تاريخ صفد للعثماني
पृष्ठ 113
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحكم الوجود وأتقنه، ونقل آدم إلى الأرض وأسكنه، وبث ذريته فيها ونشرهم عليها، فكلما مضى منهم قرن وذهب غيره ووقب 1 إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ومن جملة حكم الله تعالى التاريخ الموضوع لحفظ الأمم، ومعرفة من غبر منهم ونجم، وما مر من الأعوام وتصرم من الأنام تبصرة لمن اذكر، وعبرة لمن اعتبر.
أحمده على ما منح من الفضل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم الفصل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الحاشر 2، العاقب 3، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر أولي المناقب ..
أما بعد فهذه فائدة مستظرفة، وتحفة منتخبة، تشتمل على تاريخ مدينة صفد، مما لم يسبق إلى تدوين ذلك أحد، نقلت بها أمورا مجملة لعدم الظفر بها مفصلة، وإذا فتح باب في أمر لم يتيسر لفاتحه الأقل، ثم يتبعه أهل الفضل وينمقونه بغرائب النقل.
وكان السبب في تأليفها، والباعث على تصنيفها مذاكرة حصلت في ضبط نوابها 4، اقتضت تعليق هذه الفائدة، وفتح بابها بين يدي من جعله الله تعالى في محبة العلم الشريف وأهله علما ووهبه من فضله سيفا وقلما، ومنحه اليمن في آرائه وتدبيره، وقرن السعادة بثغور أساريره، عمر لهذه المملكة بفضله وإنعامه، وزينها في المجالس بوجهه، كما شرفها بوطىء أقدامه، وأثر فيها آثارا محمودة، واستضىء حكامها في مهماتهم السعيدة سبل أن ينور فأنار، فظهر من حسن سيرته ماسر أولو الألباب، وكان طول ليله في الحراسة، وجميع نهاره في السياسة، مع المواظبة على أوراده، والملازمة لاجتهاده.
पृष्ठ 114
شعر:
فياليت أن الله أسعد خلقه
فصيره طول الزمان ينوب
المقر الأشرف السيفي علمدار، بلغه الله جميع الأوطار
فذكرت فتحها أولا إلى أن فتحت عكا، وتمدنت صفد، وتوطن أهلها وزال النصب والنكد، ثم اذكر النواب على محجة حسنة إلى آخر سنة أربع وستين، مدة مائة سنة، ثم أذكر أرباب الوظائف الدينية على هذا المنوال من القضاة والخطباء ووكلاء بيت المال، ثم أذكر من أرباب الوظائف الديوانية من يفتقر إليه من في انتظام الأمور، من كتاب السر، ونظر المال، والجيش المنصور، من أول الفتح إلى آخر المدة على الولاء، ولم يتيسر لي غير ذكر هؤلاء.
لكني أذكر بعد الفراغ من هؤلاء المذكورين فصلا لبيان الأعيان من الصفديين، ثم أبتدي التاريخ مفصلا بالسنين على عادة المؤرخين، من استقبال سنة خمس وستين وأختصر في مقالي لاشتغالي بمهمات أحوالي، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل.
पृष्ठ 115
مدينة صفد
أما صفد نفسها، فحصن منيع بقمة جبل كنعان، كان قرية قديمة فبني عليها هذا الحصن، وهو صفد، وأما اليوم فالمدينة نفسها هي التي تسمى صفد.
ولذلك معنيان: المعنى الأول إن الصفد العطية، وهذا هو المناسب لتسميتها عند الافرنج لأمرين: أحدهما أن ملوك الافرنج أعطوها لطائفة يقال لها الداوية 5، لا يشاركها فيها أحد فسموها لذلك بصفد، الثاني أنهم سموها أيضا صفت بالتاء، فلما وصفت بالصفاء صلحت للعطاء.
المعنى الثاني أن الصفد المغارة، ومنه قوله تعالى:
(مقرنين في الأصفاد) 6 أي في الأغلال، وقد يكون لهذا الاسم مناسبة إما لأن صاحب الغل يمتنع من الحركة، ويلزم موضعه، وهذه المدينة كذلك لأنها جبل عال وعر لا يتمكن ساكنها من الحركة كل وقت، إن ركب تعب، وإن مشى على قدميه اختلط لحمه بدمه لصعود الربوة وهبوط الوهدة، فهي لعلوها أعظم مشرف، فضياع الحركة فيها من السرف، ويستقر ساكنها بأي مكان ويقتنع فيها بالنظر وسنان.
واعلم أنها لطيفة الهواء، طيبة الماء، لها منظر بهج، ومشرف أرج، لا سيما في أيام الربيع، فلها رونق بديع، ومن أبيات لشيخنا قاضي القضاة جمال الدين التبريزي 7 (رحمه الله تعالى):
لما قضى الفرد الصمد
أني أسير إلى صفد
فدخلتها متيمنا
فوجدتها نعم البلد
ورأيت منظرها الذي
يشفي العيون من الرمد
وهواؤها مع مائها
فأصح شيء للجسد
يا حسنهالو لم يكن
للناس موردها ثمد
पृष्ठ 116
والله يعلم السر لي
بفراق عجلون جلد
وأهليها في مهجتي
كل أضر من الولد
جمر اشتياقي نحوهم
بشغاف قلبي قد وقد
وفي الجملة فهي أبيات طويلة لا ضرورة إلى إيراد ما بقي منها.
