بنو عثمان
باشوات مصر
مقدمة المؤلف
فذلكة في تاريخ القسطنطينية عاصمة الخلافة الكبرى
في أصل بني عثمان
السلطان الأول
السلطان الثاني
السلطان الثالث
السلطان الرابع
السلطان الخامس
السلطان السادس
السلطان السابع
السلطان الثامن
السلطان التاسع
السلطان العاشر
السلطان الحادي عشر
السلطان الثاني عشر
السلطان الثالث عشر
السلطان الرابع عشر
السلطان الخامس عشر
السلطان السادس عشر
السلطان السابع عشر
السلطان الثامن عشر
السلطان التاسع عشر
السلطان العشرون
السلطان الحادي والعشرون
السلطان الثاني والعشرون
السلطان الثالث والعشرون
السلطان الرابع والعشرون
السلطان الخامس والعشرون
السلطان السادس والعشرون
السلطان السابع والعشرون
السلطان الثامن والعشرون
السلطان التاسع والعشرون
السلطان الثلاثون
السلطان الحادي والثلاثون
السلطان الثاني والثلاثون
السلطان الثالث والثلاثون
السلطان الرابع والثلاثون
السلطان الخامس والثلاثون
بنو عثمان
باشوات مصر
مقدمة المؤلف
فذلكة في تاريخ القسطنطينية عاصمة الخلافة الكبرى
في أصل بني عثمان
السلطان الأول
السلطان الثاني
السلطان الثالث
السلطان الرابع
السلطان الخامس
السلطان السادس
السلطان السابع
السلطان الثامن
السلطان التاسع
السلطان العاشر
السلطان الحادي عشر
السلطان الثاني عشر
السلطان الثالث عشر
السلطان الرابع عشر
السلطان الخامس عشر
السلطان السادس عشر
السلطان السابع عشر
السلطان الثامن عشر
السلطان التاسع عشر
السلطان العشرون
السلطان الحادي والعشرون
السلطان الثاني والعشرون
السلطان الثالث والعشرون
السلطان الرابع والعشرون
السلطان الخامس والعشرون
السلطان السادس والعشرون
السلطان السابع والعشرون
السلطان الثامن والعشرون
السلطان التاسع والعشرون
السلطان الثلاثون
السلطان الحادي والثلاثون
السلطان الثاني والثلاثون
السلطان الثالث والثلاثون
السلطان الرابع والثلاثون
السلطان الخامس والثلاثون
تاريخ سلاطين بني عثمان
تاريخ سلاطين بني عثمان
من أول نشأتهم حتى الآن
تأليف
عزتلو يوسف بك آصاف
بنو عثمان
(1) عثمان غازي بن إرطغرل
699ه (2) أرخان غازي بن عثمان
721ه (3) مراد الأول خدا وندكارين أرخان: مات في معركة كوسوفو
Kossovo
761ه (4) بايزيد الأول يلدرم بن مراد
792ه (5) محمد الأول چلبي بن بايزيد (بمنطقة آسيا الصغرى)
805ه (6) أمير سليمان بن بايزيد (بمنطقة أدرنه حتى سنة 813ه)
806ه (7) موسى چلبي بن بايزيد (بمنطقة أدرنه حتى سنة 816ه)
813ه (8) مصطفى چلبي بن بايزيد (بمنطقة أدرنه حتى سنة 825ه)
822ه (9) محمد الأول ... بمفرده
816ه (10) مراد الثاني قوجه بن محمد (للمرة الأولى)
824ه (11) محمد الثاني الفاتح بن مراد الثاني (للمرة الأولى)
847ه (12) مراد الثاني (للمرة الثانية)
848ه (13) محمد الثاني (للمرة الثانية) في شهر رجب
848ه (14) مراد الثاني (للمرة الثالثة)
849ه (15) محمد الثاني الفاتح (للمرة الثالثة نهائيا) فتح القسطنطينية ... في 19 جمادى الأولى سنة 857ه
855ه (16) بايزيد الثاني ولي بن محمد (ترك الحكم في سنة 918ه)
886ه (17) شاه زاده جم بن محمد (الثاني) مطالب بالحكم
886ه (18) سليم الأول ياوز بن يزيد
918ه (19) سليمان الأول القانوني بن سليم
926ه (20) سليم الثاني بن سليمان
974ه (21) مراد الثالث بن سليم
982ه (22) محمد الثالث بن مراد
1003ه (23) أحمد الأول بن محمد (مات في 22 ذي القعدة 1026ه)
1012ه (24) مصطفى الأول بن محمد (المعتوه)
1026ه (25) عثمان الثاني بن أحمد
1027ه (26) مصطفى الأول (للمرة الثانية) في رجب
1031ه (27) مراد الرابع غازي بن أحمد (مات في سنة 1049ه)
1032ه (28) إبراهيم بن أحمد (ترك الحكم وقتل بجنلي كوشك سنة 1058ه)
1049ه (29) محمد الرابع أوچي بن إبراهيم (ترك الحكم)
1058ه (30) سليمان الثاني بن إبراهيم (مات سنة 1102ه)
1099ه (31) أحمد الثاني بن إبراهيم (مات سنة 1106ه)
1102ه (32) مصطفى الثاني بن محمد (عزل)
1106ه (33) أحمد الثالث بن محمد (ترك الحكم في سنة 1149ه)
1115ه (34) محمود الأول بن مصطفى
1143ه (35) عثمان الثالث بن مصطفى
1168ه (36) مصطفى الثالث بن أحمد
1171ه (37) عبد الحميد الأول بن أحمد (مات سنة 1203ه)
1187ه (38) سليم الثالث بن مصطفى
1203ه (39) مصطفى الرابع بن عبد الحميد
1222ه (40) محمود الثاني بن عبد الحميد
1223ه (41) عبد المجيد الأول بن محمود
1255ه (42) عبد العزيز بن محمود «ترك الحكم سنة 1293ه وقتل نفسه بالانتحار»
1277ه (43) مراد الخامس بن عبد المجيد
1293ه (44) عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد «خلع سنة 1327ه»
1293ه (45) محمد الخامس رشاد بن عبد المجيد
1336ه (46) عبد المجيد الثاني بن عبد العزيز (ترك الحكم)
1341ه
باشوات مصر
أولا: في عهد سليم الأول وسليمان الأول. (1) خاير بك بركس (مات في جزيرة ردوس سنة 928ه)
923ه (2) مصطفى (ترك الحكم في سنة 929ه)
928ه (3) كوزلجه قاسم (ترك الحكم في سنة 929ه بعد تقلده بحوالي 24 يوما)
929ه (4) أحمد (مات سنة 930ه)
929ه (5) كوزلجه قاسم مرة ثانية (ترك الحكم سنة 931ه)
930ه (6) إبراهيم الصدر الأعظم (استدعي إلى القسطنطينية في سنة 931ه)
931ه (7) خادم سليمان (ترك الحكم سنة 941ه)
931ه (8) خسرو (ترك الحكم سنة 943ه)
941ه (9) خادم سليمان للمرة الثانية (استدعي إلى القسطنطينية سنة 945ه)
943ه (10) داود (مات سنة 956ه)
945ه (11) علي سمير (تقلد منصب الصدر الأعظم ثم استدعي إلى القسطنطينية سنة 961ه)
956ه (12) دوقه كين زاده محمد (ترك الحكم سنة 963ه)
961ه (13) إسكندر (عزل سنة 966ه)
963ه (14) خادم (ترك علي الحكم سنة 967ه)
966ه (15) لالا شاهين (ترك الحكم في سنة 971ه)
967ه (16) علي صوفي (ترك الحكم سنة 973ه)
971ه
ثانيا: في عهد سليم الثاني. (1) محمود (قتل بالرصاص سنة 975ه)
973ه (2) سنان (ذهب إلى اليمن سنة 976ه)
975ه (3) جركس إسكندر (ترك الحكم سنة 979ه)
976ه (4) سنان (مرة ثانية بعد عودته من اليمن)
979ه (5) حسين (ترك الحكم سنة 982ه)
980ه
ثالثا: في عهد مراد الثالث. (1) خادم مسيح (ترك الحكم سنة 988ه)
982ه (2) خادم حسن (ترك الحكم سنة 991ه)
988ه (3) إبراهيم (ترك الحكم سنة 993ه، وله حروب في لبنان)
991ه (4) دفتر دار سنان (ترك الحكم سنة 995ه)
993ه (5) أويس (ترك الحكم سنة 999ه)
995ه (6) حافظ أحمد (ترك الحكم سنة 1003ه)
999ه
رابعا: في عهد محمد الثالث. (1) كرد (ترك الحكم سنة 1004ه)
1003ه (2) سيد محمد (ترك الحكم سنة 1006ه)
1004ه (3) خضر (ترك الحكم سنة 1010ه)
1006ه (4) ياوز علي (ترك الحكم سنة 1012ه)
1010ه (5) الحاج إبراهيم (قتل بالرصاص سنة 1013ه)
1012ه
خامسا: في عهد أحمد الأول. (1) كورجي محمد (ترك الحكم سنة 1014ه)
1013ه (2) حسن بن حسين (ترك الحكم سنة 1016ه، ومات في إستانبول)
1014ه (3) أوغور محمد (عزل سنة 1020ه)
1016ه (4) صوفي محمد (ترك الحكم سنة 1024ه)
1020ه
سادسا: في عهد مصطفى الأول (حكمه الأول) ثم عثمان الثاني. (1) أحمد (ترك الحكم سنة 1027ه)
1024ه (2) لفكه لي مصطفى (ترك الحكم سنة 1027ه. يعين صدرا أعظم سنة 1031ه)
1027ه (3) جعفر (ترك الحكم سنة 1028ه)
1028ه (4) مصطفى (ترك الحكم سنة 1029ه)
1029ه (5) مره حسين (بقي في الحكم حتى سنة 1031ه، ثم عين صدرا أعظم سنة 1031ه)
1031ه (6) ببر محمد
1031ه
سابعا: في عهد مصطفى الأول (في حكمه الثاني). (1) إبراهيم
1031ه (2) قره مصطفى (ترك الحكم سنة 1032ه)
1032ه
ثامنا: في عهد مراد الرابع. (1) چيچي علي (ترك الحكم سنة 1023ه)
1033ه (2) قره ثانية (للمرة الثانية)
1033ه (3) بيرام (ترك الحكم سنة 1038ه)
1035ه (4) طباني يامي محمد (ترك الحكم سنة 1040ه، وأصبح صدرا أعظم)
1038ه (5) موسى (ترك الحكم سنة 1040ه)
1040ه (6) خليل (ترك الحكم سنة 1042ه)
1045ه (7) بقيرجي أحمد (ترك الحكم سنة 1045ه)
1042ه (8) دلي حسين (ترك الحكم سنة 1047ه)
1045ه (9) جوان قبيجي سلطان زاده محمد (ترك الحكم سنة 1050ه)
1047ه
تاسعا: في عهد إبراهيم الأول. (1) نقاش مصطفى (ترك الحكم سنة 1052ه)
1050ه (2) مقصود (ترك الحكم سنة 1054ه)
1052ه (3) أيوب (ترك الحكم سنة 1056ه)
1054ه (4) حيدر أغا زاده محمد (ترك الحكم سنة 1057ه)
1056ه (5) مشتري مصطفى (ترك الحكم سنة 1057ه)
1057ه (6) شرف محمد (ترك الحكم سنة 1559ه)
1057ه
عاشرا: في عهد محمد الرابع. (1) طرخونجي أحمد (ترك الحكم سنة 1060ه، وعين صدرا أعظم)
1059ه (2) خادم عبد الرحمن (ترك الحكم سنة 1062ه)
1060ه (3) خاصكي محمد (ترك الحكم سنة 1066ه)
1062ه (4) خاليجي زاده داماد مصطفى (ترك الحكم سنة 1068ه)
1066ه (5) شاهسوار زاده غازي محمد (قتل سنة 1070ه)
1066ه (6) كورجي مصطفى (ترك الحكم سنة 1071ه)
1070ه (7) دفتر دار إبراهيم (ترك الحكم سنة 1074ه)
1071ه (8) سلحدار عمر (ترك الحكم سنة 1077ه)
1074ه (9) صوفي إبراهيم (ترك الحكم سنة 1079ه)
1077ه (10) قره قاش علي (ترك الحكم سنة 1080ه)
1079ه (11) إبراهيم (ترك الحكم سنة 1084ه)
1080ه (12) جانبولاد زاده حسين (ترك الحكم سنة 1086ه)
1084ه (13) دفتر دار أحمد (ترك الحكم سنة 1087ه)
1086ه (14) عبد الرحمن (ترك الحكم سنة 1091ه)
1087ه (15) عثمان (ترك الحكم سنة 1094ه)
1091ه (16) حمزة (ترك الحكم سنة 1098ه)
1091ه (17) حسن (ترك الحكم سنة 1099ه)
1098ه
حادي عشر: في عهد سليمان الثاني وأحمد الثاني ومصطفى الثاني. (1) داماد حسن (عزل سنة 1101ه)
1099ه (2) مفتش كيايا أحمد (مات سنة 1102ه)
1101ه (3) خزينه دار علي (ترك الحكم سنة 1106ه)
1102ه (4) إسماعيل (ترك الحكم سنة 1109ه)
1106ه (5) فراري حسين (ترك الحكم سنة 1111ه)
1109ه (6) قره محمد (ترك الحكم سنة 1116ه)
1111ه
ثاني عشر: في عهد السلطان أحمد الثاني. (1) سليمان (عزل في 7 جمادى الآخرة سنة 1116ه)
المحرم 1116ه (2) رامي محمد (عزل في جمادى الأولى سنة 1118ه. صدر أعظم في 7 رمضان 1114ه)
جمادى الآخرة 1116ه (3) علي (عزل في جمادى الآخرة 1119ه)
جمادى الأولى 1119ه (4) داماد حسن (للمرة الثانية) (عزل في 23 شعبان سنة 1121ه)
جمادى الآخرة 1119ه (5) إبراهيم (عزل في جمادى الآخرة سنة 1122ه)
شعبان 1121ه (6) كوسج خليل (4) (عزل في جمادى الآخرة سنة 1123ه)
جمادى الآخرة 1122ه (7) ولي (عزل في شعبان سنة 1126ه)
جمادى الآخرة 1123ه (8) عبدي (عزل في رجب سنة 1129ه)
شعبان 1126ه (9) كيايا علي (للمرة الثانية) (عزل في 6 ذي القعدة سنة 1132ه)
رجب 1129ه (10) رجب (عزل في 3 رجب 1133ه)
ذو القعدة 1132ه (11) نشانجي محمد (صدر أعظم سنة 1129ه. عزل في المحرم سنة 1148ه)
رجب 1133ه (12) علي موره لي (عزل في جمادى الآخرة سنة 1138ه)
المحرم 1138ه (13) محمد (للمرة الثانية) (عزل في صفر سنة 1140ه)
جمادى الآخرة 1138ه (14) أبو بكر (عزل في 13 ذي الحجة سنة 1141ه)
صفر 1140ه (15) عبدي (للمرة الثانية)
1140ه
ثالث عشر: في عهد محمود الأول. (1) كوبريلي زاده عبد الله (عزل في المحرم سنة 1146ه)
ذو الحجة 1141ه (2) سلحدار محمد
المحرم 1146ه (3) عثمان (عزل سنة 1147ه) (4) أبو بكر (للمرة الثانية) ... (عزل في رجب سنة 1147ه) (5) حكيم زاده علي عالي (صدر أعظم في 15 رمضان سنة 1144ه. عزل سنة 1154ه)
رجب 1147ه (6) يحيى (عزل في 11 جمادى الأولى سنة 1156ه)
1154ه (7) محمد سعيد (عزل في المحرم سنة 1157ه)
جمادى الأولى 1156ه (8) راغب محمد (عزل في رمضان سنة 1161ه. صدر أعظم في 20 ربيع الثاني سنة 1170ه)
المحرم 1157ه (9) الحاج أحمد (صدر أعظم سنة 1153ه)
رمضان 1161ه (10) ملك محمد
رمضان 1161ه (11) بلطه جي مصطفى
1166ه (12) حسن الشعراوي
1166ه
رابع عشر: في عهد عثمان الثالث. (1) حكيم زاده علي (للمرة الثانية)
المحرم سنة 1169ه (2) سعد الدين (توفي سنة 1171ه) (3) محمد سعيد (للمرة الثانية)
شعبان سنة 1170ه
خامس عشر: في عهد مصطفى الثالث. (1) باهر كوسه مصطفى (صدر أعظم سنة 1165ه) (2) بكر
1176ه (3) أحمد
1178ه (4) سلحدار ماهر حمزة (صدر أعظم سنة 1182ه)
1179ه (5) ملك محمد (للمرة الثانية)
1180ه (6) راقم محمد
ذو القعدة 1180ه (7) دو تدار محمد
1182ه (8) علي بك (ولد سنة 1140، وتوفي في 15 صفر سنة 1187ه)
1182ه
فتح مكة
ربيع الأول 1184ه
فتح سورية
ربيع الأول 1185ه (9) أبو الذهب محمد الخازندار
المحرم 1187ه
مقدمة المؤلف
تطوى السنون والأحقاب، وتتعاقب الأجيال والدول، ولا يبقى من أبناء الأوائل غير ما يتلقى الأواخر عن ألسنة الرواة في أساليب القصص بأحاديث السمر، مرويا كما يشاء الميل أو يقتضيه الغرض، وعلى هذا النمط كانت تضيع الحقائق كما ضاع الصاع في أيام العزيز بأرض الكنانة على عهد فرعون مصر، أو تنقلب صورها عن دائرة أوضاعها، كما النور إلى ظلام عند الأعين الرمدة.
ولما بدا في الوجود فن الكتابة وتعممت صناعة الطباعة قلما وجدنا مستودعا لأحوال الغابرين يركن إلى ودائعه في سرد حوادث أيامها؛ لأن حملة الأقلام كانوا تحت مؤثرات الخوف وعوامل الضغط، فاضطروا إلى تدوين الحوادث مدبجة بعبارات المحاباة والمجاملة، ليأمنوا غدر أصحاب القوة والسلطان. ولم تنطلق الأقلام على صفحات الأوراق كما شاء استقلال الفكر، وقضت به أمانة النقل لا في عصر اليونان والرومان، ولا على عهد حضارة العرب وفتوحات نابليون، ولا إلى آخر أيام السلطان عبد الحميد خان، إنما الحقائق تجلت بقاياها بعد زوال سلطات الفرد، وحلول الشورى محل الحكم المطلق، وأمكن الكتاب والمؤرخون أن يقرروا الوقائع كما وقعت، ويسردوا الحوادث كما حصلت، ويبرزوا سير النوابغ وأعمال الملوك على حقيقتها مظهرين ما حسن منها وما قبح عبرة للعالمين.
ولا أفيد للرقي العصري من معرفة تاريخ الماضي، فمنه يعرف كيف دالت الدول وقامت على أطلالها أخرى، وانقرضت الأمم وتبوأ مجدها غيرها، وكيف أن التنازع في الكيان والبقاء رجحت كفته في جانب الرأي الأصيل ومن استطاع أن يتملك القلوب بالإحسان، ويربطها بقيود الألفة، لا أن يفرقها بالنفرة، ويخضعها بالإرهاب والقسوة.
فالتاريخ مرآة الأولين تنعكس منه صور أعمالهم، فيستدرك فيها النقص، ويتقوى محل الضعف، وفيه يبقى الأثر الخالد الجليل الأعمال، والاسم الحي لأعاظم الرجال، ومنه ترهب النفس الظالمة، فتردع عن غيها تحاشيا من تخليد سيئاتها.
والإنسان كما أنه يتطلع إلى أصل كيانه، يتوق كذلك إلى معرفة منشأ دولته، وجامعة أوطانه، فمن المفيد إذن الوضع أمام النظر لكل عثماني صور ملوكه مع تاريخ موجز لكل منهم؛ ليتمثل لديه كل عصر مضى على كيان دولته؛ لعله يعتبر ويستفيد من الدستور، وكما استفاد منه باقي الأمم، ولا يقنع من الثمر بالقشور.
فذلكة في تاريخ القسطنطينية عاصمة الخلافة
الكبرى
من هي القسطنطينية
القسطنطينية: هي المدينة الكبرى عاصمة المملكة العثمانية، وتخت الخلافة العظمى، أسسها بيزنس، رئيس الماغريين قبل التاريخ المسيحي بألف ومائتي سنة، ودعيت بزنتية نسبة إليه، وكانت فيما غبر القرية الأولى بين تعداد قرى طراشيا التي هي الآن قسم من بلاد الروم إيلي. وقد ملكها داريوس الأول أحد ملوك الفرس عام 521 قبل المسيح، وجعلها نزهة للعين في حسن الرونق والانتظام، وعقيب وفاته التي وقعت سنة 485ق.م استولى عليها أهل يونياس من شعب هالان - وهو جنس يوناني قديم العهد يسبق ظهور المسيح بخمسة عشر جيلا - وبعد ذلك اغتنمها الملك أكسرخوس الأول، وهو الخامس من ملوك الفرس قبل المسيح من 472 إلى 485.
ثم خلفه في امتلاكها أهالي مدينة سبارط من بلاد الموره - وهي قاعدة بلاد لاكونيا - ولم يطل زمن امتلاكهم لها حتى انتزعها من أيديهم أهالي مدينة أثينا التي أسسها شيكروب المصري عام 1643 قبل المسيح، وبعد ذلك بمدة طويلة استقلت القسطنطينية، وعظمت قواها البحرية حتى صارت من أعظم المدن منعة واقتدارا؛ فتطاولت إليها أطماع الملوك وحصرها فيليب، ملك مكدونيا - وهو والد إسكندر الكبير المدعو الملك فيليب الثاني الكبير ابن أمنيتاس ثامن ملوك مكدونيا - فلم يستطع امتلاكها. ولما انتشبت الحرب بين الرومان وملك البنطس، ساعدهم أهالي القسطنطينية في ميادين المعركة إلى أن فازوا بالنصر. وفي سنة 193ب.م دخلت القسطنطينية تحت إمرة القائد الروماني المدعو بسنيوس فيجار، وفي عهده حاصرها نحو 3 سنين الملك سبتيم سافار، أحد ملوك الرومانيين، فدخلها بعد حرب عنيفة وعاجلها بالدمار. ولم يتجدد بناؤها إلا على عهد الملك كركللا، ابن الملك سبتيم، الذي أقيم ملكا عليها سنة 211ب.م، غير أن رونقها البهيج لم يعاودها إلا في زمن قسطنطين، ملك الرومانيين الذي أكمل ترميمها في الجيل الرابع سنة 330ب.م، وسميت القسطنطينية باسمه. وهو قسطنطين الأول الملقب بالكبير، ابن الملك قسطنطين من زوجته الملكة هيلانة. ولد عام 274ب.م، وتوفي عام 337 عن ثلاثة أولاد؛ وهم: قسطنطين وقسطنسوس وقسطان. ولقبها فروق؛ لأن فيها تفرقت القياصرة غربا وشرقا. وأقام بها وتملك على الرومانيين في الشرق، ثم جعلها تخت قيصاريته، فصارت كرسيا لملوك الشرق، وما لبثت أن فاقت على رومية التي كانت وقتئذ في مقدمة المدن بعظيم بنائها، ووفرة شعبها، وكثرة ثروتها، واتساع تجارتها.
وفي عام 413ب.م مادت بها الأرض في الطول والعرض، وحدثت فيها زلزلة هائلة فدكتها وصيرتها قاعا صفصفا، فجدد بناءها الملك تاودوسيوس الثاني، وفي عام 857 حدثت فيها أيضا زلزلة فدمرتها ثانية، فجدد بناءها عام 858 قبيلة يونانية من مدينة أركوس، ثم تواترت عليها دهمات الملوك، وعاودتها الحروب، وأغارت عليها الدول من التتار والأعجام وأهل البلغار والصليبية وغيرهم حتى حل بها الخراب المرة بعد الأخرى؛ ففي سنة 593 حاصرتها القبائل غير المتحدة من التتار، فلم يتمكنوا من الاستيلاء عليها، وفي عام 625 حاصرها الفرس، ومن سنة 671 إلى سنة 678 حاصرها العرب الذين أغاروا على إسبانيا، وفي عام 755 حاصرها البلغار، وفي عام 866 حاصرها شعب يدعى فاريك - وهو نورماندي جاء من بلاد ناروج - ثم عقبه الصليبيون واستولوا عليها سنة 1203، وأقاموا عليها ملكا هو ألكسيس الرابع ابن إسحاق، الملقب بألكسيس الصغير - وكان عمه ألكسيس الملك قد طرد أباه إسحاق وأودعه السجن سنة 1195، فأنجاه منه ولده ألكسيس الرابع وجعل له حظا في الملك، ولما علم بذلك ألكسيس الملك تعاصى على أخيه إسحاق وانتزع من يده الملك عام 1195، وما فات من مدة ملكه زمن طويل حتى جاهر بعدوانه ابن أخيه ألكسيس الصغير وخلعه من الملك عام 1203، وتربع مكانه مدة ستة أشهر - ثم خلعه ديكاي مرتزقل المدعو ألكسيس الخامس بعد أن أماته خنقا، وفي أيامه عاد الصليبيون ثانية إلى القسطنطينية، وأسسوا فيها المملكة اللاتينية، ثم قلبوا ديكاي عن منصة الحكم وولوا مكانه «بدوان»، أمير مقاطعة قديمة في فرنسا تدعى فلاندر، وهذا الأمير كان قائدا لجيش الصليبيين. وفي عام 1261 حضر الملك ميخائيل بالولوغوس الثامن، ملك مدينة نيس، واستولى على القسطنطينية بغتة. وهذا الملك هو من أوجه العائلات في الشرق. تولى الملك في مدينة نيسا من أعمال الأناضول، وتوفي عام 1282 بينما كان يجهز جيوشا ليسوقها إلى فتح طراشيا. ثم هجم على إسلامبول مرارا عديدة السلطان أورخان سنة 1337 والسلطان بايزيد والسلطان مراد الأول. أما السلطان أورخان فقد أخذ عدة مدن عنوة، من جملتها مدينة نيسا، وذلك عام 1323، وسلب ما في ضواحي الآستانة عام 1337، وسن شرايع المملكة، ورتب القوانين. أما السلطان مراد الأول فقد أتم تحصين المملكة عام 1362، وأحدث طريقة الإنكشارية. وقد استولت على الآستانة دولتنا العلية، وانتزعتها من الدولة الرومانية في التاسع والعشرين من شهر مايو عام 1453، الموافق لليوم العشرين من جمادى الأولى سنة 857ه، تحت راية السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح.
ويدعوها الأتراك ب «إسلامبول»، وهي من أحسن مدن العالم موقعا، وأجملها مركزا، كائنة على خليج البحر الأسود، ومشادة على سبع تلال من أطراف أوروبا، يفصلها عن آسيا مضيق من البحر عرضه نحو ميل، وهو معروف بالبوغاز، وتبعد عن باريس عاصمة الفرنسيس 660 ميلا، وعن ويانه عاصمة النمسا 275 ميلا، وعن سان بطرسبورج عاصمة بلاد الروس 475 ميلا، يحيطها من جهة الشمال ثلاثة أسوار قديمة، ومن بقية الجهات: البحر. عدد سكانها قد جاوز المليون ونصف، الثلثان منهم إسلام، والباقي نصارى ويهود . وتنقسم باعتبار وضعها إلى أربعة أقسام؛ الأول: هو المدينة الكبيرة القديمة، والثاني: غلطه، والثالث: البوغاز، والرابع: إسكودار. أما المدينة الكبيرة فهي ذات الأبنية العظيمة، والقصور الشاهقة، والقشال الواسعة، وفيها الجوامع العظيمة، التي تنطح السماك، ذات المنارات البديعة المصفحة من النحاس المذهب. وأشهر هذه الجوامع جامع أجيا صوفيا، الذي كان كنيسة عظيمة أيام النصارى بناها المعلم أنتيموس إلى الملك قسطنطين في بحر ثماني سنوات، وهي من أحسن الأبنية القديمة. وقد كان لها قبة عظيمة أخربتها الزلزلة، ثم صار تجديدها فلم تأت كما كانت من حيث ارتفاعها وحسن استدارتها واستوائها، ولأجل زيادة تمكينها وضع تحتها بين العضائد الكبيرة عدة من أعمدة الصب القديمة المصرية، وعقدت عليها قناطر تعتمد عليها القبة، وفي هذه القبة 24 شباكا ينفذ منها الضوء إلى الداخل، ويليها قبتان لطيفتان وست قبب صغار.
وإسلامبول بعيدة عن الوصف، كساها مركزها الطبيعي الهيبة والوقار، وأكسبها البهجة وحسن الرونق، فإنها واقعة على خليج البحر الأسود وبين بحر مرمرا، وكائنة بين أوروبا وآسيا على البوغاز الذي يصل بحر مرمرا بالبحر الأسود. أما بحر مرمرا فيصله بوغاز الدردانيل ببحر جزائر الروم والبحر المتوسط، ويفصل المدينة عن آسيا مضيق من البحر عرضه نحو ميل، له منظر يشرح الصدر، ويبهج الناظر، وهي ممتدة على لسان في البحر مثلث الزوايا موقعه على الشاطئ الغربي من مدخل البوغاز الجنوبي المعروف بالبوسفور، وفي الجانب الشمالي من المدينة فرع من البوغاز يدعى القرن الذهبي، وهو المعروف بالميناء، التي عند آخرها محل يقصده الناس للترويض يدعى كاغد خانة، كائن بالقرب من الترسخانة في بقعة خضراء طولها نصف ميل تجري إليها المياه العذبة في قناة تكتنفها أشجار الحور والسرو والزيزفون وغير ذلك. وفي هذه الروضة قصر للانشراح تحيط به حديقة غناء مطرزة بأشكال الزهور والرياحين، بناها الطيب الذكر السلطان أحمد الثالث عام 1724، وفي تلك القناة يتدفق الماء زلالا، وفي وسطها حاجز تنفجر المياه بالقرب منه، وتصب في ثلاثة مجار مرصوفة بالصدف حتى تنتهي إلى بركة عليها حوض من النحاس الأصفر، وعليه ثلاث حنفيات تجري المياه من أفواهها ، وعلى ذاك الحاجز ثلاثة كشوك من الرخام الأبيض مغشاة بالنحاس المموه بالذهب، ومن هناك تأخذ القناة في الضيق بالتتابع إلى أن تختلط مع ماء آخر. وهذا ما يدعى القرن الذهبي؛ حيث تسير الزوارق حاملة رجالا ونساء بقصد التنزه والانشراح في ذلك الوادي، ولا سيما يوم الجمعة.
