तारीख मिस्र मिन फथ उथमानी
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
शैलियों
ولما زحف السلطان سليم على بلاد الشاه إسماعيل وهزمه هزيمة منكرة أراد أن يكتسح جميع بلاده ويقضي على البقية من دولته، فوجد الشاه أتلف كل ما خلفه في مدنه وقلاعه من المئونة والذخائر، وانتظر سليم ورود غيرها من بلاده، فعلم أن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر قد أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه؛ فقلت الأقوات في معسكره واضطرب الجيش، فحرمه ذلك ثمرة انتصاره.
هذه كل المساعدة التي قامت بها مصر للشاه، مع أنها لو سيرت جيشا يقطع خط الرجعة على العثمانيين لكان التاريخ على غير ما هو عليه. فاضطر سليم إلى الرجوع إلى بلاده منتقما في طريقه من إمارة الغادرية؛ فقتل أميرها علاء الدين وضم بلاده إلى ملكه، وولى غيره من أبناء أسرته الغادرية، واحتج الغوري على ذلك، فقابل سليم احتجاجه بإرسال رأس علاء الدين إليه؛ وحينئذ علم الغوري أن الحرب واقعة لا محالة؛ فاستعد لملاقاته بتجهيز جيش عزم على أن يقوده بنفسه، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإن الشاه إسماعيل لم يعد في القوة التي كانت له قبل؛ فقد هلكت أبطاله، وتشتت شمل رجاله، وخربت بلاده، فأمن السلطان سليم غائلته وتفرغ لحرب مصر. ومع كل هذا كان من الممكن انتفاع الغوري بما بقي للشاه من القوة، ولكنه لم يفعل أو لم يقنع الشاه بضرورة ذلك.
أراد الغوري أن يستجمع كل ما عنده من قوة العدد والعدة، وكانت موارد الثروة قد نضبت بمصر لقطع البرتقال طريق التجارة الهندية عليها، فلم يكد يهم بجمع المماليك حتى تخاذلوا وتعللوا عليه بقلة النفقة المصروفة لهم وما هم فيه من العسر. وكان الفساد قد دب في أخلاقهم، وقلت وطنيتهم، وجرأهم على ذلك ميل الغوري إلى مماليكه الخاصة الذين جلبهم لنفسه واتخذهم عدة له يتقوى بهم على المماليك القدماء إذا هموا به، وبعد تساهل من الطرفين أمكن الغوري أثناء شتاء سنة (1515م/922ه) إعداد جيش يخرج به إلى حدود آسيا الصغرى، فجمع في هذا الجيش - على قلته - أكثر من في مصر من رجال القوة الحربية والأدبية؛ فخرج فيه الخليفة العباسي، وقضاة المذاهب الأربعة، ورؤساء مشايخ الطرق الصوفية، وكبار العلماء والأعيان، ورؤساء المغنين والموسيقيين والمضحكين وأرباب الصناعات وغيرهم، وترك بمصر حامية من المماليك تقدر بنحو ألفين، وأناب عنه الدوادار الكبير «طومان باي» ابن أخيه، وبلغه أن الأسطول العثماني يقصد الإسكندرية؛ فعزز حاميتها، وحصن قلاعها بنحو مائتي مدفع، وخرج من القاهرة بموكب عظيم تتقدمه الطبول والزمور وتدق أمامه الكئوس. خرج بهذا الجيش في شدة حمارة الصيف على غير عادة الملوك في خروجهم؛ فقاسى الجنود الأهوال والشدائد في اجتياز صحراء طور سيناء وأودية فلسطين، ودخل كل مدينة في الشام بموكب عظيم وخاصة مدينة دمشق وحلب وحماة.
السلطان الغوري في حاشيته - وهو الجالس على يمين الباب - (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الآثار العربية).