وقوله «موردها ثمد» يشير إلى قلة مائها، وكان ذلك قديما في أيامه، أما الآن فقد كثر ماؤها، وتجدد بها آبار وعيون.
قال القاضي الفاضل شهاب الدين بن فضل الله العمري، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، تغمده الله برحمته في تاريخه، المسمى مسالك الأبصار، وهو سبعة وعشرون مجلدا: وصفد مدينة صحيحة الهواء، خفيفة الماء، لها أعين، لو أنها دمع لما بلت الآماق، ولا ملأت الأحداق، ولها حمامات يأنف أهلها من دخولها لقلة مائها، وسوء بنائها، ولها قلعة قل أن يوجد لها شبيه كأنما عليها من الذهب تمويه، لا تروم السحب إلا من صبب، ويطوف عليها من الشفق مدام عليه من مواقع النجوم حبب، ولا تجاوز الأرض إلا وهي إذا رامت السماء لا يعوقها سبب.
ولما فتحها الملك الظاهر عظمها، وهي تستحق التعظيم، وتستوجب الرفعة بما رفع الله من بنائها العظيم.
وقد ذكرها ابن الواسطي الكاتب فقال: وقلعة صفد بنتها الأفرنج، وكانت أولا تلا 8 عليه قرية عامرة تحت برج اليتيم، بنتها الداوية في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. انتهى كلام ابن فضل الله.
ولصفد عشرة أعمال لكل عمل قاض ووال، العمل الأول: عمل المدينة، ويسمى الزنار، لاختلاطه بالمدينة من كل جانب، وبهذا العمل أرض تشبه أرض العراق يزرع فيه: الأرز، والبطيخ، ومغله جيد، وأرضه مثل العنبر، وبه بحيرة قدس يوجد فيها اللينوفر، والسمك
पृष्ठ 117
المليح، والبابير، وهو نبت يعمل منه الحصر، وبه قصر يعقوب (عليه السلام)، وهو بيت الأحزان، وجب يوسف (عليه السلام)، وبهذا العمل قرية تسمى ميرون بها نواويس وأحواض في مغارة يرشح فيهم الماء قليلا قليلا، فإذا كان يوما معلوما من السنة وهو نصف أيار، يجتمع إليها خلق كثير من اليهود من البلاد القريبة والبعيدة، ويقيموا حول ذلك المكان نهارهم، ويرشح الماء في ذلك النهار أكثر من عادته، وتحمل اليهود من ذلك الماء إلى البلاد البعيدة، وبالقرب من صفد بوادي دلبية عين الجن، تفور من الأرض، وتجري مقدار ساعة ثم ينقطع ويذهب ماؤها ثم تجري حتى تصير نهرا، ثم ينقطع ثم يجري في النهار مرات، هذا دأبها دائما، واعتقاد العوام أن الماء إذ انقطع وقالوا: يا مسعود عطشنا يخرج الماء.
العمل الثاني: بلاد عمل الشقيف، والنحارير، ومرج العيون، وهي أكبر أعمال صفد وأصحها وأطيبها، وبها قرى عظيمة، وبلادها عامرة، وبها قلعة حصينة لطيفة عامرة، حسنة البناء، بالقرب منها تربة الشرفاء من أحسن الأماكن وأنزهها، وهذه القلعة فتحها الملك الظاهر، ونهر ليطة 9 يمر تحت جبلها، وهو من الأنهار العظام، وبهذه المعاملة قلعة هونين على حجر واحد، وببلاد الشقيف أشياء لطيفة منها: العسل، ومنها المن، ومنها الشيح، ومنها الفخار، ومنها الجوز الفرك، ومنها الحديد، ومنها الخشب الصنوبري والسنديان السواد، وبها تراب الجبر، يعمل منه كيزان، يجبر منه الكسر في عظم الآدميين، والخيل والطير إذا شرب منها، وتحمل إلى البلدان البعيدة، وبها قرية تول بها عين يخرج منها سمك صغار، إذا أخذ منه في شهر شباط واستعمل الذكر منه، وله علامة، نفع في الباه نفعا عظيما، وهذا السمك ذكره الأطباء في كتبهم، وعبروا عنه بسميكة صيدا، وقالوا: هو بقرية من قراها، ولكن القرية اليوم من عمل الشقيف، قالوا: وأجود ما يصاد في منتصف شباط،
पृष्ठ 118
قالوا: وهي صنف من صغار السمك يشبه الوزغ 10 حار عظيم في تهييج شهوة الجماع، وشدة الانعاظ جدا، حتى لا يطيق مستعمله الصبر عن الجماع لشدة الشهوة، وقوة توتير القضيب، قالوا: ومقدار ما يؤخذ منه إلى مثقال مدقوق مضروب في عسل نحل.
قال الشيخ فتح الدين في كتاب الجواهر: حكى لي بعض مستعملها:
أنه في ليلته لم ينم لحاجته إلى تكرار الجماع، وأنه لم يزل يكرر الفعل إلى أن أنزل الدم عوضا عن المني، ودام عليه توتير القضيب حتى كاد يحس بعروقه تتقطع لشدة انتصابه.