ثم إن مرسى المينا لفي غاية الطمأنينة والسعة، ويفصلها مضيق من البحر طوله نحو ميلين، وعرضه نحو نصف ميل، وفيها ترسو السفن، وهي من أحسن مراسي الدنيا موقعا وأمنا، وعلى جانبها المحلات الخارجة عن المدينة، وهي المعروفة بالصوائح الخارجة الكبيرة، وهي بيريه وغلطه ومحلة الطوبخانة وقاسم باشا والفنار محلة الأروام. أما بيريه المشهورة باسم بك أوغلي، فهي محلة الإفرنج واقعة في الجهة الشمالية، وبها مركز التجارة، ولا يقطنها إلا الوجوه من الغرباء؛ كقناصل الدول ونحوهم، وبها كنائس الإفرنج والأرمن والمطابع ومستشفيات الإفرنج والمدارس والمراسح والفنادق، وفي وسط هذه المحلة غلطه سراي، وهي مدرسة الطب التي احترقت عام 1848ب.م، وأمامها محل تياترو واسع الأرجاء، متقن البناية، يقصده مشخصو الإفرنج من عواصم أوروبا.
وفي الآستانة عدة مدارس لنشر العلوم والفنون؛ منها: طبية، وأخرى حربية، ومكاتب للملاحين، وما ينوف عن خمسمائة وثلاثين مدرسة تحوي نيفا وأربعين مكتبة، فيها مؤلفات شتى أكثرها بخط اليد، وفيها عدة مطابع، وجملة معامل لصنع الطرابيش والجوخ وخلاف ذلك. أما غلطه فقد شادها أهالي جينوا، وما برحت إلى اليوم محاطة بالسور المنسوب إليهم، ومحيطه مقدار 8000 قدم، وموقعها في القسم المجاور للبحر على الجهة الجنوبية من بيريه، وسكانها أغلبهم من الأروام واليهود، وفيها محل للجمرك، ومخازن لشحن الوابورات، وبها الجوامع الكثيرة، وترسخانة الطوبخانة، ومعامل لسبك المدافع ومعدات الحرب والدمار، وفيها برج يدعى برج المسيح - أو برج الحرس - علوه 140 قدما، بناه أهالي جينوا عام 1446 بعد المسيح، والغرض من بنائه كان التنبيه على أهالي القسطنطينية عند حدوث الحريق بما يتفقون عليه من العلامات، إشارة إلى أن الحريق في موضع كذا.
وفي محلة قاسم باشا توجد الترسخانة الكبيرة والترسخانة البحرية وحوش البحرية، والمسافر عند دنوه من المدينة بحرا ينظرها ذات منظر بهج ورائق؛ إذ يشاهد رءوس المآذن المذهبة، وقبب الجوامع المسنمة، وشوامخ الأبنية الجميلة، والأبراج المزخرفة، والمنابر العالية، وفي معاليها أكاليل من ورق السرو الأثيث، وما شاكل ذلك من الأشجار التي تظلل المدافن العظيمة المحتفرة في جوانب الأسوار، غير أن المسافر عندما يدخلها ويتوغل فيها يتعذر عليه أن يعرف من أين دخل وكيف يخرج.
أما أبنيتها فأكثرها من الأخشاب والقرميد واللبن، ثم إن البوغاز المعروف بالبوسفور يفصل بين آسيا وأوروبا، ويصل البحر الأسود بالبحر الأبيض، وهو ممتد على مسافة 20 ميلا بالطول وبالعرض من ميل إلى ميل ونصف، ينحدر فيه الماء بشدة منصبا في بحر مرمرا المتصل بالبحر الأبيض، وعلى ساحله من كلتا الجهتين قرى شهيرة كل قرية منها تضاهي مدينة صغيرة، وفيها من السرايات الأنيقة، والمنازل الفاخرة، والأسواق الرحبة، والحدائق البديعة، والمتنزهات الجميلة ما يقر النواظر، ويشرح الخواطر، وفيها سفارات الدول الأجنبية خلا سفارة دولة إيران، فإنها بالقرب من الباب العالي. ومجمل القول: إن هذا البوغاز على جانب عظيم من حسن الموقع، ووفرة الانتظام، يقصر المقام عن سرده؛ فإن بناياته وافرة الاتفاق، تعلوها الروابي النضرة القائمة فوقها الأشجار الوارفة الظلال، والحدائق الأنيقة التي تجلي عن القلوب صدى الكروب.
وقد يقصده السواح من أقطار الأرض ليشاهدوا غريب موقعه، ويتمتعوا بجودة هوائه. وفي الجهة اليمنى منه يوجد حوض ماء ضمن قبوة يدعى حوض القديسة صوفيا، يزوره قوم كثيرون من النصارى والمسلمين قصد التبرك، وفي الجهة الشمالية يوجد قصر مبني على الشاطئ، وحوله حديقة لاحقة بأملاك الحكومة المصرية هناك، كان القصد من بنائه إيواء المسافرين من المصريين، وفيه ترسو البارجة العظيمة (المحمودية) ذات المائة والعشرين مدفعا.
أما القسطنطينية فهي محاطة بالأسوار الكبيرة المربعة، وسور عال جدا، وبأبراج كبيرة مربعة يبلغ عددها نحو 20 برجا - كان قد شادها ملوك اليونان منذ الجيل الخامس عشر - ولم يزل بعضها إلى اليوم متينا. أما قلعة السبعة أبراج المتصلة بالأسوار، فهي معدة اليوم حبسا عموميا للحكومة، على حين كانت قديما من جملة أبواب المدينة، ويقول المؤرخون: إن القسطنطينية كان لها ثلاث وأربعون بوابة، ثم صارت إلى اثنتين وعشرين بقي منها إلى الآن سبع بوابات. وقال مؤرخو الإنكليز: إن فيها أربعمائة وخمسة وثمانين جامعا، وفيها مآذن كثيرة شاهقة في الجو، وبها ما ينوف عن الألفي حمام، وأشهر هذه الجوامع جامع أجيا صوفيا المتقدم الذكر. ولأجل زيادة الإيضاح نقول: إن الذي بناه هو الملك جوستينيان الأول، أحد ملوك الشرق، سنة 531ب.م، وتم في سنة 538. وقد اشتغل فيه مدة سبع سنوات ونصف مائة مهندس مع مائة قلف وعشرة آلاف فاعل، وطوله 270 قدما، وعرضه 243. وهذا الجامع - كما تقدم القول - كان كنيسة عظمى في أيام النصارى من أحسن كنائس الدنيا، ويوجد خلافه سبعة جوامع ملكية كلها مزينة من الداخل بالرخام، ومن الخارج بالمناهل، ولأكثرها مستشفيات ومكاتب لإغاثة الفقراء، ثم إنه يوجد في الآستانة ما ينيف عن مائتي مستشفى للمرضى، وتسع مارستانات للمجانين. وخارج جامع أجيا صوفيا توجد ساحة مربعة فيها أربع مآذن، وفي وسطه قبة عظيمة وسطها يعلو الأرض 180 قدما، وقطرها 115، وأسفلها محاط برواقين محمولين بين اثنين وستين عامودا، وقد خربتها الزلازل التي دمرت المدينة في أوقات مختلفة، فتجددت ثانية.
وأبواب هذا الجامع من النحاس الأصفر منقوش عليها تماثيل قديمة من عهد بانيه، ولم يزل على سقفه آثار من الصور؛ منها: صورة سيدنا عيسى عليه السلام، وصورة الملك قسطنطين، ويوجد في داخله 170 عمودا جميلا من الحجر السماقي والرخام، وعلى كل منها تاج قد زاغ عن أصله الهندسي بالنظر لما حصل فيه من التغيير والتبديل. ويظن أن هيكلا عظيما كان هناك فهدم، وعلى دائره ممشى يصعد عليه بسلم حلزونية عجيبة، وفوق المنبر يخفق سنجق السلطان محمد الفاتح. أما الآن فقد تبدلت الهيئة القديمة، ولم يبق منها إلا الأثر بعد العين، وقد كانت جدران هذا الجامع مزدانة بالنقوش المذهبة التي لما نظرها الطيب الذكر السلطان محمد الفاتح أمر بأن تغشى بالآجر كي لا ترى. وفي عهد السلطان عبد المجيد خان نزع عنها الكلس، وترمم ما فقد من الجامع المذكور حتى عاد إلى رونقه الأول، ثم إن كثيرا من المائة والسبعين عامودا المذكورة قد جلب من هيكل الشمس في بعلبك، ومن هيكلي الشمس والقمر في هاليبولي من مصر، ومن جامع ديانه المشهور في أفسس، ومن أثينا ومن جزائر بحر الروم.
أما جامع السلطان سليمان العظيم الملقب بالسليمانية، فهو أجمل ما يكون في القسطنطينية، بني في أواسط الجيل السادس عشر، وكمل عام 1556ب.م. أما الجوامع المشيدة، وتحسب من الطراز الثاني بالنظر إلى كبرها، فهي جامع السلطان أحمد ومحمد الثاني.
وفي القسطنطينية ساحة عظيمة تدعى ساحة آت ميدان كانت معدة لسباق الخيل طولها 900، وعرضها 450 قدما، وفيها مسلة من حجر الصوان بقطعة واحدة، جيء بها قديما من مدينة سيبس قاعدة مملكة الفراعنة ملوك مصر. وهذه المسلة قد بناها ثاوادسيوس الكبير، أحد ملوك الرومانيين. وفي الساحة الكبيرة يوجد العامود المتعطل لقسطنطين الملك معرى ومنزوعا عنه تمثاله النحاسي المصبوب صب رمل من عمل الأتراك في أول ما اغتنموا المدينة. وبين المسلة وعمود قسطنطين عامود آخر من نحاس أصفر على شكل حبل ملفوف، ويسمى عامود الحية؛ لأن عليه ثلاث حيات عظيمة متشابكة مع بعضها البعض، أقامه اليونانيون رصدا لتنفير الأفاعي، كما جرت العادة عندهم في بعض الخرافات. وكانت الحيات حاملة الكرسي المصنوع من ذهب في هيكل مدينة دلفي على ثلاثة قوائم كان يجلس عليها في الأزمنة القديمة الكاهن وأحد العرافين؛ لأخذ الوحي من الوثن جوابا على ما يسأل من أمر مهم يختص بمعرفة المستقبل، وكان يجلس على هذه الكراسي عدد معلوم من النساء، وقال بعض المؤرخين: إنهن عشرة كن يخبرن بروح النبوة، ويسكن في عدة أقسام مختلفة من بلاد العجم واليونان وإيطاليا.
وفي قسم آت ميدان من الجهة الشرقية يوجد الباب العالي؛ حيث يجلس الصدر الأعظم ورجال الدولة الفخام، وبالقرب منه السرايا المعروفة بطوب قبو سراي، وهي السراي التي جددها السلطان محمد الفاتح المنفصلة عن المدينة بسور متين، ولها ثمانية أبواب بعضها من جهة المدينة، وبعضها من جهة البحر. وطول هذه السراي نحو ستة آلاف ذراع ، ومبنية على مركز وقاعدة البزنتيوم، وتعد من السرايات الشهيرة العظيمة. تحيطها جنينة فسيحة تشب فيها الأشجار الشامخة في الجو، وعلى أطرافها الباب الهمايوني، وهو مدخل للسراي الخارجة المباح للجميع أن يدخلوا إليها، وهو عظيم الارتفاع على شكل دائرة تغشاها الكتابات العربية، وقائم عليه خمسون بوابا خفراء، وعلى أحد طرفي الباب كان هرم يدعى هرم الجماجم، كانت تعلق عليه رءوس المجرمين مكتوبا عليها ما يدل على ماهية الذنب الذي بسببه حكم على صاحبها بالقتل، وعند أطراف تلك السراي فسحة رحبة يقوم عليها بناء يشتمل على قبة قديمة شادها الملك قسطنطين الكبير، وهناك دار الأسلحة يوجد فيها جميع أنواع الأسلحة القديمة العهد معلقة على الترتيب، وهي مؤلفة من دروع وزرديات وسيوف ورماح وآلات إطلاق البارود وما شاكل ذلك من أدوات الحرب، وهناك أيضا أربعة أشخاص من الخشب عليها ملابس حديدية التي كانوا يلبسونها قديما؛ أحدها مرتد بزي الشراكسة، والثاني بزي أهل الفلاح، والثالث بزي الإنكشارية، والرابع بزي العسكر العثماني، ثم وبالقرب من تلك الفسحة توجد بقعة أخرى فيها الديوان الكبير، وأمامه سماط من شجر السرو على صفين ينتهي إلى قاعة الديوان المشيدة من الرخام المزدان بالنقوش الذهبية، وفيما يليها توجد دار عظيمة فيها كرسي الحضرة الفخيمة الشاهانية تحت قبة عالية مصنوعة من حجر الرخام، وعلى جانبها سراي الحرم المصون، وهناك حمام السلطان سليم الثاني وفيه 32 حجرة، ومن هناك تنظر الخزينة الملكية والضربخانة ودار الكتب وباب المالية والأوقاف. أما الحدائق المحاطة بالسراي فحدث عنها ولا حرج؛ فأغصان أشجارها تتدلى على مماشيها بنوع يبهج الناظر، وينابيع المياه المنبجسة من أعمدة الرخام القائمة فيها تتدفق كأنهار تجري في جنة غناء. أما زخرفة السراي العثمانية فلا شيء يفضلها في الجمال، لا سيما ما يختص بالذات الشاهانية؛ فإن حجرة عظمتها فيها منتهى التأنق والتحسين، وهي مغشات بالقماش الصيني الفاخر، وأرضها مفروشة بالطنافس الثمينة والتخت من فضة الكانوبا، والوسادات والأفرشة السفلى وملاءات اللحاف كلها وثائر منسوجة من قماش ذهبي.
وبالقرب من آت ميدان يوجد نفق تحت الأرض يدعى بينك برديراده، أي ألف عامود وعامود، كان قيسارية قديمة معروفة بقيسارية ألف عامود وعامود، وهي طبقتان مركبة على أعمدة غليظة من الحجر، وأكثر أعمدتها مطمورة بالتراب، وبالقرب منها يوجد العمود المحروق، وهو غليظ وطويل، ومن الحجر الرملي عليه تماثيل أشخاص وكتابات قديمة، ويقال: إن قوما من اليهود اشتروه من أحد الملوك العثمانيين؛ لظنهم أنه مصنوع من معادن ذهبية توهما منهم بكثرة لمعانه، ثم أحرقوه ليستخرجوا ما فيه من الذهب؛ ولذلك دعي بالعمود المحروق، وقد شاده الملك قسطنطين الكبير، وكان علوه أولا 130 قدما، وفوقه تمثال أبولون من نحاس، وهو بمثابة رجل عظيم البنية مثل الجبار، ويقال بأن صانعه كان فيدياس النقاش الشهير، ولما حدثت الزلزلة في إسلامبول عام 1150 تعطل ذلك العامود وسقط، ولم يبق من علوه إلا 90 قدما. وأبولون هو إله اليونانيين والرومانيين القدماء كانوا يعبدونه، ويعتقدون أنه الشمس مصدر الحرارة والضياء، وأنه المتولي صنعة الرمي بالقوس، وأمر النبوة، وصناعة الطب، وفن الموسيقى.
ومما يستحق الذكر أيضا في القسطنطينية الخانات المشاعة التي شادتها الحكومة لينزل فيها المسافرون من التجار، ويقيمون بها مجانا؛ ترغيبا لهم في جلب السلع والبضائع توسيعا لنطاق التجارة. أما أسواق المدينة فهي فسيحة جدا، وأشهرها سوق البازستان، وهي مبنية بالحجارة، ولها أبواب لا تفتح إلا في أوقات معلومة من النهار، وفيها أقدم تجار المسلمين وأغناهم، وبها تباع الأسلحة الثمينة، والملابس الفاخرة، والتحف النفيسة، ويلاصق هذه السوق عدة أسواق شهيرة، مثل: قلبجي جارشوسي وأذروجارشو.
أما أهالي هذه المدينة فهم على جانب عظيم من الرقة والدعة يؤانسون الغريب، ويكرمون مثوى الضيف، مشهورون في الفنون والصنائع، ولهم حسن محاضرة ومذاكرة. امتازوا بصون اللسان عن سفاسف الكلام، والمدينة اليوم هي مطمح الأنظار، ومحط رحال السياسة، أدام الله مولانا أمير المؤمنين نورا لبهجتها، وقمرا يسطع عليها ما كرت الأيام، وتوالت الأعوام.
في أصل بني عثمان
لقد اختلف أكثر المؤرخين في أصل سلالة آل عثمان؛ فالبعض ينسبون هذه العائلة الشريفة إلى سلالة عيسى بن إسحاق، وبعضهم يذهب أنها من طائفة بني قطورة جاءت من الحجاز بسبب القحط، ونزلت في بلاد القرمان، وكل فريق من المؤرخين يسرد الدلائل التي تؤيد مذهبه، وتقوي حجته، لكنهم قد أجمعوا أنها أشرف سلالة من العشائر الإسلامية، وأن جد آل عثمان هو سليمان شاه أتى بجماعته عام 1200 ميلادية، الموافق لسنة 621 هجرية، ونزل في صحاري بلاد أرمينية الكبرى؛ حيث مكث نحو سبع سنوات اشتعلت أثناءها نار الحرب بين الخوارزمي وعلاء الدين سلطان قونية وكبير السلاجقة، فتحزب سليمان شاه إلى السلطان علاء الدين، ونزل مع جيوشه إلى ميادين الوغى، ولبث يكافح معه حتى انتصر على أعدائه بواسطته.
وفي عام 628ه، لما أراد سليمان شاه المحكي عنه مغادرة تلك الأصقاع قاصدا عربستان مر بجماعته على نهر الفرات، وبينما كان يعبره مات فيه غريقا، ودفن عنده في مكان يعرف إلى الآن بمزار الأتراك، وترك أربعة أولاد؛ هم: سنقورتكين، وكون طوغدي، وأرطغرل، ودوندر، فرجع سنقورتكين وكون طوغدي إلى ناحية الشرق، وبقي أرطغرل ودوندر عند السلطان علاء الدين، وحضرا معه جملة حروب، فأظهر فيها أرطغرل البسالة والإقدام، ثم وقعت حرب شديدة بين السلطان علاء الدين على أعدائه، فشتت شملهم، وأباد أثرهم، فكافأه علاء الدين بأن أعطاه بلاد سكود واسكي شهر.
عاش أرطغرل 90 عاما، وتوفي عام 680، ودفن بمدينة سكود تاركا ثلاثة أولاد؛ وهم: عثمان بك، وساوجي بك، وكندوز بك، وقد تقلد منهم قيادة الجيش عثمان بك بالنظر لشجاعته وبسالته، فأسس بناء الدولة والملك، ومن المحقق أن نسل آل عثمان الأثيل يتصل بيافث بن نوح، وهاك سلسلتهم الطاهرة:
السلطان عثمان بن أرطغرل، بن سليمان شاه، بن قيالب قزل بوغا، بن تيمور، بن قونلوغ، بن تفاد، بن قينون، بن سافور، بن بولغاي بن بايسنقور، بن توقتمور، بن باسوق، بن جندور، بن باقي، بن كوك ألب، بن أرغو، بن قره خان، بن قونلق، بن توترق، بن قره خان، بن بايسوق، بن بولواج، بن تغار، بن سونج، بن جاربوغا، بن قورتلمش، بن قره خان، بن عمود، بن سليمان شاه، بن قره خول، بن قولفاي، بن باتيمور، بن طوسي، بن بابلق، بن طورغا ، بن طوغمش، بن كوجك بك، بن أونوق، بن قوتاق، بن جك جكتمور، بن طورج، بن قزل، بن يماق، بن باشبوغا، بن قورتلمش، بن فورجه، بن بالجق، بن قوماي، بن قره أوغلال، بن سليمان شاه، بن قولو، بن بولغار، بن باتيمور، بن طورمش، بن كوكب ألب، بن أوغوز، بن قره خان، بن قاني خان، بن بولجاي، بن ماجيه، بن أبي الحارث، بن يافث، بن نوح.
وقد تولى من آل عثمان حتى الآن تخت السلطنة السنية خمسة وثلاثون سلطانا عظمت بهم شوكتها، وامتدت سطوتها، وعظم شأنها، وبذخ مقامها. وبما أن الوقوف على ترجمة حياتهم السعيدة من الأمور التي تكسبنا العز والفخار، وتمنحنا البهجة والوقار؛ لما أتوه من الفعال التي لا تذكر معها أعمال الأكاسرة، وانتصارات القياصرة، كيف أنهم فتحوا المدن العظيمة، ودمروا الحصون المنيعة، وقهروا الجبابرة، وامتلكوا معظم الدنيا برا وبحرا، وكيف كانت الدول الإفرنجية ترتعد من سطوتهم، وتقدم لهم الطاعة والخضوع، وتتزلف إليهم في سائر الأمور حتى إلى يومنا هذا، أردت أن أغبط نفسي وأسعدها بتدوين قليل، ودون القليل، من ترجمة كل طيب الذكر من السلاطين الفخام آل عثمان الكرام، خلد الله ذكرهم، وأعز شأنهم على الأنام طرا.
السلطان الأول
السلطان عثمان الغازي بن أرطغرل
ولد الطيب الذكر السلطان الأول، السلطان عثمان الغازي بن أرطغرل، عام 656 هجرية، وشب على البسالة والإقدام والشجاعة والكرم، ولما بلغ الحلم انتقل والده إلى جنة ربه، فخلفه في قيادة جيش عشيرته، ولبث مصافيا للسلطان علاء الدين، ويساعده في افتتاح جملة مدن منيعة، وعدة قلاع حصينة، فأتحفه مكافأة له بالطبل والعلم، وبسكة ضرب المعاملة، وأمر بأن تخطب صلاة الجمعة باسمه العزيز. وفي عام 699، زحف جيش جرار من جماعة التتر على سلطنة علاء الدين، وفزعوا عليه بالحرب العوان، وبعد أن ناهضهم طويلا ولم ينله الله الفوز عليهم؛ شق رعاياه عليه عصا الطاعة، وجاهروا بعدوانه، فاضطروا إلى المهاجرة لبلاد الروم، وهناك توفي، وحينئذ انقرضت الدولة السلجوقية، فقام الأهلون على قدم وساق، ونادوا باجتماع الكلمة باسم عثمان الغازي بن أرطغرل سلطانا عليهم، فجلس على مهد السلطنة عام 699 للهجرة، وتمركز في مدينة قره حصار، ودعاها بادشاه، ثم حصن مدينة يكي شهر وجعلها مركزا له، وأخذ يحكم بالقسط والعدل، وينصف المظلوم من الظالم، ويعطي لكل ذي حق حقه حتى رتع سكان سلطنته في بحبوحة الرغد والسعادة، وبعد أن نظم أحوال داخلية البلاد شرع في توسيع نطاق ملكه، فحاصر مدينة أذنك، وشاد أمامها قلعة حصينة دعاها «نزغان» باسم قائد الجيش.
وفي عام 707ه، داخل والي بروسه الخوف من طموح السلطان عثمان إلى بلاده، فأثار عليه سرا ولاة البلاد المجاورة ليقاوموه، ولكن لما اتصل به الخبر شن عليهم الغارة عاملا بهم السيف حتى مزق شملهم، وقتل صاحب قلعة كستل، وبعث بابنه أورخان خان يقود جيشا كثيفا إلى مدينة بورصه، وبعد أن حاصرها مدة دخلها عنوة، وأذن لأهلها أن ينصرفوا منها بدون أن يهرق منهم قطرة دم، وكان ذلك عام 726ه، ثم شرع في تنظيم أحكامها، وتحصين قلاعها.
وفي أثناء ذلك جاء رسول من قبل والده يستدعيه إليه، فأطاع وراح مسرعا، ولما أن دخل على أبيه ألفاه يتقلب على فراش الموت، فاغرورقت عيناه بالدموع وخاطبه بقوله: يا أعظم سلاطين البر والبحر، كم قهرت أبطالا، وافتتحت بلدانا! ما لي أراك في هذه الحالة؟ فأجابه والده: لا تجزع يا بني، هذا مصير الأولين والآخرين، وإنني الآن أموت فرحا مسرورا لكونك تخلفني وتقوم مقامي بإدارة هذا الملك السامي. ولم يتم كلامه حتى انتقلت روحه إلى جنة السعادة، ونقلت جثته إلى زاوية قلعة بروسه؛ حيث دفن بكل إكرام وإجلال. وكان ذلك عام 726ه، بعد أن عاش سبعين سنة قضى منها 27 عاما على تخت السلطنة.
وكان رحمه الله شجاعا باسلا، شديد البأس، سديد الرأي، عالي الهمة، كريم الخلق، أبي النفس، كريما يحب الإحسان لبني الإنسان، ومن وفرة كرمه لم يترك شيئا لخليفته سوى حلة مطرزة، وعمامة مضرجة، وبعض مناطق من القطن نسجت على هيئة بسيطة. رحمه الله وجعل الجنة مأواه.
السلطان الثاني
السلطان أورخان ابن السلطان عثمان الغازي
ولد السلطان أورخان ابن السلطان عثمان الغازي عام 680 للهجرة، وما بلغ سن المراهقة حتى ظهرت عليه مخائل النجابة والذكاء، ومال إلى حمل السلاح، ومصافحة البيض الصفاح، وركوب الخيل والاختلاط مع الأبطال من الرجال، والنزول إلى ميادين الوغى والقتال.
وقد قلده والده قيادة الجيش في جملة غزوات، فعاد فائزا منصورا، وجلس على كرسي المملكة عام 726ه، عقيب وفاة والده الطيب الذكر السلطان عثمان الغازي، فعين أخاه علاء الدين وزيرا، وأمره بوضع الشرائع، وسن النظامات على ما يلائم طبائع العباد، ثم نقل كرسي الحكومة إلى مدينة بروسه، وجعلها مركز السلطنة، واهتم بعدئذ في توسيع نطاق المملكة، فأقام أخاه علاء الدين وكيلا عنه بالنظر لما تبينه فيه من الإخلاص، وزحف بجيش جرار يبلغ العشرين ألف مقاتل على بلاد اليونان، فاشتبك معهم بحرب يشيب لهولها الأطفال، فأولاه الله النصر عليهم، وانتزع منهم قلعتي أزميد وأزنيق، وامتلك ولايتي قره سي وبرغمه، ثم حاصر قلعتي سمندره وأيدوس زمنا طويلا حتى استولى عليهما، وأسر صاحب قلعة سمندره في يوم كان خارجا فيه لدفن أحد أولاده.
وفي عام 750ه، رغب في فتح بلدان من أوروبا، فوكل بذلك ابنه سليمان خان، الذي كان قد ولاه منصب الصدارة العظمى بدلا عن أخيه علاء الدين، فركب بثمانين بطلا من رجاله على لوحي خشب عابرا بهم في بحر مرمرا إلى الجهة الأخرى، ولما وطئوا اليابسة افتتحوا مدينة ظنب ومدينة كليبولي، واستولوا على عدة قلاع حصينة ومدن من بلاد اليونان ضموها إلى السلطنة العثمانية.
وفي عام 760ه، ركب سليمان خان جوادا ذات يوم، وأخذ يلعب بالجريد، فسقط على ظهره ومات، فدفنه والده بكل احتفال وتعظيم على شاطئ بحر مرمرا؛ حيث شاد له مقاما، ومن شدة ما تأسف عليه وانفطر قلبه حزنا لفراقه؛ تراكمت عليه الأمراض، وقبض بعد سنة من موت ولده عام 761 عقيب أن قضى على كرسي الملك 35 سنة، قضاها في تنظيم شئون الرعية، وفتح المدن والبلاد، وضمها إلى سلطنته العلية. وقد واروه التراب بما لاق له من التعظيم بجوار ضريح والده الطيب الذكر السلطان عثمان الغازي أسكنهما الله فسيح جناته .
وكان هماما عادلا رءوفا ذا هيبة، محبا لنشر العلوم والآداب، كريم النفس، ثاقب الفكر، كبير العقل، رحمه الله رحمة واسعة، وسقى ضريحه صواب الرضوان والنعمة.
السلطان الثالث
السلطان مراد الأول ابن السلطان أورخان الغازي
ولد عام 726 للهجرة، ويفع على كرم الأخلاق وتمام الكمال، مزدانا بكرم الخلق، ووفرة الحلم، ولما بلغ أشده حضر جملة مواقع في محاربة والده لليونان، فأظهر بسالة لا توصف، وإقداما يسير بذكره الركبان، وقد جلس على سرير السلطنة عقيب وفاة والده عام 761ه، بالغا من العمر خمسا وثلاثين سنة، ولم يقبض على منصة الأحكام حتى شاقه فتح البلاد توسيعا لنطاق المملكة، فساق جيوشا نحو بلاد أوروبا، فضرب أدرنه، وعندما افتتحها نقل إليها كرسي السلطنة واستقر بها عام 763، ثم ساق جنوده نحو بلاد البلقان فتبوءوا مدنها، وافتتحوا حصونها، وبعد ذلك أبرم معاهدة صلح بينه وبين ملك اليونان، بيد أن تلك المعاهدة لم تطل زمنا؛ حيث اجتمع جيش جرار من اليونان وبوسنه والمجر والأفلاق، وحاصروا مدينة أدرنه، فوثبت عليهم الجنود العثمانية - وهم نيام - مهللين مكبرين ضاربين الطبول، حتى استيقظ عسكر العدو مذعورا من تلك الأصوات، فالتجأ إلى الفرار طارحا نفسه في مياه نهر هناك. ثم وجه عساكره المظفرة إلى جهة آسيا، فافتتحت فيها جملة بلاد، وفي أثناء ذلك بلغه أن بعض اليونان شقوا عصا الطاعة، ورغبوا في العصيان، فزحف عليهم عاملا بهم السيف حتى أخضعهم، واغتنم مدينة أنديجر، وحاصر مدينة سيذيبولي فأخضعها بعد زمن طويل، وقد عقد لولده بايزيد على بنت حاكم قرمان، بغية أن يجعل الألفة والاتحاد مع حكام آسيا الصغرى، وجرت حفلة النكاح بحضرة نواب سوريا ومصر، ووزعت بأثنائها على العلماء الكرام والرجال الفخام هدايا ثمينة من أوان ذهبية وفضية مزركشة بالزمرد والياقوت.
وفي سنة 791، تألفت عساكر من الصرب وبوسنه وهرسك والأرناءوط والأفلاق والبغدان، وتعاهدوا على محاربة الجنود العثمانية، والاستيلاء على بلادها، ولما بلغ الخبر مسامع السلطان ألف مجلسا من أمراء العساكر وكبار رجال الدولة للمداولة معهم فيما يجب اتخاذه من التدابير توصلا لعاقبة محمودة، فأبطل ولده بايزيد كل مشورة وهتف قائلا: الحرب الحرب، والقتال القتال. فدقت حينئذ طبول الحرب، وسارت الجنود إلى ساحات الكفاح سير الذئاب الكاسرة، ولما بلغوا ميادين الوغى وثبوا على الأعداء وثبات الأبطال، والتحموا معهم في القتال التحاما لم يعد يرى معه إلا جماجم طائرة، وفرسان غائرة، ودوي سرح تدك الجبال الشامخة. وبعد عدة ساعات، انجلت المعركة عن فوز العساكر الشاهانية، عقبت أن أسروا قرال السرب، ثم بعد ذلك أخذ السلطان مراد يتمشى بين القتلى، وإذ كان ينظر إليها بعين الاندهاش، نهض رجل من بينها ملطخا بالدماء وطعنه بخنجر، فسقط على الأرض يتخبط بدمه، ومات شهيدا بعد بضع ساعات، لكن قبل وفاته أمر بقتل حاكم السرب المأسور، وتقطيع القاتل له إربا إربا، ثم نقلت جثته الشريفة إلى بروسه، وهناك دفنت بكل تعظيم وتبجيل. أسكنه الله دار النعيم.
