كلمة المؤلف
كلمة أخرى في تأليف هذا الكتاب
أسباب الحرب البلقانية
معاهدة برلين وعلاقتها بالحرب البلقانية
تحالف دول البلقان وكيف كان
مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
إعلان الحرب
حصار أدرنه وسقوطها
معارك الجيش الصربي والجيش العثماني الغربي
زحف الجيش اليوناني ومعاركه
حصار يانيه وسقوطها
معارك العثمانيين والجبليين
المعارك البحرية
باب الفظائع
الصحافيون بين النار والحديد
تأثير الفشل العثماني في العالم الإسلامي
أسباب الفشل العثماني
مرسح السياسة
منازع الدول العظمى ومؤتمر السفراء
نتائج الحرب من الوجهة السياسية
المذكرات الحربية لمحمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث
حديث مع الأمير عزيز باشا حسن أحد القواد العثمانيين
الحرب الثانية بين البلقانيين أنفسهم
زحف الجيش الروماني إلى بلغاريا
استرجاع أدرنه ومعظم تراقيه
معاهدة الأستانة
قيمة البلدان التي خسرتها الدولة العلية
أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة
ملحوظات
كلمة المؤلف
كلمة أخرى في تأليف هذا الكتاب
أسباب الحرب البلقانية
معاهدة برلين وعلاقتها بالحرب البلقانية
تحالف دول البلقان وكيف كان
مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
إعلان الحرب
حصار أدرنه وسقوطها
معارك الجيش الصربي والجيش العثماني الغربي
زحف الجيش اليوناني ومعاركه
حصار يانيه وسقوطها
معارك العثمانيين والجبليين
المعارك البحرية
باب الفظائع
الصحافيون بين النار والحديد
تأثير الفشل العثماني في العالم الإسلامي
أسباب الفشل العثماني
مرسح السياسة
منازع الدول العظمى ومؤتمر السفراء
نتائج الحرب من الوجهة السياسية
المذكرات الحربية لمحمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث
حديث مع الأمير عزيز باشا حسن أحد القواد العثمانيين
الحرب الثانية بين البلقانيين أنفسهم
زحف الجيش الروماني إلى بلغاريا
استرجاع أدرنه ومعظم تراقيه
معاهدة الأستانة
قيمة البلدان التي خسرتها الدولة العلية
أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة
ملحوظات
تاريخ حرب البلقان الأولى
تاريخ حرب البلقان الأولى
بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني المؤلف من البلغار والصرب واليونان والجبل
الأسود
تأليف
يوسف البستاني
جلالة السلطان محمد الخامس.
الأمير يوسف عز الدين أفندي ولي عهد السلطنة العثمانية.
كامل باشا الذي خلف مختار باشا بعد كارثة قرق كليسا.
مختار باشا الغازي الذي كان صدرا أعظم يوم إعلان الحرب.
بطرس ملك الصرب.
محمود شوكت باشا الاتحادي الذي خلف كامل باشا بعد حادثة الأستانة.
أنور بك الذي قلب وزارة كامل باشا.
عبد الله باشا قائد الجيش العثماني في تراقيه.
ناظم باشا الذي كان وزيرا للحربية وقتل يوم إسقاط وزارة كامل باشا.
فردينان ملك البلغار.
ملك الجبل الأسود.
إسماعيل كمال بك رئيس الحكومة الألبانية المؤقتة.
الكونت برشتول وزير خارجية النمسا الذي أصر على طلب استقلال ألبانيا فوافقته الدول.
وهيب بك الذي تولى قيادة حامية يانيا.
أسعد باشا قائد حامية أشقودره الذي نودي به ملكا في بعض مدن ألبانيا.
أحمد رضا بك.
طلعت بك.
حسين جاهد بك.
جاويد بك.
وجميعهم من كبار الاتحاديين.
محمود مختار باشا الذي اشتهر بقيادة الفيلق الثالث وجرح في جتالجه.
كلمة المؤلف
إن كان هذا الكتاب لا يعد تاريخا بالمعنى الجامع لكل أشراط التاريخ، فهو - على الأقل - معرض حوادث صحيحة غيرت وجه الشرق، وراعت قلب الغرب، حاولت - ولا أدري هل أنا مفلح - أن أوقف المطالع على أسبابها وتفاصيلها ونتائجها على نمط يتمثل به الأحوال التي دارت بتلك الحوادث العظمى، فيتأثر بمؤثراتها، ويدهش بمدهشاتها، ويعتبر بعبرها وتقلباتها، وكأني بالقارئ عند مطالعة هذا الكتاب يسمع من خلال سطوره قصفات المدافع وصفير الرصاص وأنين الجرحى وعويل الألوف من الشيوخ والنسوة والأطفال الأبرياء الذين جنت عليهم همجية البشر في هذا القرن العشرين الملقب بقرن النور والمدنية، ثم يرى ما أتته تلك الدول العظمى - التي يجب أن تكون قدوة جميلة للدنيا - من التقلب والتلون والمخاتلة والمخادعة ونكث العهد، ونبذ الوعد.
أما إخواني العثمانيون فلا أشك أنهم يفرغون من مطالعة هذا الكتاب ونفوسهم ثائرة ودماؤهم فائرة بما يقفون عليه من تفصيل المصائب التي نابت دولتنا العلية في الحرب الأولى، ثم يرون بعض العزاء في ابتسام الحظ للسياسة العثمانية إبان الحرب الثانية، ونجاح الوزارة السعيدية في استرجاع شطر مما خسرناه في الحرب الأولى.
على أن ذاك النجاح الذي أعاد نور «الهلال» إلى أدرنه ومعظم تراقيه، لا يلأم كل الصدع ولا يمحو جل الأسف على شطر كبير من تركيا الأوروبية ، تلك البلاد التي كان ثمنها عظيما من الدماء والدموع والمهج الغالية، ولا مندوحة معه للعثماني عن البحث في أسباب تلك المصائب ليعتبر بها. فما هي تلك الأسباب؟ هل ذهب الدهر بمزايا الجندي العثماني الذي وصل أجداده إلى أبواب فينا وكتبوا تاريخ مجدهم بالسيوف قبل الأقلام ولفوا من كبد السماء هلالا، ونشروه علما يتلألأ؟ كلا، فإن الذين حدثتهم من كبار الضباط وموظفي الهلال الأحمر الذين شهدوا بعيونهم ذاك الجندي، وجميع المراسلين الحربيين الذين شاطروه البرد القارس والشقاء المضني يقولون إن الجندي العثماني المنظم هو هو، يموت بردا في مركز الحراسة، وتنطوي أحشاؤه على الطوى فلا يشكو ولا يثور، ولو حصل كل يوم على قطعة من الخبز الجاف ما وهنت بجسمانه قدم ولا نكص أمام عدو. فما هو السبب إذن؟ قف بنا نوضحه بكلمة حرة.
ما الحرب التي تنكب إحدى الأمم نكبة فاتكة إلا السبب الطارئ، فواجب على من يريد الحقيقة أن يبحث فيما وراء ذاك السبب الطارئ عن سبب أصلي عام كما قال مونتسكيو. والسبب العام الذي أدمى قلوب المسلمين قبل المسيحيين والموسويين في السلطنة هو ظاهر في الأقوال والأحاديث التي نطق بها أقطاب الدولة أنفسهم، وفي أقوال المراسلين السياسيين والحربيين على اختلاف النزعات، وفي حالة كل فرع من فروع الإدارة عسكرية كانت أو ملكية، وأعني به الفساد المتفاقم أصاب معظم أهل المناصب، فقتل في نفوسهم روح الواجب الوطني، ونال سائر الموظفين فرماهم بالجشع والطمع، وناب كبار الجيش فأنمى فيهم روح التحاسد والتنابذ، وأضعف روح التعاضد والتضامن، حتى عم الخلل وكثرت العلل، وإن الأمة والحكومة لعلى تلك الحال إذا بالاتحاد البلقاني واقف مستوفز ويده على مقبض السيف.
على أني لست أرى - برغم ما جرى - أنه يقوم في سبيل الدولة العلية حائل طبيعي يمنعها من النهوض، فكما نهضت ألمانيا معفرة الوجه من بين أقدام الفاتح الكرسكي العظيم وصعدت إلى المقام الأسمى بين الدول العسكرية والتجارية والصناعية، وكما نهضت فرنسا مهشمة الأعضاء ملطخة الجبين بالدم والتراب من بين سنابك ذوي الخوذات اللامعة منذ ثلاث وأربعين سنة، كذلك تنهض الدولة العلية بإذن الله، على شرط أن تعتبر وتستفيد من المصائب التي حلت بها كما استفادت تانك الأمتان العظيمتان.
إني لا أجهل الفروق التي بيننا وبين تينك الأمتين من حيث التنافر في العناصر والتباين في الأديان والاختلاف في درجات المدنية بين الممالك العثمانية، على أن الإصلاح مستطاع إذا جعل ولاة الأمور ذاك الملك العظيم أقساما متحدة تحت «الهلال» العزيز، وعدلوا نظام كل قسم بما ينطبق على أخلاقه وعاداته ودرجته من الحضارة فيرضى ابن اليمن وابن الحجاز وابن سوريا وابن الأناضول، وتبقى عاصمة الخلافة والسلطنة واسطة العقد وصاحبة الأمر والنهي في الجيش والسياسة الخارجية وسائر الشئون العامة، فلا يكون لكل قسم إلا جانب معين من دخله وسلطة محدودة تكفيه للنهوض بالعلم والتربية وسائر شئونه الخاصة.
وهناك أمر راهن لدينا؛ وهو أن الأمة العثمانية لم تفقد شجاعتها. وكل أمة متحلية بفضيلة الشجاعة يمكنها أن تنهض وتعلو لأن الشجاعة روح تنعش النفوس وتنهض بالعزائم، فحسب ولاة الأمور أن يحولوا قوة تلك الروح الشريفة إلى المشروعات النافعة فتصبح مع ذكاء الأمة ثروة أدبية عظيمة.
وأما الثروة المادية وهي أحد الأركان العظمى، فتجدها في قلوب الممالك الباقية للدولة العلية في آسيا، وهي من أغنى بقاع الله. ومساحتها (ما عدا الولايات الممتازة) مليون و156 ألف ميل مربع؛ أي نحو ضعف مساحة فرنسا التي تبلغ 204091 ميلا، مع مساحة ألمانيا وهي 208738 ميلا، ومساحة إنكلترا وهي 121115 ميلا، ومساحة إيطاليا 114409 أميال.
وأما موارد الزراعة والمعادن فأترك الكلام فيها لكبيرنا أستاذي سليمان أفندي البستاني وزير الزراعة في هذا الوقت، فإنه زار العراق منذ سنوات وضربها مثلا لثروة الأرض العثمانية، فقال:
1
دونك الخطة العراقية فهي مع شمولها بلاد ما بين النهرين تمتد مما يلي ديار بكر جنوبا إلى خليج العجم شمالا، ومن حدود بلاد إيران شرقا إلى حدود سوريا غربا، وتشمل ولايات الموصل وبغداد والبصرة وقسما من ولاية ديار بكر، وهي بمساحتها تزيد عن مساحة فرنسا، وبخصب تربتها لا يفوقها قطر في العالم، تخترقها مجاري أنهر من أعظم الأنهار، ففيها دجلة والفرات وفيها الزاب الأعلى والزاب الأدنى وذيالة، وفيها شط العرب ملتقى الأنهر، ذلك البحر الفياض المغني بمده وجزره عن وسائل الإرواء.
ذلك قطر قامت فيه بعواصمها أعظم دول العالم في العهد القديم من البابليين إلى الآشوريين، إلى السلوقيين خلفاء الإسكندر، إلى الفرس، إلى فخر دول الإسلام دولة العباسيين.
ذلك هو القطر الذي رغب محمد علي أن يستبدله بمصر وما والاها مما دخل في حيازته من بلاد الدولة العثمانية فلم يفلح.
ذلك هو القطر الذي وقف هيرودوتس أبو التاريخ واجما عن وصف تربته وخصبها خوف أن تنسب إليه المغالاة والكذب مهما خفف من الإطراء، ولا غرو فإن جميع الدول التي احتلته كان لها من ورائه الثراء العظيم، وتلك بابل مع زيادة عدد سكانها في إبان عظمتها على خمسة وعشرين مليونا، وامتلاء خزائنها بالمال من موارد ثروته كان حاصل زراعتها يكفي لمعيشة سكانها ويفيض عن الحاجة فيصدر مسحونا إلى سائر البلاد.
وتلك الدولة العباسية العظيمة مع بسط سلطتها على سلطنة لم تكن سلطنة اليونان والرومان بإزائها شيئا مذكورا، كان معظم دخلها من السواد وخراجه، وليس السواد إلا قسما من هذا القطر.
ثم تطرق إلى المعادن فقال:
إن الفحم الحجري وهو من أعظم أركان الثروة موجود في قسمي أوروبا وآسيا، مما بذلت بعض الهمة في استخراجه كمعادن هركلي، ومما لا يزال مهملا كمناجم مندلي في ولاية بغداد، ومعادن الرصاص الفضي تستخرج قليلة من الأوروبية، ومثلها معادن الحمر في الأراضي السنية بسوريا، والنحاس في أرغني بولاية ديار بكر، وفي مواضع كثيرة معادن ظاهرة توشك أن تكون مهملة كل الإهمال، ومنها الذهب والفضة والأنتيمون والزرنيخ والسنباذج والزئبق والمنغنيس والحديد والقار الحجري والسائل والكبريت والبورق ومقالع الرخام على اختلاف أنواعه. وليس ببعيد أن يكون فيها منابع بترول غزيرة، فقد شرع منذ نحو خمس وعشرين سنة باستخراجه من ضواحي الإسكندرونة ثم أهمل لأسباب غامضة. وأما في ولاية بغداد فوجوده محقق إذ يستعمله أهالي مندلي وجوارها بحالته الطبيعية بلا تصفية، وقد كان مدحت باشا اهتم باستخراجه على الطرق الحديثة، فأنفق مبالغ طائلة على بناء معمل في بعقوبة استجلب له الآلات والمهندسين، وحالما بدت بوارق النجاح غادر مدحت الولاية فأقفل المعمل ولعبت به أيدي الدمار. وأما المياه المعدنية بجميع أنواعها الحارة والباردة فهي متفجرة في مواضع كثيرة لا يكاد يلتفت إليها مع ثبوت مضاهاتها لأحسن الأنواع من أمثالها في أوروبا، وهي كثيرة بعضها في أوروبا كمياه بورصة، وبعضها في آسيا كمياه وادي العمق بولاية حلب.
ومن الغريب أن مياه الحمة في فلسطين التي كان يقصدها عظماء أوروبا للاستشفاء وأنشأ فيها قياصرة الرومان حمامات تدل آثارها على عظمة لا مثيل لها في أشباهها بأوروبا، باتت مهملة لا ينتابها إلا القليلون من أبناء الجوار ممن لا يطيق الانتقال إلى أوروبا.
وأما الملاحات البرية والبحرية فكثيرة جدا وبعضها يستخرج منه الملح بهمة وعناية فينتج دخلا غير قليل، ولا عجب بتلك العناية الخاصة فإدارة الديون العمومية هي الرقيبة عليها الحافظة لدخلها. ا.ه.
فإذا عمرت تلك الأراضي الغنية بطبيعتها وكنوزها، وعمرت معها العقول بالتعليم، والأخلاق بالتربية، وعدل النظام في كل جهة طبقا لأحوالها، وعرف ولاة الأمور كيف يعالجون السياسة الدولية ريثما يتم الإصلاح، فإن السلطنة تبلغ ما تشاء من العمران، وتصبح بإذن الله إنسان عين الزمان.
يوسف ف. البستاني
كلمة أخرى في تأليف هذا الكتاب
رأس الأمور التي يجب على كل مؤلف أن يهتم بها في كل تأليف، هو إفراغ الجهد في الحصول على ثقة القارئ، وها أنا شارح لقراء هذا الكتاب ما فعلته لأكتسب ثقتهم؛ لأنها أفضل ما أرجوه من الأرباح: ما صفر الرصاص وغنت المدافع نغمات الشؤم على هضاب البلقان حتى أخذت أجمع كل مستند رسمي أو شبيه بالرسمي وأطلع على رسائل المكاتبين الحربيين وأرتبها حسب تواريخها. وكنت كلما سمعت أن مراسلا أو كاتبا شهيرا قديرا أصدر كتابا في موضوع الحرب، بادرت إلى شرائه إذا كان موجودا بمصر أو طلبته من أوروبا، حتى اجتمع لدي عدة كتب منها: كتاب الموسيو استفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في الأستانة مدة الحرب الأولى.
وكتاب الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الذي كان مع الجيش البلغاري، وزار صوفيا وبلغراد ونقب عن أسرارهما السياسية، وكتاب الموسيو وجنر مراسل الريشبوخت النمساوية، وكتاب الضابط الألماني هوشوختر أو (هوخوختر) الذي كان مع الجيش العثماني، ورسائل المكاتبين الحربيين لجرائد الألوستراسيون والجورنال والديبا، وكتاب الكولونل بوكابيل الكاتب العسكري المعروف في فرنسا، وهو لم يذهب إلى إحدى ساحات القتال، بل جمع كل ما كتب عن الحرب البلقانية الأولى، وقابل بين الروايات المختلفة واستخلص الحقائق بما يدل على مقدرته وطول باعه.
وما تركت حديثا لوزير أو سياسي أو قائد إلا جمعته.
ولما صدر أخيرا كتاب دولتلو محمود مختار باشا الذي كان قائدا للفيلق العثماني الثالث، أضفته إلى كل ما تقدم.
بعد أن توفرت لدي كل تلك المصادر درست موضوعي درسا وافيا وقابلت بين الأقوال والروايات، حتى آنست من نفسي المقدرة على تقديم مؤلف جدير بالذكر، ومما يراه القارئ في هذا الكتاب أني لم أرو خبرا يقام له وزن إلا بعد أن رأيت تأييده في أقوال كاتبين أو مؤلفين على الأقل.
وكنت مع ذاك كله أراقب كل ما كتب أيام طبع هذا الكتاب لعلي أرى ما يجب إصلاحه، ثم نشرت في آخره ما رأيت نشره مفيدا من الملحوظات، وبذلت الجهد من جهة أخرى في مقابلة الذين عادوا من ساحات القتال، كدولة الأمير عزيز باشا حسن ومندوبي جمعية الهلال الأحمر المصري، وقلبت معهم الحديث على وجوه عديدة، بقصد أن أعرف فائدة جديدة أو أصلح هفوة من الهفوات.
تلك هي المجهودات التي بذلتها وأضفتها إلى اختبار عشرين سنة قضيتها بين المحابر والأقلام، ودرست فيها المسألة الشرقية، وطالعت جل ما كتب فيها بيراع أكابر المؤلفين وبحثت غير مرة في موضوعها، وكل ما أرجوه أن أكون موفقا في خدمة الحقيقة والتاريخ.
المؤلف
20 أكتوبر سنة 1913
وسأصدر ملحقا أضمنه ما يتقرر في شأن جزر بحر إيجه، وتحديد ألبانيا، وما يعقد من الاتفاقات أو يقع من الحوادث الكبرى وعلى الله الاتكال.
أسباب الحرب البلقانية
من رام أن يقف على حقيقة تلك الحرب الهائلة ويدرك أثرها العظيم في الشرق والغرب يلزمه أن يعرف أسبابها وحوادثها ونتائجها، وإنا بادئون بذكر تلك الأسباب واحدا فواحدا مع الإيجاز، ومعتمدون على نخبة من أقطاب السياسة وصفوة المؤرخين والباحثين في المسألة الشرقية، فإن الحرب البلقانية ليست إلا مشهدا كبيرا فاجعا من رواية تلك المسألة التي تعددت فيها الفصول وأدمت مشاهدها العيون. (1) السبب الأول
يخلق بنا أن نحسب رأس الأسباب ما انطوت عليه الضلوع وغلت به الصدور من الحقد القديم والضغينة الكامنة بين الأتراك والأمم الأربع المتحالفة، فإن كل أمة منها جعلت تربية الحقد في صدور أبنائها على دولة آل عثمان فرضا مقدسا وآية من آيات الوطنية، فإذا ورد ذكر التركي على أحد أساتذتها جعله عنوانا للظلم، ومثلا للقسوة، وعدوا أبديا يجب على كل فرد أن يرضع بغضه مع حليب أمه.
انظر إلى اليونانيين تجد الأساتذة والوالدين والوالدات وكل عجوز بالية يرددون ذكر مجدهم القديم، ويعدون التركي مغتصبا لأرضهم هداما لدولتهم، هضاما لحقوقهم، ويمزجون ما يحويه تاريخهم من الحقائق الجارحة بخرافات وحكايات نظمها لهم أساتذتهم وشعراؤهم؛ ليربوا فيهم كراهة التركي، ويحملوهم على التفكير المستمر في استرجاع ما وقع في قبضته من ملكهم القديم، ويجعلوا طلب الثأر نصب أعينهم إلى أن يأتي وقته. ثم تراهم يهتمون اهتماما خاصا بأخبار أبطالهم والمنظومات الحماسية لشعرائهم القدماء، وفي طليعتهم هوميروس صاحب الإليالذة الخالدة، ويرددون على الأخص من الحوادث الغابرة قصة يسمونها حكاية علي باشا في يانيا، فيعزون إليه من الفظائع والأهوال ما يشيب الطفل في مهده ويزعج الميت في لحده، وهم يجعلون فيها القطرة بحرا والصفر سفرا ويرتبونها كما يشاء الخيال؛ إذ لا يهمهم منها إلا أن تجئ في شكل يبكي النساء والأطفال ويثير قلوب الرجال، قال كاتب فرنساوي كبير: «يمكننا أن نقول ولا نخشى الخطأ إن حكاية يانيا حضت الأمة اليونانية على الجهد الذي بذلته في الحرب الأخيرة حضا كبيرا وأثرت فيها تأثيرا شديدا، فإنك تجد كل قرية وكل دسكرة في الجزر اليونانية تأخذها الرعدة من تذكار يانيا، وترى النساء ينقلن تلك الحكاية إلى أولادهن ويذكرن ما أتته بعض اليونانيات من الأعمال في مجال القتال. وما من أثر أبقى في النفوس وأقوى في القلوب من حكايات وطنية تعيدها الأم وهي جاثية أمام سرير ولدها.»
وأضف إلى حوادث التاريخ القديم والمتوسط حادث الفشل الكبير الذي حل بهم في حرب سنة 1897، فإنهم لبثوا بعدها يتطلعون إلى الثأر واستقدموا جماعة من الضباط الفرنسويين، فنظموا لهم جيشهم وجددوا مدافعهم، وكان يزيدهم حقدا على حقد أن الحكومة العثمانية ظلت واقفة لدى الحكومة اليونانية ويدها على مقبض السيف؛ لتوقع الرعب في قلبها وتمنعها من ضم جزيرة كريت إلى أملاكها، وكانت جرائد الأستانة تنذر اليونان في كل يوم بالزحف على أثينا إذا قبلوا المندوبين الكريتيين في البرلمان اليوناني كما طلب أهل تلك الجزيرة. وإنا لنرى رأي كبير من العثمانيين في هذا الشأن؛ وهو أن الحكومة العثمانية لم تتبع سياسة الحكمة بإذلالها اليونان تكرارا بعد أن قهرتهم في ساحة القتال، فإنها لو سارت معهم على منهج المجاملة منذ شعرت بالشر المضمر في قلوب الصرب والبلغار، لكان في وسعها أن تحول دون انضمامهم إلى التحالف البلقاني، ولكن شاء سوء الطالع أن تكون جميع الظروف مفضية إلى تفاقم ذاك الحقد القديم بدلا من تخفيفه وتلطيفه. •••
وإذا رجعنا إلى تاريخ البلغاريين وجدنا أن الحقد ينمو في قلوبهم منذ سنة 1393؛ أي السنة التي سقطت فيها الدولة البلغارية في قبضة تركيا، وإذا أراد القارئ أن يعرف مبلغ بغضهم للتركي - وكل موظف عثماني هو تركي عندهم - فحسبه أن يقرأ شيئا مما يلقونه على أولادهم أو يسمع ما يقوله الشيوخ والعجائز منهم. ذكر لي صديقي حقي بك العظم أنه زار صوفيا عاصمة البلغار منذ بضعة أعوام، وذهب يوما مع نسيب له (كان معتمدا عثمانيا ساميا) في مركبة الوكالة العثمانية إلى بعض أحياء المدينة، وبينما كانا مارين أمام بيت إحدى العجائز، خرجت وبيدها قدر من الأقذار المختلفة وقذفت به على طربوشيهما وملابسهما العثمانية.
وليس يدلنا على اعتنائهم الشديد بتربية الحقد على الأتراك وزيادة النفور منهم مثل أمر مأثور: وهو أنهم تركوا محلة صغيرة في عاصمتهم على أسوأ حال لتكون عبرة لكل بلغاري، فيتذكر على الدوام ما كانت عليه بلادهم في عهد الحكم التركي، والواقع أن تاريخ البلغار (منذ سقوط دولتهم سنة 1393 إلى سنة 1877) كان تاريخ ذل وهوان، فإنهم كانوا أرقاء تلعب الأكف التركية في رقابهم، وإذا شكوا حكمت السيوف في هاماتهم ولبثوا سنوات عديدة على أثر سقوط ملكهم يحسبون الأتراك من محتد أشرف من محتدهم حتى صحت فيهم حكمة القائل: «إن الاستعباد يفقد الشعوب نصف فضيلة الرجولية.»
على أنهم كانوا مثل كل شعب مغلوب على أمره وله تاريخ قديم، يذكرون استقلالهم الذي تغلغل في طيات الزمان ويحنون إليه وهم في زوايا بيوتهم، ويشكون بصوت خافت من حكامهم. ولبثوا على تلك الحال من الجبن والمسكنة حتى سنحت الفرصة لانفجار حقدهم الكامن قبيل معاهدة برلين، وكانت عوامل إيقاظهم ثلاثة؛ أولها: أن ولاة أمورهم غلوا أشد غلو في الضغط عليهم فكانت نتيجة هذا الضغط انفجار ذاك الحقد، والثاني: أن روسيا العدوة القديمة لتركيا كانت تحضهم وتعدهم بالعون والمدد، والثالث: أن تحريرهم من قيد الكنيسة اليونانية أنشأ فيهم روح الاستقلال.
بقيت تلك العوامل الثلاثة تعد نفوسهم للثورة وتزيد حقدهم المتأجج حتى هبوا ينفضون عنهم غبار الذل العتيق، ولما ثارت البوسنة والهرسك سنة 1875 رأى ذوو الإقدام منهم أن الفرصة كانت موافقة للثورة وشفاء النفوس من الضغينة.
على أنهم لم يكتفوا بالخروج على الحكومة بل ارتكبوا جناية ذبح المسلمين في بعض القرى، ولم تكن ثورتهم وقتئذ عامة؛ لأن قسما كبيرا منهم كان لا يزال خائفا من سادته الأتراك، وما ترامى خبر فتنتهم إلى الباب العالي حتى عقد العزيمة على تأديبهم وكان التأديب واجبا، إلا أنه أخطأ الطريقة المثلى فأطلق عليهم ألوفا من الجنود غير المنظمة، بدلا من أن يسير إليهم جنودا نظامية تحت إمرة قائد عاقل يضع اللين في محله والشدة في موضعها، وروى قنصلا فرنسا وإنكلترا في تقاريرهما الرسمية: «إن عدد الذين ذبحتهم تلك الجنود من رجال ونساء وأطفال يبلغ ما بين 15 و20 ألف نفس.»
فكان لذاك الحادث صدى عظيم في أوروبا، وهب غلادستون فألقى خطبه الشهيرة عن تركيا والأتراك، وأنسى الأوروبيين أن البلغاريين فتكوا هم أيضا بالمسلمين الآمنين، ولا غرو فإن الحادث الأكبر ينسي الحادث الأصغر، وهناك سبب آخر وهو أن شعور كل فئة بنكبات أهل دينها أشد من شعورها بإرزاء الآخرين، وهذا طبيعي تجده عند جميع الأمم والملل، ولا يتغير ما دام الإنسان إنسانا، وقليل هم لسوء طالع الإنسانية أولئك الذين يضعون الحق فوق كل شيء.
على أن هذا كله بعض ما جرى بين العدوين، وهو يكفي للدلالة على أن الجيش البلغاري لم يزحف وحده من صوفيا بل زحف هو وحقد خمسمائة سنة ...! •••
وليس حقد الصربيين وأهل الجبل الأسود على الأتراك بأخف من حقد اليونانيين والبلغاريين، فإنهم مثل حلفائهم يربون في أبنائهم محبة الثأر من تركيا، ولا ينسون انتصار الأتراك عليهم وفتكهم الذريع بهم، ذكر الموسيو «ألبير مالي» الأستاذ الكبير في التاريخ السياسي: أن المؤرخ الصربي «ليوبا كوفاتشفيتش» وقف يرثي ابنه الذي قتل في إحدى معارك الحرب البلقانية فقال: «يا بني نم بسلام فقد أوفيت دينك للوطن، وقل لدوشان ولازار بل قل لجميع شهداء قوصوه إن أمتهم ثأرت لقوصوه ...» ولقد دلت الحرب على أن الثأر الذي أشار إليه هذا المؤرخ الصربي هو أمنية كل فرد من أمته، وأن الحقد على الأتراك شامل لطبقاتها، قال أيضا الموسيو «ألبير مالي»: إن معارك قوصوه (التي حدثت من نحو 500 سنة) ما زالت تذكر عندهم كما تذكر حوادث حرب السبعين عند الفرنسويين، وما برحوا يرددون تذكار القيصر دوشان والقيصر لازار حتى الآن.
ثم روى الأستاذ نفسه دليلا على احتفاظ الصربيين بما يضرم الضغينة في قلوبهم على الأتراك قال: إن ألفا من الصربيين كانوا سنة 1809 محصورين في أحد المعاقل على مقربة من مدينة نيش، فرأوا أن الأتراك أوشكوا أن يستولوا على موقعهم عنوة، فاختاروا أن ينسفوا معقلهم بما كان عندهم من البارود على أن يقعوا أحياء في أيدي أعدائهم، ثم جاء الأتراك بعد نسفه وفصلوا رءوسهم عن الجثث وجعلوا منها شبه برج. ولما دخل الصربيون مدينة نيش سنة 1878 كان ذاك البرج محفوظا على شكله فرفعوا الجماجم ودفنوها في مقبرة وأبقوا البرج ليراه الأبناء والأحفاد ولقبوه ببرج الجماجم، وأصبح أمره موضوع قصص العجائز والوالدات في البيوت والأساتذة في المدارس.
وليس من غرض هذا الكتاب أن نفيض في شرح الوقائع التاريخية التي أشعلت نار ذاك الحقد، فإنا نختم الكلام عن هذا السبب الأول من أسباب الحرب بما تضمنه قانون أصدرته حكومة الجبل الأسود سنة 1484 ليكون دليلا آخر على الحقد القديم في صدور أهل ذاك الجبل أيضا وهو: «إذا نشبت الحرب بيننا وبين الأتراك فلا يجوز لأحد من أهل الجبل أن يترك ساحة القتال إلا بأمر رئيسه، وكل من يفر أمام الترك يفقد شرفه إلى الأبد، ويصبح محتقرا منبوذا من آله، ثم يلبس ثوب امرأة ويعطى مغزلا ليشتغل به مع النساء، وتعمد النسوة أنفسهن إلى طرده كما يطرد الجبان الذي يخون وطنه.»
1
وهنا ندع القارئ يفكر في الحالة النفسية التي كان فيها أعداء تركيا يوم ساروا إلى الحرب وهم يأملون النصر. (2) السبب الثاني
هو طمع كل دولة من أعداء تركيا في بسطة الملك ومنعة الجانب واسترجاع شيء من مجدها القديم، فإن مجد الدولة اليونانية القديم معروف خالد وآثار سلطانها ما زالت بادية في شبه جزيرة البلقان بما نراه من انتشار لغتها ومبانيها وكنائسها، وسقوط الإمبراطورية البيزنطية ترك إلى اليوم حسرة في قلبها، وهي منذ شاءت أوروبا أن تمنحها الاستقلال تصرف قواها إلى استرجاع ما فقدته، وتذكر أبيروس وكريت وجزر الأرخبيل وسائر ما طلع عليه الهلال من البلدان التي كانت تحت سلطانها.
ثم إن دولة البلغار التي صارت إلى الأتراك بحكم السيف منذ سنة 1393، كانت على شيء كبير من البطش والقوة، وما برح البلغاريون يعنون عناية خاصة بتعليم تاريخها لأبنائهم ولبثوا قرونا طويلة يحنون إليها في سرهم، حتى كانت الحرب الروسية العثمانية الأخيرة فانتصرت روسيا وأجبرت تركيا على الاعتراف باستقلالهم وجعلت مملكتهم كبيرة واسعة في شبه جزيرة البلقان، على أن مؤتمر برلين الذي عدل معاهدة سان استفانو أنقص ما طلبته لهم روسيا في المعاهدة المذكورة. فخرجت بلغاريا صغيرة، ولكن مطامعها كبيرة، ثم أخذت تستعد لأخذ ما حرمتها منه السياسة الدولية.
والصرب من جهة ثالثة تطمع في استرجاع البلدان التي تحسبها مهد عزها ومجدها، فقد كان للصربيين ملك مستقل منذ القرن الثالث عشر ثم بقي ينمو نحو قرن ونصف، حتى بلغوا أعلى مرتبة من مراتب عزهم في أواسط القرن الرابع عشر وامتد ملكهم في أيام إمبراطورهم دوشان من البحر الأسود إلى الأدرياتيك ومن نهر الطونة إلى بحر الأرخبيل، ولما كانت سنة 1346 توج دوشان إمبراطور في أوسكوب، وكان الصربيون في تلك السنة ينوون الزحف على الأستانة؛ لأنهم رأوا الإمبراطورية اليونانية أصبحت في دور الشيخوخة والانحلال، ولكن إمبراطورهم دوشان توفي فجأة فحال موته دون مرامهم.