قال فعالجته بأقراص من الكافور والأغذية المبردة، كالبطيخ الأخضر، والخيار، والخس وما شاكلها ثلاثة أيام حتى سكن ما به، وهذا السمك وكثرات الخير يحمل إلى البلاد.
وبها قرية بكوزا يوجد بها عنب كبار، في داخل العنبة عنبة عنبة ، وفيها قرية عدشيت بها شجرة بلوط، يوجد البلوط على الشجرة نصفها حجر، إذا أخذ منه، وسحق واستعمل نفع من حصا البول.
وبقلعتها ينبت في الحيطان نبات به زهرة حمراء، تشبه رأس الكلب وفم الحية، إذا أكل منها بالعسل أبرأت من عضة الكلب الكلب ولذغ الحية، وغالب سكان هذا العمل شيعة لا جمعة ولا جماعة.
العمل الثالث: بلاد تبنين، وهي بالقرب من الشقيف في المجاورة والصحبة، وبها آثار حصون عظيمة، وهي من أعمر البلاد الصفدية، بها قرية يقال لها هونين، بها جماعة من التجار الأغنياء، وبهذا العمل جماعة من مشايخ الشيعة وجميع أهلها شيعة، وبه قرية عثرون بها جبن الطيف، يعد من طرف الهدايا الصفدية.
العمل الرابع: ولاية صور، بلد قديم بعضه في البر، وبعضه في البحر، وبناؤه من أعظم أبنية الدنيا، وبه الكنيسة التي لا نظير لها، بهذه الكنيسة
पृष्ठ 119
عامود سماقي رخام عظيم، يذكر أنه لا يتملك أحد من الافرنج حتى يجلس عليه، وهذا أمر مشهور.
وبالقرب من صور قناة عظيمة لا يعرف خبرها، وهي من عجائب الدنيا، بالقرب من البحر المالح، وماؤها عذب فوارة، ينبع من الأرض، ثم يرتفع في بناء محكم قامات كثيرة، بزخم عظيم، فإذا انتهى إلى أعلى البناء خرج من القناة المذكورة نهر عظيم، يزرع عليه أرز وقصب وبساتين ويدور منه طواحين، ومعصرة وحمام، ثم ما فاض منها دخل البحر المالح.
وبها قرية رشمون بها غابة زيتون تضرب بها الأمثال، تسكن بها الوحوش لسعتها وغزارتها، وعلى ذلك كله سور محكم من أيام الروم، وهذا الزيتون مقطع للجند بأخباز في الحلقة المنصورة.
العمل الخامس: ولاية عكا، وعكا بناها عبد الملك بن مروان، ثم غلبت النصارى عليها، ثم فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف، ثم غلبت عليها النصارى حتى فتحها الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك يوسف المنصور قلاوون 11، وفتح صور وحيفا وعثليت، واسكندرية، وصيدا، وبيروت، وجبلة، كل ذلك في سبعة وأربعين يوما.
وعكا أعظم مدائن الإفرنج بالبر والبحر على ما نقل جماعة من الافرنج، وهي عزيزة عليهم، يتأسفون عليها إلى آخر الدهر، وبها العمائر العجيبة، منها كنيسة البنات، التي تضرب بها الأمثال.
وبها عين البقر التي ورد فيها الأثر، جاء أن من شرب من أربع أعين لم تمس النار جسده: عين زمزم التي بمكة، وعين سلوان التي ببيت المقدس، وعين البقر التي بعكا، وعين الفلوس التي ببيسان، فلا بأس بالشرب منها، والاغتسال منها.
وبعكا مسجد نبي الله صالح (عليه السلام) من المزارات المشهورة،
पृष्ठ 120
وكذلك الرملة البيضاء، وكذلك الجامع العمري الذي يظهر فيه النور في ليالي الجمع، وبها مقابر الشهداء.
وبعمل عكا قرية إكليل، بها مشهد أولاد يعقوب من المزارات المشهورة، وبقرية عاينين قبر الاسكندر، والقطن ببلادها يفضل على قطن كثير من البلاد ويرغب فيه، وبعكا ميناء يقصدها تجار الافرنج بالبضائع، ويعبوا منها القطن يضمن بخمسين ألف درهم.
وببلاد عكا أنواع من التين المليح الذي يرغب فيه، وبطيخ أصفر سلطاني.
العمل السادس: ولاية عثليت، وهي بلاد مباركة، وبها جبل الكرمل من المزارات، وإليه ينسب العسل الكرملي الذي يرغب فيه، وبهذه الولاية بحرة صغيرة بقرب قيسارية يوجد بها التماسيح، ويتخوف الناس منها، وبها قريتان حسان بها فواكه وخيرات، وهما: الطيرة، والسوامر، وتتصل بلادها بقاقون، وهي آخر البلاد الصفدية طولا.
العمل السابع: مرج بني عامر، وبه ولايتان: اللجون، وجينين، فاللجون بلد قديم، وهو قاعدة المرج، وهو من عشيريمن، وكذلك جميع مرج بني عامر، وبه مقام الخليل إبراهيم (عليه السلام) من المزارات، وبه مصطبة السلطان، وخان سبيل عظيم الشان، يأوي إليه المسافرون.