عاش خمسا وستين سنة، وتوفي سنة 791 بعد أن تربع على تخت السلطنة مدة ثلاثين عاما أعلى فيها شأنها، ووسع نطاقها، وأوجد العلم العثماني وهيئة الطغراء الشاهانية، وشاد أبنية عظيمة من جوامع ومدارس وقلاع وحصون وغير ذلك، ومن أشهر آثاره سراي أدرنه، وكانت غزواته وفتوحاته 37.
كان رحمه الله شديد البأس، عالي الهمة، ثابت العزم، قوي الجأش، واسع العقل، لين العريكة، محبا للرعية. رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان الرابع
السلطان بايزيد الأول ابن السلطان مراد الأول
ولد عام 761ه، وجلس على كرسي الملك بعد وفاة والده الطيب الذكر عام 791 وله من العمر ثلاثون عاما، ولقب بالبرق لخفته ومهارته بالحرب، وكان أخوه الأكبر يعقوب خان أولى بالخلافة منه بالنظر لكونه الكبير، ولكي يأمن من منازعته قتله، فلامه رجال السلطنة على ذلك وشدوا عليه النكير باللوم والتعنيف، فقال لهم: إن أمير المؤمنين الذي هو ظل الله في أرضه يجب أن يكون واحدا في الأرض كما أن الله واحد في السماء. ومن ذاك الوقت جرت العادة بين ملوك آل عثمان بقتل إخوة السلطان أو سجنهم في محابس معدة لهم تحت الحفظ، ولم تنسخ تلك العادة إلا على عهد الطيب الذكر السلطان عبد المجيد خان.
وبعد أن جلس السلطان بايزيد على تخت السلطنة جرد جيشا كثيفا زحف به إلى السرب، فاستولى على مدينة أزبورنا وويدين، ولما تقدم حتى يمتلك مدينة سكوب خاف ملك السرب، وعقد للسلطان بايزيد على أخته تقربا منه وتوددا، وليأمن شر غائلته تعهد له بتقديم جانب له من العساكر، وخراجا له سنويا من المال وافر المقدار. وفي تلك الأثناء وقعت منازعة بين «جوان» ملك القسطنطينية، وبين ابنه أندرونيكوس وولد ابنه بشأن الملك، ولما حبسهما الملك جوان استغاثا بالسلطان بايزيد، فأنقذهما وقلدهما الملك، فتعهدا لجلالته بأن يدفعا إليه قناطير مقنطرة من المال في كل عام، ثم سجن مكانهما في برج هناك الملك جوان وولده عمانويل، غير أن الملك جوان فلت مع ولده من السجن، وامتثل بين يدي السلطان بايزيد، وعاهده على أن يقدم له فورا مقدار الذهب المتعهد به ابنه أندرونيكوس، علاوة على ذلك 62 ألف مقاتل، فقبل منه السلطان ذلك، وأجلسه على كرسي الملك، ونفى ابنه أندرونيكوس إلى جزائر البحر الأبيض.
وفي تلك الأثناء وقع الصلح بين السلطان بايزيد وملك السرب، وتعهد هذا الأخير ببناية الجوامع والمدارس والمحاكم. وفي عام 794 أمر ببناء جامعه الشهير في مدينة أدرنه، وخصص لمصاريفه بعضا من دخل مدينة الأشهر التي اغتنمها من أيدي اليونان، وشاد بها جملة جوامع ومدارس، ثم هجم على بلاد علاء الدين، حاكم قرمان، فاستولى على ولاية قونية وسيواس وملاطية، وبعد أن أخضع البلاد في جهة الأناضول عبر البحر للجهة الثانية من قارة أوروبا، طلب من جوان ملك القسطنطينية ما عاهده به، فلبى الطلب، وبعث إليه بقسم من عساكره تحت قيادة ولده عمانويل. وفي ذلك الزمان، توجهت العمارة العثمانية فاستولت على جزيرة رودوس وعلى عدة جزر خلافها، فاستاء الملك جوان من ذلك، وشرع يحصن أسوار القسطنطينية ويستعد للدفاع، ولما بلغ ذلك السلطان بايزيد أعلمه بقوله: إما أنك تهدم أسوار القسطنطينية، وإما أني أطفئ نور عيني ولدك عمانويل. فهاله هذا التهديد، واضطر إلى السمع والطاعة، ولم يلبث طويلا بعد ذلك حتى مات كئيبا حزينا، ولما علم عمانويل بوفاة والده غافل السلطان بايزيد وجاء القسطنطينية يتولى مكان والده، فأرسل السلطان قسما من جنوده لحصار القسطنطينية، وقسما آخر لمحاربة البلغار الفلاق، فاستولوا على عدة مدن منها، ثم أخضع البلاد الجنوبية من جهة الأناضول، وانتقل منها فامتلك جهات قاضي بهران الدين وعلى المقاطعات العشر السلجوقية.
وفي عام 1394 ميلادية، الموافق سنة 796ه، عقيب أن أخمد الفتن في جهات الأناضول، حشد الجيوش وأعد مهمات الحرب لفتح القسطنطينية، فقطع إلى جهة أوروبا، واستولى على مدينة سالونيك وتمركز فيها، ثم ساق الجيوش إلى الجهة الشمالية في بلاد البلغار. ولما بلغ ذلك سيزمان، قرال البلغاريين، خاف كثيرا وجاء إلى أوردي علي باشا، وزير السلطان بايزيد، ومعه ولده، ووضع كل منهما في عنقه منديل الأمان، فأمنهما على حياتهما، وأرسل الأب إلى مدينة فيليبولي، وأبقى الولد في معسكر السلطان، ولم يلبث مدة حتى اعتنق دين الإسلام، ولما علم سيجموند، ملك المجر، افتتاح السلطان بايزيد بعض مدائن البلغار التي تحت لوائه، أنفذ للسلطان رسولا يقول: من أين لك الحق أن تستولي على البولغارستان؟ فلما امتثل الرسول بين يدي السلطان أراه حزمة من القوس والنشاب وقال له: اذهب وأخبر مولاك بما نظرت. وكان هذا الجواب دليلا على مقاومة الجنود العثمانية، فانطلق حالا إلى مدينة رومية، وانطرح على أقدام البابا بونفياس الثاني طالبا منه المعونة والإسعاف، فأنجده البابا مع كارلوس الثالث، ملك فرنسا، بعشرة آلاف مقاتل، وأنفذهم إليه تحت قيادة الشاب نافار ابن ملك بورغونيا. وقد انضم إلى أولئك الجنود شيفالير سنجان في القدس الشريف، وصاحب الفلاق مع جنوده حتى توفر لدى صاحب المجر ثمانون ألف مقاتل زحفوا على عساكر الإسلام، وأقاموا على حصار نيكوبولي.
أما السلطان بايزيد فقد ابتدرهم بالهجوم، واشتبك معهم في الصدام والكفاح في معركة جرت بها الدماء أنهرا وسيولا، وانجلت عن فوز العساكر العثمانية، بعد أن استأسروا من الأعداء 10 آلاف أسير، ولما أحضروهم أمام السلطان ذبحوهم أمامه، إلا الشاب نافار فإنه لم يقتل بأمر السلطان بالنظر لشجاعته وبسالته. وعقيب هذه النصرة أغار بايزيد على بلاد المجر، وفتح فيها جملة حصون، ثم قهر جوان ملك القسطنطينية، وضرب عليه جزية قدرها عشرة آلاف ريال، وأمره بقيام جامع، وتنصيب قاض للإسلام.
وبعد جملة انتصارات وعدة فتوحات عاد مظفرا منصورا إلى مدينة بورصه، وهناك أقام يتمتع باللذات مدة من الزمان، وبينما هو على تلك الحال إذ وفد إليه رسول من قبل الملك تيمورلنك ملك التتر ينهيه من هذه الغفلة، فأغلظ له الجواب، وانصرف الرسول مخذولا، فتحزب ملك القسطنطينية مع بعض ملوك أوروبا واستنجدوا تيمورلنك، الذي كان يفتح حينئذ البلاد في جهة خوارزم وبين النهرين لمقاتلة السلطان بايزيد. فلما علم السلطان بايزيد بعزائم المذكورين جمع جيوشه، وتقدم بهم حتى قطع البحر من جهة أوروبا وحاصر القسطنطينية عاقدا العزم على فتحها. وفي أثناء ذلك، بلغه زحف عساكر التتر إلى أطراف بلاده، فشق عليه الأمر، وبالأخص عندما علم بخذلان أبطاله في مدينة سيواس، حيث استظهر عليها تيمورلنك وقتل ابنه أرطغرل، لكنه بعد أن تدبر للأمر استصوب رفع الحصار عن القسطنطينية، وحشد جيوشه التي كانت متفرقة في جهات أوروبا وآسيا عائدا بها إلى بورصه. أما انتصارات تيمورلنك فقد ملأت الأسماع، وألقت في قلوب العساكر العثمانية الخوف والرعب، بالنظر لما كانت تأتيه من القساوة في معاملة الأسراء، فمن معاملته السيئة أنه عندما افتتح سيزاوار بنى فيها برجا من أجساد محاربيه، وأنه أخذ نحو ألفين من الرجال الأحياء ثم وضع بعضهم فوق بعض نظير الحجارة، وبناهم بالطين واحدا فوق الآخر، وفي واقعة سيواس أخذ فرسان الأرمن، وأحنى رءوسهم بين أرجلهم وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب.
أما السلطان بايزيد فانتقاما لدم ابنه زحف بجنوده على تيمورلنك، والتقى به في سهل أنقرة، وكان قواد عساكر تيمورلنك أربعة من أولاده، وقواد السلطان بايزيد خمسة من أولاده؛ وهم: موسى وسليمان ومحمد وعيسى ومصطفى، فانتشب بينهم القتال من الصباح إلى المساء، غير أن أكثر جنود السلطان بايزيد، وبالأخص الآلايات المؤلفة من التتر خانوه منضمين إلى عساكر تيمورلنك، فلما نظر ذلك عول على الانهزام، وفي أثناء هربه سقط عن ظهر جواده، وأخذ أسيرا في 19 ذي الحجة سنة 803ه، الموافق 20 يوليو سنة 1420 ميلادية، فلما رأى ولده موسى أنه أخذ أسيرا تبعه، وانهزم أخواه سليمان ومحمد، أما مصطفى فقد اختفى ولم يذكر عنه المؤرخون شيئا، بل لقبوه بالضائع، ولما وصل السلطان بايزيد أمام تيمورلنك اقتبله بما يليق به من الإجلال والتعظيم، ثم أجلسه إلى جانبه، وأمنه على حياته، وأمر بأن تنصب له ثلاثة صواوين، وأمر حسن برلاص أن يكون له نديما. وكان تيمورلنك قد قدم إلى تلك الأطراف بسبب أحمد جليار، سلطان العراق، الذي كان أغار عليه فهرب والتجأ إلى السلطان بايزيد، ولما طلبه منه ولم يرد أن يسلمه إليه أغار على بلاده منتقما منه؛ لإغاثته بعض ملوك أوروبا وملك القسطنطينية الذين استنجدوه عليه.
وبعد هذه الحادثة بثمانية شهور توفي السلطان بايزيد في آق شهر عام 805، فنقل ابنه موسى جثته إلى بروسه، حيث دفنه قرب ضريح أبيه السلطان مراد الأول تغمدهما الله برحمته ورضوانه.
السلطان الخامس
السلطان محمد خان جلبي ابن السلطان بايزيد الأول
ولد عام 781ه، ولما بلغ أشده خاض ميادين الوغى تحت دربة والده ملازما إياه حتى يوم وفاته، وبعد ذلك وقعت المنازعة بينه وبين إخوته مدة إحدى عشرة سنة، فاختلس تيمورلنك تلك الفرصة وأخذ يتلاعب برجال الدولة بما اشتهر به من الذكاء والدهاء، وفي تلك المدة ثار الإنكشارية وتمردوا، فقتلوا سليمان ابن السلطان، فانتقم منهم أخوه موسى وأحرق منهم كثيرين، ثم إن موسى هذا كاد لأخيه محمد خان، فرجع كيده في نحره وقتل، فهدأت بموته القلاقل والاضطرابات، وجلس أخوه محمد خان على تخت السلطنة عام 816ه، فجاءه رسل من ملوك اليونان والإفرنج يقدمون لعظمته التهاني والهدايا، فأنعم على ملوك اليونان ببعض أماكن كان اغتنمها منهم أسلافه، وعقد الصلح مع ملوك الإفرنج، ثم شرع في إصلاح شأن السلطنة، وإعلاء شأنها باسترجاعه البلاد التي كان سلخها عنها تيمورلنك، واستعاد بغداد من أمير قرمان، وأخضع بلاد السرب، وفتح مدينة أزمير، وضرب الجزية على بلاد الفلاق، وحارب مشيخة البندقية، وعقد الصلح مع عمانويل ملك القسطنطينية، ونصب كرسي ملكه في أدرنه، وهو أول من شكل العساكر البحرية.
وفي عام 824ه، مرض بالإسهال الدموي، وقبل أن يدنف كتب إلى ابنه مراد، الذي كان وقتئذ في أماسيا، يخبره بمرضه، ويشير إلى استخلافه. وبعد أيام قليلة توفي في العام ذاته، فأراد كبراء الدولة إخفاء موته عن الجنود إلى أن يحضر ولده، وكان الديوان يجتمع كل يوم للنظر في تدبير أمور المملكة حسب العادة المألوفة، فأصدر أمرا للجنود ليتوجهوا إلى فتح بعض البلاد، فأطاعوا وطلبوا قبل سفرهم مشاهدة سلطانهم المحبوب، فاعتذر لهم رجال الديوان بأن ذلك يزعجه ويثقل مرضه، فلم يرضوا ولبثوا ملحين في نوال ملتمسهم، فأمروهم أن يمروا تحت كشك القصر، وهناك ينظرون السلطان، حيث إن جثته لم تكن دفنت، فأجلسوه في نافذة من القصر، وجلس خلفه رجل يحرك له يده، فمرت الجنود تحت النافذة، وفرحوا فرحا عظيما من مشاهدة سلطانهم، وذهبوا إلى الحرب كالأسود الكاسرة، واستمر خبر وفاته مكتوما عن العساكر وعامة الناس مدة أربعين يوما حتى وصل ولده السلطان مراد، وجلس على تخت السلطان، ونقل جثة والده بكل إكرام إلى بورصة حيث واراها التراب في جوار جامع يشيل. تغمده الله برضوانه.
وكان رحمه الله يحب بناء الجوامع، ويميل إلى رجال العلم والمشايخ، ويرسل الصدقات. وهو أول من أرسل صرة من الذهب إلى شريف مكة المكرمة ليوزعها على الفقراء، وكان ذكي العقل، شديد البياض، أسود العينين، عريض الحاجبين، فسيح الجبهة، مرتفع الصدر، مستقيما في تصرفاته، عادلا في أحكامه، كريما شفوقا على الرعية. وهو الذي خلص المملكة من الدمار، وأعاد لها شرفها الباذخ حتى إن بعض المؤرخين لقبه بنوح في تخليصه فلك المملكة من طوفان التتر.
السلطان السادس
السلطان مراد خان الثاني ابن السلطان محمد جلبي
ولد عام 806 للهجرة، وجلس على كرسي الملك عام 824، وبعد جلوسه أعلم بذلك ملك المجر وملك اليونان وأمير مانتشا وكرماني، فهنأه أمير كرماني وسيسموند، وطلب إليه أن يهادنه خمس سنوات، ثم طلب منه ملك القسطنطينية إتمام المعاهدة التي ارتبط بها مع والده المغفور له السلطان محمد خان، وتأمينا على إتمامها يلزم أن يرسل إليه أخويه على سبيل الرهن، أما إذا أبى فإنه يطلق سراح مصطفى ابن السلطان بايزيد الملوذ به في سالونيك، ويعلم بوجود دول الإفرنج، فأغلظ السلطان له الجواب بواسطة وزيره بايزيد باشا، ولم يخش له وعيدا ولا تهديدا. ولما أن سمع الجواب استشاط غيظا، وأطلق للحال سبيل مصطفى، ثم مده بقوة حربية تحت شرط أن يعيد إليه مدينة كاليبولي وبعض مدن أخرى انتزعها من يده سلاطين آل عثمان في الكفاح والقتال، ففلت مصطفى من مربضه، وساق عشرة مراكب حربية تحت إدارة ضباط من قبل عمانويل، ملك القسطنطينية، ثم سير جنودا برية، ولما أشرفوا على كاليبولي سلمت لهم ما عدا القلعة فحاصروها، وإذ ذاك أرسل السلطان مراد وزيره بايزيد بثلاثين ألف مقاتل، فناهضهم مصطفى حتى تغلب عليهم، وقبض على قائدهم بايزيد وقتله.
وحدث بعد فتح المدينة أن ضباط ملك القسطنطينية طلبوا من مصطفى أن يقيم بوعده، ويسلمهم إياها، فأجابهم بأنه يجاهد لمنفعته وليس لمنفعة ملكهم، فلما سمعوا منه ذلك خاب منهم الأمل، وأخبروا ملكهم بما كان، فندم على ما فعل. أما السلطان مراد فعندما بلغه قتل بايزيد، وانفشال جنوده، نهض لمحاربة أخيه بنفسه، غير أن مصطفى عرض له في تلك الأثناء رعاف شديد أوقفه عن المحاربة مدة ثلاثة أيام انضم في خلالها أكثر جنوده إلى عساكر أخيه السلطان مراد، ولما كان رأى ذلك هرب إلى كاليبولي، ثم فر منها إلى الفلاق، فخانه بعض أتباعه على الطريق وقتلوه، فخمدت بموته نيران الفتن، وانطفأت الحروب الداخلية، وأعاد السلطان مراد لسلطنته ما كان لها من الرونق والبهجة.
وبعد ذلك زحف على القسطنطينية، ولما أن صار على مقربة من أسوارها نادى بالحرب، وأباح للعساكر السلب والنهب والسبي، فكروا عليها جملة كرات وارتدوا عنها دون أن يدخلوها بالنظر لمنعة أسوارها، ثم سار السلطان إلى بلاد آسيا وامتلك منها جملة مدن، ثم استولى على مدائن واقعة على شاطئ البحر الأسود، وعقد الصلح مع أهل السرب والفلاق، وشن الغارة على البلغار، فلم ينتصر عليهم، واستشهد من جنوده نحو العشرين ألفا، بيد أن انخذاله لم يضعف منه العزيمة، فجهز ثمانين ألف مقاتل أرسلهم تحت إمرة شهاب الدين باشا، فقاومه ملك البلغار وأخذه أسيرا، واستأسر من جماعته نحو 500، ثم جرد عسكرا آخر وتولى الحرب بنفسه، فلم يظفر بأعدائه، وانكسرت عساكره وأسر منهم نحو أربعة آلاف جندي، فارتدوا إلى وراء البلقان، وعقد مع الأعداء هدنة صلح على عشر سنين، وتنازل عن الملك لولده محمد البالغ من العمر 14 سنة، وأناط الوزراء بتدبير مهام السلطنة، وانعزل في مدينة مونيزيا. وقد تنحى عن الملك بسبب الحزن الذي استولى عليه لوفاة ولده علاء الدين، أما ملوك الأعداء فلما علموا بتنازله لولده أخلفوا وعودهم، وانطلق قوم من الفلاق فأحرقوا 24 مركبا من المراكب السلطانية، واستولوا على جملة قلاع من قلاع مدائن الدولة، وفتحوا مدينة وارنو. ولما استفحل أمرهم، وعظم خطبهم، أسرع رجال الدولة في استدعاء السلطان مراد لينقذ البلاد من الوقوع في أيدي الأعداء، فلبى طلبهم، وسار إلى محاربة سلطان المجر بأربعين ألف مقاتل، فهزم جيوشه ومزقهم شر ممزق، ثم رمى سلطانهم بجريدة فألقاه عن ظهر جواده، وأسرع إليه أحد الإنكشارية فقطع رأسه ووضعه على سنان رمحه مناديا بعساكر المجر بقوله: ها هو رأس ملككم. فانخذلوا عند علمهم بذلك، ولجأوا إلى الإدبار والفرار، ولما هدأت الحال رجع السلطان إلى مونيزيا، ومكث في التكية متعبدا، وما فاتت مدة حتى احتاجت إليه المملكة؛ لأن الإنكشارية لاستخفافهم بولده أحدثوا شغبا في المدينة، وأحرقوا بعض المنازل والأسواق ناهبين فاتكين دون رأفة وشفقة. ولما أن حضر أرسل ولده إلى مونيزيا، وكبح جماح الإنكشارية، وردعهم بسيفه البتار عن التمرد والعصيان، ثم ركب على قسطنطين، أمير الموره، وعلى بلاد الأرناءوط بستين ألف مقاتل فأخضعهم.
وفي عام 855ه، الموافق عام 1450م، توفي بداء النقطة، فأسفت المملكة على موته أي أسف، وكان قبل ذلك قد أوصى ولده السلطان محمد الثاني بفتح القسطنطينية.
عاش 49 سنة قضى منها على تخت السلطنة 21 سنة، وكان تقيا صالحا، وبطلا صنديدا، محبا للخير، ميالا للرأفة والإحسان.
السلطان السابع
السلطان محمد خان الفاتح ابن السلطان مراد الثاني
هو ابن السلطان مراد، ولد في مدينة أدرنه عام 833ه، وصعد على تخت الملك عام 855، وحال جلوسه وضع نصب عينيه تنفيذ وصية والده القاضية عليه بفتح القسطنطينية، فشرع في بناء القلاع على شاطئ بوغاز القسطنطينية، وإعداد جميع ما يلزم من مهمات الحرب، ولما بلغ ملك القسطنطينية ذلك هاله الأمر، وبعث رسله على الفور إلى السلطان محمد خان يستجلي منه حقيقة نواياه. ولما لم يكترث السلطان به أو يلتفت إلى رسله؛ طلب الإمداد من دول الإفرنج، ووعدهم مكافأة لهم بضم الكنيسة الرومية إلى الكنيسة الرومانية، فأرسل البابا وملك نابولي ومشيخة جينوا عددا عظيما من الجنود لينضموا إلى عساكره في ساحات القتال، غير أن اليونان لما عرفوا بأن مساعدة دول الإفرنج لهم مبنية على ضم كنيستهم إلى الكنيسة الرومانية استاءوا كثيرا، وكمنوا البغضة في قلوبهم لملكهم قسطنطين دراغايس ابن الملك عمانويل؛ لأنه سيكون السبب بضم تينك الكنيستين، وكانوا يزعمون أن الله سوف يخرب القسطنطينية حتى يصيرها قاعا صفصفا، وأن المدافعة عنها تعد منهم من باب الكفر والإلحاد. وكان أحد وزرائهم المدعو نوتاراس ينادي في شوارع المدينة قائلا: أود من سويداء القلب أن أشاهد في القسطنطينية تاج السلطان محمد من أن أرى بها إكليل بابا قلنسوة كردينال. وبناء عليه تألف اليونان قلبا وقالبا واتحدوا على إخلاء المدينة، فخلوها ولم يبق فيها من يدافع عنها إلا جنود الإفرنج.
وفي أول شهر أبريل لعام 1453، زحف السلطان محمد إلى القسطنطينية بجيش كثيف يبلغ مائة وخمسين ألفا، وسير عدة مراكب حربية إلى أمام البوغاز، لكنها لم تتمكن من الدخول فيه لوجود سلسلة حديدية منيعة، فبسط ألواحا ودهنها بالشحم، ثم وضعها فوق السلسلة، وسحب ثمانين مركبا في ليلة واحدة مسافة ميلين، ولما نظرها أهالي المدينة في اليوم التالي تولاهم العجب من دخول تلك المراكب إلى المينا، وقد تقدم القبطان ليحرقها؛ فأطلقت عليه كلة أصابت مركبه فأغرقته بجميع من فيه، وحينئذ أمر السلطان محمد ببناء جسر من البراميل تضم إلى بعضها بشناكل من حديد، ويوضع فوقها ألواح مسمرة حتى يشدد بواسطته الحصار على المدينة. وبعد حصار خمسين يوما، وهدم أربعة أبراج وتخريب سور مار رومانس، أرسل السلطان لملك القسطنطينية يقول: إن سلم يسلم. فلم يقبل بذلك، فأمر السلطان بالهجوم دفعة واحدة على المدينة من البر والبحر في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو، بيد أن الملك قسطنطين جمع جنوده في عشية ذلك اليوم، وأخذ يخاطبهم بكلام محزن متأسفا على انقراض الدولة الرومانية، وصار يحرضهم ويحثهم على الكفاح والقتال بعبارات محزنة يرق لها الجماد، وبعد حديث طويل أخذوا بالبكاء والعويل، وطفق يقبل بعضهم بعضا قبلات الوادع، ثم ذهبوا نحو الأسوار، وذهب الملك إلى كنيسة أجيا صوفيا يزورها حتى يكون مستعدا للموت. أما جنود السلطان محمد خان فقد أوقدوا الأنوار في تلك الليلة المعهودة، وضجوا بالتهليل والتكبير، وقبل أن يبادروا إلى الهجوم بلغهم حضور نجدة من المجر وإيطاليا فتوقفوا، وبعد ذلك بيومين استنأنفوا التضييق على المدينة، فدخلها منهم نحو خمسين نفرا من أحد الأبواب، ثم اقتفاهم بعض الجنود فانكسر من أمامهم الأهلون، وأغلق الحراس الأبواب وألقوا مفاتيحها في البحر.
أما الملك قسطنطين الذي كان يحارب على السور بنفسه، فلما شاهد شمل عساكره تمزق غاب عن رشده وصوابه، وعندما يئس من الفوز تجرد من أسلحته المذهبة خوفا من الأسر، واخترق صفوف الإنكشارية فقتلوه، وبموته لم تقم للأروام قائمة، ولم تصدر عنهم مقاومة. ومن ذلك الوقت أصبحت المدينة عرضة للنهب والسلب والحريق، ولما دخلها السلطان محمد أمر بقطع رأس الملك قسطنطين المائت، فقطعوه وطافوا به في جميع بلاده، ثم أمر بقتل أولاد الملك ما عدا صغيرهم، مع قتل كثيرين من أمراء المدينة وأشرافها. وبعد ثلاثة أيام من ذلك العهد، دقت طبول الاجتماع، فردعت الجنود عن السلب والنهب، ومنحت الأهالي التأمين على أرزاقهم وأعناقهم، وسمح لهم ببعض الكنائس الحقيرة، ثم ولى السلطان على الأروام بطريركا، وقلده بنفسه عصا البطريركية وختمها، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو سنة 1453، الموافق ليوم 20 من جمادى الأولى سنة 857. وقد قال الإنكليز: إن مدينة القسطنطينية قد حوصرت تسعا وعشرين مرة من بنائها من الملك قسطنطين الأكبر إلى عهد افتتاحها من السلطان محمد الفاتح الذي ضمها إلى سلطنته، وأعلم بذلك سلطان مصر وشريف مكة وشاه العجم، ثم زحف على السرب فنكبها نكبة عظيمة وعاد إلى القسطنطينية، وشرع في بناء جامع الشيخ أيوب شمس الدين. ولما أتم بناءه أقام فيه الصلوات، فقلده شيخ الإسلام سيفا بيده، ومن ذلك الوقت جرت العادة أن السلطان الذي يجلس على تخت الملك يذهب إلى ذاك الجامع ويتقلد بالسيف. وفي ذاك الجامع صخرة كبيرة فوقها بيرق ملفوف بغشاء أخضر رمزا عن وظيفة أيوب عند الرسول
صلى الله عليه وسلم .
وبعد فتوحات عديدة، حاصر قلعة بلغراد بمائة وخمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ففقد من عساكره عددا عظيما وجملة مدافع، وانجرح في فخذه فرجع عنها وذهب إلى أدرنه، وبعد أخذ القسطنطينية بسبع سنين فتح مدينة أثينا عاصمة بلاد اليونان، وفي سنة 1461م، الموافقة سنة 865ه، فتح إيالة طرابزون وولاية سينوب، وفي سنة 866 استولى على جزيرة نسيوسه وإقليم بوسنه، ثم جهز عمارة بحرية بمائة ألف مقاتل لفتح جزيرة رودس، فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم ظعن عنها وأخذ في إعداد تجريدتين: الأولى لفتح جزيرة قبرص، والثانية لمحاربة شاه العجم، وبينا هو كذلك اعتراه مرض عضال، فمات في مدينة أزنكميد في جمادى الأولى سنة 886، ودفن بجوار جامعه الشريف في ضريح مخصوص.
كانت مدة ملكه 31 سنة، وعاش ثلاثا وخمسين سنة، وفي مدة ملكه افتتح مملكتين و12 ولاية، واستولى على أكثر من مائتي مدينة، وبنى عدة جوامع ومدارس، وكان يعتبر العلماء، ويحب رجال الأدب. وهو طويل القامة، ضخم الوجه، كثيف اللحية أشقرها. وقد أعقب ولدين؛ يسمى أكبرهما بايزيد، والآخر جم.
السلطان الثامن
السلطان بايزيد الثاني ابن السلطان محمد الفاتح
ولد عام 851 للهجرة، وجلس على سرير السلطنة في سن 35 من عمره، أي عام 886، وذلك عقيب موت والده الطيب الذكر، فنازعه أخوه جم على السلطنة بدعوى أنه ولد عام 801 قبل جلوس والده على كرسي الملك بسبع سنين؛ ولذلك يعتبر كأحد الرعايا، ومن ثم جرد فرقة من الجنود وساقها إلى نواحي بورصة، فالتقى بألفي مقاتل من أليكشارية أخيه السلطان بايزيد، فاشتبك معهم في موقعة دموية انجلت عن فوزه وانتصاره، ودخل المدينة فنودي به سلطانا عليها، وأمر الخطباء بأن يخطبوا في الجوامع باسمه. فلما علم السلطان بايزيد بذلك ألف جنوده، ونزل معهم بذاته إلى ساحات الحرب، فالتقى بعساكر أخيه في سهل يكي شهر، وبعد أن ناهضهم طويلا هزمهم شر هزيمة. وإذ كان جم راكضا مهزوما التقى بجماعة من التركمان فسلبوا منه ثيابه، وجردوه من سلاحه، فاستعار ثوبا من وزيره، وسار إلى مصر، وعندما وصلها تلقاه جركس قايد بك بكل اعتبار وأكرم وفادته.