وكان الأتراك في ذاك الوقت يتجهون نحو شبه جزيرة البلقان ويستولون على بلادها، وما لبثوا أن قهروا الصربيين وأذلوهم.
وإذا تدرجنا من ذاك العهد البعيد إلى عهد مؤتمر برلين وجدنا أن الصربيين كانوا يطمعون في شيء كثير فخابت آمالهم؛ لأن الدول لم تشأ أن تؤيدهم بقدر ما طلبوا؛ ولأن روسيا نفسها التي أراقوا دماءهم مع دمائها في حرب 1877 لم تكن تميل إليهم ميلا شديدا لما آنست من غيرتهم الشديدة على استقلالهم ودستورهم وحريتهم، ولا بدع فإن حكومة روسيا كانت تكره الدستوريين بالطبع ولا سيما في ذاك الوقت، فاختارت بعد معاهدة سان استفانو أن تجزل العطاء للبلغاريين الذين ساعدوها أيضا في الحرب، فتنشأ بلغاريا قوية بدلا من أن تعزز جانب الصرب.
أما الجبل الأسود الذي لا تزيد مساحته عن 9080 كيلومترا مربعا فهو يطمع في توسيع ملكه منذ عهد بعيد، ولا يرى مجالا لتوسيعه إلا بأخذ جانب من بلاد الدولة التي كان تاريخها سلسلة حروب دموية بينه وبينها. وأخص ما يطمع فيه أشقودره وما جاورها، وهو يعتمد على مساعدة روسيا التي طالما نفحته بالهدايا الكثيرة وأعطته بعض مطالبه في معاهدة سان استفانو التي ذهبت بها معاهدة برلين، ولعله يعتمد بعض الاعتماد على إيطاليا لأن ملكها صهره. •••
على أن الطمع الذي جاش في صدور اليونانيين والبلغاريين والصربيين ولد فيما بينهم من الضغائن والأحقاد بعد معاهدة برلين ما كاد يضارع حقدهم القديم على الدولة العلية، وكان معظم التنازع بينهم في الولايات المعروفة باسم مقدونيا.
أخذ كل فريق يعزز قومه هناك وينفق من دمه وماله في سبيل نفوذه الأدبي والسياسي، فانقسم مسيحيو مقدونيا إلى يونانيين وبلغاريين وصربيين وفلاخ، وأخذ كل قسم منهم يتلع عنقه إلى غايته ويؤيد نفوذ دولته التي كانت تحركه وتحرضه، فانتفعت تركيا إلى حد ما، من ذاك التنازع وأمنت اجتماع تلك الأقوام يدا واحدة، ولكنها كانت مهددة من جهة أخرى بعقارب الدسائس التي سعت إليها من الأمم البلقانية المستقلة، والتي كانت برهانا دامغا على طمع تلك الأمم الصغيرة في تركيا أوروبا.
وكان اليونانيون والبلغاريون والصربيون مقتنعين بأن مطامعهم مبنية على حقوق تاريخية وجنسية، ولكن المؤرخين المنصفين يرون أن بناء مطامعهم على التاريخ لا يمكن الاعتداد به؛ لأن مقدونيا وقعت على التوالي تحت سلطان الرومانيين واليونانيين والصربيين والأتراك. ولا يغلو من يقول: إن هذا التنازع الشديد الذي حمل العصابات اليونانية والبلغارية والصربية على ارتكاب أعظم الفظائع، كان من جملة عقبات الإصلاح. (3) السبب الثالث
هو السياسة الدولية ولا سيما السياسة الروسية التي تطمح إلى ضفاف البوسفور، وعاصمة البيزنطيين، ومدينة الذهب، والموقع الذي قال فيه نابليون: «إن من يملكه يصبح سيد العالم»، وإليك البيان، قال الأستاذ شوبلييه في تاريخه: «المسألة الشرقية بعد معاهدة برلين» إن روسيا تحسب نفسها وارثة الإمبراطورية البيزنطية، وسياستها لا تتغير لأنها مبنية على الروح المخامرة للشعب الروسي، فإذا كانت الحكومة الروسية تكف إلى أجل عن العمل لبلوغ الغاية التي عينها لها السلف، فإن الأمة الروسية لا تعدل عن طلب تلك الغاية، ولا تلبث أن تدعو حكومتها إلى التقدم نحوها.
ثم قال أيضا: إن الروسيين يريدون الأستانة، وهم لا يريدونها عاصمة روسيا بل يريدونها عاصمة الاتحاد الصقلبي (السلافي)؛ ليقيم فيها رئيس المذهب الأرثوذكسي ويجمع حوله جميع صقالبة البلقان، غير أنه لما فشلت روسيا في تأليف الجامعة الصقلبية أخذت تبدو لأوروبا في مظهر من عدل عن فتح أية بلاد عثمانية.
ولما انتصرت في حرب 1877 عاد أنصار الجامعة الصقلبية في روسيا فجددوا آمالهم وتوهموا أن صقالبة البلقان وصقالبة النمسا سينضمون إلى روسيا، ولكن السياسة الدولية لم تبق مجالا كبيرا لتلك الآمال بعد معاهدة برلين.
بقيت آمال روسيا تشرق وتغرب، حتى رأت دول البلقان تعقد التحالف على تركيا فأيدتهم، أجل ليس لدينا من البراهين الدامغة ما يدلنا على أن ذاك التحالف هو صنيعة روسيا كما قرأنا في بعض الجرائد الأوروبية، بيد أن الأمر الذي لا جدل فيه هو أن إضعاف تركيا منطبق على مصالح روسيا ومعزز لآمالها القديمة، وأنها رئيسة الصقالبة فلا يمكنها أن تهملهم، ولا يمكنهم أن يخوضوا معمعان حرب هائلة قبل أن يثقوا بأنها لا تخذلهم في الأيام السوداء، وهم يعلمون من جهة أخرى أن الدول التي وضعت معاهدة برلين لم تسهر على حرمتها، بل تركت بلغاريا تخترقها بأخذ الرومللي الشرقية، ثم سمحت للنمسا بأن تضم البوسنة والهرسك إلى أملاكها، فقام في أنفسهم أن الدول إذا كانت لا ترضى بحل تركيا فجأة مخافة أن تقوم مشاكل عظيمة، فإنها لا تأبى أن تؤكل في أوروبا كالخرشوفة ورقة فورقة. قال المؤرخ شوبلبيه: «إن الدول لا تريد أن تفني تركيا بصدمة واحدة، ولكنها لم تعارض حتى الآن في تقسيمها شيئا فشيئا، فإن غرض الدول على ما يظهر هو أن تؤخر سقوطها لا أن تنقذها.»
عرف المتحالفون ذاك كله فأمنوا خسارة أي شبر من أرضهم، وتأكدوا أنهم إذا انتصروا على تركيا كانت غنيمتهم كبيرة، وإذا فشلوا فإن بلادهم تبقى لهم فأقدموا على الحرب بقلوب كبيرة وعزائم شديدة.
ولا يدحض هذا القول أن روسيا والنمسا سعتا بالأصالة عن نفسيهما والنيابة عن سائر الدول العظمى في سبيل منع الحرب، وأنهما نصحتا لحكومات البلقان بوجوب العدول عن العدوان، فإن البلقانيين كانوا يعلمون كنه سياسة الدول ويثقون بأن روسيا - كما قدمنا - لا يمكنها عند الضرورة أن تنبذ تقاليدها أو تعرض عن الرأي العام في إمبراطوريتها، ولقد أصابوا الغرض فإن روسيا لم تحجم عن تجنيد جيشها حين أخذت النمسا تهدد الصرب كما سترى في باب آخر، وأن فرح الشعب الروسي بانتصار البلقانيين بلغ حدا قصيا. وإذا أراد القارئ دليلا على شعور الروس، فحسبنا أن نقدم لهم خبرا ورد ونحن شارعون في طبع هذا الكتاب، وهو أن خبر سقوط أدرنه وصل بطرسبرج والموسيو دانيف مندوب البلغار في مؤتمر لندن جالس في الدوما (مجلس النواب)، فهتف حينئذ نواب الروس هتاف الفرح والابتهاج، وحملوا الموسيو دانيف والمعتمد البلغاري في عاصمة روسيا وأخذوا يغنون وينشدون.
فكيف تستطيع حكومة روسيا أن تغفل رأي الجمهور الروسي وتلك عواطفه؟! (4) السبب الرابع
هو غفلة كبار الدولة العلية وتنازعهم المتواصل على السلطة وإشراب الجيش سم السياسة، مما أفضى إلى الضعف والاضطراب في جميع فروع الإدارة ومنها إدارة الجيش.
وإن ضعف الخصم كثيرا ما يولد المطامع عند خصمه، أو يزيدها تفاقما إن كانت موجودة كامنة كمطامع البلقانيين العريقة في القدم، كما أن قوة الخصم تؤدي إلى إخفاء المطامع فلا تجيش في الصدور ولا تدفع أصحابها إن كانوا عقلاء إلى حد العدوان، ألا ترى أن فرنسا تطمع في استرجاع الإلزاس واللورين اللتين أخذتهما ألمانيا بعد حرب السبعين، ولكنها لا تحيد عن جادة الحكمة والفطنة؛ لأن ألمانيا ضخمة قوية لا يسهل نزع اللقمة من يدها الفولاذية.
فلو كان أقطاب السياسة العثمانية لم ينقسموا على أنفسهم ولم يدعوا السياسة ترسخ في قلوب الضباط فتصرفهم عن الواجب الوطني المقدس، لما رأت منهم دول البلقان ذاك الضعف الذي هاج طمعها، ولما كانت حمى التنازع تحدث في رءوسهم مثل دوار، فيذهب عنهم أن جواسيس البلغاريين والصربيين واليونانيين يملأون الأستانة وكل موقع حربي ويبحثون عن كل موضع من مواضع الوهن.
أثبت أولئك الجواسيس لدولهم أن الجيش العثماني يحتاج إلى الضباط، وأن الضباط الموجودين حزبان متنافسان، وأن الخلل ضارب في إدارة الميرة والذخيرة، ثم رأوا من جهة أخرى أن الحرب الطرابلسية زادت الدولة العلية ضعفا على ضعف - فقالوا: إن الفرصة الحاضرة هي خير الفرص لتحقيق الأمل وشفاء النفس من الحقد والطمع القديمين.
على أن حكوماتهم قامت تراعي دواعي السياسة فادعت أن السبب الذي دعاها إلى تعبئة الجيوش هو رغبتها في كشف الظلامة عن إخوانها المقدونيين المسيحيين، ثم شكت من إهمال المادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، وهي التي توجب على الباب العالي أن ينفذ النظام الأساسي الذي وضع لجزيرة كريت، ونظامات شبيهة به ومنطبقة على الحاجات المحلية في بلاد تركيا أوروبا، وأن يكلف لجانا مشتملة على عدد كاف من أبناء البلاد لوضع تلك النظامات في كل ولاية عثمانية في أوروبا، ثم يستطلع فيها رأي اللجنة الأوروبية التي ألفت للنظر في شأن الرومللي الشرقية.
تلك هي الحجة التي تذرعت بها حكومات البلقان المتحالفة قبل أن تعلن الحرب بأيام، والحقيقة أنه لو كان المراد من حركة الممالك البلقانية طلب الإصلاح بالمعنى الصحيح، لما دفعت الجفاء إلى حد الحرب بينها وبين تركيا، ولكنها رأت نفسها قوية بتحالفها وبالخلل الضارب في الأستانة، فأرادت أن تنفذ اتفاقها السري، وليس تذرعها بمعاهدة برلين إلا ذرا للرماد في العيون، قال الموسيو كيدرلن وختر وزير خارجية ألمانيا السابق في حديث شهير تناقلته الجرائد الأوروبية في أوائل أكتوبر الماضي أي الشهر الذي أعلنت فيه الحرب: «إن جميع الحكومات البلقانية تدعي أنها تريد الإصلاح لمقدونيا، والحقيقة أنها تطمع في تقسيم أملاك الدولة العثمانية، ولكن يجب عليها أن تعلم بأن الدول العظمى لا يمكنها أن تسمح بتغيير خريطة الأراضي العثمانية في شبه جزيرة البلقان ...»
ويجدر بنا أن نعترف هنا بأن حوادث أليمة هاجت عواطف الأمم البلقانية قبل الحرب ولا سيما الأمة البلغارية، غير أنه يجدر بنا أيضا ألا ننسى أن الحزب الحربي من أولياء الأمور البلقانيين كان يعنى بتهييج تلك العواطف إرادة أن يعد أفكار الجماهير للحرب المنوية، وأن يبلغ بها إلى حيث يمكنه القول: «إن تيار الرأي العام دفعنا معه، فلا قبل لنا بالتقهقر»، وعند ذلك يتسني للحكومات البلقانية ما أرادت من اغتنام الفرصة الفريدة.
معاهدة برلين وعلاقتها بالحرب البلقانية
أشرنا فيما تقدم إلى شكوى الحكومات البلقانية من نبذ الدولة العلية للمادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، ولما كان المؤتمر الدولي الذي عقد تلك المعاهدة سنة 1878 خطير الشأن كبير العلاقة بالمسألة الشرقية التي تحاول الدول البلقانية أن تحلها حلا نهائيا - رأينا أن ننشئ لها مقالا خاصا لنزيد حقيقة الحرب وضوحا وجلاء.
كانت المعاهدات التي تقدمت معاهدة برلين تقضي باحترام السلطة السلطانية السامية، أما معاهدة برلين فإنها بالعكس وضعت السلطنة العثمانية تحت وصاية أوروبا وأجازت تصدي الدول العظمى للشئون العثمانية، كما تشهد المادة الثالثة والعشرون التي ذكرنا معناها فيما سبق. ثم قررت منح البلغار استقلالا إداريا كاملا وأوجبت على الحكومة العثمانية أن تعترف باستقلال الجبل الأسود، إلى آخر ما يراه المطلع على تلك المعاهدة المؤلفة من أربع وستين مادة، فبعد أن كنا نرى الدول متفقة في المعاهدات السابقة على اجتناب كل مداخلة في شئون الدولة العثمانية صرنا نراها بفضل تلك المعاهدة متفقة على المداخلة.
وليس بخاف أن رأس الشروط في السلطة الدولية المعترف بها لكل دولة مستقلة هو أن لا تتداخل دولة أخرى في شئونها الداخلية؛ لأن هذا التصدي لها يمس حريتها الداخلية الحرية المطلقة التي تعد أساسا لكل سلطة دولية.
على أن المصالح التي تعد العامل الأعظم في السياسة كثيرا ما دفعت الدول إلى الشذوذ عن تلك القاعدة، فرأيناها تارة تنصر الملوك على الأمم وتسير الجنود لتأييدهم، كما فعلت فرنسا يوم أرسلت جيشا إلى إسبانيا لتعيد السلطة إلى الملك فردينان السابع، وتارة تنصر الأمم على ذوي العروش كما فعلت الدول الموقعة على معاهدة برلين.
وإذا كانت معاهدة برلين لم تدع روسيا تنشئ بلغاريا عظيمة كما طلبت في معاهدة سان استفانو، فإنها تركت مواضع كثيرة للخلل السياسي، ودواع جمة للطمع، ثم نامت الدول الواضعة لتلك المعاهدة عن صيانتها، فنشأ عن هذا كله أن الإمارة البلغارية ضمت إليها الرومللي الشرقية سنة 1885 ثم أعلنت استقلالها وارتقاءها من إمارة إلى مملكة سنة 1908، فهتكت حرمة تلك المعاهدة مرتين، ثم ضمت النمسا البوسنة والهرسك إلى أملاكها من جهة أخرى فهتكت حرمتها أيضا.
وما زالت دول البلقان منذ سنة 1878 تطلب زيادة على ما ربحت من تلك المعاهدة، وقام الخلاف بينها على الأراضي العثمانية المطموع فيها، وصارت كل دولة منها تنازع الأخرى أشد المنازعة حتى اصطبغت هضاب مقدونيا بدماء البلغاريين والصربيين واليونانيين والرومانيين. ولسنا نغالي إذا قلنا إن الدول العظمى التي وضعت تلك المعاهدة كانت شريكة في الجنايات التي اقترفت؛ لأنها جعلت معاهدتها دواء وقتيا وحلت المشكلة حلا نصفيا، قال الموسيو شوبلييه في تاريخه «المسألة الشرقية بعد مؤتمر برلين»: إن هذا المؤتمر زاد ضعف تركيا واشتياق رعاياها إلى الاستقلال كما زاد قوة أعدائها في البلقان.
فكل من يتنزه عن الغرض يحكم إذن بأن شطرا من تبعة تلك الفوضى يلقى على تركيا؛ لأنها أغفلت الإصلاح فوسعت أبواب الشكوى وأقامت لخصومها الحجة عليها، وبأن الشطر الثاني هو نصيب الدول العظمى التي وضعت معاهدة برلين، ونصيب الدول البلقانية التي ملئت البلقان من الدسائس والسعايات والمنازعات بلوغا إلى أغراضها وتحقيقا لمرادها.
على أن تلك السعايات والمنازعات لم يكن من شأنها أن تجعل الإصلاح مستحيلا على الدولة العلية بل كان من نتائجها أن تجعله صعبا جدا، وأول دليل على تحسين الحال لم يكن ضربا من المحال أن العصابات المختلفة أخذت تسلم سلاحها إلى ولاة الأمور ابتهاجا بالدستور العثماني، فلما كان ما كان من أمر هذا الدستور، وشبت الحرب بين إيطاليا والدولة العلية وثبت لساسة الدول البلقانية ما قام في الأستانة من الخلل الذي هو أبو المفاسد عادت الفوضى، ثم تناست الدول البلقانية عداوتها لتتحالف على «العدو العام» كما تقول جرائدها.
تحالف دول البلقان وكيف كان
ما كان يدور في خلد أحد، ولا يمر على مرآة الخيال أن اليونانيين الذين كانت عصاباتهم في مقدونيا تحرق القرى البلغارية وتمثل بأهلها تمثيلا، وأن البلغاريين الذين ما وجدت عصاباتهم يونانيا إلا جندلته قتيلا، يمكنهم أن يكونوا حلفاء في السراء والضراء، على أن المصلحة تفعل العجائب وهي التي أرتنا أعجوبة ذاك التحالف الذي كانت أوروبا نفسها تحسبه مستحيلا.
وليس بين أيدينا من الجرائد الأوروبية التي طالعناها منذ نشوب الحرب إلى اليوم، ولا من الكتب الستة التي ظهرت حتى الآن في موضوعنا ما هو أجدر بالمطالعة من الفصل الذي أنشأه الموسيو ريني بيو مراسل التان الحربي، الذي زار عاصمة الصرب وعاصمة البلغار وحادث كبار ساستها قبل أن سافر إلى ساحة القتال، وإليك صفوة ما قال:
ليت شعري كيف جهلت أوروبا إلى هذا الحد ما وضعته الدول البلقانية من المشروعات واتخذته من القرارات، ثم كيف قدرت تلك الدول نفسها التي طالما ظنوا أنها معادية بعضها لبعض، على عقد التحالف الذي سيمكنها من التغلب على الدولة التركية الضخمة؟!
أرى من المفيد لجلاء هاتين النقطتين أن أذكر حديثا دار بيني وبين الموسيو سبالايكوفتش معتمد الصرب في عاصمة البلغار الذي كان كاتب سر عام في وزارة الخارجية الصربية، والذي يرجع إليه وإلى الملك فردينان فضل المحالفة التي عقدت في 13 مارس سنة 1913.
ثم روى أن المعتمد المذكور أخبره بأن الغرض من الحرب هو إزالة «الحالة المؤلمة التي تضغط على الحياة الوطنية في البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود، وأن الإصلاح المقدوني لم يكن مأمولا لا من تركيا ولا من الدول»، إلى أن قال: «إن أوروبا ارتكبت غلطتين؛ الأولى: أنها تأخرت في سعيها إلى منع الحرب، والثانية: أنها أخطأت في تقدير غايتنا ومقدرتنا على العمل، فقد كان الواجب أن تهتم بحل المشكلة البلقانية في اليوم الثاني لإعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا، لا منذ ثلاثة أسابيع حين اضطرتنا التعبئة العثمانية إلى القيام بتعبئة عامة، ولا منذ أربعة أو خمسة أشهر عندما شاع خبر الاتفاق بين الصرب والبلغار، أو بعد سفر الموسيو بوشكوفتش إلى أثينا حيث كانت المسألة البلقانية شغله الشاغل، ألا كيف غاب عن السياسة الأوروبية أن الدول البلقانية وجدت الفرصة التي ترجوها وتنتظرها من زمن طويل، وأنها ستعمد إلى اغتنامها لتحل المسألة القديمة؛ إن السنة التي مضت على الحرب العثمانية الإيطالية مكنتنا من عقد روابط اتحادنا، وجعلت الموسيو جيشوف «رئيس الوزارة البلغارية» المعروف بميله إلى السلم وإلى تركيا، يطلب الحرب بعزم راسخ ويمسي من أقوى نصرائها.»
غير أنه يجدر بنا أن نعترف هنا بإسرافنا في الوقت قبل أن نفذنا الفكرة السياسية الحكيمة التي أبداها أستاذي المأسوف عليه ميلوفانوفتش، أعني فكرة الاتحاد السياسي بين الصرب والبلغار، فإن الأستاذ المشار إليه هو الذي أظهر وجوب العمل لعقد ذاك الاتحاد مخافة أن يجيء التيار الغربي فيجرف الأمتين، وأول خطأ ارتكبته أوروبا: هو أنها لم تدرك منذ مدة أن عقد هذا الاتفاق سيتم بحكم الضرورة.
أما الخطأ الثاني الذي ارتكبته أيضا: فهي أنها بقيت تنظر إلينا بعين غلادستون، فلا تحسبنا قادرين على تجنيد 700000 جندي وإرسال 1500 مدفع إلى مواقع القتال، ولا تعدنا إلا أطفالا في الأسرة الأوروبية الكبرى، ثم ألفت هذا الفكر إلى حد أنها باتت تعتقد أن هؤلاء الأطفال يكفيهم أن يعنفوا ولا يطعموا إلا الخبز الجاف ليخلدوا إلى السكينة، وفاتها أنا بلغنا سن الرجال وطلبنا حريتنا في العمل.
عبأنا جيوشنا فلقبوا تعبئتنا بخدعة كبيرة النفقة، وإن هذا القول إلا جهل تام للحالة الراهنة، ويظهر أن الدول العظمى أصبحت لا تدرك معنى السياسات الوطنية التي لا تسير طبقا لمصالحها المادية.
ثم كرر هذا المعتمد الصربي أن الغاية من الحرب إنقاذ إخوانه البلقانيين ومحو السلطة التركية، ثم قال:
ألا كيف يكون المستقبل وكيف يكون حكم السيف؟ إن الجواب لا يستطيعه أحد الآن، لكن جنودنا ستقاتل قتال الأسود والبغضاء تغلي في قلوبها وحب الانتقام يملأ صدورها، وسيبقى وقت كاف لتنظيم البلاد التي سننقذها بعد أن يصدر السيف حكمه، ويجب حينئذ على أوروبا التي أخطأت نظراتها في الماضي، أن تفعل ما تقتضيه المصالح الأوروبية العظمى، فإن الاتفاق بين الدول موقوف على ما ستفعله عندئذ، ومهما يكن من شأن تضامن الدول على السعي السلمي الذي تدل عليه المذكرة الروسية النمساوية، فإن الذي يستوقف روسيا في أوروبا إنما هو المصالح البلقانية، والضمان الوحيد للتوازن الذي تعيش به الدول اليوم هو اتفاق فرنسا وإنكلترا مع روسيا على العمل يدا واحدة في مسائل البلقان بعد إسكات المدفع وإغماد السيف.
نقل مراسل التان الحربي هذا الحديث عن سياسي من أعرف ساسة الصرب، ثم فرش للقارئ دخلة المسألة بإيضاح قال فيه:
والواقع أن فكرة الاتفاق بين البلغار والصرب قويت واشتدت بعاصمتي هاتين الدولتين في شهر سبتمبر سنة 1912؛ أي وقت إعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا فأسرع الموسيو مليوفان ميلوفانوفتش وزير خارجية الصرب إلى إرسال منشور سري إلى دول الاتفاق الثلاثي؛ أي روسيا وفرنسا وإنكلترا، ذكر فيه أن الحالة التي نشأت عن الحرب العثمانية الإيطالية من شأنها أن تحدث تأثيرا في البلقان، وأن دولة الصرب عقدت العزم على فعل ما تراه واجبا لحماية مصالحها عند حدوث مشاكل.
وكتب الموسيو هارتويج المعتمد الروسي في عاصمة الصرب (الذي يشتغل منذ سنة 1909 بعقد اتحاد بين صقالبة الجنوب) إلى الموسيو سازونوف وزير خارجية روسيا يحول نظره إلى أهمية الحوادث التي يتأهبون لها في شبه جزيرة البلقان، ولكن الحكومة الروسية بقيت جامدة بعد هذا التنبيه، أما الحكومة الصربية فإنها عزمت على العمل وكان معتمدها بالعاصمة البلغارية وقتئذ غائبا عن منصبه فأصدر إليه وزير الخارجية الصربية أمرا بالرجوع مسرعا إلى صوفيا ليشتغل بعقد معاهدة بين دولته والبلغار.
ثم ازداد الأمر خطرا واستفحالا في ذاك الوقت بتعبئة جانب من الجيش العثماني في البلقان؛ لأن الحكومة العثمانية تفزعت من أن يكون لصدى حرب طرابلس رجعا قويا في البلاد البلقانية، ثم قامت الدولة البلغارية تريد تعبئة جيشها أيضا. فأخذ وزير خارجية الصرب يفرغ الجهد في حمل بلغاريا على الصبر والأناة رجاء أن يدخر قوتها إلى ما بعد المحالفة التي كان يشتغل بتمهيد سبيلها؛ لأن هذا السياسي المحنك كان يدرك أن كلا من جيش الصرب وجيش البلغار لا يستطيع وحده أن يقهر الجيش العثماني برغم ما عرفه الجواسيس من ضروب الخلل.
ولما وصل الموسيو سبالايكوفتش معتمد الصرب إلى صوفيا كان سبب السلم مضطربا كل الاضطراب، وملك البلغار يستحم في النمسا، والموسيو جيشوف رئيس وزارته يجول في أوروبا، والموسيو تيودورف وزير المالية ينوب عنه في الرئاسة ، فوقعت الوزارة البلغارية في حيرة لا تدري أي نهج تنهج، وإنها لعلى تلك الحال إذا بتلغراف من رئيس الوزارة يطلب فيه إلى زملائه أن يحجموا عن كل قرار ريثما يصل إلى صوفيا ثم أخبرهم بأنه قابل مولاه الملك في المدينة التي كان يستحم فيها وحادثه مليا في شأن الحالة.
ثم وصل رئيس الوزارة غير مبطئ إلى صوفيا وأخبر زملاءه بأنه حادث الملك فردينان واتفق معه على الصبر والتؤدة أمام التعبئة العثمانية، وبأنه سافر مع وزير الخارجية الصربية واتفقا أيضا على وجوب عقد محالفة بين الدولتين. ثم دارت المفاوضة في هذا الشأن بين معتمد الصرب ورئيس الوزارة البلغارية، وفي 13 مارس سنة 1912 تم توقيع معاهدة هجومية دفاعية بين حكومتي صوفيا وبلغراد.
وكانت الحكومة الروسية حامية الصقالبة أول العارفين بذاك الحادث السياسي الخطير في الشرق، ثم تطرق الخبر إلى باريس فلندرا، وأصبح في وسع حكومتي الصرب والبلغار منذ تلك الساعة التاريخية أن تفكرا في مسألة إعلان الحرب على تركيا.
على أنهما رأتا من الحكمة وأصالة الرأي أن تسعيا في إدخال العدو الثالث لتركيا في هذا التحالف الجديد، فأخذتا منذ اليوم التالي في استطلاع طلع اليونان واستجلاء رأي حكومتهم، فوجدتا منها إقبالا سريعا على الدخول في سلك المحالفة البلقانية، وكان أكبر أنصارها في العاصمة اليونانية الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة، فأمضت الحكومة اليونانية معاهدة التحالف على «العدو العام» كما يقولون، فلم يبق إلا اختيار الوقت الموافق لإيقاظ السيف الهاجع.
سرت ريح هذا النبأ من دواوين السياسيين إلى مكاتب الصحافيين، لكنه أتاهم غامضا مبهما فحاموا حول الموضوع وخبطوا بعض الخبط، ثم تمكنوا من إثبات وجود التحالف، أما الحكومة العثمانية وقتئذ فلم تقم بكل ما وجب عليها من التأهب تلافيا للشر، بل عززت الجيش بعض التعزيز ولبثت تعتقد أن الخطر غير داهم إما لجهل من معتمديها في عواصم الدول الثلاث وقصورهم عن معرفة ما يهدد دولتهم، وإما لتطرف رجالها في التفاؤل الحسن وفي الثقة بسياسة أوروبا.
وليس لدينا شك بعد ما قاله معتمد الصرب بالعاصمة البلغارية (كما عرفنا من حديثه المتقدم) في أن الحرب الطرابلسية كانت من العوامل التي جعلت الدول البلقانية تعقد العزيمة وتوطن النفس على إعلان الحرب بلا مهل؛ فلذلك كانت حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا تود من صميم القلب أن تفشل الدول في التوسط بين الحكومة العثمانية والحكومة الإيطالية، كما قال الموسيو رينيه بيو، ثم ازداد خوفها من ضياع تلك الفرصة «الفريدة» حين اقترحت الحكومة النمساوية على الحكومة العثمانية أن تتبع طريقة الاستقلال الإداري المحلي (اللامركزية)، وقام في خلدها أن النمسا ما اقترحت هذا الاقتراح إلا وهي تضمر التقدم جنوبا فتستولي على سنجق نوى بازار، ثم تهبط سلانيك، ثم تجعل ألبانيا كمستعمرة نمساوية، والواقع أنه لا يسع أحدا أن ينكر سعي النمسا في بسط نفوذها بأنحاء ألبانيا على أيدي رجال الدين كما كانت تفعل في البوسنة والهرسك في سالف الزمان، وهي تدعي حماية الكاثوليك الألبانيين وتنفق في سبيل نفوذها هناك مالا كثيرا. •••
وليس من فضلة الكلام أن نذكر هنا محصل ما نشره الموسيو ه. وجنر الكاتب الحربي الشهير في النمسا، ومراسل «الريشبوت» أيام الحرب البلقانية، فإن هذا الكاتب الذي قربه إليه ملك البلغار ورئيس الوزارة البلغارية عقد فصلا عن التحالف البلقاني في كتابه المسمى «في سبيل الانتصار مع جيش البلغار» نأخذ منه ما يلي:
إن فكرة الحرب البلقانية لم تمتد وتنتشر إلا بعد نشوب الحرب الطرابلسية التي هي أول حرب قاست تركيا الدستورية نيرانها وخاضت معمعانها، وهي التي هيجت شوق الحكومات البلقانية «إلى تصفية حساب» المنازعات القديمة دفعة واحدة مع الدولة العثمانية، فعمدت إلى المفاوضة الأولى في ذاك الوقت إرادة أن تنال منها نتيجة قبل أن تضع الحرب الطرابلسية أوزارها. وفي ذاك الوقت أيضا ذهب مندوبون مقدونيون إلى روما للمذاكرة في الموضوع.
وكان أثر الحرب الطرابلسية على أشده في البلاد البلغارية، حيث يعتقد جماعة من السياسيين منذ زمن طويل أن تضامن الصرب والبلغار واليونان هو أمر ممكن برغم التنازع الذي كان قائما بينهم، ثم قويت الفكرة شيئا فشيئا حتى اتجهت إليها أفكار الحكومات وكان الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية من أشد أنصارها.
ولما كان شهر مايو سنة 1912، وضع مشروع أولي للتحالف، وجميع القرائن تدلنا على أن دولة الصرب ودولة البلغار هما اللتان تفاوضتا واتفقتا أولا، ثم أخذت الحكومة البلغارية تفاوض حكومة اليونان، وأخذت حكومة الصرب تفاوض الجبل الأسود وتوقف الحكومة البلغارية على مجرى المفاوضة، والظاهر أن حكومة الصرب هي التي شرعت في تلك الحركة قبل غيرها، وأن الاتفاق بني أولا على شئون سياسية واقتصادية لا على مقاصد عدائية، ثم عقد التحالف العسكري قبل نشوب الحرب بمدة قصيرة.
وروى الموسيو وجنر في محل آخر من كتابه أن الموسيو جيشوف رئيس الوزارة البلغارية عقد في فينا اجتماعا من معتمدي دولته السياسيين في باريس وفينا وروما وبرلين وشاورهم في أمر الحرب، فارتأى معتمدا فينا وبرلين على ما قيل: إن الوقت غير موافق لحل العقدة بحد السيف.
أما معتمد باريس الدكتور ديمتري ستانيسيوف فخالفهما في الرأي، وذهب إلى أن تصريح الدول بعزمها على حفظ خريطة تركيا كما هي لا يعتد به ولا ينظر إليه بعين الجد، ولا سيما أن إحدى تلك الدول (إيطاليا) هبت تخالف ذلك. ثم وافقه الموسيو ريزوف معتمد البلغار في العاصمة الإيطالية وطلب أن لا تضيع بلغاريا فرصة الحرب الطرابلسية كما أضاعت فرصة 1908-1909.
