وفي سنة 208 انتخب كل من القائد مرسللوس وكرسبييوس قنصلين لهذه السنة، فارتئيا مهاجمة أنيبال لوضع حد لهذه الحرب التي طالت مدتها وزادت مضراتها ولم يتبعوا خطة سلفهم فابيوس، فعادوا بالخيبة والفشل وقتل مرسللوس مع كثير من ضباط الجيش وجنوده، فلم يعد انتخاب زميله لسنة 207، بل وقع الانتخاب على القائدين نيرون وليفيوس.
وفي تلك السنة انتصر (ازدروبال) على سيبيون الإفريقي في بلاد إسبانيا، واجتاز جبال البرينيه وبلاد غاليا الجنوبية إلى أن وصل شمال إيطاليا لمد يد المساعدة والمعاونة لأخيه أنيبال ويحصرا مدينة رومة بين جيشهما، لكن أتاح الله لهذه الأمة الرومانية التي استمرت تحارب عن استقلالها، وتناضل عن حياتها عشرات من السنين القائد نيرون الذي كان يحارب أنيبال في الجنوب بينما كان زميله واقفا في وجه ازدروبال يمنعه عن اللحاق بأخيه، فقد دبر هذا القائد حيلة أجهز بها على ازدروبال، وذلك أنه سار بكل سرعة مع سبعة آلاف من نخبة رجاله بعد أن اتخذ ما يلزم من الاحتياطات لعدم استشعار أنيبال بغيابه، وجد في السير ستة أيام حتى لحق بزميله ليفيوس وأعلن العدو باجتماع الرئيسين، فظن ازدروبال أن أخاه قد خذل ومات؛ إذ كان يصعب عليه أن يعتقد بمغادرة نيرون لجنوب إيطاليا مع وجود أخيه بها ففر ازدروبال بجيوشه إلى الشمال لتوهمه أن جميع جيوش الرومانيين اتحدت لمحاربته وتحققه من عدم إمكانه مقاومتها، فتبعه القنصلان بما معهما من الجيوش وهزماه شر هزيمة بالقرب من نهر ميتوروس وفرقوا جنوده أيدي سبا، ووجدا جثته ضمن القتلى وأرسلا رأسه لأنيبال ليعلموه مما حل بأخيه، ولقد محا الرومانيون في هذه الموقعة ما لحق بهم من الفشل والتصق بهم من العار في واقعة تراسيمين وكان.
وبعد ذلك لم يبق لأنيبال أقل أمل في وصول أدنى مساعدة إليه من جهة قرطاجة ويئس من النجاح في مشروعه؛ إذ تضعضع حاله وهلكت جيوشه، وتفرق من حوله محالفوه ومحازبوه من أهالي البلاد لما رأوا ما حل به من الانكسار، وأيقنوا أن الفوز سيكون للرومانيين لا محالة لكنه لم يظهر يأسه، بل تظاهر بالثبات والصبر شأن كل عاقل حكيم.
ولنأتي هنا باختصار على ذكر ما حصل بإسبانيا من الوقائع بين الرومانيين والقرطاجيين بعد موت كورنوليوس سيبيون وأخيه وظهور ولده بوبليوس الذي تلقب بالإفريقي فنقول:
إن بوبليوس انتصر مرتين على ازدروبال أخي أنيبال، ثم غافله ازدروبال المذكور واجتاز جبال البيرينه وبلاد غاليا (فرنسا)، ووصل إلى شمال إيطاليا لمساعدة أخيه؛ فهزم وقتل وأرسلت رأسه إلى أخيه كما مر، وفي أثناء ذلك فتح بوبليوس سيبيون مدينة قرطاجة الجديدة المعروفة الآن باسم قرطاجنة التي كان أسسها أنيبال بساحل إسبانيا، ووجد سيبيون ما كان لدى القرطاجيين من الرهائن التي أخذوها من أهالي إسبانيا ليأمنوا غدرهم وانضمامهم للرومانيين، فأحسن سيبيون معاملتهم وردهم إلى أهلهم مزودين بالهدايا الثمينة والتحف النفيسة، وعامل الأهالي بالرفق واللين فمالوا إليه بقلوبهم وساعدوه بأموالهم ورجالهم حتى افتتح جميع ما كان لقرطاجة من بلاد إسبانيا، ولم يبق لهم إلا مدينة قادس.
ثم حول أنظاره إلى إفريقية الشمالية، وبالأخص إلى بلاد نوميديا (هي بلاد الجزائر ومراكش الآن) التي كانت مجزأة بين دولتين متحدتين مع قرطاجة.
وكان ملك أحدهما يسمى مسنيسا والآخر سيفاكس وسعى في سلخهم عن قرطاجة وضمهم إليه ليكونا له عونا على القرطاجيين، وسافر فعلا إلى (سرتا) عاصمة مسنيسا المسماة الآن مدينة قسنطينة بجزائر الغرب، وأبرم تحالفا مع هذا الملك وتحالف كذلك مع سيفاكس، لكن لم يلبث سيفاكس أن انفصل بمساعي القائد القرطاجي ازدروبال بن جسكون الذي زوجه ابنته وساعده على محاربة مسنيسا وطرده من مملكة آبائه وأجداده .
لكن لم تقعد سيبيون كل هذه العوائق عن تنفيذ ما صمم عليه وعرضه على أمته، وهو أن يقصد نفس بلاد قرطاجة بجيش عظيم فيضطر أنيبال لمبارحة بلاد إيطاليا للدفاع عن وطنه الأصلي، وهو مشروع غاية في الأهمية والإصابة، إلا أنه صادف معارضات شديدة في رومة وبالأخص من القائد الكبير فابيوس الذي كان يميل دائما إلى التسويف وعدم الإسراع، وكان رأيه تضييق المذاهب والمسالك على أنيبال ومحاصرته في الجهة النازل بها حتى يضطر للتسليم.
وقد انصاع سناتو رومة لهذا الرأي ولم يوافق سيبيون الإفريقي على رأيه، فسافر سيبيون إلى سيراكوزة بجزيرة صقلية، وأرسل عدة خطابات إلى الولايات الرومانية والشعوب التابعة لرومة يفصل لهم مشروعه، ويوضح أفضليته على رأي فابيوس الذي لا يكون من ورائه إلا إطالة مدة الحرب، واضمحلال الأمة وفقرها باشتغالها عن الزراعة والتجارة وصرفها كل قواها في تعبئة الجيوش وتجهيزها وتعطيل ما دونها من الأشغال، فصادف نداؤه أذانا واعية وقلوبا متقدة وطنية وغيرة على استخلاص الوطن من احتلال الأجنبي؛ فأمدته الأمم التابعة لرومة بالمال والرجال والسفن، وتطوع كثير من شبان الرومانيين من جميع الطبقات لا فرق بين فقير وحقير في خدمة الوطن والدفاع عن حرمته، حتى جمع سيبيون في مدة وجيزة ثلاثين ألف جندي وسافر بهم قاصدا إفريقية تحملهم أربعمائة سفينة تجارية تخفرهم خمسون سفينة حربية، وأخذ من المؤونة ما يكفي جميع جيشه مدة خمسة وأربعين يوما وأقلع في غضون سنة 204ق.م قاصدا قرطاجة، وكان يوم سفره من ثغر ليليبيا
4
अज्ञात पृष्ठ