة كمحمد بن سليمان، فقد بلغت أمواله نيفا وخمسين مليون درهم غير الضياع والدور، وكانت غلته 100000 درهم في اليوم،
3
وبلغت ثروة خمنة بنت عبد الرحمن الهاشمي ما لا يسعه الديوان،
4
ومع ذلك فقد كانوا يؤخذون بغير ذنبهم ويخافون الدسائس على حياتهم.
وأما رجال الدولة فنريد بهم الوزراء والكتاب والقواد ومن جرى مجراهم من أرباب المناصب العالية، وكان أكثرهم في إبان الدولة العباسية من الموالي وخصوصا الفرس، كالبرامكة وآل سهل وآل وهب وآل الفرات وآل الخصيب وآل طاهر وغيرهم، وكانوا يختلفون نفوذا وسطوة باختلاف الخلفاء وتفاوت أدوار التمدن، ولكن الوزارة كانت على الإجمال من أوسع أبواب الكسب على ما بيناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
أما أهل البيوتات فهم الأشراف من غير الهاشميين، ومرجع شرفهم إلى اتصال حبل قرباهم بالنسب النبوي أو بقريش ، وكان الخلفاء يراعون جانبهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب ويقدمونهم في مجالسهم، على أن هذه الأنساب كانت أكثر نفعا لأصحابها في عهد بني أمية منها في أيام بني العباس، ولا سيما بعد ضعف العنصر العربي بقتل الأمين، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم قطع رواتب الأشراف في جملة ما قطعه من أعطيات سائر العرب، وربما أعيد بعضها بعد ذلك على غير قياس. (2) أتباع الخاصة
وللخاصة أتباع أخرجوهم من طبقات العامة بما خصوهم به من أسباب القربى والخدمة وهم أربع طبقات: (1)
الجند (2)
الأعوان (3)
الموالي (4)
الخدم (2-1) الجند
فالجند فرق كثيرة تختلف أصلا ونظاما على ما فصلناه في الجزء الأول من هذا الكتاب، وقد يتبادر إلى الذهن قياسا على المألوف عندنا أن الجند رجال الخليفة يأتمرون بأمره، وقد يكون بعضهم كذلك، لكنهم كانوا يختلفون في ذلك العصر عما هم عليه الآن؛ لأن بعض الخاصة من الوزراء والعمال كانوا يجندون رجالا ينفقون عليهم من أموالهم، وقد يبتاعون غلمانا ويربونهم للاستعانة بهم على أعدائهم وقت الحاجة ويسمونهم بأسمائهم، وقد يذهب الوزير أو العامل وينتقل جنده إلى غيره ويبقى معروفا باسمه، فاجتمع في بغداد من الأجناد طوائف كثيرة تنتسب إلى أصحابها، كالساجية والنازوركية والبيلغية والهارونية، وفيهم الأتراك والفرس والبرابرة والأحباش والأكراد. ومن هذا القبيل الفرق العزيزية والأخشيدية والكافورية في مصر مما لا يحصى، ومن تلك الفرق ما هو من قبيل الضابطة أو نحوها كالشاكرية، أو لمجرد حماية القصور أو غير ذلك. (2-2) الأعوان
أما الأعوان فهم خاصة الرجل ورفاقه، ولا يراد بهم ما يراد بالرفاق أو الأصدقاء اليوم، فقد كان للخلفاء وسائر الخاصة من رجال الدولة والأشراف رفاق يصطحبونهم ويجالسونهم ويعيشون في منازلهم ويكون لهم رواتب يقتضونها، ومنهم طائفة الجلساء الذين يجالسون الخليفة أو الأمير، وهم غير الندماء أو الشعراء، وإنما هم رجال من أهل التعقل والثقة يختصهم الخليفة أو الأمير أو الشريف بمجالسته، فيفاوضهم في شئونه ويركن إليهم في مهامه وتكون لهم الدالة عليه، وربما كان بعضهم من مشايخ أهله أو بعض ذوي قرابته. (2-3) الموالي
وأما الموالي فقد فصلنا الكلام عنهم في الجزء الرابع من هذا الكتاب، وبينا أحوالهم وشروطهم وتاريخهم ولا حاجة إلى المزيد. (2-4) الخدم
أما الخدم فأكثرهم في ذلك العهد الأرقاء السود والبيض من الذكور والإناث، وقد اصطلحوا أن يسموا الأرقاء البيض مماليك والسود عبيدا، ويقسم الكلام في الخدم إلى ثلاثة أقسام: الأرقاء والخصيان والجواري. (أ) الأرقاء
في الجزء الرابع من هذا الكتاب فصل عن الرق في الإسلام ومصادره وأحكامه، وفصل آخر عن الخدم وطبقاتهم ونفوذهم في الدولة حتى نبغ منهم القواد والوزراء، فنأتي في هذا المقام بما يختص من هذا الموضوع بنظام الاجتماع.
قلنا فيما تقدم عن طبقات الناس قبل الإسلام: إن العامة من أهل البلاد الأصليين بالشام والعراق ومصر وفارس كانوا يئنون تحت نير الاستعباد، وبعضهم أرقاء فعلا ولا سيما الأقنان خدمة المزارع الذين كانوا ينتقلون مع العقار من مالك إلى مالك، فهؤلاء العامة جاءهم الإسلام رحمة؛ لأنهم تحولوا من الرق إلى الحرية أو إلى العهد، فمن أسلم صار حرا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن ظل على دينه دخل في ذمة المسلمين يدافعون عنه ما أدى الجزية، إلا من حاربهم وأسروه فهو ملك لهم يتصرفون به كيف شاءوا، ولكن أكثر الذين حاربوا المسلمين في صدر الإسلام من حامية البلاد وهم الجنود من الروم أو الفرس لم يكونوا من عامة أهل البلاد المظلومين، فمن دخل من الحامية في أسر المسلمين صار ملكا لهم، وكان للمسلمين بعد ذلك أن يطلقوا سراحهم أو يعتقوهم، ولكن الغالب أنهم كانوا يدخلون الإسلام ويصبحون في جملة الموالي، وقد زعم بعض أمراء بني أمية استعباد أهل البلاد المفتوحة عنوة أو اعتبار المسلمين غير العرب من الموالي، ولكن الشريعة الإسلامية لم تجز لهم ذلك، فأنكره العلماء وذوو الرأي فلم يلبث أن رجع عنه من أراده من القواد ورجال الدولة، وقد كانت تصرفات أولئك القواد والأمراء من بين الأسباب التي دفعت إلى الثورة على بني أمية، فلما قامت الدولة العباسية تلاشت هذه النزعات نهائيا.
كثرة الأسرى والأرقاء
وتكاثر الأسرى في أثناء الفتوح حتى كانوا يعدون بالألوف ويباعون بالعشرات، اعتبر ما كان من ذلك في الصدر الأول وما تبعه من الفتوح البعيدة في أيام بني أمية، فقد بلغت غنائم موسى بن نصير سنة 91ه في إفريقية 300000 رأس من السبي، فبعث خمسها إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك 60000 رأس، ولم يسمع بسبي أعظم من هذا،
5
وذكروا أن موسى هذا لما عاد من الأندلس كان معه 30000 بكر من بنات شرفاء القوط وأعيانهم،
6
وقس على ذلك غنائم قتيبة في بلاد الترك وغيرها.
وبلغت غنائم إبراهيم صاحب غزنة سنة 472ه من قلعة في الهند 100000 نفس،
7
وفي وقعة ببلاد الروم سنة 440ه بقيادة إبراهيم بن أينال سبى المسلمون 100000 رأس غير الدواب،
8
وفي جملة غنائم الحرب، فضلا عن الأسرى من الرجال، جماعات من النساء والغلمان مما يثقل نقله، فكثيرا ما كانوا يبيعونهم بالعشرات رغبة في السرعة، كما فعلوا في واقعة عمورية سنة 223ه؛ إذ نادوا على الرقيق خمسة خمسة أو عشرة عشرة، وربما بلغ ثمن الإنسان بضعة دراهم، ذكروا أنه بلغ من كثرة غنائم المسلمين في واقعة الأرك بالأندلس أن بيع الأسير فيها بدرهم والسيف بنصف درهم،
9
والبعير بخمسة دراهم، وقد يقضون عدة أشهر وهم يبيعون الأسرى والغنائم.
تلك أمثلة من أسباب تكاثر الرقيق عند المسلمين، غير ما كان يرسله بعض العمال إلى بلاط الخلفاء من الرقيق وظيفة كل سنة من تركستان
10
وبلاد البربر وغيرهما.
معاملة الأسرى
كانوا في صدر الإسلام إذا ظفروا بغنيمة تولى الأمير قسمتها على القواد، بعد إرسال الخمس إلى بيت المال، ثم اختلف ذلك مع الزمان باختلاف الدول، ففي الدولة الفاطمية بمصر كانوا إذا عاد الجند من حرب ومعهم الأسرى يصل الأسطول بالنيل إلى شاطئ القاهرة فينزلون الأسرى ويطوفون بهم القاهرة، ثم ينزلونهم في مكان كانوا يسمونه المناخ (في جهة الإسماعيلية اليوم) كان مستودعا للأسرى الذكور، فينظرون فيهم فإذا استرابوا في أحد قتلوه، ومن كان شيخا لا ينفع ضربوا عنقه وألقوا جثته في بئر كانت في خرائب مصر تعرف ببئر المنامة، ومن بقي يضاف الرجال منهم إلى من في المناخ، ويمضى بالنساء والأطفال إلى قصر الخليفة، بعد ما يعطى الوزير منهم طائفة ويفرق الباقي لخدمة المنازل، ويدفع الصغار من الأسرى إلى الأستاذين فيربونهم ويعلمونهم الكتابة والرماية ويسمونهم إذ ذاك «الترابي»، وقد يرتقي أولئك الصبيان إلى رتب الأمراء.
11
ولم يكن استخدام الأسرى على هذه الصورة خاصا بالمسلمين، بل هي عادة كانت مرعية في تلك الأعصر، فمن يقع من المسلمين في أيدي أعدائهم كان حظهم الاسترقاق حتى يفتديهم المسلمون، وكان للخلفاء عناية في فكاك الأسرى يبذلون في سبيله المال أو يعطون أسرى عندهم على سبيل المبادلة، ومن هنا نشأ ما يعرف «بالفداء» في تاريخ العلاقات بين المسلمين والروم؛ لأن الحرب كانت سجالا بينهما في البر والبحر يأسرون بعضهم بعضا، فاحتاج الجانبان إلى تنظيم عملية فداء الأسرى، فكانوا يتفقون على اللقاء في موضع معين لتبادل الأسرى، فيتبادلونهم واحدا بواحد، حتى إذا زاد عند أحدهم عدد من الأسرى افتداه الجانب الآخر بالمال، وكان الأمويون يفتدون أسراهم أحيانا وعلى قلة، النفر بعد النفر، في سواحل الشام والإسكندرية وملطية وسائر الثغور على الحدود، وأول فداء منظم وقع في أيام بني العباس على يد الرشيد كان سنة 189ه، وتوالى الفداء بعده بضع عشرة مرة في أثناء 150 سنة، وتزايدت عناية المسلمين في فكاك أسراهم حتى أصبح أهل الورع من الأغنياء يقفون المال على فكاكهم.
12
أما الروم فقلما كانوا يفتدون أسراهم بالمال، ولعل السبب في ذلك أن أولئك الأسرى يكونون في الغالب لفيفا من رعاياهم أو أجنادا من الغرباء المأجورين وليس من الروم أنفسهم، أما المسلمون فهم غالبا المهاجمون، فإذا ظفروا كانت غنائمهم من ذلك اللفيف، وإذا غلبوا فمن وقع في الأسر منهم كان من المحاربين الذين يستحقون الفداء، والرابطة القومية بين المسلمين يومئذ أشد وثوقا منها بين الروم ورعاياهم وأجنادهم، على أن المسلمين كثيرا ما كانوا يأبون المال بدل الأسرى ولا سيما في الدولة الفاطمية، ولا يعرف عن هذه الدولة أنها فادت أسيرا من الإفرنج بمال ولا بأسير مثله، فكان ذلك من جملة البواعث على زيادة الأرقاء عند المسلمين.
فهل يستغرب بعد ذلك إذا استكثر المسلمون من العبيد والمماليك فيبلغ عددهم عند بعضهم عشرة أو مائة أو ألفا؟ حتى الفقراء من عامة الجند كان أحدهم لا يخلو من عبد أو بضعة عبيد يخدمونه،
13
وكان للفارس في عصر الأيوبيين عشرة أتباع يخدمونه أو بضع عشرات إلى مائة؛
14
فكيف بالأمراء والقواد؟ حتى في صدر الإسلام، فإن الخليفة عثمان كان له ألف مملوك مع علمك بزهد الراشدين قبله،
15
فاعتبر كم يكون عددهم في أيام الثروة والترف، فقد كان الأمير في الدولة الأموية إذا سار مشى في ركابه مائة عبد أو بضع مئات أو ألف عبد،
16
وبلغ عدد غلمان رافع بن هرثمة والي خراسان سنة 289ه 4000 عبد ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله.
أصناف الأرقاء
وكانوا إذا تكاثر الأرقاء عند أحدهم وأراد استخدامهم في منزله جعل عليهم نقيبا يتولى النظر في شئونهم يسمونه الأستاذ، على أن الغالب في الغلمان إذا كثروا عند أمير أن يتخذهم جندا يحرسونه فيعلمهم الحرب والقتال، فقد كان عند الأخشيد صاحب مصر 8000 مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان، وأكثر فرق الجند عند الأمراء من غلمانهم، وأصلهم من السبي والأسرى أو يبتاعونهم بالمال لهذه الغاية كما تقدم في كلامنا عن فرق الجند، وربما بلغ ثمن المملوك ألف دينار.
أما الباقون من الأرقاء للخدمة في البيوت فيعلمونهم الصنائع اللازمة لتدبير المنزل، فمنهم الفراش والطباخ والخازن والوكيل أو النقيب والبواب والملاح والركابي وغيرهم،
17
ومنهم الوصيف والمملوك، وفيهم التركي والفارسي والبربري والزنجي والصقلبي بين مجلوب ومولد من الذكور والإناث مما لا يحصى.
وإذا زادوا عما يحتاجون إليه في الخدمة أو الحراسة أو الحماية اتخذوا الغلمان منهم زينة لمجالسهم، وكان يفعل ذلك أهل السعة واليسار ولا سيما الخلفاء، فإنهم تأنقوا في تزيينهم بأنواع اللباس المزخرفة مما لم يسبق له مثيل، وأول من أقدم على ذلك الأمين بن الرشيد فإنه بالغ في طلب الغلمان ولا سيما الخصيان، وابتاعهم وغالى فيهم وصيرهم لخلوته وزينهم زينة الجواري، ثم صار الاستكثار من الغلمان سنة عند الخلفاء فكان عند المقتدر بالله 11000 غلام أو مملوك، وفيهم البيض والسود، فالبيض من الفرس والديلم والترك والطبرية وغيرهم، والسود من النوبة والزغاوة يجلبونهم من مصر ومكة وإفريقية، والزنج أصلهم من رجال صاحب الزنج الذي ثار بالبصرة، وهم غتم قح يأكلون لحوم الناس والبهائم الميتة، وقد عوقبوا على ذلك فلم يرجعوا وكانوا منفردين لا يختلطون بالبيض، ولكل طائفة نوبة في خدمة الخليفة بين حراسة وغيرها.
18 (ب) الخصيان
الخصاء عادة شرقية كانت شائعة قديما بين الآشوريين والبابليين والمصريين القدماء، وأخذها عنهم اليونانيون ثم انتقلت إلى الرومان فالإفرنج، ويقال: إن أول من استنبطها سميراميس ملكة آشور نحو سنة 2000 قبل الميلاد، وكان المظنون أن الخصاء يذهب بقوة الرجولية، وفي التاريخ جماعة من الخصيان اشتهروا بالشجاعة والسياسة، وتولوا مناصب مهمة في أزمنة مختلفة، منهم نارسس القائد الروماني الشهير في عهد جوستنيان في القرن السادس للميلاد، وهرمياس حاكم أتارنية في ميسيا الشهير الذي قدم الفيلسوف أرسطو ذبيحة عن روحه غير ما ذكره فيه من القصائد، وممن اشتهر من الخصيان في الإسلام كافور الإخشيدي صاحب مصر، واشتهر منهم في الهند وفارس والصين جماعات كبيرة، واستبد الخصيان في أواخر الدولة الرومانية استبدادا كبيرا.
وللخصاء أغراض أشهرها استخدام الخصيان في دور النساء غيرة عليهن، فلما ظهر الإسلام وغلب الحجاب على أهله استخدموا الخصيان في دورهم، وأول من فعل ذلك يزيد بن معاوية، فاتخذ منهم حاجبا لديوانه اسمه فتح، واقتدى به غيره فشاع استخدامهم عند المسلمين، مع أن الشريعة الإسلامية أميل إلى تحريمه، على ما يؤخذ من حديث رواه ابن مظعون.
وكانت تجارة الرقيق شائعة في أوربا قبل الإسلام، ومن أسباب رواجها أن قبائل الصقالبة (الروسيين) نزلوا في أوائل أدوارهم شمالي البحر الأسود ونهر الطونة، ثم أخذوا ينزحون غربا جنوبيا نحو أواسط أوربا وهم قبائل عديدة عرفت بعدئذ بقبائل السلاف (الصقالية أو السكلاف) والصرب والبوهيم والدلماشيين وغيرهم، فاضطروا وهم نازحون أن يحاربوا الشعوب الذين في طريقهم كالسكسون والهون وغيرهم، وكان من عادات أهل تلك العصور أن يبيعوا أسراهم بيع الرقيق كما تقدم، فتألف لذلك جماعات كبيرة من التجار يحملون الأسرى عن طريق فرنسا فإسبانيا، وقد يحملونهم إلى إفريقية والشام ومصر، فلما وقعت هذه البلاد في أيدي المسلمين راجت تلك التجارة.
فكان التجار من الإفرنج وغيرهم يبتاعون الأسرى من الصقالبة والجرمان من جهات ألمانيا عند ضفاف الرين والألب وغيرهما إلى ضفاف الدانوب وشواطئ البحر الأسود - ولا يزال أهل جورجيا والجركس إلى اليوم (حوالي 1910) يبيعون أولادهم بيع السلع - فإذا عاد التجار من تلك الرحلة ساقوا الأرقاء أمامهم سوق الأغنام، وكلهم بيض البشرة على جانب عظيم من الجمال، وفيهم الذكور والإناث حتى يحطوا رحالهم في فرنسا ومنها ينقلونهم إلى إسبانيا (الأندلس) فكان المسلمون يبتاعون الذكور للخدمة أو الحرب والإناث للتسري، وغلب على أولئك الأرقاء انتسابهم إلى قبيلة السلاف، وكانت تلفظ عندهم «سكلاف» فعربها العرب «صقلبي»، وأصبح هذا اللفظ عندهم يدل على الرقيق الأبيض بالإجمال، وكثيرا ما يرد لفظ الصقالبة في تاريخ الإسلام ويراد به الأرقاء من قبائل السلاف والجرمان، وفعل الإفرنج نحو ذلك أيضا فاستخدموا هذا اللفظة لنفس هذا المعنى ومنها
esclave
في الفرنسية و
sklave
في الجرمانية و
slave
في الإنجليزية.
ولما شاع الحجاب بين المسلمين إبان سلطانهم واستخدموا الخصيان في دورهم، عمد تجار الرقيق - وأكثرهم من اليهود - إلى خصاء بعض الأرقاء وبيعهم بأثمان غالية، فراجت تلك البضاعة وكثر المشتغلون بها وأنشأوا «لاصطناع» الخصيان معامل عديدة أشهرها «معمل» الخصيان في فردان بمقاطعة اللورين في فرنسا، وكان اليهود يخصون أولئك المساكين وهم أطفال فيموت كثيرون منهم على أثر العملية، فمن بقي حيا أرسلوه إلى إسبانيا فيشتريه الكبراء بثمن كبير، وأصبحوا بتوالي الأزمان يتهادون الخصيان كما يتهادون الخيل أو الإناث أو الآنية، فكان ملوك الإفرنج إذا أرادوا التقرب من خليفة المسلمين في الأندلس أو غيرها أهدوه التحف ومن جملتها الخصيان، كما فعل أمير برشلونة وطركونة لما طلبا تجديد الصلح من المستنصر خليفة الأندلس فإنهما أهدياه 20 خصيا من الصبيان الصقالبة و20 قنطارا من صوف السمور ... إلخ، فتكاثر الخصيان في بلاط الخلفاء حتى تألفت منهم فرق الحراسة الخاصة، كما تألفت الفرق من سائر المماليك والعبيد، فإذا احتفل الخليفة ببيعة أو نحوها كان المماليك والخصيان زينة ذلك الاحتفال.
وراجت تجارة الصقالبة في إبان التمدن الإسلامي، وكل ما كان يفد على المملكة الإسلامية منهم يستجلب من الأندلس؛ لأنهم كانوا يخصون بالقرب منها، غير ما يحملونه من الصقالبة من جهات خراسان مما يسبيه الخراسانيون ويحملونه للبيع؛ لأن بلد الصقالبة طويل يسبيه الإفرنج من الغرب والخراسانيون من الشرق.
19 (ج) الجواري
تكاثرهن
للجواري شأن كبير في تاريخ التمدن الإسلامي لا يقل عن شأن العبيد والموالي، وأصل الجواري ما يسبيه الفاتحون في الحرب من النساء والبنات، فهن ملك الفاتحين ولو كن من بنات الملوك أو الدهاقين، يستخدمونهن أو يستولدونهن أو يتصرفون في بيعهن تصرف المالك بملكه،
20
ولما أفضت أحوال المسلمين إلى الترف والقصف وتدفقت الأموال من خزائن الخلفاء والأمراء جعلوا يتهادونهن كما يتهادون الحلي والجواهر، فمن أحب التقرب من كبير أهدى إليه جارية أتقنت صناعة يعلم أنه راغب فيها؛ فإذا علم مثلا أنه يحب الجمال أهداه وصيفة جميلة، أو علم منه ميلا إلى الغناء أهدى إليه قينة رخيمة الصوت، وقد يهديه عدة جوار أتقن عدة صناعات، وربما صارت إحداهن بعد حين أم ذلك المنزل وصاحبة الأمر فيه إذا استولدها سيدها، وإذا كانت في دار خليفة لا يبعد أن تصير من أمهات الخلفاء، كما اتفق لأكثر خلفاء بني العباس، ذكروا أن جارية اسمها دنانير صفراء صادقة الملاحة كانت أروى الناس للغناء القديم، وقد خرجها رجل من أهل المدينة فاشتراها جعفر البرمكي، وسمع الرشيد صوتها فألفها وصار يسير إلى جعفر لسماع غنائها ووهب لها هبات سنية، وعلمت امرأته زبيدة بخبرها فشكته إلى عمومته فلم ينجحوا في إرجاعه، فرأت أن تشغله عنها بالجواري، فأهدت إليه عشر جوار منهن مارية أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح.
21
وكثيرا ما كان العمال والأمراء يتقربون إلى الخلفاء بأمثال هذه الهدايا، فأهدى ابن طاهر إلى الخليفة المتوكل هدية فيها 200 وصيفة ووصيف،
22
فلا غرو إذا تكاثرن في قصور الخلفاء والأمراء وأهل الوجاهة، وليس الاستكثار منهن حادثا في الإسلام، وإنما هو من بقايا التمدن القديم، فقد كان ملوك الفرس والروم يتهادون وبلغت عدتهن عند بعض الأكاسرة 6000 جارية،
23
وكان لجماعة من بني العباس ألف جارية، وسيأتي بسط ذلك في مكان آخر.
أصناف الجواري
فلما تعود الناس اقتناء الجواري اشتغل النخاسون في استجلابهن من أقصى بلاد الترك والهند والكرج والخطا وأرمينيا والروم والبربر والنوبة والزنج والحبشة صغارا وكبارا، يربونهن على ما تقتضيه مواهبهن أو جمالهن، فينبغ منهن الخدم والحواضن والمواشط والولائد والمغنيات والعوادات والعالمات وأمهات الدهاء والسياسة وغير ذلك، وفيهن البيضاء والسمراء والحمراء والبربرية والزنجية، بين مولدة في البصرة أو الكوفة أو بغداد ممن يفصحن العربية، ومجلوبة من أرضها أو سبية أخيذة على حالها تتكلم التركية أو الفارسية أو الرومية أو الهندية أو البربرية، ولا تزال، ولو تعربت، أعجمية اللسان، والمولدة أثمن من الجليبة، وتختلف أثمانهن باختلاف الصناعة أو الجمال وباختلاف الغرض من ابتياعهن للتوليد أو الغناء أو الخدمة، وفي الجليبات النصرانية واليهودية والمجوسية، لكل منهن شأنها في دينها حتى يعيدن أعيادهن بما يستلزمه العيد من الزينة الدينية كالصلبان والأحجبة ونحوها؛ ذكر أحمد بن صدقة أنه دخل على المأمون في يوم الشعانين وبين يديه عشرون وصيفة جلبا روميات مزنرات قد تزين بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص والزيتون.
24
على أنهم كانوا يختصون كل صنف من الجواري بصفات خاصة، وقد صنفوا كتبا في هذا الموضوع بينوا فيها الصفات المستحسنة في كل صنف منهن، وخلاصة ذلك قولهم: من أراد النجابة فبنات فارس، ومن أراد الخدمة فبنات قيصر، ومن أراد غير ذلك فبنات بربر، والمولدات والزنجيات للزمر، والحبشيات للحفظ وخزن المال، والنوبة للطبخ، والأرمن للتربية والرضاع، ومن أقوالهم: الوجوه في الترك، والأجسام في الروم، والشعور في الخطا وفارس، والعيون في الحجاز، والخصور في اليمن،
25
وقالوا في وصف المولدات بالبصرة والكوفة: إنهن ذوات الألسن العذبة، والقدود المهفهفة، والأوساط المخصرة، والأصداغ المزرفنة، والعيون المكحلة
26
مما يطول شرحه، وكانت تجارة الجواري على أروجها في بغداد، فكانوا يحملون إليها أجملهن خلقا وأذكاهن عقلا، لما يتوقعونه من بيعهن بالأثمان الباهظة.
تعليم الجواري
وكان تعليم الجواري وتربيتهن من أبواب الكسب الواسعة في ذلك العصر، فيذهب أحدهم إلى دار الرقيق يبتاع جارية يتوسم فيها الذكاء، فيثقفها ويرويها الأشعار أو يلقنها الغناء أو يحفظها القرآن أو يعلمها الأدب أو النحو أو العروض أو فنا من فنون المنازل ثم يبيعها، وكان يفعل ذلك على الخصوص المغنون المشهورون بدقة الصناعة كإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فربما ابتاع أحدهم الجارية بمائة دينار فإذا علمها وثقفها باعها بخمسمائة أو ألف دينارا،
27
وأشهر المغنيات في المدينة والبصرة وبغداد تعلمن على هذه الصورة، وقد يربي بعضهم الجارية ويهديها إلى الخليفة أو الوزير لتكون وسيلة له في نفوذ الكلمة عنده، وقد تنبغ إحداهن في فن من الفنون الجميلة كالغناء أو الشعر أو الأدب فتبتاع بألوف الدنانير،
28
فكيف إذا أتقنت غير فن منها؟ وربما نبغت منهن من تجيد الشعر والغناء أو فنون الأدب والأخبار، فيقصدها أهل الأدب وذوو المروءة للمذاكرة والمساجلة في الشعر وغيره، وقد ينبغن في حفظ القرآن حتى كان منهن عند أم جعفر مائة جارية لكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة.
29
فتعدد الجواري في دور الكبراء وتسابق أهل الترف إلى التفنن في تزيينهن، وأشهر من فعل ذلك أم جعفر المذكورة، فإنها لما رأت ابنها يغالي في تخنيث الغلمان وإلباسهم ملابس النساء اتخذت طائفة من الجواري سمتهن المقدودات، عممت رءوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق كأنهن من الغلمان، واقتدى بها وجيهات قومها فاتخذن الجواري الغلاميات أو المطمومات وألبسنهن الأقبية والمناطق الذهب.
30
نفوذ الجواري
وطبيعي في ربات الحسن أن يكن نافذات الكلمة؛ لأن الجمال قوة والحب سلاح، ولذلك كان أرباب الدهاء من الخلفاء والأمراء يتباعدون عن الجواري، إذا أهدي إلى أحدهم جارية لم يلتفت إليها، ولا سيما مؤسسي الدول كمعاوية والمنصور وعبد الرحمن الداخل، فاشتهر المنصور بكرهه للهو، وكان عبد الرحمن إذا أهداه أحد جارية ردها،
31
وعكس ذلك خلفاء أواسط الدولة إبان الترف والقصف والرخاء، فإنهم كانوا يتمادون في حب الجواري حتى يتسلطن على عقولهم، كما فعلت حبابة بيزيد بن عبد الملك الأموي حتى كادت تذهب بعقله وشغلته عن مهام الخلافة، وكما فعلت ذات الخال بالرشيد، فإنها ملكت قياده حتى حلف يوما أنها لا تسأل شيئا في ذلك اليوم إلا قضاه لها، فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل وكتب له عهده به وشرط على ولي عهده بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته،
32
وكثيرا ما كان الخلفاء والأمراء يشتغلون بالجواري عن رعاية الملك ولا سيما المغنيات، ولذلك كان رجال الحيلة يستخدمونهن للجاسوسية أو نيل رتبة أو منصب، وكان المأمون يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء.
33
ويزداد الجواري نفوذا وسطوة إذا صرن أمهات كما صارت الخيزران وغيرها من أمهات الخلفاء، راجع الجزأين الثاني والرابع من هذا الكتاب، وسيأتي الكلام على المغنيات في باب المغنين. (3) طبقات العامة
فرغنا من طبقات الخاصة وأتباعهم، ونحن متكلمون عن العامة وهم أكثر عددا وأبعد عن الحصر؛ لأنهم لفيف من أمم شتى ولا سيما في بغداد في إبان عمارتها، وقد تقاطر إليها المرتزقون والمحترفون والمستجدون من أطراف المملكة الإسلامية، بين صانع وبائع وفيهم العربي والنبطي والفارسي والخراساني والتركي والسندي والرومي والكرجي والأرمني والكردي والقبطي والبربري والنوبي والزنجي والأندلسي وغيرهم، وفيهم أهل الحرف الراقية، وتجار السلع والأقمشة والجواهر والرقيق وباعة الطعام والشراب، فضلا عن الأدباء والشعراء والحكماء والمغنين والندماء مما يطول شرحه ويعسر حصره، على أننا تسهيلا للبحث نقسم العامة على الإجمال إلى طبقتين كبيرتين: الأولى طبقة المقربين من الخاصة، والثانية طبقة الباعة وأهل الحرف والرعاع وغيرهم. (3-1) الطبقة الأولى: المقربون من الخاصة
نريد بهذه الطبقة نخبة العامة الذين تسمو بهم نفوسهم أو عقولهم إلى التقرب من الخاصة بما يعجبهم أو يطربهم، فيستظلون بهم ويعيشون من عطاياهم أو رواتبهم أو يرتزقون من بيع سلعهم لهم، وهم أربع فئات: أهل الفنون الجميلة والأدباء والتجار والصناع. (أ) أهل الفنون الجميلة
المصورون
الفنون الجميلة - ويسميها العرب «الآداب الرفيعة» - ثلاثة: التصوير، والشعر، والموسيقى، فالتصوير لم يكن له شأن كبير في التمدن الإسلامي لورود القول بتحريمه، وإنما كانوا يصورون ما يصورونه في الدولة الأموية والعباسية يقلدون به ما بين أيديهم من تصوير الروم والفرس، أو ما جاء به السلاجقة من صناعة المغول من أواسط تركستان، على أن التصوير أزهر، وارتقى في بلاد فارس بعد اجتماع كلمة الفرس تحت سيطرة المغول على أثر فتح هولاكو بغداد سنة 656ه فإن تلك الصناعة أخذت في الارتقاء من ذلك الحين؛ لأن المغول المشار إليهم أتوا معهم بمهندسين من أهل الصين تولوا هندسة حصار بغداد، ومعهم جماعة من أرباب الفنون الجميلة والرياضيات والصناعات الدقيقة، فاستفاد الفرس منهم وأتقنوا هذه الفنون وفي جملتها التصوير ونشروه في سائر ممالك المسلمين، وزينوا به كتبهم وجدران قصورهم ومنسوجاتهم في بلاد فارس ومصر وتركستان وغيرها،
34
وفي دور الكتب الكبرى في مدائن العالم المتمدن اليوم أمثلة من هذه الصور، ملونة تلوينا بديعا أكثرها تمثل حوادث بعض كتب التاريخ أو الأدب أو العلم، وبعضها تمثل رسوما خيالية كصورة المعراج ونحوها، ففي دار الكتب بالقاهرة صور ملونة هي عبارة عن أشكال زينوا بها كتابي الشاهنامة للفردوسي وعجائب المخلوقات للقزويني وغيرهما، أما في إبان التمدن الإسلامي فلم يكن لأهل هذه الصناعة سوق عند الخاصة، إلا من اشتغل منهم بهندسة الأبنية ولا سيما في الأندلس.
الشعر والموسيقى
أما الشعر والموسيقى فقد راجا وتقرب أصحابهما من الخلفاء وسائر طبقات الخاصة واكتسبوا بهما الأموال الطائلة، وقد بينا في الجزء الثالث من هذا الكتاب ما هو الشعر العربي وما أصله، وما كان شأنه في الجاهلية وما آل إليه بعد الإسلام، من عصر الراشدين فالأمويين فالعباسيين وسائر دول الإسلام، وتحدثنا عن جمع الشعر ورواته وطبقات الشعراء في الإسلام وأشعارهم، والشعر وتأثيره في الدولة والشعر والخلفاء والأمراء وغير ذلك - وسيأتي الكلام عما كان الشعراء يصيبونه من الأموال - بقي علينا النظر في الموسيقى وأهلها وهم المغنون. (ب) المغنون
الغناء قبل الإسلام
الغناء طبيعي في الأمم؛ لأنه لغة النفوس وترجمان العواطف، وكل أمة غناؤها يناسب طبائعها وعاداتها، فالعرب في الجاهلية كانوا أهل ماشية وأنعام وخيام، فلم ينتبهوا إلى شيء من الفنون الجميلة غير الشعر، وكانوا يلهجون به ويطربون بتلاوته بلا ترنيم ولا غناء، وتلك أول خطوة نحو الموسيقى؛ لأنها بنت الشعر أو أخته.
ثم ظهر فيهم «الحداء» وهو غناء يتغناه الحداة في سوق إبلهم والفتيان في قضاء خلواتهم، ثم عمدوا إلى «الترنيم»، وكان ترنيمهم على نوعين: «الغناء» وهو ترنيم الشعر، و«التغبير» (بالغين والباء) وهو ترنيم القراءة لغير الشعر.
ثم تنوع الغناء عندهم حتى صار على ثلاثة أوجه، أو ثلاثة ألحان أو أصوات وهي: النصب والسناد والهزج، «فالنصب» يريدون به غناء الركبان وغناء الفتيان، وهو الذي يقال في المراثي، ويسمى «الغناء الجنابي» نسبة إلى رجل من قبيلة كلب اسمه جناب بن عبد الله يزعمون أن أصل الحداء منه، وهو يخرج من الطويل في العروض، و«السناد» اللحن الثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وهو على ستة طرق، منها الثقيل الأول وخفيفه والثقيل الثاني وخفيفه، وأما «الهزج» فهو الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحلوم، وشاع الغناء قبل الإسلام في أمهات المدن من بلاد العرب وهي المدينة والطائف وخيبر.»
35
أما آلات الموسيقى عندهم فأشهرها الدف، وهو أشكال منها المستدير والمربع والكبير والصغير، والمزمار على أبسط أنواعه، ولا يظهر أنهم كانوا يعرفون غير الدف والمزمار وما يتفرع عنهما من آلات النفخ والقرع، وأما آلات الأوتار كالعيدان والطنابير والمعازف ونحوها فهي من صناعة الفرس والروم، لم يعرفها العرب إلا بعد الإسلام.
الغناء في الإسلام
فلما جاء الإسلام واستولى العرب على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم والروم، كانوا في عصر الراشدين لا يزالون على بداوتهم مع غضارة الدين وشدته، مما يدعو إلى ترك أحوال الفراغ وما ليس نافعا في دين ولا معاش، حتى تركوا ما كان عندهم من أنغام الجاهلية، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر، فلما جاءهم الترف في أيام بني أمية ومن بعدهم وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وكان المغنون من الروم والفرس قد دخلوا في سلطان العرب، وحمل بعضهم إلى الحجاز في جملة الأسرى أو السبايا فأصبحوا من موالي العرب، وقد حملوا معهم العيدان والطنابير والمعازف والمزامير، فغنوا بها فأعجبوا بألحانهم فاشتغل المغنون وأكثرهم من الموالي في تلحين أشعار العرب على الألحان الفارسية أو الرومية، فنبغ في المدينة في أيام بني أمية طائفة من المغنين، والمشهور أن أول من أدخل غناء الفرس إلى العربية سعيد بن مسحج، وهو مكي أسود كان في مكة لما حاصرها الأمويون، وفيها ابن الزبير في أواخر القرن الأول للهجرة، فاستقدم ابن الزبير بعض البنائين من الفرس لترميم الكعبة، فسمعهم سعيد بن مسحج يغنون بالفارسية فالتقط النغم وغناه بالعربية، فأعجب الناس كثيرا فسافر إلى الشام وفارس فأتقن فن الغناء، وعنه أخذ من جاء بعده من مغني المدينة وغيرها، وشاع الغناء في المملكة الإسلامية وراجت بضاعته باتساع أسباب الحضارة والرخاء، وتكاثر المغنون لما شاهدوه من رغبة الخاصة في الغناء، فنبغ جماعة من مهرة الموسيقيين أتقنوا هذه الصناعة وآلاتها إتقانا حسنا، على ما بيناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وإنما يهمنا الآن النظر في تاريخ انتشار المغنين في الإسلام وما كان من منزلته ومنزلتهم.
الغناء والدين
كان الغناء في صدر الإسلام مكروها إن لم نقل محرما، واختلف الأئمة في تحريمه وتحليله كله أو بعضه، ويقال بالإجمال إن أهل الحجاز أجازوه وأهل العراق كرهوه، وحجة من أحله أن أصله الشعر الذي استحسنه النبي
صلى الله عليه وسلم
وحض عليه وندب أصحابه إليه، واستنصر به على المشركين، فقال لحسان شاعره: «شن الغارة على بني عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام.» وأكثر شعر حسان يغنى به، وحجة من حرمه أنه يسعر القلوب ويستفز العقول ويستخف الحليم ويبعث على اللهو ويحض على الطرب، وهو باطل من أصله،
36
وحلل آخرون بعض الغناء وحرموا بعضه، ولكن أهل التعقل والتقوى كانوا يكرهونه في كل حال، ولذلك لم يظهر إلا بعد عصر الراشدين، وكان معاوية بن أبي سفيان يعيب على الراغبين في الغناء، ولا سيما أهل الوجاهة والشرف، وله مع عبد الله بن جعفر حكاية تدل على أنه كان يعيب عليه استماع الغناء،
37
وإن سره اشتغال هذا وسواه من أهل النبي باللهو والطرب عن مقاومته في طلب الخلافة، بل هو كان يبذل لهم الأموال في هذا السبيل.
ولما تولى الخلافة أصحاب اللهو والقصف أخذ الغناء في الانتشار، وأول من أباحه ونشط أهله يزيد بن معاوية، ففي أيام هذا (سنة 60-64ه) ظهر الغناء في مكة واستعملت الملاهي؛ لأنه كان صاحب لهو وطرب،
38
وتفشى الغناء الجديد في الحجاز ولا سيما المدينة، وما زال محصورا فيها تقريبا حتى أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك (سنة 125-126ه) وكان صاحب شراب ولهو مع تهتك وخلاعة، فبعث إلى المدينة في استقدام المغنين إليه في دمشق
39
فأخذ الغناء في الانتشار في بلاد الإسلام من ذلك الحين.
مقاومة الخلفاء للغناء
على أن أهل التعقل من الخلفاء والأمراء كانوا لا ينفكون عن منعه جهد طاقتهم، وكان العقلاء من غير الحكام يحرضون الولاة على منعه حتى في المدينة معدن الغناء في ذلك العصر ،
40
وكثيرا ما كان أمير مكة يخرج المغنين من الحرم خوفا من افتتان الناس بغنائهم
41
وصرفهم عن أمور دينهم، ولم يكن أهل الغيرة على العرض يصبرون على سماعه، ومن أقوالهم: «المغنون رسل الغرام».
ذكروا أن سليمان بن عبد الملك كان يكره الغناء، فسمع مغنيا في عسكره فطلبه فجاءوه به فقال: «أعد ما غنيت.» فتغنى واحتفل فقال سليمان: «والله لكأنها جرجرة الفحل في الشول، وما أحسب أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه.» ثم أمر به فخصي!
42
وسليمان هو الذي أمر بخصي المخنثين في المدينة لمثل هذا السبب، قيل: إنه كان في بادية له يسمر ليلة على ظهر سطح وقد تفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءت به جارية فبينما هي تصب عليه لحظ أن ذهنها مشتغل عنه بغناء تسمعه فتجاهل، وفي الصباح ذكر الغناء ولين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا فيه وذكروا من كان يسمعه ومن يغنيه حتى توصل إلى الرجل الذي شغلت الجارية بغنائه في الأمس، فلما تحقق ذلك أقبل على القوم وقال: «هدر الجمل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة، وهدل الحمام فزافت الحمامة، وغنى الرجل فطربت المرأة!» ثم أمر به فخصي. وسأل عن الغناء أين أصله فقيل: «في المدينة بجماعة المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه.» فكتب إلى عامله هناك: «أخص من قبلك من المخنثين المغنين.» فخصاهم.
43
على أن المتهتكين من الخلفاء والأمراء لم ينكروا ما يجر إليه الغناء من أسباب اللهو، قال الوليد بن يزيد الذي ذكرنا أنه أول من استقدم المغنين إليه: «إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة ويثور على الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة وأشهى إلي من الماء البارد إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يقال!»
44
فكيف بالعقلاء وأهل الحزم ومؤسسي الدول أو معيديها مثل معاوية وهشام والمنصور وأبي مسلم، أو أهل التقوى مثل عمر بن عبد العزيز الأموي والمهتدي العباسي ؟ فقد تقدم ما عابه معاوية على عبد الله بن جعفر، أما هشام فسمع عن أشعب المضحك في المدينة فأمر كاتبه أن يكتب باستقدامه، فلما ختم الكتاب أطرق هشام طويلا ثم قال: «هشام يكتب إلى بلد رسول الله ليحمل إليه مضحك؟!» وتمثل:
إذا أنت طاوعت الهوى قادك الهوى
إلى بعض ما فيه عليك مقال
وأوقف الكتاب،
45
وأما المنصور فقد كان يعير آل الزبير بحبهم الغناء.
46
وسمع ذات يوم ضرب طنبور في داره فكسره على صاحبه، أما عمر بن عبد العزيز فبلغه أن قاضيا من قضاته استخفه الطرب من الغناء فأمر بعزله.
47
والمهتدي العباسي كان يتشبه بعمر المذكور، فلما تولى الخلافة سنة 255ه كانت الملاهي قد انتشرت في الدولة العباسية فأمر بمنع الغناء
48
وربما امتنعوا عنه إلى أجل ريثما يصفو لهم الزمان، كما فعل المأمون لما عاد من خراسان وقد أهمه تأييد خلافته، فبقي عشرين شهرا لا يسمع غناء،
49
وكذلك الأمراء العقلاء مثل خالد القسري، فإنه أمر صاحب شرطته بمنع الغناء من العراق.
50
اشتغال الخلفاء بالغناء
ولكن ذلك لم يكن ليمنع تيار الترف من مجراه الطبيعي، على ما اقتضته الحضارة في ذلك العهد، فالمسلمون لما تحضروا وأخلدوا إلى السكينة والراحة عمدوا إلى أسباب الرخاء وفي جملتها الغناء، والمرجع في ذلك إلى الخلفاء والأمراء؛ لأن الناس على دين ملوكهم ولا سيما في الحكم المطلق، فإذا أحب الخليفة الغناء أحبه رجال دولته، فراجت بضاعته وكثر المغنون والمغنيات حتى اشتغل الخلفاء وأهلهم به وتعلموا الضرب على آلاته، وأول من دونت صنعته به عمر بن عبد العزيز في أيام إمارته على الحجاز، ثم الوليد بن يزيد وله أصوات اشتهرت عندهم، واشتغل جماعة من خلفاء بني العباس بصناعة الألحان والتلحين، أشهرهم الواثق والمنتصر والمعتز والمعتمد والمعتضد، أما أبناء الخلفاء فأول من دونت صنعته فيه إبراهيم بن المهدي وأبو عيسى بن الرشيد وعبد الله بن موسى الهادي وعبد الله بن محمد الأمين وأبو عيسى بن المتوكل وعبد الله بن المعتز وغيرهم، فقس على ذلك ما كان في زمن بني أمية، ولا سيما في عصر الاضمحلال، حتى كانوا يحملون المغنين وآلاتهم في أسفارهم ولو إلى القتال، فقد وجدوا في معسكرهم لما ظفر به العباسيون بنواحي أصبهان سنة 131ه ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير.
51
فالغناء المطرب من جملة ما اقتبسه المسلمون من البلاد التي فتحوها، فاشتغلوا بنقل كتب الموسيقى من الفارسية والهندية،
52
وحملهم الترف على سماعه والولوع به، فتقرب به إليهم جماعة من العامة صار لهم مقام رفيع بين الجلساء، وسنعود إلى ذكرهم. (ج) العلماء والفقهاء والأدباء
هم طائفة من العامة تقربوا إلى الخلفاء بما يلذ لهم من سماع الأخبار والنوادر، أو النظر في علوم تلك الأيام الدينية أو اللسانية أو الأدبية أو التاريخية، ويدخل في ذلك الفقهاء والمحدثون والنحاة والأدباء من أصحاب الأخبار، كالأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء وغيرهم، وكان للخلفاء رغبة في مجالستهم وسماع أبحاثهم، فكانوا يقربونهم ويعظمون شأنهم ويجيزونهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب، على ما سنبينه في باب أبهة الدولة، وقد تكلمنا عن الفقهاء ومنزلتهم في أماكن كثيرة من هذا الكتاب.
واقتدى بالخلفاء وزراؤهم وأمراؤهم، كالبرامكة وآل الفرات فإنهم أغدقوا الأموال على هؤلاء فنشطوا العلم وأهله حتى صار العلم صناعة يرتزق بها أصحابها من الناس، ويدخل فيما تقدم المترجمون من غير المسلمين، وفيهم السريان والروم والفرس وغيرهم ممن نقل العلوم القديمة إلى اللغة العربية في العصر العباسي، فإنهم فئة من أهل الذمة قربهم الخلفاء وأكرموهم من أجل علمهم على ما فصلناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب. (د) التجار
نريد بالتجار باعة السلع الثمينة التي تقتضيها الحضارة، كالمجوهرات والمصوغات والرياش الثمين والثياب الفاخرة والآنية والرقيق، وأكثر ارتزاقهم من الخليفة وأهله وأهل دولته وسائر الخاصة من جلسائه وأعوانه، وكانوا يقيمون في بغداد والبصرة وغيرهما من المدن الإسلامية، وأكثرهم من جالية الفرس والروم وغيرهم من الأمم التي اشتهر أهلها بالعناية بهذه الطرف، كانوا يحملون إلى دار السلام أصناف التجارة للارتزاق مما يتدفق من خزائن الدولة في عصر الثروة.