ثم بعد أن مكث في مصر أربعة شهور ذهب لتأدية فريضة الحج الشريف، وغب عودته عاد لمنازعة أخيه، فأرسل أخوه يقول له: بما أنك اليوم قد قمت بواجباتك الدينية في الحج، فلماذا تسعى إلى الأمور الدنيوية؟ ومن حيث إن الملك كان نصيبي بأمر الله، فلماذا تقاوم إرادة الله؟ فأجابه بقوله: هل من العدل أن تضطجع على مهد الراحة والنعيم، وتقضي أيامك بالرغد واللذات، وأنا أحرم من اللذة والراحة، وأضع رأسي على وسادة من الشوك؟ ثم جرد شرذمة من الجنود وناهض عساكر أخيه، فانكسر وهرب ثانية إلى مكان يدعى كاش إيلي. وإذ ذاك بعث إليه السلطان يعرض عليه الصلح، فقبل تحت شرط أن يعطيه بعض أقاليم في بلاد الأناضول، فأجابه السلطان: إن الخطبة لا يمكن تجزئتها إلى اثنتين، وعوض أن تصبغ قوائم جوادك وأطراف ردائك بدماء المسلمين، فالأجدر بك أن تذهب إلى مدينة القدس، وتقتنع بالمعيشة فيها من إيراداتك، ماذا وإلا يحل بك الويل والثبور. فحينئذ قام جم وتوجه إلى جزيرة رودس، فلاقاه الشفالرية الذين كانوا يتولونها، ونصبوا له جسرا مفروشا بالنسائج الثمينة من الشاطئ إلى المراكب ليخرج من البحر بحصانه، ولما خرج ساروا به إلى القصر الذي أعدوه له. ومذ بلغ السلطان بايزيد ذلك، أخطر حاكم رودس بقوله: إنه إذا أراد استمرار الصلح بينهما؛ فعليه أن يسلمه أخاه جم، فرفض حاكم رودس تسليمه، إنما خوفا من غضب السلطان أنزله في مركب أبحر به إلى مدينة نيس، من أعمال إيطاليا في ذلك الزمان، ثم انتقل منها إلى مدينة روسليون، من أعمال فرنسا على عهد الإمبراطور لويس، ثم طلبه البابا إينوشنسيوس من إمبراطور فرنسا؛ ليكون عنده رهنا حتى يأمن من إغارة العثمانيين على إيطاليا. وعلى عهد البابا إسكندر السادس توفي جم في مدينة نابولي مسموما.
وفي سنة 897 بعث السلطان بعمارة إلى أساكل بلاد الأرناءوط، وجرد عسكرا وسار به إلى تلك الأصقاع، وبينما كان مارا في طريق ضيق قابله رجل بهيئة درويش وهم أن يضربه بخنجره، فابتدره من كان حول السلطان بطعنة كانت القاضية، ومن ذاك العهد جرت العادة أن لا يقابل أحد السلطان بسلاحه.
وفي سنة 903 زحف على بولونيا، وأسر منها في موقعة واحدة عشرة آلاف أسير، وضبط بلاد الإرنبودوهرسك، وفي عام 1509م زلزلت الأرض زلزالها في القسطنطينية، فأخربت ألفا وسبعين بيتا، ومائة وتسعة جوامع، وجانبا عظيما من السراي الملوكية وأسوار المدينة، وعطلت مجاري المياه، وصعد البحر إلى البر فكانت أمواجه تتدفق فوق الأسوار. ولبثت تلك الزلزلة تحدث يوميا مدة 45 يوما، ولما أن سكنت جمع السلطان 15 ألفا من الفعلة وأمرهم بإصلاح ما هدم.
وفي سنة 918، سلم زمام الملك لابنه السلطان سليم، وتوفي وهو ذاهب إلى ديمتوقه، فنقل نعشه إلى إسلامبول حيث دفن بجوار جامعه الشريف.
عاش سبعا وستين عاما، وكان قوي البنية، أحدب الأنف، أسود الشعر، رقيق الطبع، محبا للعلوم، مواظبا للدرس، وشاعرا أديبا، ورعا تقيا يقضي العشر الأخيرة من شهر رمضان في خلوة بمفرده، أو مع الشيخ محيي الدين ياوز في التعبدات الدينية. أقام في مدة ملكه جملة مدارس وجوامع، وكان يرسل إلى الكعبة كل سنة مبلغا وافرا من المال، وكان بارعا في رمي السهام، ويباشر الحروب بنفسه، وعند رجوعه من الغزوات يجمع الغبار عن رجليه وثيابه حتى صنع منه لبنة أوصى أن توضع بعد وفاته تحت رأسه تمسكا بحديث الرسول
صلى الله عليه وسلم : «من تغطت رجلاه بغبار طريق الله لا تمسه النار في الآخرة.»
السلطان التاسع
السلطان سليم ابن السلطان بايزيد الثاني
ولد عام 875ه، الموافق سنة 1480م، وجلس على تخت الملك سنة 918، وبعد جلوسه نازعه في الملك ابن أخيه علاء الدين، وجاء مدينة بورصه فافتتحها وضرب على أهلها الجزية الباهظة، ولما بلغه ذلك استخلف ولده سليمان، وذهب لردع علاء الدين بسبعين ألف مقاتل من البر، وسير عمارة في البحر مؤلفة من مائة وخمسين مركبا. وفي تلك الأثناء، نهض أخوه أحمد، والد علاء الدين، واستولى على أماسيا، وقلد أخاه مصطفى تخت الوزارة، فأرسل السلطان شرذمة من الخيالة ليخطفوا حرم أخيه مصطفى، فصادفهم أحمد في الطريق واستخلص منهم الحرم وأسرهم. كل ذلك بلغ مسامع السلطان سليم، فأحدث فيه الغيظ الشديد، غير أنه تجلد على كتمان الغضب حتى مكنته الفرصة، فقتل سائر إخوته مع أولادهم حتى لم يبق منهم أحد، وإذ ذاك تواردت إليه التهاني من جميع الدول، ما عدا إسماعيل شاه العجم؛ لأنه كان متحزبا لأخيه أحمد، فغضب واستشاط السلطان غيظا؛ لأنه كان قد حمى عنده أولاد إخوته وحرض والي مصر على مناهضة الدولة العثمانية.
وفي سنة 920، زحف إسماعيل شاه بجيش جرار على بلاد الدولة ومعه مراد ابن أخي السلطان سليم، فكتب إليه السلطان مستهزئا به، وأرسل إليه عروة ومسواقا وطيلسانا يفهمه بذلك أنه ليس من سلالة الملوك، بل من سلالة المشايخ الذين يتمسكون بالبدع، فأجابه بفظاظة وأرسل إليه علبة ذهب ملأى من الأفيون، فغضب السلطان وركب في الحال بمائة وأربعين ألف مقاتل، وستين ألف جمل تحمل الأثقال والمهمات، أردفها بأربعين ألفا تسير وراءها لحفظ خطة الرجوع. ولما أن تأكد ذلك شاه العجم شعر بعجزه، وأن ليس له طاقة لمناهضة الأتراك، فأحرق بلاده وأخلاها من الأطعمة والمنافع، وانهزم برجاله، ولما بلغتها العساكر العثمانية وجدتها خالية خاوية لا مأوى بها ولا مأكل، فتضايق الجند من ذلك، وتقدم أحد قوادهم المدعو حمدان باشا إلى السلطان يعلمه بتذمر الجنود، فأمر بقتله، وكتب إلى إسماعيل شاه يعيره بهذه الهزيمة، وأرسل إليه ثياب امرأة دلالة على جبنه وخوفه ، فأجابه إسماعيل شاه بأنه ينتظره في سهل شليدران، ومن ثم انطلق السلطان إلى ذاك السهل؛ حيث التقى بعدوه في غرة رجب من سنة 920، فابتدره بالقتال، وأمر جيوشه بالهجوم فوثبوا على الأعجام وبددوا شملهم في ساحات المعركة، فانهزموا شر هزيمة، وجرح إسماعيل شاه في يده ورجله، ثم سقط عن جواده، وما وصل الأرض حتى انقض عليه أحد الفوارس العثمانيين واستل خنجره ليقتله، فانطرح عليه وزيره مراد صارخا: أنا هو الشاه. فقبض عليه وأخذه أسيرا، أما إسماعيل شاه فاغتنم تلك الفرصة، ونهض عن الأرض، وركب جواد أحد الجند فانطلق مسرعا حتى وصل إلى تبريز، ومن شدة خوفه لم يأمن على نفسه فيها، واستأنف الهزيمة حتى درغازين، وفي تلك الأثناء اغتنم السلطان سلب الأعجام، فسبى حرم الشاه ونهب أمواله، ثم قتل جميع الأسرى الذين وقعوا في قبضة يده، ثم سار إلى تبريز، ولما دخلها امتثل أمامه بديع الزمان الذي من سلالة تيمورلنك، فخلع عليه وأكرمه وأجلسه على كرسي بجانبه، وفرض له نفقة يومية. وكان لإسماعيل شاه أموال غزيرة في تبريز، وجواهر ثمينة، وتحف وأقمشة وأسلحة، فاغتنمها السلطان، وتوجه منها إلى أماسيا، فضبط ولايتي الكرد والكرج، واستولى على جميع بلاد ديار بكر، وافتتح قلعة ماردين. وفي سنة 922، عزم على محاربة قنصو الغوري، ملك مصر، فجرد الجنود وزحف إلى عربستان، فالتقى به في مرج دابق من بلاد سوريا، وهناك التحم الجيشان في موقعة لم تطل برهة حتى انجلت عن فشل المصريين وتبديد جمعهم، وسقط ملكهم عن جواده فمات، وكان عمره ثمانين سنة، وحينئذ قطع رأسه ضابط من ضباط العساكر العثمانية وطرحه على أقدام السلطان سليم، فغضب من إهانة الدم الملوكي، وأراد قتل الضابط المذكور، فتشفع فيه الوزراء حتى عفا عنه، لكنه عزله من وظيفته.
وبعد ذلك بمدة سار إلى حلب الشهباء، واستولى عليها وصلى في جامعها الكبير، حيث لقبه الخطيب بخادم الحرمين الشريفين (وهذا اللقب كان يختص بسلاطين مصر)، فخلع عليه حلة ثمينة، ثم سار إلى حماة وحمص وطرابلس فالشام، وفيها رفع العلم العثماني، وأقام نحو أربعة شهور انقاد إليه بأثنائها أمراء العرب وأكابر سوريا ووجوه جبل لبنان. وكان يطوف بالجامع الأموي المشهور متفرجا على الآثار القديمة. أما الجامع المذكور فيبلغ طوله 550 قدما، وعرضه 150 قدما، وهو مبني على أعمدة عظيمة من الحجر السماقي والرخام المختلف الألوان، وفي قبته يوجد 600 قنديل معلقة بسلاسل من الذهب والفضة، وفيه أربعة محاريب لأصحاب المذاهب الأربعة؛ وهم: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية.
في سنة 922، توجه إلى مصر لمحاربة طومان باي الذي جلس بعد الغوري وشق عصا الطاعة، فقاتله عند غزة وقهر جنوده، ثم تقدم واشتبك مع مماليك مصر بعدة وقائع قتل فيها منهم نحو 25 ألفا، ولما أن وصل السلطان بجيوشه إلى مصر القاهرة حاصرها ثلاثة أيام، وفتحها في اليوم الأخير، وقد قبض على ثمانين ألفا من أهاليها وقتلهم جميعا.
أما طومان باي فكان هرب إلى شرقي الديار المصرية، وبعد مدة لم شمله، وجمع من بقي من المماليك، وضم إليهم ستمائة ألف من العرب وكر على القاهرة، فتغلب على العساكر العثمانية وأخرجهم منها عقيب مقتلة عظيمة.
وكان السلطان سليم قد ضجر من كثرة الحروب وهدر الدماء، فأمر مصطفى باشا، أحد قواده، أن يطلب الصلح من طومان باي، بشرط أن يكون تحت سلطة الدولة، فلم يقبل بذلك وفتك بالرسول وأورده حياض المنون، وحينئذ جدد السلطان الحرب على المماليك، فظفر بهم، واقتفى أثر طومان باي المنهزم حتى أدركه، وذلك سنة 925.
وبعد إقامته في الديار المصرية مدة طويلة عاد إلى القسطنطينية، وطفق يكثر المهمات الحربية، ويجدد المراكب، ويجمع الجيوش وينظمهم، إلا أنه أدركته المنية في اليوم الثامن من شهر شوال لسنة 926، فأخفوا موته إلى أن يحضر ولده سليمان الذي كان وقتئذ في سروخان مكان ولايته.
عاش أربعا وخمسين عاما، قضى منها على تخت السلطنة 8 سنوات، وكان طويل القامة، قصير الرجلين، عظيم الجثة، كبير العينين، غليظ الحاجبين. وهو أول سلطان لم يطلق لحيته، وكان رجال الدولة يعيبونه بذلك. وكان عالما يحب رجال الآداب، وشاعرا يميل إلى حسن النظم، وله ديوان أشعار بالتركية والفارسية والعربية. رحمه الله وجعل الجنة مأواه.
السلطان العاشر
السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم
ولد عام 900 للهجرة، وتولى زمام السلطنة عام 926، فقام بحق الخلافة، ورفع شأن السلطنة إلى أوج العظمة والأبهة، ووضع لها عدة قوانين تتعلق بالإدارة؛ ولذلك لقب بالقانوني، ثم افتتح عدة فتوحات، وباشر الحرب بذاته 13 دفعة، وشاد الأبنية الشاهقة، والأسوار الشامخة، وترأف بحال الناس، فأطلق سراح 600 مسجون من مأسوري مصر، وردع الظالمين عن المظالم. وفي أيامه ثار أهل المجر على المباشر الذي كان يجمع الخراج من قبل الدولة وقتلوه، فركب السلطان سليمان بجنوده المظفرة متوليا قيادة الجند، فقاتل المجر حتى استظهر عليهم وامتلك بلادهم وأخذ قلعة بلغراد، ثم عاد إلى إسلامبول، وبعد عودته بعشرة أيام مات له ثلاثة أولاد.
وحدث في تلك الأثناء اختلاف ونزاع بين شرلمان، ملك إسبانيا، ولويس الأول، ملك فرنسا، على دوقية ميلان، وكان البابا ليون العاشر مبلبل البال من جراء تعاليم لوثر المخالفة للعقيدة الكاثوليكية، فاغتنم السلطان سليمان خان تلك الفرصة للهجوم على الدول النصرانية، وابتدأ في اختضاع جزيرة رودس التي كان يملكها من نحو 150 سنة شفاليرية ماريوحنا الأورشليمي، وكانت مانعا قويا يحول دون العثمانيين عن مهاجمة أوروبا، فساق إليها عام 1522م مائتي ألف جندي تحت قيادة صهره مصطفى باشا، وثلاثمائة مركب تحمل عشرة آلاف بحري تحت قيادة بيري باشا، فضربوا الجزيرة وحاصروها مدة طويلة بدون نتيجة، وحينئذ حضر السلطان بذاته وتولى إدارة القتال، فأمر بالهجوم على القلعة، وبعد عدة ساعات ارتدت عساكره خاسرة، وقد اشتدت مقاومة المحاصرين نحو 3 شهور اشتدادا فائق الحد حتى تضايقت العساكر الشاهانية، وفقد منها نحو ثمانين ألفا، وإذ ذاك أمر السلطان الجنود بإطلاق المدافع على المدينة إطلاقا دائما، فأطلقوا عليها 220 ألف مدفع دمرتها وأحرقتها حتى صارت تلا من الرماد، ولم يبق مع المحاصرين شيئا من الذخيرة والمؤنة، فاضطروا للتسليم تحت شرط أن تصان الكنائس النصرانية، ويرخص بإقامة شعائر الدين المسيحي ، ولا يضرب على الأهالي ضرائب مدة خمس سنوات. وكان رئيس تلك الجزيرة رجلا فرنساويا يدعى ليل آدم، فقابله السلطان ومدحه على شهامته، وبعد مدة، أبحر ليل آدم مع أربعة آلاف من أتباعه وذهبوا إلى إيطاليا، ومنها إلى مالطة. أما الجزائر القريبة من رودس، فلما علم سكانها بما كان وحدث خضعوا للسلطان بدون قتال. وفي تلك الأثناء، عزل الصدر الأعظم بيري باشا، وعين بدلا عنه إبراهيم باشا، وكان رجلا عاقلا شجاعا فتح جملة بلدان في نواحي بلغراد، وقتل من عساكر المجر 25 ألفا، وسبى نحو مائة ألف من السراري والمماليك، واغتنم الخزينة الملوكية.
وفي سنة 934، تمرد أهالي حلب وثاروا على الملا والقاضي فقتلوهما في وسط الجامع، فأنفذ السلطان أوامره بتأديب المذنبين، ثم سار بتجريدة مؤلفة من 150 ألف مقاتل حتى اقترب من مدينة فيلبي، فنصب خيامه في سهل واسع هناك، ثم سار بالجنود حتى بلغ مدينة موهكز من أعمال المجر، فقدم له حاكمها الطاعة والخضوع، وحينئذ خلع عليه وأعطاه ثلاثة أفراس من جياد الخيل عليها سروج مرصعة، وبعد ذلك ساق جنوده، وافتتح مدينة بودا كرسي بلاد المجر، وعند أواخر تلك السنة تقدمت العساكر السلطانية حتى وصلت إلى تحت أسوار مدينة ويانه، حيث نصب السلطان خيامه، وكان حول صيوانه الملوكي 12 ألف أليكشاري، و120 ألف مقاتل، و400 مدفع، و20 ألف جمل تنقل المهمات، وكانت العمارة البحرية الراسية في نهر الطونة مؤلفة من ثلاثمائة قطعة تحت قيادة قاسم باشا. وبعد أن هدم جملة قلاع، واستولى على حدود بلاد النمسا، وهجم جملة دفعات على ويانه، عاد إلى القسطنطينية، وأمر بتطهير أولاده الثلاثة: مصطفى ومحمد وسليم، وأعد لذلك حفلة شائقة دعا إليها كبار رجال المملكة ورئيس مشيخة البندقية.
وفي عام 932، وصله كتاب من الملك فرنسيس الأول، ملك فرنسا، يتضمن الشكوى من تغلب الأعداء على مملكته، والاستغاثة به، فأرسل إليه الجواب بهذه الصورة.
الله
بنعمة الله الذي تجل قدرته، وتتعظم كلمته، وببركة شمس سموات النبوة، وكوكب برج الأولياء، رئيس طغمة الأبرار سيدنا محمد الطاهر
صلى الله عليه وسلم ، وبظل أنفس صحابته الأربعة الطاهرين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم صلوات الله.
شاه سلطان خان ابن السلطان سليم خان الغازي، أنا سلطان السلاطين، وملك الملوك، وواهب تيجان الملك، ظل الله على الأرض، بادشاه، وسلطان البحر الأبيض والأسود، وبلاد الروم إيلي والأناضول وقرمان وارز روم وديار بكر وكردستان وإذربيجان والعجم ودمشق وحلب ومصر ومكة والمدينة والقدس الشريف وسائر بلاد العرب واليمن وإيالات شتى، افتتحها ابن السلطان بايزيد شاه، السلطان سليمان خان، أكتب إليك يا فرنسيس آغا، ملك مملكة فرنسا:
إن الكتاب الذي أعرضته إلى سدتي الملوكية، ملجأ الملوك، مع تابعك فرنكيبان المستحق أمانتك، والألفاظ الشفاهية التي نقلها إلى مسامعي الشريفة، أعلمتني أن العدو حاكم في مملكتك، وأنك الآن قد صرت أسيرا، وتطلب من لدني خلاصك. فجميع ما قلته جرى عرضه على أقدام كرسي عظمتي ملجأ العالم، وقد فهمت الشروح كافة، ولا عجب إذا انكسر الملوك وصارت أسارى، فليتشدد قلبك ولا تخمد نفسك، وفي مثل هذه الأحوال قد رأينا سلفاءنا الممجدين، وأجدادنا المعظمين ما تأخروا عن الدخول في قتال الأعداء، ومثابرة الفتوحات، وأنا أيضا اقتفاء لآثارهم، وقد أخضعت في كل الأيام ولايات كثيرة، وفتحت حصونا قوية يتعذر الدنو منها، ولا أنام ليلا ولا نهارا، وسيفي لا يفارق جانبي. فليسهل علينا العدل الإلهي إتمام عمل الخير، وفضلا عن ذلك اسأل رسولك عن جميع الأحوال والحوادث التي شاهدها بأم عينه، واقنع بما يقول لك.
تحريرا في العشر الأول من هلال ربيع الثاني سنة 932ه، من السدة الملوكية في محروسة الآستانة العلية.
وأنجد السلطان ملك الفرنسيس بعمارة بحرية تحت قيادة بربروس، ولما وصلت إلى مرسيليا انضمت إلى عمارة الملك فرنسيس، وبعد الفوز والظفر عادت إلى القسطنطينية.
وفي عام 935ه، جاء كتاب من الملك فرنسيس إلى السلطان يطلب إليه إرجاع كنيسة في القدس الشريف، فأجابه هكذا:
إلى فرنسيس آغا، ملك بلاد فرنسا:
أرسلت إلى سدتي الملوكية مقر السلاطين العظام، ومشرق حسن الإدارة والسعادة، ومحل اجتماع الملوك، تحريرا تخبرني به أنه يوجد في أورشليم المحروسة، التي هي في مملكتي السعيدة، كنيسة كانت قديما في أيدي أمة عيسى عليه السلام، ثم تغيرت أخيرا فصارت جامعا، وبالنظر للصداقة التي بين عظمتنا الملوكية وبينك، نحن نجيب سؤالك الذي أمام حضرتنا الملوكية، مصدر توزيع المواهب والسعادة. غير أن سؤالك لا يعد من جملة السؤالات المتعلقة بالأموال والعقارات، ولكن بمتعلقات الأديان؛ لأنه بموجب أمر الله الطاهر، وتطبيقا لسنن نبينا شمس الكونين، أن هذه الكنيسة من زمان غير معلوم قد صارت جامعا لإقامة صلاة المسلمين، ومن ثم يكون تغيير حالة موضع قد تسمى جامعا وأقيمت فيه الصلوات مغايرا لدين المسلمين. وبالاختصار أقول لك: إنه لا يمكني إجابة سؤالك، ولكن ما عدا الأماكن المعدة لإقامة شعائر الدين، فكل مكان يكون في أيدي النصارى يبقى لهم، ولا أسمح لأحد في مدة حكمي العادل أن يشوش راحتهم، وما داموا تحت ظل حمايتي، فأرخص لهم أن يمارسوا أمور دينهم وطقوسهم في معابدهم بدون معارضة.
تحريرا في العشرة الأولى من هلال محرم الحرام سنة 935.
وفي اليوم التاسع عشر من شهر رمضان من السنة ذاتها، خرج السلطان من القسطنطينية بمائة ألف مقاتل لمحاربة بلاد السرب، فافتتح في طريقه عدة قلاع، واستولى على جملة بلاد، ثم عاد إلى القسطنطينية وعقد الصلح مع ملوك أوروبا، ثم وجه عساكره لمحاربة العجم، ولما ساق الجنود إلى فتح بغداد علم بذلك حاكمها ذو الفقار خان، فسلم مفاتيحها إلى السلطان، فقتلته جماعته على خيانته، ثم سار إلى تبريز فدخلها، ثم رجع إلى القسطنطينية، وهناك أوشوا له على وزيره إبراهيم باشا، فقتله وقلد خير الدين باشا، المعروف بالبربوس، رئاسة العمارة البحرية، فاستولى بها على عدة جزر واقعة عند حدود إيطاليا. وفي سنة 1435 ميلادية، تقدم خير الدين المذكور إلى تحت أسوار مدينة تونس وافتتحها، غير أن هذا الفتح لم يطل أمره إلا مدة قليلة؛ لأن حاكم تونس التجأ إلى ملك إسبانيا، كارلوس الخامس، فركب إليها واسترجعها إليه.
وفي شهر مايو من سنة 1534، ركب السلطان ومعه ولداه مصطفى وسليم على مدينة وان من أعمال البندقية فامتلكها بعد حصار تسعة أيام، وفي عام 1547 جاء القسطنطينية رسول من عند علاء الدين، سلطان الهند، يستنجد الدولة العثمانية على البرتغال والكاسب ميرزا الذي عصى على ابن شاه العجم، فأنجده السلطان . وفي عام 1556، جاءه كتاب من شاه العجم هذا نصه:
أيها الملك المحبوب من الله، الذي غمرك الباري تعالى بمواهبه، والذي سقيت من ندى الخالق المحيي، سلطان البرين، وخاقان البحرين، أنت الذي اسمك نظير اسم نبي الإنس والجان، وأنت مركز الفلكين، وخادم الحرمين الشريفين، أنت الذي جمعت في شخصك القوة والمجد والفخر والقدرة والخلافة والفطنة والعدل والشرف والإنصاف والاستقامة، السلطان سليمان خان، فلترفع سناجقك فوق السموات، وتنقش أسماء سلطنتك على ألواح الأبدية.
فأجابه السلطان بقوله:
يا من بيدك العظمة السامية مثل السماء، واللامعة مثل الشمس، والمحاطة بشعاع المنظر المهيب، والمشتملة على حذاقة دارا، ونجابة خسرو، وسعادة المشتري، وإكليل كوكباد، وقضيب فريدون، وشاه كرسي العظمة، وقمر سماء القدرة، أنت مشرق نجوم السجايا البديعة، ومغرس الفضائل الجسيمة، الجامع في شخصك المناقب الحميدة، واللامع بأشعة العواطف الشريفة، والذي عندك نظر المحامي الصادق، والمالك محبة من بنعمته يفرق السعادة، أنت مطلع السعود، تامصب شاه، فلتحط بك النعم الإلهية، وتضئ لك الأنوار السماوية.
وفي عام 967ه، توجه القبطان شابيالي بعمارة عظيمة إلى جزيرة جربا وتملكها بعد حصار ثلاثة شهور، وقبض على حاكمها وأحضره إلى إسلامبول، فلما بلغ ذلك ملك إسبانيا ركب على بلاد الجزائر وأخذ بعض قلاع ومراكب تخص الدولة، فغضب السلطان من ذلك، وعزم على فتح مالطة، فساق إليها القبطان شابيالي بعمارة مؤلفة من مائة وواحد وثمانين مركبا. وفي اليوم العشرين من شهر مايو من عام 1565، وصلت المراكب إلى تلك الجزيرة، ورمتها بنيران مدافعها حتى دمرت حصونها، واستلمتها بعد سبعة أيام، ثم سار السلطان إلى بغداد وهو مريض، ومنها إلى سملين فتسلمها وافتتح جملة قلاع وبلدان. وتوفي عام 974، فأخفى محمد باشا الصقلي، قائد الجيوش، خبر وفاته مدة ثلاثة أسابيع حتى وصل إسلامبول ودفنه بتربته المنيفة. عاش أربعا وسبعين سنة، قضى منها على تخت السلطنة 48 سنة. رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان الحادي عشر
السلطان سليم الثاني ابن السلطان سليمان خان
ولد عام 930ه، الموافق عام 1525 ميلادية، وجلس على كرسي الخلافة عام 974ه، الموافق 1566ه، وهو يبلغ من العمر أربعة وأربعين سنة، وحال جلوسه أخذ بإصلاح الأمور الداخلية، وتنظيم شئون البلاد، فنهض في ذلك وجاق الأليكشارية، وهاجوا في القسطنطينية، فأخمد فتنتهم بالإحسان، وبتوزيع الأموال. وفي أثناء ذلك، جاء رسول من قبل شاه العجم بهدية فاخرة تهنئة لجلوسه، وهي لؤلؤتان وزن الواحدة منهما يبلغ أربعين درهما، وياقوتة بقدر التفاحة الصغيرة، وجدد العهد بين الدولة وشاه العجم. وكان صاحب اليمن في تلك الأيام ادعى الخلافة، فأرسل السلطان سليم عسكرا لمحاربته، فقهروه وأخذوا مدينة صنعاء وبعض الأماكن من تلك الجهات.
وكان للسلطان سليم قبل جلوسه نديم يهودي، يقال له: زوسفنلسي، يحب شرب الخمر كثيرا، فطلب من السلطان أن يفتح جزيرة قبرص طمعا بجودة الخمر الذي بها، فوعده السلطان أنه متى جلس على تخت الملك يأخذ قبرص ويجعله حاكما عليها، ولما جلس السلطان سليم ذكره ذاك اليهودي بوعده، فأشهر عليها الحرب، وساق لفتحها عمارة بحرية مؤلفة من 360 مركبا، وبعد حروب كثيرة تغلبت العساكر الشاهانية عليها وفتحتها.
وحدث في سنة 979 أن اتحدث مشيخة البندقية مع البابا وملك إسبانيا وأعلنوا الحرب ضد الدولة، وجردوا لذلك عمارة مؤلفة من مائتي قطعة حربية بعساكرها، تولى قيادتها الدون جوان بن كارلوس الخامس ملك إسبانيا، فأشعل الحرب على مراكب الدولة في مياه آنية بختي، فشتت عمارة الدولة، وقتل منها عدد عظيم يبلغ نحو ثلاثين ألف نفر، وفقد من المراكب 224 مركبا، وقتل قبطان باشا، وما بقي من تلك التجريدة عاد إلى القسطنطينية، فكان عند الإفرنج عيد فرح وسرور شملتهم به البهجة والمسرات بتلك الغلبة غير المنتظرة.
وقد بلغ السلطان ذلك، فغضب وتأسف وأمر بإعداد عمارة عظيمة للأخذ بالثار، فأرسلت مشيخة البندقية في تلك الأثناء تطلب الصلح على شروط تعود بالشرف على الدولة، فصدر الأمر بقبولها، وبعد ذلك أصيب السلطان بحمى شديدة ثقلت وطأتها عليه، فأخنت على حياته، وتوفي بسببها عام 982، فدفن بتربته الكائنة بالقرب من جامع أجيا صوفيا. عاش اثنين وخمسين سنة، قضى منها على تخت السلطنة 8 سنوات.
السلطان الثاني عشر
السلطان مراد خان الثالث ابن السلطان سليم الغازي
ولد عام 953، وجلس على سرير الملك عام 982 وهو ابن تسعة وعشرين سنة، فجدد العهد مع دول الإفرنج. وفي سنة 983ه، هجم على بلاده عساكر المجر فردهم عنها خاسرين، وامتلك منهم بعض قلاع وبلاد ضمها إلى ولاية بوسنه، وفي سنة 984، أخضع جزائر الغرب وبلاد فاس إلى الخلافة العظمى، وفي 985، حصلت ثورة داخلية في إيران تطاير شرارها إلى الحدود، فأرسل من طرف الصدارة لأمراء الكرد والكرج رسائل تضمنت النصح لإزالة الهياج والفساد فأطاعوا، وفي سنة 975 تجاوزت عساكر العجم حدود بلاد الدولة، فردعهم عنها في حرب شديدة أسعر نارها عليهم في صحاري حلب وهزمهم، ثم تأثرهم حتى مدينة تفليس، وبعد ذلك استأنفت دولة العجم القتال، فكسرتها العساكر السلطانية وانتزعت منها ولايتي شروان والضاغستان، وفي السنة ذاتها ثار أمير القرم وشق عصا الطاعة لأوامر الدولة العلية، فقهره السلطان، وأوقع به وبجنوده الخزي والفشل، ثم حدثت حرب في جهة الروم إيلي مع النمسا، فانتصرت عليها العساكر العثمانية، وسلخت منها قلعتي يانق وتاتار حصار، ثم عادت بعدئذ إلى القسطنطينية رافعة علم الفوز، وناشرة راية النصر، وفي مدة سلطنته عصت عساكر الأليكشارية نحو اثنتي عشرة دفعة، فأطفأ شرهم، وأخمد عصيانهم باللطف والملاينة وتفريق الأموال عليهم. وكان يحب النساء حتى أولد منهن مائة وخمسة عشر ولدا، ثم عرض له عارض فجائي توفي بسببه عام 1003، ودفن بجوار جامع أجيا صوفيا في تربته المخصوصة. عليه رحمة الله ورضوانه.
