قال ابن بشر: إن الإمام سعودا أرسل النجدات إلى المدينة وأمر بتحصينها ثم عاد إلى نجد، ولا نعلم السبب في عودته في مثل تلك الحال وهو يعلم أن طوسون مرابط في ينبع ينتظر النجدات، وأن عرب الحجاز يتذبذبون بينه وبين أهل نجد وقد ينقلبون عليهم.
جاءت النجدات المصرية في السنة التالية، فأعاد طوسون الكرة على المدينة (1127ه/1812م)، بعد أن احتل ينبع النخل، وضم إلى جيشه كثيرين من عرب جهينة وحرب، وقد كان في المدينة سبعة آلاف من أهل نجد فحاصرها المصريون حصارا شديدا دام خمسة وسبعين يوما. صوبوا على القلعة المدافع، وحفروا إليها السراديب التي أشعلوا فيها تحت الأسوار البارود، ثم قطعوا عن المدينة المياه وجاءت الأمراض تساعدهم على المرابطين المحاصرين، بل قام الأهالي أيضا على النجديين فأمسوا بين نارين والوباء يساعد في حصادهم. مات منهم أربعة آلاف - قاله ابن بشر - قبل أن انفتحت أبواب المدينة للمصريين.
قد استبشر الشريف غالب بهذا النصر فباشر السعي جهرا في تحقيق المقاصد التي كان يبطنها، ثم بدت في هذه السنة قرون الفتنة فانتشرت الردة في مكة والطائف (1228ه / 1813م)، فدخلهما طوسون بمساعدة الشريف بدون قتال، ولكن النكبات التي توالت على النجديين لم تبق حتى على عدوهم الشريف. ولم ينج المصريون من أهوالها الطامية الجارفة. فقد مات منهم مئات بالوباء الذي كان حليفهم على أعدائهم، وقد قدرت خسارتهم كلها في الحملتين بثمانية آلاف من الرجال، ثم جاء محمد علي نفسه بنجدات جديدة. جاء يسرع بإنجاز العمل الذي باشره ابنه وخسر فيه هذه الخسارة الجسيمة، فوصل إلى جدة في (30 شعبان / 31 آب) من هذه السنة، فاستقبله فيها الشريف غالب مرحبا مكرما ثم رافقه إلى مكة.
وعندما استقر محمد علي هناك جازى الشريف في أن قبض عليه وعلى أولاده عملا بأمر شاهاني كما ادعى وأرسلهم أسرى إلى مصر، ثم حجز جميع ما كان في خزائن غالب من الذهب والفضة، وأخرج حرمه من قصر جياد، ونصب مكانه ابن أخيه الشريف يحيى بن سرور.
أما آل سعود فلم يكونوا أوفر حظا لدى القضاء من بيت عدوهم الشريف؛ فبعد أربعة أشهر من جلائهم؛ أي في 11، وقيل في 8 جمادى الأولى من السنة التاسعة والعشرين والمائتين والألف (2 أيار سنة 1814) مات في الدرعية الإمام سعود وهو في الثامنة والستين من عمره. مات لا بالحمى كما قال هوغارث نقلا عن أحد المستشرقين الذين كانوا يومئذ في مكة، بل بعلة في المثانة، وقيل: بعلة أخرى هي نكبة أهل نجد في الحجاز التي عجلت ولا شك في أجله. وقد كانت ولايته إحدى عشرة سنة إذا حسبناها من يوم وفاة والده عبد العزيز، وسبعا وعشرين سنة إذا عدت من يوم بويع بالإمارة في السنة الثانية والمائتين والألف.
هو يدعى بالكبير، وقد خص بتلك السجايا أو بأكثرها التي تؤهل رجل التاريخ لهذا اللقب. فقد كان في عظمته متواضعا، وفي حكمته ورعا، وفي عدله حليما، وفي سياسته جامعا بين المرونة والمضاء. أضف إلى ذلك ذكاء لم يكن عاديا، ولم يقف به عند حد السياسة؛ فقد كان مولعا بالعلم، محبا للعلماء وللطلاب، فلم يستنكف من عقد مجالس القراءة والتدريس في قصره وتحت مشارفته عندما يكون في العاصمة، بل كان هو يتولى التعليم في بعض الأحايين فيدهش حتى العلماء بما كان يحسنه من علمي التفسير والفقه، وبالرغم من تعدد مشاغله ومشاكل ملكه البعيد الأرجاء كان يزور مجالس التدريس العامة، فيطلع على أعمال الطلبة ويجزي منهم الأذكياء المجتهدين.
وقد كان سعود كبيرا في أخلاقه مثله في أعماله، لا ينكر الفضل على ذويه وإن كانوا من أعاديه، ولا يقف في إحسانه ومكارمه عند شبهات النفس وأهوائها؛ مثال ذلك معاملته للشريف غالب على ما كان يبطنه الشريف من الكيد والغل، فلو كان فاتح مكة غير سعود، لو كان محمد علي مثلا، لما أذن للشريف بالعود إليها بعد أن فر منها هاربا إلى جدة.
أما في غزواته وفتوحاته فلم يكن ليخرج عن القاعدة أن الحرب خدعة، وللعرب في ذلك أساليب تقترن فيها السذاجة بالدهاء. فقد كان سعود إذا أراد أن يغزو إلى جهة الشمال يظهر أنه يريد الجنوب أو الغرب والعكس بالعكس. وعندما نزل الرقيعة في غزوة الأحساء أمر رجاله أن يوقد كل واحد منهم نارا وأن يطلقوا كلهم البنادق عند طلوع الشمس ليرهبوا أهلها. فلما طلعت الشمس فعلوا ذلك دفعة واحدة فارتجت الأرض وأظلمت السماء وأسقط كثير من الحوامل في الأحساء. هذه الطريقة في الحرب طريقة الإرهاب والترويع مألوفة عند العرب خصوصا عند أهل نجد.
ولا حاجة لذكر البسالة في سعود الكبير والإقدام، وعلو الهمة والمرام. فإن في فتوحاته الشاهد الأكبر على ذلك. أما حكمه فقد كان له مزيتان كبيرتان رائعتان هما الأمن والعدل؛ الأمن: وكان أساسه العقاب الشديد السريع بموجب الأحكام الشرعية، والعدل: وكان أساسه الأمتن المساواة وعدم المحاباة. بيد أنه لم يكن على شيء من الإدارة، ولا كان النظام، ما عدا بعض قواعد أساسية تتعلق بالجيش معلوما. فلم يكن ليربط النواحي القصية بعضها ببعض غير كلمة الأمير، ولم يكن ليحفظها وثيقة العرى غير صولته، فإذا ذهبت الصولة ذهب الملك.
آل سعود: الدور الثاني - الفوضى
अज्ञात पृष्ठ