فكانوا يحملون الياقوت والماس من بلاد الهند، واللؤلؤ من البحرين، والعقيق والعاج من الحبشة، والأدهان والزيوت العطرية من نيسابور، ونسيج الكتان من شيراز، وطراز الوشي والأقمشة المنسوجة من الشعر التي تصنع منها ثياب مثقالية يلبسها الخليفة ورجال الدولة، والكلل المرتفعة والستور المعلمة من القز، هذه كلها من فسا، والبسط والنخناخ والمصليات والزلالي من جهرم، والستور والمقاعد من دشت، وأحسن أصناف البسط والتكك الرفيعة والوسائد والأنماط والمقاعد من أرمينية، وكان لهم صبغ من القرمز يصبغون به الصوف لا مثيل له، والعتابي والوشي وسائر ثياب الحرير من أصفهان، والثياب المنيرة من الري، والأبريسم ومطارف القز، وطبقات الخشب من طبرستان ونيسابور، والسمور الأسود وجلود الخز وجلود الثعالب السود من بلاد الروس، والبز من بلخ، والكاغد والنوشادر والأوبار والسمور والسنجاب والثعالب من وراء النهر وكذلك المسك، ولكن أصله من بلاد التبت، والبسط والمصليات وثياب الصوف من بخارا، والديبقي من تنيس ودمياط، والستور والبسط المصرية من البهنسا، والطيالسة المقورة الرفيعة من كرمان، والحصر والقباطي والقراطيس من مصر، والمناديل الديلمية البيضاء المعلمة من قومس؛ ربما بلغ ثمن المنديل منها 2000 درهم، والمقانع القزيات من جرجان والسوس، والبرود المنيرة والصاع والأمشاط من الري، والأكسية والجوارب من قزوين، والخفآف والسمور من همدان، والزجاج والخزف من البصرة، والحصر من عبادان، والديباج والأنماط من تستر، والجلود المدبوغة من الحبشة بطريق اليمن، والمسك والكافور والعود من الصين.
أما الرقيق فأبيضه كان يحمل مما وراء النهر، وأصله من الصقالبة أو من الخزر الأتراك من بادية تركستان، وأحسنهم يربى في سمرقند وخوارزم ثم يحمل إلى بلاد الإسلام، ويحمل الرقيق الأبيض أيضا من الأندلس وفيه الجواري والغلمان، وأصلهم من سبي الإفرنج وجليقية أو من الصقالبة كما تقدم، ومن الرقيق الأبيض صنف كان يرد من خراسان غال جدا، ربما بيع الغلام منه بخمسة آلاف دينار، أما الرقيق الأسود فكل ما يحمل منه إلى بلاد الإسلام من السودان بطريق مصر أو بلاد المغرب.
وكان لهذه التجارات قوافل أو سفن تنقلها من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتبيعها في أسواق بغداد وغيرها من المدن الإسلامية، وأكثر الناس اشتغالا بنقلها في البر طائفة من التجار اليهود الراذانية كانوا يتقنون اللغات الرائجة في ذلك العصر، وهي العربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية، ويسافرون بين الأقاليم العامرة يحملون التجارات من إقليم إلى آخر
53
كما كان الفينيقيون في إبان دولتهم.
أما التجارة البحرية فأشهر أصحابها السيرافيون، فقد كانوا يحملون الجواهر والعاج والأبنوس والفلفل والصندل والعود والعنبر والكافور وسائر الأطياب والعقاقير والتوابل من الهند والصين وشواطئ إفريقيا وجزائر الهند واليمن وغيرها إلى البصرة فبغداد.
54
فكان التجار يفدون على دار السلام بهذه التجارات فيبيعونها بالأثمان الفاحشة، ويدخل في هذه الطبقة من الناس الصيارفة وأكثرهم من اليهود، وكانوا يقرضون رجال الدولة المال بالربا الفاحش، اشتهر منهم في بغداد صيارف كانت مكاسبهم موقوفة على الدولة ورجالها كآل فنخاس وآل عمران وغيرهم.
تجار المسلمين
فلما نضج التمدن الإسلامي واشتغل المسلمون أنفسهم بالتجارة لم يقصروا في شيء من شروطها، وأتقنوها علما وعملا حتى ألفوا الكتب فيها وفي الاقتصاد السياسي، وبين يدينا نسخة من كتاب «الإشارة إلى محاسن التجارة» للشيخ أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي من أهل القرن الخامس للهجرة، فيه فوائد اقتصادية لم يسبقه أحد إليها وأبحاث في معنى النقود والسلع والمال الصامت والأعراض وتحقيق أثمان الأشياء، ما لا تقل قيمته عما بلغ إليه علماء الاقتصاد في هذا العصر؛ يدل ذلك على ما بلغ إليه المسلمون من الرقي في علم التجارة، ناهيك بأهل الرحلة منهم إلى أطراف المعمورة في ذلك العصر، فقد طافوا العالم برا وبحرا من القرن الرابع للهجرة، ودونوا رحلاتهم تسهيلا لأسباب التجارة، واكتشفوا طرقا تجارية في البحر المحيط والبحر الهندي والأحمر، وفي أواسط إفريقيا وآسيا لم يسبقهم إليها أحد.
أما الأسفار التجارية فقد كانوا فيها سلاطين البحار، فمخرت سفنهم البحر الأبيض على كل شواطئه، والبحر الأحمر إلى آخره، والبحر المحيط إلى سومطرا فزنجبار إلى بلاد الكفرة، وشرقا إلى كلكتة وجزائر الهند والصين، وجنوبا إلى مدغشقر وسائر شواطئ إفريقيا الشرقية، واجتازوا بحر قزوين إلى بلاد الخزر والروس، أما برا فاخترقوا بلاد الهند وتركستان والتبت حتى نزلوا بلاد الصين، وأوغلوا في إفريقيا إلى خط الاستواء، فقربوا الأبعاد بين تلك الأصقاع المتباعدة.
فكان التجار المسلمون حوالي القرن الرابع للهجرة يجوبون الأقطار برا وبحرا، ينقلون التجارة من بلد إلى بلد، بين شواطئ فارس وسواحل إفريقيا والحبشة واليمن وسواحل الهند والصين وسائر المشرق، ويقطعون صحارى خراسان وتركستان وأرمينية وأفغانستان والهند والشام ومصر والسودان وإفريقية والأندلس في نقل أصناف التجارة، كأنهم هم وحدهم تجار الأرض، ومركز تجارة الشرق البصرة بحرا وبغداد برا، واشتهر من تجار المسلمين ممن كانوا يخترقون البحار في القرن الرابع للهجرة السيرافيون الذين تقدم ذكرهم، والعمانيون وكانت سفنهم التجارية تجوب بحار الصين والهند والزنج واليمن والقلزم، وقد عرفهم المسعودي وذكرهم في تاريخه.
55
ثروة التجار
وقد استغرقنا في الكلام على التجارة، وجملة القول أن التجارة العليا كانت من أبواب الرزق الواسعة في ذلك العصر لأصحاب المواهب التجارية ولمن يخدمهم التوفيق ويتقربون من البلاط أو بعض أهله، فظهر في عهد ذلك التمدن بيوتات تجارية جمعت الأموال حتى تجازت ثروتها الملايين من الدنانير، وفيهم جماعة من عامة الناس يوصفون بالغفلة، فخدمهم حظهم حتى ارتقوا إلى طبقة الخاصة وجمعوا الأموال الطائلة، كآل الجصاص تجار الجواهر وقد اشتهروا في العصر العباسي مثل شهرة آل روتشيلد في القرن الماضي وروكفلر الأميركي في هذا القرن، وأول من أثرى منهم الحسن بن عبد الله، وقد قص هو نفسه توصله إلى الثروة فقال: «كان بدء يساري أني كنت في دهليز أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، وكنت وكيله في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجون إليه، وما كنت أفارق الدهليز لاختصاصي به، فخرجت إلى قهرمانة لهم في بعض الأيام ومعها عقد جوهر فيه مائة حبة، لم أر قبله ولا بعده أفخر ولا أحسن منه، كل حبة منه تساوي مائة ألف دينار، وقالت: يحتاج أن تخرط هذا حتى تصغر فتجعل في آذان اللعب وفي قلائدها، فكدت أطير وأخذتها وقلت: السمع والطاعة، وخرجت في الحال مسرورا وجمعت التجار، ولم أزل أشتري كل ما قدرت عليه إلى أن جمعت مائة حبة أشكالا من النوع الذي طلبته وأرادته، وجئت عشيا وقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى انتظار وزمان، وقد خرطت اليوم ما قدرنا عليه وهو هذا، ودفعت إليها المجتمع وقلت: الباقي يخرط في أيام، فقنعت بذلك وأعجبها الحب، فخرجت وما زلت أياما في طلب الباقي حتى اجتمع، فحملته إليها، وقامت على المائة حبة بدون المائة ألف درهم، وأخذت منهم جوهرا بمائتي ألف ألف دينار، ثم لزمت دهليزهم وأخذت لي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني، وكان يلحقني من هذا أكثر مما يحصى، حتى كثرت النعمة وانتهيت إلى ما استفاض خبره.»
56
وكان لابن الجصاص بيت كبير في بغداد لبيع المجوهرات، فلما كانت النكبات والمصادرات على عهد المقتدر بالله العباسي في أوائل القرن الرابع للهجرة، كان ابن الجصاص في جملة الذين صودروا ، وسبب ذلك أن عبد الله بن المعتز لما بويع بالخلافة ثم انحل أمره وتفرق رجاله وطلبه المقتدر اختفى عند ابن الجصاص المذكور، فوشى به خادم فصادره المقتدر بالله على 16000000 دينار، وبقي له بعد مصادرته شيء كثير من الدور والقماش والأموال والضياع وغيرها، ويقال مع ذلك إنه كان أحمق أبله، فاعتبر مقدار ما كان يصل إليه التجار أهل النباهة والدهاء.
وقس على ذلك ثروة تجار الفرش والأثاث، ولا سيما في البصرة، فقد اشتهر فيها جماعة من أهل اليسار وأكثر غناهم من تجارة البحر، فقد كانت سفن بعضهم تعد بالمئات وتحمل بها التجارة إلى أنحاء العالم؛ ذكروا واحدا منهم اسمه الشريف عمر كان دخله 2500000 درهم في السنة،
57
وبلغت ثروة صاحب مراكب في البصرة 20000000 دينار.
58
ومنهم رجل اسمه أحمد بن عمار كان طحانا بالبصرة، فأصعد إلى بغداد في أيام المعتصم فاتسعت حاله حتى صار يخرج من الصدقة كل يوم مائة دينار، فإذا اعتبرتها عشر ماله كان دخله ألف دينار في اليوم، واستوزره المعتصم لأمانته ولكنه كان جاهلا.
59 (ه) الصناع
أما الصناعة فقد أخذوا منها بنصيب كبير؛ لأنهم كما برعوا بالاتجار في السلع برعوا أيضا في صناعتها، وارتقت الصناعة عندهم بتوالي الأجيال، حتى فاقوا في بعضها البلاد الأخرى وامتازوا بصناعات خاصة بهم، فهم الذين نشروا السكر في العالم، نقلوه من مواطنه في الهند إلى بلاد فارس وأنشأوا له المعامل واستخرجوا منه أصنافا لم يكن لها مثيل،
60
وهم أتقنوا صناعة الورق ونشروها في العالم، وعنهم أخذها أهل أوربا بطريق الأندلس،
61
وقد امتازت بعض مدن الأندلس بصناعات كانت تفاخر بها صناعات المشرق، فكانوا يصنعون في مرسية وشيا مذهبا في غاية الإتقان، وفيها أيضا معمل للبسط لم يكن له نظير وآخر للأسرة المرصعة، وكان في مالقة معامل للزجاج الغريب وفخار مزيج مذهب ونوع من الفسيفساء المفضضة على شكل خاص، ولهم اختراع في صناعة الزجاج يؤثرونه لهم، فذكروا أن أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة عباس بن فرناس حكيم الأندلس،
62
واخترعوا البارود للبنادق على ما بيناه في الجزء الأول من هذا الكتاب.
ولهم في الميكانيكيات صناعات حسنة كالساعة التي اشتهرت في جامع دمشق وذكرها ابن جبير في رحلته في القرن السادس للهجرة، وهاك ما قاله في وصفها على ما شاهده بعينه:
وعن يمين الخارج من باب جيرون جدار البلاط الذي أمامه غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر (أي: نحاس) وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار ودبرت تدبيرا هندسيا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر، لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار، حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطفة على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة تعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، يدير ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاع فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى ينقضي الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى مواضعها. ا.ه.
63
وقس على ذلك كثيرا من الآلات المائية وغير المائية المركبة من البكر والأكر والأنابيب والأمخال وغيرها للرفع والجر والنقل، ولهم فيها مؤلفات طوى الزمان بعضها وأكثرها مأخوذ في أصله عن اليونانية، ككتاب «الحيل الروحانية ومخانيقا الماء» لفيلون البيزنطي، وكتاب «رفع الأشياء الثقيلة» لهيرون الإسكندري نقله إلى العربية قسطا بن لوقا البعلبكي، وغيرها مما نقله الإفرنج إلى اللاتينية في نهضتهم الأخيرة، وفقدت ترجمته العربية كما فقد أصله اليوناني قبله، وفي هذه الكتب كثير من الرسوم الموضحة لحركة تلك الآلات.
64
واشتغل المسلمون في هذه الفنون وألفوا فيها الكتب من عند أنفسهم، وقد وقفنا على مؤلف خطي في الآلات الروحانية أطلعنا عليه صديقنا الشيخ شبلي النعماني العالم الهندي الشهير، وهو تأليف «رئيس الأعمال بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري» في أسباب الحيل والحركات الروحانية والآلات المتخذة للساعات المستوية والزمانية ونقل الأجسام بالأجسام من المقدمات الطبيعية - ألفه لأبي الفتح محمود بن محمد بن قزل أرسلان من آل ارتق في أواخر القرن السادس للهجرة، فيه رسوم ملونة تمثل الآلات الضاغطة والرافعة والناقلة والمتحركة حركات خفية، وبينها رسم يشبه ما وصفه ابن جبير عن ساعة دمشق - فيدل هذا وغيره على ما بلغ إليه المسلمون من إتقان فن الميكانيكيات مما يحتاج في وصفه إلى كتاب بأسره. (3-2) الطبقة الثانية من العامة
نريد بهذه الطبقة سائر من بقي من الأمة وهم السواد الأعظم، وفيهم الزارع والصانع والعيار والشاطر واللص والمخنث والصعلوك وغيرهم مما لا يحصى، ولسهولة الإحاطة بهم نقسمهم إلى قسمين: أهل القرى وهم المزارعون، وأهل المدن وهم الصناع والباعة والرعاع. (أ) المزارعون أهل القرى
فالمزارعون أو الأكرة يتألف منهم معظم سكان المملكة وهم أصل ثروتها، وأكثرهم من أهل الذمة يقيمون في القرى، إلا من أسلم منهم فينزل في المدن، وكانوا يتكلمون لغات البلاد الأصلية: السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في تركستان بما وراء النهر، وأخذ العنصر العربي يتغلب على عناصرهم، واللغة العربية تتغلب على ألسنتهم، والإسلام يتغلب على أديانهم، حتى ساد الإسلام عليهم جميعا، وعمت العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وإفريقية والسودان، وصارت تعد بلادا عربية وأكثر أهلها مسلمون، وانقرضت اللغات التي كانت منتشرة فيها إلا بقايا قليلة من السريانية في بعض القرى المتباعدة من الشام والعراق، أما شرقي دجلة بفارس وتركستان والهند فقد ساد الإسلام أيضا، وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم، ولكن ألسنة أهل البلاد ظلت حية يتفاهمون بها إلى الآن. (ب) العامة سكان المدن
هم نفر ممن يؤمون المدن من أهل المطامع وطلاب المكاسب، بالتجارة أو الجندية أو الأدب أو الشعر، وتقعد بهم نفوسهم عن اللحاق بأهل الهمم وأصحاب القرائح فيضطرون إلى احتراف ما يعيشون به مما لا يحتاج لهمة أو رأي، ولو أردنا الرجوع إلى أصول عامة بغداد مثلا لرأيناهم أخلاطا من مولدي العرب والفرس والترك والديلم والروم والنبط والأرمن والجركس والأكراد والكرج والبربر وغيرهم، ولكنهم يعدون عربا لتغلب اللغة العربية على ألسنتهم.
وعامة المدن طبقتان: الطبقة الأولى المرتزقون بالصناعة والتجارة، وهم طائفتان: (1)
الصناع أصحاب الصناعات اليدوية كالحدادين والحياكين والخياطين والحلاقين والنجارين والصيادين والخبازين والطحانين ومن جرى مجراهم. (2)
الباعة الذين يبيعون البقل واللحم وغيرهما من أصناف المأكولات على أنواعها وبعض المنسوجات والسلع الصغيرة، وهم طوائف كثيرة كالزياتين والبقالين والجزارين وباعة الأقمشة والطحين والخضر ونحوها.
والطبقة الثانية رعاع يرتزقون من النهب واللصوصية، وهم أصناف كثيرة نشأت في بلاد الإسلام على أثر الفتن والانشقاق بين أهل الدولة لا يستطيع أهل هذا الجيل تصور أمثالهم لبعد ذلك عن مألوفهم، إلا الذين أدركوا متشردي بيروت المعروفين بالزعران، وهم طائفة من أهل البطالة كانوا يحترفون السرقة والتحرش بأبناء السبيل، والزعران مثال صغير لرعاع ذلك العصر، فقد كان في بغداد وغيرها من مدن الإسلام طوائف كثيرة تعرف بالعيارين والشطار والصعاليك والزواقيل ونحوهم، كثيرا ما استفحل أمر بعضهم حتى تعجز الحكومة عنهم وقد تستنجدهم في بعض حروبها.
والسبب في ظهورهم اضطراب الدولة العباسية بعد عصرها الأول، بمن دخل فيها من المفسدين منذ حجر على الخلفاء واستولى الأجناد على مصالح الدولة وجعلوا همهم جمع المال لأنفسهم والتنازع على السلطة كما بيناه في الأجزاء الماضية، ولا سيما الجزء الرابع، ولا يخفى ما تجر إليه الفتن من وقوف الأعمال وغلاء الأسعار، غير ما كان يرتكبه الحكام أنفسهم من خزن الأقوات، فتقل أرزاق العامة فيعمدون إلى التعدي ويؤلفون عصابات لمناوأة أصحاب الأموال من التجار وغيرهم في المدن، ولا سيما بغداد أم المدائن الإسلامية في ذلك العهد، فكان الرعاع يتكاثرون ويزدادون تعديا، والحكام في شغل عنهم والخسارة معظمها على الأهالي، وتوالى ذلك أعواما حتى خربت مدينة السلام وأم حضارة الإسلام، ولا يمكن الإلمام بكل طوائف الرعاع فنذكر أشهرها:
العيارون
ظهور العيارين ببغداد في أواخر القرن الثاني للهجرة، وكان لهم في الفتنة بين الأمين والمأمون شأن كبير؛ لأن الأمين لما حوصر في تلك المدينة وعجز جنده عن الدفاع استنجد العيارين، وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم المآزر وقد اتخذوا لرءوسهم دواخل من الخوص سموها الخود ودرقا من الخوص والبواري قد قرنت وحشيت بالحصى والرمل، ونظموهم نظام الجند على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة من المركوب على مقدار ما تحت يده، ومعهم أناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصدف والأحمر والأصفر ومقاود ولجما من مكانس ومذاب، وبلغ عددهم يومئذ خمسين ألف عيار
65
وساروا للحرب يضربون الأعداء بالمقلاع والحصى، وكانوا أهل مهارة في ذلك فأبلوا بلاء حسنا، لكنهم لم يثبتوا أمام المجانيق والجنود المنظمة، فعادت العائدة عليهم وقتل منهم خلق كثير، وفيهم يقول الشاعر:
خرجت هذه الحروب رجالا
لا لقحطان ولا لنزار
معشر في جواشن الحصر يعدو
ن إلى الحرب كالليوث الضواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأب
طال عاروا في القنا للفرار
واحد منهم يشد على الفي
ن عريان ما له من إزار
ويقول الفتى إذا طعن الطع
نة خذها من الفتى العيار
وحدث نحو ذلك من العيارين في حرب المستعين والمعتز سنة 251ه إذ حصر المستعين بالله ببغداد نحو حصار الأمين فيها، فاستعان بالعيارين وفرض لهم الأموال وجعل عليهم عريفا اسمه يبنونه وعمل لهم تراسا من البواري المقيرة وأعطاهم المخالي ليجعلوا فيها الأحجار، على أنهم كانوا كلما حدثت فتنة أهلية اغتنموا اشتغال الدولة بها وهموا بالمنازل والحوانيت وأخذوا الأموال، وكثيرا ما كانت تحدث أمثال هذه الفتن في بغداد من القرن الثالث للهجرة وما بعده.
66
وكانوا يزدادون قوة كلما ازدادت الدولة ضعفا، وتكاثرت تعدياتهم على بغداد كلما تكاثرت الفتن فيها، إما بين الحكام في التنازع على السلطة أو الأموال، وإما بين العامة تعصبا لبعض المذاهب ولا سيما بين السنة والشيعة أو الحنفية، فلم ينقض النصف الأول من القرن الخامس للهجرة حتى تسلط العيارون على بغداد، وجبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه رجال الدولة وانتظموا انتظام الشرطة أو الجند، واشتهر من رؤسائهم في ذلك العصر رجل اسمه الطقطقي وآخر اسمه الزيبق
67
بطل القصة المشهورة.
وظهر العيارون في سائر المدن الإسلامية وعظم شأنهم وكثيرا ما كان الوزراء وغيرهم من أرباب الحل والعقد يقاسمونهم ويسكتون عنهم.
68
الشطار
هم طائفة أخرى من الرعاع كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم ولهم مئزر يأتزرون به على صدورهم يعرف بأزرة الشطار
69
وكانوا أكثر انتشارا في المملكة الإسلامية من العيارين وأطول بقاء منهم، وظهروا في الأندلس ولهم فيها نوادر وتنكيتات وتركيبات وأخبار مضحكة تملأ الصحف لكثرتها وتضحك الثكلى،
70
على أن اسمهم كان يختلف باختلاف البلاد، فهم يعرفون في العراق بالشطار، وفي خراسان يسمونهم سرا بداران، وفي المغرب الصقورة، وسماهم ابن بطوطة «الفتاك»، وذكر تفشيهم في أيامه (القرن الثامن للهجرة) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وتكاثرهم في نواحي سبزوار، حتى هجموا على مدينة بيهق وملكوها وملكوا غيرها وجندوا الجنود وركبوا الخيل وولوا أحدهم سلطانا عليهم، وانحاز إليه العبيد يفرون من مواليهم فكل من جاء من هؤلاء أعطاه ذلك السلطان مالا وفرسا، وإذا ظهرت منه شجاعة أمره، إلى آخر ما ذكره.
71
ولم يكن الشطار وغيرهم من أهل الشرور يعدون اللصوصية جريمة، وإنما كانوا يعدونها صناعة ويحللونها باعتبار أن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة تلك الأموال التي أوصي بإعطائها للفقراء،
72
وكان أولئك اللصوص إذا شاخ أحدهم ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات، وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يقال لهم: «التوابون»، على أنهم كثيرا ما كانوا يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم.
73
طوائف أخرى من الرعاع
وهناك طوائف أخرى من رعاع العامة أو من في معناهم، تكاثروا في عصر الاضمحلال بالمملكة العباسية، كالصعاليك والزواقيل والحرافيش وغيرهم، كان طلاب السلطة يستعينون بهم في حروبهم بعضهم على بعض ويعدون بالآلاف، فقد كان مع أبي دلف عشرون ألفا من الصعاليك.
74
ويدخل في معنى هذه الطوائف ممن تجمهروا للارتزاق بالتعدي على أصحاب الأموال العبيد، وكانوا كثيرين لا يخلو منهم منزل كما رأيت، فلما اختلت الأحوال وضعف أسيادهم ذهبت الهيبة من قلوبهم حتى إذا سنحت لهم فرصة نهضوا مع الناهضين، وربما انتحلوا لنهوضهم دعوة دينية يقومون بها، كما فعل صاحب الزنج في أواسط القرن الثالث للهجرة، فإنه قام قرب البصرة باسم الشيعة العلوية، وكان في ضواحيها جماعة من العبيد يكسحون السباخ، فدعاهم إلى النهوض معه على أن يحررهم من الرق ويريحهم من التعب، وكانوا قد شاهدوا رفاقهم الأرقاء البيض (المماليك الأتراك) يتمردون على الخلفاء فاقتدوا بهم، فكل عبد سمع بهذه الدعوة تبعها، حتى استفحل أمرهم وضربوا أسيادهم بالسياط،
75
واجتمع منهم مئات الألوف، وحاربوا الدولة العباسية بضع عشرة سنة قتلوا في أثنائها 2500000 نفس من الرجال والنساء والأطفال مما تقشعر له الأبدان، وانتهت تلك الدعوة بقتل زعيمها وتفرق أصحابه، وأراد البجة بمصر أن يفعلوا مثل الزنج بالعراق فلم يفلحوا، وقد يعد من هذا القبيل أيضا الحشاشون، وهم طائفة من الفوضويين ظهروا في القرن الخامس للهجرة، وجعلوا دأبهم الفتك بأهل السلطة غدرا، وكان لهم شأن كبير في تاريخ الإسلام.
76
ومن طبقات العامة «المخنثون»، وكانوا في الحجاز قبل الإسلام، وهم جماعة من أهل الخلاعة انتشروا بالمدينة بعد الإسلام على إثر ظهور اللهو والقصف وكثرة الأموال، وكثيرا ما كانوا يفسدون النساء يتوسطون بينهن وبين الرجال، وكان أحسن المغنين منهم، وقد تقدم خبر سليمان بن عبد الملك وما فعله بهم، وربما أشبهوا ما كان في القاهرة من «الخول» من عهد غير بعيد، ولما انتشر الغناء في المملكة الإسلامية انتشر المخنثون معه، وتكاثروا في بغداد والشام ومصر والأندلس وسائر المغرب، والأندلسيون إذا قالوا المخانيث قد يريدون المماليك الصقالبة.
وفيما خلا ذلك فقد كان في المدن من طبقات العامة ما لا يحصيه عد، من أهل الاحتيال للمعايش بأساليب الخداع والشعوذة أو نحوهما، ولكل صنف من هذه الأصناف اسم خاص، وربما زاد عددها جميعا على عشرين نوعا، كقولهم المخطراني والكاغاني والبانوان والقرسي والعواء والمشعبذ والفلور والأسطيل والمزيدي
77
وغيرهم. (ج) أخلاق العامة
فالعامة في المدن أخلاط من غوغاء ولفيف من أمم شتى وصناعات شتى، وهم جهال أتباع من سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول، وسئل الإمام علي عن العامة فقال: «همج رعاع أتباع كل ناعق.» وقال الفضل بن يحيي: «الناس أربع طبقات: ملوك قدمهم الاستحقاق، ووزراء فضلتهم الفطنة والرأي، وعلية أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء، لكع لكاع وربيطة اتضاع، هم أحدهم طعامه ونومه.» وقال معاوية للأحنف: صف لي الناس، فقال: «رءوس رفعهم الحظ، وأكتاف عظمهم التدبير، وأعجاز أشهرهم المال، وأدباء ألحقهم بهم التأدب، والناس بعدهم أشباه البهائم؛ إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا.» هذه هي آراء خاصة تلك الأيام في عامتهم.
ومع ذلك فطلاب السلطة كانوا يراعون جانبهم ويقربونهم بما يرضيهم ولا سيما الدين وهو جامعتهم الكبرى، ولا غرو فإنه أكبر أسباب سعادتهم، ولهذا السبب رأيتهم شديدي التعلق بالخليفة إذا أظهر التقوى، لما في منصبه من الصبغة الدينية، وهو رئيسهم وإمامهم، فكانوا له عضدا قويا، ولولاهم لذهبت الخلافة العباسية من بغداد قبل الزمن الذي ذهبت فيه؛ لأنهم كانوا كثيرا ما ينهضون لنصرته على القواد والوزراء إذا أرادوا خلعه، وأكثرهم مع ذلك لا يعرفون من الدين غير اسمه، ولو سئل أحدهم عن اعتقاده لما أحسن الجواب، فضلا عن بساطتهم وسذاجة أفكارهم وجهلهم سائر الأمور.
ذكروا من دهاء معاوية في مداراة الناس واجتذاب قلوب العامة أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن واقعة صفين، فتعلق به رجل من أهل دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني في صفين ! فارتفع أمرهم إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: «أصلحك الله، إنه جمل وليس بناقة.» فقال معاوية: «هذا حكم قد مضى.» ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره ودفع إليه ضعفيه وبره وأحسن إليه وقال له: «أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.»
وبلغ من أمرهم في طاعته أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص أن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير.
وذكروا عن عامة بغداد في إبان التمدن الإسلامي أن رجلا منهم رفع إلى بعض الولاة وشاية برجل من علماء الكلام زعم أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل فقال: «إنه مرجئ قدري إباضي رافضي، يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علي بن العاص!» فقال له الوالي: «ما أدري على أي شيء أحسدك، على علمك بالمقالات أو على بصرك بالأنساب ...»
وكان جماعة من علماء ذلك العصر يجتمعون في بغداد للمناظرة في أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية، وكان بعض العامة يأتون فيستمعون، فتصدى أكبرهم لحية ذات يوم لبعض الباحثين وقال له: «كم تطنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان!»
فقال له الرجل: «فما تقول أنت في علي؟»
قال: «أليس هو أبا فاطمة؟»
قال: «ومن هي فاطمة؟»
قال: «امرأة النبي عليه السلام ... بنت عائشة أخت معاوية!»
قال: «فما كانت قصة علي؟»
قال: «قتل في غزاة حنين مع النبي، وقد كان عبد الله بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام، وكان من قصة مروان ومقتله ما قد ذكر، ونزل عبد الله بن علي الشام، ووجه إلى أبي العباس السفاح أشياخا من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة، فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة.»
78
أولئك هم العامة في كل زمان ومكان، وطلاب السلطة المطلقة لا يستغنون عنهم؛ لأنهم معظم الرعية وبهم تجبى الأموال ومنهم تتألف الجنود، فمن استطاع كسب ثقتهم واجتذاب قلوبهم ملكوه، ولا يجتذب قلوب العامة مثل الدين، فإذا اجتمعت السياسة والدين تمت وسائط السلطة المطلقة وتولى أمور الناس أكثرهم دهاء وأقدرهم على استرضاء العامة بالتقوى.
هوامش
الآداب الاجتماعية
آداب العرب في الجاهلية
نريد بالآداب الاجتماعية ما يدور بين الناس من المعاملات الأدبية والأمور الاعتبارية في هيئتهم الاجتماعية، وما يتبادلونه من العلائق العائلية على ما تقتضيه عاداتهم وأخلاقهم وطبائع إقليمهم، وأساس تلك الآداب في التمدن الإسلامي ما كان عند العرب قبل الإسلام من المناقب والعادات وحال المرأة عندهم، فنقدم الكلام بتمهيد في هذا الشأن. (1) مناقب العرب الجاهلية
تختلف مناقب الناس وآدابهم باختلاف ضروب معايشهم وأطوار تمدنهم وطبائع إقليمهم، فللبدو مناقب غير مناقب الحضر، ولأهل القرى آداب تختلف عما لأهل المدن، وأهل الأقاليم الحارة آدابهم تخالف آداب أهل الأقاليم الباردة، جريا على ما يقتضيه ناموس الارتقاء من التناسب بين طبائع القوم وطبائع إقليمهم، لئلا يتولاهم الضعف ويدركهم الفناء.
فأهل البادية يحتاجون إلى الشجاعة مثلا أكثر مما يحتاج إليها المتمدنون، لتفرد البدوي عن المجتمع وتوحشه في الخلاء وبعده عن الحامية وانتباذه عن الأسوار، ويقوم بالدفاع عن نفسه بيده فهو دائما يحمل السلام وينفرد في القفر واثقا بنفسه، فصارت الشجاعة سجية له، بخلاف أهل المدن الذين ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة وانغمسوا في الترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أعراضهم وأموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم فهم آمنون قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على سواهم، فأصبح الجبن طبيعة فيهم، اعتبر ذلك بسائر ما يغلب في طباع أهل البدو كالعصبية والكرم والوفاء والأنفة والنجدة وغيرها مما تستلزمه البداوة ولا تستقيم إلا به على ما سنبينه: (1)
العصبية:
هي أظهر طبائع البدو وأعمها، وقد فصلنا أسبابها وشروطها وسائر أطوارها في الجزء الرابع. (2)
الشجاعة:
البدو يعيشون غالبا بالغزو، وهم دائما في قتال أو يتأهبون لقتال، فالشجاعة شرط من شروط بقائهم، وقد كانت غالبة فيهم، يكرمون الشجاع ويتفاخرون بالشجعان، واشتهر فيهم جماعة كبيرة من أهل البسالة في الجاهلية والإسلام، كعمرو بن معد يكرب، وربيعة بن المكدم، ودريد بن الصمة، وعروة بن الورد، وعنترة العبسي، وملاعب الأسنة، وعامر بن الطفيل، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، والمقداد بن الأسود، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب وغيرهم، واشتهرت نساؤهم بالشجاعة أيضا، كما سيجيء في كلامنا عن المرأة. (3)
الكرم:
وهو من مناقب أهل البادية، اقتضته طبيعة إقليمهم لما قدمناه من مسير البدوي في أسفاره منفردا، وقد يبتعد عن مضربه أياما في بادية لا طعام فيها ولا ماء، فإذا لم يجد من يقريه ويسقيه مات، فنشأ عن ذلك الضيافة وقرى الضيفان، وأصبح الكرم من أفضل المناقب عندهم، شأن سائر أجيال البدو غير العرب كالجرمان قبل تمدنهم، فكان البدو يتفاخرون بالضيافة ويتسابقون إلى المغالاة فيها، حتى أوقدوا نارا بجانب مضاربهم يهتدي بها المارة ليلا يسمونها نار القرى ، وبالغوا في احترام الكرماء ترغيبا للناس في هذه الفضيلة لافتقارهم إليها، فأصبح الأسخياء يبالغون في ذلك ويكثرون من النيران، فإذا اشتد البرد أو هبت الرياح فعجزوا عن إيقادها، فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح، فيهتدي الأضياف على نباحها، ولذلك كان من أسماء الكلاب عندهم «داعي الضمير، ومتمم النعم، ومشيد الذكر»، وكانوا يتفاخرون بعظم جفانهم وارتفاعها، ومن أكبر تلك الجفان جفنة عبد الله بن جدعان، كان الرجل يستظل في ظلها.
1
وأشهر الكرماء في الجاهلية حاتم الطائي ويضرب المثل بكرمه، فيقال للمبالغة في مدح كريم: «إنه أكرم من حاتم طي»، ومنهم كعب بن مامة الإيادي، وهرم بن سنان، وخالد بن عبد الله وغيرهم، وكان جودهم قاصرا على الضروري من حاجات الإنسان، كالطعام والشراب واللباس لبساطة أحوالهم، وربما جادوا بالإبل أو الماشية، فلما ظهر الإسلام وكثرت أموالهم من الغنائم والعطايا صاروا يجودون بالنقود والجواهر والضياع والرقيق وغيرها كما سنرى. (4)
الوفاء:
لما كان الغدر سهلا على البدوي، لإمكانه الفرار من القصاص والإيغال في البادية، حيث لا يستطيع خصمه الوصول إليه وليس ثمة وازع يخيفه أو جند يقبضون عليه، ولا هناك دين يزجره مما يفضي إلى ضياع الحقوق وفساد الأحوال، جعلوا يرغبون الناس في الوفاء ويعظمون أمره ويمتدحون أهله، فرغب الناس فيه وأصبح بتوالي الأجيال خلقا لهم، وصاروا يأنفون من إخلاف الوعد ويشهرون بمرتكبه ويبالغون في الثناء على أهل الوفاء. (5)
الاستقلال:
لا شيء أحب إلى أهل البادية من الاستقلال، ولا سيما الرحل فإنهم طبعوا على الحرية وكرهوا التقيد بشيء، حتى المكان فهم لا يتوطنون صقعا، بل يجعلون منازلهم على ظهورهم ينتقلون بها إلى حيث يطيب لهم المقام، وهم لا يحملون ضيما ولا يصبرون على ظلم، وتمكنت الحرية من طباعهم حتى ظهرت في أقوالهم وأفكارهم، ونشئوا على الأنفة وعزة النفس وإباء الضيم، ألا ترى كيف ظهر ذلك منهم في صدر الإسلام، إذ كانوا يخاطبون الخلفاء كما يخاطبون عامة الناس، والخلفاء لا يرون بأسا بذلك؛ لأنه كان طبعا مألوفا فيهم؟ (6)
النجدة:
هي من طبائع البدو ولازمة لزوم الضيافة، وبينهما تناسب من حيث إغاثة الضعيف، فإذا استنجدت البدوي على أمر أنجدك ولو بذل نفسه في هذا السبيل، وتظهر نجدتهم على الخصوص في الجوار وحمى الذمار، وقد فصلنا ذلك في الجزء الرابع. (7)
الأريحية:
وقد وصفنا هذه المنقبة وصفا مختصرا في الجزء المذكور، وهي من مناقب أهل النجدة والفروسية التي يعبر عنها الإفرنج بقولهم
Chevalerie
ومرجعها إلى الافتخار بحسن الأحدوثة، ولما كان العرب أهل خيال وذوي نفوس حساسة كان للأريحية عندهم شأن كبير، فالرجل منهم تقيمه كلمة وتقعده، وربما تجردوا للحرب نقمة على عبارة تطعن في شجاعتهم أو كرمهم أو وفائهم، وكانوا يتأثرون على الخصوص من أقوال النساء مدحا أو طعنا فيبذلون ما في وسعهم التماسا لثنائهن، وكثيرا ما كان ذلك سببا في ابتعادهم عن الرذائل، وربما تعرض بعضهم للقتل خوفا من استخفافهن، وفي أخبار الجاهلية شواهد كثيرة على ذلك. (8)
الثأر:
وكما ينجدك البدوي إذا استنجدته فهو لا يصبر عن الأخذ بثأره إذا أسأت إليه، وإذا قتل رجل من قبيلة رجلا من قبيلة أخرى نشأت العداوة بين القبيلتين، فتقوم الموتورة منهما للأخذ بثأرها ولا تنفك حتى تقتل من الأخرى من هو كفء لقتيلها أو يتصالحوا على الدية، ومن أشهر حوادث الثأر في الجاهلية الحرب التي أثارها المهلهل بن ربيعة للأخذ بثأر أخيه كليب، فأصبح المهلهل مثلا في ذلك فيقولون: «فلان آخذ للثأر من المهلهل» لأنه حلف منذ طلب الثأر أنه لا ينزع درعه ولا يشرب الخمر ولا يدهن رأسه بالطيب ولا يقرب النساء إلا بعد نيل مرامه. (9)
الشيخوخة:
كان للشيخوخة عند العرب مقام رفيع، ولفظ الشيخ يدل عندهم على الشيخوخة والرئاسة معا، وكانوا إذا تساوت المناقب فيمن يرشحونه للإمارة فضلوا أكبرهم سنا، كما فعلت قريش في حرب الفجار الثانية.
2
ولما جاء الإسلام وأحدث ما أحدثه من المناقب الدينية، كانت هذه المناقب في جملة ما فضلوه على السن، فإذا تساوت كلها في المترشح للإمارة فضلوا أكبرهم سنا، عملا بالحديث النبوي بشأن الإمامة: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا».
3 (2) المرأة في الجاهلية
اختلفت الآراء في حال المرأة العربية في العصر الجاهلي، ولا مشاحة أنها كانت على الإجمال عظيمة الشأن عفيفة النفس، وعفتها من ثمار حب الاستقلال والأنفة؛ لأن المرأة التي تشب على استقلال الفكر وإباء الضيم تترفع عن ارتكاب ما يهون على المرأة الناشئة في مهاد الذل المغلولة بأغلال الحجاب، ويقال نحو ذلك في غيرة رجالهم على العرض، فإنه من مستلزمات العفة والأنفة والاستقلال؛ لأن الرجل الأنوف إذا تعود العفة من امرأته يعظم على طباعه احتمال ما يمس عرضها من قول أو فعل، وتزداد غيرته عليها إذا كانت وحيدة لم يحب سواها، كما كان حال العرب في الجاهلية لقلة الجواري يومئذ ومشقة الحصول على النساء، مع حاجة البدوي إلى امرأته في تدبير شئونه وإعانته في أسفاره وأعماله. (2-1) الوأد
وبلغ من غيرة بعضهم في الجاهلية أن يقتلوا بناتهم أو يئدوهن، لئلا يرتكبن ما يجر عليهم العار، ولم يكن الوأد عاما في قبائل العرب، ولا كان قديما عندهم، وإنما حدث قبيل الإسلام، وكان منحصرا في بعض بني تميم بن مر، ظهر فيهم لسبب طرأ عليهم؛ ذكروا أنهم كانوا يؤدون الإتاوة (الجزية) إلى النعمان ملك الحيرة، فمنعوها سنة من السنين فجرد عليهم النعمان كتائبه وساق أنعامهم وسبى ذراريهم، فعظم ذلك على التميميين فوفدوا عليه يطلبون أهلهم وأموالهم فأبى، فقالوا: «أعطنا النساء.» فقال: «إننا نخيرهن في الذهاب أو البقاء.» وأعلن «أن كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه» فكلهن اختارت أباها إلا ابنة قيس بن عاصم كانت قد أحبت عمرو بن المشمرج فاختارت البقاء عنده، فغضب قيس ونذر لا تولد له ابنة إلا قتلها،
4
وربما اقتدى به بعض أهله أو أهل قبيلته، وكان بعض الغيورين من العرب لا يزوج بناته غيرة عليهن، وأشهرهم ذو الإصبع العدواني فكانت له أربع بنات منعهن الزواج وهن يردنه في حديث طويل ذكره المبرد ،
5
ولم يطل زمن الوأد عند العرب؛ لأنه مخالف لأحكام العقل ومباين لعواطف الوالدين، فما لبث أن ظهر صعصعة بن ناجية وأخذ على نفسه فداء البنات الموءودات
6
حتى بطل الوأد. (2-2) شهيرات الجاهلية
وكان للمرأة في الجاهلية شأن وإرادة، وكانت صاحبة أنفة ورأي وحزم، فنبغ غير واحدة منهن في السياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة ولا سيما في أوائل الإسلام على أثر ما حصل من النهضة في النفوس والعقول، فاشتهرت جماعة منهن بمناقب رفيعة تضرب بها الأمثال، وأكثرهن في المدينة مقر الخلافة الإسلامية في ذلك العهد.
فاللواتي اشتهرن في الجاهلية بالشجاعة وشدة البطش أو كبر النفس، منهن سلمى بنت عمر إحدى نساء بني عدي بن النجار، فإنها كانت امرأة شريفة لا تتزوج الرجال إلا وأمرها بيدها، إذا رأت من الرجل شيئا تركته، على أن الغالب في نساء الجاهلية أن يخيرن قبيل الزواج، فلا يزوج الرجل ابنته إلا بعد أن يشاورها،
7
واشتهرت التميميات من نساء قريش بحظوتهن عند رجالهن وكبريائهن وقسوتهن عليهم،
8
ناهيك بمن اشتهرت منهن بالبسالة في أثناء الغزوات، ففي معركة أحد وقع لواء قريش في ساحة القتال، فلم يزل صريعا حتى أخذته امرأة منهم اسمها عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لهم فلاذوا بها.
9
وفعلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان في تلك المعركة ما لم تفعله الرجال، فجمعت إليها نسوة أخذن في أيديهن الدفوف يضربن خلف الرجال وهي تنشد في تحريضهم على الثبات، ولما انتهت الواقعة خرجت مع النسوة تنظر جثث القتلى حتى وجدت بينها جثة حمزة عم النبي، فبقرت بطنه وأخرجت كبده فلاكتها من غيظها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت صخرة وأنشدت أشعارا تفخر بالفوز على المسلمين.
10
ونساء الجاهلية كن يصحبن الرجال إلى ساحة القتال فيداوين الجرحى ويحملن قرب الماء، وممن اشتهرن بالشجاعة أم عمارة بنت كعب الأنصارية، وأم حكيم بنت الحارث، والخنساء الشاعرة أخت صخر وغيرهن.
11
ونبغ بالرأي والحزم غير واحدة، أشهرهن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وكانت عاقلة حازمة لبيبة ذات شرف ومال، تنتقي من اشتهر من الرجال بالأمانة والحزم فتستأجرهم بمالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، ولما سمعت بشهرة النبي قبل الدعوة بالأمانة وكرم الأخلاق، بعثت إليه أن يخرج في مالها تاجرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من الرجال، فلما أفلح في تجارته عرضت عليه أن يتزوج بها فأجابها، وهي أول من أسلم، وقد نشطته للقيام بالدعوة، فكان لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه أو تكذيب له فيحزنه ويخبرها به إلا ثبتته وخففت عنه وهونت عليه، وما زالت على ذلك حتى ماتت.
هوامش
آداب العرب في صدر الإسلام
الآداب الاجتماعية في العصر الإسلامي العربي
ينقضي هذا العصر بانقضاء دولة الأمويين في الشام سنة 132ه، وقد علمت مما ذكرناه عن سياسة هذا العصر في الجزء الرابع أنها كانت عربية النزعة وقوادها عرب وعمالها عرب والسيادة فيها للعنصر العربي، وكذلك الآداب الاجتماعية، فقد كانت لا تزال عربية بدوية، أو هو دور الانتقال من البداوة إلى الحضارة، حاول العرب فيه البقاء على ما ألفوه في جاهليتهم من المناقب التي تقدم ذكرها، كالوفاء والجوار والكرم والنجدة والشجاعة والعفة، وكانت الحضارة وما تقتضيه من الترف والرخاء تغالب تلك المناقب، حتى غلبت على معظمها في أواسط العصر العباسي.