السلطان الثالث عشر
السلطان محمد خان الثالث ابن السلطان مراد الثالث
ولد عام 974ه، وجلس على سرير السلطنة عام 1003، عقيب وفاة والده باثني عشر يوما؛ لأنه كان مقيما في مغنيسا، وحال جلوسه أصلح الأحوال المختلة في داخلية السلطنة، وعزل بعض رجال الدولة، ونصب مكانهم من وجد بهم الأهلية والإخلاص، ولم تمض مدة حتى نزع الأفلاق والبغدان إلى المجاهرة بالعدوان، وساقوا عساكرهم إلى حدود البلاد العثمانية، حيث طفقوا يقلقون الأهالي المتوظفين في الجهة الكائنة على أطراف نهر الطونا. وفي سنة 1004، أرسل إليهم السلطان عددا من جنوده لمحاربتهم، فالتقوا بهم في صحاري يركوكي، وهناك اشتد القتال بينهم، فتقهقرت العساكر السلطانية لعدم ثبات الأليكشارية، ورجعوا إلى مدينة روسجق، وبعد حين ساق السلطان تجريدة أخرى أولى قيادتها إلى سنان باشا، وأرسله إلى ساحات المعركة، فساء التدبير وعاد إلى القسطنطينية خاسئا، وفي عام 1005، أعد السلطان تجريدة أخرى تولى قيادتها بنفسه، وسار بها إلى بلاد المجر، فالتقى بعساكر الأعداء في سهول مهاج، فشتت شملهم، وحاصر قلعة أكرى ففتحها بعد سبعة أيام، وبعد ذلك لمت العساكر النمساوية شعثها فصدمت عساكر الدولة، وقتلت منهم عددا وافرا، وبينما كانت تنهب الخيام وتسلب الأموال هجم عليها الوزير جفال بن سنان باشا بفرقة كانت تحت قيادته، فاستظهر عليهم وقتل عددا وافرا، فأنعم عليه السلطان بمنصب الصدارة بدلا عن إبراهيم باشا، ثم عزله وأرسله واليا على الشام.
وقد رجعت العساكر الشاهانية من ميادين الحرب إلى القسطنطينية فائزة منصورة، فجاء رسل من دولة إيران وبخارى وفاس وونديك، وقدموا التهاني والتبريك للسلطان محمد خان على فوزه وانتصاره. وفي آخر مدته فشا الفساد في بعض الممالك المحروسة، ونهضت عساكر المجر والنمسا للأخذ بالثأر، واستولوا على بعض بلاد الدولة، ثم استعرت نار الحرب بين الدولة والعجم، واضطرم لهيب الفتن في جهات الأناضول. وقبل أن يطفئ السلطان تلك النيران توفي إلى رحمة الله عام 1012ه، فدفن في جامع أجيا صوفيا بجوار ضريح السلطان سليم خان الثاني. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
السلطان الرابع عشر
السلطان أحمد الأول ابن السلطان محمد الثالث
ولد عام 998، وجلس عام 1012 بالغا من العمر أربعة عشر سنة، فطهر السلطنة من أدران المفسدين، وعين جفال زاده قائدا على الجيوش في بلاد الشرق، ولم تأت سنة 1013 حتى نهضت عساكر إيران وتوغلت في بلاد الدولة إلى أن تملكت مدينة قبرص، واستولت على مدينتي روان وشروان، وساقت إلى الأمام حتى أشرفت على قلعتي وان وماكو فارتدت خاسئة خاسرة. وبأثناء ذلك وقع اختلاف ونزاع بين علماء مصر ووزرائها، فسعى السلطان في إصلاح ذلك.
وفي سنة 1014، التجأت دولة المجر إلى كنف الدولة العلية لتنجدها على دولة النمسا، فعين السلطان رجلا مجريا أعطاه لقب ملك المجر، وأرسل إليه تاجا وسيفا، ثم أصحبه بالعساكر العثمانية إلى حقول المعركة، فحارب دولة النمسا واسترجع منها ما كانت استولت عليه من بلاده، ثم ركب السلطان من القسطنطينية وسار إلى مدينة بروسه، وبينما كان يناهض عساكر الشاه عباس ويرجعها القهقرى عن البلاد التي كانت اغتصبتها في وجهة الأناضول، بلغه هياج وجاق الأليكشارية في إسلامبول، فعاد للحال تداركا لشرورهم، وألف مجلسا حربيا، فحكم بإعدام المهيجين. وسنة 1015، أبرم مراد باشا، الصدر الأعظم للدولة العلية، معاهدة مع ملك النمسا قضت بالمهادنة مدة 20 سنة.
وفي عام 1016، ثارت بعض الجهات في بلاد الأناضول، فتوجه لإذلالها، وهجم على أهالي مدينة أنقرة ثم قونية؛ لمحاربة كلاندرا أوغلى وقرى سعيد وكينالي وموصللي جاويش، وجانبولاد حاكم الأكراد، وفخر الدين معن حاكم جبل لبنان، وبعد أن ناهضهم طويلا وشن عليهم الغارة؛ تمكن من الفتك ببعضهم، وطرد الآخرين من بلاد قونية وأنقرة، ثم عاد إلى القسطنطينية، وفي أثناء ذلك جاء رسل من أوروبا والهند والكرج، فلاطفهم مراد باشا، وأنالهم ما يطلبون من قبل دولهم.
وفي عام 1020، تمردت الأعجام، فحاربهم مراد باشا من قبل الدولة، وهزم الشاه عباس إلى جبال صوراب بعد أن استولى على تبريز، وإذ ذاك طلب الشاه الصلح، وعرض 200 حمل حرير، وفي أثناء ذلك توفي مراد باشا فجأة، فعين مكانه في منصب الصدارة نصوح باشا، ولم يمكث هذا طويلا حتى قتل، وعين بدلا عنه محمد باشا، وبالنظر لهذه الحوادث أخلف الأعجام عهدهم، وامتنعوا عن إرسال الحرير الذي تم عليه الصلح، فأصدر السلطان أمره إلى الصدر الأعظم بأن يقتص منهم، فسار بعدد وافر من الجند إلى حلب الشهباء، وانطلق منها إلى نكشيفان واستولى عليها بعد أربعين يوما.
وفي عام 1026، أصيب السلطان أحمد الأول بحمى خبيثة، وقبل أن يشرف إلى الموت أوصى بتفويض الملك لأخيه مصطفى، فلما توفي جلس مصطفى على تخت السلطنة مدة فلم يستطع أن يدبر شئونها، وخلع بعد ثلاثة أشهر، فنصب مكانه السلطان عثمان بكر السلطان أحمد، وحجر على السلطان مصطفى في يدي قلعة. وفي عهد السلطان أحمد كثر استعمال التبغ وزرعه في الممالك العثمانية، فأمر بمنعه. ومن أشهر آثاره بناء الجامع الكبير المعروف بالأحمدية ذات الست منارات، وجملة مدارس وقشال.
عاش ثمانية وعشرين سنة، قضى منها على تخت السلطنة 14 سنة، ودفن في قرب جامعه الشريف بتربته المخصوصة.
السلطان الخامس عشر
السلطان عثمان الثاني ابن السلطان أحمد الأول
ولد عام 1013ه، وجلس عام 1026 بالغا من العمر 13 سنة، وحال تبوئه زمام السلطنة نظر إلى الأحوال الداخلية فأصلح أمرها، وعقد الصلح مع الدول الأجنبية كي يتمكن في تلك الفترة من حشد الجنود، وجمع الأموال، وتشييد الحصون. وفي سنة 1028، أرسل إلى محاربة الشاه عباس جيشا كثيفا تحت قيادة خليل باشا، وبعد أن بلغ مدينة أذربيجان قاتل جنود العجم في جملة مواقع، وانتصر عليهم في موقعة أزربيل الشهيرة، ولما تبين شاه العجم عجزه عن المدافعة، طلب إبرام الصلح حسب الشروط التي توافق الدولة. وحدث بعد ذلك أن مال البولونيون والأفلاق والبغدان إلى الثورة، فانطلق السلطان عثمان بنفسه في سنة 1030 لكبح جماحهم، فحاربهم بالقرب من قلعة حوتين، وعقب قتال عنيف ضاع فيه من الفريقين نحو مائة ألف عسكري، عقدت شروط الصلح، وعاد إلى الآستانة. وفي أثناء سفره شاع بأنه تزوج ببعض بنات الذوات والوزراء من أعاظم رجال الدولة، وأنه يصغي إلى كلام ندمائه، فهاج وجاق الأليكشارية من جراء ذلك، وبالأخص عندما تبالغ لهم أن السلطان مزمع أن يذهب إلى الحج الشريف، ويجمع عسكرا من الشام ومصر من رجال العرب تكون مطيعة لأوامره طوع البنان، ويهلك بهم نسل الأليكشارية ويمحى أثرهم، ومن ثم اتحدوا وتجمعوا مع العلماء في فسحة آت ميدان، وأرسلوا الدفتردار إلى السراي يطلب من لدن السلطان رأس الصدر الأعظم وعمر خوجه وقزلراغاسي وبعض الندماء، فزجرهم السلطان، ورفض قطعيا إجابة طلبهم، فهجم بعضهم على السراي التي كان السلطان مصطفى محبوسا بها، وأخرجوه من سجنه ونصبوه على كرسي السلطنة، وذلك بعد أن خلعوا السلطان عثمان، وطافوا به في شوارع المدينة طواف الازدراء والإهانة، ثم وضعوه في قلعة يدي، وقتلوه بأمر داود باشا الصدر الأعظم، وكان ذلك عام 1031.
عاش 18 سنة قضى منها على تخت السلطنة خمس سنوات، ودفن في تربة أبيه السلطان أحمد، عليهما رحمة الله ورضوانه.
السلطان السادس عشر
السلطان مصطفى ابن السلطان محمد الثالث
ولد عام 1000ه، وجلس سنة 1031 على الكيفية التي ذكرت، وهذه كانت المرة الثانية لجلوسه؛ فإنه كما تقدم جلس قبل الطيب الذكر السلطان عثمان، وبالنظر لضعف عقله خلع بعد ثلاثة أشهر، وفي مدة تنصيبه المرة الأخيرة كثر الفساد، وعم البلاء في البلاد، فندم الأهالي، وتأسف الجنود على ابن السلطان عثمان. وبعد جلوسه بيومين، تجمهرت الجنود السباهية أمام سراي داود باشا الصدر الأعظم حين كان السلطان مع والدته عنده في ذلك اليوم، وصرخوا قائلين: لماذا قتلت لنا السلطان عثمان الذي أوصيناك بحفظ حياته؟ فأجابهم: إني قتلته بأمر السلطان مصطفى سلطان العالم. وبعد حين من الزمن تجمهروا في الجامع الذي أخذ منه السلطان عثمان للقتل، وكتبوا إلى السلطان مصطفى يسألونه عما إذا كان هو الآمر بقتل ابن أخيه، ويطلبون منه أن يبرئهم من هذا الذنب أمام الشعب، فأجابهم: إنه لم يأمر بذلك أصلا، وإن داود باشا كاذب فيما ادعاه، وإن الذين قتلوه موجودون في قيد الحياة؛ فليقتلوا. فلما سمعوا ذلك أسرعوا إلى داود باشا، وحكموا عليه بالإعدام، ثم قادوه إلى مكان الإعدام، وحينئذ أخذ يعترضهم بقوله: إن السلطان مصطفى أمره بقتل السلطان عثمان، وأبرز خطا شريفا بذلك، وبعد ذلك عقد الديوان جلسة قرر فيها قتل داود باشا وجميع الذين اشتركوا معه في قتل السلطان عثمان، فأخذوا أولا داود باشا إلى السبعة أبراج، وأدخلوه الغرفة التي قتل فيها السلطان عثمان، وهناك جرعوه كأس المنية، وبعد ذلك بحثوا على مشاركيه وقتلوهم. وفي سنة 1032، خلع السلطان مصطفى مرة أخرى وأجلس مكانه السلطان مراد. وتوفي السلطان مصطفى عام 1048 للهجرة، ودفن في جوار أجيا صوفيا في تربة مخصوصة. وفي مدته قلت واردات الدولة مقدار مائة ألف كيس سنويا، وتقهقرت، واستولى الأعداء على أكثر مقاطعاتها.
السلطان السابع عشر
السلطان مراد الرابع ابن السلطان أحمد الأول
ولد عام 1018، وجلس على عرش الملك عام 1032 للهجرة وهو في سن الرابعة عشر من سنيه، ومع صغر سنه كان ذا عقل ثاقب، ورأي صائب، ومن أعظم أبطال ذلك الزمان، فاستبشرت به السلطنة بإصلاح شأنها، وانتشالها من هوة الخراب المحدق بها. وفي اليوم الثاني من جلوسه، توجه إلى جامع أيوب وتقلد السيف حسب العادة، فحدث في أثناء جلوسه أن وقعت بغداد في أيدي العجم، وجاهر بعدوانه اثنان من خانات التتر محمد عزاي وشاهين عزاي، وطردا صاحب القرم من منصبه الذي أجلسته به الدولة، وقتلا معتمد المسكوب مذ كان آتيا إلى القسطنطينية يحمل الهدايا إلى السلطان، ثم تقدمت فرقة من القزق إلى أطراف القسطنطينية ونهبت بعض البلاد، ثم عصى أبازه باشا، والي ديار بكر، ونشر بيرق العصيان في ضواحي آسيا الصغرى، وخلع نير الطاعة بكر الصوباشي، محافظ بغداد، فأرسلت الدولة لإذلاله شرذمة من الجند تحت قيادة حافظ باشا، ولما بلغه ذلك استدعى شاه العجم ليسلمه بغداد، فأرسل إليه شنغاي خان ومعه ثلاثمائة نفر ليستلموا منه مفاتيح المدينة، لكن حدث قبل وصولهم أن وصلتها عساكر الدولة وأقامت عليها الحصار. وفي أثناء ذلك وصلها رسول العجم وقال لحافظ باشا: إن بكر الصوباشي صار تابعا لجلالة الشاه، فإذا ابتغيت دوام الصداقة بيننا؛ فارحل عن بغداد. أما الوزير حافظ باشا، فقد استاء من ذلك القول، وأغلظ الجواب للرسول، وبعد ذلك نصب القتال بينه وبين المحاصرين، ولما رأى من جنوده العجز عن فتح بغداد لأنها كانت حصينة، وتواردت إليها بكثرة جنود الأعجام، انقلب عنها عن طريق الموصل بعد أن نصب بكر الصوباشي واليا عليها. وهذا الأخير أدرك غايته بهذه التولية، ونهض على جنود الشاه فقتلهم، وداس بأرجله العمامة التي كان أهداه إياها الشاه عباس. ولما بلغ الشاه هذا الأمر المنكر جرد جيشا جرارا جاء به إلى تحت أسوار بغداد، وطلب من بكر تسليمها، فجاوبه بإطلاق المدافع من الأبراج وطعنات الرماح، ثم أنجده حافظ باشا قائد جيوش الدولة بفرقة من العساكر تحت راية كور حسين باشا. ولما علم قائد عساكر العجم بقدوم عساكر الدولة طلب كور حسين باشا ليتحادث معه بأمر الصلح، فذهب مصحوبا ببعض الضباط، وإذ كان سائرا معهم إلى مقر المواجهة وثب عليهم جماعة من الأعجام كمنوا لهم في الطريق فقتلوهم، وقدموا رءوسهم إلى الشاه عباس فعلقها على شرفات السور.
ومكث الحصار على بغداد ثلاثة شهور طوالا حتى تضور الأهلون من الجوع، فالتجأ أكثرهم إلى معسكر الأعجام، وكان لبكر الصوباشي ولد يقال له محمد يشبه أباه في الخيانة ونقض الزمام، كان وقتئذ مستلما قلعة المدينة، فأرسل إليه الشاه عباس ليسلمه المدينة واعدا إياه بأن يوليه حكمها، فانخدع بذلك، وفتح له أبواب القلعة، فدخلتها الأعجام في الليل بضجيج عظيم وقبضوا على بكر وأتوا به إلى الشاه، ولما وصل أمامه رأى ولده جالسا عن يمينه، وسمعه يوبخه على الخيانة التي وقعت منه بحق الشاه، ثم أخذوه ووضعوه في قفص من حديد طرحوه موقد نار كي يقرروه عن المكان الذي أخفى فيه أمواله، ثم أخذوا ذلك القفص ووضعوه في قارب مشحون بالزفت والكبريت وأشعلوه فيه. وبالنظر للخلاف الديني الكائن بين الأعجام وأهل السنة، حدث بينهم قتال شديد، وكفاح عنيف سفكت فيه الدماء كثيرا. وكان في بغداد خطيبان؛ أحدهما يدعى نوري أفندي، والآخر عمر أفندي، فدعاهما الأعجام بعد أخذ بغداد وألزموهما بأن يجدفا على عمر وعثمان، ولما لم يقبلا بذلك علقوهما في نخلة هناك، وأطلقوا عليهما الرصاص. أما الشاه عباس الذي وعد ابن بكر بالولاية مكان أبيه مكافأة له على تسليمه المدينة، فخاف من خيانته، وأرسله إلى خراسان، وهناك سقاه كأس الحمام.
وأقام الشاه بعد ذلك مدة يسيرة في مدينة بغداد، وخرج منها إلى الموصل لمحاربة حافظ باشا، فحاصرها فلم يستطع أن يفتحها عقيب طويل الحصار، ولما ارتد عنها جمع حافظ باشا جنوده وسار بهم إلى بغداد ليستردها من الأعجام ، فما أمكنه ذلك، وانقلب عنها إلى الموصل، وبعد مدة عزل وعين مكانه خليل باشا، الذي سار بجانب من العساكر إلى مدينة حلب، وضم إليه ما بقي بها من عساكر حافظ باشا، وزحف بهم إلى أرض روم، فارتد عنها خاسرا بعد أن هلك معظم عساكره، فعزلوه وأقاموا مكانه خسرو باشا، فهاجم أرض روم وافتتحها وقبض على أبازه باشا حاكم المدينة العاصي، وأحضره إلى القسطنطينية، وفي تلك الأثناء توفي الشاه عباس، فسار خسرو باشا بمائة وخمسين ألف مقاتل إلى مدينة حلب، وكان يفعل في أثناء طريقه أفعالا قاسية ترتعد لذكرها الفرائص، من جملتها ما فعله مع ترميش بك حاكم قونية، فكتب إليه يقول:
أرسل لي أموالك وإلا أقطع رأسك.
فأجابه:
إذا كانت الساعة لم تحضر بعد فباطلا تخوفني، وإن لطخت يدك بدمي الطاهر، فتكون يدي كالطوق في عنقك يوم القيامة، واعلم أني الآن تجاوزت من العمر حد الثمانين، قضيت معظمه في خدمة الدولة بالصدق والإخلاص، ولا أتأسف على موتي، ولكن لو أنصف الدهر لكان الأجدر بك أن تموت جزاء خيانتك.
ولما اتصل كلامه بمسامع خسرو باشا أرسل فقتله وظبط أمواله، ثم قتل أبا بكر الدفتردار ووزع أمواله على الجنود، وبعد ذلك تقدم خسرو باشا إلى بلاد الأعجام، فأخرب سراية حصن باد وهمدان وغيرهما، واقتفى أثر الأعجام فهربوا من أمامه، ثم حاصر مدينة بغداد جملة أيام وارتد عنها خاسرا، ثم قطع نهر الدجلة، وأخرب الجسر خلفه. ومن وفرة أعماله القبيحة صدر الأمر بعزله، ونصب مكانه حافظ باشا، فهاجت الجنود، وعادوا إلى القسطنطينية فتجمعوا في فسحة آت ميدان، وأخذوا يطلبون قتل الذين كانوا السبب في عزل خسرو باشا، وهم: الصدر الأعظم، والمفتي يحيى أفندي، والدفتردار مصطفى أفندي، ونديم السلطان حسن أفندي، ثم طلبوا أيضا رءوس بعض الوزراء، فردعهم السلطان ووبخهم، غير أنهم لبثوا مصرين على طلبهم وتهددوا السلطان بالعزل، وكان حافظ باشا قد حضر إلى الآستانة واستتر في هذه الحادثة وراء ستار كان داخل القاعة الكبرى حيث كان العساكر مجتمعين، فلما سمع منهم ذلك خرج من خبائه وجاء إلى وسطهم وسجد أمام كرسي الجلالة الشاهانية، ثم نهض قائلا:
يا أيها الباد شاه، يهلك ألف عبد نظير عبدك حافظ ولا تسقط شعرة من رأسك أو مسمار من كرسيك، فأتوسل إليك بحق جلالتك وسلامة قلبك أن تتركهم يقتلوني؛ كي أموت شهيدا، ويسقط دمي المسفوك على رءوسهم، ولكن أطلب من إحسانك الملوكي أن تأمر بدفن جثتي في إسكودار.
ثم انثني وقبل الأرض قائلا:
بسم الله الذي لا إله إلا هو، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعد نهاية كلامه، تقدم بوجه باش وقلب منكسر نحو الجنود ليقتلوه، فهجم عليه بعضهم وطعنه بخنجر، فخر على الأرض قتيلا، ثم تحولوا إلى حسين أفندي، نديم السلطان، فأماتوه، وارتضوا بعزل المفتي، أما الدفتردار فهرب، وعقيب ذلك سكن الاضطراب. وكان خسرو باشا علة هذه البلايا مقيما في مدينة قونية ينتظر نتيجة شروره، وحينئذ صدر الأمر إلى مرتضى باشا أن يتوجه بالجنود واليا على ديار بكر، ويقتل في طريقه خسرو باشا، ويستولي على أمواله، غير أن خسرو كان يبلغه سريعا كل ما يحدث بالآستانة، فلما وقف على ذلك الأمر شرع يتحصن في منزله مع جماعته، ولما وصل مرتضى باشا إلى قونية أعلم القضاة بأمر السلطان، وقتل خسرو باشا، واستولى على أمواله التي بلغت نحو مائتي ألف ذهب دوكة، وأرسلها إلى السلطان.
وحدث بعد ذلك أن الأمير فخر الدين معن حاكم جبل لبنان شق عصا الطاعة وتمرد على الدولة، فعاهد ملك توسكان وسافر إلى فيورنسه ليؤيد العهد بذاته، بعد أن حارب عساكر السباهية التي كانت تحت قيادة خسرو باشا في دمشق وأعدم منهم عددا وفيرا، فأرسلت الدولة عسكرا لتأديبه سلمت قيادته إلى كوشك أحمد باشا والي دمشق. وبعد قتال عنيف انخذلت جنود الأمير فخر الدين، واضطر إلى الهروب، فاختفى في مغائر نيحا الكائنة في أطراف مقاطعة الشوف من أعمال لبنان. وقد حاصره أحمد باشا هناك، وطفق يحتال على فتح منافذ لتلك المغائر، فصنع حراقات عظيمة ووضعها على تلك الصخور الحاجزة، وصار يصب الخل عليها حتى تفتتت وتمكن من فتح منفذ منها، وإذ ذاك أرسل الدخان من ذلك المنفذ إلى الداخل؛ حتى اضطر الأمير فخر الدين إلى التسليم، فأخذه أحمد باشا إلى القسطنطينية، ولما امتثل بين يدي السلطان عفا عنه حلما وكرما، ووضع ولديه الأمير مسعود والأمير حسين في مكتب المماليك في غلطه سراي. وبعد أن أقام فخر الدين مدة من الزمن، وردت الأخبار إلى إسلامبول بأن ابنه الأمير ملحم معن جاهر بعصيان الدولة، ونهب مدينة بيروت وصيدا وصور وعكا، وحارب جنود أحمد باشا والي دمشق وكسرهم، فغضب السلطان من هذه المنكرات التي حصلت بدسائس الأمير فخر الدين، فأمر بقطع رأسه، فقطعوه على باب السراي، ثم أمر بقتل ولديه، فقتلوا الأمير مسعود، أما الأمير حسين فقد اختفى في غرفة أحد المماليك، ولما ظهر عفا عنه وبعثه رسولا من قبل الدولة إلى الهند.
ثم سار السلطان بالجنود إلى فتح بغداد وتخليصها من أيدي الأعجام، فوصلها بعد ثلاثين يوما، وفي اليوم الثاني من وصوله إليها أمر الجنود بالهجوم، فوثبوا عليها وافتتحوها عقيب مقتلة دموية. وبعد ذلك رجع السلطان من بغداد تاركا بها عشرة آلاف جندي لمحافظتها، وفي عام 1402 حصل حريق في القسطنطينية أتلف نصفها، ثم مرض بداء النقرس لسبب ما كابده من الأتعاب والمشاق في فتوحاته، وتوفي في اليوم السادس من شوال سنة 1049 هجرية.
عاش 29 سنة، قضى منها 17 سنة سلطانا، وكان أنيس المحاضرة، يحب البذخ وركوب الخيل، ويقال: إن معالف خيله كانت من الفضة الخالصة، وكذلك السلاسل والأرسان، وكان عنده من جياد الخيل نحو الثمانمائة حصان لركوبته، وثمانمائة أخرى لنقل أمتعته وقت السفر، وخمسمائة لنقل أمتعة دائرته، و600 لنقل خزينته، و880 لنقل الخيام، وكان كل واحد من مماليكه له 30 فرسا من جياد الخيل. رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان الثامن عشر
السلطان إبراهيم ابن السلطان أحمد الأول
ولد عام 1024، وجلس على عرش السلطنة سنة 1049. وتفصيل ذلك هو أن السلطان مراد الرابع توفي دون أن يعقب ذكورا، ولم يبق بعد موته من نسل آل عثمان سوى أخيه السلطان إبراهيم، وهذا كان مسجونا مدة سلطنة أخيه كما جرت العادة، ولما توفي أخوه أسرع كبار المملكة إلى مكان الحبس ليخبروه بذلك، فعند قدومهم خاف وارتعب واهما أنهم قادمون لقتله، ولم يصدق ما قالوه له، ولذلك لم يفتح لهم باب السجن، فكسروه ودخلوا عليه يهنئونه، فظن أنهم يحتالون عليه للاطلاع على ضميره، فرفض قبول الملك بقوله: إنه يفضل الوحدة التي هو بها على ملك الدنيا. ولما أن عجزوا عن إقناعه حضرت إليه والدته، وأحضرت له جثة أخيه دليلا على وفاته، وحين ذاك اطمأن باله، وجلس على سرير السلطنة، ثم أمر بدفن جثة أخيه باحتفال وافر، وساق أمامها ثلاثة أفراس من جياد الخيل التي كان يركبها في حرب بغداد، ثم مضى إلى جامع أيوب وهناك قلدوه بالسيف ونادوا له بالخلافة. أما هيئته فما كانت تعجب الناظرين؛ لأن وجهه كان مشوها بالجدري، وكان ما عدا ذلك ضعيف الرأي جبانا، فسلم الأحكام إلى أمه ووزير الصدارة قره مصطفى باشا، وانهمك في بحار الملذات بين ألف وخمسمائة سرية.
وفي سنة 1025، جاءه رسول من شاه العجم يعلمه بجلوس الشاه عباس الثاني، وفي السنة ذاتها، ولد له ولدان؛ وهما: محمد وسليمان، فخابت بذلك آمال التتار الذين كانوا يؤملون أنه بعد موت السلطان إبراهيم تنقطع سلالة آل عثمان، ويصير حق السلطنة لهم، ثم ساق جنودا تحت قيادة سياوش باشا وحسين باشا لمحاربة القزق، فلم يظفروا عليهم، ولذلك أرسل عسكرا آخر بقيادة سلطان زاده محمد باشا، فحاصروا آزاق وقرمان، وبعد عدة هجمات دخلوها ظافرين.
وفي شهر ربيع الأول من سنة 1055، أرسل عمارة بحرية مؤلفة من أربعمائة مركب لمحاربة جزيرة كريت، وذلك لأن مراكب أهالي ونديك ومالطة تعدت على مراكب الدولة، ثم ذهبت فاحتمت عند مشيخة البندقية في كريت، ولما وصلت العمارة العثمانية إلى الجزيرة المذكورة أقامت الحصار على مدينة قندية، التي هي من أعظم مدن تلك الجزيرة، واستولت عليها في مدة يسيرة، ثم تحولوا عنها إلى افتتاح باقي مدائن الجزيرة، وبعد أن مكثوا يحاربونها مدة خمسة وعشرين سنة تيسر لهم افتتاحها وذلك على عهد السلطان محمد الرابع. ومن كون السلطان إبراهيم كان منهمكا في الملذات، ومهتما في البذخ والإسراف، حتى إنه أمر بصنع قائق مرصع بحجار الماس، وبما أن أعماله كانت غير مرضية خلع وجلس مكانه ولده السلطان محمد وهو ابن السبع سنوات، فهاجت عساكر السباهية، الذين كانوا نظير الأليكشارية في الاقتدار، من إقامة صبي ملكا عليهم، وطلبوا إرجاع السلطان إبراهيم، فخاف أكابر الدولة الذين سعوا في خلعه من رجوعه لئلا ينتقم منهم، وعولوا على قتله، فذهبوا إلى السرايا المسجون بها ومعهم قرة علي السياف، ولما دخلوا عليه أمروا السياف بقتله، فلم يتجاسر أن يرفع يده عليه، ثم انطرح على أقدام الوزير يتوسل إليه أن يقتله ولا يجبره على قتل السلطان، فضربه الوزير بالعصا على رأسه ففجه. أما السلطان فلما رآهم داخلين عليه نهض خائفا مذعورا وقال لهم: ماذا تريدون مني؟ ألست أنا سلطانكم؟ فأجابوه: كلا؛ لأنك ما اتبعت آثار أجدادك، وخالفت ناموس الشريعة، وخربت المملكة، وأضعت زمانك منقادا وراء الملذات، وقد كانوا استفتوا المفتي عن قتله تحت حجة أنه كان يبيع الوظائف بالمال، فأفتاهم بقتله، وإذ ذاك جاءه آغا الأليكشارية ووزير الصدارة محمد باشا، وأعلموه بأنه قد حكم عليه بالموت، ثم وثبوا عليه وأعدموه الحياة سنة 1058، ودفن في تربة السلطان مصطفى. رحمهما الله وأسكنهما الجنان.
