ومنهم من أسلم، وأكثر من أسلم كانوا من طائفة يقال لها «البوغوميل» وكانت مسيحية لكنها لم تكن بعيدة عن العقيدة المسيحية، وكان من هذه النحلة أقوام في بلاد البلغار، ونظرا لتعصب المجر للكنيسة الكاثوليكية طالما اضطهدوا هؤلاء البوغوميل، وأرادوا إكراههم على قبول الكثلكة، وكانت الباباوات لا تزال تلح على ملوك المجر باستئصال هذه الطائفة، فكان هؤلاء يعانون ألوان العذاب، فلما دخل الأتراك إلى بلاد البلقان التي يقولون لها «الرومللي» بدأ هؤلاء البوغوميل يدخلون في الإسلام، وهذا قبل أن يفتح السلطان محمد الفاتح مملكة بوسنة، ولكن عندما دخل السلطان بجيوشه أسلم سائر البوغوميل اختيارا من تلقاء أنفسهم، فمؤرخو الإفرنج يزعمون أنه لما دخل السلطان إلى بوسنة خير الناس بين الإسلام والنصرانية، وأن الذي أسلم بقيت له أملاكه ومن لم يقبل الإسلام جرده الأتراك من ثروته، وكل هذا من أكاذيب المؤرخين الأوروبيين، والحقيقة هي ما ذكرناه، ولو كان السلطان محمد الفاتح عامل البوشناق هذه المعاملة لكان أولى به أن يعامل النصارى بها في سائر البلاد، والحال كما هو معلوم ومشهور أن السلاطين العثمانيين لم يتعرضوا لأحد في دينه، فالبوشناق المسلمون لم يكن أصلهم نصارى بالمعنى المعروف، بل كانوا من هذه الطائفة التي وصفنا شيئا من عقيدتها والتي كانت أرقى من جميع سكان تلك البلاد.
ولنا رحلة إلى بلاد «بوسنة وهرسك» جمعنا فيها كل المعلومات اللازمة عن أصل «البوشناق» وعن أصل «البوغوميل» ومرادنا نشرها في أول فرصة، وقد رأينا بأعيننا قبور «البوغوميل» القديمة وليس عليها شيء من الصلبان، ولا من علامات النصرانية، وبديهي أنه لما كان البوغوميل هم في الأصل ذوي الوجاهة في بلاد بوسنة وهرسك، صاروا هم ذوي الوجاهة في الإسلام أيضا، وكان استيلاء الأتراك على بوسنة سنة 1463، وفي تلك المدة استولى السلطان محمد على بلاد «طرابزون» التي كان يليها ملوك من الأروام من عائلة «كومين» ثم زحف السلطان لفتح بلاد الفلاخ، فقاومه أميرها «فلاد» مدة من الزمن، لكنه انهزم والتجأ إلى بلاد المجر، فجعل السلطان أخاه «رادول» أميرا على الفلاخ، فأما الأرناءوط فكانوا لا يزالون عصاة، وكان إسكندر بك لا يزال مظفرا في حروبه مع الأتراك فزحف السلطان بنفسه إلى بلاد الأرناءوط، واستولى على بعض المدن مثل «برات» وغيرها ثم رجع وترك القيادة «لبلبان باشا» فلم يوفق، وبقيت ألبانيا متمردة إلى أن مات إسكندر بك.