ويقسم العصر الإسلامي العربي إلى: أيام الراشدين، وأيام الأمويين، فنذكر الآداب الاجتماعية في كل منهما على حدة. (1) الآداب الاجتماعية في عصر الراشدين
قلما أصاب المناقب البدوية تغيير في عصر الراشدين، إلا ما اقتضاه الدين من جمع كلمة العرب تحت لوائه، فضعفت بذلك العصبية بين القبائل والبطون، واجتمع العرب من قحطان وعدنان في ظل الإسلام، وأصاب الكرم في ذلك العصر تغيير اقتضاه عدل الراشدين ولا سيما عمر بن الخطاب، فإنه كان من الصرامة وحب العدل حتى يطالب العامل بالدرهم والدانق، وإذا علم أنه كسب مالا من غير راتبه شاطره إياه، وكذلك كان علي بتدقيقه في محاسبة عماله وسائر رجاله، فكانوا لا يبذلون المال إلا لمن استحقه من أهل العطاء، فلم يكن لأصحاب الاستجداء عيش في أيامهم، وكان الصحابة يومئذ يقلدون الخلفاء في هذا التدقيق، وهو مخالف للسخاء والبذل، حتى اتهموهم بالبخل وما هو بخل، ولكنهم كانوا يرون إعطاء كل ذي حق حقه.
أما ما بقي من مناقب العرب فظلت على نحو ما كانت عليه، وبعضها زاد تمكنا في نفوسهم، كالوفاء والنجدة والعفة والأنفة؛ لأن الإسلام زادها رونقا وقوة بالعدل والتقوى، فكان الخليفة أو أميره إذا وعد وفى، وإذا عاهد أنجز، لا يثنيه عن ذلك طمع أو خوف؛ اعتبر ما كان من وفائهم لأهل الذمة، إذ عاهدوهم على أن يحموهم ما أدوا الجزية، فكانوا إذا شغلهم عن حمايتهم شاغل ردوا الجزية إلى أصحابها واعتذروا
1
ولو لم يردوها ما طالبهم بها أحد، وإنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، والشجاعة كانت سائدة في ذلك العصر، لما كانوا فيه من الحاجة إليها في الفتح والجهاد، وقس على ذلك سائر المناقب، ولا سيما الاستقلال والحرية فإنهما زادا قوة في صدر الإسلام، لما توخاه الراشدون من التسوية بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم، حتى أصبحوا يخاطبون الخليفة أو الأمير بجسارة وأنفة كما يخاطبون بعض أقرانهم، وإذا رأوا فيه اعوجاجا هددوه أو عنفوه وأصلحوه، فإذا لم يطعهم قتلوه كما فعلوا بالخليفة عثمان، وكثيرا ما كان المسلمون يحصبون أميرهم وهو يخطب فيهم، إذا أنكروا شيئا من أقواله أو أعماله. (1-1) المرأة في عصر الراشدين
أما المرأة فاتجهت قواها في صدر الإسلام إلى سداد الرأي ومزاولة الأدب والشعر مع بقاء العفة والأنفة، فاشتهر منهن غير واحدة جرت بذكرهن الأمثال منهن عائشة أم المؤمنين، فقد كان لها عقل راجح وفيها دهاء وقوة، حتى رأست حزبا كبيرا من الصحابة وروت أحاديث كثيرة هامة.
وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله الصحابي الشهير، كانت مفرطة الجمال تقيم في المدينة ولها عقل ورأي وعلم واسع بأخبار العرب وأيامها وفي مطالع الكواكب وأحوالها، وكانت مع جمالها لا تستر وجهها عن الرجال لعظم قدرها وكبر نفسها، وكثيرا ما كانت تجلس في قصرها فيتناضل بين يديها الرماة ويتفاخرون بما ينالون من إعجابها، وكانت إذا حجت يجيئها النساء الشواعر وغيرهن ويدخل الشعراء فتجيزهم الجوائز الكبيرة، وكان لها موكب لم يسمع بمثله في عصرها مؤلف من عدة مواكب، واحد لماشطتها وآخر لخازنتها وآخر لكل من كبار أتباعها، أما موكبها الخاص فهو كوكبة فيها 300 راحلة عليها القباب والهوادج.
2
وسكينة بنت الحسين بن علي، وكانت معاصرة لعائشة بنت طلحة في المدينة وتسميان عقيلتي قريش،
3
وكانت عفيفة برزة تجالس الأجلة من قريش ويجتمع إليها الشعراء، وتأذن للناس إذنا عاما حتى تغص الدار بهم فتأمر لهم بالأطعمة، ثم تطرح على الشعراء الأسئلة في الشعر والأدب وتنتقد أقوالهم وتجيزهم، وخبرها في ذلك مشهور.
4
وأسماء بنت أبي بكر، المعروفة بذات النطاقين وهي أم عبد الله بن الزبير، وفي مراجعة قولها لابنها هذا لما يئس من الفوز وهو محصور بمكة وجاء يستفتيها وتحريضها إياه على استقبال الموت بشرف دليل كاف على كبر نفسها وحزمها.
5
ونبغ بالشعر في ذلك العصر عدة نساء، كليلى الأخيلية والخنساء المتقدم ذكرها والفارعة المرية، واشتهر في البادية غير واحدة ممن كان يجتمع الرجال عندها للمناشدة أو المذاكرة على غير ريبة، فإذا توسمت في أحدهم انحرافا منعته واحتجبت عنه، كما اتفق لأبي دهبل الجمحي مع عمرة الجمحية، وكانت امرأة جزلة يجتمع إليها الرجال لإنشاد الشعر، وكان أبو دهبل من أشراف بني جمح وكان لا يفارق مجلسها، وكانت تحبه وتتقدم إليه في كتمان حبها، فجاء نسوة كن يتحدثن إليها فذكرن لها شيئا عن أبي دهبل وأنه يقول: إنها عاشقة له، فرفعت مجلسها وتركت مجالسة الرجال ظاهرة وضربت حجابا بينها وبينهم.
6
ولما نضج التمدن الإسلامي اشتهر عدة نساء بالسياسة والصلاح والدهاء وغير ذلك مما ذكرناه في الأجزاء الماضية. (2) الآداب الاجتماعية في عصر الأمويين
أصاب المناقب العربية في الدولة الأموية تغيير يختلف عما أصابها في عصر الراشدين باختلاف أحوال الدولتين، فالأمويون لما جعلوا همهم الرجوع إلى ما كان لهم من السيادة في الجاهلية أغفلوا كل ما يخافون حيلولته بينهم وبين ذلك المرمى، واستبقوا ما يتوسمون منه نفعا لغرضهم؛ فالكرم رأوا فيه وسيلة لجمع الأحزاب فنشطوه وتسابقوا إليه، فزادوا الأعطية وفرضوا الجوائز وأقاموا بيوت الضيافة، وأكثروا من السخاء على رؤساء الأحزاب والشعراء ومن يخافون سطوتهم ولا يقوون على قتلهم على ما بيناه في باب السخاء.
والشجاعة لم يكن لهم بد منها فقربوا أصحابها، والعصبية كانت ملجأهم الأكبر في مناوأة أعدائهم من شيعة علي وغيرهم، فبعد أن ضعفت في عصر الراشدين وقامت جامعة الدين مكانها أعادها الأمويون إلى نحو ما كانت عليه قبل الإسلام.
أما الوفاء فكان عثرة في طريق أغراضهم، لما كانوا يعلمونه من حق مناظريهم في الخلافة وقوتهم فلجأوا إلى الغدر والفتك، وكان معاوية زعيمهم ومؤسس دولتهم يفعل ذلك سرا ويموه غدره بالحلم والكرم والدهاء وحسن الأسلوب، فتدرج الخلفاء بعده من بني مروان إلى الغدر جهارا، وأول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان،
7
وجرى عمالهم على هذه الخطة وأفرطوا فيها، فاشتهر بها منهم زياد بن أبيه وابنه عبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وغيرهم. (2-1) تقييد الأفكار في أيام بني أمية
أما الاستقلال وحرية القول فجاهد الأمويون في مقاومتهما وقيدوا الألسنة بإرادتهم تقييدا شديدا، فكان ذلك عظيما على الذين عاصروا الراشدين وتعودوا الحق والحرية، فعاقبهم الأمويون جزاء حريتهم واستقلال أفكارهم بالعذاب الشديد، ومن لم يستطيعوا مقاومته جهارا قتلوه سرا؛ بدأوا بذلك من أيام عثمان قبل قبضهم على مقاليد الدولة في الشام، وقد جرأهم عليه ضعف هذا الخليفة ورغبته في إرضاء أهله ونصرتهم، ولولا ذلك ما استطاع معاوية اضطهاد أبي ذر الغفاري ونفيه؛ لأنه جاهر باستبداد أهل الدولة بأموال المسلمين.
8
فلما أفضت الخلافة إلى معاوية لم ير بدا من الضغط على أفكار أهل الاستقلال والحرية، واستعمل الشدة في ذلك فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما؛ لأنهم قالوا بحرية ضمير أن عليا لا يجوز لعنه على المنابر،
9
فأصبح الناس يخافون على أرواحهم وأخذوا يتعودون السكوت عن الحق، ثم لجأوا إلى التمويه والرياء حتى في المشهور الثابت، كما فعل ذلك الرجل لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد فأطرى عمل معاوية حتى قال: «إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها.» ولكن الحرية كانت لا تزال حية في نفوس أهل الرئاسة ممن لم يكن يهمهم التزلف إلى أهل الدولة، وربما كانت الدولة أحوج إلى نصرتهم، كالأحنف بن قيس التميمي فإنه كان يقول الحق ولا يبالي، وكان ممن شهد الاحتفال بتولية يزيد وسمع ما قاله ذلك المنافق فاكتفى بالسكوت عن المدح، وأدرك معاوية فكره فاستفهمه عن سبب سكوته فلم يبال أن قال: «أخاف الله إذا كذبت وأخافكم إذا صدقت ...»
10
واقتدى بمعاوية من عاصره من الأمراء أو جاء بعده من الخلفاء، فنشأ جيل من العرب يهون عليهم السكوت عن الحق، وكثر أهل الزلفى والرياء وذهبت حرية القول بتوالي الأعوام. (2-2) النجدة والأريحية في أيام بني أمية
أما النجدة والأريحية فظلتا في العصر الإسلامي العربي متأصلتين في العرب، وإن اضطر الأمويون إلى الإغضاء عنهما في بعض الأحيان، أما على العموم فقد كانتا مرعيتين حتى عند أشد بني أمية استبدادا وظلما، وفي أخبارهم كثير من أمثلة ذلك، منها أنه جيء إلى معاوية في يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال معاوية: «الحمد لله الذي أمكنني منك.»
فقال الرجل: «لا تقل ذلك يا معاوية.»
قال: «وأي نعمة أعظم من أن يمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام.»
فقال الأسير: «اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله.»
فقال له: «ويحك! لقد سببت فأبلغت ودعوت فأحسنت ... خليا عنه.»
وكان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى، فقام أصغر القوم فقال له: «يا معن، أتقتل الأسرى عطاشا؟» فأمر لهم بالماء، فلما سقوا قال: «يا معن، أتقتل ضيفانك؟» فأمر معن بإطلاقهم.
وأتى الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم، فقام فيهم شاب فقال: «والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت بالعفو.» فقال الحجاج: «أف لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا؟» وأمسك عن القتل، وقس على ذلك.
11
وكثيرا ما كانوا يعرضون أنفسهم للقتل رغبة في حسن الأحدوثة، ولا سيما عند النساء كما فعل عيسي بن مصعب بن الزبير وهو مع أبيه في مقاتلة محمد بن مروان بالعراق سنة 71ه، إذ تحقق مصعب أنه مقتول فأوعز إلى ابنه عيسى أن يطلب النجاة فقال: «والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت في نفسي عنك.» فقال: «فاذهب أنت ومن معك إلى عمك في مكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول.» قال: «لا أخبر عنك قريشا أبدا، ولكن يا أبتي، الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين.» فقال مصعب: «لا تتحدث قريش أني فررت.» وحاربوا حتى قتلوا.
12
وظلت الأريحية مرعية في أوائل الدولة العباسية، فإن الرشيد رفع القتل عن ربيعة بقصيدة رفعها إليه أحدهم استنهض بها أريحيته في العفو عنهم.
13
ولما عزم المأمون على قتل إبراهيم بن المهدي - وكان مصمما على قتله - شاور فيه أحمد بن أبي خالد الوزير فقال: «يا أمير المؤمنين، إن قتلته فلك نظراء وإن عفوت عنه فما لك نظير.»
14
فعفا عنه.
فلما ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية بعد تسلط الأجناد الأتراك، وتحولت الأغراض في أهل الدولة إلى كسب الأموال بأية وسيلة كانت، ذهبت الأريحية والنجدة، على أن ذهابهما بدأ من أيام أبي مسلم الخراساني ... فكم استنجدوه واستحثوه ولم يفعل إلا ما يوصله إلى غرضه.
والشيخوخة ظلت مرعية ومحترمة إلى عصر العباسيين وما بعده، ولا تزال حتى الآن. (2-3) المرأة في عصر الأمويين
بدأت المرأة بتبديل طباعها من أيام الأمويين؛ لأن العفة والغيرة أصابهما في ذلك العصر صدمة قوية بتكاثر الجواري والغلمان، وانغماس بعض الخلفاء في الترف والقصف وانتشار الغناء والمسكر، فتجرأ الشعراء على التشبيب والتغزل وتكاثر المخنثون في المدن، وتوسطوا بين الرجال والنساء بالباطل، فأخذ الفساد يفشو بين الناس وضعفت غيرة الرجال وقلت عفة الناس.
فقد رأيت أن المرأة كانت في الجاهلية وأوائل الإسلام تجالس الرجال وتخاطبهم وتذاكرهم والعرب لا يرون ذلك منكرا،
15
ولا تخامرهم فيه ريبة، وإذا توسم رجل من رجل نظرة إلى امرأته أو أخته بريبة طلبه للمبارزة أو المجالدة أو المصارعة
16 (الدويلو
Duello ) فيتصارعان حتى يصرع أحدهما صاحبه وربما انتشب القتال بين القبائل غيرة على نظرة كما حدث يوم الفجار الثاني،
17
حتى الشعراء، فقد كانوا لا ينظمون النسيب أو الغزل إلا قليلا، ويقال: إن امرأ القيس أول من شبب بالنساء
18
ومهما يكن من ضعف هذا القول فهو يدل على بعد العرب الجاهلية عن الغزل لفرط غيرتهم، على أنهم قلما شببوا بعد ذلك إلا بحبيب أو خطيبة، وكانت مغازلة النساء نادرة فيهم، فإذا اتفق لأحدهم شيء من ذلك اشتهر أمره وذاع خبره، كما اشتهر العشاق والمجانين في صدر الإسلام، وربما تعشق بعضهم رغبة في شحذ قرائحهم الشعرية، على أن تشبيبهم في كل حال لم يكن عن ريبة أو فاحشة.
19
وكانوا يتفاخرون بالعفة وإمساك هوى النفس، وقد يجتمع الحبيبان بعد طول البعد واحتدام الشوق فيجلسان ويتعاتبان ويتحادثان ثم ينصرفان، وأشهر الناس في ذلك بنو عذرة، وأكثر عشاق العرب منهم. (2-4) التشبيب
فكان العرب الجاهلية قلما يشببون بغير خطيباتهم، فإذا شبب أحدهم بفتاة قبل أن يخطبها منعوه منها،
20
وكان الخلفاء الراشدون حريصين على آداب القوم، فجعلوا التشبيب ذنبا يستوجب القصاص، وكان عمر بن الخطاب لا يسمع بشاعر شبب بامرأة إلا جلده،
21
ونظرا لقلة من يجسر على وصف النساء في شعره كان الشاعر إذا شبب بامرأة اشتهرت فتتزوج، ولذلك كان بعض الآباء يطلب من الشاعر أن يشبب ببناته ليتزوجن.
فالعرب على فطرتهم وطبيعة إقليمهم وطرق معايشهم أهل عفة، والنساء يجتمعن بالرجال في المجالس والأندية على غير ريبة، حتى في الكعبة، فكانوا يطوفون معا لا يرون بذلك بأسا؛ لأن العفة كانت غالبة على طباعهم، فلما جاءهم الترف وأخذوا بأطراف الحضارة وعمدوا إلى التسري والاستكثار من الجواري تغيرت تلك الطباع، فلما كانت إمارة خالد القسري على مكة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي بلغه قول بعض الشعراء:
يا حبذا الموسم من موقف
وحبذا الكعبة من مسجد
وحبذا اللاتي يزاحمننا
عند استلام الحجر الأسود
فأمر بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف.
22
وفي أيام بني أمية تجرأ الشعراء على التشبيب بالنساء، لا سيما في المدينة بعد انتشار الغناء فيها وإقبال أهلها على القصف واللهو، ومما زاد إنكارهم للتشبيب أن الشاعر إذا نظم أبياتا تغنى بها المغنون في مجالس الشراب، وأول من تجرأ على التشبيب من الشعراء القرشيون، وأسبقهم إلى ذلك ابن أبي عتيق حفيد أبي بكر الصديق، وكان من أهل الطهارة والعفاف وإنما كان يتشبب عن غير ريبة، واقتدى به عمر بن أبي ربيعة وهو قرشي أيضا، وكان كثير النسيب والغزل ومن سمع كلامه ظنه من أجرأ الناس على فاحشة، وهو لم يحل إزاره على حرام،
23
واقتدى به العرجي وهو من قريش أيضا،
24
ونبغ شعراء آخرون من غير قريش وأخذوا يشببون بالنساء رويدا رويدا.
ولم يكن الخلفاء في أول الأمر راضين عن ذلك لتغلب البداوة على أخلاقهم، فأخذوا يقاومون تيار الترف بكل قواهم، ولكنهم كانوا يدارون الشعراء رغبة في اكتساب الأحزاب على أيديهم، فلا يمنعونهم من التشبيب إلا إذا مس عرضهم، ومع ذلك فالدهاة منهم كانوا يتلطفون في دفعهم، ومن لطيف ما يحكى من هذا القبيل أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت شبب بابنة معاوية وهو خليفة في إبان مجده، وبلغ ذلك ابنه يزيد فغضب ودخل على أبيه وقال: «يا أمير المؤمنين اقتل عبد الرحمن بن حسان.»
قال: «ولم؟»
قال: «شبب بأختي.»
قال: «وما قال؟»
قال: «قال:
طال ليلي وبت كالمحزون
ومللت الثواء في جيرون»
25
قال معاوية: «يا بني، وما علينا من طول ليله وحزنه؟ أبعده الله!»
قال: «صدق يا أبي.»
فلذلك اغتربت بالشام حتى
ظن أهلي مرجمات الظنون
قال: «يا بني، وما علينا من أهله؟»
قال: «إنه يقول:
هي زهراء مثل لؤلؤة الغوا
ص ميزت من جوهر مكنون»
قال: «صدق يا بني.»
قال: «إنه يقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون»
قال: «صدق يا بني، هي هكذا!»
قال: «إنه يقول :
ثم خاصرتها إلى القبة الخض
راء تمشي في مرمر مسنون»
قال: «ولا كل هذا يا بني!»
وما زال يزيد يذكر له ما قاله فيها من التشبيب وهو يدافعه ويظهر أنه لا يرى فيه ما يستحق العقاب عليه، ثم كلمه بعض خاصته بشأنه وأكبروا جسارته وقالوا: «لو جعلته نكالا.» فقال: «لا، ولكن أداويه بغير ذلك.» واتفق أن عبد الرحمن المذكور وفد على معاوية، وكان يدخل في أخريات الناس، فاستقبله أحسن استقبال وأجلسه على سريره معه وأقبل عليه بوجهه وحديثه ثم قال: «إن ابنتي الأخرى عاتبة عليك.» قال: «في أي شيء؟» قال: «في مدحك أختها وتركك إياها.» قال: «فلها العتبى وكرامة، أنا ذاكرها وممدها.» فلما فعل وبلغ ذلك الناس قالوا: «قد كنا نرى أن تشبيب ابن حسان بابنة معاوية لشيء، فإذا هو على رأي معاوية وأمره.» وعلم من كان يعرف أنه ليس له بنت أخرى، وأنه إنما خدعه ليشبب بها ولا أصل لها، فعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر الثانية. وشبب أبو دهبل الجمحي أيضا بابنة معاوية فعامله باللين وقطع لسانه بالعطاء.
26
فقس على ذلك سائر خلفاء بني أمية وأمرائهم، مما يدل على غلبة طبائع البدو في الأمويين، مع أخذهم بأطراف المدنية واختلاطهم بالأمم الأخرى وقربهم من أسباب القصف، وكأن تلك الأسباب أخذت بعقول الشعراء فلم يكونوا يقعدون عن التشبيب مع تعرضهم للخطر، وقلما كان يجسر على ذلك غير القرشيين، وأكثرهم جسارة عمر بن أبي ربيعة المتقدم ذكره، فإنه كان يصطحب ابن سريج المغني فيركبان على نجيبين ويلقيان الحاج فيعرضان للنساء وينشدان الأشعار لا يبالون أن تكون فيهن بنت الخليفة أو امرأته.
والظاهر أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لما يرون من ارتياح النساء إليه؛ لأن المرأة تفتخر بأن يثني الشعراء على جمالها وإن لم يرض أهلها، فقد كان لعبد الملك بن مروان بنت أرادت الحج فخاف أن يشبب بها ابن أبي ربيعة، فاستكتب الحجاج إليه إن هو فعل ذلك أصابه بكل مكروه، فلما قضت حجها خرجت فمر بها رجل فقالت له: «من أنت؟» فقال: «من أهل مكة.» قالت: «عليك وعلى أهل بلدك لعنة الله!» قال: «ولم ذاك؟» قالت: «حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتا نلهو بها في الطريق من سفرنا.» قال: «إني لا أراه إلا قد فعل.» قالت: «فأتنا بشيء إن كان قاله، ولك بكل بيت عشرة دنانير.» فمضى إليه فأخبره فقال: «لقد فعلت ولكن أحب أن تكتم علي.» وأنشده قصيدة قالها فيها.
27
وممن اشتهر بتعرضه للنساء والتشبيب بهن في ذلك العصر الأحوص، كان يشبب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة فشكوه إلى سليمان بن عبد الملك فأمر بالقبض عليه وجلده ثم نفاه.
28
ووضاح اليمن، كان يشبب بأم البنين امرأة الوليد بن عبد الملك، وهم الوليد بقتله فمنعه ابنه عبد العزيز وقال: «إن قتلته فضحتني وحققت قوله وتوهم الناس أن بينه وبين أمي ريبة.» فأمسك عنه على غيظ وحنق، حتى بلغه أنه تعدى أم البنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك، وكانت زوجة عمر بن عبد العزيز وقال فيها:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخليفة والخليفة بعلها
فرحت قوابلها بها وتباشرت
وكذاك كانوا في المسرة أهلها
فاحتنق واشتد غيظه وقال: «أما لهذا الكلب مزدجر عن ذكر نسائنا وأخواتنا ولا له عنا مذهب؟» ثم دعا به فأحضر وأمر ببئر فحفرت ودفنه فيها حيا.
29
فكانت أيام بني أمية من حيث العفة والغيرة عصر انتقال من البداوة إلى الحضارة، فلما انقضى عصر الأمويين ذهب ما بقي من سذاجة البداوة في طبائع العرب، واستسلم الناس للترف والرخاء وضعفت الغيرة وأبيح التشبيب وشاع على ألسنة الشعراء، حتى صاروا يصدرون به قصائد المدح والفخر، وكان الخلفاء الأولون من بني العباس لا يزالون على مقربة من البداوة فأنكروا ذلك ونهوا عنه، ومن أشدهم غيرة المهدي بن المنصور فإن بشارا أنشده مديحا فيه تشبيب فنهاه عن التشبيب البتة،
30
فظل التشبيب مستقبحا حتى أباحه الرشيد وألح في نظمه،
31
فآل ذلك طبعا إلى ضعف الغيرة. (3) الآداب الاجتماعية في العصر العباسي
قد رأيت ما أصاب المناقب العربية الفطرية من التغير بعد الإسلام، بما طرأ عليها من عوامل الحضارة والانغماس في الرخاء والقصف والاختلاط بأهل المدن، فغلبت عليهم الضعة وركنوا إلى بسطة العيش والتنعم بمطالب الحياة المادية، وزادهم العلم والفلسفة والطب تباعدا عن البداوة وخشونتها وسذاجتها، وقضت سياسة العباسيين بمراعاة الفرس وغيرهم ممن نصروهم في قيام دولتهم وتشتيت شمل العرب، فذهبت العصبية العربية، واستلزمت رغبتهم في بقاء دولتهم العدول إلى الفتك والغدر على ما فصلناه في الجزء الرابع، فذهبت مناقب العرب ولم يبق من الوفاء والشجاعة والاستقلال والأنفة والعصبية والنجدة إلا آثار ضعيفة. (3-1) المرأة في العصر العباسي
وآل تكاثر الجواري وشيوع التسري إلى ذهاب الغيرة من قلوب الرجال، حتى صاروا يتهادون الجواري الروميات والتركيات والفارسيات وهن أجمل صورة وأشرق وجها من نساء العرب، فبعد أن كان الرجل لا يعرف غير امرأته والمرأة لا تفكر في غير زوجها وهي واثقة بأمانته، إذا هو قد تشتتت عواطفه بين عدة نساء فقلت غيرته عليها، ولما رأته مشغولا عنها قلت ثقتها به إلا من عصمها عقلها وشرفها، فلم ينضج التمدن في العصر العباسي حتى تنوسيت المرأة العربية في المدن، وذهبت حريتها وغيرتها وصارت هي نفسها تهدي زوجها الجارية وتحبب إليه القرب منها، لا يهمها ذلك ولا تغار منه،
32
وبعد أن كان العرب في الجاهلية وصدر الإسلام إذا علموا بحب رجل فتاة منعوه من زواجها صاروا يساعدونه في الحصول عليها.
33
فأفضى ذلك إلى انحطاط المرأة وذهاب عزة نفسها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل وأساء الظن بها وصار يعدها عدوة له، ويوصي بعدم الإركان إليها، فيعاشرها على غل وسوء رأي، يقفل عليها الأبواب والنوافذ، ويسد في وجهها الطرق والمسالك، ويمنعها من الخروج أو الكلام، وهو صاحب الذنب في انحطاطها، فأصبح الطعن في طباع المرأة وسوء سريرتها شائعا على ألسنة الناس، حتى ألفوا فيه الروايات والأقاصيص ونظموا الشعر، وتفننوا في وضع الجمل الحكمية والعبارات البليغة في تحذير الناس من المرأة وعدم الوثوق بها ، وهذه هي قصة ألف ليلة وليلة تمثل حال المرأة في الأعصر الإسلامية الوسطى، بعد شيوع التسري وانغماس المسلمين في الترف، وأما الأشعار فإليك ما قاله أبو العلاء المعري:
إذا بلغ الوليد لديك عشرا
فلا يدخل على الحرم الوليد
وإن خالفتني وأضعت نصحي
فأنت، وإن رزقت حجي، بليد
ألا إن النساء حبال غي
بهن يضيع الشرف التليد
34
وأصبح الكاتب إذا أراد تعزية صديق على فقد بنت له قال ما قاله أبو بكر الخوارزمي، إذ كتب إلى رئيس بهراه يعزيه في بنته وهو قوله:
ولولا ما ذكرته من سترها ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب من التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، ونحن في زمان إذا قدم أحدنا فيه الحرمة فقد استكمل النعمة، وإذا زف كريمة إلى القبر ، فقد بلغ أمنيته من الصهر، قال الشاعر:
ولم أر نعمة شملت كريما
كنعمة عورة سترت بقبر
وقال آخر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الحرم
وقال آخر:
وددت بنيتي وودت أني
وضعت بنيتي في لحد قبر
وقال آخر:
ومن غاية المجد والمكرمات
بقاء البنين وموت البنات
وقال آخر:
سميتها إذ ولدت تموت
والقبر صهر ضامن وبيت
35
هذا مثال من آراء أدباء المسلمين وشعرائهم في المرأة بين القرنين الرابع والخامس للهجرة.
فلم يبق من المناقب العربية في العصر العباسي إلا السخاء؛ لأنه كان لازما لقوام الدولة وسلامتها وتأييدها، بل هو كان من أهم قواعد الارتزاق في ذلك العصر. (3-2) الارتزاق بالسخاء
إن الارتزاق في التمدن الحديث مبني على قواعد اقتصادية عمرانية تحفظ توازن القوى ونتائجها، فينال الإنسان من رزقه على مقدار كده وجده مع اعتبار درجة عقله وذكائه، سواء كان ذلك بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، وقد وضعوا لكل من أبواب الرزق قواعد في تقدير الأرباح لا تتعداها إلا في أحوال خاصة ترتفع فيها الأسعار فجأة كما حدث بمصر لهذا العهد (حوالي 1910)، وعلى أي حال فالصانع تقدر أجرته بمقدار عمله، والتاجر يقدر ربحه بنسبة رأس ماله.
أما في التمدن الإسلامي فقد كان الارتزاق يقرب من ذلك في طبقة العامة من المزارعين والباعة وأهل الصناعات، وأما في الخاصة وأتباعهم فكان على أسلوب آخر لا مثيل له بين المتمدنين في هذا العصر، ومداره «السخاء» المتسلسل من الخلفاء فالوزراء فمن بعدهم ممن يعيشون حول البلاط ويرتزقون من رجال الدولة، ومصدر هذه الأرزاق بيت المال، وهو في قبضة الخليفة أو من يقوم مقامه من الوزراء أو القواد أو الأمراء على حسب أطوار النفوذ، والأموال تأتي بيت المال من جباية الخراج والجزية، وقد رأيت في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن متوسط جباية الدولة في العصر العباسي الأول بلغ نحو 360 مليون درهم في العام، لا ينفق منها على مصالح الدولة أكثر من 50 مليونا، فالباقي 300000000 درهم تبقى في بيت المال تحت تصرف الخليفة ، وأكثرها من جباية الخراج، وكان الخراج في العصر المذكور ثقيلا؛ لأنهم كانوا يقاسمون الناس غلاتهم بالنصف أو الثلث، وذلك في نظر أهل هذا الزمان ظلم، ولكن أهل ذلك العصر لم يشعروا بثقله بل كانوا يعدونه رفقا؛ لأن العباسيين نقلوا الخراج من المساحة إلى المقاسمة، فبعد أن كان الحكام قبلهم يقتضون خراج الأرض زرعت أم لم تزرع، حصروا الخارج في الأرض المزروعة وجعلوه شطرا من غلتها.
36
سنة العرب في الارتزاق
والأموال التي تبقى في خزانة الدولة يعطى بعضها رواتب لموظفيها، ويفرق سائرها فيمن بقي من الخاصة بين جوائز ورواتب، فتتسع أحوالهم بالجاه أكثر منها بالمال، فيضطرون إلى الإنفاق لحفظ مقامهم، فينفقون على من يتعلق بهم، فينتقل المال على هذه الصورة من الخليفة ووزرائه وعماله إلى حواشيهم وأتباعهم، ومن هؤلاء إلى الباعة وأهل الأسواق فيعود إلى العامة كأنه لم يؤخذ منهم، وهي سنة في الارتزاق تظهر لأول وهلة أنها من خصائص التمدن الإسلامي، ولكنها كانت على نحو ذلك في التمدن القديم، فأهل أثينا وهم خاصة اليونانيين كانوا لا يعملون عملا ولا يحترفون حرفة في سبيل الرزق، وإنما كانت أرزاقهم من خزانة الدولة يتناولونها رواتب في أوقات معينة، أو هبات في أوقات غير معينة، على مقتضيات الأحوال أو على ما يلحقهم من الغنائم ونحوها، ولم يكن لهم شغل غير سماع الخطب السياسية أو العلمية والتمشي في حدائق المدينة وحضور الاحتفالات الرسمية ونحوها،
37
ولكن ذلك كان محصورا في أثينا أو غيرها من العواصم الكبرى، أما المسلمون فتوسعوا فيه حتى شمل كل مدينة وكل طبقة، لتمكن السخاء في نفس العربي، ولأن هذه السنة كانت شائعة عند العرب من أيام الجاهلية، فأمير القبيلة كان يغزو بقبيلته، فما وقع له من مال وماشية فرقه في كبار رجاله، وهؤلاء يفرقونه في أهلهم وأتباعهم، ولذلك ذكروا من سنن العرب في الارتزاق أنهم «نهابون وهابون» وكان العرب يكرهون اختزان الأموال ويعدونه قبيحا.
38
والسبب في بقاء هذه السنة مع ذهاب غيرها من المناقب، أنها لازمة لبقاء الدول في تلك العصور، وخصوصا في الإسلام منذ طمع بنو أمية في الخلافة واستخدموا الأموال في ابتياع الأحزاب واسترضاء كبار الرجال، فعودوا الناس العطاء، فلما قام العباسيون لم يستطيعوا الرجوع عنه، بل تجاوزوه من بعض الوجوه، فصار السخاء ضروريا لقيام الدولة وإلا فسد عليها حماتها وتمرد أهلها.
وكان الصحابة في عصر الراشدين لا يرون اختزان المال، جريا على سنة العرب أو عملا بحديث رواه قيس بن عاصم بهذا المعنى وهو قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «نعم المال الأربعون، والأكثر الستون، وويل لأصحاب المئين.»
39
ولذلك كان الخلفاء الراشدون لا يبقون في بيت المال شيئا، على أن المسلمين في أيامهم كانوا مشتغلين بما بين أيديهم من الغنائم، وكانوا لا يزالون في دهشة النبوة والإخلاص في الجهاد والخراج في أيامهم معتدل، فلم يكن يفيض منه شيء كثير، فلما طمع الأمويون في الملك اتخذوا كل وسيلة لجمع المال والاستكثار منه، وزادوا أعطيات الجند ووهبوا وأجازوا، وضاعفوا رواتب أبناء الصحابة وغيرهم من القرشيين أصحاب النفوذ، فكان هؤلاء يتوسعون في الإنفاق ببناء القصور واقتناء الخدم والجواري، ويهبون الشعراء والندماء والحاشية والأتباع فيذهب ذلك المال كما أتى.
كذلك كان يفعل عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص
40
فيفد أحدهم على معاوية أو يزيد فيؤدي له عطاءه، وربما أهداه هدية سنية، فيعود إلى بلده ويفرق المال جميعه في أهله وأعوانه،
41
وكان الخلفاء يعرفون ذلك، ويعدون عطاءهم لهؤلاء عطاء لأهل المدينة،
42
وليس ذلك خاصا بفئة منهم، بل كان شاملا الأكثرين، حتى النساء من بنات الصحابة كسكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وغيرهما، فكانت عائشة هذه تفد على الخليفة وربما كانت في ضيق، فتشكوا إليه فراغ يدها فيأمر لها بمائة ألف درهم مثلا، فلما تعود إلى الحجاز يأتيها الشاعر أو الفارس فتعطيه الألف بعد الألف حتى تستنفد ما جاءت به،
43
حتى الشعراء كانوا يبذلون بعض جوائزهم فيمن حولهم، ولذلك كانوا مع كثرة ما يصل إلى أيديهم من المال لا يزالون مدينين ويموت أكثرهم فقراء.
44
ولما أفضى الأمر إلى العباسيين ساروا على هذه السنة في الأعطيات والجوائز، وزادوا مقاديرها لتوفر الثروة في أيامهم، وكان أصحابهم يفرقونها في الناس، فموسى الكاظم كان يقيم في المدينة ويفد على بغداد فيرده المهدي مثقلا بالأموال، فلما يصل إلى المدينة يجعلها صررا يفرقها في أهلها،
45
وكانوا يفعلون ذلك مع العمال والكتاب والشعراء والمغنين، وهؤلاء ينفقون المال بالسخاء على تفاوت في درجاته وسائر أحواله، وربما أنفقوا بعضه في حاشية الخليفة أو غلمانه،
46
ليسهلوا لهم الدخول عليه.
استرضاء العامة بالطعام
فكان الخلفاء أو الأمراء يعدون السخاء على العامة والخاصة فرضا يؤيدون به سلطتهم، أما العامة فكانوا يسترضونهم بأبسط أساليب السخاء وهو الضيافة، فكانوا ينصبون لهم الموائد يدعونهم إلى الطعام، فيجتمع على مائدة الأمير ألوف من العامة يأكلون معا صباحا ومساء، ذلك كان دأبهم من عصر الراشدين، جروا به على سنة العرب ثم احتاجوا إليه بعد الإسلام في استرضاء القبائل المختلفة، فبالغوا فيه حتى نصبوا الموائد على الطرق، وأول من فعل ذلك عبيد الله بن عباس،
47
واشتهر في صدر الإسلام غير واحد من الأجواد ممن كانوا يقبضون الأعطية الكبيرة من خلفاء بني أمية فينفقونها في البذل والسخاء، وقد تقدم ذكر بعضهم.
وجرى الدهاة من عمال الأمويين على هذه السنة، فنصبوا الموائد على الطرق، فكان الحجاج يضع في كل يوم من أيام رمضان ألف خوان، وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرزة بسكر، وكان يدور هو بنفسه على الموائد يتفقدها، يحملونه إليها في محفة وينتقلون به من خوان إلى خوان، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر أمر الخباز أن يجيء بسكرها، فإذا أبطأ حتى أكلت الأرزة بلا سكر أمر به فضرب 200 سوط، وكذلك كان يفعل عمال الحجاج في سائر المدن، فكان بعضهم ينصب الموائد مرتين في اليوم للغداء والعشاء.
48
وكان يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك ينصب خمسمائة خوان،
49
وكان يزيد بن هبيرة يضع ألف خوان يطعم الناس
50
وقس على ذلك سائر العمال وغيرهم، كابن طولون بمصر، فقد كانت له موائد يحضرها الخاص والعام،
51
وربما فرقوا الطعام بلا موائد كما كان يفعل لؤلؤ الحاجب في أيام الفاطميين بمصر، فإنه كان يفرق 1200 رغيف مع قدر الطعام كل يوم، وإذا دخل رمضان أضعف ذلك ويقف هو بنفسه ليفرقه،
52
هذا غير ما كانوا يبذلونه في استرضاء العامة من الأموال على سبيل الصدقة، فكان لكل من الخلفاء والأمراء والوزراء مال ينفقه صدقة كل يوم، على ما قدمناه في الجزء الثاني من الكتاب، وربما فعل بعضهم ذلك لمجرد الرغبة في الأجر أو عملا بمقتضى الأريحية.
وإطعام العامة على هذه الصورة لم يكن خاصا بالمسلمين، وإنما هو أيضا من سنن الأعصر الغابرة، فقد كان العامة في رومية يعيشون من أطعمة يفرقها فيهم أهل الدولة من الدقيق واللحم، وكان بعض ملوك الفرس ينصب 500 مائدة يجعل على كل واحدة نصف شاة وجام حلوى أو عسل وعشرة أرغفة وآنية شراب أو لبن وسمكة مصنوعة،
53
والمسلمون جروا على هذا الترتيب اقتداء بالفرس، مثل اقتدائهم بهم في كثير من آدابهم الاجتماعية.
وأما الخاصة أو من جرى مجراهم من المقربين غير الموظفين، فكان الخلفاء يهبونهم الهبات أو يعينون لهم الرواتب لتقييد إرادتهم
54
كما تقدم، ولذلك كان أهل الأنفة يكرهون صلات الخلفاء ويبعدون عن جوائزهم رغبة في الاستقلال، وأكثر ما يقع ذلك لأهل البادية الذين لم تذلهم الحضارة، ولا سيما بعد نكبة البرامكة، فقد طال حديث الناس يومئذ بأمرهم وغلب على اعتقادهم أن من يثري من هبات الخلفاء تكون حياته في خطر؛ ذكروا بدويا عيرته امرأته بفقره لبعده عن جوائز الخلفاء إلى أن قالت: «هذا فلان قد أخذ الأموال فحلى نساءه وبنى داره واشترى ضياعا، وأنت ههنا كما ترى ...» وكانت امرأته باهلية فأنشأ يقول:
تلوم على ترك الغنى باهلية
ذوى الفقر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الثرا
مقلدة أعناقها بالقلائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر
من العيش أو ما نال يحيى بن خالد؟
وأن أمير المؤمنين أغصني
بغصهما بالمشرفات النوارد؟
رأيت رفيعات الأمور مشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
دعيني تجيء منيتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك الموارد
55
الهبات والدين
على أن الفقهاء وأهل التقوى كانوا في صدر الإسلام وأوائل دولة بني أمية يعدون صلات الخلفاء رشوة ويترددون في قبولها، فما لبثوا أن ذاقوا حلاوتها حتى صاروا يتفاخرون بنيلها، قال ذو الرمة:
وما كان مالي من تراث ورثته
ولا دية كانت ولا كسب مأتم
ولكن عطاء الله من كل رحلة
إلى كل محجوب السرادق خضرم
56
ثم صاروا يتزلفون إلى أصحاب الأموال ويستنجدونهم رغبة في الارتزاق، فبعضهم ينال رزقه صلة أو جائزة، وآخرون يقبضونه راتبا معينا، وهؤلاء على الغالب من أهل البأساء وأيتامهم وأراملهم،
57
أو زعماء القبائل ورؤساء الأحزاب على ما يوافق مصلحة الخليفة والأمير أو يتوسم فيه الأجر والثواب، فكان بعضهم يفرض الفروض لأولاد الأنصار والمهاجرين، وغيره يعطي العلويين أو الطالبيين، وغيره يعطي قريشا أو اليمن، وقس عليه، فكان ابن عيسى وزير المقتدر يعطي الطالبيين والعباسيين وأبناء الأنصار،
58
وكان ابن الفرات يعطي الفقهاء والعلماء والفقراء وأهل البيوتات، أكثرهم مائة دينار في الشهر وأقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك،
59
وكان لكافور الإخشيدي بمصر مال خاص يجري منه الأرزاق على من يأتيه ناقما على الخليفة ببغداد أو غيره .
60
ولهذه الأسباب كان الخلفاء يستحلون إجازة الشعراء وغيرهم من بيت المال؛ لأنهم يعدون ذلك في سبيل مصلحة الدولة وإن لم يصرحوا به دفاعا عن أنفسهم، بل كانوا إذا سمعوا الانتقاد عليهم من أهل النفوذ الديني سكتوا واسترضوهم ودافعوا عن أنفسهم، كما فعل الرشيد والمهدي بسفيان الثوري.
61
ارتزاق الكبير من الصغير
ذلك ما يقال في ارتزاق الصغير من الكبير في التمدن الإسلامي، أما ارتزاق الكبير من الصغير فقد كان بعضه بالسخاء أيضا، ولكن على سبيل الهدية، فيعدون عطية الأمير إلى الصغير جائزة أو صلة، ويسمونه ما يقدمه الأصاغر إلى الأمير والوزير هدية، وكانت الهدايا شائعة على الخصوص في العصر العباسي، فإذا تولى الأمير على بلد فأول ما يدخلها يبعث أهلها إليه بالهدايا من الأموال والجواري والدواب والثياب،
62
وهو يبعث إلى الوزير الذي ولاه أو الخليفة بالأموال بسبيل الهدية أيضا، وإذا طال مقامه أصبحت تلك الهدايا فرضا واجبا يبعث بها كل سنة، فإذا أمسكها سنة عدوا إمساكه تمردا.
63
فالسخاء كان سنة عامة في عهد ذلك التمدن، لا يستثنى عنه عصر أو طائفة، وإن تفاوتت مقاديره واختلفت صوره وأشكاله باختلاف العصور، فكانت العطايا في أول عهد الأمويين الإبل والخيل والماشية، فيأمر الخليفة أو الأمير لمن يستجديه بلقحة وفحلها وراعيها، أو جارية وفرس، غير ما فرضوه من الأعطيات فإنها كانت تعطى عينا أو ورقا، ثم صارت في أواسط الدولة تخوت الثياب من الوشي ونحوه والوصائف فضلا عن النقود، وصارت في بني العباس البدر من الدنانير وعقود الجوهر وتخوت الديبقي والقصور والضياع وغيرها. (3-3) المجاملة في المعاملة
المجاملة من الطباع الراسخة في نفوس العرب، وذهب بعض الباحثين إلى أنها فطرية في أصل أرومتهم، وما هي كذلك وإنما تولدت فيهم بتوالي الأجيال وتقلب الأحوال؛ لأن العرب كانوا مفطورين على استقلال الفكر وحرية الرأي كما رأيت، وظلوا على ذلك إلى انقضاء عصر الراشدين، ثم أخذت أفكارهم في الانحباس وعقولهم في التقيد من عصر الأمويين، لما اقتضاه طمع بني أمية في الملك من الشدة والحيلة، فاضطر الناس للمداجاة والتمويه ، وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يداجون الناس ويجاملونهم، رغبة في نصرتهم أو قطع ألسنتهم ويعدون ذلك «حلما».
وأشهر الحلماء وأقدمهم معاوية بن أبي سفيان، فقد ذكرنا في الجزء الرابع أنه كان يسمع طعن أهل البيت وغيرهم من رؤساء الأحزاب فيه وفي دولته ويغضي، وربما أحسن إلى الطاعنين أو تظاهر بالاستخفاف، كما فعل بشعبة بن غريض، وكان في الكعبة ومعاوية هناك، فبعث يدعوه فأتاه رسوله فقال: «أجب أمير المؤمنين.»
قال: «أوليس قد مات أمير المؤمنين؟» (يعني عليا) فقال له: «أجب معاوية.» فأتاه ولم يسلم عليه بالخلافة، فقال له معاوية: «ما فعلت أرضك التي بتيماء؟» قال: «يكسى منها العاري ويرد فضلها على الجار.» قال: «أتبيعها؟» قال: «نعم.» قال: «بكم؟» قال: «بستين ألف دينار، ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها.» قال: «لقد أغليت.» قال: «أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبال.» قال: «أجل وإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه.»
فأنشده تلك الأبيات فأعجب بها معاوية وقال: «أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك.» قال: «كذبت ولؤمت!» قال: «أما كذبت فنعم، وأما لؤمت فلم؟» قال: «لأنك كنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام، أما في الجاهلية فقاتلت النبي
صلى الله عليه وسلم
والوحي حتى جعل الله كيدك المردود، وأما في الإسلام فمنعت ولد رسول الله الخلافة، وما أنت وهي أنت طليق ابن طليق؟» فقال معاوية: «قد خرف الشيخ فأقيموه.» فأخذ بيده فأقيم.
وكان معاوية إذا أعجزه اصطناع الأحزاب بالعطاء أو بالحلم أو بالسيف جهارا عمد إلى قتلهم غيلة، وكان أنصاره يعرفون ذلك فيه وأنه يصانعهم ليغلب بهم، فكانوا يصانعونه طمعا في مال أو منصب، فكانت المصانعة والمداجاة أساس سياسة معاوية، وقد قواهما واستثمرهما بدهائه وحزمه ففاز، وتحدث المسلمون بحلمه وسعة صدره وجعلوه قدوتهم، والناس على دين ملوكهم، فكثر الميل إلى المصانعة في ذلك العصر، وهي على الغالب بين الدولة ورجالها، على أن الأريحية كانت تحول دون تمكنها.