وأما الموسيو جيشون رئيس الوزارة البلغارية فلم يكن شديد الميل إلى معاداة الدولة العلية، وليس جنوحه إلى المسالمة في ذاك الحين إلا اجتنابا للمجازفة والمخاطرة، فإن الرجل مثل سائر البلغاريين يدعوهم الطمع والحقد والسياسة والجنس والدين إلى تلقف كل ما يمكن أخذه من يد السلطنة العثمانية. ومما يذكر هنا كتاب بعث به إلى الموسيو وجنر (فنشره في صدر مؤلفه)، وروى فيه أن ولاة الأمور العثمانيين قبضوا عليه بمدينة فليبولي في شهر سبتمبر سنة 1877 وزجوه في السجن؛ لأنه نشر في جريدة التيمس سلسلة مقالات طعن فيها على الحكومة العثمانية، ثم اتفق له بعد سجنه أن نظر في جريدة تركية اسمها «وقت»، فإذا فيها أن المحكمة أصدرت حكما بإعدامه، ولكنه ما لبث أن نجا بأعجوبة - على قوله - من المشنقة، وبعد ذاك الحادث بخمس وثلاثين سنة صار رئيسا لمجلس النظار البلغاري، ولما عرضت فرصة الانتقام ورآها موافقة لدولته أصبح هو حربا على تركيا بعد أن كان يبتسم لها ويميل إلى مجاملتها.
مرسح السياسة قبل إعلان الحرب
من 3 إلى 17 أكتوبر
أصح ما نشبه به السياسة قبل إعلان الحرب ببضعة عشر يوما بحر عجاج متلاطم الأمواج، يقذف بالدول تارة إلى مينا الأمان وتارة إلى لجة الخطر، وليس أدل على حالة السياسة العامة في ذاك الوقت من الوقوف على الأقوال الرسمية والشبيهة بالرسمية.
والمستفاد من تلك الأقوال التي كانت تنشرها الجرائد الكبرى أن أوروبا عرفت بتعبئة جيوش البلغار والصرب واليونان، ثم سمعت بأن المدفع أخذ يغني نغمة الشؤم على حدود الجبل الأسود، وبقيت تؤمل تبديد الغيمة السوداء التي تكاثفت في جو البلقان.
لكن ذوي النظرات الصادقة الذين قابلوا السياسيين البلقانيين وأدركوا مقاصدهم عرفوا منذ أوائل أكتوبر أن كفة الحرب رجحت كل الرجحان، فصار عود المياه إلى مجاريها غير مأمول، وإليك ما كتبه الموسيو رينيه بيو في 5 أكتوبر بعد أن قابل ساسة البلغار في صوفيا:
في هذا الصباح وقف ملك البلغار في مجلس النواب وهو عاري الرأس فاتجهت إليه الأنظار كل الاتجاه، وأخذ الحضور يهتفون له هتافا طويلا، ثم افتتح فصل الجلسات غير العادية وطلب من النواب أن يوافقوا على مبلغ خمسين مليون فرنك لنفقات عسكرية استثنائية، ويرجح أن تكون الموافقة النهائية على هذا المبلغ يوم الاثنين القادم؛ لأن جميع الأحزاب البلغارية متفقة كل الاتفاق.
أما الاتفاق بين الدول البلقانية فهو تام مستحكم الحلقات، والمساعي التي قامت بها تركيا لفصل المملكة الصربية عنها كان نصيبها الحبوط، أما رومانيا فقد ورد خبر أكيد من بطرسبرج بأنها تلزم الحياد، وأما النمسا فلا تنوي المداخلة، والبلقانيون ينتظرون الآن نتيجة السعي الأخير الذي تقوم به الدول في الأستانة، وينوون نية راسخة أن لا يكتفوا بوعود مبهمة، والبلغاريون يريدون لتركيا أوروبا استقلالا إداريا مؤسسا على الجنسيات؛ نعني أنهم يريدون تقسيمها إلى ثلاث مناطق ؛ الأولى: بلغارية ، والثانية: صربية، والثالثة: يونانية. ويطلبون لكل منها مجلسا وطنيا وحكاما مسيحيين يعينون بعد موافقة الدول، ثم تؤلف فيها جندية محلية، وتصدر حكومة الأستانة أوامرها إلى الجنود العثمانية بالخروج عاجلا من تركيا أوروبا.
كفى المرء أن يطلع على ما تقدم ليعلم أن حكومات البلقان أرادت أن تطلب مطالب لا يمكن قبولها لتحرج الحكومة العثمانية فتخرجها عن سجيتها، وكان من نية البلقانيين في ذاك الحين أن لا يتسرعوا ولا يعلنوا الحرب إلا في منتصف أكتوبر بقصد أن يبقوا للدول وقتا كافيا للحصول على جواب من الباب العالي في شأن الإصلاح، وليتمكنوا من إتمام التعبئة والحشد في المواقع التي عينوها في خطتهم الحربية. وبعد أن يتم لهم ما أرادوا من هذين الوجهين يرسلون مذكرة إجماعية إلى الحكومة العثمانية يبسطون فيها مطالبهم ومقترحاتهم، فإذا ورد الجواب العثماني «بنعم» بلغوا ما يتمنون من استقلال تركيا أوروبا، وتقدموا خطوات واسعة بلا حرب ولا ضرب نحو غايتهم الكبرى، وإذا ورد الجواب «بلا» عمدوا إلى إعلان الحرب من غير أن يدعوا للدولة العلية وقتا طويلا يضر بخطتهم الحربية.
وما كان اليوم السابع من شهر أكتوبر حتى تمت تعبئة الجيش البلغاري وأخذ يزحف إلى المواقع المعينة له. وروى مراسل التان الحربي أن تعبئته تمت في ستة أيام، ثم وردت أخبار من عاصمة الصرب وعاصمة اليونان تنبئ بالتعبئة أيضا.
كان ذاك كله يجرى في البلدان البلقانية، والدول العظمى تسعى لدى الباب العالي في حمله على قبول مذكرتها، التي تطلب فيها الإصلاح عملا بمقتضى المادة الثالثة والعشرين من مؤتمر برلين، ثم اتفقت على إبلاغ مشيئتها إلى دول البلقان لعلها تحترمها وتعدل عن الحرب، وكلفت روسيا والنمسا أن تبلغا تلك المشيئة بالأصالة عن نفسيهما والنيابة عن سائر الدول إلى حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا، فقابل معتمدا الدولتين ذوي الشأن في العواصم البلقانية، وأبلغاهم أولا: أن الدول العظمى تنكر أشد الإنكار كل تدبير من شأنه أن يقطع حبل السلم، ثانيا: أن الدول تأخذ على عاتقها إجراء الإصلاح في تركيا أوروبا عملا بالمادة الثالثة والعشرين من معاهدة برلين، وأنها ما برحت تحتفظ بسيادة جلالة السلطان وبسلامة أملاك السلطنة، ثالثا: أنه إذا قامت الحرب خلافا لمشيئتها بين تركيا والدول البلقانية فإنها - نعني الدول العظمى - لا تسمح بأي تغيير في خريطة تركيا أوروبا.
هذا جوهر البلاغ الدولي إلى حكومات البلقان، وسيرى القارئ أنها داسته بكعوب الأرجل حين طلع طالع النصر على الرايات البلقانية. ومما يجدر بالذكر هنا أن الموسيو جيشوف رئيس وزارة البلغار أجاب معتمدي روسيا والنمسا حين قابلاه وأوقفاه على بلاغ الدول بقوله: «يا للأسف، إنا عبأنا جيوشنا.» وهذا الجواب يشبه جواب روسيا للورد لوفتوس سفير إنكلترا حين أراد منع الحرب بين الدولة العلية وروسيا سنة 1877، فكأنما المقادير أرادت أن يقوم الشبه بين مقدمات الحرب البلقانية ومقدمات الحرب الروسية العثمانية، حتى في الكلمات. والواقع أن البلغاريين وحلفاءهم كانوا عازمين عزما راسخا على الحرب برغم كل مذكرة دولية، وأقوى برهان على هذا العزم أنهم أعدوا جوابهم على مذكرة الدول قبل أن تصلهم ويقفوا على معناها، كما قال الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الذي كان في صوفيا يوم وصول تلك المذكرة؛ أي 8 أكتوبر.
وفي التاسع من أكتوبر اجتمع مجلس نظار البلغار فنظر في المذكرة الدولية وحكم بأنها لم تعين الإصلاحات المطلوبة تعيينا كافيا ولم تشتمل على الضمانات الواجبة لتنفيذ تلك الإصلاحات. غير أنه لم يشأ أن يقر على القرار الفاصل قبل أن يطلع على آراء حكومتي بلغراد وأثينا، وما طلعت شمس الثالث عشر من أكتوبر حتى كان الاتفاق تاما بين المتحالفين على صيغة جوابهم للدول العظمى، وإليك معناه.
استهلت حكومات البلغار والصرب واليونان مذكراتها المتشابهة بشكر الدول العظمى لما أظهرته من الاهتمام بالمسألة البلقانية، ثم ذكرت أنها أصبحت في حالة توجب عليها أن تطلب من الباب العالي مباشرة تعيين مقاصده المختصة بالإصلاح المقدوني، فكان هذا الجواب رفضا صريحا لما تضمنته مذكرة الدول، وكان هذا الرفض منويا كما قدمنا.
وبعد تسليم الجواب إلى معتمدي الدول أسرعت الحكومات البلقانية إلى تسليم بلاغها الذي أعدته للدولة العلية، وطلبت فيه مطالب كان من الثابت الأكيد لديها أن الحكومة العثمانية سترفضها. ونحن نكتفي هنا بذكر ما تضمنه البلاغ البلغاري؛ لأنه يشبه في جوهره ما طلبته حكومة الصرب واليونان، فهو يتضمن تسعة مطالب؛ أولها: أن تقسم الولايات العثمانية (في تركيا أوروبا) على أساس الجنسيات. ثانيا: أن ينتخب منها نواب للبرلمان العثماني يكون عددهم على نسبة عدد أهلها. ثالثا: أن يقبل المسيحيون في وظائف الحكومة وتراعى المساواة بينهم وبين المسلمين. رابعا: أن تكون جميع المدارس على اختلاف أديانها متساوية. خامسا: أن تكف الحكومة العثمانية عن إرسال المهاجرين. سادسا: أن تنشأ جندية محلية يعين فيها ضباط مسيحيون. سابعا: أن يجدد تنظيم الجندرمة تحت إمرة ضباط من سويسرا وبلجيكا وأن يمنحوا سلطة فعلية. ثامنا: أن يعين ولاة مسيحيون من سويسرا. تاسعا: أن تؤلف مجالس عالية نصف أعضائها من المسيحيين والنصف الآخر من المسلمين لمراقبة إجراء الإصلاح، وكان في نية ساسة البلغار كما قال مراسل التان أن يطلبوا من حلفائهم إخراج الجنود العثمانية من مقدونية وغيرها. إلا أنهم اتفقوا أخيرا على مطلب أصعب من ذاك الطلب وأدل منه على رغبتهم في إقفال كل باب للاتفاق، وهو أن تكون الحكومات البلقانية مشرفة على الإصلاح المطلوب، وليس في وسع الدولة العلية أن تقبل مثل هذا الطلب من دول صغيرة كان بعضها حتى سنة 1877 ولاية عثمانية، فنشأ عن مطالب البلقانيين أن الهياج اشتد في العاصمة العثمانية، وأقيمت المظاهر بطلب الحرب وقوي تيار الرأي العام حتى بات من الخطر الداخلي على الحكومة أن تصده بعنف، كما بات من الخطر الخارجي الأعظم أن تبطئ الحكومة في التعبئة، ولكنها لم توفق لسوء طالع الأمة العثمانية.
ولقد أضر تفاؤل تلك الحكومة ببقاء السلم أبلغ الإضرار بالسلطنة، وربما انتحل لها مريدوها من الأعذار أن الخطب الرسمية التي ألقاها أقطاب السياسة بقيت تعزز أمل المتفائلين خيرا إلى ما قبل إعلان الحرب ببضعة أيام، وأن وزير الخارجية الإنكليزية الذي كان الأمل منوطا بمساعدته السياسية قال في السابع من أكتوبر على مسمع من نواب الإنكليز: «إني لا أقدر الفشل للدول في مساعيهن، وأن إنكلترا ستبذل ما في وسعها لحفظ اتحاد الدول العظمى إن وقع ذاك الفشل.»
على أن ذاك العذر شديد الوهن؛ لأن المسائل الحيوية لا يجوز فيها التفاؤل الحسن ما دام لدى الساسة خطر أو شبه خطر خارجي، والسياسة المثلى في مثل تلك الحال أن تشتغل الحكومة بيمناها لتجعل الأهبة تامة، وتشتغل بيسراها لترجح كفة السلم على كفة الحرب. •••
طلبت حكومات البلغار والصرب واليونان تلك المطالب على صيغة لا يرجى معها سلام، وكانت حليفتها حكومة الجبل الأسود، قد أعلنت الحرب منذ 8 أكتوبر قبل مخاطبة معتمدي روسيا والنمسا الموكلين من قبل الدول بالسعي في سبيل السلم، وكانت الجنود العثمانية من جهة ثالثة قد أخذت تسافر إلى تراقيه وغيرها من أنحاء البلقان، وازداد هياج الجمهور العثماني في معظم أنحاء السلطنة فأيقنت الحكومة العثمانية - ولكن بعد ضياع الوقت الثمين - أن الكلام أصبح للمدفع، وقررت ألا تجيب حكومات البلقان على مذكرتها تحقيرا لها، واكتفى نوردانجيان أفندي وزير خارجتيها بأن يقتصر على إجابة الدول العظمى التي طلبت الإصلاح طبقا للمادة 23 من معاهدة برلين، وإليك فحوى جوابه:
أنا وزير خارجية جلالة السلطان أتشرف بتذكير سفراء الدول العظمى أن الحكومة السلطانية اعترفت بضرورة إجراء الإصلاح الإداري في ولايات تركيا أوروبا، واقتنعت بوجوبه إلى حد أنها تريد إجراءه بنفسها من غير أن يكون لأجنبي يد فيها، وهي ترى أن القيام بالإصلاح على هذا المنوال يعود بالسعادة والنجاح الاقتصادي، ويوثق عرى الوئام بين العناصر المختلفة من الأهالي طبقا لما تقتضيه روح الدستور.
وجدير بنا أن نذكر هنا أن من الأسباب الجوهرية في حبوط المساعي الإصلاحية، إحداث الاضطرابات والجنايات التي لم يبق شك ولا ريب في غاية محدثيها، وأن الحكومة العثمانية تقدر قدر البلاغ الودادي الذي رأت الدول إرساله في الظروف الحاضرة، وتشاركها من صميم الفؤاد في الجهد الذي تبذله لمنع الحرب وما تجره من الويل والكرب؛ لأن من واجب العالم المتمدن أن يتلافى حدوثها بجميع الوسائل السلمية، ونحن مقتنعون بأنا سبقنا إلى تسهيل سبيل المهمة الإنسانية التي تريد الدول أداءها بحل المعضلة الهائلة التي لديها.
وليس من مراد الحكومة السلطانية أن توضح هنا أن تنفيذ معاهدة برلين لم يكن طبقا لروحها ولا لحرفيتها، ولا أن تنظر في القيمة الباقية للمادة 23 من تلك المعاهدة، بل تقتصر على التصريح بأنها قررت من تلقاء نفسها أن تعرض على البرلمان العثماني قانون 1880 ثم ترفعه إلى جلالة السلطان للموافقة عليه عملا بمقتضى الدستور، ويمكن للدول العظمى أن تكون واثقة منذ اليوم بأن الحكومة السلطانية تنفذ القانون المذكور بكل تدقيق.
ثم رأى الباب العالي أن يصدر أوامره في 15 أكتوبر إلى معتمديه في عاصمة البلغار وعاصمة الصرب بالسفر منهما؛ لأن ابتداء القتال أصبح لا مناص منه في أقرب وقت بعد البلاغ الذي أرسلته الدول البلقانية، وعزمت الحكومة العثمانية على نبذه وإغفاله، وهذا ما كانت تنتظره الحكومات البلقانية بل ما كانت تريده وتعمل له.
وإذا أراد القارئ أن يعرف الصبر الذي اعتصمت الحكومة العثمانية بحبله في البدء، فحسبه أن يطلع على ما كتبه الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في الأستانة أيام الحرب، فقد ذكر أنه قابل دولة نوردانجيان أفندي وحادثه في موضوع الحرب، فقال له الوزير: «لم يكن في وسع أمة أوروبية عظيمة أن تصبر صبرنا وتحتمل ما حملنا من الإهانة، فإنه منذ شهرين دخلت عصابات مسلحة إلى أرضنا وقتلت عددا من جنودنا ونهبت بلادنا وهدمت بعض معاقلنا، فكان عملها إهانة واضحة لنا وهتكا لحرمة أرضنا، ولو وقع مثل هذا الحادث في أي بلد آخر لكان سببا كافيا للعدوان. أما نحن فقد غالينا في التسامح إلى حد الضعف، فدفنا قتلانا وجددنا معاقلنا وسكنا غضب الأهالي.»
ثم ذكر الوزير الإصلاحات التي أجراها مع زملائه أو حاولوا إجراءها، وما كان من عزمهم على طلب ستة عشر مستشارا إنكليزيا للولاة، ثم قال: «ولكن البلقانيين كانوا يندفعون في سبيل العداء والوقاحة بقدر ما كنا نتقدم في سبيل الإصلاح، أما اليوم فقد صرنا إلى الحرب، فلتكن الحرب ... إنها تنشب رغم إرادتنا وإرادة أوروبا ولا سيما فرنسا التي بقي رئيس وزارتها يسعى حتى آخر دقيقة في سبيل تلافيها، وإنا سندير رحاها بكل ما نملك من نشاط ووطنية.»
كارل ملك رومانيا التي تهددت بلغاريا بالحرب وأخذت منها سلستريا بدل حيادها.
جورج الأول ملك اليونان الذي قتل في سلانيك.
ولي عهد الصرب الحالي.
ولي عهد الجبل الأسود الحالي.
الأمير بوريس ولي عهد البلغار الحالي.
بسمارك رئيس مؤتمر برلين.
مؤتمر برلين وسترى علاقته بالحرب.
الأمير قسطنطين ولي عهد اليونان الذي صار ملكا بعد مقتل أبيه.
الجنرال سافوف القائد العام لجيش البلغار.
إعلان الحرب
أرسلت حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا إعلان الحرب إلى معتمديها بالأستانة في السابع عشر من شهر أكتوبر؛ لأنها لم تشأ أن تضيع الوقت الثمين بعد أن تم حشد جيوشها. ولما كان الضحى من اليوم التالي؛ أي 18 أكتوبر ذهب المعتمدون البلقانيون إلى وزارة الخارجية العثمانية ورفعوا إليها بلاغ دولهم، وهو يتضمن أن العثمانيين هم الذين أتوا عدة أسباب للعدوان منها الاستيلاء على كثير من البواخر اليونانية، وعلى الذخائر والمعدات الحربية التي كانت مرسلة إلى الصرب، ثم الاعتداء على الحدود البلغارية والحدود الصربية، وختم البلاغ بالعبارة الآتية: «نرانا مع الأسف مضطرين إلى تجريد سيوفنا.»
ثم غادر المعتمدون البلقانيون عاصمة السلطنة العثمانية، وظهر في اليوم نفسه منشورات رسمية من ملوك البلغار والصرب واليونان وصفوا فيها حالة «إخوانهم» في مقدونيا وصفا يهيج العواطف على تركيا، ولقبوا الحرب البلقانية «بالصليبية»، ثم ظهر منشور من جلالة السلطان يذكر الجنود العثمانية بمجد آبائها وأجدادها وبشجاعتهم التاريخية، ويحضها على احترام النساء والأطفال وسائر الذين لا يدخلون معمعان الحرب، فكان البون كبيرا بينه وبين منشورات ملوك البلقان؛ لأن «الخليفة» اجتنب وصف الحرب بالدينية، وإذا كان بعض العصابات الألبانية وغيرها لم يعملوا بوصيته فإنما الجرم يلقى على رءوسهم لا على جلالته.
وقبل إعلان الحرب البلقانية بقليل رأت الحكومة العثمانية أن تفرغ من أمر الحرب الطرابلسية، فقبلت الشروط الأساسية التي طلبتها إيطاليا لتكون مطلقة اليدين حيث يتهددها الخطر الأكبر. •••
كان إعلان الحرب البلقانية قبل أن يتم حشد الجيش العثماني كما روى الضابط الألماني هوشوختر الذي رافق دولة محمود مختار باشا، ولكن الآمال كانت كبيرة في الأستانة، والمراجع العالية كانت تلتهب شوقا إلى إظهار قوة الجيش العثماني كما قال أيضا ذاك الضابط الألماني، ثم إن الجيش نفسه كان يتوق إلى القتال بعد أن وقف أشهرا عديدة أمام الحرب الطرابلسية وهو لا يستطيع الوصول إلى أولئك الأعداء الذين هجموا على طرابلس، وكل من وقف على الجرائد الأوروبية الكبرى يعلم أن عددا غير قليل من القواد ولا سيما القواد الألمانيين كانوا يرجحون أن طالع الجيش العثماني سيكون سعيدا في المعارك المقبلة.
وإذا راجعنا ما كتبه الموسيو استفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في عاصمة السلطنة أيام سفر الجنود العثمانية إلى مواقع القتال، وجدنا ما يدل على هذا الرأي الذي كان شائعا، قال الكاتب المشار إليه في مؤلفه المسمى «عند سرير تركيا»: إني سألت الموسيو جورج ريمون الذي كان مع الأتراك في طرابلس عن عددهم هناك، فقال لي: إني أوكد لك كل التأكيد أنهم لم يكونوا في طرابلس أكثر من 1700 تركي، فعجبنا وأخذنا نتساءل قائلين: «إذا كان 1700 تركي قاوموا مائة ألف رجل طلياني فأي عدد تحتاج إليه الحكومة التركية لقهر 200 ألف بلغاري، ولكن الحرب هي - لفرط الأسف - أبعد شيء عند حساب الحاسبين.»
ثم روى حديثا يدل على الحالة النفسية التي كانت عليها جنود الرديف، قال:
ذهبت إلى مقربة من سان استفانو؛ تلك المدينة الصغيرة التي اكتسبت صفة تاريخية مضاعفة بنزول الجيش الروسي فيها سنة 1878، ثم بدخول الجيش الذي قدم من سلانيك سنة 1909 (لتأييد الدستور)، فوجدت خمسة عشر ألف جندي عثماني معسكرين، ولما وصلت كانوا جالسين جماعات جماعات على شكل حلقات، بعضها يحيط بضابط يشرح بعض النظريات، والبعض يجهز العدات، وهم عامرو البنيان كبيرو الجثمان كالذين رأيتهم في الأستانة، فدعوت إلى أحدهم بعد استئذان ضابطه وسألته: من أين أنت؟ - من أنقرة (وهي تبعد 500 كيلومتر عن البوسفور). - كم يوم قضيتم في السفر إلى هنا؟ - سبعة أيام. - هل تركت عددا من الجنود وراءك ؟ - ألوفا كثيرة . - كم تقبض من النقود في اليوم؟ - ثلاثة قروش. - وهل تدفع إليك؟ - بانتظام. - متى تؤمل الرجوع إلى أنقرة؟ - بعد شهرين، فإنا قادمون لنزهة حربية. - هل تأسف على شيء تركته وراءك؟ - نعم، آسف على الموسيقيين، ولكنهم لا يلبثون أن يصلوا، ونحن محتاجون إليه لنرقص بنات البلغار على نغمات موسيقاهم.
تلك هي الحالة النفسية عند معظم الجيش يوم إعلان الحرب وهي عامل كبير من عوامل النصر، ولكن سوء الإدارة أودى بها كما يودي السوس بالشجر النضير. (1) الجيش العثماني وقت إعلان الحرب
كان أركان حرب الجيش العثماني يجهلون من سرائر الجيش البلغاري وسائر جيوش البلقانيين بقدر ما كان يعرف أركان حرب الجيش البلغاري من شئون العثمانيين، وجل ما كان يعتقده كبار القواد في الأستانة لا يخرج عما ذاع وشاع من أن الجيش البلغاري منظم والجيش الصربي والجيش اليوناني سارا خطوات كبيرة في سبيل التنظيم، لكنهم لم يكونوا يحسبون حساب التحالف البلقاني ولم يتأهبوا له بوضع خطة حربية عامة، بل كانوا ينظرون إلى الجيش البلغاري على حدة، وما فكروا في الخطة الحربية العامة إلا بعد أن ثبت لهم خبر التحالف بين البلغار والصرب، وإذا كانت الجيوش العثمانية موزعة من قبل في أنحاء البلقان فليس توزيعها دليلا كافيا على أن الحكومة العثمانية كانت تتوقع منذ مدة مديدة تحالفا قويا عليها.
1
ولما وضعت نظارة الحربية العثمانية نظاما جديدا للجيش العثماني سنة 1909 على أثر إعلان الدستور، ظهر من حسبانها وما نشر من بيانها أن الدولة العثمانية سيكون لها قوة حربية لا تخاف معها دول البلقان ولا تكترث لعدوانها، فإن هذا النظام قضى بتقسيم الجيش العثماني إلى أربعة أقسام أو جيوش منها: جيشان للولايات العثمانية الأوروبية، والاثنان الباقيان لسائر أنحاء السلطنة. وجيشا الولايات الأوروبية يمكنهما أن يتلقيا قوة للإبدال أو الإنجاد من جهات آسيا الصغرى، ومحل الجيش الأول منهما خط يمتد من أدرنه حتى الأستانة، وهو مؤلف من الفيلق الأول: المعروف بفيلق الأستانة، والفيلق الثاني: المعروف بفيلق تكفور طاغي (رودستو) والفيلق الثالث: المعين لقرق كليسا وما جاورها ، والفيلق الرابع : لأدرن وحصونها، وقوة هذا الجيش تبلغ حسب النظام الجديد 220000 جندي من المشاة و6000 فارس و454 مدفعا.
أما الجيش الثاني الذي خصص للولايات المعروفة باسم مقدونيا؛ فقد كان أقوى منه بحسب ذاك النظام؛ لأن مجموعه يبلغ 340000 رجل و500 مدفع، وكان من المأمول أن الجيشين المذكورين يمكنهما أن يقويا في وقت الحرب بفضل النجدات التي كان يرجى إرسالها من آسيا الصغرى. •••
غير أن تلك القوات الجميلة لم تكن إلا على الورق. والصحيح أن نظام 1909 أضر بالجيش العثماني بدلا من أن ينفعه ويعزز جانبه، وليس ضرره بناشئ عن فساد النظام نفسه بل عن سبب آخر، هو أن كل نظام يدخل على جيش - كما يقول الاختصاصيون - يدع هذا الجيش ضعيفا غير متماسك الأجزاء إلى أن يتم، وكل دولة تدور بها الأخطار مثل تركيا لا يجوز لها أن تهدم نظام جيشها دفعة واحدة لتقيم مقامه نظاما آخر، بل يجدر بها لتأمن الخطر أن تغير ذاك النظام شيئا فشيئا حتى لا يتزعزع بنيان قواتها الحربية فيطمع فيها العدو الساهر، كما فعلت روسيا مع تركيا نفسها سنة 1820، وكما فعلت الممالك البلقانية في هذا الزمن، ولقد أظهر الكتاب الحربيون ومن جملتهم الموسيو وجنر أن الحرب البلقانية نشبت ونظام الجيش العثماني لم يكمل، والرديف لم يتمرن، وبعض القواد لم يتعودوا تحريك الجنود الجرارة في ساحات القتال، وعدد الضباط اللازم لم يتم، فإن الجيش كان يحتاج إلى 5000 ضابط كما قال فخامة مختار باشا الغازي في حديث، وزد على ذاك كله أن السكك الحديدية لم تكن تنقل العدد الذي كان يرجى نقله.
وكان من نكد الدنيا وسوء الطالع على تركيا أن أولياء الأمور قد اقترفوا خطأ كبيرا في أوائل شهر سبتمبر؛ أي قبل إعلان الحرب بنحو شهر ونصف، وذاك أنهم صرفوا الرديف الذي كان تحت الهلال، فجاء صرفه في الوقت الذي يجب فيه تعزيزه وتقويته. وفي منتصف الشهر المذكور صرفت أيضا طبقة من الجيش العامل، وفي 23 منه عادت تركيا تعبئ عشر فرق من الرديف على حدود البلغار والصرب بحجة أنها تنوي تمرينهم، ولكن تعبئتها كانت بطيئة صعبة، ولما هبت الممالك المتحالفة إلى التعبئة العامة بعد بضعة أيام لم يكن لدى وزارة الحربية العثمانية وقت كاف للتعبئة التامة وحشد الفيالق في الوقت الموافق لها.
وليس من خدمة الحقيقة والتاريخ أن نهمل هنا خطأ آخر ارتكبته الحكومة العثمانية: وهو تجنيدها لرعاياها البلغاريين والصربيين واليونانيين، فإنها ظنت - وما أبعد ظنها عن الصواب - أن وضعهم في مقدمة ألوف من المسلمين يضطرهم إلى إطلاق النار على أعداء الدولة، ولكنهم كانوا يطلقون رصاصهم في الفضاء كما قال غير واحد منهم، ولما لاحت بارقة النصر في جانب إخوانهم في الجنسية والدين طاروا إليهم ورموا طرابيشهم ووضعوا القبعات على رءوسهم، ولا عجب ولا غرابة فيما فعلوا بل العجيب الغريب أن يصدقوا تركيا قولا أو عملا، وكل من يفكر في تاريخهم وأحوالهم يعلم أن «عثمانيتهم» اسم بلا مسمى، وأن كل فريق منهم يحن إلى الدولة التي من دمه وأصله، فالبلغاري يميل إلى البلغار، والصربي إلى الصرب، واليوناني إلى اليونان، ولو بذلت تركيا في سبيل راحتهم دم القلب وسواد العين، لما فضلوها على دولهم الأصلية، بعكس ما نظنه في بقية المسيحيين العثمانيين الذين لا دولة لهم من جنسهم، فإنهم وإن كانوا يذكرون الماضي والقلب حزين، يجدون من مصلحتهم أن يمتزجوا بالدولة العثمانية، وليس في الدنيا أقوى من المصلحة على التوفيق، ولكن رأس الشروط لحملهم على الصفاء لها هو إقامة الحق وتأييد العدل، وأقرب البراهين التي نقدمها على إمكان خدمتهم للوطن العثماني هو أن معظم جنود الأرمن أبلوا بلاء حسنا في القتال، وما عدد الذين حذوا حذو البلقانيين المسيحيين في الهرب والخيانة إلا قليل جدا، ولما قامت إحدى الجرائد تطعن عليهم كتب المرحوم ناظم باشا كتابا إلى جرائد الأستانة مدح فيه الجنود الآرمنية، واعترف بحسن خدمتها في المعارك وأمل أن يكون لها مستقبل حسن في الجيش العثماني. •••
ويجدر بنا أن نختم هذا الفصل بأهم ما كتبه الماجور فون هوشوختر الألماني (الذي كان أحد أساتذة الجنود العثمانية) في شأن الخلل قبل الحرب، قال: إن حكومة الأستانة لم تكن تجهل أن الحرب إذا نشبت بين تركيا والبلغار ستكون في جهات أدرنه، وأن البلغاريين يتأهبون لها، ومع ذاك كله فإنها لم تزد هناك الخطوط الحديدية، ولم تصلح الطرق ولم تنشئ الجسور، ولم تعتقد أخيرا أن كفة الحرب أرجح من كفة السلم، بدليل أنها أطلقت سراح الرديف قبل إعلان الحرب بقليل، فضعفت القوة التي بقيت إلى حد أن طوابير كثيرة نزل عدد الواحد منها إلى 350 رجلا، ولما عادت الحكومة فأمرت بالتعبئة وجدت نفسها عاجزة عن لحاق العدو في هذا سبيل، وما تمت تعبئة جيشها إلا بإبطاء لا يتصور.
وكانت دوائر النظارات مختلة، ثم جاءتها الأعمال الكثيرة قبل إعلان الحرب فازداد الخلل، وربما كان التنافس في مسألة القيادة بين ناظم باشا وعبد الله باشا من أسباب الشؤم على الجيش العثماني؛ لأن نقل الأوامر تأخر كثيرا بسبب ذاك التنافس.
وكان خط السكك الحديد الشرقية وحيدا، ليس معه إلا بعض خطوط لنقل العدة والأمتعة، وعدد الأرصفة غير كاف، ولقد أظهر الموظفون إخلاصا تاما في عملهم لكنهم ما لبثوا أن رزحوا تحت أعباء المتاعب.
وزد على ذاك كله أن آلات السكك الحديدية أهملت بلا تنظيف، فما انقضت مدة من الزمن حتى أصبحت غير صالحة، ثم إن المياه لم تكن كافية، واشتداد تيار الناس من أهالي وجنود أدى إلى اختلال عظيم؛ حتى إن القطارات العديدة كانت تقضي عدة أيام في اجتياز 50 أو 60 كيلومترا.
أما الجنود - وهنا أريد الجيش العامل - فقد كانت جيدة ومجهزة تجهيزا حسنا ومتعلمة تعليما كافيا، وأما الرديف فقد كان جاهلا للتعليم العسكري؛ لأن العدد المتعلم منه فني بجهات اليمن وحوران وألبانيا وطرابلس، ومع ذاك كله فإن الجيش العثماني لو كان فيه عدد كاف من الضباط المتعلمين لما بلغت به الحالة من الخطر إلى تلك الدرجة، ولكن القواد المتفوقين لا تجدهم بين كبار الضباط العثمانيين وهؤلاء لا يخالطون الضباط الشبان.