السلطان التاسع عشر
السلطان محمد خان الرابع ابن السلطان إبراهيم
ولد عام 1051، وجلس على تخت المملكة عام 1058 وهو ابن سبع سنين، فكانت جدته ماهبيكر، المعروفة باسم كوسم سلطان، تدبر أمور المملكة طبق العادة المألوفة حينا من الزمن، غير أنها ما استمرت طويلا مستقيمة في التصرفات، وانبرت تتلاعب بالأحكام حسب الأهواء، فأشار بعض رجال الدولة على السلطان بقتلها فقتلت. وكانت غنية جدا تركت بعد موتها عشرين صندوقا من الذهب البندقي، و300 شالا من أفخر الشيلان، وعدة علب من الذهب منقوشة المينا بما يدهش العقول، فكانت مملوءة من الحجارة الثمينة النادرة الوجود، مثل: الزمرد والماس والياقوت. وأمر السلطان أيضا بقتل قره مراد باشا، الصدر الأعظم؛ لفساد ألقاه ، وعين مكانه حسن باشا، فلم يستقم، وعين مكانه سياوش باشا، ثم عزل لما ألقى في حقه الطواشي سليمان آغا من الدسائس والفتن، وعين بدلا عنه كورجي محمد باشا، وكان عمره خمسا وتسعين سنة، وغير أهل لسياسة الملك بالنظر لكبر سنه ، فكثر الفساد، وعم الاختلال، وثار ذوو الأغراض؛ حتى إن السلطنة أشرفت على الاضمحلال. وفي 1062، عزل محمد باشا، وأقيم مكانه طرخونجي أحمد باشا، فأخذ في إصلاح الأمور، ومداركة الاختلال، ونفي الطواشي سليمان آغا إلى مصر، فهدأت الخواطر. وفي سنة 1064، ضربت عمارة الدولة عمارة مشيخة البندقية فدمرتها، وفي أثناء ذلك تجمع الجنود في فسحة آت ميدان، وأحدثوا هياجا طلبوا فيه من السلطان إعدام بعض الكبراء، فأجاب طلبهم لتسكين الهياج، وأمر بقتل قزلر آغاسي، طواشي الحريم، وقبو آغاسي، كبير المماليك، فقتلوهما وطرحوهما إلى الجنود الثائرين، فعلقوهما مع ستة أشخاص آخرين بشجرة دلب في آت ميدان. وفي سنة 1066، دخلت عمارة تابعة لمشيخة البندقية إلى جناق قلعة وضربت عمارة الدولة التي كانت في مياهها، فتغلبت عليها واستولت على بعض جزائر في البحر الأبيض تابعة للدولة.
وقد كانت الدولة في أوائل خلافة هذا السلطان معرضة لأخطار الانحطاط، تقذفها أمواج الاضطراب من جميع الجهات، فمن الجهة الواحدة كانت دول الأعداء تضرم عليها نار الحروب، ومن الجهة الأخرى كانت عمارة الأعداء قافلة بوغاز جناق ولا تسمح لمراكب الدولة بالخروج منها إلى البحر الأبيض، وكانت جزيرة كريت مجاهرة بالعصيان، وكانت وجاقات الأليكشارية والسباهية في تمرد وهياج وغير منقادين لأوامر ولاة الأمور، وكانت الخزينة خالية من النقود، والسلطان حديث السن لا يتجاوز الثماني سنوات، غير أن الباري جل جلاله لم يسمح باندثار هذه الدولة المشيدة الأركان، بالرغم عما ألم بها من الأخطار، فنشط السلطان إلى مداركة الأمر، واستدعى إليه كوبرلي محمد باشا، المشهور بسمو المدارك وحسن التدبير، فقلده منصب الصدارة، ووكل إليه الحل والربط، فأخذ الوزير بحل المصاعب، وتدبير الأمور، وإصلاح البلاد، وأخذ يجتهد في جمع الأموال، وتقوية الجنود؛ حتى يتيسر له في بحر خمس سنوات انتشال الدولة من المخاطر التي كانت محدقة بها، ويقال بأنه لم يجلس وزير على تخت الصدارة مثله، فإنه كان شجاعا، صائب الرأي، ثابت الجأش، محمود السيرة، توصل بدرايته إلى تنظيم الأحكام، وبشجاعته إلى قهر المجر والقزق، وحارب مشيخة البندقية في سنة 1067، فقهرها واستولى على جزيرتي تيندوس وليمنوس، وحارب بلاد السرب، وانتصر عليهم، وكبح جماح أبازه باشا والي الأناضول الذي جاهر بالعصيان، وحارب الأروام في بلاد الأفلاق الذين أثاروا نار الحرب، وقتلوا مأمور الدولة، واستولوا على مدينة تركويش، وقتلوا جميع من وجدوا بها من الإسلام. وفي تلك الأثناء، أرسل عساكر من التتر فضربوا جنود المسكوب، وقتلوا منهم في مدة 15 يوما 20 ألفا، فاستأسروا منهم عددا وافرا، ثم أرسل ملاك أحمد باشا، والي بورصه، مع بعض الجنود لمحاربة المجر، فانتصر عليهم، وبتدبيره انتصرت عساكر الدولة جملة انتصارات أظهرت له الفضل والأبهة، فحسده الكثيرون من رجال الدولة، ولكي يستريح من شرهم قتل معظمهم، وهم: الوزير أحمد باشا والي حلب، ومحمد باشا صهر السلطان، وسعد الدين زاده أفندي قاضي القسطنطينية، والشاعر وجدي، وكامل زاده محمد، والشيخ صوفر والي مصر، ثم حصن البلاد العثمانية تحصينا منيعا.
وفي 7 ربيع الأول لسنة 1072، انتهت حياة هذا الرجل العظيم بعد أن مكث في منصب الصدارة خمس سنوات وثلاثة أشهر وعشرة أيام. وكان السلطان جاء يتفقده قبل مماته، ولما ودعه أخذ يوصيه قائلا له: احذر من مداخلة النساء وتسلطهن على الأحكام، وأوصاه أن يقيم صدرا كثير المال، وأن يشتغل دائما في الفتوحات والغزوات، فسأله السلطان عن رجل يرى فيه اللياقة لمنصب الصدارة، فأجابه أنه يرى اللياقة في ولده أحمد، فأقامه صدرا وقلده زمام الحكم، فسار على سنن أبيه في تحسين شئون الدولة. وفي سنة 1076، قتل حكام قبرص وساقز بالنظر لوفرة ظلمهم وفسادهم، وفي سنة 1077، جرد العساكر لافتتاح قلعة كريت، وكانت هذه السنة من أنحس السنين، حدثت بها جملة حروب وزلازل قوية أخربت عدة بلاد، وحدث فيها طاعون شديد، وأمطرت السماء بردا غريبا بلغت زنة البردة 240 درهما، وظهر في مدينة أزمير رجل يهودي يدعى سبتاي لاوي ، زعم أنه المسيح المنتظر من اليهود، وتظاهر بالوداعة، وأخذ يحدث الناس بدنو الأوان، فسار من أزمير إلى القدس، وهناك طفق يخابر اليهود الموجودين في المملكة العثمانية، ويعلنهم بمجيئه، فآمن به أكثر اليهود، وحضروا إلى أورشليم ليتباركوا منه، وكانوا يحدثون عنه أنه يعمل العجائب، ويفعل المعجزات التي تقصر عن إدراكها الأفهام. ولما بلغ خبره والي أزمير أرسل معتمدين من قبله ليقبضوا عليه، وقد بلغه ذلك فسار من أورشليم إلى القسطنطينية بجمع غفير من تلامذته، وقبل أن يدركها أرسل الصدر الأعظم فقبض عليه من المركب الذي كان حاضرا به من نواحي جناق قلعة، وزجه في السجن.
أما اليهود الذين كانوا يعتبرون هذا الاضطهاد كتتميم للنبوات السابقة عن المسيح، فإنهم شرعوا يستأذنون الوزير ليرخص لهم بمقابلة مسيحهم لتقبيل مواطئ قدميه، وبعد اللتيا والتي سمح لهم بذلك، بعد أن ضرب عليهم مبلغا من المال يدفعونه إلى الخزينة، ومن ثم ساروا يتواردون إلى السجن مقر مسيحهم حتى غص بهم. وكان السلطان وقتئذ في مدينة أدرنه، ولما اعتلم بأمره أراد أن يراه ويسأله عن ذاته، فعندما امتثل بين يديه طفق يتكلم بالتركية عن غير دراية بها، فقال له السلطان: إن كلامك بالتركي لا يستفاد منه أنك تعرف هذه اللغة، على حين يجب على مسيح نظيرك أن يكون فصيح اللسان بجميع اللغات، ثم قال له: هل تفعل شيئا من العجائب؟ فأجابه: نعم، ولكن في بعض الأوقات، فقال له السلطان: أرغب أن أمتحن فيك هذه الأعجوبة، ثم أمر بأن يعرى من ثيابه ويوقف في فسحة الميدان، وترميه الجنود بالنبال؛ فإن أصابته ولم تلحق به أذى يكون صادقا في دعواه، ماذا وإلا يكون دجالا ذميما. ولما أن سمع ذلك انطرح على الأرض وطفق يتوسل إلى السلطان بقوله: أرجوك عفوا عن حياتي؛ فإن قوتي لا تقدر على هذه الأعجوبة؛ فأمر السلطان بقتله، وحينئذ ترامى على أقدامه وطلب الدخول في دين الإسلام، فقبل إسلامه، ومن ذاك الحين صار يعظ اليهود ليعتنقوا الدين الإسلامي، فأسلم منهم كثيرون. وفي السنة ذاتها ظهر رجل من الأكراد يدعي المهدوية، والتف حوله جمهور عديد، فقبض عليه والي الموصل وأرسله إلى القسطنطينية، ولما تمثل بين يدي السلطان أمر أن يفعل به ما كان يريد أن يفعله مع المسيح الكذاب، فارتضى ومات قتيلا بالسهام.
ثم جهز السلطان جيشا كثيفا سيره إلى فتح قلعة كريت تحت قيادة أحمد فاضل باشا، ولما دنا منها انضم إلى الجنود التي كانت محاصرة تلك الجزيرة من نحو 22 سنة، وفي تلك الأثناء أرسل السلطان خطا شريفا إلى أحمد فاضل باشا يستنهضه إلى الإسراع لفتح الجزيرة، فشدد الحصار عليها، ومن شدة ما تضايقت جمهورية ونديك حاكمة الجزيرة المذكورة استنجدت بملوك الإفرنج، فأنجدتها دولة فرنسا وحكومة البابا ومالطة، فأرسلوا لها عددا كثيرا من المراكب والجنود، وبعد مواقع كثيرة استظهرت عليهم العساكر العثمانية، وقتلت القائد الفرنساوي، واستولت على الجزيرة استيلاء تاما. وبعد ذلك توفي أحمد باشا، وعين بدلا عنه مصطفى باشا.
وفي رمضان من سنة 1084، ولد للسلطان ولد سماه أحمد، وافتتحت الدولة في السنة ذاتها جملة مدن وقلاع، وحاربت ملوك الإفرنج وقهرتهم، وفي سنة 1092، جرد مصطفى باشا عسكرا حارب به دولة النمسا فقهرها، وزحف على بلادها حتى بلغ ويانه وحاصرها، وإذ ذاك حضر ملك بولونيا لإغاثة النمسا، فهجم على عساكر الدولة بغتة فغلبهم وقهرهم وشتتهم، وحينئذ انهزم مصطفى باشا إلى بلغراد. وبعد هذه الحروب نشط الأعداء في كل الجهات، وجاهروا بعدوان الدولة، فزحفت عساكر النمسا إلى إستراغون وبودن وبوسنه، وعساكر مشيخة البندقية تقدمت نحو الهرسك والموره والأرناءوط، وطفق البابا إينوشنسيوس الحادي عشر يحرض أهالي أوروبا على طرد المسلمين من بلادهم، فطردوهم من بلاد المجر والبغدان وسواحل البحر الأبيض ودلماسيه وباقي الجهات. ولما بلغ السلطان ذلك ساق الجنود وأنجدهم بالمهمات والذخائر، فلم يستطيعوا الثبات والمقاومة؛ لأن عساكر الأعداء استظهرت عليهم في جملة مواقع وقتلت معظمهم. وفي نهاية حكم هذا السلطان حصل قحط في بلاد الدولة أهلك نصف سكانها، وحدث حريق في إسلامبول دمر فيها عدة منازل، وكان السلطان إذ ذاك يتلاهى في الصيد والملذات، فثار عليه وجاق الأليكشارية وخلعوه، وأقاموا في سنة 1100 أخاه السلطان سليمان مكانه. وفي سنة 1104 توفي ودفن في تربة أجداده.
السلطان العشرون
السلطان سليمان الثاني ابن السلطان إبراهيم
ولد عام 1052 للهجرة، وجلس على عرش السلطنة عام 1099ه، وذلك أنه بعد خلع السلطان محمد دخل عليه الصدر الأعظم مصطفى باشا في مكان سجنه وناداه: «يا سلطاننا»، فلم يجب خوفا من سوء العاقبة، وبعد ذلك تقدم نحوه وأطلعه على واقعة الحال، ففرح وشكر الله وجلس على كرسي الملك وهو في السابعة من سنه، وبعد ذلك تجمعت عساكر الأليكشارية والسباهية في فسحة آت ميدان، وطفقوا يقتلون ويولون الأحكام من يريدونه، فأخمد السلطان هياجهم بتفريق الأموال، لكنهم نهضوا بعد مدة قليلة وقتلوا سياوش باشا الصدر الأعظم، ونهبوا منازل الوزراء وما تركوا منكرة إلا فعلوها، فلما ضاق ذرع الأهالي وما عاد في إمكانهم احتمال تلك الأفعال الوحشية، أخرجوا السنجق النبوي وهجموا عليهم، فشتتوا شملهم، وقتلوا معظمهم، وقد اغتنمت دولة النمسا تلك الفرصة التي بها كانت الدولة العلية مرتبكة في داخليتها، وزحفت بجنودها على ولايتي بوسنه وهرسك، فاستولت عليها، وافتتحت قلعة بلغراد وجملة بلاد، وهجمت أيضا مشيخة ونديك على مدينتي مدره وكرقه وغيرهما من مدائن الدولة.
وفي أواخر عام 1099ه، حاربت الدولة حكومة النمسا فكسرتها واستردت ما انتزعته منها من البلاد، وفي سنة 1101ه، عين مصطفى باشا الكوبرلي للصدارة العظمى، فسعى في سن القوانين الملائمة لطبائع الأهلين، ورفع المظالم عن عاتقهم، وأجرى التحسين الكافي في الأحوال المالية والإدارية، ونظم الجنود، وبعدئذ سار لمحاربة النمسا، ففتح مدائن ويدين سمندره وبلغراد، وشتت شمل الأعداء.
وفي عام 1102ه، توفي السلطان في أدرنه، ونقلت جثته إلى إسلامبول، وهناك واراها التراب في تربة السلطان سليمان القانوني.
عاش خمسين سنة، قضى منها على تخت السلطنة ثلاث سنوات. أسكنه الله فسيح جناته.
السلطان الحادي والعشرون
السلطان أحمد الثاني ابن السلطان إبراهيم
ولد عام 1052ه، وجلس على تخت الملك عام 1102 بالغا من العمر خمسين سنة، وبعد مضي شهر من جلوسه أشهرت عليه الحرب دولة النمسا، فأرسل لمقاومتها جيشا عظيما تحت إمرة مصطفى باشا. وقد التقى الجيشان في سهل صلانقامين، واشتد القتال بينهما اشتدادا مهولا، فقتل في حقل المعركة مصطفى باشا عقيب أن أظهر شجاعة الأبطال، ومات من الجيشين نحو النصف، وانجلت الموقعة عن انهزام الجنود العثمانيين.
وفي عام 1104ه، ثارت نار الفتنة في جبل لبنان ، وامتد شرارها إلى جبل حوران والبصرة، ولما استفحل أمرها، أمر السلطان والي الشام بردع أهالي جبل لبنان وحوران، ووالي بغداد بسحق ذوي التمرد في البصرة. وفي تلك الأثناء حدث أن جنود النمسا ساروا يعيثون في بلاد الدولة، ويسومون أهلها قتلا وخسفا، فسار الصدر الأعظم بأمر السلطان إلى بلغراد لردعهم، فاستخلص منهم بلاد السرب، وفتك بهم فتكا ذريعا، وظفر عليهم مبينا، وعاد بعساكره المنصورة إلى أدرنه.
وفي عام 1105ه، أرسلت جمهورية ونديك عمارتها إلى جزائر البحر الأبيض، فحاصرت جزيرة قبرص واستولت عليها، وافتتحت ولاية هرسك، فساق الباب العالي جنوده لمحاربتها، وإذ ذاك تداخلت دولة الإنكليز وهولانده لدى السلطان لإبرام شروط الصلح مع النمسا، فأبى قبل أن يأتيه الله بالفوز على أعدائه. توفي ودفن في تربة جده السلطان سليمان، وكان ذلك سنة 1106 للهجرة.
عاش ثلاثا وخمسين سنة، قضى منها على سرير السلطنة أربع سنين. وكان عالما فاضلا حسن الصفات، وكريم الأخلاق.
السلطان الثاني والعشرون
السلطان مصطفى الثاني ابن السلطان محمد الرابع
ولد عام 1074ه، وجلس عام 1106 بالغا من العمر 32 سنة، وحال جلوسه أمر بحشد الجيوش، وشحذ السيوف، وإعداد معدات الحرب، وعند إنجاز ذلك أشهر الحرب على دولة النمسا وجمهورية ونديك، فعمل بهما السيف والحسام، واسترد من النمسا بلاد السرب، وأغرق مراكب جمهورية ونديك في البحر الأبيض، واسترجع جزيرة ساقز.
وفي سنة 1108ه، حاصرت الروس قلعة أزاق فاستولت عليها، وهجمت عساكر ونديك على جزيرة الموره وأخذتها، وأشهرت دول الإفرنج المعادية نار الحروب على الدولة من كل الجهات، فناهضتها جنود السلطان بكل بسالة وإقدام، وفي سنة 1112 توصلت دولة الإنكليز مع دولة هولانده في أمر الصلح بين الدولة العلية والنمسا، وقد تم أمره في قارلوفجه بحضرة معتمدين من قبل دولة الإنكليز وهولانده وألمانيا وبولونيا والروسية ومشيخة ونديك، وبعد البحث والتروي تقرر باتفاق الآراء ما يأتي:
أولا:
أن لا تطلب الدولة العلية ويركو أو نحوه.
ثانيا:
أن الأراضي التي على سواحل نهر الطونه وصاوه تضع دولة النمسا يدها عليها.
ثالثا:
يبقى في يد جمهورية ونديك بلاد الموره والجزائر السبعة ودلماسيا، وأن تترك قلعة أنيه بختي وبلاد الأرناءوط للدولة.
رابعا:
تعتبر حدود البولونيين من مياه طورله.
خامسا:
أن يعاف أمراء القرم من الويركو.
سادسا:
أن تبقى قلعة أزاق في يد الروسية.
ثم وقع المرخصون على هذه المعاهدة، وأخذ كل منهم صورة منها، وعاد السلطان إلى أدرنه تاركا حسين باشا وزيرا للصدارة، فأخذ هذا الوزير بإخماد الهياج المضطرم في القسطنطينية، وتشييد القلاع وإصلاح المالية إلى أن توفي.
وفي عام 1114، تداخل فيض الله أفندي، صهر الشيخ واني، ومفتي الأنام في الأحكام، واحتكر المناصب العلمية إلى أقربائه؛ لأن في يده كان فصل الأمور، وعزل الوزراء وتوليتهم، وفي تلك الأثناء اتحد الجند والعلماء، وتجمعوا في آت ميدان، وانضم إليهم نحو ستين ألفا، ثم أخذوا السنجق الشريف من السرايا، وبعثوا من قبلهم رسلا إلى السلطان في أدرنه يطلبونه، فتكدر منهم، وكره الحكم، فسلم زمامه لأخيه السلطان أحمد. وبعد مضي خمسة أشهر من اعتزاله عن تدبير السلطنة توفي إلى رحمة ربه، وذلك عام 1115 للهجرة.
السلطان الثالث والعشرون
السلطان أحمد الثالث ابن السلطان محمد الرابع
ولد عام 1084 للهجرة، وجلس على عرش السلطنة عام 1115 بالغا من العمر 41 سنة، وبعد جلوسه حدث أن هاج وجاق الأليكشارية على شيخ الإسلام فيض الله أفندي وقتلوه، ونفوا أولاده، ثم عمدوا إلى إنفاذ الغايات والمقاصد، وعزلوا أعظم رجال الدولة واستبدلوهم بمن أرادوا. أما السلطان فلما رسخت قدمه اقتص من الجانين، وأعطى القوس باريها؛ بتقليد المناصب لذويها من أصحاب الأهلية واللياقة، ثم أعلم الدول بجلوسه كما سبقت العادة، فهنأته بذلك، وفي السنة ذاتها خانت جمهورية ونديك العهود، واعتدت على بعض بلاد الدولة، فساق السلطان لمحاربتها عمارة بحرية دمرت مراكب الجمهورية، واستولت على أغلب جزائر مملكتها . وفي عام 1121ه، حاربت دولة الروس كارلوس الثاني ملك السويد، ولما تغلبت عليه التجأ إلى كنف الدولة هاربا، فاقتبلته بما يليق من الإكرام، ومكث لديها ضيفا عزيزا مدة طويلة كان يهيج بأثنائها رجال الدولة على محاربة الروسية فلم يذعنوا له.
وفي سنة 1125ه، زحف ملك المسكوب على بلاد الدولة، فساقت لمقاتلته جيشا جرارا سلمت قيادته للصدر الأعظم محمد باشا، فالتقى الجيشان عند ساحل نهر بروت، وطفقوا بالمطاعنة والكفاح عدة أيام حتى احمرت الأرض من الدماء، وأخيرا وثبت العساكر الشاهانية وثبة واحدة على جنود المسكوب فكسروهم وأخذوا منهم قلعة أزاق، وحينئذ طلبت الروسية إبرام الصلح، فقبل الصدر الأعظم منها ذلك تحت شرط أن تعيد لممالك الدولة بحر أزاق، وتهدم القناطر المقامة عليه، وتمنع من المداخلة في مصالح القزق، ولا تعارض في رجوع الملك كارلوس إلى بلاده، فقبلت الروسية بهذه الشروط، وبموجبها تمت معاهدة الصلح وأمضاها الصدر الأعظم. ولما أرسلت للسلطان كي يصدق عليها رفضها وعزل الصدر الأعظم، وأقام مكانه يوسف باشا، فجدد عهد الصلح مع الروس على مدة 25 سنة، فعزله السلطان لهذا السبب، وعين بدلا عنه سليمان باشا، ثم عزله ونصب داماد باشا، فصدق على معاهدة الصلح لمدة 25 سنة.
وفي سنة 1126ه، سافر الملك كارلوس الثاني من بلاد الدولة عائدا إلى بلاده شاكرا حامدا ما لاقاه من حسن الضيافة وكرم المعاملة، وفي عام 1127، غزت الدولة بلاد الموره مع سائر جزائرها، فتأثرت النمسا من ذلك، واتحدت مع جمهورية ونديك، ونقضت عهود قارلوفجه، وأعلنتا الحرب على الدولة. وقد التقت الجيوش عند سواحل نهر الطونة، وهناك استخدموا السلاح والبيض الصفاح، وبعد طويل القتال والكفاح انكسرت عساكر الدولة، وقتل قائدها الصدر الأعظم، فأقيم بدله خليل باشا والي بغداد. وهذا أفرغ جهده في جمع الجنود ومقاومة العدو فلم يفلح، واستظهرت عليه النمسا فاغتنمت منه قلعتي بلغراد وطمشوار، ولما باد أكثر من معظم جيوش المتحاربين توسطت دولة الإنكليز في إبرام الصلح، وبعد طويل المخابرات تقررت أن تترك الدولة جزيرة (بره وزه) وجزائر اليونان لجمهورية ونديك، وأن تعطي للنمسا بعض بلاد في جهات الصرب والأفلاق. وعلى هذه الشروط حصلت معاهدة الصلح في سنة 1130ه.
وحدث بعد ذلك أن أهل السنة المتوطنين في بلاد العجم كثر عليهم الاعتداء من الشيعيين، فرفعوا تظلماتهم إلى السدة السلطانية يلتمسون الشاهانية لإغاثتهم، فافتتحت في مسيرها عدة حصون منيعة، وما توقفت عن المسير حتى دخلت تبريز، وأغاثت المتظلمين، وقهرت الأعجام، وبعد ذلك صالحتهم بناء على طلب الشاه.
وفي سنة 1143ه، تنازل السلطان أحمد عن كرسي الخلافة لأخيه محمود خان، ولبث بعد ذلك نحو ست سنوات، وقضى عام 1149. رحمه الله وجعل الجنة مأواه.
السلطان الرابع والعشرون
السلطان محمود الأول ابن السلطان مصطفى الثاني
ولد عام 1108ه، وجلس سنة 1143 بالغا من العمر 35 سنة، وفي حكمه اعتمد على أحد الرجال المدعو بترونه خليل، وأحله محل ابن أخيه، فانقاد وراء أهواء النفس، وأخذ يولي ويعزل من المناصب من يريد، وانضم إليه حزب كبير من المفسدين، وطفقوا يفعلون المنكرات، ويرتكبون السيئات حتى أوغروا صدور العموم عليهم حقدا، فنهضوا وقتلوهم عن آخرهم، ثم ثار وجاق الأليكشارية واقتتلوا مع الأهالي دفعتين، فباد منهم ما ينوف عن 15 ألفا، وفي عام 1144 عين السلطان للصدارة العظمى عثمان باشا، فأخمد نار الفتن المستعرة في داخلية البلاد، وأصلح أهم الأحوال، وسار بقسم عظيم من الجنود لمحاربة العجم فكسرهم واستولى على مدن كرمنشاه وأرديلان وهمدان، ولما علم الشاه طهمسب بانخذال جنوده في ميادين القتال سار بذاته إلى حقول المعركة، وبعد قتال عنيف انتصرت عليه الجيوش العثمانية، واستولت على أعظم مدائن سلطنته حتى دخلت تبريز، وإذ ذاك طلب عقد الصلح من جلالة السلطان فلم يقبل، وبعد حين عزل عثمان باشا، وأقيم مكانه زاده علي باشا.
وفي تلك الأثناء حدث شغب في بلاد العجم انتهى بعزل الشاه طهمسب، وإقامة ولده الشاه عباس الثالث بدلا عنه، فعين نادر خان قائدا للجيوش، وأمره بمحاربة الدولة، فزحف بجيوشه على مدينة بغداد، ولما اقترب منها التقى بجنود الدولة فقاتلها على شاطئ نهر الفرات، وكافحها بعزم شديد، لكنه لم يظفر بها، وانتصر على جيوشه بعد أن أهلكت منهم عددا جسيما، وأصيب بجرح بليغ اضطره إلى الفرار، ثم استأنفت دولة العجم الحرب بغتة مع الدولة فانتصرت عليها.
وحدث في بحر تلك المدة أن توغلت عساكر الروس في بعض بلاد الدولة، واتحدوا مع عساكر النمسا فاستولوا على جزيرة القرم، ثم انفردت عساكر النمسا وسارت إلى بلاد السرب والأفلاق والبغدان، وحاربتهم ونهبت بلادهم بعد أن استولت على قلعة نيش، ولما اعتلم السلطان بذلك سير جيوشه إلى سواحل الطونه، ففرقت شمل جنود النمسا، واستردت منهم الأفلاق والبغدان وقلعة نيش، ثم تحولت لقتال الروس فهزمتهم عند نهر بروت، وحينئذ تداخلت فرنسا بأمر الصلح مع الروسية والنمسا والدولة العلية، بشرط أن تترك النمسا السرب والأفلاق وأرسوفا، وأن تهدم الروسية ما أقامته من الاستحكامات على سواحل بحر الأزاق. وعلى ذلك تمت المعاهدة سنة 1152. وفي سنة 1168، توفي السلطان ودفن في تربة أبيه السلطان مصطفى، فارتدت المملكة عليه أثواب الحداد؛ لأنه كان عادلا كريما عالي الهمة، رءوفا يحب المساواة بين سائر طبقات الناس.
السلطان الخامس والعشرون
السلطان عثمان خان الثالث ابن السلطان مصطفى الثاني
هو أخو السلطان محمود الأول، ولد عام 1110، وجلس سنة 1168 بالغا من العمر 58 سنة، ومن كونه قضى معظم حياته في السجن بالنظر لخلافة أخيه على سرير السلطنة، فكان يحب الوحدة والابتعاد عن المشاغل والاهتمام في إصلاح أمور الدولة، وقد سلم القزلر آغاسي زمام الحكم، فكان يعزل ويولي من يشاء من الوزراء وأصحاب المناصب، وقد جره طيشه إلى عزل الصدر الأعظم علي باشا وتعيين سعيد أفندي مكانه، وكان السلطان يخاف أن الشعب يعزله ويولي مكانه أحد أولاد السلطان أحمد الثالث وهم محمد وبايزيد وأورخان فأمر بقتلهم، وفي سنة 1169 حدثت حريقة عظيمة أتلفت عدة بنايات ونحو ثلثي سكان المدينة وقسما كبيرا من جامع أجيا صوفيا، وفي سنة 1171 توفي إلى رحمة ربه، ودفن في تربة أخيه السلطان محمود، رحمهما الله.
السلطان السادس والعشرون
السلطان مصطفى خان الثالث ابن السلطان أحمد الثالث
هو بكر السلطان أحمد الثالث. ولد سنة 1129، وجلس سنة 1171 بالغا من العمر 42 سنة، وريثما استقر في الملك أخذ في تنظيم الأحوال، وسن الشرائع، وتوطيد دعائم الأمن في داخلية البلاد بمعاضدة الصدر الأعظم راغب محمد باشا، الذي تقلد عدة مناصب؛ منها: ولاية مصر التي انتشلها من أيدي المماليك بعد أن أبادهم.