فلما قام الفرس لمناهضة الأمويين ونصرة العباسيين أغضى أبو مسلم عن الوفاء والأريحية وقتل على التهمة، فأصبح الناس يخافون على حياتهم وإن لم يقترفوا ذنبا، فزادت حاجتهم إلى المصانعة، ولما فاز أبو مسلم بحزبه وسلم مقاليد الدولة إلى العباسيين، كانت فوضى بينهم وبين العلويين، فلما تقلدها المنصور وطمع في استخلاصها للعباسيين فتك بأبي مسلم ثم قتل من قتله من العلويين، وهم لا يستغنون عن الفرس لنظام حكومتهم وحماية دولتهم، فاستخدموهم على غل ولجئوا في الاحتراس منهم واتقاء أذاهم إلى الجاسوسية، فبثوا الأرصاد على وزرائهم وعمالهم، يستطلعون أخبارهم ويبعثون بها إليهم سرا، والأرصاد نوعان؛ الأول: أصحاب البريد في الأطراف والعمال يعلمون أنهم رقباء على أعمالهم، والثاني: العيون الخفية يتخذونهم من الجواري والغلمان مما يقدمه الخليفة هدية إلى وزيره أو عامله، فيوليهم الوزير بعض شئون منزله فيدخلون في جملة الندماء أو المغنين أو القيان أو أصحاب الشراب، ويكونون رقباء عليه ينقلون أخباره سرا إلى الخليفة، وكان الوزراء يفعلون نحو ذلك بالخلفاء.
فشيوع الجاسوسية على هذه الصورة مع المضاغنة والتحاسد بعث على المصانعة والمجاملة، وازداد ذلك على الخصوص بعد ذهاب الأريحية وزوال الأنفة وعزة النفس من العرب، على أثر تضعضع العنصر العربي وتغلب العناصر الأعجمية مع تنافس أصحاب المطامع من هؤلاء في أواسط الدولة العباسية بابتزاز الأموال، واعتبر ما عقب ذلك من الاستبداد والظلم بعد أن فسدت الأحكام في الدولة الإسلامية واستبد السلاطين والأمراء غير العرب بمن أقام في ممالكهم من أهل اللسان العربي، ويسمونهم عربا وهم أخلاط من مولدي الأمم الأخرى، فلجأ هؤلاء بطبيعة العمران إلى المجاملة والمصانعة على نحو ما هو حالهم اليوم، إلا الذين أوتوا السيادة وتوفرت لهم السطوة ونفوذ الكلمة أجيالا متوالية. (3-4) العائلة في التمدن الإسلامي
كانت العائلة في أواسط التمدن الإسلامي نحو ما هي عليه اليوم، وقوامها المرأة وقد تقدم الكلام عليها، فلا نطيل القول في ذلك الآن، وإنما نقول كلمة في بعض خصائص العائلة الإسلامية، كالحجاب وتعدد الزوجات والطلاق.
الحجاب
إذا كان المراد بالحجاب ستر العورة كالخمار ونحوه، فهو ليس من محدثات الإسلام، بل هو قديم كان شائعا قبل النصرانية، ولم تغير النصرانية شيئا منه، وظل معروفا في أوربا إلى العصور الوسطى وما بعدها، ولا تزال آثاره باقية في أوربا إلى الآن.
وإذا أريد به حبس المرأة في بيتها ومنعها من مخالطة الناس، فهو من ثمار التمدن الإسلامي؛ لأنه لم يكن شائعا قبله، على أنه لم يبلغ الحد الذي بلغ إليه من الشدة والدقة، إلا بعد نضج المدنية وتمكن الحضارة من نفوس المسلمين وإركانهم إلى الترف والرخاء، وقد رأيت في كلامنا عن المرأة البدوية أنها كانت مساوية للرجل حتى نبغ من مضارب البادية نساء اشتهرن بالشجاعة والإقدام والحزم والرأي والتجارة والأدب والشعر وغيرها، فلما انتشر الإسلام وكثرت الجواري وشاع التسري في المسلمين اختلفت الظنون بين الرجل والمرأة، فقلت غيرته عليها وأساء كل منهما الظن في صاحبه، والرجل صاحب العصمة ورب العائلة، فضيق على المرأة الدروب وأقام عليها الأرصاد والعيون من أوائل الدولة الأموية، إذ اتخذوا الخصيان من العبيد ثم استقدموا الصقالبة البيض.
فالحجاب الضيق على نحو ما شاع بين العائلات الإسلامية في الشرق سببه سوء ظن الرجل واستبداده بأهل بيته واستئثاره بالملذات لنفسه، وليس هو من مقتضيات الإسلام كما يتبادر إلى الأذهان، ولو راجعت ما جاء في القرآن الكريم من هذا القبيل لرأيت تفسير أقرب إلى ما يراد من رفع الحجاب، ولكن الناس تعودوا أن يفسروا الآيات القرآنية بما يوافق عاداتهم أو أغراضهم أو أميالهم، اعتبر ذلك في كل دين تمدن أهله وعمدوا إلى تفسير كتبه، فكتب النصارى مثلا ليس فيها نص صريح يمنع عامتهم من التزوج بامرأتين فأكثر، ولكن الكنيسة رأت أن الاقتصار على امرأة أقرب إلى سعادة العائلة ونظام الاجتماع، فاستخرج رؤساء الدين ذلك من بعض القرائن بالتفسير والتأويل، والمسلمون لما استكثروا من الجواري وساءت الظنون بينهم وبين نسائهم أرادوا الحجر عليهن، ولم يعدموا تفسيرا يساعدهم على ما أرادوا فحبسوهن وضيقوا عليهن، واعتقدت المرأة بتوالي الأجيال أنه يحل للرجل ما لا يحل لها، فصبرت عليه وخافته ولكنها لم تحبه، فخافها وحبسها وجعل بينه وبينها حاجزا، وغادرها تجالس الخدم والعبيد، وأصبح لا يؤاكلها ولا يجالسها ولا يحادثها إلا نادرا، وأعلن ارتيابه في أمانتها وأصبح يفتخر بأنها لا تخرج من منزلها إلا إلى القبر.
على أن ظلم المرأة على هذه الصورة واحتقارها مخالف لتعاليم القرآن؛ لأنه يأمر بالمودة والرحمة بين الزوجين، وهذا نص الآية
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، وقوله:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وقوله:
وعاشروهن بالمعروف ، ولكن الرجل أبى إلا الاستبداد والاستئثار ولا سيما بعد انقضاء عصر العلم، إذ اقتصر الفقهاء على النظر في الأبحاث الدينية الجديدة، وخيم الجهل على العقول كما أصاب النصرانية في الأجيال المظلمة، فأخذوا يفسرون الآيات والأحاديث على ما يوافق ميولهم وأهواءهم، وكانت الأحكام قد فسدت واستبد الحكام في الناس فعادت عاقبة ذلك على المرأة المسكينة.
لأن الرجل في طور الظلم يتحمل بطش الحاكم وعسفه ويكظم ما في نفسه، حتى إذا جاء منزله عامل أهله مثل معاملة الحاكم له انتقاما لنفسه ... تلك سنة من سنن العمران على اختلاف أطوار التمدن، فالبلاد التي يتولاها حاكم ظالم يقتدي به أرباب العائلات بظلم نسائهم وأولادهم، وأما في الحكم العادل فالمرأة تنال حقوقها والرجل يعدل في حكومته، فالبيت دولة صغيرة تمثل دولة الأمة.
وما زالت المرأة المسلمة في نحو ما تقدم إلى أوائل هذه النهضة والمسلمون سكوت، حتى تصدى بعض أرباب الأقلام من المسلمين في أواسط القرن الماضي ونددوا بالحجاب وعواقبه وحرضوا إخوانهم على تركه، وأقدم من فعل ذلك على ما نعلم المرحوم الشيخ أحمد فارس الشدياق فكتب الفصول الضافية في «الجوائب» بالأستانة، ثم كتب غيره فصولا لا تشفي غليلا، حتى ظهر كتاب تحرير المرأة في آخر القرن المذكور لصاحبه قاسم بك أمين فوفى الموضوع حقه، ولم يترك مجالا لسائل.
تعدد الزوجات
ومن آفات العائلة الإسلامية تعدد الزوجات، وهي أن يتخذ الرجل زوجتين إلى أربع، والشرع الإسلامي يجيز له ذلك بشرط إذا روعي حق مراعاته لم يتخذ الرجل إلا زوجة واحدة؛ لأن الآية التي تجيز تعدد الزوجات تشترط أن يعدل الرجل بينهن، فإذا خاف ألا يعدل فيقتصر على واحدة، وهذا نص الآية:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، وفي محل آخر:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، فإذا جمعت بين الآيتين رأيت فحواهما أقرب إلى النهي عن تعدد الزوجات منه إلى الأمر به، ولذلك رأيت الغالب في العقلاء وأهل المروءة أن يكتفوا بزوجة واحدة، وكان ذلك سهلا في عصر التسري، إذ قد يأتي النسل من بعض الجواري فلا يجد الرجل ضرورة إلى الزواج ثانية أو ثالثة اكتفاء بجواريه، ومن يأتينه بما يشتهيه من النسل، على أن تعدد الزوجات ظل متبعا حتى في أهل الفضيلة والعقل إلى اليوم، ولكن على قلة، وإذا أحصي المتزوجون بأكثر من امرأة لا نظنهم يزيدون على خمسة في المائة أو عشرة من مجموع المتزوجين، وهم في الغالب من العامة، وإذا كانوا من الخاصة فإنما فعلوا ذلك لأسباب قهرية.
ومن أجاز تعدد الزوجات ذهب إلى تفسير «العدل» بالعدل في النفقة لا في المحبة، على أن كثيرين من أهل الوجاهة والشرف في العصور الإسلامية الوسطى كانوا يجمعون بين التسري وتعدد الأزواج، والغالب أن تكون السيادة للمرأة الأولى وإن اختلف ذلك باختلاف الأحوال، ولكن المرأة العاقلة التقية كانت تعد إهداء زوجها ما يرضاه من الجواري الحسان فضيلة، كما فعلت أم جعفر بالرشيد لتشغله عن الجارية دنانير.
وقد تساعد المرأة التقية زوجها على الزواج بامرأة أخرى تتوقع من مسعاها في ذلك ثوابا؛ روى الشيخ الجبرتي المؤرخ المصري عن إحدى أزواج أبيه قال: إنها كانت من الصالحات المصونات وكانت بارة بزوجها ومطيعة له، ومن جملة برها له أنها كانت تشتري له من السراري الحسان من مالها وتنظمهن بالحلي والملابس وتقدمهن إليه، وتعتقد حصول الأجر والثواب لها بذلك، وكان يتزوج عليها كثيرا من الحرائر فلا يسوءها فعله، ولا يحصل عندها ما يحصل عند النساء من الغيرة.
64
الطلاق
ويقال عن الطلاق ما يقال عن تعدد الزوجات، فالعقلاء يذهبون إلى كره الطلاق بناء على بعض الآيات الواردة في هذا الشأن كقوله تعالى:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، وقوله:
فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ، وفي الحديث «أبغض الحلال عند الله الطلاق»، ومع ذلك كان بعض كبار الصحابة يكثرون منه إكثارا مدهشا، كما فعل الحسن بن علي بن أبي طالب فإنه تزوج 250 امرأة وقيل: 300، وكان أبوه يضجر من ذلك ويكرهه حياء من أهليهن، وكان يقول في خطبه: «إن حسنا مطلاق فلا تزوجوه.» ويليه المغيرة بن شعبة فقد تزوج نحو هذا العدد.
65
على أن الطلاق ما زال مكروها كما رأيت من كلام الإمام علي، وأهل الأنفة والفضل لا يطلقون إلا لعلة كبيرة أو عذر شرعي، ولو أحصيت حوادث الطلاق لرأيت أكثرها في طبقات العامة.
ومما ساعد على تكاثر حوادث الطلاق المبالغة في الحجاب، فيتزوج الشاب الفتاة وهو لم ير وجهها، فإذا لم توافقه هان عليه طلاقها؛ لأنه لم يرض الزواج على هذا الشرط إلا لعلمه بسهولة التخلص من زوجته إذا لم تعجبه، وهذا التضييق ليس من الدين في شيء، لورود عدة أحاديث تجيز للرجل أن يرى خطيبته قبل الزواج، وأحاديث تأمر برؤيتها صريحا،
66
فلو عملوا بذلك لقلت البواعث على الطلاق، على أن للطلاق في بعض الأحوال فوائد اجتماعية حرمت منها الطوائف التي لا طلاق عندها. (3-5) المعيشة العائلية
الطعام:
كان طعام العرب قبل الإسلام قاصرا على الألبان، وما يستخرج منها كالسمن والزبد والجبن، ومن التمر والحبوب واللحوم يأكلونها على أبسط ما يكون من أحوالها، كما يفعل أهل البادية اليوم، وأكثر ألبانهم ولحومهم من الإبل، وقد يصنعون منها أطعمة تتركب على نسب معينة، كالثريد فإنه يصنع من اللحم واللبن والخبز، ومنها ما يصنع من اللبن والدقيق فقط، كالرغيدة والرهيدة والعصيدة، أو يصنع من السمن والدقيق كالبكالة أو من الدقيق والعسل والسمن كالوضيعة، ولهم من أمثال هذه الأطعمة نحو أربعين لونا .
ذلك هو طعام أهل اليسار منهم وأصحاب الضيافة، وأما الفقراء فقلما يأكلون لحم الإبل أو الضأن، وإنما كانوا يقتاتون بلحم الضب أو بالجراد، وإذا جاعوا أكلوا العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم فيطحنونه، وكان حال القرشيين قريبا من ذلك،
67
وربما أكلوا القرامة ونحاتة القرون والأظلاف والمناسب من برادتها، أو القرة وهي الدقيق المختلط بالشعر، وكانوا إذا عطشوا ولم يجدوا ماء، شربوا الفظ وهو عصارة الفرث أو المجدوح وهو مصل دم الإبل.
68
فلما جاء الإسلام وافتتحوا العراق وفارس ومصر دهشوا لما شاهدوه من حضارة الروم والفرس، ووقعوا على ألوان من الأطعمة لم يعرفوها، فأشكل عليهم أمرها وظفر بعضهم بجراب فيه كافور فأحضره إلى أصحابه فظنوه ملحا، فطبخوا طعاما ووضعوه فيه فلم يجدوا له طعما ولم يعلموا ما هو، فرآه رجل عرف ما فيه فاشتراه منهم بقميص خلق يساوي درهمين،
69
ورأى بعضهم الخبز الرقاق فظنه رقاعا يكتب عليها،
70
وشاهدوا الأرز فظنوه طعاما مسموما،
71
ثم ما لبثوا أن أقاموا بين أولئك الأقوام حتى عرفوا مآكلهم ولا سيما الفرس، فأخذوها عنهم كما أخذوا أكثر مبادئ الحضارة وكثيرا من العادات والآداب، وليس في الشرع الإسلامي ما يمنع تمتعهم بالطيبات من الأطعمة إلا ما جاء النص بتحريمه.
فأخذوا بأطراف الحضارة من أيام بني أمية، وأول من قلد الأعاجم بأسباب الترف معاوية، فتنعم بمأكله ومشربه،
72
واقتدى به خلفاؤه وسائر الناس، ولا سيما بعد أن كثرت الأموال بين أيديهم فأكلوا السكباج، وهو نوع من المرق كانوا يصنعونه من مرق اللحم والخل، ويضعون فيه اللحوم المطبوخة كالدراج ونحوه، وكانوا يسمونه سيد المرق، والفالوذج وهو نوع من الحلوى، وكذلك اللوزينج يحشى باللوز والسكر، والجوزاب والخشاف والجلاب وغيرها، وتفننوا في معالجة اللحوم بالألبان والخضار والتوابل على أساليب شتى.
اللباس:
لباس العرب الجاهلية
ولباس العرب كان بسيطا مثل طعامهم وسائر طرق معايشهم، ولا يزال حتى الآن في عرب البادية نحو ما كان عليه قبل الإسلام، وهو عبارة عن القميص والحلة والإزار والشملة والعباءة والعمامة، ولم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون السراويل ولا الأقبية،
73
وإنما هي فارسية، وكذلك النعال والخفاف، ولكن بعض الخاصة كان يلبسها، وكانوا يعلقون سيوفهم على عواتقهم، وثيابهم على الإجمال قصيرة إلى أسفل الركب.
74
وأفضل مثال للباس العرب لباس النبي
صلى الله عليه وسلم
فقد ذكروا أن أحب اللباس إليه البرود والبياض والحبرة، وهي ضرب من البرود فيه حمرة، وكان كمه قصيرا إلى الرسغ، يلبس أحيانا حلة حمراء وإزارا ورداء، والإزار قصير إلى أسفل الركبة، ولبس الخف والنعل،
75
وقد نهى عن الثوب الطويل الذي يجر على الأرض من الخيلاء، ومن أقواله: «فضل الإزار في النار.»
76
ولم يكن العرب يعرفون من الأنسجة غير القطن والصوف.
على أن الذين كانوا يفدون على الشام والعراق من أغنيائهم لتجارة أو زيارة كانوا يقلدون أهلها بملابسهم الفاخرة، فمن فعل ذلك اشتهر ذكره بين القبائل ولا سيما في أوائل الإسلام، ومن المأثور عندهم أن أول من لبس الخز الأدكن من العرب عبد الله بن عامر، وأول من لبس الدراريع السود المختار بن أبي عبيد، وأول من لبس الطيلسان في المدينة جبير بن مطعم،
77
وقس عليه سائر ما اتخذوه من لباس الأعاجم بعد الإسلام، والعادة أن يبدأ الأمراء بذلك ثم يقلدهم سائر الناس، وأول من أقدم على تقليد الأعاجم بأسباب البذخ معاوية وعماله، فزياد بن أبيه أمير العراق أول من قلد الفرس بلبس القباء الديباج،
78
وهو أول من لبس الخفاف الساذجة بالبصرة.
ولما أترف بنو أمية لبسوا الحرير على أنواعه، وتفننوا بأنواع الأنسجة، وأحبوا الوشي وأكثروا من لبسه، فقلدهم الناس في ذلك فراجت المنسوجات الموشاة في أيامهم، واتخذوا كثيرا من ألبسة الروم، ولكنهم لرغبتهم في المحافظة على البداوة ظلوا يلبسون العمائم ويعلقون السيوف على العواتق، وكان الأحنف يقول: «لا تزال العرب عربا ما لبست العمائم وتقلدت السيوف.»
79
اللباس في عصر الحضارة
فلما أفضت الخلافة إلى العباسيين، واستسلموا للفرس وأخذوا نظامهم وآدابهم، قلدوهم بالألبسة وجعلوا ذلك بأمر رسمي من أوائل دولتهم، فأمر المنصور رجاله سنة 153ه أن يلبسوا القلانس الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها، بدل العمائم، أو يعتموا فوقها بعمامة صغيرة، وأن يعلقوا السيوف في أوساطهم، وأن يكون اللباس الأسود عاما فيهم، وهو شعار العباسيين كما كان البياض شعار الأمويين، فلا بد للداخل على الخليفة العباسي من لباس جبة سوداء يسمونها «السواد» تغطي سائر الثياب، وألبسهم المنصور دراريع كتب على ظهورها
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ،
80
وبعث إلى عماله في سائر الأقطار أن يأمروا رجالهم بمثل ذلك.
81
فأقبل العرب من ذلك الحين على تقليد الفرس في الملابس، ولا سيما أهل الدولة ورجال الحكومة، فلبسوا الأقبية والسراويلات والطيالسة والخفاف والجوارب وغيرها، مع بقاء ألبسة العرب عند عامتهم، ثم اختصت كل طائفة أو طبقة بلبس خاص يميزها عن سواها، فالفقهاء والعلماء كانوا يلبسون عمامة سوداء بشكل خاص ومبطنة وطيلسان أسود،
82
وأول من غير لباس العلماء على هذه الصورة أبو يوسف قاضي الرشيد،
83
وأما لبس القضاة فهو القلانس الطوال والطيالسة الرقاق، ويختلف ذلك باختلاف الدول والأعصر مما لا محل لاستيفائه.
أما عامة الناس فتختلف أشكال ألبستهم باختلاف صناعاتهم وأحوالهم وطبقاتهم، وباختلاف الأصقاع والأطوار مما لا يمكن حصره، وإنما يقال بالإجمال أن لباس الرجال العمامة والدراعة والسراويل والقميص والقباء والجبة والجوارب والنعال، على نحو لباس المصريين والسوريين في أوائل القرن الماضي وهو ما يلبسه جماعة المشايخ الآن.
ثياب المنادمة والتطيب والخضاب
على أن رجال الدولة ومن جرى مجراهم من الخاصة كانت لهم ألبسة لمجالس الأنس والشراب يسمونها «ثياب المنادمة»، وهي أثواب مصبغة بالألوان الزاهية: الأحمر أو الأصفر أو الأخضر، يصقلونها حتى تلمع وتشرق، ويتضمخون بالخلوق ويتطيبون، ولهم ألبسة يتخففون بها في منازلهم وأخرى يلبسونها في الأسفار وغير ذلك.
أما التطيب فقد كان من دلائل الغنى والنبل عندهم، ومن أمثالهم: «ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكبا، أو سمعته يعرب كلامه، أو شممت منه طيبا.»
والخضاب كان مستحسنا عندهم، وأصله هندي أخذه الفرس عن الهنود،
84
ومنه انتقل إلى بلاد العرب قبل الإسلام، ويقال: إن أول من خضب بالسواد من أهل مكة عبد المطلب،
85
وقالوا: بل المغيرة بن شعبة، ولما ظهر الإسلام وانتشر العرب في الأرض تعلموا فنون الخضاب، فصاروا يخضبون بالحناء للحمرة وبالزعفران للصفرة فضلا عن الخضاب الأسود، وكانوا يبيضون شعورهم بالكبريت،
86
وأول من خضب لحيته بالزعفران جرير الشاعر،
87
وكان حسان بن ثابت يخضب لحيته على أسلوب خاص، فيلون شاربيه وعنفقته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم،
88
وقس على ذلك تفننهم في الخضاب للرجال والنساء، ولا يزال ذلك شائعا في الشرق إلى الآن، والأكثرون يخضبون بالسواد وبعضهم بالحناء، ويندر الخضاب بالزعفران، ولا نعرف أحدا يبيض شعره بالكبريت.
المأوى:
مساكن العرب
كان العرب قبل الإسلام أهل خيام وأنعام، يحملون منازلهم على ظهورهم، إلا من أقام منهم في مكة أو المدينة أو الطائف أو غيرها من مدن الجاهلية، ولما نهضوا للفتح كانت البداوة من جملة أسباب تغلبهم، فلما فتحوا الأمصار تحاشوا سكنى المدن، ونصبوا مضاربهم في ضواحيها أو بنوا بيوتا من القصب معسكرا لهم، لا يفصل بينها وبين مقر الخلافة (المدينة) ماء، كأنهم محتلون إلى أجل، وكانوا إذا فسد ما بنوه من القصب أو احترق، استأذنوا الخليفة عمر في بنائها بالحجارة، مثل المدن التي فتحوها بمصر والشام والعراق، ولكنه لم يكن يرى تحضرهم خوفا عليهم من الترف والرخاء، ولهذا السبب أيضا منعهم من الزرع، ثم أذن لهم بالبناء، ولكنه اشترط الاقتصاد فيه، فلما استشاروه في بناء الكوفة بالحجارة قال لهم: «افعلوا، ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة.»
89
على أن ناموس العمران غلب على ما أراده عمر من بقاء المسلمين يقيمون في المعسكرات، فما لبثوا أن تحضروا وتحولت تلك المعسكرات إلى مدن عامرة، ونزلوا المدن القديمة التي فتحوها، وبنوا المنازل والقصور يقلدون بها أبنية الدول السالفة.
أساليب البناء في الإسلام
وكانت أساليب البناء يومئذ تختلف باختلاف الأمم، ولكل منها نمط تولد عندها بتوالي الأجيال، إما رأسا أو اقتباسا، وأهمها النمط البيزنطي في الشام ومصر، والفارسي في فارس وخراسان، والقوطي في الأندلس وما يليها، فلما تحضر العرب وعمدوا إلى تشييد المباني؛ استخدموا في بنائها مهندسين من الروم والفرس، فكانوا يخططونها على ما عرفوه من الأساليب التي ذكرناها، ثم أخذ العرب تلك الصناعة وأدخلوا فيها تغييرا يوافق الذوق الشرقي ويلائم الإسلام، فتولد نمط إسلامي خاص يعرف بالنمط العربي أو الشرقي يختلف باختلاف الأصقاع واختلاف العصور والدول، وترجع تنوعاته إلى ثلاثة أعصر كبرى:
أولا: العصر العربي الرومي:
هو أقدم أعصر البناء في الإسلام، وأساسه النمط البيزنطي، وتنوع في أثناء التمدن الإسلامي وتفرع إلى خمسة أشكال: (1)
النمط السوري ومثاله الجامع الأقصى في القدس، والجامع الأموي في الشام. (2)
النمط المصري ومثاله جامع عمرو بالفسطاط. (3)
النمط الإفريقي ومنه جامع القيروان. (4)
النمط الصقلي في صقلية بإيطاليا ومن أمثلته قلاع سرقوسة وغيرها. (5)
النمط الأندلسي ومنه جامع قرطبة وبعض الآثار العربية في طليطلة مما بني قبل انقضاء القرن العاشر للميلاد.
ثانيا: العصر العربي البحت:
وهو يشمل الأشكال التي تكيفت بين يدي العرب حتى بعدت عن الأصول التي نقلت عنها وهي قسمان: (1)
النمط المصري ومنه الأبنية التي أقيمت في مصر بين القرن العاشر والخامس عشر وفي جملتها الجوامع التي بناها السلاطين المماليك، كجامع الظاهر وجامع السلطان حسن. (2)
النمط الأندلسي وهو ما بني في الأندلس بعد القرن العاشر ومن أمثلته أبنية إشبيلية وغرناطة ولا تزال آثارها باقية إلى الآن.
ثالثا: العصر المختلط:
ويدخل فيها: (1)
النمط الإسباني العربي ويراد به ما بناه المسيحيون بعد استيلائهم على الأندلس وخروج المسلمين منها. (2)
النمط الإسرائيلي العربي ومن أمثلته الآثار الباقية لليهود في طليطلة من أنقاض الكنائس. (3)
النمط الفارسي العربي كالجوامع التي بناها الفرس بعد الإسلام ولا سيما في أصبهان. (4)
النمط الهندي العربي وهو خليط من النمطين الهندي والعربي كبرج كتاب وهيكل بندرابند وباب علاء الدين. (5)
النمط المغولي العربي كالأبنية التي أقيمت في الهند أثناء سلطة المغول وأشهرها تاج محل وقصر الشاه وكثير من المساجد ونحوها.
90
فمساكن الناس في عهد التمدن الإسلامي كانت تختلف شكلا باختلاف البلاد والعصور، وتتفاوت سعة وقدرا بتفاوت طبقات الناس: من الأكواخ الحقيرة إلى القصور الفخيمة، وسنأتي بأمثلة من القصور وسائر الأبنية الإسلامية عند الكلام على الحضارة.
هوامش
حضارة الدولة الإسلامية
نريد بالحضارة ما تبلغ إليه الدولة من الثروة وبسطة العيش والتوسع في أسباب الترف والرغد في أرقى درجات عمرانها، والدولة الإسلامية أدركت تلك الدرجات أولا في العصر العباسي ببغداد من أواسط القرن الثاني للهجرة (الثامن الميلادي) إلى أواسط الرابع (العاشر الميلادي)، وفي العصر الأموي بالأندلس في القرن الرابع، وفي العصر الفاطمي بمصر من أواسط الرابع إلى أواسط السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
وأسباب الحضارة فيما نحن فيه تقسم إلى قسمين كبيرين؛ الأول: العمارة أي إنشاء المدن وبناء المصانع والقصور، والثاني: الثروة وبها يتم ما يقتضيه الترف من الانغماس في النعيم والرخاء وبسطة العيش، فنتكلم أولا عن المدن، فالمباني، ثم نبين ما بلغت إليه الأمة من الثروة وأسباب الترف والرفاهية.
عمارة المدن والقصور
إن المدن التي سكنها المسلمون وحواها التمدن الإسلامي تعد بالمئات، وهي منتشرة في آسيا وإفريقيا وأوربا، ومنها ما كان عامرا قبل الإسلام، ومنها ما بناه المسلمون لأنفسهم، وقد نشرنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب فصلا في المدن الإسلامية، وما بلغت إليه من الحضارة والثروة في عهد التمدن الإسلامي واقتصرنا على أعظم تلك المدن: البصرة، والكوفة، والفسطاط، وبغداد، وأجلنا الكلام فيما بقي إلى هذا الجزء فنقول: (1) القطر المصري (1-1) مساحة الأرض الزراعية فيه
القطر المصري اليوم (حوالي سنة 1910) في نهضة مالية تضاعفت فيها الثروة إلى حد استغربه الناس وخافوا رد الفعل؛
1
لأنهم رأوا غلاء في الأسعار، مفاجئا لم يعهدوا مثله، وزادت مساحة الأرض الزراعية ستة أضعافها في قرن واحد، فبعد أن كانت مساحتها في أيام المماليك نحو مليون فدان وبعض المليون صارت ثمانية ملايين فدان، وبعد أن كان الفدان يباع ببضعة عشر جنيها بيع بمائة جنيه، أو مائة وخمسين جنيها أو أكثر، فكيف لو علموا أن مساحة الأرض الزراعية في إبان التمدن الإسلامي زادت على 25000000 فدان؟ وقد ذكرنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب نقلا عن ثقات مؤرخي العرب، فاستغربه بعض الفضلاء وعدوه من قبيل الخرافة أو الأكذوبة على عادتهم في الاستخفاف بأقوال مؤرخي المسلمين، ولا نرى باعثا على هذا الاستخلاف، والمسلمون أو العرب من أكثر الأمم تحقيقا في حوادث التاريخ، لما تعودوه من التحقيق في المسائل الدينية بالإسناد ونحوه.
على أننا لا نلومهم إذا استغربوا تلك الرواية؛ لأن الناس يقيسون الأشياء بما علموه من أشباهها، فثروة القطر المصري إذا قيست بما ألفناه من أحوال عمرانه في القرنين الماضيين لا نرى ما يسهل علينا تصديق قول العرب بمساحته الزراعية إلى ثلاثة أضعاف ما بلغت إليه اليوم، ولكن لو قيل لأهل هذا الجيل إن مساحة الأرض الزراعية بمصر ستبلغ بعد عشر سنين عشرة ملايين أو 12 مليون فدان لهان عليهم التصديق؛ لأنهم شاهدوا تزايد هذه المساحة من مليون فدان إلى ثمانية ملايين، أما لو قيل ذلك لأهل أواسط القرن الماضي لعدوه مستحيلا؛ لأن مساحة أرض مصر التي تقبل الزراعة لم تكن تقدر يومئذ بأكثر من 7000000 فدان، وهاك تقدير الدكتور كلوت بك لسنة 1840
2
باعتبار الفدان:
أرض مزروعة
غير مزروعة
الجملة
3856226
3157774
7014000
مصر السفلي
2249000
1551000
3800000
مصر الوسطى
856826
763174
1620000
مصر العليا
750400
843600
1594000
فتكون مساحة الأرض التي يمكن زرعها بمصر 7014000 فدان، فمن كان هذا اعتقاده في أطيان مصر لا يصدق إذا قيل له: إن مساحة هذه الأطيان ستزيد على عشرة ملايين فدان، أو 12 مليونا بعد بضع عشرة سنة. (1-2) عدد السكان
ويقال نحو ذلك في عدد السكان، فلو قيل في أواسط القرن الماضي: إن القطر المصري سيبلغ عدد سكانه إلى عشرة ملايين أو 12 مليونا لعدوا قولنا من الخرافات، أو كما قال الدكتور كلوت بك: «من عادات الشرقيين في المبالغة.» لأن عددهم في أيامه لم يكن يزيد على 3000000 نفس، فكيف يصدق زيادته إلى أربعة أضعافه؟ لا نقول ذلك تحكما أو افتراضا، ولكننا ننقل للقارئ قول الدكتور كلوت بك مؤرخ ذلك العصر في هذا الشأن؛ فقد بحث في كتابه عن سكان القطر المصري سنة 1840 فبلغ عددهم ثلاثة ملايين نفس، فصدر بحثه بمقدمة عن إحصائهم في الزمن القديم قال فيها ما معناه: «يؤخذ من إحصاء مؤرخي اليونان أن سكان هذا القطر بلغ عددهم في زمن سيزوستريس والبطالسة نحو سبعة ملايين نفس إلى ثمانية، وأما مؤرخو العرب فزعموا أن عددهم في زمن عمرو بن العاص بلغ عشرين مليونا، وهو قول يدل على عادة الشرقيين في المبالغة في كتاباتهم ... لأننا لو قسنا مصر بما نعلمه في سواها من نسبة عدد الناس إلى مساحة ما يتوطنونه من الأرض لوصلنا إلى نتيجة تنفي كل شك، فمصر مساحتها سدس مساحة فرنسا، ومهما قلنا في خصب وادي النيل وما يمكن الوصول إليه من امتداد الزراعة وزيادة العمارة، ولو سلمنا بإمكان استثمار البقاع الرملية، فمع كل هذه الوسائل لا يرجى زيادة عدد السكان على ثلث الإحصاء الذي ذكره العرب.» (أي: نحو 6333000 نفس) هذا هو رأيه، وأنت ترى أن سكان مصر زاد عددهم اليوم على عشرة ملايين.
ولن تمضي بضع سنين حتى يناهز 15 مليونا، أو ضعفي ما ظنه الدكتور كلوت بك غاية ما يمكن الوصول إليه.
وقياسا على ما تقدم لا نرى مانعا من بلوغ سكان القطر المصري إلى 20000000 نفس، فلا غرابة إذا بلغوا هذا العدد في إبان التمدن الإسلامي، وإنما أنكر أبناء هذا الجيل ذلك استخفافا برواية العرب، مع أنها مبنية على إحصاءات رسمية واقعية في أزمنة معينة لأجل تعديل الجزية أو الخراج، وليست من قبيل الحدس أو الرجم بالغيب، الإحصاء الأول وقع في زمن الفتح على أيام عمر، ذكر المقريزي أنهم أحصوا الرجال الذين تؤخذ عليهم الجزية فبلغ عددهم 8000000 نفس، فإذا اعتبرناهم ثلث الأمة كان مجموعها 24000000 نفس، والإحصاء الثاني في ولاية الوليد بن رفاعة سنة 110ه، ذكروا أنه خرج ليحصي أهلها وينظر في تعديل الخراج، فأقام في ذلك ستة أشهر بالصعيد حتى بلغ أسوان، ومعه جماعة من الكتاب والأعوان يكفونه ذلك بجد وتشمير، وثلاثة أشهر في الوجه البحري، فأحصوا من القرى عشرة آلاف قرية، في أصغر قرية منها 500 جمجمة من الرجال الذين تفرض عليهم الجزية، فتكون جملة ذلك على الأقل 5000000 رجل، وعلى متوسط ما يلحق ذلك من النساء والأطفال والشيوخ يكون المجموع نحو 20000000 نفس . (1-3) مساحة الأرض الزراعية
ويقال نحو ذلك في الأرض الزراعية، فإنهم استخرجوا مساحتها بالإحصاءات الرسمية لأجل تعديل الخراج، منها إحصاء لعبيد الله بن الحبحاب سنة 107ه فبلغت مساحة الأرض الزراعية مما يركبه النيل 30000000 فدان، أي نحو أربعة أضعاف ما بلغت إليه مساحتها اليوم، مع اجتهاد حكومتنا في تعميم وسائل الري ببناء الجسور والخزانات، وما لدينا من آلات الحرث والزرع، فإذا سبق إلى أذهاننا الاستخفاف برواية العرب حكمنا لأول وهلة وبلا تردد أنها مكذوبة، أما إذا نظرنا فيها نظر الناقد المحقق فلا نعدم الوصول إلى الحقيقة.
فالمقريزي وغيره من رواة الإحصاء لم يقولوه عرضا ولا تركوا في قولهم التباسا، وذكروا في أمكنة أخرى أن الأرض الزراعية نقصت في أيام ابن المدبر، أي بعد قرن ونصف قرن، إلى 24000000 فدان، ولم يكتفوا بذكر المساحة ولكنهم ذكروا عدد العمال الذين كانوا يشتغلون بالحرث والزرع، واشترطوا عددا معلوما منهم، فإذا نقص نقصت غلة الأرض.
3
ولا يتجلى لنا وجه الصواب إلا بعد معرفة البقاع التي كانت عامرة في ذلك العصر، فلو كانت حدود مصر الزراعية يومئذ مثل حدودها الآن، أي يحدها من الشرق والغرب الجبلان والصحراء الشرقية والغربية، لحكمنا باستحالة زعمهم؛ لأن مساحة مصر الجغرافية اليوم، وفيها الواحات والبادية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر والعريش، نحو 400000 ميل مربع، معظمها صحراء قاحلة، أما الأرض الزراعية فمساحتها 17826 ميلا مربعا، يخرج منها 4850 ميلا مسطحات النيل والترع والمستنقعات والبحيرات ونحوها، فالباقي 12976 ميلا مربعا، أي نحو 8000000 فدان، وهي الأرض المزروعة الآن فلا سبيل إلى المزيد.
ولكن يؤخذ مما نقله العرب عن أحوال مصر في إبان تمدنهم، ومما جاء من أخبارها القديمة، أن حدودها الزراعية كانت أوسع من ذلك كثيرا، ذكروا أنها كانت تمتد من الغرب وراء صحراء الإسكندرية إلى برقة،
4
وتتصل من الشرق بحدود السويس إلى العريش، ومعظم المسافة هناك اليوم رمال قاحلة ولكنها كانت تزرع قديما الزعفران والعصفر وقصب السكر وكان ماؤها غزيرا، ولا تزال آثار العمارة باقية في تلك البقاع، فإن تحت الرمال تربة سوداء زراعية يعرفها من اختبر الأرض بالمسبار.
وكان الصعيد عامرا ويمتد من جهته الشرقية إلى البحر الأحمر وأراضي البجة،
5
وكانت أطيان الفيوم ممتدة إلى ما وراء العمارة المعروفة مسافة بعيدة، فإذا اعتبرنا ما ذكروه من هذا القبيل، وأن النيل كان أكثر فروعا وأغزر ماء وأوسع فيضانا مما هو عليه اليوم، هان علينا قبول أقوالهم وإن كنا لا نزال نستغربها لبعدها عن مألوفنا، ولعلنا متى رأينا الشركات تعمل على إحياء الصحاري المحيطة بوادي النيل شرقا وغربا، بنزع ما يغطيها من الرمال وأروائها بالترع المتصلة إليها من النيل أو الآبار الأرتوازية، نرى أقوالهم معقولة، ولا نظن ذلك بعيدا، ورجال الأعمال يدرسون أمثال هذه المشروعات. (1-4) مدينة القاهرة
وأشهر مدن القطر المصري في الإسلام الفسطاط والقاهرة، وقد ذكرنا عمارة الفسطاط في الجزء الثاني، وأما القاهرة فقد بناها القائد جوهر في أواسط القرن الرابع للهجرة معقلا لمولاه المعز لدين الله الفاطمي وجنده، فظلت في أثناء دولة الفاطميين لم تتسع عمارتها وإنما كانت العمارة للفسطاط والقطائع، وذكر المقريزي أنه كان في هاتين المدينتين - غير القاهرة - 100000 بيت، في بعضها مائة إنسان ومئتان، إذ يكون البيت مؤلفا من خمس طبقات أو ست أو سبع،
6
ومع ذلك فهي في تقديره لا تزيد على ثلث بغداد، فكم تكون عمارة هذه؟ ولما أفضت الدولة إلى السلطان صلاح الدين أذن للناس بسكنى القاهرة، فاتصلت بمدينة الفسطاط، وكانت الفسطاط تسمى «مصر»، فلما صارتا مدينة واحدة أطلقوا عليها اسم «مصر والقاهرة»، ثم قالوا «مصر القاهرة»، ولما خربت الفسطاط ظل الاسم للقاهرة وحدها كما هو مشهور. (2) الأندلس
لما فتح المسلمون الأندلس كانت عامرة آهلة، فأقاموا في مدنها وزادوها عمرانا، وأشهر تلك المدن قرطبة وقد زادها المسلمون عظمة بما بنوه في ضواحيها من القصور الكبيرة أشباه المدن الضخمة مما سنذكره. (2-1) قرطبة
هي من أعمال الأندلس، واقعة على الوادي الكبير تستقي ماءها منه، وكانت عامرة قبل الإسلام ويظن أنها من بناء القرطجنيين ودخلت في حوزة الرومانيين سنة 152 قبل الميلاد، وتوالت عليها أحوال شتى حتى فتح المسلمون الأندلس واستولوا على طليطلة، ثم جعلوا مقر الإمارة في قرطبة، وزاد الأمويون عمارتها بما أنشأوا من القصور والمساجد والجسور وغيرها، فاتسعت مساحتها، وكان محيط المدينة الأصلية 33000 ذراع عليها سبعة أبواب، فنشأ حولها 21 ربضا في كل ربض من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله، فصار طولها 24 ميلا وعرضها ستة أميال أو 144 ميلا مربعا (ومساحة لندن 117 ميلا)، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين على طول ضفة الوادي المذكور.
وقد أحصوا مباني هذه المدينة وأرباضها في إبان عمرانها إحصاءات مختلفة خلاصتها أن عدد الأبنية فيها كما يأتي:
عدد
124503
113000
دور الرعايا
430
دور القصر الكبير
6300
دور أهل الدولة
3873
المساجد
900
الحمامات
وذكروا أن عدد الأبنية بلغ في أيام ابن أبي عامر 200000 دار للرعية، و60300 دار لأهل الدولة، و80455 حانوتا غير الحمامات والخانات،
7
ولا يخلو هذا التقدير من مبالغة، والأول أقرب إلى الصواب، وإذا اعتبرنا ما يلحقه من الحوانيت والخانات زاد المجموع على ضعفي عدد أبنية القاهرة اليوم.
على أنك ترى في هذا التقسيم تمييزا بين الخاصة والعامة في المساكن، وأن دور الخاصة نحو 6 في المائة من دور العامة، على حين أن دور الأشراف في رومية لم يزد عددها في إبان عمرانها على 2000 دار،
8
فعمارة قرطبة بهذا الاعتبار فائقة الحد، وأما سكانها فكانوا يناهزون المليونين، وسيأتي الكلام على قصورها. (2-2) غرناطة
وأما غرناطة فكانوا يسمونها دمشق الأندلس، لكثرة أثمارها وأعنابها وفاكهتها، وتمتاز عن سائر مدائن الأندلس بنهر يتوزع على دورها وأسواقها وحماماتها وأرجائها الداخلة والخارجة وبساتينها، كما يتوزع نهر بردى في دمشق، وبلغت غرناطة قمة مجدها في الدولة النصرية، وأشهر ملوكها ابن الأحمر، في أواسط القرن الثامن للهجرة، وهو الذي بنى قصر الحمراء فيها كما بنى عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء في قرطبة، ونتقدم إلى ذكر القصور والمباني. (3) القصور والمباني
قال ابن خلدون: «إن المباني والمصانع في الملة الإسلامية قليلة، بالنسبة إلى قدرتها وبالقياس على من كان من الدول قبلها.» ولكننا إذا اعتبرنا ما انتاب المدائن الإسلامية من أسباب الخراب بما توالى عليها من الإحن والفتن، ونظرنا إلى ما بقي من أبنيتها في مصر والشام والعراق وفارس والهند والأندلس، رأيناها أكثر مما خيل لمؤرخنا الفيلسوف، ولعل الذي بعثه على هذا القول أن كثيرا من هذه المباني شيد بعد عصره على عهد السلاطين المماليك في مصر، وبعضها لم يتصل علمه به مما في بلاد فارس والهند وغيرها، فقد كان للخلفاء والأمراء، على اختلاف الدول والممالك، عناية في بناء المساجد والمصانع والقصور يتأنقون في هندامها وإتقانها، فضلا عن المتنزهات والحدائق مما ينفقون فيه الأموال الطائلة، فيجلبون إليه الأغراس من أطراف المعمور، ويتفننون في تزيين مجالسهم بالأشعار والتصاوير المموهة بالذهب، وبينها رسوم الحيوانات والآدميين والأزهار وغيرها مما ستراه. (3-1) مباني الأمويين في الشام
لم يصلنا من أخبار مباني الأمويين في الشام ما يستحق الذكر إلا «الجامع الأموي»، الذي جدد بناءه الوليد بن عبد الملك بدمشق، وكان قبل الإسلام كنيسة على اسم القديس يوحنا، فلما فتح المسلمون دمشق صالحوا أهلها على أن تقسم الكنيسة مناصفة: المسيحيون يصلون في نصفها الغربي، والمسلمون في النصف الشرقي، فلما أفضت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك أخذ النصفين جميعا وجدد بناء الجامع، فاستقدم نحو 12000 صانع من بلاد الروم، تأنقوا في بنائه فغطوا جدرانه كلها بفصوص من الفسيفساء صبغت بأنواع الأصبغة الغريبة فمثلت أشجارا، وفرعت أغصانا منظومة بالفصوص ببدائع الصنعة الأنيقة، فأنفق في ذلك نحو 11200000 دينار، وكان طول الجامع من الشرق إلى الغرب 300 ذراع، وعرضه 200 ذراع، قائم على 68 عمودا، وأعظم ما فيه قبة مصنوعة من الرصاص متصلة بالمحراب عظيمة الاستدارة والارتفاع، وقد زاره ابن جبير الرحالة الأندلسي في القرن السادس للهجرة، ووصفه وصفا مطولا وذكر تاريخه إلى أيامه مما يضيق عنه المقام،
9
ولا يزال هذا الجامع قائما إلى الآن، ويعد من أفخر أبنية المسلمين.
وبنى الحجاج بن يوسف قبة الإسلام في واسط، وكانت من أفخم الأبنية وفيها يقول الشاعر:
بنى قبة الإسلام حتى كأنما
أتى الناس من بعد الضلال رسول
10 (3-2) مباني العباسيين بالعراق
أول من شاد الأبنية منهم المنصور، فبنى القبة الخضراء ليحول أذهان الناس عن الكعبة إليها، وبنى الجامع والحصون والقصور في بغداد، كقصر الخلد وقصر باب الذهب وغيرهما، وأخذ الخلفاء بعده في تشييد المصانع، واقتدى بهم وزراؤهم وأمراؤهم، فأقاموا قصورا فخيمة تعرف غالبا بأسماء بانيها، كقصور البرامكة في الشماسية، وقصر ابن الخصيب، وقصر أم حبيب بالجانب الشرقي من بغداد، وقصر بني خلف بالبصرة، وقصر عيسي بن علي وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور، وقصر وضاح بناه رجل اسمه وضاح للمهدي العباسي، وقصر الرشيد، وقصر الأمين، وقصر ابن الفرات، وقصر ابن مقلة، غير ما أطلقوا عليه لفظ الدار كدار الشجرة الآتي ذكرها، ودار القرار وهي قصر زبيدة زوج الرشيد وغير ذلك، وأخذت رغبتهم في بناء القصور تتزايد كلما تقدموا في المدنية وأغرقوا في الترف والرخاء، على أن بعض خلفائهم كانوا يحبون العمارة وينشطونها وأولهم المعتصم بالله، فقد كان كلفا بالبناء فبنى سامرا لأتراكه وأقطعهم فيها القطائع، والمتوكل على الله كان مغرما بالعمارة، فبذل فيها الأموال الطائلة، فأحدث أساليب من الأبنية لم تكن معروفة قبله، منها النمط الحيري والكمين ذات الأروقة، وبنى ثلاثة أبنية تعرف بالهاروني والجوسق والجعفري، بذل في بنائها جميعا أكثر من 100000000 درهم،
11
أنفق منها على القصر الجعفري أكثر من 2000000 دينار،
12
أو نحو 40000000 درهم، ثم صار تشييد المباني عادة جرى عليها الخلفاء والأغنياء، فضلا عن المتنزهات، فبنى إسماعيل بن علي متنزها أنفق فيه 50000000 درهم.