وخرج السلطان سليم من القسطنطينية بجيش عظيم مدرب على الحرب، ذكر بعضهم أنه يبلغ 150 ألف مقاتل مسلحين بكثير من المكاحل والمدافع والبندقيات، فلما صار على حدود الشام أراد أن يكيد للمصريين بمكيدتين، نجح في إحداهما وأخفق في الأخرى؛ ففي الأولى تمكن من أن يستميل إليه «خير بك» نائب حلب من قبل مصر و«جان بردي الغزالي» نائب حماة، ووعد الأول بولاية مصر والآخر بولاية الشام، ومع أن نائب الشام وغيره أخبروا السلطان الغوري بخيانة خير بك، لم يعبأ بكلامهم لما يرى من شدة تواضعه وإخلاصه.
وفي الثانية أراد أن يخدع الغوري بصرفه عن القتال وأخذه على غرة؛ فأرسل إليه أولا أثناء بروزه من القاهرة بتوسط الخائن نائب حلب رسالة يعتذر فيها عما فرط منه في شأن البلاد التابعة لمصر، ويعده بأن يعيدها إليه ويفتح طريق تجارة الرقيق والصوف والفراء، وبالجملة يفعل كل ما يطلبه الغوري؛ وكاد الغوري وأمراء عسكره يخدعون بذلك لولا مراعاتهم جانب الحيطة بالخروج إلى الشام. وأرسل إليه ثانية وهو بحلب رسلا عليهم أحد قواده وقاضي «عسكر الروم إيلي» يصرفون الغوري عن قصده، ويؤكدون إخلاص سلطانهم له وشدة رغبته في المهادنة والصلح، بشرط أن لا يتدخل الغوري بينه وبين الشاه إسماعيل الذي لم يقصد سليم بخروجه غيره، والذي أفتى علماء القسطنطينية بجواز حربه وقتله لرفضه وخروجه عن شعائر أهل الملة. فأكرمهم الغوري وسيرهم معززين إلى معسكر سليم، وأرسل إليه رسله صحبة أمير كبير من المصريين يعرض عليه توسطه في الصلح بينه وبين الشاه؛ فغضب سليم وهم بقتل الرسول، فشفع فيه فأطلقه مهانا مشعثا، وقال له قل لأستاذك: إن إسماعيل الصفوي خارجي وأنت مثله، وسأبدأ بك قبله، وموعدنا «مرج دابق» - على بعد يوم شمالي حلب - فخرج الغوري في نحو ثلاثين ألف مقاتل، وخلف أمواله وذخائره في قلعة حلب الحصينة في حامية لها. فلما كان صبيحة يوم الأحد 25 رجب سنة 922ه - وهو اليوم الذي سقطت فيه الدولة المصرية من عالم الدول المستقلة العظيمة - دهمه العثمانيون بجيش يربو على الجيش المصري بأضعاف، فعبأ الغوري كتائبه. وكان من غلطاته الكبرى في خرجته هذه أنه آثر مماليكه الخواص - الذين اشتراهم بماله - بكل كرامة ورعاية وإنعام، وقصر في استجلاب مودة المماليك القدماء من عتقى السلاطين والأمراء، حتى شاع بينهم أن السلطان يريد أن يجعلهم أمام مماليكه الخواص ليكونوا دريئة لهم من مدافع العثمانيين التي تفوق مدافع المصريين عظما وسرعة قذف وبعد مرمى؛ ففسدت نيات بعضهم، وانضم ذلك إلى خيانة «خير بك» و«جان بردي الغزالي».