ولما وصل الرديف كان منظره حسنا إلى حد ما، ولكنه كان تعبا من طول شقة السفر، سيء الطعام سيء الإدارة، وبعضه من ذوي العاهات، والجندي القديم الذي كان في العهد الحميدي لا يعرف اليوم كيف يطلق الرصاصة، وكثير من أولئك الجنود لم يتعود إلا استعمال البندقيات التي تحشى من فوهتها، وكانت البطاريات حسنة لكنها محتاجة إلى الخيل، وما حصلوا عليه منها كان ضعيفا.
وكانت معدات النقل التي رأيتها حسنة لكنها قليلة، والعربات غير متينة، على أنني لم أر مطابخ نقالة ولا أفرانا حربية. فقد كان من الواجب على الحكومة أن تهتم بها وتودع مقادير عظيمة من المئونة في جهات المعارك، أما ترتيب إدارة الذخيرة كما نفهمه نحن فلم يكن مضمونا، مع أن الواجب كان يقضي على ولاة الأمور بأن يتوقعوا سوء حالة السكة الحديدية، ويعدوا عربات للنقل غير التي تجرها الجواميس، وبأن يعينوا لأقسام إدارة الميرة والذخيرة موظفين أكفاء مسئولين، فقد رأيت بعيني أن المدافع كانت محتاجة إلى الذخيرة في جميع المعارك، وأن الذخيرة كانت موضوعة وراء الجيش.
على تلك الحال أرسل الجيش العثماني وأثقاله إلى ساحات القتال، فقف بنا ننظر هنا في حالة الجيش البلغاري الذي سيقتحم أكبر المعارك الفاصلة. (2) الجيش البلغاري وقت إعلان الحرب
مضى نحو خمس وعشرين سنة وبلغاريا تتأهب لمحاربة تركيا، وتضع نصب عينها الهجوم على البلاد العثمانية لا الدفاع عن بلادها، والدليل الدامغ على خطتها الهجومية هو أنها لم تبن القلاع والمعاقل الهائلة بل أنفقت معظم المال الذي خصته بالأهبة على تحسين أسلحتها وزيادة عدتها وتعليم جنودها، والحكومة العثمانية نفسها لم تكن تجهل خطتها الهجومية، بدليل أنها عينت أموالا طائلة لتحسين أدرنه عملا بنصيحة المارشال فوندر غولتز الألماني، فإن الغرض من تحصين ذاك الموقع وتحصين قرق كليسا لم يكن يقصد منه إلا تمكين الجنود العثمانية من الدفاع يوم هجوم البلغاريين، ريثما يتم حشد الجيش العثماني ويصبح قادرا على صدم الجيش البلغاري صدمة ساحقة. وكل من اطلع على المؤلفات التي صدرت أخيرا في موضوع الحرب يجد مؤلفيها الأكفاء مجمعين رأيا على أن بلغاريا أبدت من الجهد العظيم في الاستعداد ما يفوق كل جهد بذلته أية دولة كبيرة بالنسبة إلى عددها، فإن أهالي بلغاريا الذين لا يربو عددهم عن ثلاثة ملايين و750 ألف نفس قدموا لدولتهم من الجنود الصالحة للقتال وللخدمة الإضافية في الإدارة العسكرية وغيرها، نحوا من نصف مليون؛ أي 15 في المائة من مجموع أهل البلاد، وهذا لم نر مثله في دولة من الدول حتى فرنسا،
2
وطبيعي أن الجهد المالي يجب أن يكون على نسبة الجهد الحربي.
أما الخدمة العسكرية فهي إجبارية بالبلاد، يقوم بها كل رجل عمره من عشرين إلى ست وأربعين سنة، ولا يعفى إلا المسلمون بعد أن يدفعوا البدل العسكري، وجميع الرجال المخصصين للخدمة الإضافية يحق للحكومة أن تدعوهم لأدائها سحابة أربعة أشهر كما يحق لها أن تدعو وقت الحرب كل شاب عمره سبع عشرة سنة، وإن كان موعد خدمته لم يحل، ومدة الخدمة القانونية سنتان للمشاة وثلاث للفرسان وغيرهم، والعدد الرسمي الذي تعتمد عليه بلغاريا وقت الحرب هو 7500 ضابط و385000 جندي، وهناك عدد للاستبدال وللخدمة في غير مواقع القتال، على أن الجهد الذي بذلته بلغاريا في حرب البلقان تجاوز ما كان في الحسبان. ومعظم الرديف مدرب مجرب خلافا لما ظهر في الجيش العثماني. والقواد كلهم متعلمون واسعو الاطلاع كما شهد جميع المراسلين الحربين وكما تشهد تراجم حياتهم، وعدد ضباطهم لم يكن قليلا بالنسبة إلى جيشهم كما كان عدد الضباط العثمانيين.
غير أن الجيش البلغاري يعتمد على البلاد الخارجية في إعداد ما يكفيه من الخيل، وهو يحتاج وقت الحرب إلى 70 ألف حصان وحيوان، وليس عنده منها إلا عشرة آلاف حصان و4000 للبطاريات مودعة عند أفراد يأخذون لها مرتبا.
أما أسلحة الجيش البلغاري فتتألف من بندقيات منليخر المتعددة الطلقات، وكل جندي يأخذ لبندقيته 150 خرطوشة ويبقي وراءه 100 أخرى، وقسم من الجيش يقاتل ببندقية من طراز بردان ومعها 80 خرطوشة.
ومن 108 بطاريات سريعة الإطلاق للميدان مصنوعة في معامل شنيدر وكروزو الفرنساوية، وعدد قليل من مدافع كروب، وكل مدفع منها له 500 قنبلة.
ومن مدافع ثقيلة ومدافع جبلية وكلها فرنساوية، ومعلوم أن البندقيات والمدافع العثمانية هي ألمانية، وبعضها من طراز مارتيني القديم.
تلك هي حالة الجيش البلغاري يوم زحفه إلى مجال القتال. (3) جيوش الصرب واليونان وقت إعلان الحرب
كان الجيش الصربي متأهبا كالجيش البلغاري ومسلحا بالمدافع الفرنساوية، ومقسوما إلى أربعة أقسام؛ أولها: يتألف من جنود عمر الواحد منهم 21-31 سنة، والثاني: من الذين عمر الواحد 31-38 سنة، والثالث: من الذين عمرهم 38-45، والرابع - وهو المسمى بالميليس - يتألف ممن عمره 17-21 و45-50 سنة.
أما الخدمة فإجبارية، وهي سنتان للفرسان و18 شهرا للجنود الأخرى، والجيش المعبأ كان مؤلفا
3
من خمس فرق من الجيش العامل، قوة الواحدة 17000 رجل و530 حصانا و36 مدفعا، ومن فرقة رديف وفرقة فرسان وخمس فرق من القسم الثاني وخمس من القسم الثالث، وآلاي من الطوبجية الجبلية وآلاي مسلح بمدافع ميدان، وعدد من الجنود الأخرى يبلغ 20000 ألف و600 ضابط للاهتمام بالنقل وغيره. •••
أما الجيش اليوناني فقد نظمه ضباط فرنساويون بعد حرب 1897، وكان مسلحا بالمدافع الفرنساوية وبندقيات منليخر، وبلغ عدد الجنود المعبأة وقت الحرب 185 ألف رجل، ثم أضيف إليهم عدد من الكريتيين والغاريبالديين المتطوعين فبلغ 200 ألف رجل أو أكثر من هذا العدد، ولقد أجمع المراسلون الحربيون على أن الضباط الفرنساويين نهضوا به نهضة كبيرة في نحو سنة وثمانية أشهر، بدليل أن تعبئته تمت على تمام النظام. •••
أما جيش الجبل الأسود فهو كما قال الكولونل بوكابيل لا يعد إلا من طراز الجيوش المسماة «بالميليس»، وقانونه العسكري يقضي بأن يجتمع تحت رايته كل رجل من سن 18 سنة إلى سن 62، وجنوده العاملة تتألف من الذين تختلف أعمارهم بين 18 و53، والجنود الاحتياطية من الذين أعمارهم بين 53 و62، ومجموع جيشه وقت الحرب 37 ألف رجل يقسمون إلى أربع فرق، وهو يملك بطاريتين روسيتين للميدان وثلاث بطاريات إيطالية، وسبع بطاريات جبلية منها أربع روسية وثلاث إيطالية وست بطاريات أخرى.
وليس عنده من الفرسان من يستحق هذا «الاسم» ولا معدات حديثة للنقل ولا إدارة صحية، ولكن الصفات الحربية تسري في كل جبلي مع الدم. (4) المعارك في تراقيه ومقدونيا وألبانيا وعلى ظهر البحر
لدينا طريقتان في تقسيم الكلام على المعارك ؛ أولاهما: النظر إلى تاريخ كل معركة وتقديمها على ما حدث بعدها، والثانية: تقسيم البلدان التي حدثت فيها المعارك والنظر في معارك كل قسم منها على حدة. ونحن متبعون الطريقة الثانية؛ لأنها أقرب إلى الأفهام، وأول ما نبدأ به المعارك التي حدثت بين العثمانيين والبلغاريين في تراقيه، ثم بين العثمانيين والصربيين، ثم أعمال اليونان الحربية والبحرية، فأعمال الجبل الأسود، فأعمال الأسطول العثماني.
وخليق بنا أن نسارع إلى تسكين بال القارئ الذي ينفر من الإسهاب فنعده بإهمال كل تفصيل ثانوي لا يهم إلا الحربيون الفنيون. واعتمادنا في هذا الباب الفني على فريقين من الكتاب الحربيين أحدهما: كان مع الجيش العثماني، والثاني: مع جيوش أعدائه، وكل رواية لا يمكن فيها التوفيق بين أقوال هذين الفريقين لم تصب عندنا نصيبا من العناية؛ لأن الغاية الوحيدة التي نسعى إليها إنما هي خدمة الحق، وخدمته صعبة مع تضارب الآراء وتصادم الأهواء. (4-1) زحف العدوين في تراقيه
كانت القوات العثمانية المعدة لقتال البلغاريين في تراقيه مؤلفة أولا: من أربعة فيالق، وهي فيلق الأستانة، وفيلق تكفور طاغي (رودستو)، وفيلق قرق كليسا، وفيلق أدرنه، ثانيا: من 8 فرق الرديف منها اثنتان جمعتا من الأستانة وسافرتا بلا إبطاء، وست من آسيا الصغرى (وهي فرق أركلي وقسطموني وأنقرة وعشاق وأفيون قره حصار)، إلا أنها لم تصل إلى مواقع القتال في الوقت الموافق لمصلحة الدولة بل وصلت مبطئة كل الإبطاء. أجل إن جموعا مختلفة من الرديف وصلت إلى قرق كليسا قبيل سقوطها، ولكن بقية الرديف لم تصل إلى تراقيه إلا بعد انتهاء معركة لوله بورغاز؛ أي بعد الضربة الهائلة التي أكدت نجاح البلغاريين.
وكانت تلك القوات معقودة اللواء لعبد الله باشا، على أنه كان تحت إمرة ناظم باشا الذي عين وكيلا لجلالة السلطان في القيادة العامة.
حشد القائد العثماني تلك القوات على شكل مربع الأضلاع ممتد من أدرنه إلى قرق كليسا، فديمتوقة، فلوله بورغاز، وسلم قيادة الفيلق الأول إلى ياور باشا وقيادة الفيلق الثاني إلى طورغود باشا، وأوقفه بين ترك بك وقره أغاج، وقيادة الفيلق الثالث إلى محمود مختار باشا، وأوقفه عند بيكار حصار (أو بونار حصار)، وترك فرقتين من الفيلق الرابع في لوله بورغاز تحت إمرة عبوق باشا.
تلك هي المواقع التي حشدت فيها الجنود العثمانية
4
بقيادة عبد الله باشا لمقاتلة البلغار، وهو - على قول الماجور فون هوشوختر أحد أساتذة الجيش العثماني - رجل ذو قيمة وكفاءة، معروف بقوة الإرادة، واسع الاطلاع في العلم الحربي، على أن أكبر قائد في العالم لا يستطيع شيئا مذكورا حين يرى أن عدوه الأول خلل الإدارة العسكرية. •••
أما القوات البلغارية التي زحفت أولا على تلك القوات العثمانية في تراقيه فهي؛ الجيش الأول: بقيادة الجنرال كوكنتشيف ومعظم رجاله من جهات صوفيا وفيلبوبولي (أوفيلبه كما يسميها الأتراك)، وموقع حشده يانوبلي (جامبولي)، ثم الجيش الثاني: بقيادة الجنرال إيفانوف وموقعه طرنوى (تيرنوفو)، ثم الجيش الثالث: بقيادة الجنرال داتكو ديمتريف، وموقعه قزيل أغاج (كزيلاغاتش)، ويظهر من قول عدة مراسلين أن التعبئة والحشد لم يتطلبا أكثر من خمسة عشر يوما.
أما القائد العام فالجنرال سافوف صديق ملك البلغار، وهو مشهور بالحزم والعزم واحتمال المسئولية والمعارف الحربية، قال الموسيو وجنر: «إنه في طليعة الذين أدخلوا جميع الإصلاحات الحربية الحديثة على الجيش البلغاري، وأنه كان يعرف كل شبر من الأرض التي حدثت فيها المعارك، ولا يجهل شيئا من أحوال الجيش العثماني، ولما أعلنت الحرب قال: «أنا أراهن على ضرب عنقي أن جيشنا سيقهر الجيش العثماني بعد أيام».»
بدأ البلغاريون بالحركات الحربية في 18 أكتوبر؛ أي يوم إعلان الحرب، فزحف الجيشان الثاني والثالث قاصدين أدرنه من جهة، وقرق كليسا من جهة أخرى، وزحف الجيش الأول بينهما.
وروى الماجور فون هوشوختر أن الخطة الحربية الأصلية التي نصح المارشال فوندرغولتز لأركان حرب الجيش العثماني باتباعها في تراقيه؛ هي أن يلزموا خطة الدفاع ريثما يتم حشد الجيش العثماني. على أن هناك خطة أخرى أشار إليها الكولونل بوكابيل، وهي على ما قيل كانت تقضي بقسم القوات العثمانية إلى ثلاثة جيوش، يقيم منها اثنان عند أدرنه وقرق كليسا، والثالث يأتي بحرا من جهة ميدية لسحق ميسرة البلغار، ولكن السرعة الهائلة التي أظهرها الجنرال سافوف وجيشه في الزحف والهجوم لم تمكن أركان حرب الجيش العثماني من النجاح فيها، ولا سيما بعد سقوط قرق كليسا على وجه لم يذكر مثله في تاريخ الجيش العثماني كما سترى.
أما خطة الجيش البلغاري فهي تتوقف على اجتناب فتح أدرنه في بدء الحرب، وعلى السرعة العظيمة في قهر القوات العثمانية الأخرى بقصد أن لا يترك للدولة العلية وقتا كافيا لحشد جيوشها وتعزيز جوانبها قبل المعارك الفاصلة، وبقصد أن تكون النفقات المالية أقل ما يستطاع. (4-2) حركات الجيش الثاني للبلغار
سقوط مصطفى باشا
زحف الجيش البلغاري الثاني إلى جهات أدرنه من وادي مريج (مارتيزا) ومن الضفة اليمنى لطونجة، وتقدم بعض فرقه إلى جهة مصطفى باشا التي لم يكن فيها إلا حامية صغيرة فلم يجد إلا مقاومة ضعيفة، ثم تقهقر العثمانيون بسرعة؛ لأن القائد العثماني لم يكن يرغب في معركة كبيرة هناك، ولشدة سرعتهم في التقهقر فاتهم أن ينسفوا ثلاثة جسور كان نسفها مقررا من قبل، على أن بعض الجنود تنبه إلى الأمر فألهب موقدا واحدا من الديناميت الذي كان معدا لنسفها فلم يحدث إلا أضرارا قليلة، فدخل البلغاريون مصطفى باشا وهي أول أرض عثمانية وقعت في قبضتهم.
ولما طير القائد البلغاري خبر فتحها إلى ملكه انتقل إليها ومعه أركان حربه ونجلاه بوريس وسيريل، وكان من تقاليد البلغاريين القدماء أن ملكهم إذا دخل أرضا لعدوه بعد النصر، خطا الخطوة الأولى على الأسلحة التي غنمها جيشه، فأراد الملك فردينان أن يعيد تلك العادة بعد مئات من السنين. ولما وصل القطار به جيء ببندقية من بندقيات العثمانيين فوضعها تحت قدميه ووقف عليها نحو دقيقة من الزمن، وأبدل البلغاريون اسم مصطفى باشا فسموها «فرديناندوفو»، ثم دخل ملكهم تلك المدينة الصغيرة باحتفال كبير مشى فيه كبار رجالهم الدينيين بملابسهم المذهبة التي يزدانون بها في الحفلات الدينية الكبرى، وإنا كعثمانيين نذكر تلك الحفلة والأسف يملأ الصدر، وأشد ما يؤلم فيها أن الذين ساعدهم حسن الطالع فأقاموها لم يكونوا بالأمس إلا ولاية عثمانية بلغت ما بلغت من العزة والمنعة، بفضل الإصلاح الذي نشتاق إليه اشتياق الظماء إلى الماء والجياع إلى القصاع.
وبعد أن فتح البلغاريون مصطفى باشا أمر قائدهم باتباع العثمانيين المتقهقرين فزحفوا حثيثا على ضفتي نهر مريج (ماريتزا)، وحدثت معركة صغيرة في جرمن فازت فيها الجنود البلغارية.
وكان معظم الجيش البلغاري الثاني مستمرا على الزحف إلى جهة أدرنه، ولما وصلها أراد أن يفاجئ حصونها الغربية والجنوبية الغربية بهجمة قوية؛ لأن الخطوط الحديدية منشأة في تلك الجهة. وقد تباينت أقوال المراسلين في سبب تلك الهجمة، مع اعتقاد أركان حرب البلغار أن أدرنه محصنة أفضل تحصين فلا يمكن فتحها بهجمة أو عشر، ولكن الراجح ما ذكره الكولونل بوكابيل وهو أن الجنرال إيفانوف قال في نفسه: «إذا لم نفلح في الهجمات الأولى فإنها تعود علينا بشيء من النفع، لكونها تعد لنا المحل اللازم لوضع بطاريات الحصار الضخمة.» وليس ببعيد عن الصواب قول الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي: وهو أن أركان حرب الجيش البلغاري الذين اهتموا أشد اهتمام بإخفاء الحركات الحربية، وأبوا على الجنود أن يكتبوا كلمة إلى أهلهم حتى لا يعرف أحد موضع إقامتهم، أرادوا أن يوهموا العثمانيين والصحافيين وغيرهم أنهم يريدون أخذ أدرنه عنوة في أوائل الحرب، ثم دلنا الواقع على أنهم أجلوا الهجوم الأكبر على أدرنه إلى ما بعد المعارك الفاصلة. فلندعهم حول أدرنه الآن ونلتفت إلى الجيش البلغاري الأول ثم إلى الجيش الثالث الموكلين بأخذ قرق كليسا من الجهة الشرقية. (4-3) معركة قرق كليسا
رعب حاميتها: المشاهد الأليمة
تقدم أن الجيش البلغاري الأول زحف إلى الوسط فيما بين الجيش الثاني الذي سار إلى جهة أدرنه، والجيش الثالث الذي قصد قرق كليسا، وكان غرض الجيش الأول على الأخص أن يعضد الجيش الثالث في أخذ قرق كليسا عنوة واقتدارا ولو كبرت خسارة البلغاريين؛ لأن الإبطاء يفسد عليهم خطتهم، ولكن مساعدته انحصرت في قتال جانب من العثمانيين ومنع كل صلة بين قرق كليسا وأدرنه، وكان الفوز حليفه في ذاك القتال ، ثم ذهب عدد عظيم منه إلى جهات أدرنه فانضم إلى الجيش الثاني.
أما الجيش الثالث المذكور فقد اجتاز الحدود العثمانية في 19 أكتوبر؛ أي بعد إعلان الحرب بيوم واحد، وكان مقسوما إلى أربعة أقسام؛ قسم الميمنة: الذي سار نحو أركلر، وقسمي القلب: اللذين اتجها نحو قرق كليسا، وقسم الميسرة: الذي زحف شرقي سترانجه طاغي.
وكان أول خط منيع للعثمانيين قائما على نحو 8 كيلومترات شمالي قرق كليسا، وهناك طرق وعرة تساعد على الدفاع، فبقي البلغاريون ثلاثة أيام (20 و21 و22 أكتوبر) حتى تمكنوا من صد الجنود العثمانية إلى الموقع نفسه.
ولما أقبلت ليلة 23-24 أكتوبر اشتدت الأمطار واكفهر وجه السماء، وما كانت الساعة الثامنة مساء حتى تقدمت
5
أورطتان من الجنود البلغارية نحو موقع قرق كليسا، ثم زحف القسم الذي كان في أقصى الميسرة فجاءت تلك الهجمة البلغارية سببا في رعب غريب لا يسهل تصديقه عن الجيش العثماني الذي كتب تاريخ مجده بدمه. وكان من نتائج ذاك الرعب أن الفصائل العثمانية أخذت تطلق الرصاص بعضها على بعض في إحدى الجهات، ثم تقهقرت لا تلوي على شيء إلى جهة بابا اسكي بيكار حصار، بدلا من أن ترجع إلى الحصون والمعاقل التي كانت هناك، وذهب بعضها إلى قرق كليسا نفسها فأسهب وأغرب في وصف الفشل حتى سرت عدوى الرعب إلى بقية الجنود التي كانت في الموقع فأسرعت إلى اللحاق به.
وروى الكولونل بوكابيل الفرنساوي والماجور فون هوشوختر أن العثمانيين هم الذين هجموا، خلافا لرأي محمود مختار باشا الذي كان يعتقد - على رواية الماجور المذكور - أن الجنود لم تكن أهلا للهجوم، ولا سيما أن عددا من الضباط والجنود الذين قدموا في ذاك اليوم لم يكونوا يعرفون شيئا من جهات قرق كليسا، ولما دوى المدفع وصفر الرصاص تقهقرت مقدمة البلغاريين فتبعهم العثمانيون، وإنهم لكذلك إذا بالبلغاريين يكشفون عن خنادق مملوءة بمدافع الميتراليوز والمشاة، فانخلعت قلوب الرديف العثماني رعبا من تلك المفاجأة وعمد إلى الفرار. وإنه ليشق علينا وايم الحق أن نذكر هذا الحادث الأليم، بيد أن خدمة الحقيقة فوق كل شيء، ثم إن القواد والوزراء العثمانيين أنفسهم لم ينكروا ذاك الرعب الغريب، قال الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان وقتئذ في الأستانة:
كنت أتعشى مساء ذاك اليوم (أي بعد سقوط قرق كليسا) عند وزير الخارجية العثمانية، وإني لا أزال أتمثله نصب عيني وهو داخل إلى ردهة الاستقبال أصفر اللون كالح الوجه، وأسمعه يقول لنا بصوت خافت: «لقد وقع حادث ليس له نظير في تاريخنا ... وقع أن جنودنا تركت قرق كليسا من شدة الرعب ...» ثم قص علينا تفصيل الحادث، وذكر أن التلغرافات المتقطعة الدالة على شدة الهلع ترد تباعا منذ أربع وعشرين ساعة على أركان الحرب، ومنها ما يفيد أن فرسان البلغار هجموا على قرق كليسا مع أن البلغار لم يكن عندهم فرسان، ومنها ما يدل على أن الخسارة عظيمة مع أن الإحصاء الرسمي الذي أرسل إلى الأستانة يدل على أنها لم تزد عن مائة رجل بين قتيل وجريح، ثم قال الوزير بصوت منخفض: «كان عندنا كثيرون من أصل بلغاري أو يوناني في صفوف الجيش ... والضباط قليلون جدا ...»
وكتب مراسل الجورنال الحربي في وصف ذاك الهلع: «أنه لما ظهر الهاربون استولى الرعب على متصرف قرق كليسا وأهلها فلاذوا بالفرار، وقصد الأهالي والجنود محطة السكة الحديدية وهجموا على قطر كان مستعدا للسفر، ثم حدث اصطدام فخرج القطر عن الخط على مسافة كيلومتر من المحطة، فترك الهاربون القطر ومشوا بضع عشرة ساعة حتى وصلوا إلى بابا أسكي حيث وجدوا القطر الذي أقلهم إلى لوله بورغاز.»
ثم وقع هناك أيضا حادث موجب للأسف، وهو أن جنود لوله بورغاز أبصروا الفرسان المتقهقرين فظنوهم من فرسان البلغار وأخذوا يطلقون عليهم نارا حامية، وما أدركوا خطأهم إلا بعد أن غطت الأشلاء الجسر القائم عند مدخل المدينة.
على أن الله أراد أن يحفظ أساس السمعة الطيبة للجندي العثماني، فجعل يظهر بين تلك المشاهد الأليمة العظيمة مشاهد تعزي الأمة العثمانية بعض التعزية في إبان خطبها الجلل، فمنها أن البطل حلمي بك الذي كان يقود فرقة من الميمنة جاهد جهادا عجبا، وكان كلما رأى أحد الجنود يريد اللحاق بالهاربين يرميه بالرصاص، حتى تمكن من إيقاف الميسرة البلغارية التي كانت تجهل ما حدث ليلا.
ولما رأى حلمي بك أن البلغاريين كادوا يحيطون بجناحي فرقته، ترك موقعه نحو الظهر، فبطلت كل مقاومة أمام البلغاريين هناك وغنموا ما بقي وما تركته الجنود على الطريق من المدافع والذخائر وغيرها.
وليس من العدل أن نغفل هنا ما رآه الموسيو ريني بيو، وهو أن فريقا من الجنود العثمانية أبى عليه شرفه العسكري أن يترك مدافعه وذخائره في تلك الساعة الهائلة، ولكن الطرق التي كانت على أسوأ حال، أبطلت ذاك الجهد الشريف.
وقع هذا الخطب لشؤم طالع الأمة العثمانية، والبلغاريون يعتقدون أن الجنود العثمانية رجعت إلى مواقعها وستدافع أشد دفاع، وما علموا إلا في اليوم التالي ما جرى لحامية قرق كليسا؛ لذلك لم يتمكنوا من مطاردتها ساعة الهلع، بل اكتفوا رغم إرادتهم بالمؤن والذخائر، وبالأزهار التي قدمتها لهم بعض النساء البلغاريات ... •••
أما سبب هذا الفشل العاجل في موقع أعد للمقاومة الشديدة، فقد كثرت فيه أقوال الناقدين الحربيين، فقال الموسيو وجنر: إن هجوم العثمانيين أولا لم يكن من الصواب وإن كان المقصود منه استطلاع طلع العدو وإجباره على إظهار قوته؛ لأن مثل هذا الاستطلاع يضطر القوة المستطلعة إلى خوض معركة كبيرة فتعود إلى موقعها بخبر الفشل بدلا من خبر العدو. وقال هوشوختر: «إن سوء حالة الجنود من حيث المطعم والملبس وقلة الذخيرة وجهل الأمور العسكرية والحاجة إلى الضباط الأكفاء، جعل هذا الهجوم شؤما على حامية قرق كليسا.» ثم مدح محمود مختار باشا مدحا جميلا، وذكر أنه كان يطوف في أنحاء الموقع ويشجع الجنود ويصلح ذات البين عند الخصام، ولكن مرءوسيه لم يكونوا يعملون شيئا من تلقاء أنفسهم ولم يكن في وسعه أن يكون في كل جهة ومع كل واحد. وكان من جملة ما رواه أن الباشا كان يطلق مسدسه على من يفر ويحدث الرعب، وأنه اضطر مرة إلى الاشتراك معه في مثل هذا العمل الموجب للأسف والأسى.
وقال لوجنر ضابط عثماني من الأسرى: «إنا لم نكن متأهبين ولا معتقدين أن البلغاريين يهاجموننا كما فعلوا، بل كنا نظن أنهم سيهجمون على أدرنه فينهكون قواهم أمامها، وبينا يكونون مشتغلين بها نتم نحن حشد جيوشنا في المواقع التي نريدها، لكن هجمتهم على قرق كليسا حدثت بغتة فقاتلناهم بشجاعة، على أن القيادة لم تكن حسنة؛ لأن كثيرين من الضباط أرسلوا بعد إعلان الحرب وهم لا يدرون ما يطلبون من جنودهم، ثم إن عدة فرق من الرديف كانت تجهل التعليم العسكري واستخدمت كما تستخدم الجنود القديمة المنظمة، وكنت ترى هذا القائد يريد الهجوم وذاك يريد الدفاع، فيتقدم عدد من الجنود ويتخلف الباقون لا يبدون حراكا.» ثم مدح البلغاريين بقوله: «إن لهم هجمات بالسلاح الأبيض لا ترد ولا تصد، فإذا قتلنا مائة أبصرنا مائتين يمرون على جثثهم ليتموا هجومهم.»
وطبيعي أن خبر هذا الفشل الأول أقام الأستانة وأقعدها كما سترى، وعزم ناظم باشا وزير الحربية وقتئذ على السفر إلى تراقيه، وأخذ الناس يتحدثون بسقوط وزارة مختار باشا، ولكن الحكومة العثمانية لم تر من المصلحة الداخلية أن تنشر الحقيقة، بل قالت: إن تقهقر الجنود من قرق كليسا هو بعض الخطة الحربية المرسومة، على أنها ما لبثت أن اعترفت بالحقيقة الجارحة؛ لأن المراسلين الحربيين أذاعوا خبرها في العالمين فلم يبق سترها في طاقة الحاكمين. (4-4) بعد قرق كليسا
فظائع وأهوال
وقعت حوادث تدمي الفؤاد بعد التقهقر من قرق كليسا، منها: إحراق عدة قرى وسرقة المؤن، وهرب الأهالي من نساء وأطفال حفاة عراة، وموت عدد من الجنود تعبا أو عطشا وجوعا.
وروى الماجور فون هوشوختر أن الأهالي البلغاريين واليونانيين كانوا يطلقون الرصاص على الجنود العثمانية من النوافذ، وحدث في إحدى القرى أن رجالها نهضوا ليلا فذبحوا الضباط والجنود العثمانيين، فلما طلعت شمس اليوم التالي وجدت أعضاؤهم مطروحة هنا وهناك، فاشتد سخط ولاة الأمور - وحق لهم أن يسخطوا - من تلك الفظائع، وأمروا بإعدام رجال تلك القرية رميا بالرصاص ثم أحرقوها بعد أن أخرجوا منها النساء والأطفال ، فذكرتنا حادثة هؤلاء بما فعله الألمانيون بإحدى القرى الفرنساوية، إذ جعل أهلها يرمونهم بالرصاص من النوافذ، فإنهم كانوا أشد قسوة من العثمانيين فعاقبوا أهلها غير راحمين ولا مميزين بين النساء والأطفال، فيالله من الحرب ويالله من الإنسان. (4-5) معركة لوله بورغاز وهي الفاصلة
أفرغ عبد الله باشا وأركان حربه جهدا عظيما في ضم شمل الهاربين وتنظيم الجنود الجديدة، وعزز الفيلق الثاني والثالث والرابع ورتبها من اليمين إلى الشمال كما يلي:
الفيلق الثالث:
وما زال تحت إمرة محمود مختار باشا.
الفيلق الثاني:
وقلبه في جهة قره أغاج.
بقايا الفيلق الأول:
الذي شتته مصاب قرق كليسا.
الفيلق الرابع:
وقلبه في لوله بورغاز.
وفرقة الفرسان:
عند لوله بورغاز أيضا.
وكان غرض العثمانيين قبل كل شيء أن يحموا سكة حديد الأستانة بعد أن قطع البلغاريون كل صلة بينهم وبين أدرنه في 27 أكتوبر. وقد جعل عبد الله باشا معسكره العام في ساقز كوى، ولكنه لم يكن يملك شيئا من المعدات اللازمة لكل قائد، ولا سيما قبل المعارك الفاصلة، فهل سمعتم أو رأيتم في هذا العصر أن قائدا كبيرا لا يجد أمامه تلغرافا ولا تلفونا ولا مئونة ولا قنابل كافية؟! إن عبد الله باشا كان على تلك الحال.
6
وكانت خطته الأصلية في المعركة المذكورة أن يأمر القلب والميسرة بالدفاع ويهاجم عدوه من جهة الميمنة (ومما يذكر هنا أن الأرض التي كان الجيش العثماني يحتلها هي الأرض التي قاوم فيها الجيش الروسي تسعة أيام في سنة 1878)، وكان خط المقاومة الذي رسمه واقعا على الضفة اليسرى لنهر «قره أغاج دره سي» على مقربة من المرتفعات التي تشرف على هذا النهر الذي لا يجاز هناك إلا على جسور لوله بورغاز وترك بك وجفلك قبه.
وكان ابتداء المعركة الكبرى في 28 أكتوبر بين مقدمة العثمانيين وفرسان الأعداء، ثم أخذ القتال يمتد، وفي 29 أكتوبر تقدم القلب والميسرة من الفيلق الثالث فزحف القلب إلى «ترك بك» والميمنة إلى جهة لوله بورغاز، وما حلت الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى أضحى القتال عاما، ونحو الساعة الثانية بعد الظهر تمكن البلغاريون من أخذ لوله بورغاز وإصعاد بطارياتهم إلى الروابي.
وكان الفرسان العثمانيون في تلك الساعة يجاهدون لصد البلغار عن جنوبي لوله بورغاز وهم واقفون، ثم امتطوا جيادهم وحملوا حملة شديدة على صدر الجيش البلغاري ليمكنوا المشاة العثمانيين من احتلال الروابي المهددة، وبعد أن أتموا مهمتهم عادوا إلى وراء.