واشتعلت الحرب بين السلطان وبين جمهورية البندقية، فأرسل السلطان أسطولا مؤلفا من ثلاث مئة سفينة حربية عليها سبعون ألف مقاتل تحت قيادة محمود باشا فاستولى هذا الأسطول على جزيرة نيفروبون وأخذها عنوة، وأستأصل حاميتها، فتحالف البنادقة ومملكة نابولي والبابا مع لوزون حسن من أمراء ا لتركمان في شرقي الأناضول، وذلك لمحاربة السلطان، فزحف السلطان لصد أوزون حسن بمئة ألف مقاتل وقهره في واقعة «أو قلق بيلي» وفي ذلك الوقت استولى على بر القرامان في جنوب الأناضول بعد مقاتلات شديدة، وكان السلطان اعتزم فتح بلاد البغدان «من رومانية الحاضرة» فساق مئة ألف مقاتل لفتحها وكان أميرها «إيتيان الرابع» صلبا شديدا فقاوم أشد مقاومة وأوقع بالأسرى، فحنق السلطان وزحف من جهة الجنوب وأوعز إلى تتر القرم بالزحف من الشرق، وكان في القرم عائلة مالكة من التتر تنتسب إلى «جنكيز خان» وكانت هذه المملكة تشتمل على شبه جزيرة القرم وبلاد قوبان وبلاد الشركي، ولها جانب من بلاد البغدان وبسرابيا، وكان فيها عدة إمارات تخضع للخان الكبير مثل آل «شيرين» و«آل منصور» و«آل سجد» و«آل إرغين» و«آل بارون» وكل هذه العائلات كانت سلائل أعوان «جنكيز خان» وكان الجنويون قد استولوا على جانب من القرم وأقعوا الشقاق بين أمراء التتر، فجاء السلطان محمد الفاتح وطرد الجنوبية من هناك بأسطول مؤلف من ثلاث مئة شراع، واستولى هو على بلاد القرم، ووضع على كرسي تلك المملكة «منفلي غراني» وصار من الملوك التابعين للسلطنة العثمانية واستولى الأسطول العثماني على مصاب نهر الطونة، وزحف بمئة ألف مقاتل لقتال «إيتيان الرابع» فكانت الحرب سجالا، وكانت أساطيل البندقية تجتاح سواحل الأناضول، واشتعلت الحرب بين البنادقة والسلطان في ألبانيا، وبعد حصار شديد استولى السلطان على «أشقودره» سنة 1479 ثم تصالحت جمهورية البندقية مع السلطان فتفرغ لقتال المجر وزحف أربعون ألف مقاتل من الأتراك إلى ترنسيلفانيا، ثم إن الخلف وقع بين القواد فظفر بهم «إيتيان باتوري» أمير ترانسيلفانيا والجنرال مايتاس كورفين، وهزموا الجيش الإسلامي وارتكبوا من فظائع التعذيب للأسرى ما روته التاريخ، ولكن السلطان لم يتوقف في فتوحاته بل صمم على فتح «إيطاليا» أيضا وأرسل أسطولا ففتح عنوة مدينة «أوترانت» في 14 أغسطس 1480 فوقع الرعب في جميع إيطاليا، وكان مسيح باشا يغزو «رودس» لطرد فرسان مار يوحنا أورشليم، وهم الذين كان يسميهم العرب بالاسبتارية ولهم ذكر شهير في الحروب الصليبية، ولما طردهم المسلمون من فلسطين جعلوا رودس مركزا لهم، وكانت قاعدة سياستهم محاربة المسلمين، فجاء مسيح باشا بمئة وستين شراعا وحصر رودس، وأنزل العساكر إلى البر، وبقي الحصار مدة شهرين فدافع الاسبتارية دفاعا شديدا واضطروا مسيح باشا إلى رفع الحصار، وبعد ذلك بقليل مات السلطان الفاتح في 2 مايو 1481. وخلاصة أعمال السلطان محمد الفاتح هو أنه فتح القسطنطينية، وكان ذلك فتحا مبينا انتهت به القرون الوسطى فصيرها عاصمة للإسلام وفتح أيضا ملحقاتها وفتح مملكتي الصرب وبوسنة وبلاد الأرناءوط وجمع جميع آسيا الصغرى في ملكه.