13
قصر التاج وقصر الثريا
وكان المعتضد بالله محبا للعمارة أيضا، فبنى قصرا في الجانب الشرقي من بغداد سماه «قصر التاج» لم يتم في أيامه فأتمه ابنه المكتفي، وكان في مكانه قصر بناه جعفر البرمكي ثم سكنه الحسن بن سهل فسمي القصر الحسني، فلما تولى المعتضد سنة 289ه أضاف إليه ما جاوره، فوسعه وكبره وأدار عليه سورا واتخذ حوله منازل كثيرة ودورا، واقتطع من البرية قطعة عملها ميدانا، وأخذ في بناء قصر التاج، فاتفق خروجه إلى آمد، فلما عاد رأى الدخان يرتفع إلى الدار، فكرهه وابتنى على ميلين منه قصرا سماه «قصر الثريا»، طوله ثلاثة فراسخ أنفق فيه 4000000 دينار،
14
وصله بالقصر الحسني وابتنى بين القصرين على مسافة ميلين سردابا تمشي فيه جواريه وحرمه وسراريه، وما زال باقيا إلى الغرق الأول الذي صار ببغداد، وفي قصر الثريا يقول ابن المعتز:
سلمت أمير المؤمنين على الدهر
فلا زلت فينا باقيا واسع العمر
حللت الثريا خير دار ومنزل
فلا زال معمورا وبورك من قصر
جنان وأشجار تلاقت غصونها
وأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفا
تنقل من وكر لهن إلى وكر
وبنيان قصر قد علت شرفاته
كمثل نساء قد تربعن في أزر
وأنهار ماء كالسلاسل فجرت
لترضع أولاد الرياحين والزهر
عطايا إله منعم كان عالما
بأنك أوفى الناس فيهن بالشكر
ولما توفي المعتضد قام ابنه المكتفي سنة 289ه، فأتم بناء قصر التاج، وكان وجهه مبنيا على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين في خمسة أذرع.
15
دار الشجرة
وبنى المقتدر بالله في أول القرن الرابع دارا فسيحة ذات بساتين مونقة عرفت بدار الشجرة، لشجرة كانت فيها مصنوعة من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة أمام إيوانها وبين شجر بساتينها، لها ثمانية عشر غصنا من الذهب والفضة لكل غصن منها فروع كثيرة مكللة بأنواع الجوهر على شكل الثمار، وعلى أغصانها أنواع الطيور من الذهب والفضة، إذا مر الهواء عليها أبانت عن عجائب من ضروب الصفير والهدير، وفي جانب الدار من يمين البركة قد ألبسوا أنواع الحرير المدبج، مقلدين بالسيوف وفي أيديهم المطارد، يتحركون على خط واحد فيظن الناظر إليهم أن كل واحد منهم يقصد صاحبه.
16
وفي دولة آل بويه بنى معز الدولة قصره المعروف بالدار المعزية، أنفق في بنائه 1000000 دينار وموه سقفه بالذهب، ذكروا أنهم لما أرادوا هدمه بذلوا في حك الذهب من سقفه 8000 دينار ولم يبق لهذه القصور أو الدور أثر الآن. (3-3) مباني الأمويين بالأندلس
أما الأندلس فقد بنى بها آل مروان قصورا سارت بذكرها الركبان، ولا يزال بعض آثارها باقيا إلى اليوم، وأكثرها في قرطبة وغرناطة؛ فمنها في قرطبة:
القصر الكبير
وهو آية من آيات الزمان، شرع في بنائه عبد الرحمن الداخل في أواسط القرن الثاني للهجرة، وأتمه من جاء بعده وبنوا القصور في داخله، وقد رأيت عند ذكر أبنية قرطبة أن القصر المذكور مؤلف من 430 دارا، بينها قصور فخيمة لكل منها اسم خاص، كالكامل والمجدد والحائر والروضة والمعشوق والمبارك والرشيق وقصر السرور والبديع، وقد غالوا في زخرفها وإتقانها، وأنشأوا فيها البرك والبحيرات والصهاريج والأحواض، جلبوا إليها الماء في قنوات الرصاص على المسافات البعيدة من الجبال، حتى أوصلوه إليها ووزعوه فيها، وفي ساحاتها ونواحيها بواسطة تلك القنوات التي تؤديها إلى المصانع (أي: المنشآت)، هذا إلى صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة، ينصب فيها الماء من أنابيب من الذهب أو الفضة بصور الحيوانات الكاسرة أو الصور الجميلة على أشكال بديعة.
17
مسجد قرطبة
ومن عجائب قرطبة مسجدها الشهير، ذكروا أنه لم يكن في بلاد الإسلام أعظم منه ولا أعجب بناء، وكان في مكانه كنيسة للنصارى شاطرهم عليها المسلمون عند الفتح كما فعلوا بالجامع الأموي في دمشق، ثم أخذوا في توسيعه والزيادة فيه بأنقاض الكنائس على توالي الأجيال، وأعجب ما فيه صومعته أو المئذنة، قالوا: لم يكن في مساجد المسلمين صومعة تعدلها، بنيت بضخام الحجارة فبلغ طولها إلى مكان موقف المؤذن 54 ذراعا، وإلى أعلى الرمانة الأخيرة 73 ذراعا، وعرضها في كل تربيع 18 ذراعا.
وتدرج الجامع في الاتساع بتوالي التجديد فيه، حتى بلغت مساحته في أيام الخليفة الناصر 225 ذراعا في 205 أذرع، وزاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع فصار طوله 330 ذراعا، وزاد ابن أبي عامر في عرضه ثمانين ذراعا فصار 285، وأرضه مرصفة بإحدى عشرة بلاطة، الوسطى عرضها 16 ذراعا، وعرض كل واحدة من الست الباقية 11 ذراعا، وزاد ابن أبي عامر ثماني بلاطات عرض كل واحدة عشرة أذرع، وكان سقفه قائما على 1293 سارية من الرخام، وعدد ثرياته 280 ثريا، منها ثريات المقصورة من الفضة الخالصة، وكان في وسط الجامع تنور نحاس يحمل ألف مصباح.
وكان للجامع تسعة أبواب مصفحة بالنحاس الأصفر، إلا باب المقصورة فإنه من الذهب، وكذلك جدار المحراب وما يليه وقد أجرى فيه الذهب على الفسيفساء، وفي رأس الصومعة ثلاثة تفافيح، دور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف، اثنتان من الذهب الإبريز وواحدة من الفضة، وتحت كل تفاحة وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة، ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج، وكان في بيت المنبر مصحف الخليفة عثمان، وعليه حلية الذهب مكللة بالدر والياقوت، وفوقه أغشية الديباج، وهو موضوع على كرسي من العود الرطب بمسامير الذهب، وقد أفاض صاحب نفح الطيب في وصف هذا الجامع وما كان ينفق فيه من الزيت والشمع فليراجع هناك،
18
وتحول الجامع المذكور بعد دخول قرطبة في حوزة الإفرنج إلى كنيسة، ولا يزال على بنائه الإسلامي وعليه النقوش الشرقية والكتابة العربية.
قصر الزهراء
ومن قصورهم في قرطبة «الزهراء»، بدأ بإنشائها الخليفة الناصر سنة 325ه على أربعة أميال من المدينة، وأتمها ابنه الحكم فاستغرق البناء أربعين سنة ، وهي عبارة عن بلد كبير طوله من الشرق إلى الغرب 2700 ذراع وعرضه 1500، وعدد أعمدته أو سوارية 4300 سارية، بعضها حمل إلى قرطبة من روما وإفريقية وتونس، وبعضها أهداه صاحب القسطنطينية، وفيها الرخام الأبيض والأخضر والوردي والمجزع، وكان في الزهراء مسجد فخيم وعدة قصور وحدائق، على نحو ما تقدم في وصف القصر الكبير، وفيها البحيرات تسبح فيها الأسماك بألوانها وأنواعها، وأحواض الرخام المنقوش على أشكال شتى بين مذهب وغير مذهب، في جملتها حوض منقوش بتماثيل الإنسان، جيء به من القسطنطينية ونصبه الناصر في بيت المنام بالمجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، وجعل عليه 12 تمثالا من الذهب الأحمر، مرصعة بالدر النفيس الغالي مما صنع بدار الصناعة في قرطبة، بصورة أسد بجانبه غزال إلى جانبه تمساح يقابله ثعبان وعقاب وفيل، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحداة ونسر، وكلها من ذهب مرصع بالجوهر يجري الماء من أفواهها.
19
ووكل الناصر النظر في بناء هذه القصور إلى ابنه الحكم بعده، وذكروا أن الناصر كان ينفق عليها ثلث جباية الدولة، وكانت 6000000 دينار فينفق منها 2000000 دينار كل سنة على ذلك البناء، وقد تقدم أنهم واصلوا العمل فيه 40 سنة ، فلو فرضنا أنهم كانوا ينفقون هذا القدر في نصف هذه المدة فقط لبلغ مجموع ما أنفق على الزهراء أكثر من 50000000 دينار، ولكن يظهر أن الإنفاق السنوي لم يكن يبلغ ثلث جباية المملكة إلا في بضع سنين، وأما في سائر مدة البناء فكانت النفقة أقل من ذلك كثيرا.
وقد ورد في مكان آخر أن الناصر كان ينفق على بنائها في أيامه 300000 دينار في السنة، فإذا حسبنا ما أنفقه ابنه الحكم فيما بقي من الأربعين سنة على هذه النسبة مع ما أنفقه هو بالإضافة إلى المقدار السنوي المذكور؛ كان مجموع ما دخل في بناء هذه المدينة نحو 20000000 دينار على الأقل، ولا غرابة في ذلك؛ لأننا إذا أعدنا النظر في تفاصيلها رأينا فيها ما يفوق الحصر من المرصعات والمذهبات، وقد أدخلوا فيها شيئا كثيرا من الذهب حتى جعلوا بعض قرميدها منه، وقد كان يتصرف في بنائها من الخدم والفعلة عشرة آلاف رجل و1500 دابة، وأغرب من كل ذلك أن الناصر إنما عمد إلى بناء الزهراء مرضاة لمحظية له كان اسمها «زهراء» طلبت إليه أن يبني مدينة باسمها وتكون خاصة بها.
20
الزاهرة
واقتدى بالخليفة الناصر المنصور بن أبي عامر، فابتنى سنة 368ه قصرا، لإقامته سماه «الزاهرة» ليكون معقلا له يحميه من أعدائه، فأقامه في طرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، وحشد له الصناع والفعلة وبالغ في رفع أسواره وجعل فيه أبنية كثيرة من جملتها أهراء ودواوين، وأقطع ما حولها لوزرائه وكتابه وقواده، فابتنوا الدور والقصور وغرسوا الحدائق، فقامت الأسواق وتنافس الناس في النزول في أكنافها تقربا من صاحب الدولة، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، واتصلت بهما الزهراء من الجهة الأخرى، فأصبح الناس يمشون بين هذه المدن عشرة أميال على ضوء السرج.
قنطرة قرطبة
ويجدر بنا في هذا المقام الإشارة إلى القنطرة الفخيمة التي أقامها المسلمون على نهر قرطبة، وكانت مبنية قبل الإسلام ثم سقطت فأعاد المسلمون بناءها على يد عبد الرحمن الغافقي، وطولها 800 ذراع، وعرضها عشرون ذراعا، وارتفاعها 60 ذراعا، وعدد حناياها 18 حنية، وأبراجها 19 برجا .
21
قصر الحمراء وأمثاله
الحمراء قصر شهير في غرناطة لا يزال شكله محفوظا إلى الآن يقصده السياح من كل مكان، بناه ابن الأحمر في أواسط القرن الثامن للهجرة كما تقدم في أرض مساحتها 35 فدانا على مرتفع فسيح، ويقال إنها سميت «الحمراء» نسبة إلى لون قرميدها، وفي هذا القصر كانت بركة السباع، وفي وسطها تماثيل أسود تقذف المياه من أفواهها على شكل جميل.
وبنى المنصور بن الأعلى قصرا فخيما في بجاية، أنشأ فيه بركة على حافاتها أسود يجري الماء من أفواهها، وعلى البركة أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها في الماء، وعلى أغصانها أطيار من أشكال شتى بألوان بديعة وصنع عجيب، على مثال الشجرة التي ذكرنا أنها نصبت في قصر المقتدر العباسي عند كلامنا عن أبنية العباسيين، وقد نظم محمد بن حمديس الشاعر الأندلسي قصيدة يصف بها بركة هذا القصر وخروج الماء من أفواه الأسود قال منها:
وضراغم سكنت عرين رياسة
تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشي النضار جسومها
وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما
أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها
نارا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول
ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه
درعا فقدر سردها تقديرا
22
وقس على ذلك قصر المأمون بن ذي النون الأندلسي، فإنه أنفق في بنائه بيوت الأموال، وكان من عجائبه أنه صنع فيه بركة ماء كأنها بحيرة، وبنى في وسطها قبة من زجاج وساق الماء من تحت الأرض حتى علا فوق رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة وحواليها محيطا بها متصلا بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكبا لا يفتر والمأمون قاعد فيها.
23 (3-4) مباني مصر
مباني آل طولون
أنشأ بنو طولون في مصر أبنية أشهرها الجامع الذي بناه أحمد بن طولون، لا تزال آثاره إلى الآن بالقاهرة، والقصر الذي بناه في القطائع وجعل له ميدانا كبيرا، ولما توفي أحمد زاد فيه ابنه خمارويه وجعل الميدان كله بستانا زرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، ونقل إليه الشجر اللطيف الذي ينال ثمره القائم (أي الرجل الواقف) ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس وأجساد النخل مزاريب الرصاص وأجرى فيها الماء المدبر، فكان يخرج من تضاعيف قائم النخل عيون الماء فتنحدر إلى فساق معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة يتعهدها البستاني بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النيلوفر الأحمر والأزرق والأصفر الجنوي العجيب، وأهدى إليه من خراسان وغيرها كل أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللوز وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن، وبنى فيه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ ليقوم مقام الأقفاص، وزوقه بأصناف الإصباغ وبلط أرضه وجعل في تضاعيفه أنهارا لطافا جدا ولها يجري الماء مدبرا من السواقي التي تدور على الآبار العذبة ويسقي منها الأشجار وغيرها، وسرح في هذا البرج من أصناف القماري والدباسي والنونيات وكل طائر جميل الشكل حسن الصوت، فكانت الطير تشرب وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج، وجعل فيه أوكارا في قواديس لطيفة ممكنة في جوف الحيطان لتفرخ الطيور فيها، وعارض لها فيه عيدانا ممكنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح، وسرح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ودجاج الحبش ونحوها شيئا كثيرا.
وعمل في داره مجلسا برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المحلى باللازورد المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته وصور حظاياه والمغنيات اللاتي تغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رءوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنعة، وهي مسمرة في الحيطان ولونت أجسامها أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة، فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا.
وجعل بين يدي هذا البناء فسقية ملأها زئبقا، وذلك أنه شكا طبيبه كثرة السهر فأشار عليه بالتدليك فأنف من ذلك وقال: «لا أقدر على وضع يد أحد علي.» فقال له: «تأمر بعمل بركة من زئبق.» فعمل بركة يقال إنها خمسون ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا وملأها من الزئبق فأنفق في ذلك أموالا عظيمة، وجعل في أركان البركة سككا من الفضة الخالصة، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة، وعمل فرشا من أدم (أي: جلد) يحشى بالريح حتى ينتفخ فيحكم حينئذ شده ويلقى على تلك البركة وتشد زنانير الحرير التي في حلقة الفضة بسكك الفضة، وينام على هذا الفرش فلا يزال الفرش يرتج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية يرى لها في الليالي المقمرة منظر بهيج إذا تألف نور القمر بنور الزئبق.
24
مباني الفاطميين
ولما أفضى الأمر إلى الفاطميين بنوا في القاهرة الجامع الأزهر، وهو عامر إلى اليوم، وقصورا أشهرها القصران الشرقي والغربي، وأنفقوا على الأخير منهما 2000000 دينار،
25
فقس على ذلك ما أنفقوه في سائر القصور والدور، كدار الفطرة ودار الديباج وغيرهما، ولما استبحر عمرانهم تفننوا في بناء المقاصير والمناظر على ضفة الخليج وشاطئ النيل، كمنظرة الجامع الأزهر، ومنظرة اللؤلؤة على الخليج، ومنظرة الغزالة بجانبها، ومنظرة السكرة، ومنظرة الدكة، ومنظرة المقس، ومنظرة التاج، ومنظرة باب الفتوح، ومنظرة البعل، ومنظرة دار الملك، غير المتنزهات العظيمة والقصور الفخيمة في الجزيرة والروضة، كالقصر الذي بناه الآمر بأحكام الله لمحبوبته البدوية وسماه الهودج.
وكانوا يتأنقون في زخرفة تلك المناظر والقصور تأنقا عظيما يدل على مبلغ حضارتهم وتفننهم، فمنظرة بركة الحبش كانت مصنوعة من خشب مدهون صور فيها الشعراء، كل شاعر وبلده وعند رأس الشاعر أبيات نظمها في ذكر المنظرة، وبجانب كل صورة رف لطيف مذهب، فإذا دخل الخليفة وقرأ الأشعار أمر أن يحط على كل رف صرة مختومة فيها خمسون دينارا، فيدخل الشاعر ويأخذ صرته.
26
مباني الأيوبيين والمماليك
ولما انتقلت الدولة إلى الأكراد كان أعظم آثارهم البنائية قلعة القاهرة، بناها السلطان صلاح الدين ليعتصم بها من الشيعة، ولا تزال قائمة إلى اليوم.
ومعظم ما في مصر الآن من الآثار البنائية إنما هو من أعمال السلاطين المماليك ولا سيما المساجد، كجامع السلطان حسن وجامع المؤيد وقايتباي وقلاوون وغيرها، ومن آثارهم قبور الخلفاء خارج القاهرة فإنها لهم، وإن نسبت إلى الخلفاء بالاسم، غير ما اندثر من قصورهم، وكانوا يقلدون الفاطميين في زخرفها كالرفرف الذي بناه الأشرف خليل بن قلاوون عاليا يشرف على الجيزة كلها، وصور فيه أمراء الدولة وخواصها وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها وكان السلطان يجلس فيه، وقصر يلبغا، بناه الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 738ه، لسكنى الأمير يلبغا حيث مدرسة السلطان حسن تجاه القلعة، وغيرها .
هوامش
الثروة والرخاء ونتائجهما
واشتغال الخلفاء والأمراء بإنشاء المدن وبناء القصور والمتنزهات إنما هو من ثمار الثروة وتكاثر النقود في بيوت الأموال، فتنتقل إلى رجال الدولة وغيرهم على ما بيناه في نظام الاجتماع، ولذلك كان الخليفة أكثر الناس مالا؛ لأنه قابض على بيت المال، يليه الوزراء والكتاب والعمال فبنو هاشم فالأتباع والتجار وغيرهم، وإليك أمثلة من ذلك. (1) ثروة الخلفاء وأهليهم
لما كان الخلفاء يتولون شئون الدولة بأيديهم كانوا أكثر الناس ثروة، فلما عهدوا بها إلى الوزراء تحولت الثروة إليهم، وأصبح الخلفاء أحيانا مثل سائر الفقراء،
1
والأصل في ثروة بيت المال أن تكون للدولة تنفق في مصالحها، وللخليفة بيت مال خاص به، ولكن الخلفاء تصرفوا في أموال الدولة أولا لاعتبارهم إنفاقها مساعدا على تأييدها، ثم أنفقوها في الجوائز والهدايا لمثل هذه الغاية، وتدرجوا إلى بذلها في ملذاتهم وسائر أسباب تنعمهم، وكان يبقى مع ذلك في بيوت الأموال شيء كثير، وقد بينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب مقدار ما بقي منها في خزائن الخلفاء الأولين من بني العباس: المنصور والمهدي والمعتصم والمستعين والمكتفي وغيرهم، وما صار إليهم من الضياع الكثيرة، وذكرنا ما بلغت إليه ثروة أمهات الخلفاء ولا سيما الخيزران أم الرشيد وقبيحة أم المعتز وغيرهما، فلا حاجة إلى التكرار، وإنما نأتي ببعض التفاصيل على سبيل المثال، ذكروا أن المكتفي خلف 100000000 دينار هذا تفصيلها:
2
دينار
20000000
من العين والورق (أي: الفضة) والأواني المعمولة.
20000000
من الفرش.
20000000
من الكراع والسلاح والغلمان.
20000000
من الضياع والعقار والأملاك.
20000000
من الجوهر والطيب وما يجري مجراهما. (2) ثروة رجال الدولة وغيرهم
وذكرنا في الجزء الثاني أيضا سبب ثروة الوزراء ومقادير الأموال التي حصلها الحسن بن الفرات والمادرائي وابن كلس والأفضل وابن شهيد الأندلسي وإليك أمثلة أخرى:
أول من أثرى من الوزراء البرامكة في عهد الرشيد، فكثرت ضياعهم (الأبعديات والجفالك)، حتى بلغت غلة يحيى وابنه جعفر فقط 20000000 دينار في السنة، ولما نكبوا وقبضت أموالهم بلغ مقدار ما قبض منها 30676000 دينار غير الضياع والدور والرياش،
3
ويشبه الوزراء ببغداد الكتاب بمصر، وقد أثرى منهم جماعة كبيرة كآل المادرائي، في أواسط القرن الثالث للهجرة، فملك أحدهم محمد بن علي المادرائي ما قيمته 3000000 دينار من الضياع بالشام ومصر والأمتعة مع كثرة ما كانوا ينفقونه على الناس من الرواتب، وكانت غلته 400000 دينار في السنة،
4
وهو مع ذلك لا يعد شيئا بالنظر إلى البرامكة، ومثلهم آل المغربي وآل الكتامي بمصر أيضا.
أما العمال والأمراء فقد كانوا يحشدون الأموال الكثيرة، ولا سيما المفوضين منهم، ويسهل ذلك عليهم لإطلاق أيديهم في مصادر الجباية فيجمعون ما شاءوا وكيف شاءوا، وقد أثروا وكثرت أموالهم من أيام بني أمية قبل زمن الوزراء، فخلف عمرو بن العاص سبعين بهارا من الدنانير - والبهار أردبان بالمصري - ذهبا،
5
وبلغت غلة خالد القسري 13000000 درهم،
6
وصاروا في عهد بني العباس أوفر ثروة، ولا سيما بعد أن طمعوا في الاستقلال، فخلف يعقوب بن الليث الصفار في بيت ماله 50000000 درهم و400000 دينار،
7
وقس على ذلك أموال السلاطين المماليك بمصر ورجالهم، وكانت مخلفاتهم من الجواهر والحلي تقدر بالأرطال والقناطير والصناديق، مثال ذلك ما خلفه الأمير سيف الدين تنكز التستري منها 19 رطلا من الزمرد والياقوت، وستة صناديق جواهر ، وفصوص الماس، و1250 حبة لؤلؤ كبار مدورة مما زنته درهم إلى مثقال، و240000 مثقال ذهب، و10000000 درهم فضة، وأربعة قناطير مصرية من المصاغ والعقود ونحوها كالحلق والأساور، وستة قناطير فضيات، و1200000 دينار، فقس عليه ثروة الخلفاء الفاطميين والسلاطين والمماليك وغيرهم من سلاطين المسلمين وملوكهم.
غير ثروة الحواشي والأتباع، ممن أثري بالصناعة والأدب أو التجارة، فقد ذكرنا ثروة بعض التجار فيما تقدم، فاعتبر ذلك في سواهم من الأطباء والمغنين والشعراء، فإن إبراهيم الموصلي مغني الرشيد توفي عن 24000000 درهم،
8
وذكرنا في باب الرواتب من الجزء الثاني ما كان يقبضه جبرائيل بن بختيشوع طبيبه. (3) نتائج الثروة
من قواعد العمران إذا تكاثرت الأموال في أيدي الناس أن يتوسعوا في الإنفاق ويتنعموا بمعيشتهم، فيتأنقوا في الطعام والشراب والسماع وغيرها من الملذات الجسدية، ويتنعموا بالألبسة الثمينة والرياش الفاخر، ثم يطلبوا الملذات المعنوية من التفاخر باقتناء المجوهرات والعقارات، ويلتمسوا سعة الشهرة فيقربوا من يضمن لهم ذلك كالشعراء ورواة الأخبار في ذلك العهد، كما يفعل بعض أغنياء زماننا بالتقرب من أرباب الصحافة، ونقسم الكلام في هذا الباب إلى فصول: (3-1) التأنق في الطعام
قد رأيت في كلامنا عن أطعمة العرب أنها كانت ساذجة قليلة، ثم تعددت بعد الاختلاط بالأعاجم ولا سيما الفرس، والعرب قلدوا الفرس في أكثر أسباب الحضارة، فضلا عن نظام الحكومة، فكانوا إذا أحوجهم الاحتفال بعيد أو عرس أو ختان سألوا عما يفعله الفرس في مثله وقلدوهم فيه، هموا بذلك من عهد الأمويين، وكان الصحابة قبلهم يتحاشون التنعم اقتداء بخلفائهم الراشدين مع غلبة البداوة على طباعهم، فأبو موسى الأشعري كان يتجافى عن آكل الدجاج؛ لأن العرب لم يعهدوا ذلك، وكانوا يتجنبون الإكثار من أكل اللحوم ويعتقدون أضرارها، نحو ما يعتقده النباتيون اليوم تمثلا بما قاله عمر بن الخطاب: «مدمن اللحم كمدمن الخمر.» فلما حكم الأمويون ومالوا إلى التنعم كان الفرس أحسن مثال لهم، وأراد غير واحد من أمراء العراق تقليدهم في ذلك، ولكن البداوة كانت تتغلب عليهم فيرجعون، ذكروا أن الحجاج بن يوسف أولم لختان أحد أولاده ، فاستحضر بعض الدهاقين ليسأله عن ولائم الفرس وقال: «أخبرني بأعظم صنيع شهدته.» فقال: «شهدت أيها الأمير بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعا أحضر فيه صحائف الذهب على أخونة الفضة أربعا على كل واحد، وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس، فإذا أطعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصائفها.» فلما سمع الحجاج ذلك أكبره وغلبت عليه البداوة فقال: «يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس
9 ...»
على أنهم ما لبثوا أن رضخوا لتيار الترف وتكيفوا لموافقة البيئة التي تحف بهم، فبعد أن كانوا يحسبون الكافور ملحا والأرز طعاما مسموما والخبز المرقق كاغدا، وبعد أن أكلوا العلهز والخنافس والعقارب وعجنوا الحنطة بنخالتها،
10
فاقوا الفرس والروم في التأنق والتنعم، فتفننوا في معالجة اللحوم واصطناع التوابل المنبهة لشهوة الطعام التماسا للمزيد من اللذة، فكان الخلفاء والملوك من بني هاشم إذا جلسوا إلى الطعام يقف الأطباء بين أيديهم ومعهم البراني بالجوارشنات الهاضمة المسخنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء على اصطلاحهم في ذلك العصر، ويقفون في الصيف ومعهم الأشربة الباردة والجوارشنات الموافقة لذلك الفصل،
11
واقتدى بهم سائر الأمراء وأهل الدولة فكانوا يستشيرون الأطباء ويستعينون بهم في حفظ صحتهم، حتى في أثناء الطعام وهم على المائدة، وكان سيف الدولة إذا حضر الطعام جلس معه على المائدة 24 طبيبا أرزاقهم جارية.
وغالى الخلفاء في استحضار ما اشتهر بطيبه من ألوان اللحوم والطيور والفاكهة ولو بعد مكانه، فيحملونه على البريد ينفقون في ذلك الأموال الكثيرة،
12
وكانوا يربون الطيور الداجنة على أطعمة مغذية يتوهمون أنها تزيد في لذة طعمها أو نفعها أو تسهل هضمها، فكانوا يعلفون الفراريج الجوز المقشر ويسقونها اللبن الحليب،
13
وتفنن الطهاة في اصطناع الأطعمة التي يظنون فيها الغذاء الكثير أو النفع الصحي، وربما فعل بعضهم ذلك مغالاة في الاحتفاء، كما فعل إبراهيم بن المهدي في زيارة زاره فيها الرشيد فاصطنع له أطعمة بينها جام سمك مقطع فاستصغر قطعه، فسأله الرشيد عن ذلك فقال: «يا أمير المؤمنين هذه ألسنة السمك.» وقدرت نفقة ما في ذلك الجام بألف درهم ،
14
وقس عليه تفننهم في اصطناع الفالوذج بدهن الفستق والمخ المعقود بالسكر والطبرز والعسل.
فاتسعت مطابخ الخلفاء والأمراء لتعدد ألوان الأطعمة والتوسع في النفقة عليها، حتى صار لكل صنف منها خدم عليهم رئيس، فكان عندهم لتربية الطيور إدارة قائمة بذاتها عليها رئيس، وبلغت علوفة البط وحدها على أيام المقتدر العباسي 30 قفيزا من الشعير كل شهر
15
فاعتبر كم يحتاج إليه أحدهم إذا أراد نقل مطبخه من الدواب لحمله، ذكروا أن عمرو بن الليث الصفار كان مطبخه يحمل على 600 جمل،
16
وكان للخليفة المقتفي العباسي ثمانون جملا تحمل الماء من دجلة لشرب عياله،
17
وأما مقدار المطبوخ من كل طعام فلا قياس له، على أنهم كانوا يجعلونه أضعاف ما يحتاجون إليه مخافة أن يطرقهم أضياف، فكانت الأطعمة تفيض بمقادير كبيرة يحملها الخدم ويبيعونها ويرتفقون بأثمانها.
18
فنتج من الانغماس في الأكل والتفنن في التشويق إليه كثير من علل القناة الهضمية، توالت على أهل الترف في ذلك العهد كالقولنج وتلبك المعدة والدوزنطاريا، وغيرها من عواقب النهم في اللحوم كالنقرس والروماتزم ونحوهما، وتسلطت السويداء على أمزجتهم، وتولتهم حدة المزاج فجرهم الغضب إلى سرعة الفتك والقتل من تغلب السويداء، كما يتضح من مراجعة أخبارهم، وعلة ذلك في الغالب فساد الهضم، واشتهر من الخلفاء والأمراء غير واحد من الأكلة، منهم في أيام بني أمية معاوية بن أبي سفيان وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وسليمان بن عبد الملك، واشتهر من بني العباس محمد الأمين.
19 (3-2) البذخ في الألبسة
كان المسلمون في صدر الإسلام يتوخون الخشونة في العيش والتعفف في المطعم والملبس، فكان الخليفة من الراشدين يمشي في الأسواق وعليه القميص الخلق المرقوع إلى نصف ساقه، أو ثوب من كرباس غليظ وفي رجله نعلان من ليف وحمائل سيفه من ليف وفي يده درة يستوفي الحد بها،
20
وكان عمالهم في مثل حالهم، إذا وفد أحدهم على الخليفة لبس جبة صوف وتعمم بعمامة دكناء واحتذى خفين ودخل عليه،
21
وأول من اتخذ زي الملوك من أمراء المسلمين معاوية منذ كان أميرا في الشام، وقدم عليه عمر بن الخطاب في أثناء ذلك، فلما رآه في أبهة الملك أنكرها عليه، وقال له: «أكسروية يا معاوية؟»
22
ثم تحضروا وكثرت الأموال بين أيديهم وخالطوا أهل الترف من الأعاجم، فاضطروا بطبيعة المدنية إلى التبسط في العيش والتنعم باللباس، وأحب الأمويون الوشي كما تقدم، وأكثرهم رغبة في لبسه هشام بن عبد الملك، فاجتمع عنده 12000 قميص وشي، و10000 تكة حرير، وكانت كسوته إذا حج تحمل على 700 جمل،
23
وفي أيامهم تسابق الصناع إلى إجادة الوشي، وزاد المسلمون بذخا في أيام بني العباس، ورغب أهل التجارة في حمل أصناف المنسوجات الحريرية والصوفية بين موشى ومطرز ومحوك بالذهب أو الفضة ومرصع بالحجارة الكريمة على اختلاف البلاد التي يصنع فيها، على نحو ما بيناه في كلامنا عما يحمل من أصناف التجارة إلى بغداد.
ومن أهم المنسوجات الثمينة الخز، وهو نسيج ناعم يصنع من الحرير ومن وبر الخرز وهو ذكر الأرانب،
24
والأبريسم حرير خالص، والديباج نسيج حرير موشى بالقصب بأشكال الحيوانات ونحوها، والبز نسيج قطني ثمين وغير ذلك من أصناف الحرير والكتان والأوداري، والملحم والمعلم والمنير ومنسوجات الشعر أو الوبر أو الصوف، وما يلحق ذلك من أنواع السمور والقاقم وغيره؛ يصنعون منها الأقبية والدراريع والطيالسة والجبب والعمائم والأبراد والغلائل والملاحف والمآزر والسراويلات والشاشيات والتكك وغيرها.
وكان الصناع يتبارون في إتقان هذه الصناعات ويغالون في ترفيعها، لما يلاقونه من البذل في ابتياعها لتوفر الثروة بين أيدي الناس ولا سيما الخليفة وأهل دولته، فكان هؤلاء يتهافتون على اقتناء الألبسة، لا يبالون كم يكون ثمنها حتى بلغت قيمة العمامة من الديبقي خمسمائة دينار، وهم مع ذلك يكثرون من اقتنائها، وربما لبس الواحد 9 أقبية كل قباء بلون خاص للمفاخرة في البذخ، وقد تزيد على أضعاف حاجتهم إليها فيجتمع عند أحدهم عشرات أو مئات أو ألوف من القطعة الواحدة ولا سيما الخلفاء، مثاله ما خلفه المكتفي بالله من الألبسة وهو:
عدد
4000000
من الثياب المقصورة سوى الخامات.
63000
من الأثواب الخراسانية المروية.
8000
من الملاءات.
13000
من العمائم المروية.
1800
من الحلل الموشاة اليمانية وغيرها منسوجة بالذهب.
18000
من البطائن التي تحمل من كرمان في أنابيب القصب.
18000
من الأبسطة الأرمنية.
وتوفى ذو اليمينين وفي خزانته 1300 سروال لم يستعملها، ووجدوا في كسوة بختيشوع الطبيب 400 سروال ديبقي، ولما قتل برجوان خادم الوزير بمصر وجدوا في تركته ألف سروال ديبقي بألف تكة حرير.
وغالوا في البذخ حتى كسوا دوابهم المنسوجات الحريرية الموشاة، وكان الفاطميون يلبسون الفيلة أجلة في الخسرواني الأحمر المذهب، وكان في القاهرة دار يصنع فيها الديباج ونحوه، وكان عند الفاطميين خزانة للثياب يسمونها دار الكسوة يصطنعون فيها جميع أنواع الثياب والبز، ويكسون بها الناس على اختلاف أصنافهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف، وقد فصل المقريزي ما تحويه تلك الدار من الألوان والأشكال،
25
ولما جهز خمارويه ابنته قطر الندى إلى الخليفة المعتضد العباسي كان من جملة الجهاز ألف تكة ثمن الواحدة عشرة دنانير،
26
وقس عليه سائر الملابس. (3-3) الأثاث والرياش والمجوهرات
كان الخلفاء الراشدون يجلسون على الأرض مثل سائر الناس وكذلك عمالهم، فكان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب، ويأتيه المقوقس ومعه سرير الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك يومئذ، فيجلس عليه وهو على ما تقدم، وفاء له بما اعتقد معهم من الذمة واطراحا لأبهة الملك، فما لبث المسلمون أن تحضروا وأثروا حتى اتخذوا الأسرة من الذهب والعاج وفاقوا الأكاسرة والقياصرة قبلهم، وأول من اتخذ السرير في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، ويريدون بالسرير المقعد أو الكرسي الكبير، ولم يقعد معاوية على ذلك إلا بعد استئذان المسلمين، واعتذر بثقل جسمه فزعم أنه بدين، فأذنوا له فاتخذه واقتدى به من جاء بعده من الخلفاء.
27
الأثاث والرياش عند الفرس
لما خرج المسلمون للفتح في زمن الراشدين كان أكثر ما لقوه من الفرش الفاخر والمجوهرات الثمينة في فارس وعند فتح المدائن، فدهشوا منه ولم يعرفوا قيمته، ذكروا بدويا ظفر يوم المدائن بحجر من الياقوت كبير يساوي مبلغا عظيما فلم يدر قيمته، فاشتراه منه بعضهم بألف درهم، ثم علم أنه كان يساوي أضعاف ذلك المبلغ فلامه أصحابه على تفريطه به فقال: «لو عرفت عددا أكثر من الألف لطلبته.»
28
وكان في جملة ما عثروا عليه في المدائن كثير من الآنية والحلية الذهب المرصعة بالجوهر، وفيها تاج كسرى نفسه وألبسة من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر، وظفر آخرون بسفطين في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثغره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب مكلل بالجوهر، ووقع لهم بساط يسمونه القطيف طوله 60 ذراعا في 60 مطرز بالصور وعليه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدر، وفي حافته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع، والورق من الحرير على قضبان الذهب والفضة وثمره الجوهر، وحمل هذا البساط إلى عمر في المدينة فقطعه وفرقه في أصحابه مثل سائر الغنائم.
29
وكان عمر إذا جاءته الغنائم من العراق وفيها الجوهر بكى لما كان يخافه من مصير المسلمين إلى الترف المؤذن بالانحدار، وكذلك أبو بكر الصديق، وله السبق في نصرة الإسلام والفضل في تأييده، فلما حضرته الوفاة وبخ المهاجرين وخوفهم وقال: «والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير.» والنبي
صلى الله عليه وسلم
قبلهما نهى عن لبس الحرير واتخاذ آنية الذهب،
30
فلم ينفعهم ذلك كله، فما كادوا يأخذون بأطراف الحضارة حتى انغمسوا في أسباب التنعم بالفرش الوثير والرياش الفاخر.
بدأ بذلك الأمويون لما تقدم من رغبتهم في الدنيا وتحويلهم الخلافة إلى الملك، فأكثر خلفاؤهم المسرفون ولا سيما الوليد بن يزيد من عقود الجوهر يغيرها في كل يوم كما تغير الثياب، وكان يجمعه من كل وجه ويغالي فيه حتى أغلاه،
31
على أنهم اقتصروا من أسباب الحضارة على مثل ذلك لرغبتهم في البقاء على البداوة، إلا ما اتخذوه من الستائر المطرزة التي كانت تصنع لهم في مصر كما تصنع للروم من قبل، عليها طراز باليونانية مفاده البسملة عند النصارى،
32
فأبدلها عبد الملك بالطراز العربي بسورة التوحيد، غير ما استعملوه من الوسائد المزركشة.
الأثاث والرياش عند العباسيين
لما انتقلت الخلافة إلى العباسيين اشتغل السفاح والمنصور بتأسيس الدولة وتأييدها، فلما تأيد سلطانهم مالوا إلى الترف فأخذوا بتقليد الدول السابقة لهم عملا بناموس العمران، فاقتنوا الأسرة الذهب المرصعة بالجوهر أو الأبنوس المطعم بالعاج، واتخذوا المقاعد والنمارق والكراسي، ونصبوا منائر الذهب أوقدوا فيها الشموع من العنبر، وعلقوا الستور المطرزة والموشاة، وافترشوا البسط والطنافس المزركشة والحصر المنسوجة بالذهب المكللة بالدر والياقوت،
33
وغالوا في اقتناء آنية الذهب والفضة يأتون من كل بلد بأحسن مصنوعاته وأثمنها فحملوا الستور المعلمة من فسا، والبسط والمصليات من تستر وبخارا، والحصر من عبادان، والمقاعد من دشت، على أن أحسن أصناف الفرش المذهبة بطراز الذهب كانت تأتيهم من أرمينية، والطاقم الأرمني - وهو عشر مصليات بمخادها ومساندها ومطارحها وبساطها - يساوي خمسة آلاف دينار،
34
وكانت أطباق الخشب لآنية الطعام تأتيهم من طبرستان، والزجاج والخزف من البصرة وأكثره وارد في الأصل من بلاد الصين على ما فصلناه في كلامنا عن التجارة من هذا الجزء، ولكن الزجاج الرقيق كان يحمل إليهم من الشام وكان يضرب به المثل بالرقة والصفاء فيقال: أرق من زجاج الشام، وأصفى من زجاج الشام
35
اتخذوا ما تقدم من الآنية والمفروشات تقليدا للفرس والروم على ما كانت عليه عندهم، ثم عربوها فجعلوا ما ينقش عليها من الكتابة باللغة العربية بين أمثال وأشعار وحكم ينقشونها على الستور ويعلقونها بمسامير الذهب والفضة،
36
ويزركشون البسط والطنافس فيرسمون في أواسطها أشكالا وصورا مما في البر والبحر ويطرزون حواشيها بالذهب أو القصب أبياتا من الشعر، وربما طرزوا دور البساط (أي: حافته) بقصيدة،
37
وغالوا في الزخرفة حتى نقشوا الأشعار على آنية البلور وأطباق الطعام وعلى جدران القاعات وفوق أبوابها - يتفاوت ذلك شكلا ومقدارا بتفاوت طبقات الناس من المطرز بالحرير إلى المزركش بالقصب فالمحلى بالذهب فالمرصع بالجوهر - كالبساط الذي كان لأم المستعين، وعليه صورة كل حيوان من جميع الأجناس وصورة كل طائر من ذهب وأعينها يواقيت وجواهر أنفقت في صنعه 130000000 درهم.
38
وأحدث العباسيون في عهد الرشيد أشكالا من الفرش وفنونه لم يسبقهم إليها أحد، منها ما ينسبون اختراعه إلى زوجته زبيدة، فقد ذكروا أنها أول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.
39
واخترع العباسيون المذاب وهي نوع من المراوح لم تكن معروفة قبلهم،
40
وتفننوا في تزيينها وكتابة الأشعار عليها مما يناسب المراد بها أو يشار به إلى غرض، كما فعل أبو العتاهية في طلب الجارية عتبة من الرشيد، وكان يخاف أن يرده، فأهدى إليه ثلاث مراوح كتب على كل منها بيتا هذا مجموعها:
ولقد تنسمت الرياح لحاجتي
فإذا لها من راحتيه شميم
أعلقت نفسي من رجائك ما له
عنق يحث إليك بي ورسيم
ولربما استأسيت ثم أقول لا
إن الذي ضمن النجاح كريم
41
على أن كتابة الأشعار على المراوح كانت معروفة في أيام بني أمية.
42
المجوهرات عند العباسيين
غالى الخلفاء العباسيون في اقتناء المجوهرات، ولا سيما الدر، وهو اللؤلؤ الكبير والياقوت الأحمر القاني ويسمى البهرماني، ويتلوه الأحمر المشرقي الرماني ثم الأزرق الغميق وتشوبه زرقته حمرة ويسمى الاسمانجوني، وبعده الأصفر وهو الفاقع اللون وبعده الذهبي، ولكل من هذه الأشكال قيمة تختلف باختلاف الصفاء والحجم، ومنها الزمرد وأحسنه يعرف بالذبابي لقرب لونه من لون الذباب الكبير المائل إلى الخضرة، والماس كانوا يفضلون منه ما يشوب لونه حمرة يسيرة؛ هذا أهم ما كانوا يتفاخرون باقتنائه من الحجارة الكريمة، وأما الفيروز والمرجان والعقيق والجزع فقلما كان الملوك يقتنونه لكثرته.
وأكثر ما تناقله المسلمون من الحجارة الكريمة في أوائل دولتهم مأخوذ من غنائم الفرس؛ لأنهم غنموا ما يفوق الحصر من الجواهر التي قضى الفرس الأجيال وهم يجمعونها ويتوارثونها، فقبضها العرب صفقة واحدة ولم يعرفوا قيمتها كما بيناه آنفا، وأصابوا نحو ذلك لما حاربوا الأكراد فإنهم غنموا سفطا فيه جوهر حملوه إلى عمر في جملة الغنائم، فأمر ببيعه وقسمة ثمنه في المسلمين، فباعه وقسمه وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفا.
43
ولما تحضروا صاروا يشترون الجواهر بالأثمان الغالية، فاشترى الرشيد فص ياقوت أحمر بأربعين ألف دينار، وكان قديما ويعرف بالجبل والملوك تصونه، فنقش عليه الرشيد اسمه،
44
واشترى فصا آخر بمائة وعشرين ألف درهم،
45
وعرض أحد تجار المصوغات ببغداد على يحيى بن خالد سفط جوهر فساومه على ثمنه بسبعة ملايين درهم.
46
وكثيرا ما كانوا يستخدمون الجواهر بدلا من المبالغ الكبيرة، فإذا عزم أحدهم على سفر طويل يستغرق نفقة عشرة آلاف دينار مثلا، فبدلا من أن يحمل ذلك المال ذهبا أو فضة استبدله بجوهرة أو عدة جواهر يسهل حملها في الجيب، فإذا وصل إلى البلد المقصود باع الجواهر وأنفق من ثمنها كما يفعل الناس اليوم بتحاويل المصارف المالية أو البنكنوت (العملة الورقية).
وكان الأمويون يرغبون في المجوهرات أيضا، وقد رصعوا بها الحلي وبعض الآنية واصطنعوا منها العقود للبسهم ولبس نسائهم وجواريهم، أما العباسيون، فبالغوا في ذلك حتى نظموها في عصائب نسائهم كما فعلت أخت الرشيد،
47
ورصعوا بها خفافهن كما فعلت أم جعفر زوجته.
48
فكان الخلفاء العباسيون يقتنون من الآنية والفرش والمجوهرات والثياب ما لا يعلم مقداره إلا الله، يدلك على ذلك ما قدمناه مما خلفه المكتفي وغيره وما أخرجوه من خزائنهم في فتنة البساسيري في أواسط القرن الخامس من جملته 75000 قطعة ديباج و11000 كزاغند و30000 سيف، وهو بعض ما كان في دار الخليفة، ومع ذلك فهو لا يقاس بما كان عند الفاطميين كما سترى.
وقد أنكر ابن خلدون ما ذكره المؤرخون عن ترف بني العباس في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم، لما كانوا عليه من خشونة البداوة،
49
واستشهد بالمسعودي والطبري، ولا ينطبق رأيه في ذلك على ما ذكره هذان ولا على ما قاله هو نفسه؛ لأن المسعودي هو الذي أخبرنا بنظم الجوهر في خفاف أم جعفر وهي من أقرب الناس للتقوى، والطبري أورد أخبارا كثيرة، تدل على ترف العباسيين في عصر الرشيد، غير ما ذكره غيرهما من ثقات التاريخ والأدب المتقدمين كأصحاب الأغاني والعقد الفريد والكامل والمعارف وغيرهم، ونقل المؤرخون عنهم ذلك ولم يكبروه ولا اعترضوا عليه، حتى ابن خلدون نفسه فقد ذكر في مقدمة تاريخه «أن المأمون أعطى بوران في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت ، وقد أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من وهو رطل وثلثان، وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب مكللا بالدر والياقوت.»