وأما جينين فبلد قديم أيضا وبه خان سبيل عظيم الشان، لا يكاد يوجد مثله في الحسن وكثرة المياه، وبه سوق كبير، وبالمرج قرى أمهات، هي عمدة البلاد الصفدية في الغلات، كزرعين، والفوله، ولها قلعة حسنة وبتيتين، وبجبلها مقام دحية الكلبي صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عنه، من المزارات المقصودة، وبجينين مركز درب الشام ومصر، لا يكاد يخلو من البريدية في كل يوم، يمر، على جينين من التجار والمسافرين أنواع كثيرة.
पृष्ठ 121
العمل الثامن: ولاية الناصرة ، وهي بلاد مباركة، وأهلها منسوبين إلى الخير والدين، والناصرة بلدة قديمة عبرانية، تسمى ساعير، وهي مذكورة في التوراة، يقال أن السيد المسيح عيسى بن مريم (صلى الله عليه وسلم) ظهر منها ونشأ ونصره الحواريون بها، ولذلك سميت بالناصرة، وبها حمام قديم به جرن كبير يقال إن عيسى (عليه السلام) اغتسل منه، والمقام الذي هو موضع البشارة لأمه (عليها السلام) من الملك (عليه السلام)، بعيسى (عليه السلام)، يقصد للزيارة، وبه جماعة من الرهبان وعباد النصارى يتعبدون فيه، وبالكنيسة التي تحت جامعها اليوم عمودان كبيران، وقد عمل المكان زاوية للفقراء الأحمدية فإذا حصل اجتماع، وعمل فيه سماع للفقراء عرق العامود حتى يظهر البلل فيه، وللنصارى اعتقاد في ذلك العامود كل من قصده منهم اجتهد أن يأخذ من العامود شيئا، وأهل الناصرة كانوا في زمن قسطنطين مفتاح دين النصرانية وأساسه، وهم في هذا الزمان رأس عشير يمن، كما أن أهل كفر كنا رأس عشير قيس، وبلاد الناصرة قرية فرعون بلد روماني قديم لا يعرف له باني، به مغارة مهولة معدومة في عجائب الدنيا.
حكى الأمير الذكي العارف ناصر الدين ابن العجلوني- وسيأتي ذكره في ترجمته- أنه دخلها وأنه لا يعرف منتهاها طولا وعرضا وارتفاعا، ويسمع عبرها هدير هواء، وعلى شمال الداخل قبور رومانية نواويس على ما قيل أنه فوق الألف، وأنهم دخلوها بمشاعل نحو ثلاثين فقطعوا نحو ميل، ثم فزعوا من طفي المشاعل والحيرة بعد ذلك فرجعوا، وذكر أنهم وجدوا بها من الوطواط ما لا يحصر في مقدار الدجاج وأكبر، وقيل أنها تصل إلى تحت مدينة الناصرة ومقدار ذلك بريد، وللناس عنها حكايات، ويدخل إليها من سرداب حبوا، مقدار ثلاثة أذرع فقط.
وببلاد الناصرة قرية جيدة بها بطيخ أخضر يضرب به المثل بحسنه
पृष्ठ 122
وحلاوته، وقلة بزره، وبالناصرة والريفة 12 جماعة يقرؤون القرآن في جماعة على طريقة حسنة.
العمل التاسع: ولاية الشاغور ومعليا، فشاغور البعنة جبل به قرى عامرة كثيرة الخير، والبعنة بها دير عظيم يقصده الناس بمن به جنون فيبيتون ليلة على مصطبة به ، فيشفى بقدرة الله تعالى؛ وشاغور عرابه، بلاد عامرة وبه زيت كثير، وبقرية كابول مقام أولاد يعقوب (عليه السلام)، من المزارات المشهورة المعظمة.
وأما معليا فلها حصن، يسكن به القاضي، وبلادها جبال، وقرية البقيعة منها بها مياه تجري وأشجار سفرجل كثير، ومنها جبل الزابود يشرف على صفد، يمتد حوله قرى كثيرة الفواكه، وبهذه المعاملة قلعة القرين، حصن جيد فتحه الملك الظاهر، وبوادي القرين بساتين وطواحين، وفواكه لطيفة، وثمار مختلفة.
وأهل هذه البلاد غالبهم حاكمية دروز دهرية، ينكرون الشرائع، ويعتقدون التناسخ، ولا يعتقدون صلاة ولا صوما ولا زكاة، ولا حجا ولا بعثا ولا نشورا، ويستحلون المحارم، ولا يغتسلون من جنابة، ويزرعون الحشيشة المسكرة في قرية يقال لها الزابود ويعتصرون الخمر حتى يبقى عندهم مخازن، في غالب السنين يجهز إليهم ملك الأمراء إذا كان متدينا يريق خمورهم ويكتب عليهم قسامة بأن لا يعصروا شيئا، إلا أن هؤلاء القوم في البيع والشراء والأخذ والعطى جيدين، موثق بهم، لا يكذبون في أيمانهم.
العمل العاشر: ولاية طبرية ومن عملها الآن كفر كنا، ومنها البطيحة، فكفر عاقب.