ولم يكن السلطان الفاتح من أعظم الفاتحين في الحروب فقط، بل امتاز بحسن الإدارة، وتنظيم الملك وهو الذي حرر النظام المسمى «بقانون نامه» وفيه جميع أنظمة السلطنة من عملية، وإدارية، وسياسية، وعسكرية، وسارت الدولة العثمانية بموجب هذه الأنظمة مدة طويلة، ولا سيما التراتيب المتعلقة للقضاة والعلماء والمدرسين، فإنه اعتنى بها الفاتح أشد الاعتناء، وكان الفاتح نفسه على جانب عظيم من العلم وحسن الثقافة يتكلم بلغات متعددة، وكان بدون شك من أعاظم رجال الدهر ومن حسنات الإسلام الكبرى، وجميع هؤلاء السلاطين من عثمان إلى الفاتح لم يوجد منهم إلا بطل مجاهد وسلطان عظيم الشأن، وقلما تصادف ذلك في دولة أخرى بهذا النسق خلفا عن سلف.
وفي زمان السلطان محمد الفاتح نبغ من العلماء:
المولى خسرو قاضي العسكر المنصور أخذ العلم عن المولى حيدر الهريو وصار مدرسا بمدينة أدرنة، ولما فتح السلطان القسطنطينية جعله قاضيا فيها مع التدريس في آيا صوفيا، وكان إذا دخل جامع آيا صوفيا يقوم له من الجامع كلهم، ويصلي عند المحراب، وكان السلطان ينظر إليه من مكانه ويقول لوزرائه: انظروا هذا أبو حنيفة رفاقه. وكان كثير الاشتغال بالمطالعة، وله تآليف متعددة ومساجد متعددة بناها في القسطنطينية ومات فيها ونقل جثمانه إلى بروسة.
ومنهم خير الدين خليل بن القاسم بن الحاج صفا.
ومنهم المولى محمد الشهير ب«زيرك وكان مدرسا بمدرسة السلطان مراد في بروسة ووقعت له مناظر من خواجه زاده، فوقع في نفس المولىزيرك شيء فترك القسطنطينية وذهب إلى بروسة، فعاد السلطان يحاول تطييب خاطره وعرض عليه مناصب عالية فرفضها.
ومنهم مصلح الدين مصطفى بن يوسف بن صالح البورسوي المشتهر بين الناس بخواجه زاده، والمذكور كان أبوه من التجار فمال إلى تحصيل العلم برغم إرادة أبيه، ولم يكن أبوه مع ثروته يعطيه شيئا فعاش معيشة الفقراء، وتولى القضاء في زمان السلطان مراد، ولما انتهت السلطنة إلى الفاتح - وكان محبا للعلم والعلماء - صار هؤلاء يشدون الرحال إليه وكان خواجه زاده ممن قصده السلطان، فلقيه وهو ذاهب من القطسنطينية إلى أدرنة، فلما رآه محمود باشا الوزير الأكبر قال له: أصبت في مجيئك لأني ذكرتك عند السلطان فاذهب إليه وعنده البحث. فذهب إلى السلطان فسأل عنه فقال محمود باشا للسلطان: هو خواجه زاده. فكان من جانب السلطان المولى زيرك وفي الجانب الآخر المولى سيدي علي، فجلس خواجه زاده إلى جانب سيدي على واعترض على المولى زيرك وأفحمه، حتى قال له السلطان: كلامك ليس بشيء. ثم ذهب المولى زيرك وبقي خواجه زاده عند السلطان، ثم جعله السلطان معلما لنفسه، وقرأ عليه السلطان متن عز الدين الزنجاتي في التصريف، وصار مقربا من السلطان إلى النهاية حتى حسده محمود باشا الوزير، وقال للسلطان: إن خواجه زاده بريد منصب قضاء العسكر. فقال السلطان: لأي شيء يريد أن يترك صحبتي؟ فقال الوزير: هكذا يريد. ثم قال الوزير لخواجه زاده: أمرك السلطان أن تصير قاضي العسكر. فقال: أنا لا أريد ذلك. قال الوزير: هكذا جرى الأمر. فامتثل خواجه زاده أمر الوزير وصار قاضيا للعسكر، وكان والد خواجه زاده لا يزال في الحياة وكذلك إخوته، فجاءوا يزورونه وهو في منصبه العالي ورأوا ذلك الاقبال العظيم، فقال خواجه زاده لوالده: لو كنت أعطيتني مالا لما صرت إلى هذا الجاه الذي تراه الآن. يشير بذلك إلى أنه في صغره لما عول خواجه زاده على طلب العلم وخالف ملك أبيه في التجارة أمسك أبوه عن الإنفاق عليه، فصار يكد ويجتهد حتى بلغ تلك الدرجة العالية، وكان الشيخ ولي شمس الدين البخاري رأى خواجه زاده وهو يطلب العلم في صباه وثيابه رثة، ورأى إخوته متجملين بالثياب النفيسة فسأل أباهم: لماذا أولادك هؤلاء كلهم عليهم علامات اليسار وولدك هذا وحده بحالة الفقر؟ فقال له: هذا لأني أسقطته من نظري حين ترك طريقتي. فقال الولي شمس الدين: إن هذا الولد سيكون له شأن عظيم ويقوم إخوته أمامه بمقام الخدم. وقد تحقق كلام الولي هذا لأن خواجه زاده عندما صار قاضي العسكر صنع ضيافة عظيمة لأبيه وحشد إليها الأكابر والأعيان والعلماء، فجلسوا على مآدبهم ونظرا للازدحام لم يوجد مكان في السفرة لإخوة خواجة زادة فلبثوا واقفين كالخدم، وتذكر خواجه زاده قول الولي شمس الدين. وصنف خواجه زاده كتاب التهافت بأمر السلطان وقال المولى الفناري: المصيبة كل المصيبة أن الخواجة زاده قبل القضاء إذ لو داوم على الاشتغال بالتأليف لظهرت له آثار تتحير فيها الألباب.
ثم إن السلطان جعل محمد باشا القرماني وزيرا، وكان متعصبا على المولى خواجه زاده لميل الوزير إلى المولى على الطوسي، فقال للسلطان الفاتح: إن خواجه زاده يشكو هواء القسطنطينية ويمدح هواء إزنبق. فقال السلطان: أعطيته قضاء أزنيق مع المدرسة التي فيها، فمضى خواجه زاده إلى إزنيق، ثم ترك القضاء واشتغل بالتدريس فقط ثم رجع إلى القسطنطينية بعد وفاة الفاتح، ولما جلس السلطان بايزيد بن السلطان الفاتح على سرير السلطنة أعطاه المدرسة السلطانية في بروسة، مع منصب الفتوى فيها، وكان لا يكتب الفتوى إلا بعد النظر في الفتاوى، وإذا تكررت عليه مسألة واحدة لا يهمل أن يعيد النظر في الفتاوى قائلا: لو سامحت نفسي في هذه لربما تسامحت في غيرها. وكان إذا لم يجد المسألة في الفتاوى سلك مسلك الرأي، وكان يقول: إني قد أرجح وجها من الوجوه ثم إذا طالعت في الكتب وجدت هذا الوجه قد ذهب إليه بعض الأئمة قبلي. وكان يقول : ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد الشريف بنية الاستفادة. وكان خواجه زاده يقول: إني صابح إقدام وحجام فقيل له: ما تريد بذلك؟ فقال: إذا كملت مطالعتي لا أخاف أحدا كائنا من كان، وإذا لم تكمل خاف كل أحد. ونقل عنه أنه قال: إن العلوم على ثلاثة أقسام: قسم منها ما يمكن تقريره وتحريره، وهو المكتوب في المصنفات. ومنها ما لا يمكن تقريره ولا يجوز تحريره، وهو الجاري في المباحثات. ومنها ما لا يمكن تقريره ولا تحريره، وهوما لا يمكن التعبير عنه لدقته إلا إذا حصل لأحد تلك الحالة الذوقية فيتكلم بالإيماء والإشارة. وأمر السلطان بايزيد خواجه زاده أن يكتب حاشية على شرح المواقف فامتثل أمره، وكان قد وقع شلل في يده اليمنى فكان يكتب الحاشية باليد اليسرى. وتوفي خواجه زاده سنة ثلاث وتسعين وثمان مئة. وكان له ولد اسمه الشيخ محمد من العلماء الكبار مال في آخر الأمر إلى التصوف.
अज्ञात पृष्ठ