ولا يزال في أوروبا عدد كبير من العلماء يردون بشدة نظرية داروين، وليسوا هم فقط من أنصار الأديان، بل يوجد من العلماء الطبيعيين من يقيم الأدلة على فساد هذا المزعم.
ومنهم من ذهب مذهبا متوسطا، فوافق على بعض قضايا المذهب الدارويني، ورد بعضها بحجة فقد الأدلة الكافية. وعندي كتاب عنوانه «المذهب الدارويني وما فيه من صواب وخطأ» وممن اشتهر في الرد على مذهب داروين الإنجليزي، ولامارك الفرنسي في النشوء والارتقاء، الأستاذ «فيالتون
Vialleton » المدرس في جامعة مونبلييه، والأستاذ موريس توماس البلجيكي، وغيرهما ممن يقولون إن مذهب لامارك وداروين مناقضان للعلم، وقال فيالتون: إن داروين قد ذهب في نظريته مذهبا جاهلا ماهية القواعد التي تتنزل عليها الجزئيات، وانخدع بعلاقات الأنواع بعضها مع بعض، كما أن خلفاءه في المذهب قد نظروا إلى المناسبات الصورية التي بين الأنواع نظرا سطحيا، وقرروا النشوء والارتقاء بدون تأمل كاف في كيفية قيام هذه الأنواع بوظائفها.
فلأجل الربط بين الحشرات وذوات الأثداء من الحيوانات اعتمدوا على النطاق الصدري الذي يعهد في ذوات الأثداء المتصلة بالطيور، لكن إذا أنعم الإنسان النظر لا يجد هذه الرابطة في محلها، لأن هذا النطاق ليس في الحقيقة جزءا من هيكل الصدر، بل هو خارج عنه، وليس له اتصال بالقلب، ولا بالأعصاب كما هو عند الحشرات، فالمشابهة ليست أكثر من مشابهة سطحية. والحال أن طبيعة الحيوانات ذات الأثداء لا تمتاز فقط بالنطاق الصدري، ولكن بمميزات أخرى ظاهرة في جميع تكوينها، وفى أنسجتها العضوية، وفى الجلد والشعر والعظام، وكل ما يعهد في ذوات الأثداء. والخطأ نفسه وقع في تقدير خصائص الأعضاء؛ فداروين يرى أن أي عضو يقدر أن يقوم بأي وظيفة، وهذا إهمال لحقيقة الوظائف الأسآسيا، فإن الأعضاء تؤلف مع الأنطقة آلات محركة لها في كل نوع وظائف محدودة لا يمكن أن عملها يتعدى من وظيفة إلى وظيفة، إذ ليس من وسيط بين الجهازين، ففي طبقة الحيوانات ذوات الأربع إذا وجد نوع طيار مثلا أن الكتف التي كانت في البطن تحت مركز الثقل تصعد إلى الظهر لأجل أن تحفظ موازنة الحيوان عندما يطير، ولولا ذلك لا يتمكن من الطيران، فهذا المركز الذي تأخذه الكتف من جديد لا يمكن أن يحصل بالتدريج، ولا مناص من أن يكون وضع أنفا بدون تدرج. كذلك ذوات الأثداء السابحة التي يسير بها الذنب المتحرك من الأعلى إلى الأسفل؛ فيجب أن يكون لهذا الذنب قوة وقطر عظيمان، بحيث أن الشق الأسفل يندفع إلى الأمام فيكون أفقيا بدلا من أن يكون عموديا كما هو في سائر ذوات الأثداء.
ويقول فيالتون: إن القول بأن الجراثيم تعيد في أثناء نموها الصور المتتابعة التي سبقت نوعها هو مرسل جزافا، وهو أشبه بالمجاز منه بالحقيقة، ففي الجراثيم شيئان؛ البدايات البسيطة التي هي عامة لجميع النوع، ثم الأجهزة والصور التي تتلو هذه البدايات، فالبدايات لا يمكن أن يتكون منها نوع خاص، لأنها حويصلات بسيطة جدا أشبه ببراعم تختلف كثيرا عما سيأتي منها، بل هي بدايات ساذجة عامة لا ينتج منها أقسام خاصة إلا بعد النمو. فالحويصلة لا يمكن أن تشبه حيوانا تاما مهما كان دنيء الطبقة، ولكن تشبه حويصلته. والحويصلة البشرية ذات الخلايا لا يمكن أن تشبه سمكة في جهازها التنفسي، ولكن قد تشبه حويصلة السمكة قبل أن يكتمل فيها هذا الجهاز، وأورد أدلة كثيرة ليس هنا موضعها.
وكان الكيماوي الفرنساوي برتلو - وهو من أشهر علماء الطبيعة - ينعت مذهب داروين بقوله: «قصة داروين الخيالية» و«قصيدة لامارك الفكرية» مع أن برتلو كان يحفل بهذا المذهب. فمن شاء التوسع في هذا الموضوع فليقرأ كتاب فيالتون المسمى ب«أصل الكائنات الحية وخيال النشوء والارتقاء» “L’origine des etres vivanis, L’illusion transformisle par vialleton” .
وقد طرق السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني هذا الموضوع، ورد على النظرية داروين، ونحن واضعون كلامه تحت أنظار القراء.
وقد اعترض بعضهم على خوض السيد جمال الدين في حديث كهذا يلزم له تخصص في العلوم الطبيعية، وليس هذا الاعتراض بشيء، لأن التخصص شرط في المباحث التفصيلية، فأما في المبادئ العامة فالذي يلزم إنما هو الفلسفة، ومن كان أطول فيها باعا وأوسع نظرا كان أحق بأن يتكلم بها؛ فالسيد جمال الدين إذن يقدر أن يقول هنا، وهو يقول ما يأتي في رسالته المعروفة ب«الرد على الدهريين»: «وذهب فريق إلى أن الأجرام السماوية والكرة الأرضية كانت على هيئتها هذه من أزال الآزال ولا تزال، ولا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات. وزعموا أن في كل بذرة نباتا مندمجا فيها، وفى كل نبات بذرة كامنة، ثم في هذه البذرة الكامنة نبات وفيه بذرة إلى غير نهاية. وعلى هذا زعموا أن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانا تام التركيب، وفى كل حيوان كامن في الجرثومة جرثومة أخرى، يذهب كذلك إلى غير نهاية. وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزمه من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه وهو من المحاولات الأولية.
وزعم فريق ثالث أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية وهيئاتها قديمة بالشخص، ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية والبذور النباتية بقديم، وإنما كل جرثومة وبذرة هي بمنزلة قالب يتكون فيها ما يشاكله من جرثومة وبذرة أخرى. وفاتهم ملاحظة أن كثيرا من الحيوانات الناقصة الخلقة قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة، وكذلك الحيوان التام الخلقة، قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها.
ومال جماعة منهم إلى الإبهام في البيان فقالوا: إن أنواع النباتات والحيوانات تقلبت في أطوار، وتبدلت عليها صور مختلفة بمرور الزمان وكرور الدهور، حتى وصلت إلى هيئاتها وصورها المشهودة. وأول النازعين إلى هذا الرأي «أيبقور» أحد أتباع «ديوجيتس الكلبي» ومن مزاعمه أن الإنسان في بعض أطواره كان مثل الخنزير مستور البشرة بالشعر الكثيف، ثم لم يزل ينتقل من طور إلى طور حتى وصل بالتدريج إلى ما نراه من الصورة الحسنة، والخلق القويم، ولم يقد دليلا ولم يستند على برهان فيما زعمه من أن مرور الزمان علة لتبدل الصور وترقي الأنواع.
अज्ञात पृष्ठ