فأما طبرية فهي من المدن القديمة العظيمة الشأن، يقال أنه كان بها ثلاثمائة حمام، وهي مستطيلة على شاطىء البحيرة المنسوبة إليها، ويقال
पृष्ठ 123
إنها أعظم بحرة حلوة في الدنيا، ودورها نحو يوم، وطولها اثنا عشر ميلا، وهو بريد كامل، وعرضها ستة أميال، والجبال تكنفها، ومنها يخرج نهر الشريعة ولا يزال يجري في الأغوار حتى يصب ببحيرة زغر، وهي المعروفة ببحيرة لوط، ويقال إن قبر سليمان بن داود (عليهم السلام) في بحيرة طبرية، وبطبرية من الحصون والأبراج والكنائس شيء غريب كثير.
وبطبرية مشهد السيدة سكينة بنت علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وبها الحمامات المعدودة من عجائب الدنيا، بها مياه سخنة تنبع من الأرض، تنفع من الرياح والبلاغم، والدماميل والقروح، والجرب، والاستقساء، وغير ذلك، ومن ترهل البدن، ومن افراط العبالة 13 ويقصدها الناس، وكذلك الحمة التي بأطراف هذه المعاملة، على الشريعة.
وبهذه المعاملة قرية حطين بها قبر نبي الله شعيب (عليه السلام)، والقرية وقف على مقامه، وله مشايخ وخدام ومباشرين، وبه سماط للفقراء خبز ودشيشة دائما، ومضيف للواردين من البريدية والأعيان، ويأتي الناس للزيارة من سائر النواحي، لا سيما يوم الجمعة، كنت أتوقف في كون سيدي شعيب هنا حتى رأيت كأني جئت للزيارة وجلست عند الضريح، فانفرج وخرج منه شيخ مهيب حسن، قلت:
أنت نبي الله شعيب؟ فقال: نعم، ثم قال: وأنا أعرفك وأحبك، فإن خطيبي الخطيب إسماعيل يحضر فيثني، ويدعو، فقلت: كان خطيب، الإنسان له عنده مودة، فقال: نعم، فقلت: وأنا خطيبك أيضا، فقال:
نعم، ولكن أنت خطيب النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم حدثني كثيرا.
وفي هذا العمل مدينة كفركنا، لا تخلو من جماعة من الصالحين، وأرباب الكشوف، وسأذكر جماعة منهم في هذا التاريخ، إن شاء الله تعالى، فهي معدن الصالحين، وموطن الأولياء، وبكفركنا مقام أولاد
पृष्ठ 124
يونس (عليه السلام)، من المزارات المشهورة، الدعاء به مستجاب، وخدامه صالحون وبكفركنا مقدمين العشرانات أمير طبل خاناه، وهم رأس قيس أهل فتن وأهواء، وبقربها مكان يعرف بالبطوف، به قرى حسان، وبه أرض تعرف بمرج الغرق، تجتمع فيها المياه، وليس لها مخرج، فإن تلك الأرض بها جبال محيطة بها، وفي الشتاء يجتمع فيها من الأمطار ماء عظيم، حتى يصير بحيرة، ثم تشربها الأرض قليلا قليلا، وكلما جف منها مكان زرعوه كما يفعل أهل مصر.
وبهذا العمل جبل الطور، عليه حصن بديع، وبه حصن كوكب، وبالبطوف مقام العزير وقبره، وبالرومة قبر روبيل، مزار يقصده اليهود، والمسلمون وعليه قبة ومقام الشيخ علي البكاء 14 بتوعان، وبه قرية الشجرة، بها مقام عظيم، عليه مهابة، يقصد بالزيارة، والدعاء فيه مستجاب، فهذه ولايات البلاد الصفدية وأعمالها.
وفي الجملة فصفد مدينة لا بأس بها، لكنها ليست على ترتيب المدن، كان خلاصتها حصنها الغريب، ثم بني عليه ربض يسير، ثم زيد فيه تلفيقا بلا ترتيب.
قال بعض أهل الطرف في مقام المطايبة واللطف حين سئل عنها، وقيل له: اشهد لنا بما تعلم منها؟ فقال: صفد وما أدراك ما صفد، مدينة الحزن والنكد، والفقر والحسد، والهم والكمد، عيشها غير رغد، وكان سرها حصنها ففسد، لكثرة الصواعق والأمطار، وتواتر الزلازل في الليل والنهار، وأمطارها سيول، وصواعقها تهول، وشتاؤها لا يزول، وساحتها معدن الفضول، فرجتها ثلاثة: وادي في الدرك الأسفل، وميدان كالسمك الأعزل، وحواكير عن عقاربها لا تسأل، وعجائبها ثلاثة: مآذن بلا جامع، وحمام بلا ماء، ليس للكلاب عن مصنعه مانع، وأسطحه لا تتميز من الشوارع، خيرها من الجلب، ومواشيها سريعة العطب، وكثير فيها الحسد، وقليل فيها الذهب، وجامعها بلا ميضأة
पृष्ठ 125
للطهارة، ومسلخها يرمي الطير من القذارة، وهي مفرقة للعمارة، في الشرق حاره، وفي الغرب حاره، المغضوب عليهم يجهزون للإقامة في أكنافها، والضالون من الدروز والرافضة في غالب أطرافها، أحسن حماماتها سفر طويل، من ذهب إليه خجل بالغداة والأصيل، وعند خروجه من حره إلى الهواء الوبيل يقول: هل إلى مرد من سبيل، لا مدرسة ولا رباط، ولا محل نزهة ولا انبساط، من دخلها حزن، وضاق صدره، ومن خرج منها فرح وسر قلبه، ويكفي من البرهان أنها بيت الأحزان، يعقوب (عليه السلام) فيها لفرط حزنه ذهب بصره، ويوسف (عليه السلام) ألقي في الجب، فلم يجد من ينصره، ليس لها باب ولا سور، وغالب بيوتها مبنية على القبور، ولا بها مال جزيل، ولا من يعين على نوائب الدهر، فصبر جميل.