وما حلت الساعة الخامسة بعد الظهر حتى هب الفيلق العثماني الرابع إلى الهجوم على لوله بورغاز فطرد منها البلغاريين، ثم عاد فتركها واحتل المرتفعات فبقيت لوله بورغاز تلك الليلة خالية من العدوين.
أما في جهة قره أغاج حيث كان قلب الفيلق الثاني فقد نجح البلغاريون قليلا، ولكن العثمانيين عادوا فهجموا عليهم نحو الساعة الرابعة بعد الظهر فأرجعوهم إلى موقفهم الأول، ثم عاد البلغاريون إلى هجمة شديدة فأخذوا المواقع التي خسروها.
وخلاصة «الحساب» في هذا اليوم؛ أي 29 أكتوبر أن النصر بقي يتراوح بين العدوين.
في 30 أكتوبر؛ بدأت الذخائر تنفد عند ثلاثة فيالق عثمانية وهي الأول والثاني والرابع، فأصبح أمل عبد الله باشا وناظم باشا (الذي حضر من الأستانة) منوطا بالفيلق الثالث الذي صدر إليه الأمر بالهجوم في اليوم التالي (30 أكتوبر). أما البلغاريون فقد تعبوا تعبا شديدا، على أن فيالقهم لم تقتحم كلها معارك 29 أكتوبر بل كان جل التعب مقصورا على الجيش الثالث منهم، وقد وصل جيشهم الأول في اليوم المذكور، واستعد للهجوم عند ظهر اليوم التالي، فصار في وسعهم أن يعيدوا الكرة على طول الخط وعلى ميسرة العثمانيين عند الضفة اليسرى من نهر أركنه (أرجين).
وكذلك فعلوا، فإن ميمنتهم زحفت في 30 أكتوبر إلى الضفة اليسرى من ذاك النهر، ثم أرسلوا جنودا جديدة لتستأنف الهجوم من جهة لوله بورغاز والجهات الجنوبية، فقابلتهم بقايا الفيلق الأول والفيلق الرابع. وكان عبد الله باشا لسوء الطالع لا يستطيع إرسال نجدات جديدة إلى هذين الفيلقين، وما زال جل اعتماده على الفيلق الثالث الذي تقدم ذكره، وعلى الفيلق الثاني الذي أمره باستئناف الهجوم على قره أغاج رجاء أن يعضد بعمله الفيلق الثالث.
وما صدر الأمر إلى الفيلق العثماني الثاني بالهجوم حتى تقدمت بطارياته بحزم وبسالة لحماية مشاته ومساعدتهم على التقدم، لكن البطاريات البلغارية كانت أقوى منها فأسكتتها بعد حين، وبقي المشاة العثمانيون يزحفون فأخذوا بعض المواقع البلغارية الأمامية، ولكنهم ما لبثوا أن وقعوا بين نيران المشاة والبطاريات البلغارية، فاضطروا إلى الرجوع بعد خسارة عظيمة، وقد حاولت بعض البطاريات العثمانية الأخرى أن تحميهم ساعة التقهقر فلم تفلح؛ لأن مدافع البلغاريين كانت تفعل فعلا ذريعا.
وكان الفيلق الثالث في ذاك الوقت يحاول الوصول إلى بيكار حصار ويبدي من البسالة ما اعترف به الأعداء، ولكن الجنود البلغارية التي كانت تحت إمرة الجنرال كريستوف أفلحت في صده، فحاول الفيلق العثماني الثاني أن يعضده مرة أخرى فلم ينجح.
غربت الشمس وخيم الغسق في ذاك اليوم الأسود، والذخائر نادرة لدى الجيش العثماني، والتعب شديد فاتك، والنجدات غير موجودة، والجوع يأكل من أحشاء الجنود، وما كان أحد يظن أنها تصبر على تلك الوقعة الهائلة وأن معظمها يدافع ذاك الدفاع الحسن وأمامها ثلاثة أعداء؛ الخلل والجوع والجيش البلغاري.
ولزيادة نكد الدنيا عليها أن الجيش البلغاري الثالث أراد نحو الساعة التاسعة مساء أن يوالي الهجوم ليزيد الجيش العثماني ضعفا في جهة ترك بك، فشاء سوء الطالع أن تكون في تلك النقطة بقايا الفيلق الأول الذي فقد قوته المعنوية بعد قرق كليسا، فما ظهر البلغاريون حتى غادرت تلك البقايا موقعها، وما حلت الساعة الحادية عشرة مساء حتى كانت الجنود البلغارية على المرتفعات التي تشرف على ترك بك ثم اجتازت نهر «قره أغاج دره سي».
31 أكتوبر؛ وفي صباح اليوم التالي أخذ البلغاريون يوسعون الفرجة في مقدمة الجيش العثماني، ونصب الجنرال كوكانتشيف مدافعه على المرتفعات وأخذ يضرب ميسرة الجيش العثماني، فلم تر بدا من التقهقر نحو جورلو (تشورلو).
على أن محمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث لبث يقاوم من الجهة الشرقية برغم ما جرى، حتى كان موضوع الإعجاب هو ورجاله.
7
إلا أن البلغاريين الذين ظفروا في جهة القلب هاجموه من الجهة اليمنى ثم أرسلوا فرقة احتياطية من الجهة اليسرى إلى قوة الجنرال كريستوف، فرأى حينئذ محمود مختار باشا أن الأعداء كادوا يحيطون به فأصدر أمره إلى فيلقه بالتقهقر، وبقي النظام على ما يرام بين صفوفه، بعكس ما جرى في بقية الجيش.
أما خسارة العثمانيين في تلك المعركة الهائلة، فيقول الكولونل بوكابيل: إنها تبلغ على التعديل المتوسط الخالي من كل مبالغة نحو 25 ألف رجل بين قتيل وجريح، ونحو 3000 أسير و42 مدفعا، وأما خسارة البلغاريين فتبلغ نحو 15000 (وبعض المراسلين يقول إنها أعظم من هذا العدد). ومما يذكرونه أن عدد كل من الآلايين الأول والثاني من مشاة البلغار نزل مساء 30 أكتوبر من 7000 إلى 700 رجل.
وفي خلال تلك الأحوال ورد على البلغاريين أن الصربيين انتصروا في معركة فاصلة بقومانووا (كومانوفو)، وأنهم يقدرون على إرسال جيشهم الثاني إلى أدرنه لمناصرة البلغاريين حول ذاك الموقع، فجاء هذا الخبر بردا وسلاما على قلوب البلغاريين؛ لأن إرسال الجيش الصربي الثاني يمكنهم من أخذ فرقتين من الجيش المحاصر لأدرنه، وكانت حكومتهم وقتئذ تنفذ أمرا صادرا في 25 أكتوبر بدعوة طبقتين من الرديف (1912 و1913) عدد رجالهما نحو 80 ألفا. (4-6) بعد لوله بورغاز
تقدم أن الفيلق العثماني الثالث اتجه نحو جتالجه بترتيب ونظام، وظهر من عدد المدافع التي غنمها البلغاريون بعد المعركة الكبرى أن معظم المدافع العثمانية بقي مع الجيش العثماني المتقهقر، كما يؤخذ التحقيق الذي أجراه الكولونل بوكابيل قبل تأليف كتابه عن الحرب البلقانية. ثم ظهر من كلام هذا الكاتب الحربي المحقق أن البلغاريين لم يزحفوا لا في اليوم التالي ولا في الثالث ولا في الرابع وراء الجيش العثماني لمطاردته، خلافا لما ذكره مراسل الريشبوخت وغيره، فإن هذا المراسل (الذي روى في أوائل الحرب ما يعتمد عليه وما أيده سائر المراسلين) اعتمد على خبر في جريدة مير البلغارية، فبنى عليه وصف معركة هائلة بعد لوله بورغاز، ولكن مراسلي التيمس والطان ما لبثا أن كذباه ثم أصدر أركان حرب الجيش البلغاري موجزا للأعمال الحربية، اتضح منه أن الجيش البلغاري لم يتأثر بالعثمانيين وأن هؤلاء لم يضطروا إلى اقتحام أية معركة في مدة تقهقرهم إلى جتالجه، قال مراسل التيمس: إن البلغاريين لم يزحفوا من لوله بورغاز إلا بعد ستة أيام من يوم المعركة الكبرى، وأن مؤخرة الجيش العثماني المؤلفة من فرقتين تركت جورلو من غير أن تطلق رصاصة واحدة في مدة ستة أيام، وفي اليوم السابع أخذ البلغاريون يزحفون، وكان الفرسان العثمانيون المعروفون باسم «الفرقة المستقلة» لا يزالون في جورلو فساروا أمامهم.
وهذا كله رأيته بعيني وكدت أقع من أجله في يد طوافة من البلغاريين المستطلعين، ولا شك في أن الجيش البلغاري أضاع فرصة من أجمل الفرص التي تسنح لجيش منصور، وما ذاك إلا لأن باقي الجيش العثماني لبث حزوما مدافعا.
وذكر جملة من الكتاب الحربيين (ومنهم الكولونل الفرنساوي) أن الأسباب التي من أجلها أحجم الجيش البلغاري عن اللحاق بالجيش العثماني هي عدة؛ أولها: أن التعب نهك أجسام البلغاريين، والثاني: أن المؤن والذخائر لم تكن كافية لديهم، والثالث؛ أنهم كانوا ينتظرون جنودا جديدة بعد وصول الصربيين إلى جهة أدرنه؛ لأن جميع الجنود الاحتياطية التي جاءتهم خاضت غبار المعركة الكبرى وخرجت منها بعد خسارة ومشقة، فوجب عليهم أن يصبروا بضعة أيام قبل الزحف إلى جتالجه.
ولما قرروا الزحف بعد وصول العدد والعدد نظموا جيوشهم ثم قسموها كما يلي:
الميسرة:
الجيش الثالث ومعه أربع فرق أخرى.
الميمنة:
الجيش الأول ومعه أربع فرق وعدد من الفرسان.
وأبقوا لواء الجيش الثالث معقودا للجنرال راتكو ديمتريف الذي أبدى حزما ونشاطا وكفاءة في المعارك الماضية، ولواء الجيش الأول للجنرال كوتنتشيف.
وكان الجيش العثماني لا يزال في تقهقره، فمن الجهة الشرقية كان يسير الفيلق الثالث ومن ضمهم إليه متبعا طريق سراي وجركس كوى، ثم دخل من هناك غابة كثيرة الأدغال والأشجار فكان فيها بمأمن. ومن الجهة الغربية كانت تسير بقايا الفيلق الأول مع الفيلق الثاني والفيلق الرابع متبعة طريق جانطه إلى جتالجه، على أن النظام كان مختلا فيها بعكس الفيلق الثالث، ومما زاد الجنود عذابا فوق عذاب التعب والجوع أن المطر بقي يهطل مدرارا سحابة أسبوع حتى كان منظرهم ولا سيما الجرحى يدمي العيون ويفطر القلوب.
ولما وصلت الجنود العثمانية إلى خط جتالجه قابلتها جنود أخرى جديدة من أرضروم وأزمير وسوريا، وعدد قليل من الضباط وبينهم عدد من الضباط الألمانيين، وأخذ ناظم باشا زمام القيادة الفعلية، وأصبح إرسال الميرة مؤكدا مضمونا لقرب الجيش من الأستانة، وضربت الخيام في جهات كثيرة، ثم عززت البطاريات باثنين وخمسين مدفعا من مدافع كروزو الفرنساوية، وهي التي كانت مرسلة إلى الصرب قبيل الحرب، فاستولى عليها العثمانيون في الطريق.
ثم وحدث لسوء الحظ أن الكولرا ظهرت بالأستانة في تلك الأثناء فانتقلت إلى صفوف الرديف في جتالجه، وظهرت معها الدوسنطاريا فأودت بنفوس كثيرة.
وليس بنا حاجة إلى القول أن خبر رجوع الفيالق العثمانية إلى باب الأستانة بعد الخطب الجلل الذي أصابها في لوله بورغاز أحدث هرجا ومرجا فيها، بل في العالم الإسلامي كله، وأخذ قوم في الأستانة ينصحون للحكومة بأن تفعل فعل ملوك البلقان فتعلن الجهاد، ولكن وزارة كامل باشا (التي خلفت وزارة مختار باشا) أبت أن تنهج هذا النهج، واكتفت بأن ترسل عددا من العلماء إلى جتالجه، ثم نشرت بلاغا رسميا في هذا الشأن قالت فيه: «إن مائة عالم من الفصحاء وذوي الحجة الدامغة يجتمعون في جتالجه ليحضوا الجيش على وجوب الجهاد ويعززوا قوته المعنوية.» وهنا نترك الكلام للموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتين الذي كان في الأستانة ليصف لنا الحالة فيها، قال في مؤلفه عن الحرب:
وصل خبر المصاب الجلل الذي حل بالجيش العثماني في لوله بورغاز إلى لندرا وباريس قبل أن يصل إلى الأستانة نفسها، فإنه لم يتصل بالسفارات إلا في هزيع متأخر من ليل الأحد 3 نوفمبر، ولم يعلم الترك متسع الخطب إلا صباح الاثنين (أي بعد المعركة بأربعة أيام)، حين صدر البلاغ الرسمي وكانت السماء غائمة محزنة في ذاك الصباح، وهاك معنى البلاغ: «إن النجاح في جميع الأنحاء وقت الحرب أمر غير ممكن، والأمة التي تخوض حربا يجب عليها أن تقبل مع الحزم التام جميع النتائج التي تنجم عنها، وهو مبدأ لا يجوز إغفاله أو نسيانه، وعليه يجب اجتناب الغلو في الطرب عند النجاح كما يجب التزام الحزم والصبر عند الفشل. فإن جيشنا مثلا بقي منصورا في مقاومة البلقانيين المتحالفين بجهة يانيه وجهة أشقودره. ولكن الجيش الشرقي في جهات ويزه ولوله بورغاز رأى أن يتقهقر إلى جتالجه ليكون أقوى على الدفاع منه في تلك الجهات، وأنه لمن المقرر الطبيعي أن نبذل كل ما في وسعنا لصيانة مصالح الوطن.»
صدر هذا البلاغ الرسمي، وفي يوم صدوره أخذت المحطة تلفظ على العاصمة العثمانية جموعا من ذوي الأعضاء المبتورة والجسوم النحيلة الدامية، فينسلون في الشوارع والرحبات العامة وهم صفر عاطلو الوجوه من نور الصحة، وبرد نوفمبر يقرس جلودهم: أولئك هم جرحى الحرب، يقصون من أخبارها ما يحزن القلب ويورث الكرب ويمثل نصب العيون مجمل أهوالها، وإني لا أزال أسمع حتى الساعة صوت شاب في المستشفى الفرنساوي اسمه رياض بك يقص علي ما رأت عيناه من المشاهد. وحكاية هذا الشاب أنه ذهب مع وفد الصليب الأحمر إلى ساحة القتال للعناية بالجرحى، ولكنه لم يستطع أن يضبط عنان شوقه إلى القتال حين دوي المدفع في لوله بورغاز، فنزع من ذراعه شارة الصليب الأحمر وأخذ بندقية أحد العساكر وهب يقاتل كسائر الجنود، فأصابته رصاصة كسرت كتفه فتقهقر، ثم أرسل مع العائدين إلى الأستانة، وكان من قوله لي: «إننا لم نخط في الوحل بل كنا نخوض بحيرات من الدماء. ولما دخلت أحد الخنادق التي كان يحتلها البلغاريون وجدتني على آكام من الجثث ... إن جنودنا البائسين يحتاجون إلى القوت، فقد رأيت بينهم من بقي أربعة أيام بلا أكل، فكيف تطلب من أمثال هؤلاء قوة معنوية ما داموا لا يملكون قوة جثمانية؟ زد على هذا كله أن الأمراض ستنضم إلى ذاك العذاب؛ لأن سهل جورلو يشبه مستودعا كبيرا من الأشلاء ...»
غير أن حكايات المتقاتلين على هولها لم تكن أدعى إلى الحزن من المشهد الذي وقع تحت أنظارنا، فإن سكان الأستانة يبلغون نحو مليون و500 ألف، منهم نحو مليون من الأروام واليهود والشرقيين والأوروبيين، فلا يمكن مع هذا الاختلاط أن نرى وحدة نفسية بينهم، بل نحن لم نر العطف الذي يحق لأمة منكوبة أن تراه، فإنك لم تجد يونانيا (عثمانيا) رضي بأن يقفل دكانه ولا شرقيا كف عن الذهاب إلى قهوات الرقص، ولا فندقا أوروبيا فكر في منع الرقص ساعة تناول الشاي، بل كنت ترى الجرحى المرتجفين بردا الممتقعين لونا يسيرون في جهات «بيرا» على ألحان الموسيقات وخطرات الراقصين والراقصات.
بل كنت ترى ما هو أقبح من ذاك كله، ترى أناسا يرقبون أخبار فشل الجيش ليذيعوها في الأنحاء، وبعضهم كان يستنبطها. ألا إن تركيا لا تستحق هذا كله، لا تستحق أن تصاب بالفشل في عاصمتها ومن أيدي سكانها قبل أن تصاب بسيف عدوها، فيالها من عبرة للذين شهدوا تلك الساعات الفاجعة ... فعلينا أن نتذكرها، وأن نقيم حراسة قوية حول وطننا فلا ندعن الأجانب يزدحمون معنا جنبا إلى جنب، ولا نكتفين بحماية تجارتنا وقت السلم من الغزوات الخارجية بل يجب أن نصون وحدتنا النفسية ليكون فرحنا أو حزننا واحدا في وقت الحرب.
ثم وصف جموع المهاجرين الذين قدموا من تراقيه وصفا يثير الشجون ويسيل الشئون، فقال: إن بينهم عددا كبيرا من النساء والأطفال وهم على أسوأ حال، وأنهم كانوا ينامون في الشوارع والساحات وحول المساجد، فلا يجدون من سقف سوى السماء ولا غطاء سوى الهواء، حتى خيل للناظر أنه رجع ألف سنة إلى وراء، أو أنه يشهد هجرة الغوليين القدماء. فلما رأت الحكومة ذاك المشهد الأليم أخذت تهتم بتسفيرهم إلى جهات أشقودره وبروسة وشواطئ البحر الأسود.
أما سفراء الدول فإنهم اغتنموا فرصة لوله بورغاز ورجوع الجيش العثماني إلى جتالجه ليطلبوا من حكوماتهم زيادة البوارج الحربية الراسية في قرن الذهب أمام الأستانة، فلبت حكوماتهم هذا الطلب وأخذت البوارج ترد مختلفة الرايات على مياه البوسفور، وصار هذا الأسطول المختلط ينزل إلى المدينة بعد الظهر من كل يوم 200 بحري، ورأينا الطرادة الإنكليزية «يرموث» تخاطب بتلغراف ماركوني محطة بولدو في إنكلترا، وتتلقى به خلاصة الحوادث السياسية والمالية والرياضية حتى نتيجة لعب الكرة ... وكان الأتراك ينظرون إليهم بعين الصابر الحزين، ولما أرسلت فرنسا البارجة المسماة «ليون غمبتا »، ذهب جماعة من شبانهم إلى السفارة الفرنساوية وشكروا الجمهورية؛
8
لأن اسم غمبتا هو عنوان الدفاع عن الوطن.
وأما كامل باشا الذي كان صدرا أعظم يوم لوله بورغاز فإنه لما علم بالخطب مساء 3 نوفمبر قال لمن أخبره به: «كنت أفضل الموت على سماع هذا الخبر»، ثم جمع مجلس وكلاء الدولة وقرر معه أن يطلب تعضيد أوروبا في إيقاف رحى القتال، وأمر نورد نجيان أفندي وزير الخارجية بالذهاب إلى السفارة الفرنساوية ليطلب بواسطتها إلى الموسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الحالي أن يسعى لدى أوروبا في إيقاف الحرب، فذهب الوزير وهو عالم أن هذا السعي لا يجدي نفعا، وأن الحرب ستبقى حتى يعترف أحد الفريقين بالعجز، وقال في حديث رواه رئيس تحرير الماتين: «لو كان هذا الوقت وقت السخر والتهكم، لاكتفيت بأن ألصق على جدران الأستانة وأنشر على صدور الصحف التركية ذاك البلاغ الذي قالت فيه أوروبا: إنها لا تسمح بأي تغيير في أراضي البلقان، ثم أزيد عليه صور سبع وعشرين معاهدة عقدتها الدول الأوروبية وضمنت فيها سلامة الأراضي العثمانية»، ثم روى ما جرى بعد أن قهر جيش أدهم باشا اليونان سنة 1897، وهو «أن قيصر الروس أرسل وقتئذ إلى السلطان المخلوع تلغرافا خاصا طلب فيه إيقاف الجيش العثماني الذي كان مستعدا للزحف على أثينا، ثم ذهب سفراء الدول أنفسهم إلى وزير الخارجية العثمانية للتناقش معه في مسألة الصلح، فهل كان هذا كله من الحقوق الدولية؟ إن الحقوق الدولية تغير بتغيير الأزمان والأمم والمخاوف التي تداخل أوروبا من الغالب أو من نفسها.»
ولما ذهب السفراء بعد ذاك الخبر الأليم لمقابلة كامل باشا ومفاوضته في شأن الأمن، قال لهم: «إني سأدافع عن النظام في الأستانة حتى النهاية، أما إذا سمحت الدول بغزو الأستانة واستولى اليأس على الأهالي، فإني ألقى تبعة ما يجري حينئذ على وجدان أوروبا، ولا تحسبوا أنني أترك الأستانة مع سلطاني؛ فهو يفضل أن يقتل في قصره، وأنا أفضل أن أقتل في ديواني على مزايلة الأستانة.»
فأثر كلام هذا الشيخ الذي يضع إحدى رجليه عند باب القبر في سفراء الدول العظمى، غير أنه لم يذهب بخوفهم، لم يخفف من قلقهم، ولما اشتد دوي المدفع في جتالجه أنزلت بوارج الدول جنودا لحماية الأحياء والمصارف والسفارات والقنصليات، ثم عادت فاسترجعتها.
تلك حالة الأستانة بعد لوله بورغاز، فنحن ندعها الآن مع مشاغلها السياسية ومفاوضتها المتواصلة للدول، لنرى ما جرى في جتالجه نفسها بعد وصول الجيش العثماني وزحف الجيش البلغاري.
جتالجه
جتالجه؛ اسم ملأ الدنيا فكم تداولته ألسنة الملايين في العالمين، وكم خفقت لذكره قلوب، وجاشت مطامع، وقلقت أفكار، واشرأبت أعناق وشخصت أبصار ...
جتالجه، لا عجب في بلوغ العناية بك ذاك المبلغ فأنت الحاجز الوحيد بين الأعداء المنصورين ودار الخلافة، وعاصمة السلطنة، ومدينة الذهب، وملتقى البرين والبحرين، ومركز فروق، والموقع الذي اهتزت له أوروبا يوم بلغه الروس سنة 1878.
تالله لقد أصبح العثمانيون وكأنهم في حلم يوم زحف الجيش البلغاري إلى ذاك الموقع، وأخذوا يسمعون ما لم يكن يخطر في خاطر ولا يفكر فيه فاكر، يسمعون الناس يتساءلون: «لمن تكون الأستانة؟» ثم يسترسلون إلى التكهن والتخمين على صفحات الجرائد الكبيرة، فواحد يقول قول الموسيو بوانكاريه: إن الأستانة وما حولها تبقى لتركيا، وآخر يقول: بل تعطى للبلغار، وثالث يقول: لا بل توضع تحت حماية الدول وتكون إمارة مستقلة، ورابع يرى أنها ستكون لروسيا.
اللهم اشف المريض واجعلهم من المخطئين ... (4-7) معارك جتالجه
تركنا الجيش العثماني فيما تقدم يهتم بضم شمله وتعزيز قوته وتحصين خط الدفاع في جتالجه، وتركنا الجيش البلغاري زاحفا نحوه بعد أن وقف بضعة أيام للأسباب التي أوضحناها في باب سابق.
ويحسن بنا قبل الكلام على معارك جتالجه أن نصف ذاك الخط بإيجاز، قال الكولونل بوكابيل: إن خط جتالجه - أو بالأولى - خطوطها الدفاعية هي عند الجانب الشرقي من واد هناك واقع بين بحيرة جكمجه وبحيرة ترقوس، والمسافة بين البحيرتين 25 كيلو مترا، وأعلى نقطة من الوادي واقعة عند قرية اسمها بالتركية طاغ يكي كوى. والوادي يحتوي على منطقتين من المستنقعات.
ولما نشبت الحرب الروسية العثمانية حصنت الدولة تلك الخطوط بعض التحصين، ثم زادتها تحصينا بعد سنة 1878 تحت مراقبة بلوم باشا، وأهم خط منها يجاور ربوة يبلغ ارتفاعها عن البحر 200 متر، ويمتد من شرقي بحيرة جكمجه إلى جهة قره برون شرقي بحيرة ترقوس عند البحر الأسود.
وفي سنة 1883 طلبت الحكومة العثمانية إلى الجنرال بريالمون أن يرسم خطة دفاعية دائمة للأستانة، فنصح لها بأن تحول خمسة حصون صغيرة إلى حصون حديثة هناك، على أن قلة المال حالت دون العمل بنصيحته، فبقيت حصون جتالجه كما كانت. وما اهتمت الحكومة العثمانية بها اهتماما صحيحا إلا في النصف الثاني من شهر أكتوبر أي بعد إعلان الحرب، فنصبت المدافع وحفرت الخنادق بين الحصون، على أن مدافع الحصار كانت قليلة.
وقبل وصول الجيش البلغاري رتب ناظم باشا الفيالق على تلك الخطوط، فوضع الفيلق الأول في جهة أحمد باشا وهي أقل استهدافا من سواها لنيران العدو، ووضع الفيلق الثاني في الجهة الممتدة من أحمد باشا إلى البحر الأسود، وأوقف الفيلق الثالث أي فيلق محمود مختار باشا في أشد المواقع خطرا، وأبقى الفيلق الرابع احتياطيا وراء الفيلق الثاني، وترك الرديف الاحتياطي وراء الفيلقين الثالث والأول، أما المعسكر العام فكان في خادم كوى. •••
نلتفت الآن إلى البلغاريين، فإنهم بعد ما وقفوا إلى 6 نوفمبر عمدوا إلى التقدم نحو جتالجه، فزحف جيشهم الثالث إلى جركس كوى وسترانجه، وتقدم جيشهم الأول من الجهة اليمنى وبلغ قلبه جورلو، وسارت بعض فصائل إلى جهة بحر مرمرة لتحتل جهات رودوستو، وكانت رودوستو مستودعا لمقدار عظيم من المؤن والذخائر وقاعدة لغذاء الجيش العثماني في تراقيه، وكانت البوارج مسعودية وحميدية وعصر توفيق تحميها مع طابور من الجنود، وما وصلت طلائع البلغاريين في التاسع من أكتوبر حتى أخذ العثمانيون يستعدون لنقل مؤنهم وذخائرهم، ولما هجمت القوة البلغارية عليها في 10 نوفمبر كانت منقولة إلى البحر، ولم يتمكن العثمانيون من الدفاع قبل نقلها إلا بفضل بطاريات البوارج المذكورة، ولم يقدر البلغاريون على دخولها إلا في 11 أكتوبر أي بعد أن تركها العثمانيون وأخذوا ما كان فيها.
وفي ذلك الوقت نفسه كانت قوة بلغارية زاحفة على نهر مريج، فاحتلت ديمتوقه وصوفيلو.
على أن الجنود العثمانية لم تحاول أن توقف الجنود البلغارية في جهة من تلك الجهات، وما توالت المناوشات بين طلائع العدوين إلا منذ 12 أكتوبر بعد أن احتل البلغاريون سيلوري، ليدفعوا فيها عن ميمنة جيشهم إذا تمكن العثمانيون من إنزال قوة عن طريق البحر.
ثم قضى البلغاريون أيام 14 و15 و16 نوفمبر في استطلاع طلع العثمانيين وتعرف مواقعهم، ومواضع مدافعهم، والأماكن التي يحسن فيها نصب المدافع البلغارية، وسائر ما يجب العلم به قبل المعركة. ثم عزم أركان الحرب أن يجعلوا هجومهم من جهتين؛ إحداهما: جنوبية، والثانية: شمالية. وكانت المواقع التي اتخذها البلغاريون تعلو مواقع العثمانيين بنحو مائة متر، فتمكنهم من رؤية ما يجري في الصفوف العثمانية، ولكن المسافة كانت واسعة بينهم في بعض الأنحاء.
وبينما كان الجيشان واقفين على تلك الحال ومستعدين للقتال كانت وزارة كامل باشا تسعى في عقد هدنة، فأمرت القائد العثماني العام بأن يرسل مندوبا يطلبها من قائد الجيش البلغاري. ولما وصل المندوب إلى معسكر البلغاريين أجاب قائدهم بأن الأمر منوط بحكومته، فيجب أن تكون المفاوضة في هذا الشأن بين الأستانة وصوفيا، وربما كان إرسال هذا المندوب باعثا على اعتقاد القواد البلغاريين أن الحكومة العثمانية ما أرسلته إلا لشدة اقتناعها بأن الجيش العثماني أضعف من أن يقاومهم، وأن هجمة قوية تكفي لتبديد شمله.
معركة 17 نوفمبر
ولما كان اليوم السادس عشر من نوفمبر تمت أهبة البلغاريين، وفي 17 منه تقدم قسم من الجيش البلغاري الأول، ونشب قتال شديد قاوم فيه العثمانيون مقاومة لم تكن في حسبان البلغاريين، ومما يدل على شدته في الجهة الشمالية أن البلغاريين غنموا عددا من المدافع ثلاث مرات وخسروها ثلاثا؛ لأنها كانت بلا خيل ولأن العثمانيين تفانوا في سبيل استبقائها. ثم غربت شمس 17 نوفمبر والعدوان في المواقع التي كانا فيها عند الصباح. وكان من أهم العوامل في صد هجوم البلغاريين مساعدة البارجتين مسعودية وبرباروسا من خليج جكمجه.
تلك نتيجة هجوم الجيش البلغاري الأول، أما الجيش البلغاري الثالث فقد كان هجومه أشد من هجوم الجيش الأول وأصابته خسارة عظيمة؛ لأن البطاريات العثمانية كما قال الكولونل بوكابيل: كانت سديدة الرماية. وحدث أن الفرقة البلغارية الثالثة وقعت بين نارين فكان هذا الخطاء وبالا عليها. ولما رأى قائد الجيش المذكور أن جنوده لم تتقدم نهارا إلى حيث أراد، أمر بعض فرقها بأن تثابر على الهجوم ليلا، فاستولت على لازار كوى وما فيها من الخنادق العثمانية، ولكن محمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث اغتنم فرصة الضباب صباحا فحمل عليهم حملة صادقة وطردهم من الخنادق، ولشؤم طالعهم في تلك الوقعة ظنتهم بطارياتهم من العثمانيين وأخذت ترميهم بالقنابل ... فذعروا وتبعهم العثمانيون، لكنهم عادوا فضموا أطرافهم وجمعوا قواتهم.
أما خسارة البلغاريين فيقول الكولونل بوكابيل: إنها بلغت في اليوم المذكور 10000 رجل بين قتيل وجريح، وأما خسارة العثمانيين فقد كانت عظيمة إلا أنها أقل من خسارتهم، والمستفاد من أقوال الاختصاصيين عن تلك الوقعة أن البلغاريين لم يكونوا راغبين في هجمة عامة فاصلة، بدليل أن جانبا من قواتهم لم يقتحم نار القتال، بل أرادوا أن يعرفوا مبلغ القوة العثمانية فتحول عملهم إلى معركة دموية كبيرة عرفوا منها أن الجيش العثماني المرابط هناك لا يسهل قهره. وكانوا يعلمون فوق ذاك كله من الوجهة السياسية أنهم وإن دخلوا الأستانة لا يستطيعون البقاء فيها؛ لأن الدول حتى روسيا حامية الصقالبة تضطرهم حينئذ إلى تركها، فعلام إذن يفنون معظم جيشهم عند بابها؟! أجل إن أخذها بالسيف يسهل عليهم اشتراط ما يريدون من شروط الصلح، ولكن ما يستفيدونه لا يضاهي ما يخسرونه على افتراض أنهم يفلحون.
وزد على ذاك كله أن المفاوضات في شأن الهدنة كانت جارية بين الأستانة وصوفيا، فقد روى رئيس تحرير الماتين إن كامل باشا كتب إلى ملك البلغار نفسه في هذا الشأن، فليس من الحكمة ولا من أصالة الرأي أن يواصلوا القتال ما دامت يد السياسة تعمل على إغماد السيف.
