وأعلنت الحكومة الرومانية بحرية بلاد مقدونية ولم تضم إليها شيئا منها في بادئ الأمر اكتفاء بأخذ نصف ما كان يدفعه برسيه من الجزية، ثم قسمت هذا الإقليم إلى أربعة أقسام، وحجرت على أهالي كل قسم الاتجار والتزاوج مع سكان القسم الثاني حتى تنحل من بينهم روابط الوطنية والقرابة، وقسم كذلك إقليم إليريا إلى ثلاثة أقسام بهذه القيود.
أما برسيه فسجن في مدينة رومة، ولم تطل مدته به فإنه امتنع عن الأكل حتى مات جوعا.
ولقد كان لانخذال برسيه ووقوعه في أسر الرومانيين دوي عظيم في جميع بلاد اليونان، بل في جميع الممالك الواقعة على شواطئ البحر المتوسط، فحضر بروزياس ملك بثينيا إلى رومة ومثل أمام مجلس السناتو بكل خشوع وخضوع، وأراد ملك برغامة ومسنيسا ملك نوميديا الاقتداء به فمنعتهما الحكومة الرومانية عن مفارقة بلادهم، وألزمت ملك أنطاكية الكف عن محاربة مصر والعودة لبلاده ورد ما أخذه من مصر إليها، ونفت من بلاد اليونان كل من كان معارضا لأعمالها أو متظاهرا بالميل ولو قليلا لجانب ملك مقدونية.
وبالاختصار صارت هي الدولة الوحيدة المسموعة في جميع هذه البلاد، وخشي سطوتها البعيد قبل القريب.
لكن لم تكف هذه الإجراءت لإلقاء الرعب في قلوب أهالي مقدونية، بل أخذوا يسعون جهدهم في تحرير بلادهم وتخليص وطنهم من تسلط الأجنبي فأثاروا الأهالي أكثر من مرة، وحصلت بينهم وبين جيوش الرومان حروب سالت فيها الدماء أنهارا، وقتل فيها أغلب هذه الفئة الغيورة على استقلال بلادها، وأخيرا لما تضعضع حال البلاد وصارت غير قادرة على إبداء أقل مقاومة وقتل سراتها وأشرافها أعلن مجلس سناتو رومة في سنة 142 بجعل بلاد مقدونية ولاية رومانية، وسلبها ما كان تركه لها من الاستقلال الظاهري.
وكذلك لما نخر الشقاق عظام الأمم اليونانية، وانفصمت عرى اتحادها، وصارت أشتاتا تسعى كل منها للإضرار بأختها للتقرب من رومة، وماتت العواطف الوطنية فيها بدسائس الرومان؛ أعلنت الحكومة الرومانية بجعل بلاد اليونان ولاية رومانية واحدة، وبذلك نجحت سياسة رومة أي نجاح، وزال استقلال بلاد اليونان ومقدونية تماما، وصارت ولايات رومانية كما تبعها غيرها تدريجا حتى صار البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية كما سترى.
هوامش
زوال ملك قرطاجة وخرابها
ولنتكلم الآن بالإيجاز عما حصل لهذه الجمهورية الإفريقية القديمة من بعد أن أخضعها الرومانيون عقب الحرب البونيقية الثانية، وحصروا دولتها في بلاد تونس، وأوجدوا بجانبها جارا شديد البطش عليها قديم العداوة لها، وهو مسنيسا ليكون في جسمها كالسرطان في جسم العليل، إن برئ من جانب ظهر في الجانب الآخر حتى يقضي العليل نحبه ويستريح بالموت الأحمر من هذا الداء الأزرق، هكذا كانت حال قرطاجة بعد الشروط القاسية التي قبلتها مضطرة غير مختارة عقب انهزام بطلها الشهير أنيبال في موقعة (زاما)، فإن مسنيسا ما انفك بعدها يوجد كل يوم سببا للشقاق بينه وبين قرطاجة، ويتعدى الحدود المعينة له، ويختلس الأراضي بدون أن تجسر الحكومة القرطاجية على صد هجماته أو منع تعدياته؛ بسبب الشروط التي تم عليها الصلح بينها وبين رومة التي تحرم عليها إعلان الحرب على أحد مجاوريها بدون تصريح الحكومة الرومانية، فكانت تكتفي بالشكوى إلى باب سناتو رومة الأعلى ولا تجد منه إلا أذنا صماء، حيث كان من صالح رومة إضرام نار الفتن بين الجارين حتى تحصل على ضالتها المنشودة وهي الإجهاز على قرطاجة يوما ما.
لكن لما كثرت شكوى قرطاجة من جارها؛ أرسلت الحكومة الرومانية رسلا لتسوية ما بين الجارين من الخلاف وتوطيد أسباب الاتفاق والوئام بينهما إلى حين.
अज्ञात पृष्ठ