وحدث في تلك الأثناء أن كاترينا، زوجة بطرس السادس قيصر الروس، خلعت بعلها عن كرسي السلطنة، وجلست مكانه، وطفقت تحشد الجيوش وتشعل الحروب تحت سماء أوروبا، ثم ساقت جيوشها إلى سكان بولونيا الذين ساروا ضد شيعة لوتر، وبواسطة ما استعملت من الدهاء والرشوة أجلست على هذه الحكومة الكونت بينياتوفسكي - أحد عشاقها في مدة صباها - فغضب السلطان من ذلك، واعتمد على إشهار الحرب ضد الروس، غير أن الملكة كاترينا تعهدت لجلالته بأن تنجلي بعساكرها عن بولونيا، وعقيب ذلك نهض خان القرم على بلاد السرب الجديدة، فأحرق فيها كل الأبنية الروسية، وأسر من الروس 35 ألف رجل، وكان يستعد أن يبلي الروس ويبيدهم، بيد أن أجله لم يطل ومات مسموما، وعين عوضه دولة غراي. وهذا كان قاصرا في العقل والتدبير. وبعد ذلك تقدمت عساكر التتر لتعبر نهر دنستر، فمنعها الصدر الأعظم وحارب المسكوب في شوكسن فكسرهم، وهربوا إلى مدينة بندر، لكنهم استأنفوا القتال فظفروا بجيوش الدولة وشتتوها، وبعدئذ هيجت كاترينا شعب اليونان، ودفعتهم إلى طلب الحرية والاستقلال، مذكرة إياهم بحرية آبائهم ومجد أجدادهم، ومن كون شريعة المسكوب قريبة لشريعة اليونان، أرسلت كاترينا معتمدا من قبلها إليهم، فتوجه أولا إلى الموره وتحدث سرا مع بناكي، مستلم مدينة كلاماتا، وبعد جملة مخابرات تعاهد اليونانيون على طلب الحرية آملين نوالها بإسعاف المسكوب، واعتمادا على ذلك عاد المعتمد إلى كاترينا، وأخبرها بأن اليونان ينهضون على قدم وساق حتى عاينوا عمارة المسكوب قادمة لمعاضدتهم؛ فاغترت كاترينا بذلك، وانتهزت هذه الفرصة لإخراج اليونان عن طاعة الدولة، وفي سنة 1183، سيرت قسما من العمارة إلى البحر الأبيض، فتوهمت الدولة من دخولها فيه أن القصد هو توقيف أهل السويد على حدودهم، وإذ كانت الدولة مطمئنة من هذا القبيل وفد الجنرال أسبيردون الروسي بعمارة إلى بحر السند، وهو مضيق الدانيمرك، ومنه دخلت البحر الأبيض من جهة جبل طارق، وطرحت أمراسها في بوغاز كورون من جزائر اليونان، ونزل منها من كان فيها من الجند إلى البر، وكانوا قليلي العدد، ولما شاهدهم الأروام تذمروا من قلتهم؛ لأنهم كانوا بانتظار جيش كثيف، وكذلك تكدر المسكوب الذين اعتمادا على مواعيد معتمدهم كانوا يؤملون أن يتوارد إليهم الأروام من كل الجهات متى علموا بقدومهم، أما بناكي فقد انتخب أربعة آلاف مقاتل وسار بهم لمحاصرة كورون، التي كان فيها فرقة قليلة من الجيش العثماني، وبعد حصار شهرين رجعوا عنها خائبين، وبعد ذلك تجمعت عساكر الدولة وسارت تقتفي أثر الأروام والمسكوب، فأحرقت بتراس ريبوليتزا وميغالو بوليس ولاقونيا، وعملت فيهم السيف، وأفنت معظمهم، غير أن جيوش المسكوب الذين صاروا على حدود نهر الطونا قد انتصروا على عساكر الدولة هناك وتغلبوا عليهم.
وفي سنة 1184ه، استأنفت الجنود العثمانية الحرب والقتال مع عساكر المسكوب فقهرتهم وأرجعتهم إلى مدينة بطرسبورج خاسرين، وحينئذ تداخلت النمسا بين الدولتين بشأن عقد الصلح، فرفض المسكوب ذلك، وحشد الجنود وجمع العساكر وساقهم إلى القتال، فالتقوا بعساكر الدولة في جوار حوتين وكسروها بعد أن استولوا على الفلاق والبغدان، ثم عاودت الدولة الحرب مع الروس على أمل استرجاع البلاد التي فقدتها، فلم تنجح بالنظر لعصيان الأليكشارية وعدم انقيادهم لأوامر قوادهم، وحينئذ قطع الروس نهر الطونه وامتلكوا وارنه وسائر جزر القرم، وأقاموا عليها حاكما من التتر، ثم اتحدوا مع البروسيان والنمساويين على تقسيم بلاد اللهستان، فتكدر السلطان من ذلك وعقد العزم على الذهاب إلى دار الحرب - وكان مريضا - وبينا كان يحتفز للذهاب توفي رحمه الله، وكان ذلك عام 1187، بعد أن قضى في تدبير الملك نحو 16 سنة بالحكمة والمهارة.
السلطان السابع والعشرون
السلطان عبد الحميد ابن السلطان أحمد الثالث
ولد عام 1137ه، وجلس سنة 1187، وأخذ منذ جلوسه في تسكين الفتن الداخلية، وإعداد مهمات القتال، وتقوية المعاقل والحصون، ثم جرد جيشا جرارا لمقاتلة الروس سلم قيادته للصدر الأعظم، وبعد عدة وقائع كان الفوز بها للعساكر الشاهانية ، حدث شغب بين الأليكشارية أودى بهم إلى شق عصا الطاعة، والتمرد على قائدهم، فتركوه في ساحات المعركة وعادوا إلى القسطنطينية، ولما أعلم الباب العالي بما كان؛ أصدر أمره بعقد الصلح. وقد تم ذلك بمعاهدة تعرف بمعاهدة «كوجك قانيارجه»، كان من أحكامها تخويل الاستقلال للتتر في جهات القرم والقوبان، وأن تترك للروسية ممالك «قبارطاي وكرجستان»، وأن تكون ولاية الأفلاق والبغدان ممتازة، ثم حدث اختلاف شديد بين أمراء القرم أفضى بينهم إلى حمل السلاح، وكان ذلك بدسائس الروسية التي أخلت بمعاهدة كوجك قانيارجه، وحملت الدولة العلية على محاربتها محافظة على تلك المعاهدة، فساقت الجيوش واستولت على أكثر بلاد الروسية، بعد أن استرجعت قرمان وأزوم والبغدان. وفي سنة 1203، توفي السلطان، ودفن في تربته الشريفة بجوار بغجه قبوسي. عاش 66 سنة، قضى منها 16 عاما على سرير السلطنة، رحمه الله وأفاض عليه سحاب رضوانه.
السلطان الثامن والعشرون
السلطان سليم الثالث ابن السلطان مصطفى الثالث
ولد عام 1175ه، وجلس سنة 1203، وبعد جلوسه وجه مزيد عنايته إلى تنظيم الجنود، وحشد الجيوش، وتقوية المعاقل، وتعزيز المالية، وبينا كان يشتغل في هذه المهام أشهرت عليه الحرب دولة الروسية والنمسا، فدفع جيوشها عن بلاد السلطنة بقوة جنوده المظفرة التي ساقها إلى حقول المعركة تحت قيادة الصدر الأعظم يوسف باشا وقبودان باشا، ولما التقت الجيوش اشتبكوا بالقتال والكفاح في عدة مواقع أظهرت فيها عساكر آل عثمان شجاعة غريبة، وأخيرا تقهقرت، واستولت الروسية والنمسا على قلعة بلغراد وبندر وإيالتي الأفلاق والسرب والمدن التي على سواحل نهر الطونه، ثم زحفت جنود الروس على قلعة إسماعيل الشهيرة فحاصرتها، وبعد مدة طويلة افتتحتها عنوة عقيب أن فقد من العساكر عدد جسيم جدا، وحينئذ توسطت دولة الإنكليز مع بروسيا لإبرام عقد الصلح بين الدولة العلية والروسية، تحت شرط أن يعطى للروسية القرم وجزيرة كامان ومقاطعة بسرابيا والأراضي التي بين نهر البوغ ودنيستر؛ حيث أقامت الروسية مدينة أودسيا تذكارا لنصرتها في ذلك الزمان.
وحدث في تلك الأثناء أن ثارت الأمة الفرنساوية وقتلت ملكها لويس الخامس عشر، وظهر نابوليون بونابرت الشهير الذي دوخ الدنيا بفتوحاته، فافتتح مصر وبعض جهات فلسطين، ثم صافى الدولة العلية وكاشفها روابط الحب، ووعدها بالمساعدة على تنظيم جنديتها بأن يرسل إليها ضباطا ماهرين، ويعزز عمارتها البحرية لمنع الروس والإنكليز من العبور في بوغاز إسلامبول، فلما علم بذلك كله إمبراطور الروس غضب وتكدر، وأرسل للحال قسما من جيوشه إلى احتلال بلاد الأفلاق والبغدان، فتأثرت الدولة من ذلك ونوت على إشهار الحرب. أما دولة الإنكليز فلم يرضها اتحاد الدولة مع فرنسا، وبذلت جهد المستطاع في حمل الدولة على إخراج سفير فرنسا من الآستانة، فما رضيت بذلك بالرغم عن إلحاح الأميرال الإنكليزي الذي كان راسيا بأسطوله الحربي في مياه إسلامبول. ولما قطع المذكور أمله من بلوغ المراد قلع مراسيه من بوغاز جناق قلعة، وسار للإسكندرية، فدفعه عنها الطيب الذكر محمد علي باشا الكبير.
وبعد ذلك ثار وجاق الأليكشارية، ونهضوا يثيرون الفتن، ويكثرون من الفساد، ويقتلون بعض رجال الدولة لكونهم وافقوا السلطان سليم على إدخال النظام العسكري الجديد في بلاد الدولة، ثم نادوا في المدينة باسم السلطان مصطفى، وخلع السلطان سليم، وأرسلوا له شيخ الإسلام يخبره بذلك، فلما امتثل بين يديه، وعلم منه ذلك، نزل عن كرسيه وسار إلى الحبس ليقضي بقية العمر، وبعد مدة قضى شهيدا في الحبس عام 1222ه، ودفن في تربة والده السلطان مصطفى.
السلطان التاسع والعشرون
السلطان مصطفى الرابع ابن السلطان عبد المجيد خان
ولد عام 1193، وجلس عام 1223، وحال جلوسه وجه عنايته إلى تنظيم الجندية، وتأديب الأليكشارية، وما صفت له الأيام طويلا حتى نشط المفسدون، وألقوا الفتن بين رجال الدولة وكبار المملكة، واجتهد مصطفى باشا البيرقدار، حاكم روستجق، في إقناع بعض الرجال على خلع السلطان مصطفى، وإرجاع السلطان سليم إلى كرسي الخلافة، فجمع عسكرا وجاء به إلى الآستانة، ولما وصل إلى السراي واعتلم السلطان بنواياه أشار بقتل السلطان سليم، فقتل في الحبس شهيدا، وحينئذ هاج القوم في القسطنطينية وتكدروا من موت السلطان سليم، وخلعوا مصطفى، ثم حجروا عليه في الحبس الذي كان فيه أخوه، وبعد حبسه بثلاثة شهور قتل في الحبس شهيدا، ودفن في تربة أخيه السلطان عبد الحميد خان، رحمهما الله رحمة واسعة.
السلطان الثلاثون
السلطان محمود الثاني ابن السلطان عبد الحميد خان
ولد عام 1199ه، وجلس على عرش السلطنة عام 1223ه، فأقام مصطفى باشا البيرقدار وزيرا للصدارة، وسلمه مهام تنظيم الجنود، وأمر بإصلاح المختل، فشمر عن ساعد الجد، وطفق يعلم وجاقات الأليكشارية نظام الجندية الجديد حتى برعوا فيه، ثم التفت إلى ذوي الفتن والشرور، فقطع دابرهم، ومحا أثرهم، وأعدم قاتلي السلطان سليم، غير أن مدة وزارته لم تطل إلا ثلاثة شهور، قام عند انقضائها الأليكشارية وأضرموا النار في سرايته، فأحرقوه مع عائلته بأسرها، وانبروا يفتكون بكل من كان مائلا إلى النظام الجديد. ولما استفحل أمرهم جمع قاضي باشا العساكر الجديدة وهجم بهم على الأليكشارية مطلقا عليهم الرصاص حتى شتت شملهم، وسكن هياجهم.
وحدث بعد ذلك أن وجهت رتبة الصدارة العظمى إلى يوسف ضياء باشا، فقتل السلطان مصطفى خوفا من تجديد الفتن، فتكدر السلطان محمود من قتل أخيه وحزن وتألم. وفي سنة 1225، سطت عساكر الروس على بلاد الدولة، وتقدمت حتى استولت على الأفلاق والبغدان وقلعة إسماعيل وجملة جهات أخرى، وفي عام 1226، عصى سليمان باشا، والي بغداد، وامتنع عن دفع الأموال المرتبة لجانب الخزينة، فأرسل إليه الصدر الأعظم لقمع عصيانه خالد أفندي فقتله، وفي السنة ذاتها تمرد ابن مسعود على الدولة، وأخذ يقلق الحجاج، ويزعج البلاد، ويقطع الطرق، ويسلب المارة، فكلفت الدولة ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير، حاكم مصر، بتأديبه، فحاربه، وبعد أن قبض عليه أرسله إلى الآستانة حيث مات قتيلا. وبعد ذلك عزل يوسف باشا من الصدارة، وأقيم مكانه أحمد باشا، فجمع الجنود، وسار بهم إلى روستجق. وفي سنة 1228، توسطت الدولة بعقد الصلح بين الدولة العلية والمسكوب، وتمت معاهدة (بكرش) التي من أحكامها أن تترك الدولة العلية إلى الروس سواحل الطونه ومقاطعة بسرابيا، وفي سنة 1231، اشتبكت الدولة بالقتال مع الأروام، فانتهز الفرس تلك الفرصة وزحفوا إلى بغداد للاستيلاء عليها فلم يفلحوا، وفي عام 1232، تمرد علي باشا، والي يانيه، على الدولة مدعيا الاستقلال، ثم عصى الأفلاق والبغدان واليونان فقمعتهم الدولة، وكبحت جماحهم، وفي سنة 1237، ثار الأروام في الموره على الإسلام، ففتكوا بهم، ونهبوا أموالهم، واستحلوا بهم ما حرم الله، فتكدر السلطان من ذلك، وأصدر أمره إلى محمد علي باشا، حاكم مصر، بمناهضة الأروام، فأرسل لمقاتلتهم عمارة بحرية تحت قيادة ولده المرحوم إبراهيم باشا، ولما وصلت إلى الموره انضمت عساكرها إلى عساكر الدولة، وقاتلوا اليونان وفتكوا بهم فتكا ذريعا، فأخذوا يستغيثون بالدول عموما، وبإنكلترا خصوصا، حتى توسطت بالصلح، فلم يقبل الباب العالي، وإذ ذاك اتفق وكلاء فرنسا والروسية مع إنكترا في لوندره، وقرروا شروط الصلح وأرسلوها إلى الباب العالي فرفضها، وحينئذ أرسلت هذه الدول مراكبها الحربية إلى مياه ناوران في أساكل اليونان، فأطلقت قنابلها على مراكب الدولة فأغرقتها. وفي سنة 1243 استقل اليونان استقلالا تاما.
وبعد ذلك عمد السلطان محمود إلى تعليم الأليكشارية الفنون الحربية الحديثة، فأمر محمد سليم باشا، الصدر الأعظم، أن يجمع رجال السلطنة وكبار الأليكشاريات في بيت شيخ الإسلام طاهر أفندي، وبين لهم الأضرار التي نجمت للبلاد بأسباب الأليكشارية وعدم إطاعتهم لأوامر الدولة، وبعد أن أعرب لهم ذلك تفصيلا أخذ يتلو عليهم الأمر السلطاني القاضي بتعليم العساكر النظام الجديد، ووضعهم تحت أحكام قانونية حتى يتعهدوا بإنفاذه. وبعد إتمام ما ذكر، حدث أن البعض نكثوا العهد واتحدوا مع الأليكشارية فهجموا على منزل الصدر الأعظم، طالبين قتل من كان السبب بإحداث النظام الجديد، وطفقوا بعد ذلك ينهبون ويقتلون ويحرقون، فتملص منهم الصدر الأعظم وحضر إلى السلطان، فأوقفه على ما أحدثه الأليكشارية من الشغب والهياج، فأمره السلطان أن يجمع عساكر الطوبجية والإسلام أمام باب السراي، ولما تم اجتماعهم خرج إليهم السلطان محمود، وألقى خطابا حثهم فيه على قتل المفسدين الذين يخالفون أوامر خليفة الله في أرضه، فامتثلوا أمره، وأخرجوا السنجق الشريف إلى فسحة السراي، وسلمه السلطان إلى شيخ الإسلام وعاد إلى كرسيه، وحينئذ هجم الإسلام وعساكر الطوبجية على الأليكشارية، وأطلقوا عليهم المدافع والرصاص، وعملوا فيهم السيوف حتى قتلوهم عن آخرهم، وأراحوا الدولة والبلاد من شرورهم ومفاسدهم، وعقيب ذلك ابتدأت الدولة أن تكثر من الجنود النظامية، وتعدل القوانين القديمة، وتصلح المراكب المتعطلة، وإذ ذاك اختلست الروسية تلك الفرصة وقطعت نهر الطونه. وفي سنة 1245، جهزت الروسية جيشا كثيفا مؤلفا من مائتي ألف مقاتل، وزحفت بهم على بلاد الدولة، فاستولت على أكثرها حتى وصلت إلى أدرنه، وعندئذ عقدت معاهدة أدرنه التي من مقتضاها أن لا يقيم الإسلام في بلاد الأفلاق والبغدان، وأن يحق لسفن الروس المرور بالبحر الأسود والأبيض، وفي السنة ذاتها استولت فرنسا على الجزائر بعد حرب دموية، وفي سنة 1247، عصى محمد علي باشا الكبير، حاكم مصر، فأرسل ولده المغفور له إبراهيم باشا بثلاثين ألف مقاتل، وأردفهم بالعمارة البحرية، فافتتح بهم غزة ويافا، ثم حاصر عكا بحرا وبرا مدة ثمانية أشهر، ولما استعصت عليه استنجد بالأمير بشير، حاكم جبل لبنان، فأسرع حالا لنجدته بما لديه من الرجال والمال. ولما بلغ الدولة ذلك أصدرت منشورا شريفا أعلنت به عصيان حاكم مصر، وأمرت محمد باشا، والي حلب، بجمع العساكر ومحاربة إبراهيم باشا الذي أخذ في التقدم فائزا منصورا في جميع مواقعه، حتى استولى على صور وصيدا وبيروت، ثم وجه عسكرا إلى طرابلس الشام فافتتحها، وامتلك حمص، ثم سار بالعساكر المصرية واستلم الشام، وامتلك حلب، وحارب العساكر الشاهانية في أنطاكيه وبيلان. وفي سنة 1255، صدرت الأوامر إلى حافظ باشا بأن يجمع العساكر العثمانية لمحاربة إبراهيم باشا، وقد التقى الفريقان في سهل بالقرب من زيب؛ حيث اشتد القتال وجرت الدماء، ونادى دلال المنايا في ميادين المعركة ببيع الأرواح رخيصة، وبعد أن قتل عدد جسيم من الطرفين استظهر إبراهيم باشا على العساكر العثمانية، وهزمها إلى مرعش، وأخذ يستولي على بلاد الدولة حتى تبوأ جملة بلاد. وفي تلك الأثناء انتقل السلطان محمود إلى دار البقاء، وذلك عام 1255، بعد أن جلس على سرير السلطنة 32 سنة، وكان شجاعا عاقلا عادلا يحب الرعية وتأييد شوكة السلطنة، رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان الحادي والثلاثون
السلطان عبد المجيد خان ابن السلطان محمود خان الثاني
ولد سنة 1237ه، وجلس عام 1255 بالغا من العمر 18 سنة، وعقيب جلوسه أقام خسرو باشا صدرا أعظم، فلم يستطع أن يستميل إليه كبار رجال الدولة، وقد جاراهم في بعض الأمور فوقع النفور بينه وبينهم، واستحكمت حلقاته حتى لم يعد في الإمكان إصلاح ذات البين، وبالنظر لما وقع من الشقاق تأخرت أحوال العمارة البحرية التي أرسلتها الدولة إلى مصر، وحينئذ أقال السلطان من منصب الصدارة خسرو باشا، وعين مكانه رشيد باشا الذي شمر عن ساعد الجد، وابتدأ في إجراء التنظيمات وسائر ما من شأنه أن يمهد أمام العباد سبل الراحة والإسعاد، ثم أصدر منشورا تضمن إجراء العدالة، ورفع المظالم، تلاه في الكلخانة بحضرة السلطان الأعظم وشيخ الإسلام والوزراء العظام وسائر العلماء الفخام، وبعد ذلك سعى في حسم مسألة مصر، فأنهاها بما يوافق مصالح الدولة، ومنع سفن الدول الحربية من الدخول في بوغاز البحر الأسود والبحر الأبيض. وفي سنة 1265، ساح السلطان في جهات الروم إيلي الشرقية، ثم عاد إلى القسطنطينية وشرع في إصلاح الأحوال الداخلية، وفي السنة ذاتها نقضت الروسية العهود، وطلبت من الدولة وضع حمايتها على سائر المنسوبين إليها المقيمين في الممالك المحروسة، فأبت الدولة ذلك، وامتنعت عن القبول بأمر ليس فيه للحق وجه، ولما اعتلمت الروسية بعدم إجابة طلبها أشهرت الحرب على الدولة عام 1270، فسارت الجنود الشاهانية إلى جهة الأناضول والروم إيلي، واقتتلت مع عساكر الروس عند سواحل نهر الطونه فأهلكتهم، وحينئذ جمعت الروسية كل قواها، وألفت جيشا كثيفا من تسعمائة ألف رجل ساقتهم إلى حقول المعركة، فلما رأت الدول ذلك فقهت وخامة العاقبة، واتحدت إنكلترا وفرنسا وساردينا مع الدولة العلية، وأرسلن مراكبهن تحمل المدافع والجنود، فأخربت قلع سواستبول وسائر شطوط الروسية البحرية، وأوقفوا الروس عند حدودهم.
وعقيب ذلك عقدت معاهدة باريس، وتم بموجبها الصلح عام 1273، وتفرغ السلطان لسن النظامات المتعلقة بالتجارة والصناعة والزراعة، فشكل محاكم التجارة، وأسس المكاتب الرشيدية، واعتنى في نشر المعارف والعلوم، وتعميم العدالة والأمن. وفي عام 1277 توفي إلى رحمة الله عن عمر أربعين سنة، قضى منها على عرش الملك 22 عاما، ودفن في جوار جامع السلطان سليم في تربته المخصوصة، رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان الثاني والثلاثون
السلطان عبد العزيز خان ابن السلطان محمود الثاني
ولد عام 1245ه، وتبوأ كرسي الخلافة سنة 1277 وعمره اثنان وثلاثون عاما، فوجه عنايته إلى إصلاح العدلية والبحرية، وتعميم المعارف في سائر أنحاء السلطنة. وفي سنة 1284ه، الموافق 1867م، سافر إلى أوروبا ليحضر المعرض الباريزي ، فاحتفلت به الدول العظمى في جميع الجهات التي مر بها، وأعدت لجلالته أبهر الزينات؛ كونه أول سلطان عثماني طاف عواصم الإفرنج ليرى رقيهم العصري ويدخله في بلاده.
ولما عاد من باريز أصدر أمره إلى نوابغ السياسة العثمانية؛ وهم: فريد باشا، وعالي باشا، وفؤاد باشا، بترجمة جميع النظامات واللوائح المتعلقة بالدستور الفرنساوي، فقامت البلاد وقعدت؛ لأن إدخال الدستور في تركيا يئول إلى قلب البلاد واكتساح سلطة الفرد. وهذا لم يكن موافقا لعظماء البلاد وأمرائها. أما الفئة المتعلمة فلم تستطع التظاهر بسائر أفكارها، ولكنها كما وفقت لاستمالة أوروبا في مؤتمر باريز عام سنة 1856 في مساعدة إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، وحملتها على الاعتراف باستقلال الدولة العثمانية، وعدم المداخلة في أمورها الداخلية، وفقت أيضا إلى استصدار الفرمانات والخطوط الشريفة من السلطان عبد العزيز بشأن حرية الأهالي، ومساواتهم في الحقوق والمعاملات، ومنع الجور والظلم والاستبداد من سائر إدارات الدولة.
وكان كبير هذه الفئة التي سميت بحزب تركيا الفتاة هو المرحوم مصطفى باشا فاضل، ابن المرحوم إبراهيم باشا المصري؛ فإنه بعد سنة من جلوس السلطان عبد العزيز تعين ناظرا للمعارف ثم للمالية، وأجرى فيها عدة إصلاحات، وكان الصدر الأعظم وقتئذ يوسف كمال باشا، صهر محمد علي باشا الكبير والي مصر، وكان عالي باشا في نظارة الخارجية، وفؤاد باشا في رئاسة مجلس الأحكام. وحدث أن فؤاد باشا تعين حكما لفصل الخلاف بين مصطفى فاضل وإخوته على تقسيم ميراث أبيهم، فوقع بينهما عداء بسبب ذلك، ولما تولى فؤاد باشا منصب الصدارة عزل مصطفى باشا من نظارة المالية، فشق عليه الأمر، وقدم للسلطان عبد العزيز لائحة شدد فيها النكير على الاستبداد، وكشف الغطاء عن عورات الدولة، وأوضح أسباب ضعفها وانحطاطها بعبارات لم يسمع بمثلها قبل ذلك في بلاط الملوك، وهاجر إلى باريز عام سنة 1865، والتحق به الشبان الأذكياء، فأنفق على تعليمهم، ونبغ منهم عدة في الأدب والكتابة والسياسة. وهذا هو نص لائحته:
تتصور أوروبا أن المسيحيين وحدهم في تركيا خاضعون للمعاملات الاستبدادية، ولاحتمال أنواع الأذى والتحقير المتولد عن الظلم، وليس الأمر كذلك؛ فإن المسلمين ربما كانوا أكثر مظلومية وأشد انحناء تحت نير العبودية من المسيحيين؛ لأن المسلمين ليس وراءهم دولة أجنبية تحامي عنهم، فرعايا جلالتكم من جميع المذاهب مقسومون إلى صنفين: ظالمون ظلما لا حد له، ومظلومون بلا شفقة ولا مرحمة، فالأولون يجدون في الحكومة المطلقة التي تستعملها جلالتكم إغراء وتشويقا على جميع الرذائل، والآخرون تفسد أخلاقهم بعلاقاتهم المضرة مع ساداتهم، وهم مجبورون على الخضوع دائما للشهوات الرذيلة، ولا يستطيعون إيصال شكواهم لأعتاب سدتكم الملوكية؛ لأن ظلامهم يرون هذه الاستغاثة من أكبر المفاسد، فاعتادوا دناءة الأخلاق التي لا يمكن تصورها. ا.ه.
فحزب تركيا الفتاة يمكن أن نعتبر وجوده من سنة 1862 ميلادية، وقتما تولى مصطفى فاضل باشا نظارة المعارف العثمانية.
وفي عام 1278 هجرية، الموافق سنة 1871 ميلادية، توفي عمر باشا أشهر قواد الدولة، وعالي باشا أشهر سواسها، وتولى مسند الصدارة محمود نديم باشا، وكان شديد التعصب للإدارة القديمة يكره الإصلاحات الجديدة، وقد تمكن بمكره من التقرب للسلطان عبد العزيز، فأسقط الرجال المشهورين بالميل إلى الإصلاح والحرية، واستبدلهم بالمرتكبين والغاشمين، وصارت أموال الدولة تنفق بلا حساب؛ حتى اضطرت إلى الاقتراض من أوروبا من مصارف الآستانة بالفوائد الفاحشة، ولأجل تسديدها كانت توضع الضرائب على الفقراء من الأعشار والأغنام حتى وقعت البلاد في الفقر والشقاء.
ومن الغلطات السياسية أن محمود نديم باشا استصدر من السلطان عبد العزيز فرمانا بفصل الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية، وتعيين أكسارخوس للبلغارية مستقلة عن بطريرك الروم في القسطنطينية، وكان ذلك بمساعي الجنرال إغناتيف، سفير الروسية، تمهيدا لإيجاد الدولة البلغارية في المستقبل، مع أن الباب العالي كان يعتبر هؤلاء الأمم الصغيرة والصرب والأفلاق والبغدان والجبل الأسود والهرسك تابعين لبطريركية القسطنطينية؛ لاشتراكهم في الدين الأرثوذكسي.
ومن الغلطات المالية أيضا إعطاء البارون هرش النمساوي امتياز سكة حديد الرومللي. وهذه الغلطات قد عرفنا نتائجها اليوم؛ حيث استقلت البلغار، واستولت دولة النمسا على سكة حديد الرومللي.
ولما استحوذ الخلل على سائر فروع الإدارة، تصادف أن مدحت باشا نقل من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنه ، فمر بالآستانة وطلب مقابلة الحضرة السلطانية، ولما امتثل بحضرتها أعرض لها طرف الخلل، وسوء الإدارة، ووخامة العاقبة في بلاد السلطنة، فعزل محمود نديم باشا من الصدارة، وعين مكانه مدحت باشا، لكنه لم يبق فيها إلا ثلاثة أشهر حتى عزل، وبعد إبدال وتغيير عاد محمود باشا نديم إلى الصدارة، وراج سوق الارتكاب، وبيع الرتب والنياشين والمزايدة في الوظائف والمناصب، حتى هاجت الأقطار، واجتمع من طلبة العلم في جوامع الآستانة ستة آلاف طالب، وهجموا على الباب العالي في 22 مايو سنة 1876 للفتك بمحمود باشا نديم، وتولية محمد رشدي باشا مكانه، فأجيب طلبهم، وتشكلت وزارة رشدي باشا منه للصدارة، ومن حسين عوني باشا للحربية، وقيصرلي أحمد باشا للبحرية، وراشد باشا للخارجية، وخير الله أفندي لمشيخة الإسلام. وفي أثناء ذلك أشعلت نار الثورة في الجبل الأسود والأفلاق والبغدان، فتحزبت لهم دولة الروس وتظاهرت بعدوان الدولة.
أما حزب تركيا، فقد أدرك حرج الموقف، واتحد مع أعضائه الذين أدخلوا في الوزارة، وهم: حسن فهمي باشا، وشاكر باشا، وسعد الله باشا، واستمالوا إليهم أمراء الحربية وشيخ الإسلام، واستصدروا الفتوى بخلع السلطان في 17 جمادى الأولى سنة 1293، الموافق 30 مايو سنة 1876، ونادوا بابن أخيه السلطان مراد سلطانا على الممالك العثمانية.
وقد نقل السلطان عبد العزيز من سراي «طولمه بغجة» إلى «طوب قبو» المقابلة لها على ساحل البحر، ثم نقل إلى سراي «جراغان» المجاورة لطولمه بغجة على ساحل البوغاز، وبعد خمسة أيام أشيع موته، واختلف فيه؛ لأنه قيل: إنه قتل عمدا، وقيل أيضا: إنه انتحر بقطع شرايين ذراعه بالمقص، وإن من كشفوا على الجثة وجدوها في الدور الأسفل من السراية ملقاة على سجادة بقرب الباب، وعلى كل فإنه مات في جمادى الأولى سنة 1293، وخلفه السلطان مراد خان.
السلطان الثالث والثلاثون
السلطان مراد الخامس ابن السلطان عبد المجيد خان الغازي
ولد سنة 1256ه، وجلس في سابع عشر جمادى الأولى سنة 1293 للهجرة، الموافق 30 مايو سنة 1876، ففرحت الأمة العثمانية، وأقامت الأعياد في سائر السلطنة.