أما سمعت قول ابن حلاوات في أبياته المشهورة،
شعر:
جهنم أصبحت لا شك فيها
لها من كل ناحية عقاب
فنهض إليه بعض الإخوان وقال: مهلا أيها الإنسان، فما تلاطفت ولا أنصفت، ولا خلوت من تحمل من فيما وصفت، تتفوه بصفتها ولا تتنوه ببهجتها، أنسيت جامعها الأحمر، وصحنه الأنور، موطن الإنابة، ومحل الإجابة، ومنهل الأوطار، ومعدن الأخيار، هلا ذكرت ميدانها الذي يشفي رمد العين، ويري من به مجمع البحرين، يمنح ويرتع طرفه مزاين الجناين، أنسيت هواها اللطيف، وماءها الخفيف، حتى كان الافرنج من جميع الأنحاء يحملون من مرض إليها لطلب الشفاء، هلا ذكرت أترانجها 15 المتفق عليها، والحكي عنها، والمشار إليها، تحمل إلى البلدان، وتهدى إلى ملوك الزمان، هلا ذكرت التين الماروني، والجبن العثروني، والعسل الشقيفي، والكرملي، والتفاح الأحمر الفرعمي 16،
पृष्ठ 126
هلا ذكرت الساتورة وغرائبها المأثورة، وحلزون البرج الكبير، وكيف الفارس من أسفله إلى أعلاه يسير، أنسيت رياض اليكرا، وما عن شقائقها الملونة يحكا، والحواكير وبديع أزهارها، وما يطرب في السحر من نغمات أطيارها، هلا ذكرت عمارة الخليفة، ومصطبتها اللطيفة، ومنظرها الذي يشرح الصدور، ويروي من به البر والبحر، حتى يظن الغريب أن البحر منه قريب، أنسيت بركة الدجاج، وماؤها الثجاج، وسفح القلعة في زمن الربيع، وما يظهر به من الزهر البديع، هلا ذكرت مغارة نبي الله يعقوب، التي تجلي الهموم، وتزيل الكروب، وقد شاع بلا ارتياب أن الدعاء فيه مستجاب، أنسيت النابل وكنعان، وكيف يظهر فيها الأولياء بالعيان، هلا ذكرت وادي لبيه ونزهته، ومقام سيدي محمد الكويس وبهجته، وحمامها الجديد، وعين الساحة التي هي بيت القصيد، أنسيت ما قال شرف الدين حسين بن الكمال (هو جد المؤلف): شعر:
صفد وطني وبها وطري
روى صفد أوبل المطري
بلد ما يعد لها بلد
في طيب هوى رطب عطر
تغدو الأبدان لصحتها
ولها نور مثل القمر
تولى، وهو يقول: هيهات: هيهات، وحق منى وعرفات، إن هذه الأسماء على غير مسميات.
وكان حصنها من أجل حصون الافرنج، وأمنعها، وأشدها ضررا على المسلمين وأشنعها، وكان به طائفة يقال لها الداوية، نار موقدة وبلية، عزبان فرسان، معدودون للغارات على البلدان، تصل غاراتهم من جهة دمشق إلى داريا وما يليها، ومن جهة بيت المقدس إلى كركمة 17 ونواحيها، فيسر الله عز وجل فتحها على يد الملك الظاهر بيبرس (رحمه الله تعالى)، ورضي الله عنه، وأثابه الجنة في رابع عشر شوال سنة أربع وستين وستمائة، بعد أن حصره مدة طويلة.
ومن محاسن ما اتفق أن المسلمين يوم الجمعة بجامع دمشق تضرعوا
पृष्ठ 127
إلى الله عز وجل وسألوه فتح صفد، وارتفع ضجيجهم، وابتهل خطيبهم، وفي تلك الساعة طلب الافرنج الأمان على أن ينزلوا بأثاثهم ويتوجهوا إلى الساحل مجردين من غير حمل عدة ولا مال، فلما نزلوا خانوا ونكثوا ونقضوا العهد، فضربت أعناقهم على تل يعرف بجبل المقتلين، وأن أهل عكا لما بلغهم ذلك بعثوا رسولا، وطلبوا من السلطان أذنا في نقل هؤلاء الشهداء المقتولين، ليدفنوا بعكا تبركا بهم، فقال للرسول أقم إلى غد لتعود بالجواب، ثم توجه ليلا في جماعة من الفرسان، فأصبح بعكا صباحا، فقتل من أهلها جماعة، ثم عاد إلى صفد من يومه، وطلب القاصد، وقال أخبرهم بأنه قد صار عندهم شهداء كثيرة وتوفر عليهم كلفة النقل.