لتلك الاعتبارات ولعلمهم في يومي 17 و18 نوفمبر أن الجيش العثماني الذي قابلهم في جتالجه هو غير الجيش الذي قاتلوه وقهروه في قرق كليسا ولوله بورغاز، ولكون طبقة 1912-1913 من جنودهم لم تصل ولم يكونوا ينتظرون وصولها قبل أواخر نوفمبر؛ قرروا أن يتقهقروا إلى مواقع تبعد عن مواقع العثمانيين مسافات تختلف بين 5 و7 كيلومترات على ما جاء في كتاب الكولونل بوكابيل، وكان تقهقرهم على مهل في 19 و20 و21 من نوفمبر تحت حماية مدافعهم ومؤخرتهم، وكان العثمانيون يلاحقونهم ويناوشون الفرق المتأخرة منهم، وقد دهش قواد الجيش العثماني من هذا التقهقر؛ لأنهم كانوا يتوقعون هجمات ترخص فيها الأرواح ولا سيما في جهة الفيلق العثماني الثالث. وكان ناظم باشا القائد العام برغم هذا النجاح يهتم كل الاهتمام بإنشاء خطين جديدين للدفاع وراء جتالجه؛ لأن ثقته بالنجاح النهائي لم تكن قوية راسخة. (4-8) جرح محمود مختار باشا في جتالجه
تقدم لنا أن الفيلق الثالث الذي كان يقوده محمود مختار باشا فعل أفعالا توجب له الثناء الجميل؛ فجدير بنا أن نخص قائده الباسل بكلمة مستمدة من أقوال الماجور فون هوشوختر الألماني الذي كان معه في جتالجه، قال ما خلاصته:
سرت مع محمود مختار باشا وكمال بك وكاظم بك وصلاح الدين بك وناظم بك قاصدين الخط الأول؛ لأن الباشا أراد أن يرى بعينه طريقة تنظيم الدفاع، وكان الرصاص يصفر فوق رءوسنا واتفق أنا رأينا بعض أفراد متقهقرين فدفعناهم إلى الأمام، ثم تقدمنا عدوا على جيادنا وصفير الرصاص لا ينقطع فوق رءوسنا حتى وصلنا إلى مأمن عند الحصون. وإنا لواقفون هناك إذا بعدد من الجنود المشاة نهضوا واقفين حولنا فصاح فينا ناظم بك «البلغار البلغار»، فلحظت القبعات الروسية على مسافة عشرين مترا منا، ثم وقف ضابط بلغاري وقال: «مكانكم ...» وكان قريبا مني إلى حد أني أستطيع معرفته إذا وقف اليوم أمامي، فأدرت عنان حصاني ورأيت محمود مختار باشا وكمال بك يعدوان إلى الجهة اليسرى، وصلاح الدين يعدو أمامي وكاظم بك ورائي، وبعد قليل وقع صلاح الدين عن جواده فظننت أنه سقط قتيلا، ثم سمعت وقع جثمان فالتفت فإذا كاظم بك على الأرض، ثم حولت نظري إلى الباشا فرأيت جواده مقتولا وهو يمشي كالأعرج، ولم يكن في وسعي أن أمد له يدي؛ لأني كنت مستهدفا كل الاستهداف للعدو من الجهة اليمنى، وفي تلك الساعة خرقت رصاصة «قلبقي» العثماني، ثم غاب الباشا عن نظري فذهبت عدوا إلى طابور رئيسه يفهم الألمانية، فكلفته أن يذهب إلى الجهة التي كان فيها الباشا ليأتي به، وإذا كان قتيلا فليتلقف جثته من العدو ولا يرجع إلا بها، فوضعت الجنود حرابها في بندقياتها وهجمت مسرعة، ولكني لم أجد للباشا أثرا، وبعد البحث عنه نحو نصف ساعة وجدته على الطريق المؤدي من الحصن إلى المستشفى النقال، فلا تسل عن سروري برؤية رئيسي فإني لشدة فرحي وقفت أنظر إليه ولا أنبس ببنت شفة، وأظنه أدرك معني نظرتي ثم تصافحنا بلا كلام، وكان مصابا بثلاث رصاصات وعلى رأسه «قلبق» طبيب وعلى كتفيه عباءة جندي، وعلى وجهه دلائل الألم الشديد، وعلمت أنه لما أصيب بالرصاصة الأولى بعد قتل حصانه لم ينقطع عن السير، ولكنه لما أصيب بالرصاصة الثانية رمى بنفسه إلى الأرض، ولبث حينا طويلا تحت نيران العدو، ثم تقدم إليه جندي رث الملبس فطيب نفسه وحمله على ظهره مسافة 500 متر، ثم ألقاه في محل أمين وراء ربوة، وبينما كان في طريق الأستانة التقى بعزت باشا رئيس أركان الحرب فانحنى عزت باشا وقبله في جبينه، ولما وصل إلى المعسكر العام استقبله ناظم باشا والضباط الذين كانوا هناك، ثم نقل إلى الأستانة حيث كان ينتظره 200 من أصدقائه، فعملت له عملية في المستشفى الألماني أسفرت عن النجاح. (4-9) الضباط الألمانيون في جتالجه وغيرها
كثر عدد الألمانيين الذين هرعوا إلى مساعدة الجيش العثماني ولا سيما في جتالجه، فمنهم البكباشي هوشوختر (أو هوخوختر كما تلفظ بالألمانية) وهو صاحب التأليف الذي مر ذكره، والقائم مقام فون لاسوف الذي كان مع أركان حرب عبد الله باشا، ثم استلم قيادة آلاي في جتالجه بناء على طلب محمود مختار باشا، والكولونل توتبشفسكي الذي تولى مراقبة إطلاق المدافع كما قيل، والكولونل ويت الذي كان في قرق كليسا، والبكباشي ليهمان، والملازم الأول جانوف اللذان ألحقا بأركان الحرب في جتالجه ، والملازم فون ريجستر، والميرالاي بوب، والملازم كونزر الطيار وغيرهم.
9
وقبيل إعلان الحرب عقد أركان الجيش العثماني عدة اجتماعات حضرها ضباط ألمانيون، وبسطوا آراءهم في شأن الخطة الحربية التي يحسن بتركيا اتباعها.
وإذا أضفت إلى هذا كله أن المدافع والبنادق التي استخدمها الجيش العثماني كانت ألمانية، وأن المارشال فوندر غولتز كان رئيس أساتذة الجيش العثماني، ظهر لك السبب الذي من أجله قام كثير من الجرائد ولا سيما الجرائد الفرنساوية، يعزو إلى الألمانيين جانبا من تبعة الفشل الفاضح الذي أصاب الجيش العثماني.
على أن الألمانيين يقولون: «إنا وضعنا النظريات وتركنا العمليات لأركان حرب الجيش العثماني ولحكومته، فما ذنبنا مثلا إذا كان ضباط تركيا لم يتبعوا أولا خطة الدفاع كما رسمناها لهم؟ وما ذنب بنادقنا إذا كان الرديف العثماني لا يعرف كيف يستخدمها؟ وأي عيب يلحق بمدافعنا إذا كانت الطرق غير صالحة، فلا يمكن تسيير البطاريات فيها، وإذا كانت ذخيرتها قليلة؟ إن إهمال العثمانيين هو الذي جر عليهم البلاء ونكبهم بأعظم الإرزاء».
تلك خلاصة ما يرد به الألمانيون على خصومهم، وهو لا يخلو من نور الحقيقة، ولكن هناك أمرا لا ريب فيه: وهو أن المدافع الفرنساوية فعلت فعلا هائلا، وأن عددا غير قليل من القنابل الألمانية لم ينفجر، وأن القنابل التي كان يطلقها المدفع الفرنساوي المعروف بمدفع 75 في الدقيقة ظهرت أشد فعلا من مدفع كروب الذي يضارعه في الحجم، كما قال الاختصاصيون الذين حضروا المعارك الكبرى ومنهم كبار قواد الصرب والبلغار واليونان.
حصار أدرنه وسقوطها
نتكلم هنا على حصار أدرنه ثم سقوطها بعد الهدنة الأولى، فنختم به شرح الأعمال الحربية التي جرت في تراقيه بين البلغاريين والعثمانيين، ثم ننتقل إلى معارك الصربيين والعثمانيين طبقا للخطة التي رسمناها في تقسيم هذا الكتاب. (1) ما هي أدرنه؟
أدرنه مدينة قائمة عند ملتقى نهري مريج وطونجه شمالا ونهر أدرا يمينا، طوقها بلوم باشا بستة وعشرين حصنا صغيرا أيام الحرب الروسية العثمانية، وهي - أي تلك الحصون - منشأة على مرتفعات تشرف من الجهتين الشرقية والغربية على مدينة أدرنه نفسها ، وتتصل بموضع الخط الحديدي الممتد من الجهة الجنوبية الغربية، ولكنها لا تعد القسم الأهم من القلعة في هذا الوقت.
ولما كانت سنة 1903 اتسعت دائرة الموقع اتساعا كبيرا، وأنشأت له الحكومة العثمانية حصونا حديثة محمية ذات أبراج صغيرة في الجهات الشرقية والشمالية والغربية أي أشد الجهات استهدافا للخطر، وهي تسمى قرتال تبه، وقزال تبه، وشيطان تبه، وطاش تبه، وقوش تبه.
وصرفت عناية خاصة إلى المسافة التي بين قرتال تبه، وقزال تبه، فحفرت هناك سلسلة من الخنادق، وأنشأت جملة مواقع دفاعية جعلتها ذات منعة كبيرة.
وكان أركان حرب الجيش البلغاري
1
يقدرون أن العثمانيين يمكنهم وقت الحصار أن يضعوا في حصون أدرنه نحو 200 مدفع من مدافع الحصار الكبيرة التي جيء ببعضها من الدردنيل، و300 مدفع أخرى من مدافع الميدان، وكان عند العثمانيين أيضا نحو أربعين منيرة كهربائية (بروجكتور) لاستطلاع طلع أعدائهم تحت جنح الليل.
ولما اسود وجه السياسة قبيل الحرب، وجهت الحكومة العثمانية همة جديدة إلى حصون أدرنه، فقدمت لها ما كان يعوزها لإتمام الأهبة في الخطوط الأولى وحفرت خنادق جديدة لإقامة المشاة، ونصبت مدافع مغمورة بالتراب على الطريقة الحديثة، ولما هجم الجنرال إيفانوف هجمته الأولى بعد إعلان الحرب رأى مقاومة شديدة من الخطوط الدفاعية الأولى، وظهر للبلغار أنها لا تؤخذ إلا بالحصار، ومما يجب ذكره فوق ما تقدم أن الأراضي الواقعة وراء قره أغاج من الجهة الجنوبية الغربية هي على مستوى القياس المتوسط لمياه مريج، وأن هناك مستنقعات مغطاة بالأعشاب، فإذا هطلت الأمطار في شهري أكتوبر ونوفمبر حولتها إلى بحيرات صعبة المجاز، فكانت للعثمانيين هناك معونة كبيرة من الطبيعة نفسها.
وصل البلغاريون فاختاروا أن يعسكروا أمام الجهات التي تفوق سواها قوة وتحصنا؛ لأن أضعف جهة - وهي الواقعة بين قرتال تبه وقوش تبه - كانت بعيدة عن محطة السكة الحديد، فلم يكن في وسع البلغاريين أن ينقلوا إليها المدافع الكبيرة والذخائر وغيرها. وزد على هذا كله أن جميع الأراضي لا تصلح لنصب مدافع الحصار، فلهذين الاعتبارين اختار الجنرال إيفانوف قائد الجيش البلغاري حول أدرنه أن يتجه بمعظم قوته إلى الجهات التي ما بين مريج وطونجه، وإن كانت الحصون العثمانية هناك منيعة جدا.
أما القوات البلغارية التي كانت حول أدرنه فهي 30 مدفعا (12سنتيمترا)، و41 مدفعا قصيرا (15سنتيمترا)، و40 مدفعا كبيرا من العيار ذاته وسبع بطاريات من طراز 75 مصنوعة على قواعد خاصة، غير أن الكولونل بوكابيل يقول: «إن بعض تلك المدافع كان قديما، أما عدد الجنود فقد كان يختلف بين حين وآخر؛ لأن أركان حرب الجيش البلغاري كانوا يبدلون ويزيدون وينقصون حسب مقتضى الحال، ولما قهر الصربيون الجيش العثماني الغربي في قومانوا (كومانوفو) أرسلوا إلى جهة أدرنه معظم الجيش الذي كان يقوده الجنرال ستفانوفتش، فسافرت حينئذ فرقتان بلغاريتان إلى جتالجه، وروى الموسيو دي زيغو نزاك الذي كان مع الجيش البلغاري أن الجنود المحاصرة لأدرنه لم تبلغ يوما مائة وخمسين ألفا، وأن منظر الرديف البلغاري بدا له غريبا، فكان يبصر الشاب بجانب الكهل، ويجد كلا منهم على شكل، بعضهم يلبس الملابس الوطنية، وبعض يلبس عباءة من جلود الخراف، وآخر يتشح ببرنس من الصوف الأسمر أو الرمادي، وغيره متأنق في لبسه.»
على أن روحا واحدة وغرضا واحدا كانا يجعلانهم جيشا ...
أما القوة العثمانية فقد كانت في أوائل الحرب نحو خمسين ألف رجل، ثم انضم إليها عدد من الجنود، واستخدم شكري باشا قائد الموقع كل رجل عثماني صالح للخدمة في المدينة نفسها، قال خليل بك والي ولاية أدرنه في مقال نشره بعد التسليم: «كان في قلاع أدرنه خمسة وسبعون ألفا من الجنود، وبلغ عدد الأهالي مع الذين هاجروا إليها 120 ألفا، وقد لبثنا نعول هؤلاء كلهم إلى أواخر أيام الحصار، وكان في القرى والدساكر المجاورة للمدينة قدر كبير من المؤن والذخائر، ولكن هجوم العدو علينا منعنا من نقلها، فاستولى هو عليها وأطعم جنوده من تلك المؤن زمنا طويلا.»
وكان في القلعة ذاتها عدد كبير من الأبقار والأغنام فأردنا أن نسوق جانبا منها إلى الأنحاء الجنوبية، فاستولت الجنود والعصابات البلغارية على أكثره عند نقله.
وكانت القوات العثمانية الموكلة بالدفاع والهجوم مؤلفة من الفرقة النظامية العاشرة تحت قيادة حسام الدين باشا، والفرقة النظامية الحادية عشرة بقيادة المير لوا إبراهيم باشا، والفرقة الثانية من رديف أدرنه بقيادة المير لوا علي ناظم باشا، وفرقة رديف بابا اسكي الثانية بقيادة الميرالاي نوري بك، وفرقة النشانجية وفرقة كرملنجه بقيادة الميرالاي جلال بك، وطوبجية المواقع.
ثم قال عن المئونة: «كان في القلاع عشرة آلاف كيس من الدقيق، واتفق أن موسم الحصاد كان في زمن التعبئة وأن أصحابه لم يتمكنوا بسببها من إرسال حبوبهم إلى الخارج، فاستفدنا منها وجمعنا عشور مدينة أدرنه وجعلناها وديعة في ذمة الحكومة.»
على أن الملح كان قليلا في بدء الحصار، ولم يكن في المخازن العسكرية شيء منه، فلما بلغني هذا الخبر طلبت منه مقدارا من دده أغاج، ولكن الخطوط الحديدية كانت مشغولة بنقل الجنود وأثقالها، ولم أنل بعد الجهد إلا تسع عربات من الملح باسم الشركة، وما مضى شهران ونصف أو ثلاثة من ابتداء الحصار حتى نفد الملح.
وكان ستون ألف صيفحة من الجبن في مدينة أدرنه، فلما علم أصحابها بخبر تعبئة الجيش أرادوا تهريبها، ثم عرضوا على الحكومة أن تساعدهم على نقلها إلى الخارج مقابل خمسة آلاف أو ستة آلاف من الليرات، ولكن حاجتنا إلى المئونة كالدقيق والأرز والفاصوليا والسكر إلخ، وعجزنا عن استحضارها من دده أغاج أو الأستانة، وملاحظة أن ذاك المقدار من الجبن ينفع الجنود والأهالي معا؛ كل ذلك جعلني أمنعهم من نقل أية كمية من الجبن الموجود، ولقد صح ظني فإن الجبن كان إدام الجنود والأهالي بعد أن نفذ الملح، فكانوا يأكلونه مع الخبز الحلو فيسد بعض الحاجة. أما المرضى والجرحى فقد كنا ادخرنا لهم مقدارا من الملح كفاهم إلى آخر أيام الحصار.
ولما صد البلغاريون الجنود العثمانية التي كانت في مصطفى باشا وغيرها من الجهات الواقعة خارج القلاع، أصدر شكري باشا منشورا قال فيه: إن الجنود العثمانية ستقوم بواجب الدفاع حتى النهاية، وستظهر من الحزم والثبات والشجاعة ما أظهره أبطال بلفنا في الحرب الروسية العثمانية. ثم أوصى الأهالي بالتزام السكون، وطلب إلى السكان الذين لا يملكون مئونة تكفيهم نحو شهرين أن يبرحوا المدينة، على أنهم لم يكونوا يستطيعون السفر جمهورا؛ لأن الخطوط الحديدية كانت مشغولة، فبقي في أدرنه أكثر من ثلثي الأهالي، وبلغ عدد الذين خرجوا من أسر الضباط وغيرهم نحو اثني عشر ألفا على رواية والي أدرنه نفسه.
غير أنه برغم ذاك التدبير أخذ الأهالي يحتاجون إلى الخبز في أواخر أيام الحصار كما روى قنصل فرنسا. ويظهر من حديث والي أدرنه أن هناك أناسا كانوا يخبئون المئونة.
وصفوة ما يقال من هذا القبيل: إن أهالي أدرنه إذا كانوا لم ينجوا من المضايقة والمخاوف الشديدة بسبب إطلاق المدافع واحتراق المنازل وتهديم بعضها، فإنهم لم يقاسوا ما قاساه الباريسيون الذين اضطروا إلى أكل الفئران في حرب السبعين.
أما الوجهة الحربية فإن المراسلين وغيرهم أعجبوا بها وعدوها مفخرة لشكري باشا ورجاله، وأول ما نذكره للدلالة على دفاع أولئك الشجعان القساور شهادة ضابط صربي لمراسل الديلي تلغراف في بلغراد - والفضل ما شهدت به الأعداء - قال ذاك الضباط: إن شكري باشا لا يعرف التعب، ولا يترك للمحاصرين ساعة يستريحون فيها، بل كان سحابة الليل والنهار يرقب حركاتنا وسكناتنا حتى اعتقدنا نحن الصربيين والبلغاريين أن الرجل بطل كبير ووطني صادق، وصرنا نحترمه ونقدر قدره بعد ما رأينا من أفعاله، ولقد هرب في الأسبوع الماضي مائتان من الحامية وسلموا إلينا في الجهة الشرقية، فلما سألناهم أطنبوا في مدح شكري باشا والثناء على همته وبسالته، وقالوا: إنه كان يقضي معظم وقته في جامع السلطان سليم ويراقب منه حركات الجنود البلغارية والصربية. ثم ختم الضابط الصربي حديثه قائلا: «إن الدفاع عن أدرنه وأشقودره يزين صفحة جميلة من صفحات التاريخ العسكري العثماني.»
وقال مراسل التيمس: «إن عظمة العثمانيين وعزة أنفسهم في الأوقات المحزنة، لم تبلغا في وقت من الأوقات الدرجة التي بلغتاها في أدرنه، وإن اصفرار وجوه الحامية، وملابسها البالية الممزقة لدليل على الشدة التي قاستها في أواخر أيام الحصار.»
وأنشأ المارشال فوندر غولتز مقالة دافع فيها عن شكري باشا وقال: «إن أدرنه شرفت العثمانية بقدر ما حطت كارثة قرق كليسا من شأنها، وهذا قول يجب التصريح به لمن يهمهم أمر الوطن العثماني حتى يعلم أبناء العثمانية خاصة والناس عامة أن الجندي العثماني هو أقوى جنود الأرض طرا، بشرط أن ينال حقه من المأكل والمشرب والملبس والعدة الحربية، وها إن التاريخ يضم اليوم إلى صحائفه التي تكتب عن الحرب البلقانية صفحات الخطأ والانهزام الشائن الذي حدث في قرق كليسا، وصفحات الجوع وخلل إدارة الميرة في لوله بورغاز، ولا ينسى صفحات الفخر الكبير لقائد أدرنه وقائد بانيا، ولأسعد باشا الذي حارب تسع ساعات ونصفا وهو لا يملك ذخيرة ولا ميرة، فإذا كانت المصائب تعلم الأمم وكان صحيحا أن الأمة لا تصلح خللها إلا بعد كارثة شديدة، فإن الواجب على العثمانيين أن يعتبروا بما فات ليبرهنوا للعالم أنهم قريبون من الحياة الحقيقية.»
وقرأنا في الجرائد الفرنساوية التي صدرت في النصف الأول من شهر أبريل الماضي أن عددا كبيرا من الفرنساويين عقدوا اجتماعا في باريس تحت رئاسة الموسيو بويش وزير الأشغال الأسبق، فألقى الأستاذ ألفريد دوران خطبة عن تركيا وحالتها، ثم طلب إلى الحاضرين أن يوافقوه على إرسال كلمة إعجاب لشكري باشا فوافقوه بإجماع الآراء بين الهتاف والتصفيق، وكلفوا السفير العثماني أن يبلغ شكري باشا إعجابهم وميلهم العظيمين «للبطل الذي يجب أن تكون شجاعته ومقاومته مثالا لمن يشغفه حب الوطن في ساعة الخطر.»
وروت التان: أن البلغاريين أنفسهم لقبوه «بأسد أدرنه». •••
حسبما تقدم من الشهادات الأجنبية، ويجدر بنا أن نذكر لخدمة التاريخ انتقادا وجه على ذاك البطل المقدام، وهو أنه لم يخرج أيام المعركة الفاصلة في لوله بورغاز، مع أن مثل هذا الخروج كان يمكنه أن يفيد الجيش العثماني فائدة كبيرة؛ لأن النصر بقي يترواح يوما كاملا بين البلغاريين والعثمانيين، وممن أشار إلى هذا الإحجام خليل بك والي أدرنه حيث قال: «إن القائد العام طلب من شكري باشا عند ابتداء معركة لوله بورغاز أن يعد جيشا ويخرج به من أدرنه ليقطع خط الرجعة على البلغاريين ، فأبى شكري باشا لاعتقاده أن إنقاص الحامية يفيد العدو.»
ثم نقل خالد بك رواية لأحد أمراء البلغار قال فيها: «لقد خفنا وصول المدد من أدرنه، وأخذنا نستعد للتقهقر في لوله بورغاز، ولكنا أردنا أولا أن نستطلع طلع الأتراك، ولما علمنا أنهم تركوا مواقعهم وأن أدرنه لم ترسل إليهم نجدات عدنا إلى التقدم.»
على أن مراسل التيمس في تراقيه بعث بمقالة عن حصار أدرنه ذكر فيها أن شكري باشا لم يقصر في الخروج، وأنه لما فشل في الانضمام إلى الجيش بعد نشوب القتال في قرق كليسا، كان السبب في فشله انقطاع الأخبار لعدم وجود «قلم مخابرات»، فهو قصد إلى الجهة التي كان يظن العدو نازلا بها فوجدها خالية فذهبت حركته أدراج الرياح، ثم خرج غير مرة قبل تشديد حلقة الحصار، وحدث عند تقهقر العثمانيين أنه خرج أيضا وكاد الأعداء يدخلون القلاع من خلفه، ولكن رفعت باشا أدرك مقصدهم وجمع الطوبجية المسلحين بالقرابينات؛ (لأنه لم يكن يثق بالرديف)، وزحف بهم إلى الجهة التي تقدم منها البلغاريون، فانخدع هؤلاء بهجومه وفشلوا في اغتنام الفرصة، فتمكن عندئذ شكري باشا من الرجوع إلى مواقعه.
وكان البلغاريون يصرفون الجهد إلى إضعاف عزائم الحامية، فمن أعمالهم التي ذكرها والي أدرنه والموسيو جينيه قنصل فرنسا الذي كان محصورا، أنهم أرسلوا طيارا بعد فشل الجيش العثماني إلى ما فوق المدينة، فأخذ يرمي عليهم من الجو منشورات جاء فيها أن البلغاريين إنما يحاربون الحكومة العثمانية ولا يرتكبون عملا ضد المسلمين، ولا يريدون سفك الدماء بل يرمون إلى غرض وحيد، هو توطيد أركان الأمن في البلقان، ثم ذكروا أن أربع دول أحاطت بالأملاك العثمانية في شبه جزيرة البلقان، وأن بابا اسكي ولوله بورغاز وديمتوقه واسكوب وبرشتينا وقومانوا (أي قومانوفو) والاصونا وغيرها من المدن العثمانية العظيمة أصبحت في أيديهم وتحت سلطانهم ، وأن أدرنه حوصرت من كل جهة فصار من المستحيل إرسال المدد إليها من الأستانة، وإن أمام أدرنه ألف مدفع بلغاري، فإذا لم تسلم المدينة كان نصيبها الدمار والخراب.
ولما اطلع شكري باشا على تلك المنشورات أصدر منشورا أظهر فيه قوة قلاع أدرنه وذكر جملة حوادث فظيعة منسوبة إلى البلغار.
ومنها؛ أنهم أرسلوا مندوبين إلى شكري باشا ليشرحوا له ما أصاب الدولة العثمانية، ويظهروا أن كل مقاومة أصبحت عبثا، وعرضوا عليه أن يخرجوا الحامية بسلاحها وشرفها العسكري، فأبلغهم أنه يرفض التسليم كل الرفض، وبقيت الحرب سجالا فردت حامية أدرنه هجمتين عنيفتين وهجمات صغيرة لا تعد، وإذا صح ما رواه الكولونل بوكابيل فإنها خسرت منذ ابتداء الحصار إلى يوم الهدنة (التي أبلغ خبرها إلى الحامية في 8 أو 9 ديسمبر) 15000 بين قتيل وجريح، وخسارة البلغاريين 10000 رجل.
وفي اليوم العاشر من شهر ديسمبر اجتمع المندوبون البلغاريون والمندوبون العثمانيون واتفقوا على شروط الهدنة. •••
ولما فشل مؤتمر الصلح وألغيت الهدنة (كما سترى بعد نهاية الكلام على المعارك)، عاد البلغاريون إلى مهاجمة أدرنه كما عادوا إلى القتال في كليبولي وجتالجه، فاستولوا على قلعة «مال»، ولما لاح الصباح في 25 مارس أخذوا يطلقون القنابل من عدة جهات على النقطة التي عينوها للهجوم، وكانت البطاريات العثمانية تجيبهم بشدة في جميع الأقسام، ونحو الساعة الثامنة
2
صباحا كان الضباب كثيفا فاضطر الطوبجية إلى إسكات مدافعهم، على أن هذا الضباب ساعد المشاة البلغاريين فتقدموا مسافة نحو القلاع.
وفي الهزيع الأول من ليل 26 مارس اخترق آلاي بلغاري الأسلاك المنصوبة لصد العدو، وقيل: إن الجنود التي تولت قطعها كانت تحمل تروسا وتسوق معها عددا من الأبقار وغيرها. ثم هجمت الجنود البلغارية قبل أن يتم قطع الأسلاك وهي تصيح صيحة الحرب فصادمتها الجنود العثمانية في القلاع نفسها فقتل كثيرون بالسلاح الأبيض، وما كانت الساعة الثامنة من صباح 26 مارس حتى صارت جميع الجهات الشرقية من حصون أدرنه في أيدي البلغاريين، ثم استمر القتال في الجهات الأخرى حتى تم النصر لهم نحو الساعة الثانية بعد الظهر، وأسروا الغازي شكري باشا وأركان حربه، وقد تباينت الأقوال في تسليم شكري باشا، فادعى الصربيون أن رجالهم أسروه فكذبهم البلغاريون، على أن شكري باشا نفسه ذكر في حديث تناقلته الجرائد أنه سلم إلى البلغاريين ، وكانت غنيمة هؤلاء مئات من المدافع، وأسروا نحو أربعين ألف رجل،
3
وأرسلوا شكري باشا وأركان حربه إلى صوفيا حيث أحسنوا معاملتهم، وأبى ملكهم أن يأخذ منه السيف احتراما لبسالته، ولكنهم أساءوا معاملة الأسرى العثمانيين وألهبوا أجسامهم بالسياط والحراب على رواية إحدى الراهبات ومراسل التيمس، وليس في هذا العمل - إن صح خبره - شيء من الإباء والأنفة التي يجب أن يتحلى بها الشجعان.
وقالت جريدة لوكال انزيجر في وصف أدرنه بعد سقوطها: «أنها كانت هائجة مائجة، وكان البلغاريون والأروام يهجمون على منازل المسلمين فينهبون ويسلبون ويرمون من قاومهم بالرصاص، حتى كنت ترى جثث القتلى متراكمة في الشوارع. وذكر مراسل التيمس ما يدل على وقوع حوادث فظيعة بعد سقوط المدينة، ولكن النظام ما لبث أن توطد في أنحائها، ودخلها ملك البلغار فزار جامع السلطان سليم الشهير، وكان الأهالي البلغاريون والأروام واليهود يستقبلونه بالأعلام والرياحين، أما خسارة البلغاريين والصربيين في تلك الهجمات فيرى المراسلون الحربيون أنها بلغت نحو 15 ألف رجل على أقل تقدير. وأما خسارة العثمانيين فهي ما بين 7 و10 آلاف، ومما يحسن بنا التنبيه إليه عند تقدير الخسارة أن البيان الرسمي الدقيق لكل معركة لم يتصل بنا حتى الآن، وأن القواد العثمانيين لم يهتموا بإحصاء قتلى الجنود (كما روى الماجور هوشوختر الألماني الذي كان معهم)، بل كانوا يحصون الضباط القتلى فقط، ولعلهم ينشرون التفصيل الدقيق بعد الصلح، والراجح أن الاختصاصيين سينشئون مؤلفات خاصة مفصلة من الوجه الحربي لحصار أدرنه كما أنشئوا لحصار بلفنا.»
أما تأثير سقوط أدرنه فقد كان عظيما أليما في عاصمة الدولة واهتمت به الأندية السياسية؛ لأن الدول خافت أن يرسل البلغاريون مائة ألف جندي من جهات أدرنه إلى جتالجه، وأن يصروا على دخول الأستانة ولو عظمت خسارتهم فينفتح حينئذ باب مسألة آسيا العثمانية التي تريد الدول تأجيلها، وكانت روسيا نفسها تأبى أن يقف البلغاريون أمام آيا صوفيا ... (2) تحقيق وزير
سافر الموسيو ميسيمي وزير الحربية الفرنساوية سابقا إلى أدرنه ليرى بعينه طريقة تحصينها وفعل المدافع الفرنساوية فيها، ويحادث قواد البلغار فيما يرجو منه فائدة حربية، وبعد التحقيق أنشأ عدة فصول قال في أحدها ما جوهره:
كان الفكر الشائع أن أدرنه التي أشرف على تحصينها جماعة من أكابر الاختصاصيين الألمانيين فحولوها إلى موقع حديث تحيط به الحصون المحمية المرصوصة، لا يمكن أن تؤخذ إلا بالجوع أو بحصار طويل الأمد، لكن هذا الرأي كان بعيدا عن الصواب كما تحققت بعد أن سمح لي الجنرال إيفانوف بزيارة جميع خطوط التحصين والوقوف على ما قل وجل.
إن أدرنه لديها مرتفعات متوسطة على مسافة خمسة أو ستة كيلومترات، ومنظرها يدل على أنها منيعة وأن الدفاع عنها سهل؛ لعدم وجود غابات أو جدران وما شاكلها من الأشياء التي تحول دون الاستطلاع، ولما كانت سنة 1911 زادتها الحكومة العثمانية تحصينا فأنشأت السكك الحديدية الضيقة بين الحصون كما ترى في المواقع الفرنساوية الشرقية، ونصبت فيها المدافع الضخمة وأعدت لها مقدارا كافيا من الذخيرة، ووضعت في الأقسام التي رأتها أشد استهدافا من غيرها بطاريات محمية بدلا من البطاريات المكشوفة التي يسهل إسكاتها، ثم وضعت الأسلاك ذات الأشواك أمام الحصون فأصبح أخذها عنوة من أصعب الأعمال، ولا سيما إذا كان فيها جنود راسخو العزيمة، وأحضرت منيرات كهربائية (بروجكتور) للاستطلاع.
ولكن الناظر إليها بعين الناقد يجد مع ذاك كله مواضع للضعف في تلك القلاع، فإنك لا تجد فيها خنادق منحدرة بالمعنى الصحيح لوقاية الحصون من الهجمات، ثم ترى بجانب البطاريات الحديثة حصونا قديمة ذات شأن عظيم متداعية للخراب، كما ترى في أحدث الحصون ما يدل على توفير لا معنى له في رص المواقع المعرضة للقنابل.
أما عدد الحامية فقد كان سبعين ألف رجل، ولكن قوتها المعنوية وتعليمها الحربي لم يكونا على غاية ما يرام، ونحن مع اعترافنا بشجاعة قائدها شكرى باشا وأداء ما يستحقه من الإكرام، نرى أن الجنود التي كانت تحت إمرته لم يكن عندها من كنوز البراعة والنشاط ما كان للحامية التي تولى قيادتها عثمان باشا في بلفنا، فإن رجال بلفنا دخلوها مدينة مفتوحة، فما لبثوا أن حولوها إلى موقع حصين أوقف هجوم الجيش الروسي واستوقف معظمه حول موقعها، أما حامية أدرنه فلم تزد شيئا على معدات الدفاع التي كانت قبل الحرب بل وقفت جامدة تنتظر ما تأتيها به يد القدر، في حين أن البلغاريين والصربيين كانوا يشتغلون بلا انقطاع في الأشهر الخمسة، فحفروا الخنادق وأنشئوا المراصد الخفية وبنوا مراكز للدفاع.
أما أطوار الحصار فهي كما عرف المطالع تدل على أن البلغاريين اتبعوا القواعد الحربية الصحيحة، فإنهم اهتموا أولا بقهر معظم القوات العثمانية في تراقيه، واكتفوا بأن يرسلوا إلى جهة أدرنه فرقتين ربما كان عدد رجالهما أقل من عدد الحامية، ثم جاءتهم فرقة ثالثة وفرقتان من الصربيين فضيقوا حلقة الحصار شيئا فشيئا بعد عدة معارك. وفي أواخر شهر أكتوبر طلب الجنرال إيفانوف إلى القيادة العامة أن تأذن له في هجمة عامة على مواقع أدرنه وكرر هذا الطلب، غير أن أركان الحرب رفضوا طلبه؛ لأنهم لم يرغبوا في شدة المخاطرة، بل رأوا من الصواب والحكمة أن يصبروا حتى تسقط المدينة بالجوع أو بشدة الهلع من القنابل المتساقطة على أحياء المدينة.