50
ويلوح لنا أن ما كانوا يتجافون عنه في صدر الدولة العباسية إنما هو الركوب بحلية الذهب، وأول من ركب فيها منهم المعتز بالله،
51
فمؤرخنا الفيلسوف شديد الرغبة في تنزيه العباسيين عن الترف وهم من أعرق الخلفاء فيه.
بذخ الفاطميين
كان العباسيون قدوة لمن قام بعدهم من الدول الإسلامية في مصر والشام والمغرب والأندلس، فالفاطميون بمصر كانوا يناظرون العباسيين في كل شيء حتى في أسباب الحضارة، وكان التمدن الإسلامي قد نضج والدولة العباسية أخذت في التقهقر، ففاقوهم في كثير من أسباب البذخ والترف، ولا سيما من حيث الأثاث والرياش والثياب، فقد رأيت أن العباسيين رصعوا عصائب نسائهم وخفافهن بالجواهر، ولكن الفاطميين رصعوا بها آنية المطبخ واتخذوا كوز الزير من البلور مرصعا بالجوهر، وكللوا المزيرة بحب اللؤلؤ النفيس، وتأنقوا في المصوغات حتى اتخذوا منها التماثيل المرصعة للزينة في مجالسهم، فإذا جلس الخليفة في إحدى المناظر للراحة أو تبديل الثياب وضعوا بين يديه الصواني الذهب، عليها أشكال الصور الآدمية والوحشية من الفيلة والزرافات ونحوها، معمولة من الذهب والفضة والعنبر والمرسين المشدود والمظفور عليها، المكلل باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، ومن الصور الوحشية ما يشبه الفيلة بينها عنبر معجمون كخلقة الفيل وناباه فضة وعيناه جوهرتان كبيرتان، في كل منهما مسمار ذهب مجري سواده، وعلى الفيل سرير منجور من عود بمتكات فضة وذهب، وعليه عدة من الرجال ركبان عليهم اللبوس تشبه الزرديات، وعلى رءوسهم الخوذ وبأيديهم السيوف المجردة والدرق وجميع ذلك فضة، ثم صور السباع منحورة من عود وعينا السبع ياقوتتان حمراوان وهو على فريسته وأشكال من سائر الوحوش، وأصناف تشد من المرسين المكلل باللؤلؤ شبه الفاكهة.
52
وكان للفاطميين في القاهرة دور يختزنون بها أدوات الترف والبذخ يسمونها خزائن، بعضها للفرش والبعض الآخر للجوهر وآخر للطيب وآخر للبنود وآخر للسلاح وآخر للسرج أو الدرق أو الكسوات أو الأدم أو الشراب أو التوابل أو الخيم ، وكان الخليفة يذهب إلى مجالس خاصة له في تلك الخزائن، والمجلس عبارة عن دكة عليها طراحة ولها فراش يخدمها وينظفها ليجلس الخليفة عليها إذا زار تلك الخزانة، وقد توسع المقريزي في وصف هذه الدور وما حوته من الآلة والرياش والثياب والجواهر والأطياب مما يضيق عنه هذا المقام فليراجع في مكانه،
53
ونأتي بشيء من ذلك على سبيل المثال:
الحلي والجواهر عند الفاطميين
فمما أخرجوه من خزانة الجوهر في أيام الشدة على عهد المستنصر بالله (توفي سنة 487ه) صندوق فيه سبعة أمداد زمرد سألوا الصياغ عن قيمتها فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودا، واستخرجوا خريطة فيها ويبة جوهر قال الصياغ: إن قيمته لا تقدر وأصل ثمنه 700000 دينار بيع يومئذ بعشرين ألف دينار، ووجدوا ما لا يحصى من أقداح البلور المنقوش والمجرود وصحونا من الميناء منها ما يساوي مئات من الدنانير، وفي مكان آخر 18000 قطعة من بلور تتراوح أثمانها بين عشرة دنانير وألف دينار كل قطعة، وصوان من الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بأنواع النقوش، و17000 غلاف خيار مبطن بالحرير محلاة بالذهب، ونحو مائة كأس بادزهر وأشباهها على أكثر اسم هارون الرشيد.
غير ما وجدوه هناك من الصناديق المملوءة بالسكاكين المذهبة والمفضضة وأنصابها من الجواهر المختلفة، وصناديق مملوءة دوي (جمع دواة) على اختلاف الأشكال من الذهب والفضة والصندل والعود والأبنوس والعاج، محلاة بالجواهر مما يساوي ألف دينار إلى بضعة آلاف كل دواة، وعدة أزيار مملوءة كافورا وعدة جماجم عنبر ونوافج المسك التيبتي وشجرة العود وغيره.
ومما خلفته رشيدة بنت المعز وحفظ هناك ما قيمته 1700000 دينار من جملتها 12000 من الثياب المصمت ألوانا و100 قاطرميز مملوءة كافورا قيصوريا ومعممات بجواهر من أيام المعز، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، ومثل ذلك مما تركته عبدة بنت المعز أيضا ويطول شرحه، وخزائن مملوءة بأنواع الصيني تساوي القطعة منها ألف دينار، وحصير من الذهب وزنه عشرة أرطال يظن أنه الحصير الذي حملت عليه بوران بنت الحسن بن سهل لما زفت إلى المأمون كما تقدم، وصوان من الذهب كان ملك الروم أهداها إلى العزيز بالله.
ووجدوا أنواعا من الشطرنج والنرد مصنوعة من الجوهر والذهب والفضة أو العاج أو الأبنوس، وعددا كبيرا من الزهريات ونحوها، ومن تماثيل العنبر 22000 قطعة أقل تمثال منها وزنه 12 منا، ومن تماثيل الخليفة ما لا يحد، والكلوتة (أي: الطاقية للرأس) المرصعة بالجوهر قيمتها 130000 دينار فيها من الجوهر 17 رطلا، وطاووس من ذهب مرصع بنفيس الجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من الزجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر بطنه أبيض قد نظم من در رائق، ومائدة من الجزع يقعد عليها جماعة قوائمها مخروطة، ونخلة ذهب مكللة بالجوهر وبديع الدر في أجانة من ذهب تجمع الطلع والبلح والرطب بشكله ولونه وعلى صفته وهيئته من الجواهر قيمتها لا تقدر، وكوز زير بلور مرصع يحمل عشرة أرطال ومزيرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس وقس على ذلك عشرات من أمثاله.
الفرش والأثاث عند الفاطميين
ووجدوا في خزائن الفرش من أصناف الأثاث والرياش ما يعد بالألوف، من ذلك 100000 قطعة خسرواني أكثرها مذهب، ومراتب خسرواني وقلموني ثمن الواحدة 3500 دينار، وأجلة معمولة للفيلة من الخسرواني الأحمر المذهب، و3000 قطعة خسرواني أحمر مطرز بأبيض من هدبها لم يفصل من كساء البيوت كاملة بجميع آلاتها ومقاطعها، وكل بيت يشتمل على مسانده ومخاده ومساوره ومراتبه وبسطه ومقاطعه وستوره وكل ما يحتاج إليه، ومثل ذلك من المخمل والديباج وسائر أنواع الحرير وعليها أشكال الصور من كل شيء، ونحو ألف من الستور الحرير المنسوجة بالذهب على اختلاف ألوانها وأطوالها، فيها صور الدول وملوكها ومشاهيرها وعلى صورة كل واحد اسمه ومدة أيامه وشرح حاله، و4000 رزمة خسرواني مذهب في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه وسائر آلاته منسوجة في خيط واحد، ومن جملتها مقطع من الحرير الأزرق التستري غريب الصنعة منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير كان المعز لدين الله أمر بعمله، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها شبه الخارطة الجغرافية، وفيه صورة مكة والمدينة ومكتوب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب والفضة أو الحرير، وقد كتب في آخره «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله وإشهارا لمعالم رسول الله في سنة 353ه.»
فاعتبر ما تدل عليه هذه الآثار من رقي المدنية والحضارة، وكم تكون قيمتها لو وجدت الآن وكم يدفع المتمولون من المبالغ في الحصول عليها.
وقس عليه ما كان في سائر الخزائن من التحف، ففي خزانة السلاح سيف الحسين بن علي، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق، ومئات الألوف من الدروع والسيوف والقسي والرماح وغيرها، وفي خزانة السروج ألوف من السروج الثمينة ومنها ما يساوي ألف دينار، وفي خزانة الخيم أنواع الفساطيط والمضارب والمسطحات والحصون والقصور، والشراعات والمشارع العمومية من الديبقي والمخمل والخسرواني والديباج المكي والأرمني والبهنساوي والكردواني، وغير ذلك على اختلاف الألوان والنقوش من المفيل والمسبع والمخيل والمطوس والمطير غيرها من أشكال السباع والطيور والآدميين مما ينصب على أعمدة ملبسة بالفضة، ومن هذه الفساطيط ما يبلغ طوله 65 ذراعا كبيرا يحمله مع ملحقاته مائة جمل، وفي خزانة البنود كثير من الرايات والأعلام الساذجة والمطرزة وغيرها.
ومن أدلة الترف والإسراف في هذه الدولة أن السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله أهدت أخاها هذا هدايا من جملتها ثلاثون فرسا بمراكبها ذهبا، منها مركب واحد مرصع ومركب من حجر البلور وتاج مرصع بنفيس الجوهر وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر.
وقد يتبادر إلى الذهن أن ما تقدم ذكره لا يخلو من مبالغة أو هو من قبيل الأحاديث الخرافية، ولكن مصر اشتهرت في العصور الإسلامية الوسطى بالثروة مثل شهرة بغداد في إبان حضارتها، واشتهر المصريون بالترف والغنى حين كان الناس يشكون الضيق،
54
ولذلك قالوا: «من دخل مصر ولم يستغن فلا أغناه الله.» وقد تواتر ذكر هذه التحف وأمثالها في كتب الثقات وبعضهم شهد الأمر بنفسه، ورأى هذه التحف رأي العين ومنهم ابن الأثير المؤرخ الشهير، فقد ذكر في حوادث سنة 567ه التي أقام فيها السلطان صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية واستولى على ما كان باقيا في قصور الخلافة من التحف والجواهر بعد ما أصابها من النهب في فتنة المستنصر وغيره؛ قال: «وحمل الجميع إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا من مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم، فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو 17 مثقالا أنا لا أشك؛ لأني رأيته ووزنته، واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير.»
55
بذخ الأندلسيين
واقتدى بالعباسيين في الترف والبذخ الأندلسيون، ولكنهم لم يبلغوا مبلغ المصريين فيهما، على أن بعضهم تفنن بذلك على شكل لم يسبقه أحد إلى مثله، فالمنصور بن أبي عامر في أواخر القرن الرابع قدم عليه رسول ملك الروم، وهو أعظم ملوك النصارى في ذلك الزمان، ليطلع على أحوال المسلمين وقوتهم، فأراد المنصور أن يبغته بما يطلعه عليه من عز الدولة وثروة المملكة ، فأمر أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعا صغارا قدر ما تسع النيلوفرة، وملأ بها جميع النيلوفر وبعث إلى الرسول فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه بالزاهرة فأجلسه بحيث يشرف على موضع البركة، فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم الأقبية والمناطق من الذهب والفضة، وبيد 500 منهم أطباق من ذهب وبيد 500 أطباق من فضة، فتعجب الرسول من جمالهم ولم يدر الغرض من مجيئهم، فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر في البركة وبادروا لأخذ الذهب والفضة منه، وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب، حتى التقطوا جميع ما فيها وجاءوا به فعرضوه بين يدي المنصور حتى صار كوما، فتعجب الرسول من ذلك وطلب المهادنة. واصطنع المنصور هذا نموذج قصر من فضة لصبح أم هشام، وحمله إليها على رءوس الرجال استجلابا لحبها.
56
وأغرب منه ما فعله المعتمد الأندلسي لأم أولاده الرميكية الملقبة اعتماد، وقد رأت ذات يوم نساء البادية بإشبيلية يبعن اللبن في القرب وهن رافعات عن سوقهن في الطين فقالت: «يا سيدي أشتهي أن أفعل أنا وجواري مثل هؤلاء النساء.» فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طينا في القصر، وجعل لها قربا وحبالا من الأبريسم وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين.
57
وقس على ذلك سائر ملوك الإسلام في عصر الترف، فقد كان عند سنجر بن ملكشاه 1030 رطلا من الجوهر ولم يسمع بمثله عند الملوك، وكانوا يقيسون الإسراف أحيانا بما ينفقونه من الشمع في الأضواء، فذكروا أن وظيفة كل من ابن بقية وعز الدولة ألف رطل من شمع في الشهر،
58
واشتهر محمد الأمين بكبر شمعه، ولم يكن ذلك الترف قاصرا على الخلفاء والملوك والأمراء، ولكنه كان يتناول سائر رجال الدولة، ومن يرتزق منهم، وأما العامة فربما كانوا في أشد الضيق، راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب. (3-4) التسري
هو اقتناء الجواري للتمتع بهن أو استيلادهن، وقد علمت ما كان من تكاثرهن والاتجار بهن وتربيتهن وتهاديهن في ذلك العصر، ونتكلم هنا عما بعث عليه الترف من تسريهن، وكثيرا ما يعقب التسري التزوج، فإذا ولدت الجارية لأحدهم تزوجها، وكان العرب يكرهون التزوج بالجواري، فمع كثرتهن في صدر الإسلام لم يتزوج الراشدون جارية،
59
ولكن المسلمين كانوا يتسرونهن للفراش، فتوفي الإمام علي عن 4 نسوة و17 سرية،
60
وكانت تلد الجارية لأحدهم فيبيعها كما يبيع سائر الجواري، فنهى عمر عن بيع أمهات الأولاد،
61
وكانت العرب على كل حال تحتقر أبناء الجواري، حتى نبغ منهم ثلاثة من كرام الرجال أمهاتهم من بنات يزدجرد،
62
فرغب الناس في التسري.
وليس المسلمون أول من اقتنى السراري، فالتسري كان شائعا عند الرومانيين، والسرية عندهم أحط منزلة من الزوجة، ولكن علاقتها مع الرجل كانت شرعية، وكانوا في أول أمرهم كالعرب يكرهون التسري، حتى تقدمهم فيه اثنان من كبار أمرائهم فعكفوا عليه.
63
وزادت رغبة المسلمين في التسري في إبان الحضارة، حتى أصبح أكثر أبناء الخلفاء من أولاد الجواري،
64
وأكثر نساء أهل الدولة منهن، واقتدى بهم سائر الوجهاء والأغنياء، فعمدوا إلى اقتناء السراري، ومن ولدت له تزوجها أو أعتقها، فبلغ عددهن عند بعض الخلفاء عدة آلاف، ذكروا أنه كان للمتوكل العباسي 4000 جارية وطئهن جميعا،
65
وعلم الأمراء برغبته فيهن فتقربوا إليه بالهدايا منهن، فأهداه عبد الله بن طاهر 400 وصيفة،
66
وكان لنصر الدولة صاحب ميافارقين 360 سرية على عداد أيام السنة،
67
غير ما كانوا يقتنونه من الجواري للغناء، فقد كان عند الرشيد 2000 جارية،
68
منهن 300 قينة للغناء والضرب على آلات الطرب.
69
وأصبح الاستكثار من الجواري عادة مألوفة، حتى صار النساء يقتنينهن للزينة، فكان عند أم جعفر البرمكي 400 وصيفة يخدمنها،
70
وقد رأيت ما اتخذته زبيدة من الجواري المقدودات وكيف ألبستهن ملابس الغلمان فقلدتها الوجيهات من أهل اليسار، فاتخذت الجواري المطمومات أو الغلاميات، ثم تبارى الخلفاء وسائر الكبراء في ذلك، حتى ألف القاهر بالله العباسي جوقا من الجواري بقد واحد ألبسهن القراطق والأقبية والطرر والأقفية والمناطق من الذهب أو الفضة كأنهن الغلمان.
71
وقس على ذلك سائر دول المسلمين في المشرق والمغرب، وقد فاق الفاطميون سواهم في الإكثار من الجواري أيضا، فكان في قصر الحاكم بأمر الله 10000 جارية وخادم،
72
وكان عند أخته السيدة الشريفة ست الملك 8000 جارية منها 1500 من البنات الأبكار،
73
ولما قبض صلاح الدين على قصورهم وجد في القصر الكبير 12000 نسمة ليس فيها فحل إلا الخليفة وأهله وأولاده، غير الخدم والغلمان والأمتعة والتحف، وأطلق صلاح الدين البيع فيهم فاستمروا يبيعون عشر سنين،
74
ويقال نحو ذلك في السلاطين المماليك بمصر وبني أمية في الأندلس مما يطول شرحه، ولا يزال مثاله عند بعض أمراء الشرق وملوكه إلى اليوم (قبل الحرب العالمية الأولى).
أثمان الجواري
والاستكثار من الجواري في أوائل الإسلام لم يكن يحتاج إلى نفقة كبيرة لكثرة السبايا، فلما نضج التمدن صاروا يبتاعونهن ويغالون في رفع أثمانهن، وكانت أسعارهن تتضاعف إذا جمعن بين الجمال ورخامة الصوت وصناعة الغناء، ويختلف ثمن الجارية من بضع مئات إلى بضعة آلاف أو مائة ألف دينار، وأول من بذل في هذا السبيل إلى هذا المقدار سعيد أخو سليمان بن عبد الملك، فابتاع «الذلفاء» الجارية الشهيرة بمليون درهم،
75 (نحو 70000 دينار).
وابتاع الرشيد جارية بمائة ألف دينار،
76
وجارية أخرى اشتراها من إبراهيم الموصلي بمبلغ 36000 دينار فباتت عنده ليلة ثم أرسلها إلى الفضل وطلب محمد الأمين إلى جعفر بن الهادي أن يبيعه جارية له اسمها «بذل» فأبى، فأمر فأوقروا قاربه ذهبا فبلغت قيمة ذلك 20000000 درهم،
77
أي أكثر من مليون دينار، وهذا إذا صح كان أعظم ما بلغ إليه بذلهم في أثمان الجواري.
وأما ما خلا ذلك فقد اشترى يزيد بن عبد الملك الأموي «سلامة» المغنية بعشرين ألف دينار، وبيعت الجارية «ضياء» بخمسين ألف دينار، واشترى جعفر البرمكي جارية بأربعين ألف دينار، وابتاع الواثق بالله جارية مولدة للغناء اسمها «الصالحية» بعشرة آلاف دينار، وقس عليه ما دون ذلك وما فوقه، واعتبر مقدار ما كانوا ينفقونه من الأموال في اقتنائهن. (3-5) السخاء
علمت مما تقدم انطباع العرب على السخاء من أيام جاهليتهم، وأنهم اضطروا للمحافظة عليه بعد الإسلام حتى أصبح من قواعد الارتزاق فيمن يحومون حول الخليفة وأهل الدولة، فلما توفرت الأموال في أيدي هؤلاء وتمتعوا بالحاجات والكماليات من الملاذ الجسدية تطلبوا الملاذ المعنوية بحسن الأحدوثة، وهم أهل أريحية يستفزهم الإطراء والاستنجاد، فوجدوا في السخاء بابا واسعا لتلك الملاذ، فبذلوا الأموال على الشعراء والندماء والمغنين والمستجدين من سائر الطبقات، لما في ذلك من لذة الفخر أو توقع الأجر.
مبلغ السخاء على العموم
وقد ذكرنا في كلامنا عن الارتزاق بالسخاء ما الذي بعث على بقاء هذه المنقبة الجاهلية حتى صارت سنة مرعية، وتدرج المسلمون فيها بتدرجهم في الحضارة والمدنية، وزادت جوائزهم بزيادة الثروة واتساع الأرزاق، فكان الأمويون يعطون بالألف درهم أو بضعة آلاف يلحقونها ببعض الماشية أو الكسوة أو الخيل، وإذا توسموا في العطاء مصلحة جعلوا الصلة عشرة آلاف أو عشرات الألوف أو مائة ألف أو مئات الألوف، كما فعل معاوية في استرضاء الناس واكتساب بني هاشم إلى حزبه، فإنه جعل صلات أبناء الصحابة ملايين يبذلها رواتب كل عام، وهو أول من فعل ذلك من المسلمين، غير ما كان يصلهم به من الهدايا لسبب أو لغير سبب، كما فعل لما ولد لعبد الله بن جعفر غلام فبذل له 100000 درهم على أن يسميه معاوية فرضي، ولكنه أعطى تلك الصلة للذي بشره بالغلام.
78
واقتدى بمعاوية من خلفه من الأمويين وأمرائهم، واشتهر من هؤلاء آل المهلب بالسخاء في الدولة الأموية، كما اشتهر البرامكة في الدولة العباسية،
79
ومن أسخياء عمالهم خالد القسري والحجاج بن يوسف إذا مست الحاجة إلى السخاء، فالحجاج أعطى للذي توسط في زواجه بهند بنت أسماء ثلاثين غلاما مع كل غلام عشرة آلاف درهم، وثلاثين جارية مع كل جارية تخت من ثياب وغير ذلك،
80
وكان سعيد بن العاص لا يرسل إلى أحد هدية مع عبد إلا كان العبد في جملتها.
81
أما العباسيون فكانت الثروة في أيامهم أوفر، فبلغت عطياتهم عشرات الملايين من الدراهم، وأول من أعطى هذا القدر منهم المنصور،
82
ثم صاروا يهبون الضياع وخراج البلاد، أو يوقرون الزوارق ذهبا أو فضة، أو يهدون الغلمان يحملون بدر المال ، أو يرسلون الجائزة على مئات من الدواب، أو يولون الولايات والأعمال، وتزداد جوائزهم إذا استخفهم الطرب أو استفزهم الإطراء، فقد ولى السفاح رجلا الأهواز بقصيدة،
83
والغالب أن يكون سخاؤهم لغرض سياسي يعود نفعه على الدولة، كما فعل المنصور إذ أعطى في يوم واحد عشرة ملايين درهم فرقها في أعمامه ووجوه قواده ليقطع ألسنتهم عن مقاومته، ولما تولى ابنه المهدي استكتب أسماء أولاد المهاجرين والأنصار وجلس مجلسا عاما فرق فيه 3000000 درهم، وقرر لكل واحد من أهل بيته 6000 درهم كل سنة،
84
وأعطى المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث شاء،
85
وفرق الرشيد في يوم واحد 1350000 دينار،
86
وطرب يوما فنثر على الناس 6000000 درهم،
87
وأعطى الهادي لعبد الملك بن مالك صاحب شرطة أبيه مالا أرسله إليه على 400 بغل موقرة دراهم،
88
وأعطى الأمين إلى سليمان بن أبي جعفر مليون درهم،
89
واختص الأمين من أساليب السخاء بأنه كان يأمر بإيقار زورق الطالب ذهبا أو فضة، وكان قصره على شاطئ دجلة، فإذا جاءه شاعر أو طالب في زورق وأخذته الأريحية واستخفه الطرب قال: «أوقروا زورق هذا ذهبا أو فضة.» وقلما كانوا يفعلون ذلك، والغالب أن يعوضوا عنه بمبلغ من المال كما فعلوا بأبي محمد التيمي، فإنه مدح الأمين بقصيدة أطربته فأمر الفضل بن الربيع، أن يوقر زورقه مالا فقال: «نعم يا سيدي.» فلما طالبه التيمي بذلك قال له الفضل «أنت مجنون! من أين لنا ما يملأ زورقك؟» ثم صالحه على 100000 درهم،
90
وأجاز المأمون طبيبه بمليون درهم وألف كر حنطة،
91
وفرق المأمون في ساعة 26000000 درهم، ومدحه أعرابي فأجازه بثلاثين ألف دينار،
92
وكان المتوكل يهب القطائع جوائز على المدح،
93
وقس على ذلك هدايا سائر الخلفاء، وإنما ذكرنا أعظمها لبيان مبلغ ذلك في إبان التمدن.
فلما افتقر الخلفاء العباسيون في أواسط الدولة صاروا يهبون الرتب الاسمية وألقاب الشرف يسترضون الناس بها، وهذه أبيات يقولون: إن أبا بكر الخوارزمي نظمها بهذا المعنى:
ما لي رأيت بني العباس قد فتحوا
من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجلا لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للحبس بوابا
قل الدراهم في كفي خليفتنا
هذا فأنفق في الأقوام ألقابا
سخاء البرامكة
على أن العصر العباسي الأول إنما زها بالبرامكة، وهم الذين رغبوا الخلفاء في السخاء، وأولهم خالد بن برمك وزير المنصور، والثروة لم تنضج في أيامه، ومع ذلك فالوافدون على الخلفاء للاستجداء كانوا يسمونهم السؤال، فقال خالد: «هذا والله اسم أستقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يسمي به أمثال هؤلاء المؤملين؛ لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم، ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبا، ولكننا نسميهم الزوار.» وكان ممن شهد مجلسه وسمع قوله بشار بن برد فقال:
حذا خالد في فعله حذو برمك
فمجد له مستطرف وأصيل
وكان ذوو الآمال يدعون قبله
بلفظ على الإعدام فيه دليل
يسمون ب «السؤال» في كل موطن
وإن كان فيهم نابه وجليل
فسماهم «الزوار» سترا عليهم
فأستاره في المهتدين سدول
فأعطاه خالد عن كل بيت ألف درهم.
94
وكان ابنه يحيى بن خالد إذا ركب أعطى كل من تعرض له 200 درهم،
95
ويروون من أخبار سخائه ما هو أشبه بالخرافات منه بالحقائق، نذكر حادثة تواتر ذكرها في كتب التاريخ والأدب، وهي تمثل سخاء يحيى أحسن تمثيل، وذلك أن البرامكة لما نكبوا منع الرشيد الناس من ذكرهم أو رثائهم، فمن ذكرهم إنما يذكرهم سرا، وظلوا على ذلك في أيام الأمين والمأمون، فسمع المأمون بشيخ يأتي خرابات البرامكة ويبكي وينتحب طويلا ثم ينشد شعرا يرثهم به وينصرف، فبعث في طلبه، فلما حضر انتهره الخليفة وسأله: من هو؟ وبم استحق البرامكة منه ما يصنع؟ فقال الرجل وهو غير هائب: «للبرامكة عندي أياد خضر، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته ببعضها.» فقال: «هات.» فقال: «أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، نشأت في نعمة فزالت حتى وصلت إلى بيع داري وأملقت إلى غاية، فأشير علي بقصد البرامكة فخرجت إلى بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة وصبيا، فدخلت بهم إلى مسجد ببغداد ثم خرجت، وتركتهم جياعا لا نفقة لهم، فمررت بمسجد فيه جماعة عليهم أحسن زي، فجلست معهم أردد في صدري ما أخاطبهم به فتحيد نفسي عن ذل المسألة، وإذا خادم قد أزعج القوم فقاموا فقمت معهم، ودخلوا دارا كبيرة فدخلت، فإذا يحيى بن خالد على دكة وسط بستان فجلسوا وجلست، وكنا مائة رجل ورجل فخرج مائة خادم في يد كل خادم منهم مجمرة ذهب فيها قطعة عنبر، فتبخروا وأقبل يحيى على القاضي وقال: زوج ابن عمي هذا بابنتي عائشة، فخطب وعقد النكاح وأخذنا النثار من فتات المسك وبنادق العنبر وتماثيل الند، فالتقط الناس والتقطت، ثم جاءنا الخدم في يد كل واحد منهم صينية فضة فيها ألف دينار مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كل واحد واحدة، فأقبل كل واحد يأخذ الدنانير في كمه والصينية تحت إبطه ويخرج، فبقيت وحدي لا أجسر أفعل ذلك، فغمزني بعض الخدم وقال: خذها وقم، فأخذتها وقمت وجعلت أمشي والتفت خوفا من أن تؤخذ مني، ويحيى يلاحظني من حيث لا أفطن، فلما قاربت الستر رددت، فيئست من الصينية، فجئته فأمرني بالجلوس فجلست، فسألني عن حالي فحدثته عن قصتي فبكى ثم قال: علي بموسى، فجاءه، فقال: يا بني، هذا رجل من أولاد النعم قد رمته الأيام بصرفها، فخذه إليك فاخلطه بنفسك، فأخذني وخلع علي وأمرني بحفظ الصينية لي، فكنت في ألذ عيش يومي وليلتي، ثم استدعى أخاه العباس وقال: إن الوزير قد سلم إلي هذا وأريد الركوب إلى دار أمير المؤمنين فليكن عندك اليوم، فكان يومي مثل أمس، فأقبلوا يتداولونني وأنا قلق بأمر عيالي ولا أتجاسر أن أذكرهم، فلما كان في اليوم العاشر أدخلت على الفضل بن يحيى فأقمت عنده يومي وليلتي، فلما أصبحت جاءني خادم فقال: قم إلى عيالك وصبيانك، فقلت: إنا لله، ذهبت الصينية وما فيها، فليت هذا كان من أول يوم! وقمت والخادم يمشي بين يدي، فأخرجني من الدار فازداد ما بي، ثم أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع في جوانبها، وفيها من صنوف الآلات والفرش، فلما توسطتها رأيت عيالي يرتعون في الديباج والستور، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وسلم إلي الخادم صكا باسم ضيعتين جليلتين، وقال: هذه الدار وما فيها والضياع لك، فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش إلى الآن، ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين وألزمني من خراجهما ما لا يفي به دخلهما، فكلما لحقتني نائبة قصدت دورهم فبكيت.»
فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة وأمره أن يرد على الرجل ما استخرج منه، ويقرر خراجه على ما كان في أيام البرامكة، فبكى الشيخ بكاء شديدا، فقال له المأمون: «ألم أستأنف بك جميلا؟» فقال: «بلى، ولكن هذا من بركة البرامكة!» فقال: «امض مصاحبا، فإن الوفاء مبارك وحسن العهد من الإيمان.»
96
وعلى ذلك شب جعفر والفضل ابنا يحيى وسائر البرامكة، وتوسعوا في السخاء حتى عينوا الرواتب لأهل الحاجات، فقد ذكرنا فيما تقدم أن غلتهم بلغت 20000000 دينار في السنة، فلما قتل جعفر وقبضت أموالهم وجدوا 12000000 دينار في بدر مختومة وعليها صكوك لأناس على سبيل الرواتب أو الصلات أو نحو ذلك،
97
ومن فنون سخائهم أن الفضل بن يحيى كان يكتب رقاعا بخطه فحواها «امض إلى فلان الصيرفي وخذ منه كذا وكذا دينارا.» حسبما يجريه الله على يده، ويركب في الليل أو في القائلة ويخترق شوارع البلد وينثرها فيها، وسئل عن ذلك فقال: «أردت أن يصل بري إلى من لا يصل إلي ولا أعرفه ولا يعرفني.» فإذا وجد أحد رقعة من هذه الرقاع مضى بها إلى الصيرفي فيأخذها منه ويعطيه ما فيها، وعند الصيرفي أمين جالس لئلا يصالحه على بعضها، ولا يعطي لأحد غير رقعة واحدة ولا يسأل عنه ولا يثبت اسمه، وربما جاءت بيد الصبي والمرأة والذمي فيأخذ ما فيها.
98
واشتهر من وزراء الدولة العباسية بالسخاء بعد البرامكة آل الفرات في أيام المقتدر، فكانوا يفرضون الرواتب للعلماء والأدباء والفقهاء وأهل الفاقة، وقد نكبوا كما نكب البرامكة، ولكن شهرة البرامكة غلبت على سواهم، فأصبحوا مضرب الأمثال في الكرم، ولا يزال الناس يتداولون أخبارهم ويتمثلون بسخائهم ويستحثون أريحية العظماء على السخاء بما يروون من أحاديثهم، حتى ظنها بعضهم موضوعة لهذه الغاية، ولا يبعد أن تكون رغبة الناس في الاستحثاث بعثت على المبالغة في بعضها، ولكنها صحيحة على إجمالها؛ قال السلطان العادل الأيوبي مرة وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم من الكرماء: «هذا كذب مختلق من الوراقين ومن المؤرخين، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال.»
فقال بعض الحضور: «يا خوند، ولأي شيء يكذبون عليك؟»
99
السخاء على الشعراء والمغنين
واعتبر ذلك في سخائهم على الشعراء، فقد كانت إجازة الشعراء قاعدة عامة من أوائل الإسلام لأسباب تقدم ذكرها، ويشبه ذلك ما تنفقه بعض الدول اليوم على الصحافة لتنصرها أو تأخذ بيدها في نشر مبدأ أو رأي.
وتعودوا أن يسموا ما يعطى للشاعر جائزة أو صلة، كما يسمون ما يعطى للصحف إعانة أو راتبا، على أن بعض الخلفاء كانوا يفرضون للشعراء رواتب يتناولونها مشاهرة أو مسانهة، وربما عدوا الجائزة راتبا يناله الشاعر إذا وفد على الخليفة أو الأمير في يوم معين من السنة، وقد تكلمنا عن الشعر وسائر أحواله فيما تقدم، ونحن ذاكرون سخاء الخلفاء على الشعراء في إبان الحضارة.
أول من جاد على الشعراء في الإسلام بنو أمية، وأسخاهم الوليد بن يزيد، وهو أول من عد أبيات الشعر وأعطى على كل بيت ألف درهم،
100
واقتدى به من جاء بعده منهم، أما العباسيون فزادوا القيمة وأعطوا على القصيدة في مدحهم 100000 درهم، وأول من نال هذه الصلة منهم مروان بن أبي حفصة وصله بها المهدي على قصيدة مدحه بها مطلعها: «طرقتك زائرة فحي خيالها»
101
ومدحه سلم الخاسر بقصيدة مطلعها: «حضر الرحيل وشدت الأحداج»
فأراد أن ينقص له من جائزة مروان فحلف أنه لا يأخذ إلا مائة ألف ألف درهم، ويقال: إنه أعطاه إياها
102
والغالب أنه أعطاه مائة ألف فقط، وإنما أضيفت الألف الأخرى خطأ من النساخ.
وكان المنصور قبله بخيلا على الشعراء، إذا أحب أن يعطي شاعره أبا دلامة فرض على الهاشميين دينارين ليعطيها له.
103
أما الرشيد فأعطى مروان كما كان يعطيه المهدي، أي مائة ألف درهم
104
وأعطاه مرة 5000 درهم وعشرة من الرقيق، وكان يعطي أبا العتاهية راتبا سنويا مقداره 50000 درهم غير الجوائز والمعاون،
105
وفاقهم المتوكل في ذلك؛ لأنه أعطى حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من قصيدة قالها، وهو أول من أعطى ذلك،
106
وكان المعتصم إذا أعجبه قول الشاعر ملأ فمه جوهرا، وقد سبقه إلى ذلك يزيد بن عبد الملك.
107
وتشبه الوزراء والأمراء بالخلفاء، فكان خالد القسري يجلس للشعراء في مقام معين ويجيزهم، وكذلك آل المهلب فإنهم فرضوا لهم الأعطية والجوائز.
108
أما في الدولة العباسية فالبرامكة لم يدخروا وسعا في إجازة الشعراء، خصوصا الفضل بن يحيى، وقد قال فيه بعضهم:
ما لقينا من جود فضل بن يحيى
ترك الناس كلهم شعراء
109
وكان أبوه يحيى إذا لقيه شاعر ولم يكن معه مال أعطاه دابته،
110
وقد فاق البرامكة الخلفاء في إجازة الشعراء، فنال شاعرهم أبان اللاحقي على قصيدة واحدة ما ناله مروان بن أبي حفصة من الرشيد كل عمره،
111
وقس على ذلك سخاء سائر الوزراء والأمراء، فإن يزيد بن مزيد أعطى نصف ماله لشاعر.
112
ويقال نحو ذلك في سخائهم على المغنين، فقد أعطى المهدي دحمان المغني في ليلة واحدة 50000 دينار؛ لأنه أطربه، وأعطى الأمين إسحاق الموصلي 1000000 درهم؛ لأنه غناه شعرا في مدحه، فحملها إلى داره مائة فراش،
113
وكان الهادي يجري على إبراهيم الموصلي عشرة آلاف درهم في الشهر سوى صلاته، أما الرشيد فكان إذا طرب وهب وجاد حتى ولى إسماعيل بن صالح مصر؛ لأنه أطربه بغنائه،
114
وأخبار الشعراء والمغنين كثيرة لا محل لها.
واقتدى بسخاء العباسيين ورجال دولتهم سائر رجال الدولة الإسلامية، وإن لم يبلغوا شأوهم. (3-6) المسكر
كان المسكر شائعا قبل الإسلام في الشام والعراق وفارس ومصر وجزيرة العرب وغيرها، وكان ملوك الفرس يقبلون على اللذات والمسكرات، ويقال: إن الرومانيين لم يتعودوا المسكر إلا بعد فتحهم آسيا، على أن عقلاء الناس كانوا يحرمون شربه حتى في جاهلية العرب، فإن جماعة منهم حرموه على أنفسهم وأهلهم، وإذا عربد أحدهم بالسكر وتكرر ذلك منه خلعه قومه ونفوه، فلما جاء الإسلام ورد النص بتحريمه، وأقيمت الحدود في منعه؛ الجلد والحبس وحلق الرأس أو اللحية والشوارب أو قطع العطاء، وعاقبوا بائعيه وكسروا أوانيه ولا سيما في عصر الراشدين وأوائل أيام بني أمية، حتى عنف عمر بن الخطاب خالد بن الوليد على تدلكه في الحمام بغسل فيه خمر، وقال له: «إن الله حرم ظاهر الخمر وباطنها ومسها فلا تمسوها بأجسادكم.» ومع ذلك فاختلاط المسلمين بأهل البلاد المفتوحة عودهم إياها، حتى شرب جماعة من الصحابة وأبنائهم فوقعوا تحت طائلة العقاب، وأول من عوقب على شربها وحشي بن حرب قاتل حمزة،
115
ثم عوقب غير واحد منهم ومن أبنائهم، وفيهم جماعة من الكبراء كالوليد بن عقبة، ويزيد بن معاوية، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وأخويه عبد الرحمن وعاصم، والعباس بن عبد الله بن عباس، وقدامة بن مظعون، وعبد العزيز بن مروان، وعبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي، وأبي محجن الثقفي وغيرهم.
116
ومما ساعد على إقبال نفر من المسلمين على الخمر أن بعض الخلفاء الأمويين كانوا يشربونها، كيزيد بن معاوية ، وعبد الملك بن مروان، ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد،
117
والوليد هذا أول من وصف الخمر وتغزل بها فسرق الشعراء معانيه وأدخلوها في أشعارهم، وتهتك الوليد في المسكر حتى حدثته نفسه أن يسكر فوق الكعبة، فخوفه أصحابه من الناس فأمسك، وقد أفسده وعلمه الخلاعة مؤدبه عبد الصمد بن عبد الأعلى،
118
على أن رجال الحكومة كانوا يشددون في منع الخمر والحد عليها، حتى كثيرا ما كانوا يمنعون بيع العسل لئلا يصنعوها منه،
119
وأشهر من شدد في منعها من الخلفاء عمر بن عبد العزيز الأموي والمهتدي العباسي، ومع ذلك فقد كانت تزداد انتشارا، باتساع أسباب الحضارة وذهاب دهشة الدين واشتغال الناس بالغناء والجواري، حتى صاروا يشربونها جهارا، واشتهر بشربها غير واحد من الخلفاء وأهلهم ورجال الدولة مع التهتك في مجالس الشرب، فعمد بعض المتملقين من الفقهاء ورجال الدين إلى انتحال المسوغات لشربها، فأخذوا يبحثون في الفرق بين أنواعها وميزوا بين المحلل والمحرم منها، فأجمعوا على تحريم الخمر واختلفوا في تحريم النبيذ ، وفي أي أنواعه حلال وأيها حرام، ويقال بالإجمال: إن أهل العراق كانوا يستحلون النبيذ وأهل الحجاز يحرمونه.
120
والنبيذ يصنع من أكثر أنواع الفاكهة ولا سيما العنب والتمر والتفاح والمشمش ومن الذرة، ويختلف باختلاف البلاد وباختلاف طرق عمله وهو عصير بعض هذه الأثمار أو منقوعها كما ينقع الزبيب اليوم (الخشاف).
وقد يضيفون إليه العسل أو الدبس أو يصنعونه من أحدهما مع الحب على النار،
121
وكانوا إذا أقبلوا على شربه صفوه وتناولوه بالأقداح الكبيرة، وربما صنعوا الخمر منه، وإذا صفي في القناني صعب تمييزه من الخمر أو منقوع الزبيب أو مذاب العسل،
122
فمن أحب الشرب استحل تناوله على أنه نبيذ، فإذا أكثر من شربه فعل فعل الخمر، وبعضهم كان يحلل قليل الخمر ويحرم كثيرها، وآخرون يحللون شرب الخمر إلا إذا أدت إلى السكر،
123
ولكن الأكثرين حكموا بتحريمها، ولهم في ذلك أقوال يطول شرحها تراها مبسوطة في كتب الشرع.
فالخلفاء العقلاء الذين بلغنا أنهم سكروا في بعض مجالسهم كانوا يستحلون شرب النبيذ، وهو حلو منعش فيكثرون منه حتى يسكروا، ويؤيد ذلك أنهم كانوا يشربونه بالأرطال، وإذا طال مكث النبيذ قبل شربه دب فيه الاختمار وتولد الكحول ولو قليلا، وقد يطول مجلس الشراب فيسكر الشاربون ويعربدون، وربما أتوا في سكرهم بما لا يأتيه غير المجانين، وأفظع ما يروى من هذا القبيل أن الملك الناصر ابن الملك المعظم الأيوبي كان إذا سكر يقول: «أشتهي أن أرى غلامي فلانا طائرا في الهواء!» فيرمى ذلك المسكين بالمنجنيق، ويراه في الهواء فيضحك ويشرب ويقول: «أشتهي أن أشم رائحة فلان وهو يشوى!» فيحضر ذلك الرجل ويقطع لحمه ويشوى،
124
وكتب التاريخ والأدب مشحونة بأخبار مجالس الشراب، وهي في الغالب مجالس الغناء، ويندر أن يترفع خليفة أو وزير عنها، ومن أكثر العباسيين رغبة فيها الهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وأكثرهم نفورا منها المنصور والمهتدي. واشتهر من الفاطميين بالتهتك بها المستنصر
125
واشتهر بمقاومتها الحاكم بأمر الله، وكثيرا ما أمر بإراقة الخمور وإراقة العسل حتى لا تصنع منه.
أما العامة فانغمس الكثيرون منهم في المسكر وشربوه على أنواعه، شأنهم في كل زمان وإن لم يشربه حكامهم، فكيف إذا كانوا يشربون؟ والغالب في شاربي النبيذ أن ينبذوه في بيوتهم، وبعضهم يشربه عند إخوانه، وآخرون يتناولونه في الحانات وكانت كثيرة، وأكثر أصحابها من اليهود، وقد يشربون الخمر في الأديار وخمرها مشهورة بجودتها. (3-7) التهتك
وطبيعي فيما قدمناه من الحضارة والترف أن يعتورها شيء من التهتك والفحشاء، وإن كان ذلك لا يخلو منه قوم مهما بلغ من بعدهم عن الحضارة، ولكنه يكثر غالبا في المتحضرين، لسكون خواطرهم وتوفر أسباب الرغد والتنعم عندهم، كان في جاهلية العرب جماعة من البغايا لهن رايات ينتحيها الفتيان، وكان بعض الناس يكرهون إماءهم على البغاء يبتغون عرض الدنيا،
126
ولكن ذلك شأن الحضر منهم؛ لأن البدو أقرب إلى صحة الآداب، فاعتبر كم تكون أسباب التهتك أوفر في المدن الكبرى، حيث تتزاحم الأقدام وتتوفر الثروة وتكثر الجواري ويتفشى الغناء والمسكر، كما كان شأن بغداد وقرطبة والقاهرة والفسطاط في إبان ذلك التمدن، فلا غرو إذا تفشت الفحشاء فيها ولا سيما في العصور الوسطى، حتى صار البغاء في بعض الأحيان صناعة عليها رئيس يحتكم إليه البغاءون عند الحاجة،
127
وتفننوا في ترويج تلك البضاعة بتصوير النساء على جدران الحمامات،
128
وأصبح أهل القصف من الأغنياء يصورون حظاياهم على جدران منازلهم كما فعل ابن طولون، وكان الحكام العقلاء يبذلون جهدهم في منع الفحشاء ويقاومون تيارها بما في إمكانهم،
129
ولما عجزوا عن كف أذاها بالقوة ضرب بعضهم عليها ضرائب يدفعها أصحابها مثل سائر التجارات.
130
وأقبح ما ظهر من التهتك في أثناء هذا التمدن مغازلة الغلمان وتسريهم، وظهر ذلك على الخصوص في أيام الأمين، وتكاثر بتكاثر غلمان الترك والروم من أيام المعتصم وفيهم الأرقاء بالأسر أو بالشراء، وتسابق الناس إلى اقتنائهم كما تسابقوا إلى اقتناء الجواري وغالوا في تزيينهم وتطييبهم، وكانوا يخصونهم ليأمنوا تعديهم على نسائهم وجواريهم، وفشا حب الغلمان في أهل الدولة بمصر وتغزل بهم الشعراء،
131
حتى غارت النساء من ذلك فعمدن إلى التشبه بالغلمان في اللباس والقيافة ليستملن قلوب الرجال.
132
وكثرة الجواري في بعض القصور جرتهن إلى التفنن في أساليب الفحشاء، وربما اتخذت كل جارية خصيا لنفسها كالزوج، كما فعلت جواري خمارويه صاحب مصر،
133
حتى النساء الشريفات فإن قعودهن عن الزواج لعدم وجود الأكفاء أو لأسباب أخرى كان يجرهن إلى مثل ذلك فتكاثر الفساد فيهن لقلة التزويج،
134
ذكروا أن ابنة الإخشيد صاحب مصر اشترت جارية لتتمتع بها، وبلغ المعز لدين الله الفاطمي ذلك - وكان لا يزال في الغرب يتحفز للوثوب على مصر ويخاف الفشل - فلما بلغه ما فعلته ابنة الإخشيد استبشر وقال: «هذا دليل السقوط.» وجند على مصر وفتحها، والعفاف سياج العمران.