ولما حصل الفتح سر السلطان وابتهج، ورمم شعث الحصن، وما فسد منه بالقتال، ثم بنى على الحصن هذه الباشورة البرانية، ونصب محرابا في الكنيسة، وجعلها جامعا، وصلى بهم والعصابة الحرير التي بمنبر القلعة، على رأس الخطيب اليوم، هي التي كانت على رأس الملك الظاهر يوم الفتح.
وقدم العلماء والصالحون من الشام إلى صفد يهنئون السلطان بالفتح من جملتهم الإمام النووي (رحمه الله تعالى)، وصل وهو يبني على باب السر شمالي الحصن، وكان مجيئه ماله نظير إلا فتح القلعة.
أخبرني بذلك من حضره ممن أثق به.
ولما تم ما قصد من هذا الفتح الجليل، وعزم على التوجه والرحيل، رتب جماعة من خواص مماليكه العزيزة عليه، وأعطاهم الاقطاعات الثقيلة، وعرضهم بين يديه، وقرر لأرباب القرآن الذين أحضرهم من سائر الجهات جزيل النفقات، فبلغ المصروف في كل شهر ثمانين ألف درهم، وأرصد لهذا الحصن حواصل كثيرة من القرى، كان يخزن منها في
पृष्ठ 128
الحصن في كل سنة اثني عشرة ألف غرارة غلة بالدمشقي، وتستمر مخزونة حتى يتحصل المغل الثاني، ثم تصرف الغلة المخزونة، وتخزن الغلة الجديدة، حتى لا يخلو الحصن عن اثني ألف غرارة مخزونة به دائما، والماء بالحصن كثير في آبار وصهاريج، ولا يكاد يفرغ، وبه ماء ينبع في مكان يعرف بالساتورة، معدودة من عجائب الدنيا، عمقها مائة وعشرة أذرع في عرض ستة أذرع بالنجار، مركب عليها مرمة هندسية من الخشب:
بسقال، يلتف عليها حبل سرباق مركب فيه بتيتين 18 خشب، تسع كل واحدة نحو راوية ماء، وكل ما وصلت بتيتة إلى الماء وصلت الأخرى إلى رأس البير، وعلى رأس البير ساعدان من حديد بكفين وأصابع تتعلق الأصابع في حلقة البتية الملآنة، وتجذبها الكفان، فينصب الماء إلى حوض، وهذا الماء نبع، ويذكر أن عمق الماء بها ستون ذراعا.
ولما تم بناء الباشورة رسم أن يعمل برج غريب في وسط القلعة يعرف ببرج الظاهر، ووصفه بصفات عظيمة منها كبر الآلة جدا بحيث أن بابه الأسفل نحو ست حجارة، فبني على تلك الصفة كثير منهم، وأنه كتب إلى السلطان الملك الظاهر في أثناء البناء أن القنب بالشام فقد، ونقل الآلة يستدعي سرباقات كثيرة، ولا تعمل إلا من القنب، واستأذنوه في تخفيف الآلة فأجابهم بأن الحرير عندنا كثير، فكبروا الآلة، وسيصل إليكم من الحرير ما يعمل مكان القنب، ف(رحمه الله) ورضي عنه وأثابه جنة النعيم، آمين.
وارتفاع هذا البرج مائة وعشرون ذراعا، وقطره سبعون ذراعا، وهو ثلاث مساكن ومخازن ومنافع وطاحون تدور بالخيل، وبير ماء جمع، يكفي لمن يكون في هذا البرج طول الحول، وله حلزون بغير درج ممشا عجيبا يسع ثلاث فرسان صفا واحدا، يصعد منه إلى سطحه، ثم توجه إلى مصر المحروسة مسرورا بما منحه الله عز وجل، وجهز إلى نيابة صفد نائب عجلون.
पृष्ठ 129
النائب الأول كيكاري العلائي، وكان رجلا دينا خيرا عفيفا عزيزا على الملك الظاهر، وكان حصن قلعة عجلون عند السلطان الملك الظاهر من أجل الحصون قبل صفد، فجهز العلائي لمنزلته عنده، فأقام بالقلعة ولا يستطيع أحد البناء بالمدينة، خوفا من الافرنج من أهل عكا وصور وعثليت، وأقام العلائي مدة ثم رحل إلى رحمة الله تعالى.
فحضر للنيابة بصفد الأمير سيف الدين طغريل، الرجل الصالح الولي صاحب التربة المعروفة، والقيسارية العتيقة الموقوفة في سنة خمس وستين وستمائة، فأقام مدة يقصده الناس للزيارة، وطلب الدعاء، ثم مات ودفن في ترتبه في قبة تجاه الجامع.
ثم حضر للنيابة الأمير سيف الدين بلبان العلائي في سنة ثلاث وسبعين وستمائة، فأقام بها مدة، وفي أيامه تكاملت عمارة الجامع الكبير الظاهري سنة أربع وسبعين وستمائة، بعد الفتح بعشر سنين، ثم بنيت دار الخطابة بفضلات حجارة الجامع ثم بني بعض بيوت بالمدينة تلفيقا بحارة الصواوين وأطراف حارة الجامع.
ثم مات السلطان الملك الظاهر (رحمه الله تعالى) ورضي الله عنه في المحرم سنة ست وسبعين وستماية بدمشق المحروسة، فتملك بعده ولده السعيد، وسلامش كل واحد منهما نحو سنة.