ولما عقدت الهدنة انقطع البلغاريون عن ضرب المدينة ثم عادوا إلى ضربها بشدة هائلة بعد إلغاء الهدنة.
ولكن عزيمة شكري باشا لم تهن بديمة القنابل أو غيرها، فلما رأى البلغاريون أن حالتهم لا تمكنهم من إقامة حصار منظم يقتضي إنشاء مواقع ومستودع أسلحة وطرقا خفية وعددا كبيرا من الجنود الفعلة، ورأوا من جهة أخرى أن المواصلات لا تسمح لهم بمثل تلك الأعمال الكبيرة الطويلة، قرروا أن يهجموا على أدرنه ويأخذوها عنوة وقسرا كما طلب الجنرال إيفانوف. وفي 23 مارس صدر إليه الأمر بالهجوم الشديد على المواقع الشرقية الشمالية، وفي 24 منه أخذت المدافع البلغارية كلها تحول نيرانها إلى الجهة المعينة للهجوم، فأجابتها البطاريات العثمانية، ولكن النيران البلغارية الهائلة أسكتتها بعد مدة، وما اسود جنح الليل حتى هجم البلغاريون بالسلاح الأبيض فاستولوا على المواقع العثمانية، ثم واصلوا الهجوم - كما شرحنا قبلا - حتى تم لهم النصر وأسروا الحامية وغنموا مدافعها وكل ما كان لديها من المئونة.
أما النتيجة التي استخلصها الموسيو ميسيمي فهي: «أنه يعتقد مع جماعة من كبار الضباط البلغاريين أن المواقع الحصينة تكون مهددة بخطر السقوط إذا وجهت المدافع الفاتكة إلى نقطة واحدة منها، فأودت بقوتها، ثم هجمت عليها تحت حماية المدافع جنود باسلة تريد النصر ولا تخشى الموت في سبيله، وأن البلغاريين لم يلبثوا خمسة أشهر أمام أدرنه؛ إلا لأنهم كانوا مضطرين إلى تسيير القسم الأعظم من جيشهم إلى جهات أخرى؛ ولأن مواصلاتهم ومعداتهم كانت غير كافية، وليس هذا حال دول أوروبية عظيمة، فإنها إذا كانت محاصرة تتذرع بجميع الذرائع العلمية الحديثة لهدم قلاع عدوها، وإذا كانت محصورة فلا تدع في مواقعها وجوه الضعف التي ظهرت في بعض جهات أدرنه.»
معارك الجيش الصربي والجيش العثماني الغربي
صدر أمر الدولة الصربية بتعبئة جيشها في أول أكتوبر فقابلته أمتها بالتحمس الشديد، وتولى الملك القيادة العامة وعين الجنرال بوتنيك رئيس أركان حرب، ثم قسم القوات الصربية إلى أربعة جيوش، وسير ثلاثة منها إلى جهات اسكوب وأشتيب حيث معظم الجيش العثماني الملقب بالغربي، وكان لواء الجيش الأول؛ معقودا للأمير إسكندر ولي عهد الصرب، والثاني: تحت قيادة الجنرال ستفانوفتش، والثالث؛ تحت قيادة الجنرال جانكوفتش، أما الرابع؛ فكان مستقلا عن الثلاثة المذكورة، وحشد شمالي سنجق يني بازار.
وأما القوات العثمانية التي أعدت لمقابلة الجيوش الصربية الأربعة، فقد جعلت تحت قيادة محمد رضا باشا، وكانت مؤلفة من ثلاثة فيالق وهي الخامس والسادس والسابع وكل واحد منها مؤلف من ثلاث فرق، وكان هناك ثلاث فرق مستقلة وهي الفرقة الثانية والعشرون في قوجانه، والثالثة والعشرون في يانيه، والرابعة والعشرون في أشقودره، ثم أضيف إلى القوات المذكورة فرقتان من الرديف المحلي، ثم فرقة واحدة من رديف الأناضول بعد فشل تحسين باشا كما سترى.
ولما كان الرديف الألباني وخصوصا الرديف المسيحي من بلغاريين وصربيين وغيرهم لم يظهروا إخلاصا راسخا، فقد رجح الكولونل بوكابيل أن عدد الجنود العثمانية لم يبلغ أمام القوات الصربية ما قدر له على الورق الرسمي. •••
وقد أوقف علي رضا باشا قواته مقسمة إلى أربعة أقسام لدى الصربيين وما ترك أمام اليونانيين والجبليين إلا الفرق الثلاث المستقلة التي تقدم ذكرها، وثلاث فرق أخرى من الرديف، وكان قلب الجيش العثماني تحت إمرة زكي باشا وموقعه بين أشتيب وأسكوب، والميسرة تحت قيادة توفيق باشا وموقعها برشتينه، والميمنة بقيادة قره سعيد باشا وموقعها بين أشتيب وسترومجه.
وكان وراء تلك القوات بعض الفرق الاحتياطية من الرديف. (1) معركة قومونوا أو كومانوفو وهي الفاصلة
بدأت الجيوش الصربية بالأعمال الحربية يوم إعلان الحرب أي 18 أكتوبر، فتقدم أولا الجيشان الثاني والثالث، وبقي الجيش الأول في مركزه إلى 20 أكتوبر ثم زحف، وإليك ما فعله كل جيش منها:
الجيش الثالث:
سار يقصد ميسرة الجيش العثماني وبدأ القتال بين الفريقين في 19 أكتوبر، وما كان مساء اليوم التالي حتي أحرز الصربيون النصر وأسروا طابورا عثمانيا وغنموا مقدارا كبيرا من العدد والذخائر، وفي 21 منه سارت مقدمة الجيش الصربي قاصدة سهل قوصوه، وفي 22 منه قامت معركة شديدة في السهل المذكور بين الصربيين ومعظم قوة توفيق باشا، وكانت نتيجتها فشل العثمانيين أيضا فتقهقروا جنوبا، واحتل أعداؤهم مواقعهم.
الجيش الثاني:
زحف هذا الجيش قسمين فلم يجد أمامه مقاومة جديرة بالذكر، ولما هجم أحد قسميه على بلدة كريفا استولى الرعب على الأهالي ولا سيما المسلمين، فهربوا وتركوا أولادهم على طريق كومانوفو. وما كان اليوم الثاني والعشرون من أكتوبر حتى أصبح هذا الجيش على ثلاثين كيلومترا أو أقل من مدينة كومانوفو التي ستحدث فيها الوقعة الفاصلة.
الجيش الأول:
قلنا إن هذا الجيش لم يتحرك إلا في 20 أكتوبر أي بعد إعلان الحرب بيومين، وقد التقى بمقدمة القوة العثمانية فصدها إلى طبانوفجه، وما كان اليوم الثاني والعشرون من أكتوبر حتى بدأ الصدام على مسافة كيلومترات قليلة شمالي مدينة كومانوفو، على أن المعركة الكبرى الفاصلة لم تبتدئ إلا في الثالث والعشرين، وهاك تفصيلها: لما كانت الساعة الثانية والنصف بعد ظهر اليوم المذكور أصدر زكي باشا أمره بالهجوم على الفيلق الصربي الأول الذي كان على بضعة كيلومترات شمالي المدينة، وكان الجو قاتما غائما والمطر يهطل مدرارا، فقاوم الصربيون العثمانيين حتى المساء، ولكنهم لم ينالوا مأربا ولم يشوموا للنجاح برقا، ولما أزفت الساعة الواحدة بعد منتصف ليل 24 أكتوبر حملوا حملة شديدة تحت جنح الظلام، فاستولوا على المواقع التي يصلح منها الهجوم العام ونصبوا مدافعهم على المرتفعات، ثم أتاهم جانب من الجيش الصربي الثاني فوقف بمدافعه عند الميسرة الصربية، ثم أخذ الصربيون يواصلون الهجمات على مواقع العثمانيين في الجهات الشمالية والشمالية الشرقية من مدينة كومانوفو، وكانوا في كل هجمة يخسرون عددا كثيرا من جنودهم حتى زعزعوا حزم الفيلق العثماني السابع، ولا سيما بعد أن وصلت القوة التي أرسلها الفيلق الصربي الثاني، فأراد زكي باشا أن يتقهقر، وأمر الفيلق السادس بالتقدم ليتمكن من تخليص الفيلق السابع، ولكن نيران المدافع الصربية اشتدت إلى حد أوقع الرعب في قلب الفيلق السابع، فكانت خسارة العثمانيين هائلة في ذاك اليوم الأسود؛ لأنهم فقدوا القوة المعنوية ومعظم القوة المادية. ونحو الساعة العاشرة قبل الظهر تقدم الجيش الصربي الأول إلى مدينة كومانوفو واحتل المرتفعات ووادي ليبقوه، ثم أخذ يستولي على مواقع العثمانيين واحدا بعد واحد.
وفي ذاك الوقت نفسه قاتلت قوة بلغارية جنود قره سعيد باشا فصدتها.
ولقد كانت معركة كومانوفو شؤما على الجيش العثماني الغربي، بقدر ما كانت معركة لوله بورغاز شؤما على الجيش الشرقي، وبلغت الخسارة العثمانية فيها عشرة آلاف رجل بين قتلى وجرحى و86 مدفعا و300 مركبة للسكة الحديدية. وبلغت خسارة الصربيين 3000 رجل بينهم كثيرون من الضباط. وقيل: إن جميع ضباط الآلاي السابع قتلوا وجرحوا ما عدا اثنين.
1 •••
بعد تلك الوقعة الفاصلة أخذ الجيش العثماني الغربي يتقهقر إلى جهات مناستر، فسار قسم منه على طريق غستوا والثاني على طريق برلبه، وأجمع المراسلون الحربيون على أن تقهقره وخصوصا تقهقر الفيلق السابع كان منظرا يدمي مقلة العثماني، فلا نظام واف ولا أكل كاف ولا مستشفيات نقالة للجرحى، بل شذاذ منتشرون على الطريق هنا وهناك أو محتضرون يلفظون النفس الأخير وهم يرتجفون بردا ويتألمون عطشا أو جوعا.
على أن القواد العثمانيين تمكنوا بعد ذاك الرعب من ضم شمل الجنود الباقية، وأخذوا ينكصون وهم يدافعون، ولما وصل الصربيون إلى أشتيب ثار أهلها على العثمانيين وانضموا إلى البلقانيين.
وفي يومي 26 و27 أكتوبر انقطعت كل صلة بين الجيش العثماني الشرقي والجيش العثماني الغربي، واستولى البلغاريون على الخط الحديدي في ديمتوقه، وحصل الأسطول اليوناني على السيادة البحرية من جهة أخرى، فصار من المستحيل على الجيش العثماني الذي فشل أمام الصربيين أن يتلقى نجدات أو مئونة من الأستانة، فلم يبق لدى هذا الجيش إلا مواصلة السير نحو ألبانيا حيث يرجو الحصول على قدر من المؤن، وحيث يرى أراض وعرة تمكنه من المقاومة.
أما الصربيون الذين كانوا يلتهبون شوقا إلى احتلال ثغر على البحر الأدرياتيكي، فإنهم قرروا أن يواصلوا الزحف ليقاتلوا الجنود العثمانية التي اجتمعت في مناستر، ثم يزحفوا نحو ذاك البحر. (2) وقعة مناستر
تمكن قائد الجيش العثماني الغربي من الحصول على الوقت اللازم لحشد ما لديه من القوات؛ أي نحو 55 ألف رجل من الحاميات والرديف والألبانيين وبقايا الجيش الذي فشل في كومانوفو وجمع معهم نحو 80 مدفعا، وكان الفضل في تمكينه من حشدها راجعا إلى المؤخرة العثمانية التي قاومت الصربيين في قرجوه وبرليبه.
وقبل الكلام على المعركة يجدر بنا أن نذكر للمطالع أن مناستر قائمة على الضفة اليمنى من نهر قرنه عند جبال بابا، ومدخل المضيق المؤدي إلى رسنه فالبلاد الألبانية، وهناك مرتفعات تشرف من الجهة الشمالية على المدينة وتتصل بالضفة اليمنى من نهر سمنيقا.
فلما ضم القائد العثماني شمل جنوده، حفر لها خنادق في السهل القريب من نهر قرنه، وأنشأ خطا دفاعيا على المرتفعات، وكانت المدينة نفسها محمية ببعض الحصون، ثم رتب جنوده قبل المعركة كما يلي:
الميسرة:
الفيلق السادس بقيادة جاويد باشا.
القلب:
بقايا الفيلق السابع بقيادة فتحي باشا.
الميمنة:
الفيلق الخامس بقيادة زكي باشا.
ثم وضع قوة لصد قوة يونانية كانت تتقدم من جهة بانيجه (بانيتز)، أما الصربيون فقد واصلوا الزحف ولقوا مصاعب كثيرة من المطر والثلج والوحل، وفي 13 نوفمبر تلاقى فرسانهم وعدد قليل من الجيش العثماني في جوار دوبرمير عند الضفة اليسرى من نهر قرنه، فضربوه بالقنابل واضطروه إلى التسليم. وفي يوم 14 منه حمي وطيس المعركة الكبرى ثم زاد اشتدادا في اليوم التالي، وأصبح ممتدا على مسافة خمسين كيلومترا، فقاسى الصربيون المهاجمون تعبا كبيرا من وعورة الأرض وكثرة الأمطار على أنهم صبروا واستمروا على التقدم البطيء، وما كان ليل 16 نوفمبر حتى هجمت ميمنة جيشهم واستولت على المرتفعات القائمة بين أوبلا كوفو وكوسيستا، ثم تمكنوا صباحا من الإحاطة بالعثمانيين بعد أن خسروا عددا جما من رجالهم. ولما تم لهم حصر الجنود العثمانية أخذوا يضنون بجنودهم ويعتمدون على مدافعهم الفاتكة، ولكنهم رأوا أن لا بد لهم من هجمة جديدة لأخذ بعض المرتفعات فهبوا في ليل 17 نوفمبر وأخذوها عنوة. حينئذ طفق العثمانيون يحاولون الخروج من حلقة الحديد والنار، فأمر زكي باشا قائد الميمنة بالرجوع إلى جهة فلورينا، فتمكنت عدة طوابير وكوكبتان من الفرسان وبطاريتان من الذهاب جنوبا بفضل الضباب الذي كان كثيفا قاتما، ولكن الفرسان الصربيين ما لبثوا أن شعروا بخروج تلك القوة العثمانية، فهجموا عليها مع قسم من المشاة فحلوا عقدها وأخذوا مدافعها بعد قتال شديد، ثم لقيت بقاياها قوة يونانية فقاتلتها واتجهت نحو مضايق بيروديني.
أما جنود فتحي باشا وجاويد باشا؛ أي جنود القلب والميسرة، فإنها بعد أن قاتلت الصربيين وفشلت في صدهم حاولت أن تتجه نحو رسنه فلم تفلح، لم تشعر إلا وهي عند منحدرات جبال بابا لا تجد منفذا لدى ميمنة الصربيين التي كانت تحتل الروابي وتهدد كل قوة عثمانية تمر على مرماها، فلما رأت هذا الموقف الحرج اتجه قسم كبير منها إلى الطرق الجبلية هناك ومعها جاويد باشا نفسه، وسلم قسم في مناستر وما جاورها، ولما تم النصر للصربيين أرسلوا قوة متجولة لمطاردة الذين ذهبوا من تلك الطرق الجبلية.
وبلغت خسارة الصربيين في تلك المعركة الكبرى 8000 رجل بين قتلى وجرحى، وخسارة العثمانيين 10000 رجل و51 مدفعا منها 39 مدفعا غنمتهم فرقة واحدة، وعدة آلاف من الأسرى بينهم ثمانية من كبار الضباط، وقد لبث المدفع يدوي والدم يجري بين العدوين ثلاثة أيام بلياليها لم يسترح فيها المهاجمون ولا العثمانيون، برغم الضباب وكثرة المستنقعات والأوحال. (3) نحو ألبانيا والأدرياتيك
بعد أن احتل الصربيون مناستر وجهوا النظر إلى ألبانيا، فسيروا فرقة إلى جهة رسنه فوصلتها يوم 21 نوفمبر، ثم زحفت منها إلى أوكريدا (وتسمى أوخرى بالتركية) فبلغتها في 29 منه.
وأرسلوا في ذاك الوقت أيضا قوة متجولة فقابلتها هناك قوة من الجنود والأهالي الألبانيين، ودار قتال شديد بين الفريقين انتهى بفوز الصربيين، وكانت قوة مختلطة من هؤلاء والجبليين تقاتل بقايا الجنود العثمانية في الجهات الغربية وتحتل المواقع التي في طريقها واحدا فواحدا.
وليس لنا مندوحة عن تذكير المطالع هنا بأن الجيش الصربي الرابع لم يكن مع الجنود التي خاضت المعارك المذكورة، فإن القيادة الصربية العامة وكلت إلى هذا الجيش يوم إعلان الحرب أن يزحف أولا إلى سنجق يني بازار، فيخرج منها الحاميات العثمانية ثم يمد يد المساعدة لجيش الجبل الأسود.
فقسم قواته إلى قسمين؛ أولهما: زحف إلى جهة يني بازار، والثاني: قصد سنيجه. فوصل الأول إلى يني بازار في 21 أكتوبر أي بعد إعلان الحرب بثلاثة أيام، فوجد فيها قوة عثمانية مؤلفة من نحو ثلاثة طوابير منظمة وبضعة آلاف من الألبانيين، فقاومت الصربيين ثلاثة أيام برغم مدافعهم الفاتكة ثم سلمت بعد هجمة قوية بالسلاح الأبيض، وقد بلغت خسارتها نحو 300 قتيل و700 جريح، وبلغت خسارة الصربيين 500 بين قتيل وجريح.
أما القسم الصربي الثاني فقد استولى على ميتروفيتزا في 26 أكتوبر، وسار إلى مدينة إيبك بعد أن احتلها الجبليون بيوم واحد، ثم أخذت الجنود الصربية تحتل المواقع العثمانية بعد معارك صغيرة لا يهم وصفها.
على أن هناك معركة لا بد من ذكرها؛ لأنها أدت إلى مشكلة سياسية كما سترى، وذاك أن قوة من الجيش الصربي الثالث زحفت في 27 أكتوبر جنوبا إلى جهة بريزراند، فنشب قتال شديد بينها وبين عدد من الجنود العثمانية المنظمة ومن ألبان ليوما، ولما كان 30 أكتوبر دخل الصربيون المدينة فقابلهم عدد من العثمانيين فيها فتصادم الفريقان في الشوارع ثم انتهى القتال بتغلب الصربيين على تلك القوة الصغيرة، وقد حدث في ذاك اليوم أن جماعة من الألبانيين لجئوا إلى القنصلية النمساوية، فما كان من جنود الصرب إلا أن دخلتها بالقوة وذبحت من كان فيها برغم احتجاج الموسيو بروشاسكا قنصل النمسا، وأهانت الشعار النمساوي الذي كان معلقا بالقنصلية (وسترى في الباب السياسي ما كان من نتائج هذا الحادث).
ثم ذهب قسم من الجنود الصربية فعضد الجبليين في أخذ دياكوفو يوم 6 نوفمبر، ثم اتجه الصربيون منها ومن بريزرند إلى سواحل الأدرياتيك فاحتلوا دورازو (أو دراج) وغيرها. قال مراسل التيمس: إنهم لقوا في سيرهم مصاعب لا تخطر في بال، فقد اضطروا غير مرة إلى إنهاض المدافع والخيل بأيديهم من الثلج الذي بلغ علوه نحو متر في بعض الأنحاء، كما اضطروا إلى إنقاص قوتهم اليومي؛ لأن الأراضي التي اجتازوها جدبة قاحلة، وكانت درجة البرد 15 تحت الصفر.
ولما بلغوا السواحل، أخذ حلفاؤهم اليونانيون يرسلون إليهم المئونة والذخيرة عن طريق البحر.
زحف الجيش اليوناني ومعاركه
قسم الجيش اليوناني إلى قسمين، وجعل معسكر القسم الأول في لاريسا تحت قيادة ولي العهد مباشرة، وسمي الجيش الشرقي ثم كتب له غرض معين، وهو أن يهجم على القوات العثمانية النازلة وراء الحدود اليونانية حينما يكون البلغاريون والصربيون والجبليون عامدين إلى الهجوم من الجهات الشمالية، والشمالية الشرقية، والشمالية الغربية.
أما القسم الثاني: فعقد لواؤه للجنرال سبوندزاكيس، وسمي الجيش الغربي وجعل غرضه أخذ يانيه وإعادة شرف الراية الإغريقية بعد ما أصابها سنة 1897 من عار الانكسار لدى الأهالي اليونانيين في أبيروس، وقد صدر الأمر إلى بعض البوارج اليونانية بأن تساعده من جهة بريفيزا التي جعلت قاعدة حربية لقوة هذا الجنرال.
أما القوات العثمانية التي تمكنت الدولة العثمانية من حشدها بقيادة تحسين باشا لصد الجيش اليوناني عند الزحف، فلم يتمكن المراسلون الحربيون من تعيينها بالتدقيق، ولكن الجنرال بوكابيل يقدرها بنحو خمسة وثلاثين ألف رجل منها خمسة عشر ألفا كانت أمام القسم اليوناني الأول، وعشرون ألفا أمام القسم الثاني.
ولما أعلنت الحرب في 18 أكتوبر تحرك القسمان اليونانيان معا، ونحن نتكلم أولا على أعمال القسم الأول الذي قاده ولي العهد.
قلنا: إن مهمة هذا القسم من الوجهة الحربية إنما هي التعاون مع حلفائه على قهر الجيش العثماني الغربي (لأن الجيش العثماني الشرقي - أي جيش تراقيه - كان يكفيه معظم الجيش البلغاري وبعض فرق الجيش الصربي)، وسيرى أمامه قوة حسن تحسين باشا المذكور، وهو الذي كان واليا ليانيه يوم إعلان الحرب، وعمره نحو من 65 سنة. ومما يجب ذكره في هذا المقام أن نظام الجنود العثمانية كان مختلا كما رأيناه في جميع الأنحاء، فإن المؤن والذخائر كانت قليلة، والإدارة غير منظمة، والمدافع الجبلية غير موجودة، والوسائل الصحية تكاد تكون عدما، وقلم المخابرات ليس له أثر.
فولي عهد اليونان سيرى إذن أمامه قائدا ضعيفا بحكم الشيخوخة وجنودا ضعيفة بقلة العدد والعدد، ونقص الميرة والذخيرة، وفرط الخلل والعلل، وأول ما وضعه الأمير اليوناني نصب عينه هو احتلال سلانيك؛ لأن دخول هذا الثغر في وقت قصير كان يهم الدولة اليونانية من الوجه السياسي والوجه الحربي والوجه الديني.
أما من الوجه السياسي: فلأن سلانيك هي العاصمة العثمانية الثانية في تركيا أوروبا، وعدد سكانها اليونانيين نحو أربعين ألفا، فيجب على ولي عهد اليونان أن يبذل كل رخيص وغال ليتمكن من دخولها قبل الجنود البلغارية. وأما من الوجه الحربي: فلأن احتلال سلانيك يسهل على الحلفاء إرسال المؤن والذخائر إلى الجيوش التي تحارب عند مناستر، كما يسهل قطع المواصلة بين الجنود العثمانية والأستانة من جهة، وبينها وبين البحر من جهة أخرى. وأما من الوجه الديني: فلأن سلانيك كانت مركزا لرئيس أساقفة في غابر الزمن. (1) معركة ألاصونا
سار ولي عهد اليونان (الملك الحالي) بعد أن قسم جيشه إلى قسمين وسير أحدهما إلى ألاصونا فلم يجد مقاومة يوم 18 أكتوبر، ولما تبسم فجر اليوم التالي تقدمت الفرقة اليونانية الأولى نحو موقع الجنود العثمانية، فوجدت فيه قوة مؤلفة من نحو خمسة أو ستة طوابير وبطاريتين، فأخذت المدافع العثمانية ترميها بنار حامية ولكن القنابل لم تنفجر وبعضها كان ينفجر وهو مرتفع، أما القنابل اليونانية فقد كانت فعالة فتاكة فما عتمت أن أسكتت تينك البطاريتين العثمانيتين، وكانت الفرقة اليونانية الثانية تتقدم نحو ميمنة العثمانيين، وقوة يونانية أخرى تزحف نحو الميسرة العثمانية لتقطع عليها طريق الرجعة، فاضطرت الجنود العثمانية إلى التقهقر قبل أن تتم حركة الإحاطة، ولم تبق المعركة إلا أربع ساعات.
ونحو الغروب دخلت الجنود اليونانية ألاصونا حيث وجدت سبعة مدافع وأسرت أربعين جنديا، أما خسارتها فبلغت ثلاثة ضباط و15 قتيلا ومائة جريح.
ثم ضم ولي العهد قواته وزحف في 21 أكتوبر، وما كان 22 منه حتى التقى بمعظم القوة العثمانية، فاشتد وطيس القتال منذ الصباح عند مضيق ساراندوبوروس، فلبثت القوات اليونانية تهاجم العثمانيين من أمام ومن الميمنة والميسرة حتى الساعة التاسعة مساء، فلم يسع القوات العثمانية إلا التقهقر برغم مواقعها المنيعة، فغنم اليونانيون عشرين مدفعا جبليا ومقدارا كبيرا من الذخائر والمركبات، ولكنهم دفعوا ثمنها 18 ضابطا و169 جنديا قتيلا و1077 جريحا بينهم 40 ضابطا.
وفي اليوم التالي لتلك المعركة واصلوا السير إلى سرفنجه ودخلوها نحو الساعة العاشرة مساء، وذكر الكولونل بوكابيل أنهم وجدوا فيها سبعين جثة من نساء وأطفال ورهبان، فهاجوا أشد الهيجان ولبثوا يزحفون ليلا حتى كان صباح اليوم التالي أي 23 أكتوبر، فأدركوا عددا من الجنود العثمانية متقهقرة بلا نظام فأسروا 700 رجل بينهم أميرالاي وسبعة ضباط وعدد من المدافع والأسلحة والمركبات، واحتلوا البلاد التي كانت في طريقهم؛ لأن الجنود العثمانية لم تقف لصدهم وقفة تذكر هناك.
ثم تمهل ولي العهد بجيشه ليتخذ أهبة الزحف إلى سلانيك. (2) معركة ينيجه واردار
تسليم سلانيك
تقدم ولي عهد اليونان قاصدا ينيجه واردار حيث تمكن حسن تحسين باشا من جمع نحو 30 ألف رجل ونحو 30 مدفعا، وبعد مناوشات قليلة الشأن ومصاعب جمة في الطريق وصل ولي عهد اليونان إلى جهة العثمانيين، ونشب القتال في 2 نوفمبر فأظهر العثمانيون حزما وثباتا، ثم غابت شمس ذاك اليوم والجيش اليوناني لم يقدر على زحزحة تلك القوة العثمانية.
ولما لاح صباح اليوم التالي عاد القتال شديدا، ووصلت فرقة يونانية جديدة وهجمت على ميسرة العثمانيين، فترك هؤلاء مواقعهم بعد خسارة 2000 رجل بين قتيل وجريح و500 أسير و14 مدفعا و4 من طراز الميتراليوز.
أما خسارة اليونانيين فقد بلغت حسب إحصائهم الرسمي 38 ضابطا و937 جنديا بين قتلى وجرحى. •••
بعد تلك الوقعة بات موقف سلانيك من أصعب المواقف، وانقطع حبل الرجاء بين يدي تحسين باشا، فمن جهة البحر هجمت سفينة توربيدية على بارجة عثمانية كانت راسية في مياه سلانيك ومهددة لكل عدو يأتي غربا، فأغرقتها وأنقذت الجنود اليونانية من خطرها، ثم جاءت الطرادة أفيروف وثلاث سفن للتوربيد فضربت الحصون العثمانية، ومن الجهة الشمالية الغربية برا وصلت قوة من فرسان الصرب بعد أن طاردت الجنود التركية التي حاولت الخلاص من تلك الجهات، ووصلت أيضا قوة بلغارية من الجهة الشمالية والشمالية الشرقية. وزد على هذا كله أن قوة من اليونان نزلت من طريق البحر وأخذت تتقدم نحو سلانيك، فالأعداء إذن في كل جهة.
لما رأى ولاة الأمور الملكيون وقناصل الدول ذاك الموقف واستشعروا أن قلوب الأهالي انخلعت فرقا من حدوث مذبحة هائلة في شوارع سلانيك، شرعوا يبذلون الجهد لدى تحسين باشا ليحملوه على التسليم، وأظهروا له أن وصول تلك القوات الزاحفة نحو المدينة لا يبقي أملا في إنقاذها بالسيف، ولا سيما أن الجنود العثمانية لم يكن عندها مدافع ولا ذخائر كافية، وكتب مراسل البرلينر الألمانية في هذا الشأن قال: «إن عددا جما من الجنود قدم سلانيك وهو في حالة تدمي العيون والقلوب، فكان منظر هؤلاء القادمين من ضعفاء وهاربين يذكرنا بجنود نابليون يوم تقهقرت من روسيا، وكنا حيثما نذهب نجد أشلاء الرجال والخيل، ولقد مات أمس خمسون جنديا من شدة البرد ...»
نقف عند هذا الحد من الوصف، لنكفي القارئ مئونة الشعور بما يحرج الصدور.
أما تحسين باشا فإنه لما رأى ذاك الإلحاح من القناصل وغيرهم، ورأى من وجه آخر أن القتال في شوارع سلانيك لا يجدي نفعا مع ضعف قوته، وافق على طلبهم وبدأ بالمفاوضة في أمر التسليم، وإليك تعريب التقرير الرسمي الذي أرسله ولي عهد اليونان إلى الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية في هذا الشأن، وهو:
جاءني أمس قناصل إنكلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وقومندان موقع سلانيك ومندوب من تحسين باشا ليعرضوا علي الشروط المتعلقة بتسليم مدينة سلانيك والجيش التركي، وطلبوا إلي أن أدع للجنود أسلحتها بعد أن تتعهد لنا بالتزام الحياد إلى آخر الحرب، فأبيت الموافقة على هذا الطلب واقتصرت على وعدهم بإرجاع الأسلحة إليها بعد إنتهاء الحرب، وعينت الساعة السادسة صباحا لقبول الجواب النهائي.
ونحو الساعة الخامسة جاءني قومندان الموقع ومعه مندوب من قبل القناصل وعرض القومندان علي شروطا، فحواها أنه يقبل تسليم الأسلحة ما عدا 5000 بندقية معدة لتعليم الرديف الجديد فأبيت أن أوافق على هذا الشرط أيضا، ثم سافر القومندان والمندوب بعد أن طلب مهلة ساعتين للاتفاق مع القائد العثماني العام، ولما انقضت المهلة بدون أن يعودوا إلي، أصدرت أمري إلى الجيش بالتقدم فعمد إلى الزحف نحو الساعة التاسعة صباحا، ولكن ما اقتربت صفوفنا من مقدمة العدو حتى أرسل إلي تحسين باشا ضابطا ومعه كتاب فيه قبول شروطنا، حينئذ أمرت بالوقوف وأرسلت ضابطين ليكتبا مع تحسين باشا شروط تسليم المدينة التي كان جيشنا واقفا أمامها. ا.ه.
وما بلغ الخبر أثينا حتى قابلته المملكة اليونانية بالابتهاج العظيم وأقامت المظاهر في عاصمتها وغيرها احتفالا بتحقيق أمنيتها بعد 450 سنة، ثم صدر أمر ملكي بتعيين ولي العهد قائدا أكبر للجيوش اليونانية كلها، وكان الملك جورج (الذي قتل) في جيدا، فلما وصله الخبر سافر إلى سلانيك ودخلها باحتفال رسمي يوم 12 نوفمبر، وأصدرت الحكومة اليونانية أمرا بتعيين حاكم يوناني لها.
على أن البلغاريين يدعون السبق إلا احتلال سلانيك، ولكن الأمر الثابت أن تحسين باشا سلم المدينة إلى اليونان. (2-1) نحو مناستر
وكان معظم الفرقة اليونانية الخامسة زاحفا إلى جهة مناستر فقاتل قوة من العثمانيين في ليل 29 أكتوبر وتغلب عليها، وكان من غرائب الاتفاق أن بعض العصابات البلغارية ولا سيما عصابة تزاكالاروف الشهير بعداوته الماضية لليونان وبمعاركه الشديدة معهم، كانت تساعد جنود اليونان في تلك الأنحاء.
وما بلغ قسم من الجنود اليونانية جنوبي بانيتزا في أوائل نوفمبر حتى باغته جاويد باشا بهجوم جعله ينكص مقهورا، ثم حملت الجنود العثمانية في 5 نوفمبر حملة صادقة على ميمنة الفرقة اليونانية الخامسة، فأهلكت نحو ثلثيها، فعجزت القوات اليونانية هناك عن المقاومة وانخلعت قلوبها رعبا ونهكت أجسامها تعبا؛ لأن الجنود العثمانية كانت هناك وافية العدد قوية العزيمة، وذكر جاويد باشا في تقريره وقتئذ أنه غنم 21 مدفعا بينها خمسة من طراز الميتراليوز.
ولكن جاويد باشا أحجم عن مطاردة اليونانيين بعد فشلهم فتمكنوا من الانتظار على مسافة 15 كيلومترا شمالي كوزياني، إلى أن جاءتهم النجدات فعادوا إلى الهجوم، وكان ولي عهد اليونان قريبا من تلك الجهة، فأخذ يتقدم بجيشه نحو مناستر، وحدثت عدة معارك في أثناء زحفه كان الفوز فيها لليونانيين. ولما وصل إلى جهة مناستر كان الجيش العثماني أمامها على أسوأ حال بعد المعركة الكبرى التي وقعت بينه وبين الجيش الصربي كما تقدم في باب معارك الصرب والجيش الغربي العثماني.