هوامش
أبهة الدولة
الأبهة «العظمة والبهجة والكبر والنخوة»، ونريد بها مظاهر الدولة في أبهج أحوالها وأفخم أطوالها، والبحث فيها يتناول النظر في مجالس الخلفاء ومواكبهم وضخامة دولتهم وألعابهم وملاهيهم وملابسهم، وغير ذلك مما سنفصله، ولما كانت الدولة العباسية أسبق الدول الإسلامية إلى تلك المظاهر وقدوتها فيها، رأينا أن نحصر كلامنا عن الأبهة في العصر العباسي ، مع ما يقتضيه المقام من الاستشهاد بما عند الدول الأخرى فنقول: (1) مجالس الخلفاء
يختلف مجلس الخليفة شكلا وأبهة باختلاف الدول، وفي الدولة الواحدة باختلاف أطوارها، وفي كل طور باختلاف المراد منها، فكانت مجالس الراشدين في المسجد أو المنزل، يقعدون على حصير أو جلد يلتفون بعباءة أو نحوها، فيدخل عليهم الناس في حوائجهم ويخاطبونهم بأسمائهم، لا يستنكفون من ذلك ولا يرون فيه ضعة، وإذا خرج أحد قوادهم للفتح مشى الخليفة لوداعه بلا حرس ولا بنود ولا طبول، وأوصاه بالتؤدة والصبر مع الرفق والعدل، وكان عمالهم في الأمصار على نحو ذلك، على أن العمال - نظرا لإقامتهم في مدن عمرها الفرس أو الروم مع ما رأوه من أحوال تينك الدولتين - كانوا أقرب إلى مظاهر الأبهة، وكان الخلفاء إذا علموا بذلك أنبوهم كما فعل عمر لما علم أن سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة اتخذ قصرا وجعل عليه بابا، فأرسل إليه رجلا من خاصته وأمره أن يحرق الباب عليه ففعل.
ثم إن طبيعة العمران غلبت على تلك السذاجة، فتدرج الخلفاء والأمراء في مظاهر الأبهة واتخاذ الحجاب؛ بدأ بذلك معاوية بن أبي سفيان، وأعانه عليه أمراؤه في العراق ومصر، وعملوا مثل عمله وأشاروا عليه بضروب من الفخامة كان عليها ملوك تلك البلاد قبلهم، واقتدى بهم سائر خلفاء بني أمية، وزاد العباسيون أسباب الأبهة بمن قربوهم من الفرس، فأدخلوا في الدولة كثيرا مما كان عليه الأكاسرة في مجالسهم وسائر أحوالهم، فتعددت تلك المجالس وأصبحوا يجلسون مجلسا للحكم وآخر للمنادمة أو للمناظرة أو للمذاكرة أو غيرها، ويختلف المجلس باختلاف ذلك فخامة وترتيبا.
على أن مؤسسي الدول قلما كانوا يجلسون لغير العمل والنظر في شئون الدولة، فمعاوية بن أبي سفيان،
1
وأبو جعفر المنصور،
2
كانا يوزعان ساعات النهار على ما لديهما من الأعمال من إدارة وسياسة ومفاوضة ومطالعة، أما في أواسط الدولة فتعددت المجالس، والمراد هنا بالأكثر المجلس الذي كانوا يجلسونه للنظر في مصالح الدولة. (1-1) شكل المجلس وفرشه
قلنا إن الراشدين وعمالهم كانوا يجلسون في المساجد؛ لأن الإسلام كان لا يزال غضا، فلما جعله الأمويون دولة جلسوا في قصور كانت للدولة السابقة أو بنوا قصورا لأنفسهم نصبوا بها الأسرة والكراسي، وافترشوا الطنافس والمصليات والوسائد وعلقوا الستور وأقاموا الحجاب، فالأسرة أول من اتخذها معاوية، قلد بها بطارقة الروم في الشام وكذلك الستور والطنافس، وأما الكراسي فيظهر أنه قلد بها مرازبة الفرس؛ لأن أول من استخدمها من أمراء المسلمين زياد بن أبيه عامله على فارس،
3
فلعله نقلها إلى الشام، وقد يكون معاوية اقتبسها من الروم رأسا، وقس على ذلك سائر ما أدخلوه من مظاهر الأبهة من الطراز ونقش الأشعار في صدور المجلس، وفرش الديباج والخز واصطناع الأسرة من الأبنوس أو الصندل أو العاج أو الذهب أو غيرها.
وبعد أن كانت مصالح الدولة تجتمع في بناء واحد اختصت كل منها بإدارة، وأصبح لبعض كبار الرجال إدارات خاصة بأعماله تشبه ما للخلفاء من إدارات الكتاب والحساب والأطباء وغيرهم،
4
وكان لمجلس الحكم في العصر العباسي داران، دار خاصة ودار عامة، يجلس الخليفة في الأولى مع رجال الدولة أو من يفد عليه من كبار الأمراء أو الملوك، وينظر في الثانية في سائر الشئون ويعقد بها المجالس الاعتيادية.
والمجلس في إبان الحضارة كان ينعقد في قاعة أو بهو كبير، على جدرانه صور ممثلة بالذهب والفضة لما في البر والبحر من شجر أو حيوان أو جبال، ويكسو أرضه بساط واحد أو عدة أبسطة من الديباج أو نحوه، وفي أطراف البهو مناور من الذهب أو الفضة توضع عليها الشموع،
5
ويسبل على أبواب المجلس ونوافذه ستائر من الحرير أو غيره مطرزة بشارة الدولة أو بأشعار أو حكم أو آيات أو أحاديث أو رسوم مدن أو أنهر أو جبال.
وفي وسط القاعة سدة أو سرير يجلس عليه الخليفة،
6
يصنع من العاج أو الأبنوس أو الصندل يحلى بالذهب، وقد غالى الفاطميون في النفقة على الأسرة حتى يدخل في الواحد منها 110000 مثقال من الذهب الإبريز الخالص،
7
وقد يجعل الخليفة بين يديه بعض التحف أو نحوها للزينة أو التشاغل بها، فالمعتمد الأندلسي كانوا يضعون أمامه في المجالس تماثيل عنبر من جملتها جمل مرصع بالذهب واللؤلؤ وجمل من بلور له عينان من ياقوت وقد حلي بنفائس الدر.
8
ولما كان الخلفاء يحتجبون عن الناس كانوا يعلقون في وسط القاعة سترا بينهم وبين الجلساء،
9
أو يستترون عنهم وراء شباك مخرم، على أن فرشهم يختلف في الشتاء عنه في الصيف، فيضاف إليه في الشتاء مواقد النار يستجر فيها الند والعود ويلبسون الفراء اللائقة بالوقت على أشكالها.
10 (1-2) مجالسة الخلفاء
الاستئذان في الدخول
كان الاستئذان على الخليفة في عصر الراشدين أن يقف الرجل بالباب ويقول: «السلام عليكم، أأدخل؟» يكرر ذلك ثلاثا، فإن لم يؤذن له لم يعدها،
11
وربما أقام الراشدون الحجاب لمنع الازدحام أو للاستئذان في بعض الأحوال، فلما انقضى ذلك العصر أقيم الآذنون والحجاب يتوسطون للناس في دخولهم على الخليفة بحسب طبقاتهم وفي أوقات معينة لكل طبقة من الجلساء أو الأدباء أو الشعراء أو غيرهم،
12
أما في المجالس العامة فيقدمون الناس حسب مراتبهم.
وأول من رتب المراتب في الدخول على الخليفة زياد بن أبيه في العراق، أشار عليه بذلك حاجبه عجلان ولعله اقتبسها من الفرس، فجعل الإذن للناس على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الآداب،
13
وصار ذلك سنة في الاستئذان على الخلفاء في عصر الأمويين، فإذا استأذن جماعة في الدخول على الخليفة أو الأمير يؤذن أولا لأشرفهم نسبا، وإذا تساووا في النسب قدموا أكبرهم سنا، فإذا تساووا في السن قدموا أكثرهم أدبا، وظلت هذه القاعدة مرعية في سائر العصور الإسلامية.
وكانوا في أيام بني أمية وفي أوائل الدولة العباسية إذا وفد الناس على الخليفة أو الأمير وقفوا ببابه يلتمسون الإذن، فإما أن يأذن لهم أو يصرفهم، فإذا صرفهم عادوا ثانية وإذا لم يؤذن لهم هذه المرة عادوا ثالثة حتى يؤذن لهم أو يملوا، ويعبرون عن ذلك بقولهم الإذن الأول والثاني والثالث إلخ،
14
ثم جعلوا للوافدين على الخليفة منازل بجوار دار العامة يقيمون فيها ريثما يؤذن لهم، وأول من فعل ذلك المنصور العباسي لما بنى بغداد، فاتخذ في قصره بيوتا للإذن، فجرى الأمر على ذلك في الدولة العباسية،
15
فكان الوافد يقيم ريثما يستريح ثم يستأذن، وقد يلتمسون إذنا لدخول القصر وآخر لدخول المجلس.
الدخول على الخليفة والسلام عليه
فإذا أذن لأحدهم بالدخول تقدم وألقى التحية، وكانوا في أول الإسلام يحيون تحية عامة، فيقول الداخل على الخليفة أو الأمير أو الوالي: «السلام عليك» ويكرهون قولهم: «عليك السلام» لأنها تحية الموتى،
16
وقد يضاف إلى التحية كنية الأمير أو الخليفة، ولا يزيدون على ذلك، فلما خالطوا الأعاجم، ورأوا تمييزهم بين الرئيس والمرءوس، هموا بتقليدهم، وأول من قلدهم المغيرة بن شعبة فقال: «ينبغي أن يكون بين الأمير ورعيته فرق.» وألزم أهل عمله أن يؤمروه أي يحيوه تحية الأمراء وهي: «السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته»،
17
أو «السلام على الأمير ورحمة الله» ففعلوا، واقتدى بهم سائر المسلمين، وميزوا الخلفاء بتحية الخلافة، فصاروا يقولون عند الدخول على الخليفة: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»، أو «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله »،
18
وما زالت هذه تحيتهم حتى فسدت حضارتهم بالتملق ونحوه، فقلدوا الدول الأخرى بالتعظيم، وحظروا على الناس السلام على الخليفة لما فيه من تكليف الرد والجواب، واقتصروا في تحيته على الخدمة والدعاء له، والخدمة تختلف بين أن تكون بانحناء الرأس والتطامن والبلوغ إلى حد الركوع، وما زاد عليه فهو سجود ولا يجوز لغير الله.
وربما قبلوا يد الخليفة عند التحية، وكانوا في أوائل الإسلام يقبلونها عند البيعة أو تجديد العطاء، وعند العفو أو الوداع، وكان الصحابة يفعلون ذلك مع النبي
صلى الله عليه وسلم
وظل متبعا مع أكثر الخلفاء، ثم ترفع هؤلاء عن أن يلمس الناس أكفهم، فصار التقبيل للأكمام والعتبات على حسب الاقتدار، وإذا أراد الخليفة تشريف أحد قواده منعه من تقبيل يده أو كمه كما فعل المهدي مع مسلم بن قتيبة، فجذب يده منه وقال: «نصونك عنها ولا نصونها عن غيرك.»
19
وقد يختلف ذلك باختلاف الناس واختلاف الدول وتباين الأحوال، فإن جوهر القائد لما ودع مولاه المعز لدين الله عند قدومه لفتح مصر أنزل المعز أولاده لوداعه، فنزلوا عن خيولهم ونزل أهل الدولة لنزولهم فقبل جوهر يد المعز وحافر فرسه.
20
وعبد الله بن مالك صاحب شرطة المهدي كان خائفا من الهادي؛ لأنه سبه قبل خلافته، فرأى منه رعاية وحلما فلم يتمالك عن تقبيل يده ورجله وحافر دابته،
21
وكذلك فعل إبراهيم الموصلي فقبل حافر دابة الرشيد؛ لأنه تنازل لزيارته،
22
وكان أهل الدين والنسك إذا دخلوا على الخليفة لا يدخلون مثل سواهم، بل يدخلون وعليهم السكينة والوقار.
والداخلون على الخليفة يجلسون في المواضع اللائقة بمراتبهم، ويتولى إجلاسهم الحاجب أو الآذن، وكانت الرتبة الأولى بعد الخليفة في الدولة الأموية لبني أمية، يجلسون على الأسرة وبنو هاشم على الكراسي، وأما في الدولة العباسية فصارت الأفضلية لبني هاشم، وصاروا يسمونهم الملوك والأشراف، فيجلس الخليفة على السرير أو السدة، ويجلس بنو هاشم على الكراسي، ويقعد بنو أمية إذا حضروا على الوسائد تثنى لهم،
23
لكن الأمويين قلما كانوا يحضرون مجلس بني العباس، بعد أن نكبوهم وقتلوا معظمهم وما بقي منهم أسقطت مرتبته في أيام المستعين سنة 250ه،
24
ويلي هؤلاء سائر طبقات الجلساء من أهل الدولة وغيرهم، وتتفاوت مراتب هؤلاء وتتباين على مقتضى الأحوال مما لا حد له.
الآداب في مجالسة الخلفاء
كانت مجالسة الخلفاء في صدر الإسلام مثل مجالسة سائر الناس، لما علمته من سذاجة الراشدين، وكانوا يخاطبون الخليفة باسمه أو كنيته، فيقولون: يا عمر ويتباحثون بلا احتراس ولا تهيب، لأسباب تقدم بيانها، فلما ضخم ملكهم وذهبت دهشة النبوة، عمل الأمويون على التشبه بالدول المستبدة، وأخذ الدهاة من عمالهم بتعظيم أمر الخليفة وتفخيم منصبه وتنزيه مجلسه عن مجالس سائر الناس، وأول من فعل ذلك زياد بن أبيه، فوضع القاعدة «أن لا يسلم على قادم بين يدي الخليفة»،
25
ثم منعوا الكلام في حضرة الخلفاء على الإطلاق، وأول من منعه عبد الملك بن مروان، وتجبر الخلفاء بعد ذلك حتى منعوا الناس من مخاطبتهم كما كانوا يخاطبون أسلافهم، وأول من تجبر الوليد بن عبد الملك، فكلف الناس أن لا يكلموه كما كانوا يكلمون أسلافه، وقال بعد كلام: «وإني أعطي الله عهدا يأخذني بالوفاء به لا يكلمني أحد بمثل ذلك إلا أتلفت نفسه، فلعمري إن استخفاف الرعية براعيها سيدعوها إلى الاستخفاف بطاعته والجرأة على معصيته.» وقال له رجل من بني مرة يوما: «اتق الله يا وليد فإن الكبرياء لله.» فأمر به فوطئ حتى مات، فاتعظ الناس وهابوه،
26
وهو أول من منع الناس أن يكاتبوه بما كانوا يكاتبون أسلافه أو يكاتبون بعضهم بعضا.
ثم صارت القاعدة المرعية في مجالسة الخلفاء أن لا يدعى لأحد في حضرتهم،
27
ولا ينهض لداخل إلا إذا نهض الخليفة، ثم صارت رسوم أرباب الدواوين كبارهم وصغارهم إذا كانوا في دواوينهم لا يقومون لأحد من خلق الله ممن يدخل عليهم،
28
فلا يتكلم أحد في مجلس الخلفاء إلا إذا كلموه، أي لا يبدؤهم أحد بكلام، وجرت العادة أن يطلقوا الكلام للوافد عليهم بقولهم: «ما أنعمنا بك يا أبا فلان» وهي كلمة كانت تقولها العرب،
29
فيذكر الرجل ما جاء من أجله ، وإذا لم يطلق له الكلام ظل ساكتا.
وما زال ذلك سنة مرعية في مجالس الخلفاء، حتى أباح المأمون الكلام لأهل مجلسه للمناظرة بين يديه،
30
واستمر ذلك بعده مع مراعاة الأحوال، أما مبادأة الخليفة بالكلام فأول من استطاعها أحمد بن أبي دؤاد وزير المعتصم.
31
ولما استولى القواد على الأمور ضعفت هيبة الخلفاء وذهبت تلك الرسوم، حتى أبيح اللعب والضحك والهزل في مجالسهم، وأول من أباحها المتوكل على الله في أواسط القرن الثالث للهجرة.
32
ومن آدابهم في ذلك المجلس أن لا يأمر فيه أحد غير الخليفة،
33
وإذا نهض نهض سائر الحضور، وأن يصغي الجليس إلى كلامه بكليته فلا يشتغل عنه بشيء، ومن لطيف ما يروونه من هذا القبيل أن معاوية كان يحدث يزيد بن سحرة حديثا، وابن سحرة مصغ فصك جبينه حجر غائر فأدماه، فجعلت الدماء تسيل على وجهه ولحيته وثوبه ولم يتغير عما كان عليه من الاستماع، حتى نبهه معاوية إلى ذلك فأجابه: «إن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري وغطى على قلبي.» فزاد معاوية عطاءه.
34
والخلفاء لا يعزون، وإنما يقتصر على الدعاء لهم بدوام الظفر والسعادة من غير تطويل، ولا يقال للخليفة كيف أصبح ولا كيف أمسى، ولا يسأل عن حاله ولا يطنب في تحسين كلامه ولا أفعاله، ولا يستعاد منه الكلام ولا يستزاد ولا تحسن الإشارات في مجلسه ولا يغامز، ولا يشتغل بحضرته بوداع راحل ولا سلام قادم،
35
ولا يليق أن يرد على الخليفة بلفظ «لا» فيحتال في التخلص منها،
36
وقد قالوا في الاحتراس في مخاطبة الملوك: «من أراد مصاحبة الملك فليدخل كالأعمى وليخرج كالأخرس.»
37
ومن أمثلة التأدب في مخاطبة الخلفاء أن عبد الملك بن صالح وجه إلى الرشيد فاكهة في أطباق الخيزران وكتب إليه: «أسعد الله أمير المؤمنين وأسعدني به، إني دخلت إلى بستان لي أفادنيه كرمك وعمرته لي نعمك، قد أينعت أشجاره وآتت ثماره، فوجهت إلى أمير المؤمنين منه شيئا على الثقة والإمكان في أطباق القضبان، ليصل إلي من بركة دعائه مثل ما وصل إلي من كثرة عطائه.» فاستحسن الرشيد تكنيته عن الخيزران بالقضبان لأنه اسم أمه.
38
وكان الحديث يجري في مجلس الخليفة في أول الإسلام باللغة العربية الفصحى، فيعربون الكلام ويضبطون حركات الألفاظ، فمن لم يستطع ذلك من الخلفاء عدوه لحانا، فكان الأمويون يرسلون أولادهم إلى البادية يشبون فيها ليضبطوا ألفاظهم، وقد أحسنوا ذلك إلا الوليد بن عبد الملك فإن أباه لم يرسله إلى البادية فنشأ لحانا، وكان أبوه يكره اللحن ومن أقواله: «اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب والجدري في الوجه.» ومنها: «تعلموا النحو كما تتعلمون الفرائض.» وكان يخاف اللحن إذا وقف للخطابة فيؤلمه ذلك، وسأله سائل: «لقد عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين.» فقال: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن.» وكذلك كان سائر بني أمية، وللوليد أخبار في اللحن مضحكة،
39
وكان عمال بني أمية مثل خلفائهم في المحافظة على الإعراب إلا الحجاج بن يوسف فقد كان يلحن أحيانا،
40
فلما استعجمت الدولة في زمن بني العباس قلت عناية الناس بالإعراب، وظهر غير واحد من الفقهاء والعلماء يلحنون في كلامهم، كأبي حنيفة النعمان وأبي عبيدة وغيرهما.
احتجاب الخلفاء عن جلسائهم
كان الخلفاء الراشدون يجالسون الناس ويخاطبونهم ولا يحتجبون عنهم، ثم احتجب الأمويون وجعلوا بينهم وبين الجلساء حجابا، ووسطوا في حوائج الناس من يقضيها عنهم، وأول من احتجب معاوية بعد محاولة البرك بن عبد الله الخارجي سنة 40ه قتله غيلة، وكان قد قعد له في المسجد فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بالسيف فجرحه، فلما شفي ابتنى هناك مقصورة يصلي فيها خوفا من مثل ذلك، واحتجب عن الناس إلا من اختصهم بالمجالسة، واقتدى به الخلفاء بعده في أوائل دولتهم، وكذلك الأوائل من بني العباس.
41
والحجاب كان شائعا عند الفرس من عهد أردشير، فكانوا ينصبون في مجلس الملك ستارة بينها وبينه عشرة أذرع وبينها وبين الجلساء عشرة أذرع، فقلدهم العباسيون، ثم ضاعفوا الحجاب في بعض الأحوال، فاتخذوا عدة أستار الواحد وراء الآخر إلى ثلاثة أو أربعة، وفعل ذلك وزراؤهم البرامكة أيضا،
42
وجعلوا لقصورهم عدة أبواب الواحد وراء الآخر.
43
كذلك كان شأن العباسيين، من أبي العباس السفاح إلى المتوكل ومن بعده، إلا الهادي فإنه لم يحتجب عن أحد،
44
على أنهم كانوا يحتجبون غالبا عن الندماء والمغنين وسائر طبقات العامة، وليس عن الخاصة إلا أحيانا، فكانوا يقيمون عند الستارة حاجبا يسمونه صاحب الستارة، يتوسط في نقل ما يريد الخليفة إبلاغه إلى جلسائه أو ندمائه، واقتدى بالعباسيين غيرهم من الدول الإسلامية بمصر والأندلس.
علامة الصرف
وإذا أراد الخليفة صرف جلسائه أبدى إشارة يعرفونها فينصرفون، وهي عادة فارسية وضعها كسرى أنوشروان، فكان إذا أحب أن يصرف ندماءه مد رجله فينصرفون ... وتابعه ملوكهم على ذلك، فكان فيروز يدلك عينيه، وبهرام يرفع رأسه إلى السماء،
45
وقلدهم فيها المسلمون من أيام بني أمية، فكان معاوية إذا أراد صرف الناس قال: «إذا شئتم» أو «العزة لله»، وكان ابنه يزيد يصرفهم بقوله: «على بركة الله»، وعبد الملك كان يحمل بيده خيزرانة فإذا ألقاها من يده عرف جلاسه أنه يريد انصرافهم،
46
وقس عليه سائر الخلفاء من بني أمية وأمرائهم، فكان يزيد بن هبيرة إذا أراد صرف جلسائه دعا بمنديل فيقومون.
أما بنو العباس فقد كانت إمارة السفاح منهم أن يتثاءب ويلقي المروحة من يده،
47
وكانت علامة المأمون أن يعقد أصبعه الوسطى بإبهامه ويقول: «برق يمان برق يمان!» ومن انصرف من حضرة الخليفة مشى القهقرى ووجهه نحو مجلسه حتى يتوارى. (1-3) مجالس الأدب والشعر
رغبة الخلفاء في الاطلاع
كان للخلفاء ميل شديد إلى سماع الأخبار، فيعقدون المجالس يحضرها الأدباء من أهل الأخبار والنوادر والأدب والشعر، يحادثون الخليفة بما يلذ له سماعه من أخبار العرب ونوادرهم وأشعارهم، وكان الدهاة من الخلفاء والأمراء مثل معاوية وهشام والمنصور وابن هبيرة،
48
يقيمون أناسا يتلون عليهم أعمال القواد والملوك من الروم والفرس، وأخبار الدول وحوادث الشجاعة والرأي، يلتمسون بذلك التوسع في أسباب الدهاء وأفانين السياسة، كما يفعل رجال اليوم بالاطلاع على تراجم العظماء.
على أنهم كانوا يعقدون مجالس الأدب على الغالب لترويح النفس من مشاغل الدولة، وتلذذا بالاطلاع على آداب العرب وأخبارهم، فاختص بكل خليفة جماعة ممن عاصروه من أصحاب الأخبار والشعر، يجالسونه في أوقات معينة أو إذا دعاهم في ساعة قلقه أو أرقه، وقد يكون ذلك في أواسط الليل والناس نيام، فلا يزال الرجل ينتقل بحديثه من خبر إلى نكتة إلى نادرة إلى شعر، حتى يزول ما في نفس الخليفة وينشرح صدره، وقد تفرغ جعبة المحدث مما يعلمه من الأخبار قبل أن ينشرح صدر الخليفة، فيضع قصة من عند نفسه يبنيها على نكتة أو حكمة مما يعلم ارتياح الخليفة له.
49
احترام الخلفاء لأهل العلم
وكانوا يجلون أهل الأدب والعلم ويقربونهم ويبذلون لهم الأموال ويدافعون عنهم، ولا سيما الرشيد والمأمون، وفيما يروونه عن الرشيد ومعاملته للعلماء أدلة عديدة على ذلك، فكان كثير الملاطفة للأصمعي والإجلال له، فإذا خلا به سأله واستفاد منه علما وأدبا، فيقول الرشيد عند ذلك: «هكذا وقرنا في الملا وعلمنا في الخلا.» وكان يعطيه الجوائز الحسنة، وأكل أبو معاوية الضرير طعاما مع الرشيد، فلما قام ليغسل يديه تناول الرشيد الإبريق وصب عليهما والرجل لا يعلم، فقال له: «أتدري من يصب الماء على يديك؟» قال: «لا.» قال: «أنا.» قال: «أنت يا أمير المؤمنين؟» قال: «نعم، إجلالا للعلم.»
50
ناهيك بما وقع من البحث في مسألة الزنبور والنحلة بين سيبويه والكسائي، وكيف انتصر الأمين للكسائي والمأمون لسيبويه، وما جرى من الجدال في ذلك بحضرة الرشيد، فأخذ الرشيد يناصر الكسائي في حديث طويل ذكرنا خلاصته في الجزء الثالث.
ومن أدلة إجلالهم للعلم أنهم كانوا يحرضون أبناءهم على تلقيه وحفظ الأشعار والأخبار، ويعينون لهم المعلمين من نخبة العلماء المعاصرين، فالمنصور ضم الشرقي بن القطامي إلى ابنه المهدي وأوصاه أن يعلمه أخبار العرب ومكارم الأخلاق وقراءة الأشعار،
51
والرشيد عهد بتعليم ابنه الأمين إلى الأحمر النحوي ثم إلى الكسائي وعهد بتأديب المأمون لليزيدي وسيبويه وغيرهما، وللرشيد وصية يقال إنه أوصى بها الأحمر المذكور لما عهد إليه بتأديب الأمين وهي:
يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة ، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة.
52
وعهد المأمون إلى الفراء بتعليم ولديه النحو، واتفق أن الفراء أراد أن ينهض ذات يوم إلى حوائجه فابتدرا إلى نعله ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها ثم اصطلحا على أن يقدم كل منهما واحدة، وبلغ ذلك المأمون فاستدعاه، فلما دخل عليه قال المأمون: «من أعز الناس؟» قال: «لا أعرف أحدا أعز من أمير المؤمنين.» فقال: «بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له فردا.» فقال: «يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعها عن مكرمة سبقا إليها أو كسر نفسيهما عن شريفة حرصا عليها.»
53
وعهد المتوكل بتعليم أبنائه إلى ابن السكيت،
54
وتعلم عبد الله بن المعتز الأدب والعربية على المبرد وثعلب وأحمد بن سعيد الدمشقي.
55
تقديم الشعراء
ويقال نحو ذلك في تقديمهم الشعراء، فقد أجزلوا لهم الأعطية، وعينوا لهم أوقاتا يدخلون فيها عليهم كما قلنا في غير هذا المكان، وكانوا يفرضون لهم مالا يدفعونه إليهم كل سنة على الوفدة أو القصيدة، أو يعطونهم على البيت من الشعر مبلغا معينا، على أن مقامهم كان يعلو ويهبط تبعا لأمزجة الخلفاء وأغراضهم وأحوال السياسة، فمنهم من كان يبعد الشعراء بخلا كعبد الملك بن مروان وابنه الوليد،
56
ومنع عمر بن عبد العزيز الشعراء من بابه تورعا لاعتقاده أنه لا تصح إجازتهم من بيت المال، وكان ذلك اعتقاد غير واحد من أبناء الصحابة كعبد الله بن الزبير وغيره، وكان المنصور بخيلا على الشعراء اشتغالا عنهم بتأييد الدولة، فكانوا يخرجون في أيامه من بغداد ويجتمعون ويتذاكرون أيامهم في الشام،
57
على عهد بني أمية.
ولكن معظم الخلفاء كانوا يحبون الشعر ويقربون الشعراء، وبعضهم تعلموا العروض ونظموا الشعر ولهم أبيات مشهورة، وكان الشعراء يتقربون إلى الخلفاء أو الأمراء بالمديح، وقد يرتكبون أقبح الأكاذيب في هذا السبيل، إلا من لم ينتجع بشعره وهم قليلون، وكانت لهم منزلة رفيعة عند أهل الدولة،
58
وأما سائر الشعراء فكانوا يتعيشون بالمدح أو الهجاء، وقيل للحطيئة: «إياك وهجاء الناس.» فقال: «إذا يموت عيالي جوعا، هذا مكسبي ومنه معاشي.»
59
وقد يمدح الشاعر الضدين رغبة في الكسب، كما فعل ابن دأب فمدح معاوية وعليا.
60
وكان الشاعر إذا دخل على الخليفة بقصيدة أنشدها بصوت عال وهو قائم، وإذا تعدد المنشدون قدمهم على الأسنان، وكان الخلفاء يتفهمون معاني الشعر، حتى إنهم كثيرا ما كانوا يباحثون الشاعر في معنى البيت أو الكلمة، وإذا استبطئوا الشاعر أو الراوية بعثوا في استقدامه من العراق أو الحجاز، وقد لا يكون الغرض من ذلك إلا سماع بيت أو قصيدة، كما فعل الوليد بن يزيد في استقدام حماد من العراق لينشده قصيدة تغنيها مغنيته،
61
أو لينظم له شعرا في حادثة جرت معه كما فعل الواثق لما غضبت عليه حظيته فاستقدم ابن الضحاك ليقول في ذلك شعرا،
62
وقد يجيزون من يأتيهم بشاعر يعجبهم، كما أجاز المهدي الفضل بن الربيع بعشرة آلاف دينار وولاه حجابته لأنه أتاه بابن جامع.
63
وكانوا لا يكتفون بمن يفد عليهم من الشعراء للاستجداء، فيرسلون في طلبهم إلى الأنحاء، وأرغب الخلفاء في ذلك الرشيد،
64
فتكاثر الشعراء ببابه حتى ضاقت بهم بغداد، واضطروا إلى امتحانهم وترتيبهم في الجوائز، فعهد يحيى بن خالد بذلك إلى شاعره إبان اللاحقي،
65
وأصبح الخليفة إذا أحب مجالسة الشعراء بعث رجلا يثق به ليختار له أحسنهم،
66
أو إذا عن له بيت أو قصيدة خرج وصيف أو حاجب أو نحوهما فيقول للشعراء: «من منكم يقدر يقول قول فلان أو يحفظ القصيدة الفلانية فليدخل وله كذا وكذا.»
67
وكانوا يطربون للشعر ويستلذونه، وربما تزاحفوا عن مجالسهم إعجابا وطربا.
68 (1-4) مجالس المناظرة والعلم
كانت مجالس الأدب في أيام بني أمية وأوائل بني العباس يقتصر البحث فيها على المسائل الأدبية والعلوم اللسانية كما تقدم، فلما ترجمت علوم القدماء في العصر العباسي ونشأ علم الكلام شاعت المناظرة بين العلماء والفقهاء، وقد سبق الناس إلى العناية في ذلك البرامكة، فكان ليحيى بن خالد مجلس يجتمع فيه المتكلمون وغيرهم من أهل النحل، يتباحثون في الكون والظهور والقدم والحدوث والإثبات والنفي وغيرها من الأبحاث الفلسفية المبنية على علم الكلام.
69
ثم اهتم الخلفاء أنفسهم في ذلك، ولا سيما بعد أن ظهر القول بخلق القرآن وقام به المأمون، فأخذ يعقد المجالس للمناظرة فيه وفي سواه، وعين لذلك يوم الثلاثاء من كل أسبوع، فإذا حضر الفقهاء ومن يناظره من سائر أهل المقالات أدخلوا حجرة مفروشة وقيل لهم: «انزعوا أخفافكم.» ثم أحضرت الموائد وقيل لهم: «أصيبوا من الطعام والشراب وجددوا الوضوء، ومن كان خفه ضيقا فلينزعه، ومن ثقلت عليه قلنسوته فليضعها.» فإذا فرغوا أتوا بالمجامر فتبخروا وتطيبوا ثم خرجوا، فاستدناهم الخليفة حتى يدنوا منه ويناظرهم أحسن مناظرة وألطفها وأبعدها من مناظرة المتجبرين، فلا يزالون كذلك إلى أن تزول الشمس، ثم تنصب الموائد ثانية فيطعمون وينصرفون،
70
وسار الواثق على خطواته في هذا السبيل، وكانوا يعقدون هذه المجالس كلما دعت الحاجة إلى إثبات رأي أو مذهب جديد.
ولما استقرت الدولة الفاطمية بمصر فعل وزيرها يعقوب بن كلس مثل ما فعل يحيى البرمكي وزير العباسيين، فأنشأ مجالس للمناظرة في الفقه والأدب والشعر وعلم الكلام وغيره، وغرض هذه الدولة إثبات مذهب الشيعة؛ لأن دولتهم قامت عليه، فأخذ الحاكم بأمر الله يفاوض العلماء ويجيزهم، ويسهل عليهم البحث والمناظرة في دار الحكمة التي أنشأها في القاهرة،
71
وربما عقدوا حلق المناظرة في الجوامع أو غيرها.
وصارت تلك المجالس عامة في الدول التي خلفت الدولة العباسية أو تفرعت منها، وأكثر العقلاء والأقوياء من الملوك والسلاطين كانوا يعقدونها للمناظرة، كذلك فعل صلاح الدين الأيوبي وسيف الدولة الحمداني ونظام الملك وزير ملكشاه والحكم المستنصر الأندلسي، واقتدى بهم أهل العلم والوجهاء والأطباء، وأطلقت حرية البحث في كل شيء، ومن أشهر مجالس المناظرة مجلس كان يعقده يوحنا بن ماسويه في بغداد، فيحضره العلماء على اختلاف طبقاتهم من الفلاسفة والأطباء والأدباء والمتكلمين وغيرهم،
72
ومجلس أبي حامد الإسفراييني كان يحضره 300 فقيه، وقس عليهما مجلس ابن المنجم وكان يعقده بحضرة المكتفي.
73 (1-5) مجالس الغناء والأنس
منزلة المغنين
تقدم الكلام في تاريخ الغناء وأصله وانتشاره، وقد رغب الخلفاء فيه على الخصوص في إبان الحضارة وعصر الرخاء والترف، وجعلوا للمغنين نوبات يدخلون فيها مجالسهم،
74
وفرضوا لهم الرواتب كما فرضوها للشعراء، وعهدوا بهم إلى بعض أهل البلاد أو الحاشية ينظرون في أمورهم،
75
وكانوا يصطحبونهم في خروجهم للصيد أو نحوه ويجيزونهم
76
الجوائز الكبرى، وهم أقرب إلى ذلك من الشعراء لما يتفق في مجالسهم من طرب الخلفاء؛ لأنهم قلما كانوا يسمعون الغناء من غير شراب، فإذا طربوا بذلوا الأموال بلا حساب كما تقدم.
ومن أكثر الخلفاء الأمويين رغبة في الغناء وبذلا للمغنين يزيد بن عبد الملك، الذي استخفه الطرب من غناء جاريته حبابة حتى قال: «أريد أن أطير!» فقالت له حبابة: «على من تدع الأمة وتدعنا؟»
77
وكذلك كان ابنه الوليد بن يزيد، ومن الخلفاء العباسيين المهدي والرشيد والأمين والمأمون والواثق والمتوكل ومن نبغ في أيامهم من الوجهاء والعظماء.
على أنهم كانوا إذا أهمهم أمر الدولة وخافوا سقوطها أبعدوا المغنين ليتفرغوا لمهامهم، كما فعل المأمون لما رجع من خراسان،
78
وكان لكبار المغنين منزلة رفيعة في الدولة كإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابن جامع، وكانت جوائزهم من الخلفاء تفوق الحصر، ذكروا عن إبراهيم المذكور أنه غنى للأمين بشعر أبي نواس:
رشأ لولا ملاحته
خلت الدنيا من الفتن
فاستخفه الطرب حتى وثب من مجلسه وركب على إبراهيم وجعل يقبل رأسه! فنهض إبراهيم وأخذ يقبل أخمص قدمي الأمين وما وطئتا من البساط، فأمر له بثلاثة آلاف درهم، فقال إبراهيم: «يا سيدي قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم.» فقال الأمين: «وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟»
79
فاعتبر ما دخل على الموصلي من الرشيد وغيره، فلا غرو إذا توفي عن ثروة طائلة، واشتهر في الأندلس علي بن نافع المعروف بزرياب المغني وهو الذي نقل هذه الصناعة إلى الأندلس، فقد أثري وارتفعت منزلته حتى صار يركب في 200 غلام ويملك 30000 دينار غير الخيل والضياع والرقيق.
80
المضحكون والمجانون
ومن توابع مجالس الغناء المضحكون والمجانون، أشهرهم أشعب في دولة بني أمية، وأبو الحسن الخليع الدمشقي في أيام الرشيد، وأبو العبر في أيام المتوكل وغيرهم كثيرون، فكانوا إذا عقدت مجالس الأنس ودارت الأقداح وطرب الخليفة لبسوا ملابس مضحكة يقلدون بها الدب أو القرد، يعلقون في أعناقهم الجلاجل والأجراس مما يضحك الثكلى، وكان بعض الخلفاء إذا استخفهم الطرب كلفوا هؤلاء المجانين ما لا يطاق من ضروب العذاب وهم يتلذذون بعذابهم، فالمتوكل كان إذا طرب أمر بأبي العبر المجان أن يرمى به في المنجنيق إلى الماء وعليه قميص حرير، فإذا علا في الهواء صاح: «الطريق الطريق!» ثم يقع في الماء فيخرجه السباح، وكان يجلس أحيانا على الزلاقة فينحدر فيها حتى يقع في البركة، ثم يطرح الخليفة الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك،
81
وكان الأمين إذا طرب صاح في ندمائه وجلاسه: «من يكون منكم حماري؟» فكل واحد يقول: «أنا!» فيركب الواحد ويصله،
82
وكان يقع في مجالس الوليد بن يزيد من السكر والفحش في القول والفعل ما نتحاشى ذكره، وقد أفرط الخلفاء في التبسط في العيش والتمتع بالملذات، ولذلك كانوا قصار الأعمار فمات أكثرهم قبل سن الكهولة. (2) مواكب الخلفاء
نريد بالموكب الاحتفال بخروج الخليفة أو السلطان أو الأمير في عيد أو غير عيد، وهو من مقتضيات الأبهة والمدنية، وكانت المواكب معروفة عند ملوك العرب في الجاهلية، فكان لمعد يكرب عبيد من الأحباش يمشون بين يديه بالحراب،
83
فلما جاء الإسلام تزهد أصحابه من التقوى، فكان الخلفاء الراشدون يركبون في خروجهم كسائر الناس، وكان أبو بكر في أول خلافته يقيم في السنح بضاحية المدينة ويغدو كل يوم على رجليه إلى المدينة وقد يركب فرسه، وكان يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع، وله قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو بنفسه فيها منفردا، وكان عمر يخرج في الأسواق ماشيا ويسوءه أن يركب عماله وأمراؤه ركوب الفرس والروم. وفد على الشام أربع مرات جاءها في المرة الأولى على فرس، وفي الثانية على بعير، وفي الثالثة على بغل، وفي الرابعة على حمار، وبعث في إحدى خطراته إلى أمرائه أن يوافوه في الجابية، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة، ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها،
84
فقس على ذلك سائر الراشدين. (2-1) مواكب الخلفاء في إبان التمدن
على أن اتخاذ الآلة والأعوان في المواكب إنما بدأ به العمال في الأمصار، لقربهم من حضارة الفرس والروم، فاتخذوا الطبول والأعلام والحرس وغيرها من شارات الدولة، وأسبقهم إلى ذلك معاوية، فأقام حراسا يرفعون الحراب بين يديه، أو يقفون بالسيوف عند المقصورة التي يصلي فيها خوفا من الاغتيال،
85
واقتدى به عماله، وبعضهم سبقه إلى مثله، فاتخذ زياد بن أبيه رجالا يمشون بين يديه بالأعمدة
86
أو بالحربة، وأصبح ذلك قاعدة في المسير بين يدي الخليفة، ثم صار المسير بالحربة خاصا بولي العهد أو بكبار العمال، يحملها رجل راكب على جواد يتقدم الخليفة أو الأمير، فجرى على ذلك الخلفاء العباسيون.
87
وفي أيام المتوكل جاء بعضهم بحربة كانت للنبي
صلى الله عليه وسلم
تسمى العنزة، وأصلها للنجاشي، فأهداها للزبير بن العوام فأهداها الزبير للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وكانت تركز بين يديه في العيدين، ثم اتصلت بذلك الرجل فحملها إلى المتوكل، فكان صاحب الشرطة يحملها بين يديه،
88
إذا خرج في موكبه.
وتدرجوا في الأبهة بتدرجهم في أسباب المدنية واتساع السلطة، حتى اصطنعوا المحامل أو القباب أو المحفات يحملون بها بدل الركوب على الخيل، ثم صاروا يركبون والناس يمشون بين أيديهم، وأقدم من فعل ذلك الأشعث بن قيس سيد أهل اليمن، فكان يركب والناس يمشون بين يديه،
89
ثم صاروا يمشون بين يدي الخلفاء بالسلاح، وأول من فعل ذلك الهادي العباسي، فكان إذا ركب مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمدة المشهورة والقسي الموتورة،
90
فلما خلفه الرشيد تجاوزه فاتخذ خدما صغارا يسمونهم النمل يتقدمونه وبأيديهم قسي البندق يرمون بها من يعارضه من الناس،
91
ثم صار ذلك سنة جرى عليها الوزراء والأمراء، وأول وزير مشى أرباب الدولة بين يديه رجالة الحسن بن علي وزير المسترشد،
92
وكانوا إلى ذلك الحين يركبون بالحلية الخفيفة الفضية والسروج المكسوة بالديباج، ثم ركبوا في حلية الذهب، وأول من ركب بها المعتز العباسي المتوفى سنة 255ه، فجرى الناس على ذلك.
أما في مصر فالخلفاء الفاطميون قلدوا العباسيين في مواكبهم على جاري العادة في سائر أسباب المدنية، وزادوا عليهم الركوب بالمظلة والشمسية، ولعلهم نقلوا هذه العادة من المغرب؛ لأنها كانت جارية هناك قبل الإسلام، فكان الناس يظللون حكامهم بريش الطواويس،
93
فاتخذها الفاطميون من الديباج أو الخز المحلى بالذهب والمرصع بالجوهر وحولها الأعلام تختلف ألوانها باختلاف الأحوال.
وكان السلاجقة يركبون بالطبل والبوق والعلم وبالجتر على رءوسهم، وهو كالقبة الصغيرة مرتفعة في الهواء على رمح يحمله من يسير قرب الملك بحيث يظلله من الشمس، ويتخذونه من الديباج أو الحرير المذهب.
94
على أن تلك المواكب تختلف فخامة وشكلا باختلاف المقصود منها وباختلاف الدول، أهمها موكب الخروج إلى الحج أو إلى بلد آخر، ومواكب الأعياد وهي تمتاز بمن يقف للخليفة في خروجه من صفوف الجند، وأول من صفت له الجنود زيد بن الوليد الأموي، فكان يخرج يوم العيد بين صفين عليهم السلاح.
95
وللخلفاء مواكب كثيرة لو أردنا الإتيان عليها كلها لضاق المقام، ولكننا نقول بالإجمال: إنهم كانوا يخرجون على الخيول أو في القباب، وحولهم الأعوان ركوبا والشرطة مشاة، وكذلك الغلمان على اختلاف طبقاتهم يلبسون مناطق الذهب أو يحملون المقارع أو الطبرزينات المحلاة بالذهب، ويقف الناس أو الجند في الطريق صفين يسير الموكب بينهما، ويختلف طول هذا الموكب باختلاف ما يريدونه من إظهار الأبهة، وقد بلغ طوله في خروج المتوكل على الله أربعة أميال ترجل فيها الناس بين يديه،
96
وإذا كان المسير إلى مكان بعيد ضربوا القباب العظيمة في الطريق،
97
يستظل الخليفة بها أو يقيم فيها.
وكان الخلفاء الفاطميون يركبون يوم الجمعة إلى الجامع الأزهر بالمظلة المذهبة وبين أيديهم نحو 5000 ماش، وعلى الخليفة الطيلسان والسيف وبيده قضيب الخلافة، حتى يأتي الجامع ويصلي، ولهم رسوم كثيرة يجرونها قبل الصلاة، وإذا خرجوا للمبايعة أو الاحتفال لفتح الخليج ركب الخليفة وعليه العمامة الجوهر،
98
وثوب يقال له: البدنة؛ كله ذهب وحرير مرقوم والمظلة من شكله، وبين يدي الخليفة الجنائب عليها السروج الذهب المرصع بالجوهر والسرج العنبر والقباب الديباج بالحلي، والعسكر على أزيائه من الأتراك والديلم والعزيزية والإخشيدية والكافورية بالديباج الثقيل والمناطق المذهبة، وبين يديه الفيلة عليها الرجالة بالسلاح والزراقة، وفوق الخليفة المظلة الثقيلة بالجوهر وبيده قضيب الخلافة، ويمشي أمامه أصحاب الأبواق الذهب فأبواق الفضة فالنحاس، وأصحاب الطبول الكبار التي مكان خشبها فضة، والألوية تخفق فوق ذلك الموكب. (2-2) احتفالاتهم
الاحتفالات الدينية
والاحتفالات في التمدن الإسلامي بعضها ديني كالموالد والأعياد والكسوة، وبعضها وطني كالنيروز والمهرجان وشم النسيم وفتح الخليج، على أن الاحتفالات الدينية إنما اتخذوا أسلوب الاحتفال بها من غير المسلمين، كما اتخذ النصارى بعض طقوس الاحتفال بأعيادهم من الوثنيين، ولا يزال الاحتفال بالأعياد الإسلامية شائعا إلى الآن مع تغيير اقتضاه الفرق بين التمدنين، وأكثر الدول الإسلامية عناية بهذه الأعياد الفاطميون، منها: يوم عاشوراء، والمولد النبوي، ومولد علي وفاطمة والحسن والحسين، والخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وعيد النحر، وعيد الفطر، وفتح الخليج، ويوم النيروز، وغيرها مما فصله المقريزي في خططه،
99
ولهم في كل من هذه الأعياد رسوم وقواعد يبذلون فيها الأموال ويفرقون الصدقات ويهدون الهدايا من النقود والثياب والحلي وغيرها مما يطول شرحه.