ثم حدثت مسألة جركس حسن بك، ياور السلطان عبد العزيز؛ فإنه دخل دار مدحت باشا حيث كان الوزراء مجتمعين في المداولة بشأن مطالب روسيا، وفتك بالسر عسكر وراشد باشا ناظر الخارجية، فأثرت هذه الحادثة على السلطان مراد حتى أوجبت اختلال شعوره، فخلع بفتوى من شيخ الإسلام، وذلك بعد ثلاثة شهور وثلاثة أيام من جلوسه، وقد كانت مقاطعات البلقان في هياج لأن الهرسك والصرب والجبل الأسود والبلغار طلبوا الاستقلال ليتخلصوا من الظلم والاستعباد، ولأن دول أوروبا تطالب الدولة بإجراء الإصلاحات وتحسين حال المسيحيين.
وقد نقل السلطان إلى سراي «جراغان» على ساحل البوغاز، وسجن فيها إلى أن توفي سنة 1908.
السلطان الرابع والثلاثون
السلطان عبد الحميد خان الثاني ابن السلطان عبد المجيد خان
ولد عام 1258، وجلس في يوم الخميس الواقع في حادي عشر شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، واشترط عليه المغفور له مدحت باشا ثلاثة شروط:
أولا:
إعلان القانون الأساسي.
ثانيا:
استشارة الوزراء في أمور الدولة.
ثالثا:
تعيين ضياء بك وكمال بك كاتبين خصوصيين للمابين، وسعد الله بك باشكاتبا؛ لأنهم من الأحرار الحريصين على إجراء أحكام القانون الأساسي.
وبعد شهر من جلوسه عقد مؤتمر دولي مؤلف من 11 مرخصا، 2 من إنكلترا؛ وهما: السير هنري إليوت، واللورد سالسبوري، و2 من فرنسا، و2 من النمسا، و1 من إيطاليا، وواحد من ألمانيا، و2 من الدولة؛ وهما: صفوت باشا، وأدهم باشا، فعقدوا الجلسة الأولى في 23 ديسمبر سنة 1876. وكانت الغاية من هذا المؤتمر النظر في الإصلاحات الواجب إدخالها في بلاد الدولة لتحسين الحالة، ورفع المظالم، ولم يتم افتتاح الجلسة الأولى حتى دوت أصوات المدافع إيذانا بإعلان القانون الأساسي المتكفل بإعطاء الحقوق والحرية لجميع الرعايا بدون استثناء. وقد قصد السلطان عبد الحميد بإعلان هذا القانون إقناع الدول بعزمه على إجراء جميع الإصلاحات المطلوبة، فلا يبقى فائدة من أعمال المؤتمر؛ حيث إن الأمة تولت إصلاح شئونها بنفسها.
وكانت الوزارة تحت رياسة محمد رشدي باشا، فاستعفى وتولاها مدحت باشا، فشكل مجلسا عاليا تألف من الوزراء والمشيرين والرؤساء الروحيين والأعيان من مسلمين ونصارى ويهود، وعرض عليهم لائحة المؤتمر، وأفهمهم طلبات الدول التي بها استقلال الأمم البلقانية، وأن مرادها يؤدي إلى الحرب، فاجتمعت كلمتهم على رفض تلك الطلبات؛ لأن قبولها فيه إهانة عظمى لشرف الأمة، حتى إن الروم عزموا على تشكيل فرقة متطوعة لمحاربة الصرب مع عساكر الدولة.
فبناء على ذلك أجاب الباب العالي في 20 كانون الثاني سنة 1877 برد طلبات الدول، ورفض المؤتمر الدولي، إشارة لقطع العلائق بين أوروبا والباب العالي.
ثم حاول السلطان في اجتماع «مجلس المبعوثان» حتى ضاق صدر مدحت باشا، وكتب إليه رأسا ما يأتي:
لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسي إلا قطع دابر الاستبداد، وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوكلاء، وتأمين جميع الناس على حريتهم وحقوقهم حتى تنهض البلاد إلى معارج الارتقاء، وإني أطيع أوامركم إذا لم تكن مخالفة لمنافع الأمة ...
ونحو ذلك من هذا القبيل، فغضب السلطان من هذه الجرأة، وعزل مدحت باشا ونفي على الباخرة «عز الدين» إلى إيطاليا، ووجهت الصدارة إلى أدهم باشا.
وبعد خروج السفراء من الآستانة بعث البرنس غورجاكوف، ناظر خارجية روسيا، إلى الدول منشورا في 31 يناير سنة 1877، طلب فيه مداخلتها جمعاء في إجراء الإصلاحات بالممالك العثمانية، وإلا اضطر القيصر وحده إلى اتخاذ التدابير الفعالة، وأرسل الجنرال أغناتيف إلى عواصم أوروبا ليقنع الدول بأن الباب العالي بدأ بالإخلال في معاهدة باريس.
فلما رأى السلطان إصرار أوروبا على إصلاح الروم إيلي، أصدر إرادته في انتخاب «المبعوثان»، ونفاذ أحكام القانون الأساسي، وافتتح المجلس في 4 ربيع الأول سنة 1294، الموافق 19 مارس سنة 1877 في سراي «طولمه بغجة» بمحلة بشكطاش، بحضرة السلطان، بالنطق الآتي:
أيها الأعيان والمبعوثان:
إنني أبدي الامتنان بافتتاح المجلس العمومي الذي اجتمع المرة الأولى في دولتنا العلية، وجميعكم تعلمون أن ترقي شوكة واقتدار الدول والملل إنما هو قائم بواسطة العدالة، حتى إن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية، وقدرتها في أوائل ظهورها، كان من مراعاة العدل في أمر الحكومة، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من صنوف التبعة. وقد عرف الناس أجمع تلك المساعدات التي أبداها أحد أجدادنا العظام المرحوم محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدين والمذهب. وكافة أسلافنا العظام أيضا قد سلكوا على هذا الأثر، فلم يقع في هذا المطلب خلل بوقت من الأوقات، وغير منكر أن المحافظة منذ ستمائة عام على صنوف تبعتنا وملتهم ومذاهبهم كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة. والحاصل بينما كانت ثروة الدولة والملة وسعادتها صاعدتين في درج الترقي في تلك الأعصار والأزمان بظل حماية العدالة ووقاية القوانين، أخذتا بالانحطاط تدريجا؛ بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف وللقوانين الموضوعة، وتبدلت تلك القوة بالضعف ... إلخ.
وقد تعين أحمد وفيق رئيسا ل «مجلس المبعوثان»، وانعقدت الجلسة الأولى تحت رئاسته، فدارت فيها المذاكرة على وضع العريضة الواجب تقديمها جوابا على النطق الشاهاني، ثم حدث أن مرخصي الدول الست الذين تألف منهم مؤتمر الآستانة اجتمعوا في لوندرا، فوقعوا في 31 مارس سنة 1877 على مضبطة بدون أن يكون معهم مرخص الدولة، طلبوا فيها من الباب العالي التخلي عن عشرين ناحية من أملاك الدولة إلى إمارة الجبل الأسود؛ بحجة أن لغتهم سلافية، فحضر ناظر الخارجية إلى «مجلس المبعوثان» وقرأ عليهم نص تلك المضبطة، مبينا لهم أحوال السياسة الخارجية، وأفهمهم بأن رفض التسليم بما جاء في تلك المضبطة يؤدي إلى الحرب مع روسيا.
ومعلوم أن ليس للدولة معين من بقية الدول كما كان لها في حرب القرم، فاعترض أكثر المبعوثين على قبول المضبطة، وأظهروا من الحماسة والغيرة بالوطنية ما لا مزيد عليه، ورفضوا قبولها بالأغلبية، وعندئذ نظم الباب العالي احتجاجه على المضبطة المذكورة في 9 أبريل سنة 1877، وأسنده على أن محتويات تلك المضبطة مجحفة باستقلال المملكة العثمانية المصدق عليه في معاهدة باريز، وفي 24 أبريل سنة 1877 أعلنت الحرب، ودامت ثمانية أشهر، وأظهرت فيها الجنود العثمانية من الشجاعة والجلد ما دل على قوتها، ولكن قلة التجهيزات العسكرية، وسوء الإدارة، وفراغ الخزينة من المال، وصدور الأوامر المتناقضة من جانب السلطان إلى القيادة العامة أتاح النصر للروس في تركيه أوروبا، ثم في آسيا، فتجاوزت جنودهم نهر الطونه وجبال البلقان، واستولوا على القرص، وحاصروا أرضروم من جهة الأناضول، وفتحوا قلعة بلافنا، فأبلى عثمان باشا الغازي وعساكره بلاء حسنا اندهشت له أوروبا.
وفي يوم الخميس 7 ذي الحجة سنة 1294، الموافق 13 ديسمبر سنة 1878، عقد «مجلس المبعوثان» جلسته الثانية، وتوجهوا مع أعضاء مجلس الأعيان والوكلاء والوزراء والعلماء إلى سراي بشكطاش، فدخل عليهم جلالة السلطان في الساعة السادسة عربية من ذلك اليوم، وسلم إلى سعيد باشا باشكاتب المابين الشاهاني، فتلاه على الحاضرين وهو:
أيها الأعيان والمبعوثان:
إنني ممتن من افتتاح المجلس العمومي ومشاهدة مبعوثي الملة، وأذكر لكم انتشاب نار الحرب بيننا وبين الروس، وإن الضرورة قد قضت علينا بهذه الحرب محافظة على الحقوق العمومية، وحق المساواة بين جميع سكان المملكة، وإدخال غير المسلمين في السلك العسكري، والمحافظة على القانون الأساسي، وإصلاح المالية، ثم إن إيجاد الحقائق في المسائل القانونية والسياسية، وتأمين منافع البلاد يتوقفان على مبادلة أرباب الشورى وأفكارهم بالحرية التامة، وبما أن القانون الأساسي يأمركم بذلك، فلا أرى احتياجا إلى حثكم على ذلك.
ثم انعقد «مجلس المبعوثان» تحت رئاسة حسن فهمي أفندي، ودارت المذاكرات من ديسمبر سنة 1877 إلى فبراير سنة 1878، وكثر الجدال بشأن محاكمة المرتكبين، وقطع دابر الرشوة، وتحسين أحوال المحاكم، حتى قال أحد «المبعوثان»: «إن عساكر الضبط في الولايات تنهب الأهالي، وإن المحاكم ترتشي على إبطال الحق ...» وغير ذلك من القول المؤلم.
ثم استقدم مدحت باشا من أوروبا، وكانت الحرب الروسية في منتهاها؛ لأن عساكر الروس كانوا استولوا على أدرنه وما جاورها، فدولة النمسا طلبت وقتئذ عقد مؤتمر في فيينا من الدول الموقعات على معاهدة باريس؛ لوضع المعاهدة الجديدة بين تركيا وروسيا، وأرسلت إنجلترا أساطيلها الحربية إلى بحر مرمرا، وتداخلت أوروبا بالمسألة الشرقية لإرجاع الروس عن أبواب الآستانة، فاغتنم السلطان وقوع بعض الخلاف بين الدول واستغنى عن مشورة «مجلس المبعوثان»، فشكل في 11 فبراير سنة 1878 مجلسا عاليا من وكلاء الدولة وأعيانها والرؤساء الروحانيين. وهذا المجلس استدعى إليه خمسة أشخاص من «مجلس المبعوثان»؛ وهم: الرئيس، ووكيلاه، وأحد مبعوثي الآستانة، ومبعوث آخر إسرائيلي؛ للمداولة معه في الحالة الحاضرة، فمندوب الآستانة الحاج أحمد أفندي كتخدا أجابه بأن جملة مسائل حصلت بدون سؤال «المبعوثان» عنها؛ ولذلك فإنهم يلقون كل مسئولية الخراب على عاتق الوزارة.
ولما بلغ السلطان ذلك عدل عن سياسة والده المرحوم السلطان عبد المجيد، من حيث إجراء الإصلاحات، وإعطاء الحرية، وتطبيق القانون الأساسي، ورجع إلى سياسة جده السلطان محمود معتقدا أن الشعوب التي وضعها الله تحت سلطته لا يمكن تسييرها إلا بالقوة والاستبداد، فأصدر إرادته في 14 فبراير سنة 1878 بتعطيل «مجلس المبعوثان» لأجل غير مسمى.
ثم أوعز السلطان إلى اضطهاد رجال «المبعوثان»، فتبعثروا بين مصر وباريس والولايات المتطرفة، فمنهم خليل غانم، مبعوث بيروت، فإنه هاجر إلى باريس وانقطع فيها إلى تحرير القسم الشرقي في جريدة الدنيا، وفيه أماط النقاب عن سائر ما يجريه السلطان ورجاله من المظالم والاستبداد، ولبث على هذه الخطة إلى أن توفي.
أما الحرب الروسية فقد انتهت في أواخر شهر فبراير من سنة 1878، وكان الفوز فيها للروس، وعقد السلطان معهم شروط الصلح الابتدائية بالمعاهدة المعروفة بسان إستفانوس، ثم في 10 رجب سنة 1295، الموافق 13 يوليو سنة 1878، استبدلت بهذه المعاهدة معاهدة برلين، فاستقلت ولاية البلغار، وجعلت الروم إيلي الشرقية ولاية ممتازة، واستقلت السرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان، واحتلت النمسا بلاد بوسنه وهرسك، واحتلت إنجلترا جزيرة قبرص، وفي سنة 1303 ثارت الروم إيلي الشرقية للتوصل إلى انضمامها للبلغار، فحصل لها الاتحاد النوعي، ثم أخذ السلطان يغير ويبدل في الوزارة إلى أن تولاها جواد باشا مع حداثة سنه، وعدم اختباره بأحوال المملكة؛ لأنه كان من أمراء العسكرية ولم يسبق له الاشتغال بأمور السياسة، فعلى عهده حصل اضطهاد الأحرار، وراج سوق الجاسوسية، وانتشرت الرشوة في سائر فروع المصالح والإدارات، وصارت الوظائف والرتب والنياشين تباع بيع السلع. ولأن المادة 61 من معاهدة برلين أوجبت على الباب العالي السرعة في إجراء التحسينات والإصلاحات التي تقتضيها حالة البلاد في الولايات المأهولة من الأرمن لحمايتهم من الجراكسة والأتراك، فإنجلترا قامت تطالب السلطان بذلك، فانحرفت سياسته عنها واتجهت نحو ألمانيا، وبقي الأرمن يتألمون من صنوف الظلم التي تقع عليها، ولما لم يجدوا لهم مغيثا ألفوا في سنة 1890 جمعية لتحريرهم، وكان رأس مالها 130000 فرنك، فأحس بها أحرار العثمانيين، وتشاوروا معها خفية لإصلاح عموم الولايات العثمانية؛ لأن الظلم والغدر شاملان للأرمن والأتراك ولعموم المسلمين والمسيحيين، ويزيد المسلمون على غيرهم باحتمالهم أعباء الخدمة العسكرية التي تقعدهم عن زرع الأراضي والاتجار، ثم انتشرت فروع لهذه الجمعيات في أوروبا، فشعر السلطان بذلك، وأوعز إلى المقربين منه ليبثوا روح العداء بين الأكراد والأرمن، فاشتعلت نار الفتن بينهم في سنة 1894، وحدثت مذابح ساسون وسواها، وخربت ثلاثون قرية من قرى الأرمن عن آخرها، وذبحت النساء والأطفال ذبح الأغنام.
فهذه الحادثة قد شجعت الجمعيات الأرمنية مع جمعية رجال الأحرار فنهضوا، واشتدت نقمتها على السلطان، وبثوا روحهم بين تلامذة المدارس العليا في الآستانة، فاجتمع أربعة من تلامذة مدارس الطب؛ وهم: إسحاق سكوتي من ديار بكر، وعبد الله جودت وحكمت أمين من قونية، ومحمد أمين من قوقاسيه، وألفوا جمعية سموها جمعية الاتحاد والترقي، جعلوا موضوعها طلب الإصلاحات الدستورية للمساواة بين أصناف الرعية، والحصول على حرية القول والعمل، وضمانة الأرواح والأموال، وتقييد السلطان بالقوانين؛ فانضم إليهم كثيرون من تلامذة المدارس وأرباب الأقلام، واتخذوا في قبول الأعضاء وإدخالهم في هذه الجمعية طرقا تشبه الطرق الماسونية، وزادوا عليهم أسلوبا غريبا يأمن به الداخل كشف أمره حتى بين إخوانه أعضاء الجمعية، بحيث إن العضو الواحد لا يعرف من سائر الأعضاء - ولو كانوا ألوفا - إلا اثنين: العضو الذي أدخله، والعضو الذي توسط في إدخاله.
ثم إن فروع الجمعية المركزية كانت أولا في الآستانة، ثم انقلبت إلى باريس، ثم إلى سالونيك، ومؤلفة من لجنة إدارية يتعارف أعضاؤها ويجتمعون ، ثم يصدرون أوامر إلى اللجان الفرعية، فإذا عرف أعضاء الإدارة أحدا من العثمانيين توسم فيه الذكاء والميل إلى الحرية وإصلاح المملكة، تدرج في إطلاعه على وجود الجمعية، فإذا طلب الانتظام في سلكها وعده في النظر بطلبه، ثم خاطب اللجنة بشأنه، فإذا قبلته سلمته نمرة يعرف بها من سجلاتها، ودعته للحضور في جلسة سرية يحضرها أعضاء اللجنة متنكرين، فيقسم اليمين على الإنجيل والقرآن والمسدس، ويخرج ولا يعرف غير صديقه الذي أدخله .
وقد نمت هذه الجمعية ودخل في سلكها عدد كثير من ضباط وأمراء العسكرية، وأنشئت لها جملة فروع؛ منها فرع الآستانة تحت رئاسة شفيق بك من كبار الياوران، وفرع في بساماتيا تحت رئاسة الشيخ الناقلي، وفرع في سالونيك، وآخر في بيروت، ثم في دمشق تحت رئاسة شفيق بك العظم، وفرع في رودس، وآخر في مصر.
واشتهر مراد بك الداغستاني أنه من رؤساء هذه الجمعية، وهو كاتب بليغ له مكانة رفيعة بين أرباب الأقلام، ولما أنشأ جريدة ميزان زادت شهرته، ونهضت الجمعية على أيامه حتى بدأت تجاهر بمطالبها، فكتب مراد بك تقريرا في الحالة الحاضرة ورفعه إلى السلطان، فكانت النتيجة تأجج نار الغضب عليه، فانتبهت الجمعية المركزية للخطر المحدق برجالها، وعزم أعضاؤها على مفاجأة مجلس الوكلاء في أثناء اجتماعه بالباب العالي، وخلع السلطان عبد الحميد، وإعادة السلطان مراد أو تولية ولي العهد، وعولوا في تنفيذ طلبهم على كاظم باشا، قائد الفيلق الأول في الآستانة، وبينما هم يتحفزون إلى العمل اعترضهم نجيب باشا، سفير تركيا في مدريد سابقا؛ لأن القوة التي كانت بيد كاظم باشا لم تكن كافية، فأخروا القرار إلى وقت آخر. وهذا التأخير أوجب مناقشات حادة، حتى إن نادر بك، سكرتير الجمعية المركزية، اعترض على التأخر بصوت جهوري، فوصل صداه إلى بعض المتلصصين، فوشى به إلى السلطان، فجمعهم بقوة الضابطة، وأنزلهم في باخرة مع عائلاتهم لتوزيعهم على جهات بعيدة، وهكذا تشتتت هذه الجمعية ولم تقم لها قائمة إلا عندما غضب الداماد محمود باشا، صهر السلطان عبد الحميد، وخرج من الآستانة مع نجليه: البرنس صباح الدين، ولطف الله أفندي، وذلك في شهر ديسمبر عام 1899، واستوطنوا باريس، فالتف حوله رجال الأحرار، وعادوا إلى الاشتغال في قلب دولة الظلم والاستبداد، وظهر في مقدمتهم أحمد رضا بك، وهو رئيس «مجلس المبعوثان» الآن، فإنه نشأ في عهد مصطفى باشا وعالي باشا، وتشرب منهما روح الحرية والوطنية، وهو ابن المرحوم علي بك إنكليز؛ لأنه كان قد تعلم الإنكليزية، ووقف على المدنية الأوروبية. وقد حضر إلى باريس عام 1890، وحرر إلى السلطان لائحة مفصلة مشتملة على وسائل إصلاح الإدارة والمالية والزراعة والتجارة والعدلية، فنقم عليه السلطان عبد الحميد، وخصوصا عندما ترأس شعبة باريس ونشر جريدته (منشورات) بالتركية والعربية.
ثم جددت شعبة مناستير أعمالها، وأخذت تنشر مبادئ الجمعية بين ضباط الجنود، فانتظم فيها كثيرون منهم، وأشهر أعضاء هذه الشعبة طلعت بك ومدحت بك، وكانت المخابرات متصلة بينهما وبين الجمعية المركزية في باريس.
ولما تمكنت الجمعية من انضمام ضباط وأمراء الفيلقين الثاني والثالث المعسكرين في سالونيك ومناستير وأسكوب وأدرنه وأزمير مع ضباط وأمراء الفيلق الرابع المعسكر في أرضروم، أخذت في تأليف العصابات الوطنية في مقدونية؛ لمقاومة كل حركة عدائية. وأول من باشر تأليف العصابات كان نياظي بك البطل المشهور، ثم اقتدى به زميله أنور بك، وكلاهما من الفيلق الثالث، وتبعهما كثير من الضباط، فانتشر كل منهم في جهة من جهات مقدونية وألف عصابة لإعداد الأهالي لقبول روح الحرية والاستقلال، وإعادة «مجلس المبعوثان»؛ لأن الإسلام يأمر بالشورى.
ولما كانت البلاد قد سئمت من الظلم والاستبداد، فقد استقبل الأهالي نياظي وزملاءه بكل ارتياح، وأقسموا لهم اليمين على الإخلاص لهم، وأنهم معهم ضد كل من يقاوم الحرية والإصلاح وإعادة القانون الأساسي.
وقد حاول السلطان كثيرا إمحاق هذه الروح من بلاد السلطنة، ولكن بعد أن أعيته الحيل، وتظاهرت الفيالق الثلاثة بتعضيد رجال الأحرار، جمع الوزراء وشيخ الإسلام والشيخ أبو الهدى وشاورهم في شأن الجمعية، من حيث إعادة القانون الأساسي، فأشاروا عليه جميعا بإعادته.
وفي يوم 24 يوليو سنة 1908، الموافق 2 جمادى الثاني سنة 1326، أصدر السلطان إرادة شاهانية بإعادة «مجلس المبعوثان» الذي صدر به القانون الأساسي سنة 1876، وعينت وزارة هذا العهد الجديد مشكلة من سعيد باشا كجك للصدارة، وعمر رشدي باشا للحربية، ولبث باقي الوزراء في مناصبهم.
وقد أقيمت حفلات فخيمة في سائر أنحاء السلطنة بلغت فيه مظاهرات التآخي بين جميع أصناف الأمة منتهى مظاهرها، وقام الخطباء ونوابغ الشعراء يتبارون في إطراء الحرية، والتغني بالدستور، حيث أجادوا في وصفه بأنه منبت الحرية والمساواة، ومصدر العدالة والمصافاة، وأنه السيف القاطع لأيدي الظلام الواقي من أعساف الحكام، الحاقن للدماء، والدافع للبلاء، وغير ذلك من نفيس القول.
أما السلطان عبد الحميد، فبعد إعلان الدستور، فقد استعمل كل حيلة ودهاء ليؤكد للدستوريين أنه أصبح دستوريا أكثر منهم، وأعلن ذلك مرارا، كما أعلن أنه كان مغرورا بالمقربين إليه، لكنه سعى سرا في تأليف جمعية باسم الجمعية المحمدية، مشكلة من الأشراف والعلماء مرماها بأن الشورى تعم المساواة بالعباد على مبدأ الشريعة المطهرة، فأقبل الناس على الدخول فيها. وفي مدة قليلة تألف لها شعب في عموم الولايات العثمانية، وقامت في أول أعمالها في يوم عيد المولد النبوي الشريف، حيث تجمهر عدد كبير من الصفطاء وعامة الشعب مع أفراد الجنود، وقاموا بمظاهرة كبرى أمام الباب العالي و«مجلس المبعوثان» طالبين إجراء حصول الشريعة، فأحدثت هذه المظاهرة الخوف والاضطراب في الآستانة.
وفي يوم الأربعاء 10 فبراير سنة 1908، شاع أن الصدر الأعظم عزل رضا باشا ناظر الحربية، وعارف باشا ناظر البحرية؛ اتقاء لمؤامرة ضد السلطان، فقدم شيخ الإسلام مع ناظري الداخلية والعادلية مع رئيس مجلس الشورى استقالتهم؛ لعدهم ذلك العزل مخالفا للقانون الأساسي، على أن الناس اشتد هياجهم على أثر ذلك، واعتقدوا أن الصدر الأعظم لم يعزل ناظري الحربية والبحرية إلا عندما تأكد أن هناك مؤامرة ضد السلطان، وأن مدبريها هم أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بما فيهم ناظر الحربية، فأصبح السخط عاما على هذه الجمعية؛ لأن الشعب أصبح يحب السلطان بعد أن تظاهر بمظهر الدستوري، ومخافة أن خلعه يؤدي إلى فتن قد تسبب إلغاء الدستور، ثم حدث أن عساكر الآستانة تمردت على ظباطها، وطافوا في الشوارع معيثين بالأمن، فانضم إليهم جملة آلاف من العامة، وهجموا على «مجلس المبعوثان»، فأطلقوا على نوافذه رصاص بنادقهم. أما طلباتهم فكانت قاصرة على أن يكون الدستور وجميع الأحكام منطبقة على التربية الإسلامية، وقد انتدب شيخ الإسلام سماحة ضياء الدين أفندي لمفاوضتهم وإقناعهم بالكف عن التمرد، فلم يسمعوا.
وفي 13 أبريل سنة 1909، اجتمع مئات من الجنود بسلاحهم وقصدوا ميدان جامع أجيا صوفيا دون ظباطهم؛ لعرض بعض المطالب على مجلس الأمة، فأرسلت الحكومة فصيلة من الجنود لصدهم، فاقتتل الفريقان قتالا شديدا، وبسببه أقفلت العاصمة، واستولى الرعب على السكان، وتفاقم الخطب حتى أصبحت الآستانة ميدانا للفوضى، وتعطلت المصالح والمدارس ونظارات الحكومة، واختفى معظم أعضاء «المبعوثان».
واقتضي لتسكين هذا الهياج وتأييد الدستور زحف جنود الاتحاد من سالونيك ومقدونيا تحت قيادة شوكت باشا إلى الآستانة، فحاصروها واحتلوا مواقعها وقبضوا على الجنود الثائرين في يوم الجمعة 23 أبريل سنة 1909. وفي يوم السبت 24 أبريل سنة 1909، استيقظ الناس على دوي المدافع من جهة يلدز؛ لأن السلطان أصر على المقاومة، فحصرت السراي، وبعد مدة أرسل قومندان الاحتلال إلى جواد بك قائد جنود يلدز إنذارا بالتسليم فسلم، ولكن بعض الجنود الذين بداخل السراي لم يقبلوا بالتسليم. وفي صباح يوم الأحد حملوا ستين مدفعا وطافوا في الشوارع، فضربتهم جنود الاتحاد وفتكت بهم عن آخرهم. أما السلطان فسلم يوم السبت مع رجاله من طاهر باشا إلى نادر أغا وعبد الغني أغا وكل أغوات القصر، وقبل التسليم طلب التأمين على حياته فأجيب طلبه، وعند ذلك نقل إلى سراي «طولمه بغجة»، وأعلنت الأحكام العرفية في الآستانة، واستلم أحكامها محمود شوكت باشا قائد الجنود الفاتحة.
واجتمع مجلس النواب في سان إستفانوس وقرروا خلع السلطان عبد الحميد، بعد أن صدرت الفتوى بذلك، وأعلن خلعه في يوم الثلاثاء 27 أبريل سنة 1909، الموافق 7 ربيع الآخر سنة 1327، ونودي بحضرة رشاد أفندي سلطانا باسم السلطان محمد الخامس، ثم نقل السلطان عبد الحميد المخلوع من الآستانة إلى سالونيك، وهناك وضع في سراي اللاتيني تحت الخفارة مع أربعة من نسائه، وهو باق فيها إلى الآن، وعين له المرتب اللازم بعد أن صودرت جميع أملاكه وأمواله ومجوهراته، فسبحان الدائم الذي لا يتغير.
السلطان الخامس والثلاثون
سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم أمير المؤمنين وسلطان العثمانيين السلطان محمد خان الخامس رشاد الدين ابن السلطان عبد المجيد خان
هو السلطان الدستوري الطيب الأخلاق، الحميد المآثر، المحبوب من رعاياه، وفقه الله إلى ما يحبه ويرضاه، أشرقت شمس أنوار جلالته في عالم الوجود عام 1844م، فكانت تلك السنة سنة خير وبركات على الممالك المحروسة العثمانية، وشب جلالته مع أخويه السلطانين مراد وعبد الحميد على ما يشب عليه أصحاب النجابة آل البيت السلطاني، وعرف عن جلالته - أعز الله به العثمانيين - حسن خلقه، ولين عريكته، وميله إلى رعيته، وعنايته بفقرائهم، حتى كان يسميه الناس بأبي الفقراء وسيد الرحماء، وانخرط في سلك الجندية على عهد ساكن الجنان عمه عبد العزيز خان إلى أن نال رتبة فريق، وكل رسومه القديمة هي برتبته العسكرية.
وما زال حرا في غدوه وإيابه يعمل لخير العثمانيين، ويهتم بشئون الدولة إلى أن خلع السلطان عبد العزيز، ثم وليه خلع أخيه ساكن الجنان السلطان مراد خان، وتولى الأمر السلطان عبد الحميد، فحجر عليه كما حجر على عموم أهل البيت المالك. وذلك الحجر هو التزامه سرايه، فلا يخرج منه إلا وطائفة الجواسيس محدقة به، ملتفة حوله، وإذا عاد إليها لازمه الجواسيس كظله، فلا يجرؤ أن يتصل به أحد من العثمانيين، وظل على تلك الحالة السيئة مدة حكم عبد الحميد الطويلة إلى أن أعلن الدستور المبارك، فخرج للناس، وأنسوا بجلالته غاية الاستئناس، ووجدوا فيه الخلق الرضي، والنفس الشريفة، والمبادئ الدستورية، حتى حسبوه مثالا حيا لمدحت باشا كما قال أدباء الأتراك.
ولما حدثت حوادث 13 أبريل سنة 1909، وانجلت عن خلع السلطان عبد الحميد في 27 منه، نودي بجلالته خليفة للمسلمين، وسلطانا للعثمانيين، فاستبشر العالم الإسلامي بجلالته، واغتبط العثمانيون بتوليته العرش متفائلين خيرا.
وقد حقق جلالته الظنون بما أظهره من حسن الاستعداد، والسعي المتواصل لخير الأمة، فضلا عما أظهره من حسن السياسة ، وحبه لرعيته، وسعيه المتواصل لتقدمها ونجاحها، وفي كل يوم لنا من جلالته آلاء محمودة، وآثار بارة مشهودة، فالله المسئول أن يمدنا بطول بقائه فخرا وذخرا؛ ليتجدد به مجد المسلمين، وفخار العثمانيين. آمين.
अज्ञात पृष्ठ