فلما التقى الجمعان حملت الميمنة والقلب حملة أزالوا بها العثمانيين من مواقفهم، وقتلوا منهم بضعة آلاف، واستولوا على كثير من أعلامهم ومدافعهم، وكادت الغلبة تكون للمصريين، وهم السلطان سليم بالهرب، لولا أن خير بك انهزم بكتيبته - وكان على الميسرة - وتبعه جان بردي الغزالي؛ فاختل نظام الجيش المصري، واتفق أن وصل للعثمانيين في ذلك الوقت مدد من المدفعية، وظهر كمين لهم أحاط بالجيش المصري، ورأى المماليك القدماء من المصريين أن المماليك الخواص لا يقاتلون؛ ففترت هممهم ووهنت عزائمهم وتخاذلوا ولم يصبروا على نيران المدافع العثمانية، فركنوا إلى الفرار، وبقي السلطان الغوري في جماعة قليلة يناديهم ليعودوا فلم يلتفتوا إليه، ففلج لساعته، وسقط عن جواده. ولما شاع موته في العسكر تفرقوا واستولى العثمانيون على معسكرهم وغنموا منه ما لا يحصى، ولم يوقف للغوري على أثر، واستمرت الواقعة من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر. ولما رجع المنهزمون إلى حلب انقلب عليهم أهلها واستولوا على ودائعهم عندهم وفتكوا بهم، فلاقوا منهم شرا مما لاقوا من العثمانيين. وانتظر أهل حلب قدوم السلطان سليم فسلموه المدينة، واستولى على قلعتها بدون قتال، وغنم منها ألوف الألوف من الأموال والذخائر، وخطب باسمه في مسجدها، وانضم إليه خير بك وغيره من المماليك الخونة، وحلقوا لحاهم أو قصروها، وتزيوا بزي العثمانيين، ثم ذهب السلطان سليم إلى دمشق فاستولى عليها، ودانت له جميع مدن الشام بلا منازع، ومكث بها مدة ثلاثة أشهر يرتب نظامها، ويحكم أمورها.
أما بقية المنهزمين من المصريين فرجعوا إلى مصر في حالة يرثى لها، ورجع معهم جان بردي الغزالي، وكأنه قصد برجوعه إلى مصر أن يفت في عضد المصريين، ويكون عونا وجاسوسا للعثمانيين، وكانت أفعاله كلها في مصر ترمي إلى ذلك؛ لأنه خرج عقب دخوله مصر بحملة إلى الشام لينقذ غزة من العثمانيين، ففرق عساكره في البلاد، ولم يلاق العثمانيين إلا بفئة قليلة لم تلبث أن انهزمت، وكانت هزيمتهم سببا في فشل طومان باي - الذي خلفه الغوري سلطانا على مصر - في تأليف جيش عظيم آخر يدافع عن القاهرة؛ فقد كابد في جمعه مشقات عظيمة، وتخاذل المماليك واشترطوا عليه شروطا أشد مما اشترطوا على الغوري، وبقوا في خلاف: هل يحاربون العثمانيين على حدود جزيرة الطور وهم منهوكو القوى من قطع الصحراء أو في شمالي القاهرة، حتى دهمتهم جيوش العثمانيين وصارت على مقربة من القاهرة؛ فخرج طومان باي في جيش مختلط من جميع أجناس المحاربين، وأسرع في حفر الخنادق ونصب المدافع في ظاهر الريدانية - صحراء العباسية وعين شمس إلى بركة الحج - وكان يظن أن الجيش العثماني يقابله وجها لوجه فيها، فكان غير ما ظن؛ إذ لم يكد الجيشان يتلاقيان يوم 29 ذي الحجة سنة 922ه حتى افترق الجيش العثماني لكثرته إلى ثلاث فرق: فرقة كانت وجهتها المصريين بالريدانية، وفرقة سارت تحت الجبل الأحمر والمقطم وأحاطت بهم من اليمين إلى الخلف، وفرقة سارت إلى جهة بولاق وأحاطت بهم من الشمال.
وصبر المماليك ساعة قتل فيها عدد عظيم من العثمانيين وقوادهم، منهم سنان باشا أكبر القواد والوزراء للسلطان سليم، ولم يدم ذلك إلا ريثما تمت حركة الالتفاف، وعندها وجهت المدافع والبنادق على المصريين من كل صوب، ولم يكن لهم نظيرها، فلم يسعهم إلا الفرار، وصبر طومان وجماعة صبر الأبطال، ولكنهم اضطروا أخيرا إلى الفرار إلى الجيزة، وسار العثمانيون إلى القاهرة فدخلوها فرقا ونزل السلطان سليم بمعسكره الخاص على ساحل بولاق والجزيرة الوسطى
2
अज्ञात पृष्ठ