وممن اشتهرت عنايته بالاحتفالات الدينية مظفر الدين صاحب أربل، وكان احتفاله بالمولد النبوي بالغا حد النهاية في الأبهة، والمشهور أنه أول من احتفل به على الصورة المعروفة اليوم،
100
وكذلك السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان،
101
هذا غير احتفالاتهم الاجتماعية كالأعراس والمآتم والختان ونحوها، والسياسية كاستقبال الوفود والمبايعة والتتويج والخلع، فنذكر أمثلة منها فيما يلي:
احتفالات الأعراس ونحوها:
فالاحتفال بالأعراس تقلب على أحوال شتى ترجع إلى نحو المشهور من الاحتفال بأعراس المسلمين في مصر الآن، مع اعتبار عوائد البلاد وتفاوت الثروة، ونأتي بمثال من أبلغ ما يعرف من التناهي بالبذخ في مثل هذه الحال، فنذكر احتفالين اشتهرا في تاريخ الإسلام:
الأول:
زفاف خديجة بنت الحسن بن سهل المسماة بوران إلى الخليفة المأمون، احتفلوا به في «فم الصلح»، احتفالا لم يسبق له مثيل، نثر الحسن فيه على الهاشميين والقواد والكتاب والوجوه بنادق المسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما فيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه، ويتسلم ما فيها، سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو فرسا أو جارية أو مملوكا، ثم نثر على سائر طبقات الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، غير ما أنفقه على المأمون وقواده وأصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه، وكانوا خلقا لا يحصى حتى على الحمالين والمكارية والملاحين وكل من ضمه عسكره، ذكروا أنه خدم في ذلك الاحتفال 36000 ملاح ونفد الحطب يوما فأوقدوا تحت القدور الخيش مغموسا في الزيت، ولما كانت ليلة البناء وجليت بوران على المأمون فرش لها حصير من الذهب، وجيء بمكتل مرصع بالجواهر فيه درر كبار نثرت على النساء وفيهن زبيدة وحمدونة بنت الرشيد فما مست إحداهن من الدر شيئا، فقال المأمون: «شرفن أبا محمد وأكرمنه.» فمدت كل واحدة منهن يدها فأخذت درة، فبقي سائر الدر يلوح على ذلك الحصير الذهب ويتلألأ فقال المأمون: «قاتل الله الحسن بن هانئ.» كأنه قد رأى هذا حيث يقول:
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها
حصباء در على أرض من الذهب
وكانت في المجلس شمعة عنبر فيها مائة رطل، فضج المأمون من دخانها فعملت له مثل من الشمع، فكان الليل مدة مقامه فيه كالنهار، وبلغت نفقة هذا الاحتفال 50000000 درهم، وأمر المأمون للحسن بن سهل عند منصرفه بمبلغ 10000000 درهم وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه، وأطلق له خراج فارس وكور الأهواز مدة سنة، وجاء المأمون إلى عروسه في الليلة التالية فنثرت عليه جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب،
102
وغير ذلك مما يفوق طور التصديق.
والاحتفال الثاني:
أقامه المتوكل على الله حين ظهر ابنه المعتز بالموضع المعروف ببركوازا، ومما جرى فيه أنه جلس بعد فراغ القواد والأكابر من الأكل ومدت بين يديه مرافيع ذهب مرصعة بالجوهر، وعليها أمثلة من العنبر والند والمسك المعجون على جميع الصور، وجعلت بساطا ممدودا، وأحضر القواد والجلساء وأصحاب المراتب، فوضعت بين أيديهم صواني الذهب مرصعة بأصناف الجواهر من الجانبين وبين السماطين فرجة، وجاء الفراشون بزنابيل قد غشيت بالأدم مملوءة دراهم ودنانير نصفين، فصبت في الفرجة حتى ارتفعت على الصواني، وأمر الحاضرون أن يشربوا وأن يتنفل كل من شرب من تلك الدنانير بثلاث حفنات مما حملت يده، وكلما خف موضع صب عليه من الزنابيل حتى يرد إلى حالته، ووقف غلمان في آخر المجلس فصاحوا: «إن أمير المؤمنين يقول لكم: ليأخذ من شاء ما شاء!» فمد الناس أيديهم إلى المال فأخذوه، وكان الرجل يثقله ما معه فيخرج به فيسلمه إلى غلمانه ويرجع إلى مكانه.
ولما تقوض المجلس خلع على الناس ألف خلعة، وحملوا على ألف مركب بالذهب والفضة وأعتق ألف نسمة.
103
وقس على ذلك احتفال الخليفة المقتدي بالله سنة 480ه لما زفت إليه بنت السلطان ملكشاه وحمل جهازها إلى دار الخلافة،
104
وأما الاحتفال بتتويج السلاطين والبيعة فقد ذكرنا أمثلة منه في الجزء الأول من هذا الكتاب.
الخلع على الوزراء
ومن مظاهر الأبهة احتفالهم بالخلع على الوزراء والسلاطين، وأول من خلع عليه جعفر البرمكي في اليوم الذي تولى الرشيد الخلافة فيه، وكان في جملة ما خلعه عليه 100 بدرة دراهم ودنانير، وأمر الناس فركبوا إليه حتى سلموا عليه وأعطاهم خاتم الملك ليختم به على ما يريد،
105
وحذا حذو الرشيد من جاء بعده فخلعوا على وزرائهم وعمالهم خلعا تختلف شكلا وقدرا باختلاف الأحوال، ومعها في كل حال ثوب يرسله الخالع ويلبسه المخلوع عليه يقال له: الخلعة، فالخليفة العاضد الفاطمي لما ولى السلطان صلاح الدين الأيوبي الوزارة بمصر لقبه الملك الناصر، وخلع عليه خلعة مؤلفة من عمامة بيضاء تنيسى بطرف ذهب وثوب ديبقي بطراز ذهب، وجبة بطراز ذهب وطيلسان مطرز ذهب، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار وسيف محلى بخمسة آلاف دينار وحجرة بثمانية آلاف دينار عليها سرج ذهب وسرسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر وفي قوائمهما أربعة عقود جوهر وفي رأسها قصبة بذهب وفيها شدة بياض بأعلام بيض، ومع الخلعة عدة بقج وخيل وأشياء أخرى ومنشور الوزارة مكتوب في ثوب أطلس أبيض.
106
ولما نقلت الخلافة العباسية إلى مصر خلع الخليفة العباسي على السلطان الملك الظاهر بيبرس يومئذ خلعة ألبسه إياها باحتفال، هي عبارة عن جبة سوداء وعمامة سوداء وطوق في عنقه من ذهب وقيد في رجله من ذهب،
107
وقس على ذلك.
استقبال الوفود
أما استقبال الوفود فقد كان فخيما يظهرون به عز الإسلام، ولا سيما إذا كان القادمون من وفود الدول غير الإسلامية من الروم أو الهند أو الإفرنج، والاحتفال بذلك يختلف باختلاف الأحوال، نذكر من أمثلته احتفال المقتدر العباسي برسل جاءوه من ملك الروم سنة 305ه، فإنه استقبلهم في «دار الشجرة» التي تقدم ذكرها وعبأ لهم الجيوش، وصفت الدار بالأسلحة وأنواع الزينة، وكانت جملة العساكر المصفوفة حينئذ 160000 رجل بين راكب وواقف، ووقف الغلمان الحجرية بالزينة والمناطق المحلاة، وكانوا اثنين وعشرين ألفا، ووقف الخدم والخصيان كذلك وعددهم سبعة آلاف، منهم 4000 خادم أبيض و3000 خادم أسود، ووقف الحجاب وكانوا سبعمائة حاجب، وزينت المراكب والزوارق في دجلة أعظم زينة، وزينت دار الخلافة، وكانت جملة الستور المعلقة عليها 38000 ستر منها ديباج مذهب 12500 ستر، وكانت جملة البسط 22000 بساط، واستعرضوا مائة سبع مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة الشجرة الذهب والفضة التي تشتمل على ثمانية عشر غصنا من الذهب والفضة، فكانت أغصانها تتمايل بحركات موضوعة، وعلى الأغصان طيور وعصافير مختلفة من الذهب والفضة تصفر بحركات مرتبة كما وصفناها في محلها، فشاهد الرسل من العظمة ما يطول شرحه.
108 (2-3) الخلفاء والدول المعاصرة
هب العرب للفتح والعالم قد تضعضع وأهله في خمول، فبغتوهم وفتحوا بلادهم في بضع عشرة سنة على أسلوب لم يسبق له مثيل، فلما أفاقوا أرادوا ردهم فعجزوا عنه، وما لبثوا أن شاهدوا تمدنهم وعمران مملكتهم واشتغالهم بالعلوم والفنون والصناعة والتجارة والرحلة والسياحة، فهابوهم وأخذوا يتقربون إليهم بالوفود والهدايا إلى المدينة فدمشق، ثم أصبحت بغداد مجتمع الوفود القادمين من أطراف العالم من الهند والصين شرقا إلى أعالي آسيا وأواسط أوربا شمالا إلى أقصى إفريقيا غربا والبحر الهندي جنوبا، وصارت البصرة مركز التجارة البحرية في الشرق وملتقى السفن القادمة من أقاصي البحور.
الإسلام في تاريخ الصين
المشهور أن الإسلام لم يذكر ظهوره وانتشاره غير أصحابه، ولم يدون أخباره غير أهله، حتى الروم مع ما كان من مدنيتهم يومئذ لم يكتب المعاصرون منهم شيئا عن الإسلام أو المسلمين، ولكن الباحثين عثروا في الكتب الصينية على خبر الإسلام وانتشاره إلى استقلال معاوية بالخلافة لنفسه، فقيام أبي مسلم الخراساني ونقله الدولة إلى العباسيين وغير ذلك ، فقرءوا أسماء محمد وقريش ومعاوية وأبي العباس وأبي جعفر وغيرهما من رجال الإسلام مكتوبة بالأحرف الصينية، ومما جاء هناك أن أبا جعفر أرسل سنة 756م وفدا إلى إمبراطور الصين التقى عنده بوفد قادم من «هوي هو» من مغول الشمال فاختصم الوفدان فيمن يتقدم بالدخول على الإمبراطور، فأنصف الحاجب بينهما وأدخل كل وفد من باب؛ ذكروا ذلك بكتاب طنغ شو الفصل العاشر في أثناء سيرة الإمبراطور سوتسونغ، قالوا: «ثم تولى المهدي وخلفه هارون الرشيد وفي أيامه (سنة 786-804م) جرد العرب أصحاب الجبة السوداء على توفان (تيبت) ثم صار أهل توفان يتجندون لقتالهم كل سنة، وفي (798م) جاء ثلاثة سفراء من العرب إلى بلاط الإمبراطور ... إلخ.»
109
ووقفوا في تاريخ الصين أيضا على نصوص تشير إلى ما كان من العلائق التجارية بين الصينيين والعرب من أواسط القرن العاشر للميلاد أو الثالث للهجرة، فذكروا سفنا تجارية عربية كانت ترسو على شواطئ الصين يحملون فيها الزجاج والسكر وغيرها، وأن تجار العرب وربان سفنهم كثيرا ما كانوا يفدون على البلاط ويدخلون على الإمبراطور فيخاطبهم ويسألهم عن بلادهم وملكهم وسائر أحوالهم، ووقفوا على نصوص أخرى تدل على علائق مثل هذه بين الصين وغير العرب من دول الإسلام مما يطول بيانه، ومع اختصار هذه الأخبار وتشوش حوادثها وفساد تهجئة الأعلام فيها فهي عظيمة الأهمية؛ لأنها منقولة عن مصدر صيني مستقل.
أما العرب فقد ذكر مؤرخوهم وأهل الرحلة منهم كثيرا من أخبار نزولهم شواطئ الصين والهند ودخولهم على ملوكهما ومخاطبتهم في بعض الشئون التجارية، ولكن أكثر الناس كانوا لا يكترثون بتلك الروايات لاعتقادهم أنها محشوة بالمبالغات والخرافات، كأنهم قاسوها بما يقرءونه من الأقاصيص الخرافية في ألف ليلة وليلة مثل قصة السندباد البحري والفرس المسحور وغيرهما، على أن هذه الأقاصيص منقولة في الأصل عن غير العربية، وأكثر خرافات العرب دخيلة في آدابهم، وأما ما يكتبونه من عند أنفسهم فالغالب فيه التحقيق والصدق، ولا سيما كتب التاريخ ونحوها إذا نظرنا فيها نظر الناقد المنصف واعتبرنا الفرق بين عصرهم وعصرنا.
على أننا لا نلوم المنكرين؛ لأنهم إنما عرفوا العرب بعد ذهاب دولتهم وانحلال عصبيتهم وانحطاط هممهم وضعف عزائمهم، فأكبروا أن يكون لهم مثل تلك الهمم الشماء في عهد ذلك التمدن، فكذبوا ما قرءوه في كتبهم من هذا القبيل، أما وقد رأينا ما يؤيده في كتب أهل الصين على غير تواطؤ أو نقل فلم يبق لنا بد من تصديقه.
وأقدم ما وصل إلينا من الكتب العربية التي ذكرت تجارة العرب مع الصين والهند، ونزول تجار العرب شواطئ تلك البلاد كتاب «سلسلة التواريخ» وهو يشتمل على السياحات البحرية التي أجرتها العرب والعجم من شواطئ خليج فارس إلى بلاد الهند والصين، تأليف سليمان التاجر وأبي زيد حسن من أبناء القرن الثالث للهجرة، وقد طبع هذا الكتاب بباريس سنة 1811، ومعه ترجمة فرنسية للمستشرق الشهير رينو، ثم «مروج الذهب» للمسعودي، وهو مشهور ومتداول، غير أمهات كتب الجغرافية العربية وكلها مبني على رحلات حقيقية أشهرها ما كتبه البلخي والإصطخري وابن حوقل والمقدسي وغيرهم، وليس هنا مكان الإفاضة في ذلك.
ويقال بالإجمال: إن في كتب التاريخ نصوصا كثيرة تدل على علائق تجارية وسياسية بين العباسيين وملوك المشرق في الهند والصين، وإن المهاداة كانت متواصلة بينهما، فكانت وفود ملوك الهند تؤم بغداد من أواخر القرن الثاني للهجرة تحمل الهدايا أو كتب المخابرة،
110
ولا بد أيضا من وفود كانت تأتي بغداد من صاحب الصين.
الإسلام وملوك أوربا
على أن علاقات ملوك المسلمين مع ملوك أوربا - وأعظمهم يومئذ الروم والجرمان والإفرنج والإسبان - كانت أوثق من سواها، أما الروم، وهم ملوك القسطنطينية، فكانت المخابرات متواصلة بينهم وبين المسلمين من أيام بني أمية، إما لصلح أو مهادنة أو مهاداة أو مفاداة،
111
والحرب كانت سجالا بينهما على الحدود أو في البحار، وقد حاصر الأمويون القسطنطينية غير مرة ولم يفتحوها، ولكنهم فتحوا بلادا أخرى من أوربا وأوقعوا الرعب في دول الإفرنج، وكذلك بنو العباس
112
فإن الرشيد أخذ الجزية من إيريني صاحبة القسطنطينية.
وأما حوادث المهاداة فهدية الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا أشهر من أن تذكر، على أن هدايا ملوك الروم إلى دار الخلافة كانت متواصلة، وأكثرها من السيوف والثياب والأطياب والذهب والكلاب، منها هدية بعث بها قيصر الروم (ربما ميخائيل الثاني) إلى المأمون وفيها تحف سنية من جملتها مائة رطل مسك ومائة حلة سمور.
113
وأهدت ثريا بنت الأوباري (كذا) ملكة الإفرنج إلى المكتفي بالله سنة 293ه خمسين سيفا، و50 رمحا، و20 ثوبا منسوجا بالذهب، و20 خادما صقلبيا، و20 جارية، و10 كلاب كبار لا تغلبها السباع، وستة بازات وسبعة صقور ومضرب حرير ملون كقوس القزح وغيرها.
114
وكان الخلفاء أيضا يوجهون وفودا من عندهم في مراسلة أو مخابرة، وممن سار في ذلك القاضي الأشعري المعروف بابن الباقلاني أنفذه عضد الدولة سنة 371ه إلى قيصر الروم (باسيل الثاني) في جواب رسالة فأظهر في بلاط القيصر أنفة زادت مقام المسلمين عندهم.
115
الأندلسيون وملوك الإفرنج
على أن العلاقات كانت أكثر وثوقا بين ملوك أوربا وملوك الإسلام في الأندلس؛ لأن قياصرة القسطنطينية كانوا يتقربون من الخلفاء الأمويين في قرطبة ليستنصروهم على العباسيين أعداء الجانبين، حتى إن ثيوفيلوس ملك الروم المعاصر لعبد الرحمن الأوسط هاداه سنة 225ه وكتب إليه يرغبه في ملك المشرق من أجل ما ضيق عليه به المأمون والمعتصم، وقد ذكرهما في كتابه له وعبر عنهما بابن مراجل وابن ماردة، تحقيرا لهما بالانتساب إلى أمهات من الجواري، فكافأه عبد الرحمن عن الهدية وبعث إليه يحيى الغزال شاعره وأحد كبار دولته فأحكم الصلة بينهما،
116
فلما ظهر الخليفة الناصر عبد الرحمن الثالث وأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطأه أحد من أسلافه، تقدم إليه ملوكهم بالطاعة وتقربوا بالهدايا فأوفدوا رسلهم وهداياهم من رومية والقسطنطينية وغيرهما على سبيل المهادنة والسلم والعمل على كسب مرضاته، ووصل إلى بابه الملوك من الإسبان المتاخمين لبلاده بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الشمالية فقبلوا يده والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مركبه.
117
وتوالت الهدايا على عبد الرحمن الناصر من سائر ملوك الإسبان، فملكا برشلونة وطركونة هادياه يلتمسان تجديد الصلح،
118
وملك الصقالبة وهو يومئذ «ذوفوة» (كذا ) أوفد إليه رسولا مع رسل آخرين من ملك الألمان (ربما أوتو الأعظم) وملك الفرنجة وراء الرون وهو يومئذ «أوفه» ورسول آخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق واسمه «كلدة» (ربما كونراد)، واحتفل الناصر لقدومهم احتفالا شائقا، ولما رجعوا بعث مع رسول الصقالبة ربيعا الأسقف إلى ملكهم، وبالجملة إن الخليفة الناصر كان سلطانه ضخما عزيزا، لم يبق ملك من ملوك أوربا إلا خطب مودته، وفي جملتهم قياصرة الروم وملوك الإفرنج والإسبان والجرمان، وفي نفح الطيب للمقري تفصيل ما كان يجريه من الاحتفال في استقبالهم،
119
تعظيما لدولة المسلمين، ولما أراد بناء «الزهراء» أهداه أولئك الملوك من أصناف الحجارة والرخام على اختلاف ألوانه وأشكاله شيئا كثيرا،
120
وقد ذكرنا ذلك في كلامنا عن بناء هذا القصر الفخيم.
وقس على ما تقدم علاقات ملوك أوربا بسائر خلفاء المسلمين وملوكهم، فكانت هدايا قيصر القسطنطينية ترد على صاحب مصر، ولا سيما في زمن الفاطميين بعد أن ضخمت دولتهم، منها هدية بعث بها الإمبراطور قسطنطين التاسع إلى المستنصر بالله الفاطمي سنة 437ه، اشتملت قيمتها على ثلاثين قنطارا من الذهب الأحمر، كل قنطار في عشرة آلاف دينار، الجملة 300000 دينار،
121
وكان رسول الروم إذا قدم القاهرة في ذلك العهد نزل عند باب الفتوح، ولا يزال يقبل الأرض وهو ماش حتى يصل القصر الكبير مقر الخليفة.
122 (3) ألعاب الخلفاء وملاهيهم
ما برح الملوك من قديم الزمان يلهون في ساعات الفراغ بألعاب يروضون بها عقولهم وأبدانهم، ولكل أمة ألعاب تلائم عاداتهم وتشاكل أخلاق أهلها، ولكن الملوك يتشابهون في أكثرها لتشابه مرادهم منها، وألعاب الخلفاء كثيرة، بعضها كان معروفا في الجاهلية كالصيد والسباق، وبعضها اقتبسوه من الأعاجم كاللعب بالكرة والصولجان والرمي بالبندق واللعب بالنرد والشطرنج ونحوها، وأسبق الدول إلى الاحتفاء بهذه الألعاب العباسيون في أيام الرشيد، فإنه أول من لعب بالصولجان والكرة، وأول من رمى بالنشاب في البرجاس، وأول من لعب الشطرنج والنرد وقرب اللاعبين وأجرى عليهم الأرزاق،
123
وإليك وصف أهم ألعابهم في إبان تمدنهم: (3-1) الصيد والقنص
كان الصيد معروفا في الجاهلية، ولكنه كان قاصرا على صيد غزال أو طائر بالنبل أو الفخ، فلما تمدن العرب بعد الإسلام وخالطوا الفرس والروم توسعوا في طرائق الصيد والقنص، فاتخذوا الجوارح من الطير وهي الباز والشاهين والعقاب والصقر يعلمونها صيد الطيور، وغالوا في اقتناء الكلاب والفهود ونحوها يستعينون بها على صيد الخنازير والغزلان وحمر الوحش، وأول من اشتغل بالصيد من الخلفاء يزيد بن معاوية، وكان صاحب طرب وجوارح وقرود وفهود، وله كلف بالصيد فاتخذه للهو وليس للرياضة، وكان يلبس كلابه الأساور من الذهب والأجلة المنسوجة بالذهب، ويهب لكل كلب عبدا يخدمه،
124
واشتغل بالصيد غيره من خلفاء بني أمية على تفاوت في ذلك.
حتى إذا أفضى الأمر إلى بني العباس ورسخت أقدامهم في الدولة، اهتموا بالصيد وتفننوا في تربية الجوارح والكلاب والفهود، وغالوا في انتقائها وبذلوا الأموال في اقتنائها وتربيتها، وأقاموا عليها أناسا ينظرون في شئونها وفيهم البيازرة والحجالون والفهادون وأصحاب الصقور والكلاب، وأطلقوا لهم الأرزاق الجليلة وأقطعوهم الإقطاعات السنية وسهلوا عليهم حجابهم، وتسابق الشعراء إلى وصف تلك الجوارح وحركاتها وسرعتها وخصالها،
125
وكتبوا في فنون الصيد وأساليبه كتبا عديدة، ككتاب البزاة والصيد وكتاب المصائد والمطارد.
126
وكان العباسيون يصيدون السباع والخنازير فضلا عن الغزلان والطيور وحمر الوحش ونحوها، وأول من أحب الصيد منهم المهدي فالرشيد، وكان ابنه صالح يحب صيد الخنازير،
127
وابنه الأمين يهوى صيد السباع يصطادها له جماعة يعرفون بأصحاب اللبابيد،
128
وكان المعتصم ألهجهم به، فبنى في أرض دجيل قرب بغداد حائطا طوله فراسخ كثيرة يحدون الصيد عنده، وذلك أن يطارد رجاله تلك الحيوانات من الجهة المقابلة للحائط فتفر نحوه فيضربون حولها حلقة، ولا يزالون يطاردونها بخيولهم وكلابهم وفهودهم وهي تثب بين الأعشاب والأدغال حتى يضايقوها ويحصروها بين الحائط ودجلة، فلا يبقى لها مجال للنجاة فيقبل المعتصم وأولاده وأقاربه وخواص حاشيته، ويتأنقون في القتل والصيد ويتفرجون، فيقتلون ما يقتلون ويطلقون الباقي.
129
وقس على ذلك سائر الخلفاء من بني العباس والفاطميين والمروانيين وغيرهم من ملوك المسلمين السلاجقة والأتابكة والأيوبية والمماليك، فقد عدوا ما اصطاده السلطان ملك شاه السلجوقي من الحيوانات فبلغ عشرة آلاف رأس، حتى بنى من حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء التي صادها منارة،
130
وكان السلطان مسعود السلجوقي يبالغ في ترفيه الكلاب حتى ألبسها الجلال الأطلس الموشاة وسورها بالأساور الذهب، واصطنع السلطان أبو عبد الله المستنصر في المغرب مصيدا بناحية بنزرت في بقعة ببسيط من الأرض، وأحاطها بسياج خرج نطاقه عن التحديد بحيث لا يراع فيه حمر الوحش، فإذا ركب للصيد تخطى السياج في أصحابه ومواليه وفعل فعل المعتصم بحصر الصيد عند ذلك السياج،
131
وفي كتاب الاعتبار لابن منقذ فصول طويلة في الصيد وطرقه.
132 (3-2) الحلبة أو السباق
لم تبق أمة من الأمم القديمة أو الحديثة إلا لهجت بالسباق، ولا سيما اليونان والرومان والفرس، وكان العرب في الجاهلية يتسابقون بخيولهم ويتفاخرون بذلك، وكثيرا ما انتشبت الحرب بين القبائل من أجل السباق، وكانوا يرسلون خيلهم إلى الحلبة وهي ميدان السباق عشرة عشرة، وعندهم لكل منها اسم باعتبار تقدمها في السباق بعضها على بعض.
133
ولما تحضروا بعد الإسلام بالغوا في اتخاذ الميادين، واستكثروا من الخيول وتفننوا في تضميرها، وكان لمعاوية حلبة يخرجون إليها في أيام معينة للسباق، فمن حاز قصب السبق أجازوه - وقصب السبق قصبة يغرسونها في آخر الحلبة فمن سبق إليها واقتلعها فهو الفائز - ومن غريب ما ذكروه أن يزيد بن معاوية كان له قرد يكنى أبا قيس، يحضره مجلس منادمته ويطرح له متكأ، وكان نبيها خبيثا يحمله على أتان وحشية قد ريضت وذللت بسرج ولجام، وكان يسابق بها الخيل يوم الحلبة، فجاء أبو قيس في بعض الأيام سابقا وتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيول، وعليه قباء من الحرير الأحمر والأصفر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر المنقوش.
134
وكان لهشام بن عبد الملك رغبة في الحلبة، يستجيد الخيل للسباق ويبذل في اقتنائها الأموال، فاجتمع عنده 4000 فرس ولم يسبقه أحد من العرب في ذلك، وكان له فرس سابق اسمه «الزائد» اشتهر في ذلك العصر، وكان الوليد بن يزيد مغرما بخيل السباق، فجمع منها ألف فرس أسبقها فرس اسمه «السندي» كان يسابق به في أيام هشام، وكان يقصر عن فرس هشام «الزائد» وربما ضامه أو جاء مصليا (أي: جاء الثاني)، وكان ميدان السباق يومئذ في الرصافة (بالشام) ولهم فيها ميادين مشهورة وحوادث مذكورة.
135
ولمحمد بن يزيد بن عبد الله بن مروان قصيدة عامرة وصف بها خيل الحلبة العشرة بأسمائها وصفاتها، هي أحسن ما نظم في هذا الموضوع.
136
أما العباسيون فلم يكونوا أقل رغبة في السباق، وكانت لهم ميادين كبيرة، منها الرقة والشماسية، وللرشيد مواقف شهيرة في الحلبة، نظم فيها الشعراء القصائد في مدح السوابق،
137
وقس على ذلك ما كان من ميادين الحلبة في سائر دول الإسلام، ومن أشهرها ميدان ابن طولون وميدان بيبرس بمصر،
138
وميادين الحكم في الأندلس. (3-3) الكرة والصولجان
هي لعبة فارسية لم يكن بنو أمية يعرفونها، وأول من لعبها بنو العباس وأسبقهم إليها الرشيد، وهي عبارة عن كرة تصنع من مادة خفيفة مرنة كالفلين ونحوه تلقى في أرض الميدان فيتسابق الفرسان إلى التقافها بعصا عقفاء يسمونها الصولجان أو الجوكان، ويرسلون الكرة بها في الهواء وهم على خيولهم، وكان المعتصم شديد الرغبة فيها، ومن لطيف ما يحكى أنه قسم أصحابه يوما للعب بها، فجعل الأفشين في جهة وهو في جهة، فقال الأفشين: «يعفيني أمير المؤمنين من هذا.» فقال: «ولم؟» قال: «لأني ما أرى أن أكون على أمير المؤمنين في جد ولا هزل.» فاستحسن ذلك منه وجعله في حزبه.
139 (3-4) البندق
البندق كرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص أو غيرها، وهي فارسية بلفظها واستعمالها، ويسمونها أيضا الجلاهقات جمع جلاهق، فكان الفرس يرمون هذا البندق عن الأقواس كما يرمون النبال، واقتبس العرب هذه اللعبة في أواخر أيام عثمان بن عفان، وعدوا ظهورها في المدينة منكرا،
140
ثم ألفوها حتى شكلوا فرقا من الجند ترمي بها، وقد رأيت أن الرشيد كان عنده فرقة يقال لها: النمل تسير بين يديه ترمي البندق على من يقف في طريق الموكب، وكان رماة البندق في العصر العباسي طائفة كبيرة يخرجون إلى ضواحي المدن يتسابقون في رميه على الطير ونحوه،
141
ويعدون ذلك من قبيل الفتوة، ويغلب في رماة البندق أن يشتغلوا بتطيير الحمام، ولهم زي خاص يمتاز بسراويل كانوا يلبسونها ويسمونها سراويل الفتوة، وكان العيارون من أهل بغداد يلبسونها في أواخر الدولة، حتى إذا أفضت الخلافة إلى الناصر لدين الله العباسي المتوفى سنة 622ه جعل لرمي البندق شأنا؛ لأنه كان ولعا به وباللعب بالحمام المناسيب (أي: المنسوب ذي الأصل المعروف)، وكان يلبس سراويل الفتوة، وقد بلغ من رغبته في ذلك أن جعل رمي البندق فنا لا يتعاطاه إلا الذين يشربون كأس الفتوة ويلبسون سراويلها، على أن يكون بينهم روابط وثيقة نحو ما عند بعض الجمعيات السرية، وجعل نفسه رئيس هذه الطائفة يدخل فيها من شاء ويحرم من شاء، وكتب سنة 607ه إلى ملوك الأطراف الذين يعترفون بخلافته أن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا سراويلها، وأن ينتسبوا إليه برمي البندق ويجعلوه قدوتهم فيه، فأجابوه إلى ذلك؛ فمن أراد الانتظام في سلك هذه الطائفة يأتي بغداد فيلبسه الخليفة السراويل بنفسه ... فبطلت الفتوة في البلاد جميعها إلا من لبس سراويلها منه، ومنع الرمي بالبندق إلا من ينتسب إليه، فأجابه الناس في العراق وغيره إلا إنسانا اسمه ابن السفت من بغداد هرب إلى الشام، فأرسل الخليفة إليه يرغبه ببذل المال ليرمي عنه وينتسب في الرمي إليه، فلم يفعل فلامه بعضهم على ذلك فقال: «يكفيني فخرا أنه ليس في الدنيا أحد لا يرمي للخليفة إلا أنا.»
142
وكان لرمي البندق شأن كبير في العصور الإسلامية الوسطى بالعراق والشام ومصر وفارس وغيرها، وخط البندقانيين بالقاهرة ينسب إلى صناعة أقواس البندق،
143
ثم تفننوا في رمي البندق بالمزاريق أو الأنابيب بضغط الهواء من مؤخر الأنبوب بما يشبه أنابيب البنادق ... فلما اخترعوا البارود صاروا يرمون البندق به من تلك الأنابيب وسموا هذه الآلة بندقية نسبة إليه، ومن قبيل رمي البندق رمي النشاب في البرجاس، وهو غرض في الهواء، أو على رأس رمح أو نحوه يطلبون إصابته بالنشاب، وهي لعبة فارسية أول من لعبها من الخلفاء الرشيد.
ومما يدخل في الألعاب والملاهي لعبة الشطرنج، وهي هندية الأصل أخذها العرب عن طريق الفرس، وأول من لعبها من الخلفاء الرشيد أيضا، وهو من لعب النرد كما تقدم، ولا تزال هاتان اللعبتان شائعتين إلى اليوم. (3-5) ارتباط السباع
وكان من ملاهي الخلفاء والملوك ارتباط الأسود والفيلة والنمور لإثبات الهيبة في قلوب الرعية، وأول من اهتم بذلك بنو العباس، فكان المنصور كثير العناية في جمع الفيلة لتعظيم الملوك السالفة إياها، وكان للرشيد أقفاص فيها الأسود والنمور وغيرها،
144
وغالى الذين جاءوا بعده في اقتنائها واقتناء الكلاب والقردة ونحوها؛ ذكروا أنه كان عند أم جعفر زوج الرشيد قرد يخدمه ثلاثون رجلا، وكانوا يلبسونه لباس الناس ويقلدونه السيف، وإذا ركب ركبوا في خدمته، وإذا دخلوا عليه قبلوا يده، فجاء يزيد بن مرثد يوما إلى أم جعفر ليودعها قبل سفره، فأتوا إليه بالقرد وأمروه أن يقبل يده، فشق عليه ذلك وجرد السيف وقطعه نصفين وانصرف، فبعث إليه الرشيد وعاتبه فقال: «يا أمير المؤمنين أبعد أن أخدم الخلفاء أخدم القرود؟ لا والله أبدا.» فعفا عنه.
145
وما زال شأن الخلفاء وأهلهم على ذلك حتى تولى المهتدي، وكان يتشبه بعمر بن عبد العزيز في التقوى والزهد، فأمر بقتل السباع التي كانت في القصور وطرد الكلاب، ولكن ذلك المنع لم يدم طويلا، فلما مات المهتدي عادوا إلى المغالاة في اقتناء السباع حتى ارتبطها بعضهم في مجلسه، فقد كان عضد الدولة بن بويه إذا جلس على سريره أحضر الأسود والفيلة والنمور في السلاسل، وجعلت في حواشي مجلسه تهويلا بذلك على الناس وترويعا لهم.
146
وقس على ذلك سائر دول المسلمين في مصر والأندلس وغيرهما، فقد كان لخمارويه بن أحمد بن طولون دار خاصة بالسباع، عمل فيها بيوتا بآزاج كل بيت يسع سبعا ولبؤته، وعلى تلك البيوت أبواب تفتح من أعلاها بحركات، ولكل بيت منها طاق صغير يدخل منه الرجل الموكل بخدمة ذلك البيت يفرشه بالرمل، وفي جانب كل بيت حوض من رخام بميزاب من نحاس يصب فيه الماء ، وبين يدي هذه البيوت قاعة فسيحة متسعة فيها رمل مفروش بها، وفي جانبها حوض كبير من رخام يصب فيه ماء من ميزاب كبير، فإذا أراد سائس سبع من تلك السباع تنظيف بيته، أو وضع وظيفة اللحم لغذائه، رفع الباب بحيلة من أعلى البيت وصاح بالسبع فيخرج إلى القاعة المذكورة، فيرد الباب وينزل إلى البيت من الطاق فيكنس الزبل ويبدل الرمل بغيره مما هو نظيف، ويضع الوظيفة من اللحم في مكان معد لذلك بعدما يخلص ما فيه من الغدد ويقطعه له، ويغسل الحوض ويملؤه ماء ثم يخرج ويرفع الباب من أعلاه، وقد عرف السبع ذلك؛ فحالما يرفع السائس باب البيت يدخل إليه الأسد فيأكل ما هيئ له من اللحم حتى يستوفيه ويشرب من الماء كفايته، فكانت هذه البيوت مملوءة من السباع، ولهم أوقات تفتح فيها فتخرج السباع كلها إلى القاعة وتتمشى فيها وتمرح وتلعب ويهارش بعضها بعضا، فتقيم يوما كاملا إلى العشي فيصيح بها السواس فيدخل كل سبع إلى بيته لا يتخطاه إلى غيره.
وكان من جملة هذه السباع سبع أزرق العينين يقال له: زريق، وقد أنس بخمارويه وصار مطلقا في الدار لا يؤذي أحدا، ويقام له بوظيفته من الغذاء كل يوم، وإذا نصبت مائدة خمارويه أقبل زريق معها وربض بين يديه، فيرمي إليه الدجاجة بعد الدجاجة والفضلة الصالحة من الجدي ونحو ذلك مما على المائدة فيتفكه به، وكانت له لبؤة لم تستأنس كما أنس هو، فكانت مقصورة في بيت ولها وقت معروف يجتمع معها فيه، فإذا نام خمارويه جاء زريق ليحرسه، فإن كان قد نام على سرير ربض بين يدي السرير وجعل يراعيه ما دام نائما، وإن نام على الأرض بقي قريبا منه وتفطن لمن يدخل ويقصد خمارويه لا يغفل عن ذلك لحظة واحدة، وكان على ذلك دهره وقد ألفه ودرب عليه، وكان في عنقه طوق من ذهب، فلا يقدر أحد أن يدنو من خمارويه ما دام نائما لمراعاة زريق له وحراسته إياه.
147
وتطرف آخرون في اقتناء الحيوانات حتى الهوام والحشرات، فالوزير جعفر بن خنزابه أحد وزراء المقتدر بالله العباسي كان يهوى النظر إلى الحشرات من الأفاعي والحيات والعقارب، وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى، وكان في داره بمصر قاعة لطيفة مرخمة فيها تلك الحيات بالسلال ولها قيم وفراش وحاو يستخدمون برسم نقلها وحطها، وكان كل حاو بمصر يصيد له ما يقدر عليه من الحيات ويتناهون في ذوات العجب من أجناسها وفي الكبير والغريب منها وهو يثيبهم على ذلك أجل ثواب ويبذل لهم المال الجزيل، وكان له وقت يجلس فيه على دكة فيدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في تلك السلال ويطرحونه على ذلك الرخام ويحرشون بين الهوام وهو يستعجب من ذلك ويستحسنه.
148
وكانت لهم عناية في تربية الحيوانات الداجنة أيضا كالغزلان والقماري وأشباههما، يجعلونها في حظائر وأقفاص مخصوصة عليها قوام يخدمونها.
149
واجتمع عند العزيز الفاطمي صاحب مصر من غرائب الحيوانات ما لم يجتمع عند غيره وذكروا بينها العنقاء. قالوا: «وهو طائر جاءه من صعيد مصر في طول البلاشون وأعظم جسما منه، له غبب ولحية وعلى رأسه وقاية وفيه عدة ألوان ومشابهة من طيور كثيرة.»
150
واتخذ الخليفة الناصر الأموي في مدينة الزهراء بالأندلس محلات للوحوش والسباع واسعة الأرجاء متباعدة السياج، ومسارح للطيور مظللة بالشباك كالأقفاص الكبيرة.
151
وهناك ألعاب أخر تتعلق بالحيوانات كسمكة كانت للأمين مقرطة، صيدت له وهي صغيرة فقرطها بحلقتين من ذهب فيهما حبتا در، وكلعب الحمام وتطييره، واللعب بالكباش والديوك للمناطحة والمهارشة، وغير ذلك مما لا محل لذكره.
اسم الكتاب
اسم مؤلفه
مكان طبعه وسنته
الآثار الباقية عن القرون الخالية
للبيروني
ليبسك سنة 1878م
الآداب السلطانية (الفخري)
لابن الطقطقي
مصر 1317ه
أبجد العلوم، 3 أجزاء
لصديق القنوجي
الهند 1296ه
ابن الأثير، تاريخ
انظر: الكامل
ابن الجوزي، تاريخ
انظر: كتاب الأذكياء
ابن حوقل، جغرافية
انظر: المسالك والممالك
ابن خرداذبة، جغرافية
انظر: المسالك والممالك
ابن خلدون، تاريخ
انظر: العبر والمبتدأ والخبر
ابن خلكان، معجم
انظر: وفيات الأعيان
ابن الساعي، تاريخ
انظر: مختصر أخبار الخلفاء
ابن عساكر، تاريخ
انظر: تاريخ دمشق
ابن الفقيه، جغرافية
انظر: كتاب البلدان
ابن هشام، تاريخ
انظر: السيرة النبوية
أبو الفرج الملطي، تاريخ
انظر: مختصر الدول
أبو المحاسن، تاريخ
انظر: النجوم الزاهرة
الأتليدي، معجم
انظر: أعلام الناس
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم
للمقدسي
ليدن 1876م
الأحكام السلطانية
للماوردي
مصر 1298م
أخبار الدول وآثار الأول
لأحمد شلبي بن يوسف الدمشقي القرماني
بغداد 1282م
أدب الدنيا والدين
للماوردي
بهامش الكشكول
الاستقصا في المغرب الأقصى4 أجزاء
للسلاوي
مصر سنة 1312
أسد الغابة في أخبار الصحابة5 أجزاء
لابن الأثير
مصر سنة 1286ه
الإصطخري، جغرافية
انظر: المسالك والممالك
أعلام الناس
الأتليدي
مصر 1318ه
الأغاني 20 جزءا
لأبي الفرج الأصفهاني
بولاق 1285ه
الإفادة والاعتبار
لعبد اللطيف البغدادي
مصر 1286ه
ألف باء، جزآن
يوسف البلوي
مصر 1287ه
البخاري، صحيح
انظر: صحيح البخاري
بغية الطالبين في علوم وعوائد المصريين
لأحمد بك كمال
بولاق 1309ه
البلاذري، تاريخ
انظر: فتوح البلدان
بلوغ الأرب في أحوال العرب3 أجزاء
للألوسي
بغداد 1898م
البيان والتبيين جزآن
للجاحظ
مصر 1313ه
البيروني، تاريخ
انظر: الآثار الباقية
تاريخ أبي الفداء 4 أجزاء
للملك المؤيد
الأستانة 1286ه
تاريخ الأمم والملوك 11 جزءا
للطبري
ليدن 1885م
تاريخ دمشق
لابن عساكر (خط)
تاريخ المشارقة
لصليبا بن يوحنا (خط)
تاريخ الوزراء
للهلال الصابي
بيروت1904م
تحذير المسلمين
محمد ظافر
مصر 1904م
تراجم الحكماء
لابن القفطي (خط)
ترتيب الدول
للحسن بن عبد الله
بولاق 1295ه
تزيين الأسواق
لداود الأنطاكي
مصر 1308ه
تهذيب الأسماء
للنووي
جوتنجن 1832م
الجبرتي، تاريخ
انظر: عجائب الآثار
حسن المحاضرة في مصر والقاهرة جزآن
للسيوطي
مصر 1299ه
حلبة الكميت
لشمس الدين النواجي
مصر 1299ه
حياة الحيوان الكبرى (جزآن)
للدميري
مصر سنة 1309ه
الخراج - كتاب
لأبي يوسف
بولاق 1302ه
الخراج - كتاب
لقدامة بن جعفر
ليدن 1306ه
الخطط التوفيقية 20 جزءا
لعلي باشا مبارك
بولاق 1306ه
خطط مصر (جزآن)
للمقريزي
بولاق 1270ه
الخميس (جزآن)
للديار بكري
مصر 1823م
الدميري، كتاب
انظر: حياة الحيوان
ديوان أبي نواس
للحسن بن هانئ
مصر 1898م
رحلة ابن بطوطة جزآن
لابن بطوطة
مصر 1287ه
رحلة ابن جبير
لابن جبير
ليدن 1852م
رسائل الخوارزمي
لأبي بكر الخوارزمي
الأستانة 1297ه
سراج الملوك
للطرطوشي
على هامش مقدمة ابن خلدون
بمصر سنة 1311
سلسلة التواريخ
لسليمان وأبي زيد
باريس 1811م
السيرة الحلبية 3 أجزاء
لعلي بن برهان الدين الملقب نور الدين الحلبي القاهري
مصر 1302ه
سيرة الملوك
لعبد الرحمن الأربلي
بيروت 1885م
السيرة النبوية 3 أجزاء
لابن هشام
بولاق 1295ه
السيوطي، تاريخ
انظر: حسن المحاضرة
شعراء السريان
للقرداحي
رومية 1875م
الشعر والشعراء
لابن قتيبة
ليدن 1902م
الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية
لطاشكبرى زاده
على هامش ابن خلكان
الشهرستاني، كتاب
انظر: الملل والنحل
صحيح البخاري 4 أجزاء
للإمام البخاري
مصر 1304ه
طبقات الأطباء - جزآن
لابن أبي أصيبعة
مصر 1882م
طبقات الأدباء
لعبد الرحمن الأنباري
مصر 1294ه
طبقات ابن سعد
لابن سعد (خط)
تاريخ تغري بردي
انظر: النجوم الزاهرة
العبر والمبتدأ والخبر 7 مجلدات
لابن خلدون
بولاق سنة 1284ه
عجائب الآثار 3 أجزاء
للجبرتي
على هامش ابن الأثير
عجائب المخلوقات
للقزويني
على هامش الدميري
العقد الفريد 3 أجزاء
لابن عبد ربه
مصر 1305ه
العقد الفريد
للملك السعيد
مصر 1283ه
فتوح البلدان
للبلاذري
ليدن 1866م
الفخري في الآداب السلطانية، تاريخ
انظر: الآداب السلطانية
الفرج بعد الشدة جزآن
للتنوخي
مصر 1903م
الفلاحة النبطية
لابن وحشية (خط)
الفهرست
لابن النديم
ليبسك 1872م
فوات الوفيات جزآن
لابن شاكر الكتبي
مصر 1282ه
قاموس الإدارة والقضاء 7 أجزاء
ليفيلب جلاد
مصر 1890م
القانون
لابن سينا
رومية 1593م
القبة الزرقاء
للدكتور فانديك
بيروت 1893م
قدامة، كتاب
انظر: الخراج
القرماني، تاريخ
انظر: أخبار الدول
القزويني ، كتاب
انظر: عجائب المخلوقات
القوانين العقارية للحكومة المصرية
مصر 1893م
الكامل 12 جزءا
لابن الأثير
مصر 1302ه
الكامل
للمبرد
مصر 1286ه
كتاب الأذكياء
لابن الجوزي (جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسين)
مصر 1306ه
كتاب الاعتبار
لابن منقذ
ليدن 1884م
كتاب البخلاء
للجاحظ
مصر 1324ه
كتاب البلدان
لابن الفقيه الهمذاني
ليدن 1885م
كتاب البلدان
لليعقوبي
ليدن 1885م
كتاب الحيوان 3 أجزاء
للجاحظ
مصر سنة 1324ه
كشف الظنون جزآن
لكاتب جلبي
الأستانة 1311ه
الكشكول
للعاملي
مصر 1305ه
لطائف المعارف
للثعالبي
ليدن 1867م
اللمعة الشهية في اللغة السريانية
للمطران يوسف داود
الموصل 1879م
الماوردي، كتاب
انظر: الأحكام السلطانية
مجمع الأمثال جزآن
للميداني
بيروت 1312ه
مختصر أخبار الخلفاء
لابن الساعي (محمد بن أنجب البغدادي)
بولاق 1309ه
مختصر أخبار الدول
لأبي الفرج بن هرون الملطي المعروف بابن العبري
بيروت 1890م
مروج الذهب جزآن
للمسعودي
مصر 1304ه
المزهر جزآن
للسيوطي
بولاق 1282ه
المسالك والممالك
لابن حوقل
ليدن 1873م
المسالك والممالك
لابن خرداذبة
ليدن 1880م
المسالك والممالك
للإصطخري
ليدن 1870م
المستطرف جزآن
للأبشيهي
مصر 1311ه
المسعودي، كتاب
انظر: مروج الذهب
مشكاة المصابيح
لولي الدين العمري
دهلي 1310ه
المعارف
لابن قتيبة
مصر 1300ه
معجم البلدان ستة أجزاء
لياقوت الحموي
ليبسك 1870م
مفتاح السعادة
لطاشكبرى زاده (خط)
المقدسي، جغرافية
انظر: أحسن التقاسيم
المقري، تاريخ
انظر: نفح الطيب
المقريزي، تاريخ
انظر: خطط مصر
الملل والنحل جزآن
للشهرستاني
لندن 1842م
الموطأ
للإمام مالك (خط)
الميداني، كتاب
انظر: مجمع الأمثال
ميزانية مصر لسنة 1902 للحكومة المصرية
بولاق سنة 1903م
النجوم الزاهرة جزآن
لأبي المحاسن
ليدن 1851م
نفح الطيب 4 أجزاء
للمقري
بولاق 1279ه
نهاية الأرب في قبائل العرب
للقلقشندي (خط)
الهداية
برهان الدين الفرغاني
لكنهو 1314ه
الهمداني، جغرافية
انظر: كتاب البلدان
وفيات الأعيان 3 أجزاء
لابن خلكان
مصر 1310ه
اليعقوبي، جغرافية
انظر: كتاب البلدان
هوامش
अज्ञात पृष्ठ