ثم تملك السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي أبو السلاطين إلى الآن، حفظ الله نعمتهم، وأدام ملكهم في شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
ثم خرج سنقر الأشقر على الملك فتملك بالشام، فخرج إليه الملك المنصور فكسره وهزمه، ثم توجه السلطان إلى التاتار فهزمهم وكسرهم 19 ومثل بهم في شهر رجب سنة ثمانين.
وجهز إلى نيابة صفد حين مات العلائي، الأمير علاء الدين
पृष्ठ 130
الالدكزي في سنة ثمانين، ثم كبرت صفد حينئذ، واتسعت قليلا في أيامه وبنى الحمام المعروفة به، وسكن بالمدينة، وبقي الحكم بدار العدل في باب القلعة، واستمر الحال وأهل عكا وصفد بينهما هدنة، إلى أن فتحت طرابلس بالسيف عنوة سنة ثمان وثمانين وستمائة ثم حصل من الافرنج خيانة ونقض عهد، فعزم الملك المنصور على غزوهم، فمات (قدس الله روحه) بمصر سنة تسع وثمانين وستمائة، وعهد إلى ولده السلطان الملك الأشرف خليل، وأوصاه بفتح عكا وغزوها قبل كل شيء، فلما تملك لم يكن له دأب ألا التوجه إلى عكا بجيوش عظيمة، واحتفل لذلك احتفالا بالغا، ولم يتخلف عن غزو عكا أحد ممن أمكنه التوجه، وحصل الاجتهاد التام والمصابرة على القتال حتى يسر الله عز وجل فتحها بالسيف، يوم الجمعة رابع عشر جمادى الأول سنة تسعين وستمائة، ثم هدمها بوصية والده، وظهور المصلحة في ذلك، واجتماع الآراء على ترجيحه.
فلما فتحت عكا، ورأى الفرنج الغلبة، وقع في قلوبهم الرعب، وخافوا على أنفسهم من الهلاك، فسلم أهل الحصون والثغور التي بالسواحل جميعها: أهل صور، وحيفا، وعثليت، وقيسارية، وغير ذلك، وطلبوا الأمان، ودخلوا البحر، وخلا ساحل الشام المبارك من الافرنج، وطهر الأرض المقدسة منهم، وقطع دابرهم، وقلع آثارهم (وقيل بعدا للقوم الظالمين ) 20.
فلما صارت السواحل للمسلمين، ومحيت آثار الكافرين، اطمأنت الخواطر، وطابت القلوب وابتهجت النفوس وطابت أنفس الناس على الإقامة بصفد، وقصدوها من البلاد لطيبها وصحتها، وما بها من الخير في ذلك الوقت، لقرب العهد بالفتح المبارك، وعمل بها موضع مبارك للنيابة بها، واستقر في المدينة نائب بمفرده، وبالقلعة نائب بمفرده، فأول النواب بالمدينة الأمير علاء الدين الالدكزي سنة تسعين وستمائة، واستمر إلى سنة إحدى وتسعين وستمائة ثم مات.
पृष्ठ 131
فحضر ايدكين الصالحي، ثم مات الملك الأشرف (رحمه الله تعالى) ورضي عنه، وتملك أخوه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، والد الملوك والسلاطين، ومن دان له العباد والبلاد، وأطاعه كل حاضر وباد، تغمده الله برحمته ورضوانه، ثم مات ايدكين الصالحي، ودفن بتربة جده [المؤلف] الشيخ كمال الدين لصحبة كانت بينهما، ورغبة في مجاورته.
ثم حضر الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار يوم الجمعة سابع ربيع الأول سنة اثنين وتسعين وستمائة، كان من أهل الخير، الراغبين في القربات، وهو باني الجامع بحارة الأكراد، والحمام بعين الزيتون، الربع منه وقفا للأكفان، ثم خلع السلطان الملك الناصر من الملك سنة أربع وتسعين وستمائة، وتسلطن جماعة، ثم أعيد السلطان إلى الملك سنة أربع وتسعين وستمائة.
وحهز للنيابة بصفد المحروسة الأمير فارس الدين الالبكي وكان كبير القدر عظيم الحشمة، فأقام بصفد مدة يسيرة.
ثم حضر للنيابة بصفد الأمير سيف الدين كراي المنصوري، وكان نائب الشام في ذلك الوقت الأمير جمال الدين أقوش الأفرم، وكان كراي من الدينيين، صاحب سخاء ومروءة، وموفاة في الصحبة، انتفع بصحبته قبل نيابته جماعة منهم عمي الشيخ نجم الدين بن الكمال، ولما نقل إلى نيابة الشام أخذه معه، وفوض إليه أمور الشام، وفي تلك الأيام كانت وقعة غازان سنة تسع وتسعين وستمائة، وكان رجلا عظيما عفيفا دينا يحب الخير وأهله ثم طلب إلى مصر.
وحضر للنيابة الأمير سيف الدين بتخاص، وكان ظالما غاشما تجاوز الحد في الظلم، حتى كان يرمي الخلق في المنجنيق، وكان بقلعة صفد مؤذن من الصالحين الأخيار قد جلس للفطر، وكان صائما فرمى بتخاص رجلا في المنجنيق، فوقع الرجل بدار المؤذن فتقطع وانتشر رأسه،
पृष्ठ 132