وفي 24 و25 من نوفمبر اجتمع ولي عهد اليونان وولي عهد الصرب في مدينة مناستر، وكان هذا الاجتماع كختام للأعمال الحربية الكبرى في معظم جهات مقدونيا، فأعاد ولي عهد اليونان فرقتين من جيشه إلى سلانيك وترك ثلاثا في الجهات المقدونية، ثم أرسلت تانك الفرقتان من سلانيك إلى جهات يانيه التي زحف إليها الجيش اليوناني الغربي بقيادة الجنرال سابوندزاكيس كما قدمنا.
حصار يانيه وسقوطها
أوضحنا في بدء الكلام على زحف القوات اليونانية وتقسيمها أن الجيش الغربي الذي عقد لواؤه للجنرال سابوندزاكيس في أوائل الحرب زحف قاصدا يانيه، وكان غرضه من الأعمال الحربية الأولى وقاية سهل أرطه الخصيب، والاستيلاء على بريفيزا لإنشاء قاعدة حربية فيها وإمداد الجنود التي تساق إلى يانيه.
فعبر اليونان نهر أرطه ثم تقدموا فاحتلوا كريبوفو وصدوا الجنود العثمانية إلى بريفيزا في 20 أكتوبر، ثم عاد العثمانيون فاستأنفوا الهجوم واستردوها، ولكن اليونانيين عادوا أيضا فجمعوا قواهم وضموا أطرافهم وزحزحوا العثمانيين عنها.
وظلت الحرب سجالا بين الفريقين في تلك الجهات حتى 24 أكتوبر، فوقعت وقعة عظيمة في جهة قيافه فظفر العثمانيون أولا، ثم عاد اليونان إلى القتال واستمرت الوقعة ثلاثين ساعة كادت تخرس فيها المدافع لشدة الإطلاق وانتهت بنصر اليونان.
وفي 26 منه احتل الجيش اليوناني عدة مواقع جديدة مشرفة على الطريقين الممتدين من يانيه إلى سهل أرطه، ثم أخذوا يحملون على بريفيزا حملات شديدة، فاستولوا في 2 نوفمبر على استحكامات نيكوبوليس، ونسفت قنابل مدفعياتهم التي كانت في الخليج بطارية عثمانية. وفي 3 منه استولوا على بريفيزا نفسها، وأخذوا يتقدمون نحو يانيه فقاومهم العثمانيون مقاومة عنيفة وألحقوا بهم خسارة كبيرة، ثم تركوا الجهات الجبلية الجنوبية وزحفوا إلى يانيه.
وما كاد ينتهي شهر نوفمبر حتى أصبح جيش الجنرال سابوندزاكيس أمام الخط الأول من حصون يانيه.
وكانت حامية ذاك الموقع العثماني مؤلفة من الفرقة الثالثة والعشرين فزيدت فرقة أخرى من رديف أهالي البلاد، ثم انضم إلى هاتين الفرقتين أفواج اللاجئين من مناستر وفلورينا قادمين من الأماكن التي استولى عليها الصرب واليونان، ثم انضم إلى هؤلاء وأولئك فريق عظيم من الألبانيين (الباشبزق)، وكان مجموع هذا الجيش بقيادة وهيب بك.
أما الجيش اليوناني فلم يكن له قبل في ذاك الحين بلقاء تلك الحامية؛ لأنه كان أقل عددا منها، فجعل غرضه فصل يانيه من جهة الشرق وجهة البحر.
وفي 7 ديسمبر أنزل اليونان قوة من الجند والمدافع إلى شاطئ سانتي كارانتا، فاحتلت بعض الجهات الشمالية، ولكن العثمانيين هاجموها ودحروها فاضطرت أن تركب البحر وتعود من حيث أتت.
على أن الصعوبة الكبرى التي لقيها الجيش اليوناني الغربي إنما كانت في جهة بيزاني أي قلب المواقع الهائلة، وكان عدد كبير من الجنود اليونانية يموت بردا وتعبا أو بالالتهاب الرئوي. قال الجنرال آيدو رئيس الوفد العسكري الفرنساوي الذي درب الجيش اليوناني: «إن أوروبا بل الأمة اليونانية نفسها لا تدري كم قاست جنودها من شظف العيش وعذاب البرد الذي جاوز الحد، فإني أذكر لكم من جملة تلك الآلام مثلا واحدا وهو أن 800 جندي أجلدت أرجلهم لشدة الزمهرير وسيقطع أكثرها، فتأملوا أن تلك الجنود التي كانت تقاسي هذا العذاب كانت مضطرة إلى التنبه الدائم وإلى الهجوم على الأعداء أو صد هجمتهم مدة شهرين ...
أما الجنود العثمانية فقد كان عذابها شديدا أيضا، بدليل أن المرضى كانوا يملئون المستشفيات، وزد على ألم البرد أن إدارة المئونة كانت مختلة في يانيه كما رأيناها في سائر الجهات، حتى أصبحت جنود الحامية جلدا على عظم. ومع ذاك كله فإن الحامية صبرت صبر الكرام وأبلت بلاء حسنا في الدفاع والصدام. قال مراسل التان في 25 ديسمبر: «إني رجعت من جهة أمين آغا لأن الأيام متشابهة، فاليونان يهجمون ويحتلون بعض المواقع المتقدمة فتضربهم البطاريات العثمانية فتدحرهم وتطردهم، ثم يجيء الليل فيهجم العثمانيون تحت خافيته فتصدهم القوة اليونانية أيضا، ثم يحدث في اليوم التالي ما وقع البارحة وهلم جرا. وطبيعي أن النتيجة إلحاق الخسارة العظيمة بالفريقين، غير أن اليونانيين يمكنهم أن يرسلوا النجدات إلى رجالهم بعكس العثمانيين فإن قوتهم تضعف شيئا فشيئا.»
أما الحصون العثمانية فإنها منيعة ومسلحة أفضل تسليح، ومدافعها تفوق المدافع اليونانية حتى الآن، ولقد رسخ في ذهني منذ الأيام الأولى أن يانيه لا تسقط إلا بعد مدة طويلة برغم التفاؤل الحسن الذي يبديه القائد اليوناني العام والقناصل والوطنيون، ولا يستطيع اليونان أن يأخذوا الموقع في وقت قريب إلا إذا أتتهم القوة من الجهة الشمالية، ولكن تموينها صعب جدا من تلك الجهة، وقد وصل منذ أسبوع 12000 جندي قادمين من أثينا وسلانيك.
وكان من أسباب عذاب اليونانيين أنهم لم يستطيعوا إرسال مدافع ضخمة كافية، فلم يكن عندهم منها إلا بطارية واحدة منصوبة في جهة أمين آغا، والمستفاد من رسالة مكاتب «الألوستراسيون» أن الأوحال والأمطار والمسالك الوعرة كانت تضطرهم إلى حملها على الأكتاف بعد تفكيكها كل قطعة على حدة.
فحسبنا ما تقدم للدلالة على المصاعب والأهوال التي كابدها العدوان من الطبيعة ومن الحرب، ولا سيما أن الحكومة اليونانية أبت أن توافق على الهدنة الأولى فبقيت تلك المتاعب متفاقمة حتى سقطت يانيه. (1) كيف سقطت يانيه؟
سافر ولي عهد اليونان من مقدونيا إلى جهة يانيه بعد تعيينه قائدا عاما لجميع القوات اليونانية في مقدونيا وأبيروس، فاستلم قيادة الجيش المحاصر لذاك الموقع وعين الجنرال سابوندزاكيس قائدا للميمنة، ووافق على الخطة الحربية التي وضعها هذا الجنرال قبل وصوله، إلا أنه أدخل عليها تعديلات يقتضي تنفيذها مدة من الزمن، وكان الثلج يتساقط، والبرد يشتد، والمئونة لا تصل إلا بصعوبة، والحيوانات تموت عشرات، حتى سدت أشلاء البغال والأبقار أكثر الطرق أو ما يسمونه طرقا.
ولما تم استعداد ولي العهد أصدر أمره بالصدام صباح يوم الثلاثاء 4 مارس، وكان من خطته أن اليوم الأول يخصص لإطلاق المدافع على القوات العثمانية، فقذفت البطاريات اليونانية في ذاك اليوم بنحو عشرة آلاف قنبلة.
وكان الجيش اليوناني مقسوما إلى ثلاثة أقسام، فلبث يحارب وهو في خنادقه ليستبقي الحامية العثمانية في مواقعها، واستمر إطلاق النار على هذا النحو سحابة ليل 5 مارس. ولما كان فجر اليوم التالي أبقى ولي عهد اليونان ميمنة جيشه وقلبه في مواقعهما لمشاغلة الحامية العثمانية، وأمر ميسرته بأن تفاجئ العثمانيين بعد أن عززها بجزء من القلب والميمنة، وبينما كانت الحامية العثمانية توجه كل أنظارها وأفكارها إلى ميمنة الجيش اليوناني وقلبه لاعتقادها أن الهجمة الكبرى ستكون من جهتهما، باغتتها الميسرة اليونانية فاستولت على موقع تشوكا، وغنمت فيه أربعة مدافع وأسرت 50 جنديا، ونحو الساعة العاشرة قبل الظهر أخذت سلسلة جبال مانولياسا وغنمت ستة مدافع وأسرت طابورا، ثم هب قلب الجيش اليوناني لتأييد ميسرته فأخذت الحامية العثمانية تنكص أمام تلك القوة الكبرى، وما حلت الساعة الثانية بعد الظهر حتى ناب الحامية ضعف كبير وأخذ رجالها يرجعون إلى مدينة يانيه والقنابل تهطل فوقهم. ولما جاء المساء كانت المواقع الحصينة في أيدي اليونانيين، فرأى قائد الحامية أن الدفاع أصبح عبثا بعد ما جرى، فأوفد رسولا إلى ولي عهد اليونان ومعه كتاب من قناصل الدول في يانيه قالوا فيه: «إن القائد العثماني العام طلب إليهم بعد ما حل بجيشه من الخسارة العظمى أن يتوسطوا لدى ولي عهد اليونان ليكف عن القتال»، وكانت المقابلة نحو الساعة الخامسة بعد منتصف الليل.
فأجاب ولي العهد وأركان حربه بأنهم يطلبون أولا تسليم الجيش العثماني بسلاحه، فقبل أسعد باشا هذا الطلب، وكان عدد الجنود العثمانية نحو 35 ألفا على رواية التان، وذكر أسعد باشا في حديث أن سبعة آلاف مريض وعليل كانوا بين أولئك الجنود، وأنه كان يتوقع هجوم اليونان من جهة الميسرة ولكن قوته كانت ضعيفة وذخيرته قليلة.
وما وصل الخبر إلى العاصمة اليونانية حتى سرى كتيار الكهرباء في جميع أنحاء المملكة وأرسل زعماء النواب أحر التهاني إلى ولي العهد. وإذا أراد القارئ أن يعرف مقام يانيه عند اليونان فحسبه أن يرجع إلى التاريخ فيعلم أنها كانت مهدا لذوي التجارة وأرباب العقول منهم، فهي التي أخرجت نخبة من أساتذتهم وصفوة من شعرائهم. كما أن البلاد المجاورة لها ولا سيما سولي أخرجت لهم جماعة من أكابر رجال الحرب فيهم، ولما عقد مؤتمر برلين أراد أن يعيد تلك الأراضي إلى المملكة اليونانية، ولكن البند المختص بإعادتها بقي من المهملات، وأضف إلى هذا كله أن لهم حكايات وخرافات قديمة تتعلق بيانيه وتجعل ذكرها مألوفا معروفا عند الشاب والأشيب. (2) عزاء بعد هناء
وبينما كان اليونان مسترسلين إلى الفرح والابتهاج، ناسين من حصدتهم الحرب بمنجلها الباتر من الآباء والأبناء إذا برصاصة اهتزت لها بلادهم وجاز صفيرها البر والبحر، فألبست أسرتهم المالكة وغيرها من ملوك أوروبا وأمرائها ثوب الحداد.
ذلك أن ملكهم جورج الأول كان عائدا من قصر ابنه الأمير نقولا في سلانيك ومعه ضابط واحد، فما اجتاز بعض الطريق حتى تقدم إليه يوناني ضعيف العقل اسمه سكيناس وأطلق عليه الرصاص من مسدس فسقط الملك يختبط بدمه، وأسرع الضابط الذي كان معه فقبض على عنق القاتل، وجيء بنقالة لحمل الملك إلى المستشفى العسكري ولكن روحه فاضت قبل الوصول إليه، وكان من غرائب الاتفاق أن اختيار هذا الملك كان في 18 مارس سنة 1863، وقتله كان في 18 مارس سنة 1913؛ أي يوم كانت أمته ترغب في إقامة يوبيل له احتفالا بمرور خمسين عاما على جلوسه، وكان المنتظر أن يكون الاحتفال مضاعفا؛ لأن الدولة اليونانية بلغت في وقته ما لم تكن تؤمل، فقد احتلت لسوء طالع الأمة العثمانية سلانيك ويانيه ومعظم أنحاء أبيروس، ورأت الدهر باسما بعد طول العبوسة.
ولما انتشر الخبر في أوروبا أحدث تأثيرا شديدا في عدة قصور ملكية؛ لأن الملك القتيل هو ابن كريستيان ملك الدنيمرك الأسبق، وخال ملك الإنكليز وقيصر الروس الحاليين، ونجله الأكبر هو صهر إمبراطور ألمانيا.
معارك العثمانيين والجبليين
عرف المطالع قوة الجبل الأسود من فصل ماض، أما قوة العثمانيين التي قاومت الجيش الجبلي فقد كان معظمها في أشقودره، وإليك بعض الإيضاح.
تعودت نظارة الحربية العثمانية أن تبقي فرقة واحدة بأشقودره في الظروف العادية، ولما تراخت العلاقات بين تركيا والممالك البلقانية، عززت تلك الفرقة بواحدة أخرى من الرديف ثم انضم إليها كثير من المتطوعين الألبانيين وعدد من جنود الفيلق السادس، ومن فرقة دبرا وهي الجنود التي لم تذهب إلى كومانوفو، وإذا رجعنا إلى آراء الاختصاصيين الحربيين في موقع أشقودره، وجدنا الكولونل بوكابيل وغيره يحكمون بأن الجهة التي عند الطرف الجنوبي من بحيرة أشقودره لا تعد ذات قيمة حربية عظيمة، أما الجهات الجنوبية والشمالية الشرقية من الموقع فقد كانت محمية بعدة معاقل وحصون، وأما الجهة الغربية فكان يحميها حصن طرابوش الشهير وهو يشرف على مدينة أشقودره وبحيرتها ويعلوها نحو 400 متر، ومسافة مجموع الحصون تبلغ نحو 25 كيلومترا.
وزد على هذا كله أن الجهة الشمالية عند الحدود الجبلية تشتمل على مراكز محصنة ومحيطة بمدينة توزي من الشمال إلى الجنوب، أما الأهالي فغالبهم في سهول أشقودره من المسلمين، وفي الجهات الشرقية والشمالية الشرقية من الماليسور أي الجبليين، وهم من الألبانيين الكاثوليك وعددهم نحو ثلاثين ألفا. ولما ثاروا على الباب العالي سنة 1911 اضطر قسم منهم إلى اللياذ بالجبل ولبث هناك حتى نشبت الحرب فأخذوا يقاتلون مع الجبليين. (1) تقسيم الأعمال الحربية عند الجبليين
تلك هي حالة أشقودره يوم قصدها الجبليون في 8 أكتوبر وقد زحفوا أقساما ثلاثة، فسار الجنرال مارتينوفتش والفرقة الأولى من الجهة الجنوبية الغربية للبحيرة، وتقدم الجنرال فليشو لازاروفتش والفرقة الثانية وبعض الرابعة من الجهة الشمالية الشرقية للبحيرة، وكان غرض هذين القسمين أشقودره نفسها.
وسار الجنرال يانكوفوكوتيش ومعه الفرقة الثالثة وبقية الفرقة الرابعة لمقاتلة الجنود العثمانية النازلة في الجهات الشرقية والجنوبية الشرقية وراء الحدود الجبلية، ونحن نتكلم أولا عن أعمال هذا الجنرال وجنوده، ثم ننتقل إلى الأعمال الحربية حول بحيرة أشقودره، ثم إلى حصار أشقودره نفسها، فسقوطها في أيدي الجبليين. •••
كان غرض الجنرال يانكو المذكور أن يزحف إلى إيبك من طريق برانا وبلافا، وأن يقاتل الحاميات العثمانية في شمالي سنجق يني بازار، ويستولي على مواقعها ثم يمد يده إلى القوة الصربية التي تأتي من تلك الجهة، وأن يزحف من إيبك إلى دياكوفا وبريزرند، ومن هناك تذهب القوة التي يمكن الاستغناء عنها إلى جهات أشقودره لنؤيد القوة المحاصرة لها.
ولقد نجح الجنرال يانكو في معاركه؛ لأن القوات العثمانية كانت قليلة، ففي 15 أكتوبر احتل المرتفعات القائمة غربي برانا بعد معارك صغيرة ومتاعب كبيرة.
وفي 16 منه ترك الباشبزق الألبانيون وعدد من الرديف مواقعهم في روجاي، فلحق بهم الجبليون وأسروا 200 رجل وغنموا ثلاثة مدافع.
وفي برانا نفسها وجدوا قوة من العثمانيين فدافعت دفاع الأبطال حتى أحاطوا بها من كل جهة، فسلم معظمها وتركوا لأعدائهم 14 مدفعا و700 بندقية، وتمكن الباقون من الخروج بجملة مدافع.
وفي 19 أكتوبر احتلوا بلافا بعد معركة شديدة لكنها قصيرة، ومما يذكر للعثمانيين مع الفخر هنا أن الجبليين رأوا بعد دخولهم بلافا عددا من جثث الصبيان والنساء والسلاح بأيديهم، وإن قوما يدافعون عن موطنهم إلى هذا الحد ليصح فيهم قول من قال: «ورب انكسار يفضل الانتصار.» وفي 31 دخل الجنرال يانكو وجنوده مدينة إيبك فلم يجدوا مقاومة.
أما في الجهات الشمالية من السنجق فقد نجحت أيضا قوة الجنرال المذكور لضعف الحاميات، على أن حامية بليفلي لبثت تقاوم الجبليين في الشوارع حتى المساء، فخسر الفريقان خسارة عظيمة بالنسبة إلى عددهما. ثم اجتاز 1200 جندي عثماني و77 ضابطا حدود البوسنة بعد أن عجزوا عن المقاومة، فأسرهم النمساويون وأرسلوهم إلى بلاد المجر ليقيموا هناك إلى نهاية الحرب.
وبعد تلك المعارك وصلت قوة صربية فصار بين الصربيين وحلفائهم خط اتصال، ثم زحف الجبليون والصربيون من إيبك إلى دياكو فاحتلوها بعد معركة لم تبق أكثر من بضع ساعات، ثم سارت جنود الجنرال الجبلي إلى أشقودره طبقا للخطة التي رسمت لها وتبعها جانب من الصربيين، وسار الجانب الآخر قاصدا درين وأرض المردة في ألبانيا.
وهناك تمت المهمة التي انتدب لها الجنرال يانكو فوكوتيش في سنجق يني بازار، فلننظر الآن ما جرى حول بحيرة أشقودره، ثم حول أشقودره نفسها. (2) حول البحيرة
كانت حامية توزي في الأسبوعين السابقين لإعلان الحرب مؤلفة من نحو ستة طوابير، فما جاء اليوم السابع من أكتوبر حتى بدأت المعارك بينها وبين الماليسور الموالين للجبليين، ثم زحف الجنرال لازاروفيتش في 9 منه نحو توزي أيضا، وأطلق الأمير بطرس ابن ملك الجبل أول مدفع عليها والموسيقى تعزف بنشيدهم الوطني.
ثم أخذ الجبليون يتقدمون فاستولوا أولا على أوائل المرتفعات، ثم مدوا خط هجومهم من الشمال إلى الجنوب، وفي العاشر من أكتوبر استولوا على حصن دتشيتش بعد معركة شديدة استمرت أربع عشرة ساعة وغنموا فيه أربعة مدافع، وفي صباح 13 أكتوبر احتلوا فارنيا بعد أن ضربوها بالمدافع سحابة النهار وهجموا عليها تحت جنح الليل، ثم تمكنوا مع الماليسور من قطع خط الرجعة إلى أشقودره على قسم من الجنود العثمانية، وأسروه في 14 أكتوبر ودخلوا بلدة هيلم في 15 منه. ثم اجتازت فرقتهم الثانية بحيرة أشقودره في أربعة أيام وعسكرت في قوبليق ومنها زحفت إلى جهة أشقودره نفسها لتحصرها.
وبينما كان هذا كله يجري في الجهات الشمالية الشرقية من بحيرة أشقودره كان الجنرال مارتينوفتش ورجاله متجهين نحو طرابوش، فوصلوا إلى جهتها بعد وقعات صغيرة. وفي 11 نوفمبر تقدم ألف منهم ليلا إلى حصن طرابوش لمفاجأته، فاهتدى العثمانيون إليهم بالمنيرات الكهربائية وسددوا عليهم المدافع والبنادق، فمزقتهم كل ممزق ولم ينجح منهم إلا مائة رجل.
1 (3) حصار أشقودره وسقوطها
ولما حل هذا الفشل بالجنرال مارتينوفتش وفرقته، قرر أن طرابوش لا تؤخذ فجأة كما أراد أولا، وأن الهجوم عليها يجب أن يكون منظما بعد الاستعداد، وهنا يجدر بنا أن نصف للقارئ ذاك الموقع ليدرك أهميته الحربية، قال مراسل الجورنال الحربي:
إن طرابوش ربوة علوها 576 مترا، وجانباها محصنان طبقا للخطة التي وضعها المارشال فوندر غولتز الألماني، وليس فيها أبراج ولا مشارف حربية، بل هناك خنادق ومراصد على مستوى الأرض تجد فيها سبعين مدفعا كبيرا ونحو 100 مدفع من طراز الميتراليوز، وخمسة عشر ألف رجل نحو ثلثهم من الألبانيين المسلمين، ونحو الثلث أيضا من النظاميين والرديف والباقين من الباشبزق، وجميعهم تحت قيادة أسعد باشا وحسن رضا باشا، أما عدد الجبليين والماليسور الذين كانوا أمامهم فنحو عشرين ألف رجل.
ذلك هو الموقع الذي كان ينشر الرعب ويرسل الموت على خط مستدير يبلغ عشرة كيلومترات من جهة البحيرة والسهل.
وبعد أن أرسل الجبليون ما قدروا على إرساله من مدافع الحصار، أخذوا يهجمون على طرابوش فلم يفلحوا، وكانت الحامية العثمانية تخرج فتقاتل فريقا من المحاصرين قتالا مرا ثم تعود. وقد حاول الجبليون أن يهدموا عزيمتها بالوسائل التي استخدمها البلغاريون أولا مع شكري باشا بطل أدرنه، فأخفقوا سعيا كما أخفق البلغاريون. قال مراسل الجورنال: إن الملك نقولا رفع العلم الأبيض في 28 أكتوبر، وأرسل مندوبا إلى قائد العثمانيين ليقول له بالنيابة عنه: «إن مقاومة العثمانيين لجديرة بالإعجاب ولكن جهدكم يذهب أدراج الرياح، إذ لا يمكنكم أن تقاوموا الجوع والزمان، فسلموا واعدلوا عن القتال كما فعل إخوانكم في كومانوفو وقرق كليسا.»
فأجاب أسعد باشا: «إن الأمر أمري في القلعة فأنا لا أسلم ما دمت حيا ... إن طرابوش أنقذت شرف السيف التركي.»
وحدث يوما أن حيا من مدينة أشقودره رفع الراية البيضاء لشدة ما قاسى من هول القنابل، فما كان من أسعد باشا إلا أن وجه نيران طرابوش على ذاك الحي وضرب الذين ارتكبوا هذا العصيان.
فلما رأى الجبليون والصربيون الذين كانوا معهم أن الحامية العثمانية مصرة على الدفاع أرادوا أن يأخذوها بالجوع والهجمات المتوالية ولكنهم لم يفلحوا، ولبثت الحامية العثمانية تخرج وتقاتل ثم تعود حتى ألحقت بهم خسائر عظيمة. ومما يذكر خروجها في 8 و10 و11 من ديسمبر وهجومها على سيروكا وأوبليكا، ثم خروجها في أول يناير و11 منه. ولم يتمكن الأعداء من وصل حركة الحصار إلا في أوائل شهر فبراير، ثم كفوا في شهر مارس عن الأعمال الحربية؛ لسوء حالة الجو من جهة، ولأن الدول بدأت من جهة أخرى تضغط عليهم لتحملهم على فك حلقة الحصار، بعد أن قرر مؤتمر السفراء أن يضم أشقودره إلى ألبانيا التي أجمعت الدول على منحها الاستقلال كما سترى بعد نهاية كلامنا على الأعمال الحربية. غير أن الجبليين لم يكترثوا أولا لضغط الدول وما لبثوا أن عادوا إلى الأعمال الحربية، فقررت حينئذ الدول أن ترسل أسطولا ليقيم مظاهرة ضد الجبل، فسار هذا الأسطول المختلط وهدد الجبل فكان جواب حكومته وملكه «أشقودره أو الموت.» ثم اضطر الصربيون إلى ترك الجبليين حول أشقودره بسبب ضغط الدول، فلبث جيش الجبل وحده هناك حتى سلمت أشقودره في 23 أبريل، وهذا بعض ما تضمنته رسائل التيمس والتان والديلى تلغراف.
أذاع الجبليون في 25 أبريل أنهم استولوا على أشقودره عنوة بعد أن هجموا عليها ليلا وقاتلوا حاميتها بالسلاح الأبيض، ولكن الملحق العسكري النمساوي في شتينه عاصمة الجبل أبطل دعواهم، والواقع أن سبب التسليم هو الجوع ونفاد الذخيرة والتعب المضني الذي أصاب الحامية والأهالي، فقد روى مراسل الديلي تلغراف في فينا أنه لما دخل الجبليون المدينة وجدوا أهلها في حالة يرثى لها من العناء والإعياء، وكان الذين هدم الجوع قواهم وكاد يوردهم مورد التهلكة، يقابلون الجنود الجبلية يوم دخولها ويتوسلون إليها أن تعطيهم ما تسد به الرمق، وقد مات كثيرون من الطبقة الدنيا جوعا في أواخر أيام الحصار وأصاب الجنون بعض الأهالي، حتى إن أسعد باشا لم يعد يجرأ على السير في الشوارع مخافة أن يلتف حوله الناس ويطلبون منه إما الأكل وإما التسليم. ولقد شاع بعد سقوط المدينة أن أسعد باشا عقد اتفاقا سريا على التسليم، ولكن هذا الخبر لم يثبت حتى الساعة.
أما تأثير سقوط أشقودره فلم يكن عظيما أليما كتأثير سقوط أدرنه؛ لأن الدول قررت إخراجها من يد تركيا وضمها إلى ألبانيا الجديدة قبل أن تسقط بمدة، وجل ما يقال: أن طول مدة الدفاع أكسبت حاميتها فخرا وأنقذت شرف السيف العثماني هناك كما قال أسعد باشا.
على أن الجبليين الذين لبثوا يظنون أن الدول تدعهم في أشقودره، أخطئوا كل الخطأ؛ لأن النمسا ووراءها ألمانيا وإيطاليا، أصرت على إخراجهم منها، ثم أيدتها سائر الدول حفظا للسلم الأوروبي الذي كادت تتقوض أركانه.
المعارك البحرية
ذكرنا أهم ما كتبه المؤلفون والمراسلون الحربيون حتى صدور هذا الكتاب عن المعارك البرية، فبقي أن نعقد فصلا وجيزا عن الأعمال البحرية، وقبل الكلام عليها نذكر قوة كل عدو يوم إعلان الحرب. (1) الأسطول العثماني
شرعت الحكومة العثمانية بعد إعلان الدستور في تنظيم أسطولها، وكلفت جماعة من الضباط الإنكليز أن يساعدوها في هذا العمل الخطير، فتقدم الأسطول العثماني بعض خطوات في سبيل النجاح، وبينما كان في إبان حركة التنظيم هجمت إيطاليا على طرابلس الغرب، فكان إعلان الحرب الطرابلسية من الأسباب الجوهرية في إيقاف تنظيمه.
ولما قامت الحرب البلقانية كان الأسطول العثماني مؤلفا من ثلاث مدرعات متوسط طنات الواحدة منها 10000، وكان بينها اثنتان اشترتهما الحكومة العثمانية من ألمانيا وهما: «خير الدين بارباروسا»، و«طورغود»، وتاريخ إنشاء هاتين المدرعتين يرجع إلى سنة 1890، وعدد مدافع كل منهما ستة من طراز 280، وثمانية من طراز 105، وسرعتها 20 عقدة، وكثافة درعها 20 سنتيمترا، أما تاريخ المدرعة الثالثة المدعوة مسعودية فيرجع إلى سنة 1874، على أنها أصلحت وجددت سنة 1904، وعدد مدافعها الضخمة اثنان فقط ومعها 12 مدفعا من طراز 150، والمدرعات المذكورة هي أفضل ما كان عند الدولة العثمانية من البوارج.
وكان عندها أيضا أربع طرادات مدرعة أنشئت سنة 1870 ثم أصلحت سنة 1907 وهي عصر توفيق وحميدية ومجيدية، واثنتا عشرة سفينة للتوربيد، وتسع سفن مقاومة للتوربيد وعدد من المدفعيات، وسفن أخرى لا تعد ذات شأن في الهجوم.
أما البحارة فكان بينهم أكثر من ألف ضابط و2300 صف ضابط وجندي. (2) الأسطول اليوناني
وكان عند اليونان طرادة مدرعة من أقوى الطرادات الحديثة اسمها جورج أفيروف (وهو اسم اليوناني الذي تبرع بمعظم ثمنها)، وعدد طناتها 10000، وتاريخ إنشائها 1910، وعدد مدافعها الضخمة أربعة من طراز 234، وثمانية من طراز 190، وكثافة درعها 20 سنتيمترا، وسرعتها 23 عقدة. ثم ثلاث مدرعات مصنوعة في فرنسا عدد طنات الواحدة 5000، وتاريخ إنشائها ما بين 1889-1890 وعدد المدافع الضخمة في كل منها ثلاثة، والمدافع الأخرى خمسة، وسرعتها 17 عقدة فقط وهي: بسارا وهيدرا وسبتساي. ثم طرادة صغيرة، و8 نسافات سرعتها 31 عقدة، وأربع مصنوعة في إنكلترا سرعتها 32 عقدة، وغواصة مصنوعة في فرنسا، وعدة سفن أخرى لا تعد ذات قيمة كبيرة.
أما رجال هذا الأسطول فكانوا 400 ضابط، و3600 صف ضابط وجندي. (3) الأعمال البحرية في البحر الأسود ومرمرا وفي بحر الأرخبيل والبحر الأيوني
يمكننا أن نقسم الأعمال البحرية التي جرت إلى قسمين؛ أولهما: كان في البحر الأسود وبحر مرمرا، والثاني: في بحر الأرخبيل والبحر الأيوني، وقد حصر الأسطول العثماني أعماله حتى يوم الهدنة الأول في البحر الأسود، وكان غرضه أن يضرب بعض الثغور البلغارية، ويحمي الجنود العثمانية التي تبحر هناك أو تنتقل عند الشواطئ، وأن يمنع إرسال المئونة والذخيرة إلى البلغار من تلك الجهة، وكان في البحر الأسود أسطول صغير ضعيف للبلغار مؤلف من طرادة صغيرة لا يزيد عدد طناتها عن 700، ومن سبع سفن للتوربيد، فنحن نذكر أولا ما فعله الأسطول العثماني في البحر الأسود، ثم ننتقل إلى بحر الأرخبيل فالبحر الأيوني.
أبحر قسم من الأسطول العثماني في اليوم الثاني لإعلان الحرب إلى جهة وارنه (أحد ثغور بلغار)، وأخذ يطارد سفينتين من سفن التوربيد البلغارية فاضطرهما إلى اللياذ بذاك الثغر، ثم ظهر في 21 منه أمام ثغر قوارنه فضرب حامية بلغارية كانت هناك، وأحدث أضرارا في الثكنة والمينا ومحل التلغراف ومخزن المئونة وبعض المباني.
وبعد هذا العمل الحربي صرف الأسطول العثماني همه في البحر الأسود إلى حصر المواني البلغارية ومنع إرسال المئونة والذخيرة إليها، ولما وصل البلغاريون إلى جتالجه بعد معركة لوله بورغاز ذهبت البارجتان مسعودية وبارباروسا إلى خليج جكمجه حيث ضربتا ميمنة البلغاريين ، وكان الأسطول يتفاهم مع القوة العثمانية البرية بإشارات مصطلح عليها، فأفلح في عمله وألحق ضررا كبيرا بالبلغاريين.
وبعد أيام حدثت معركة بين الطرادة حميدية وسفن التوربيد البلغارية فأصيبت حميدية بضرر قليل لم يتطلب إصلاحه زمنا طويلا، وقد أدت حميدية خدمة حميدة للجيش العثماني؛ لأنها حرست مؤخرة جناحه من الجهة الشمالية.
ولما عقدت الهدنة الأولى في 3 ديسمبر ترك معظم الأسطول العثماني البحر الأسود، وصرف همه إلى بحر الأرخبيل حيث كان الأسطول اليوناني؛ لأن اليونان أبوا الاشتراك في الهدنة. (3-1) ماذا جرى في بحر الأرخبيل؟
بينما كان الأسطول العثماني يفعل ما ذكرنا في البحر الأسود وحاصلا على السيادة البحرية فيه، كان الأسطول اليوناني حاصلا على السيادة نفسها في بحري الأرخبيل (إيجه) والبحر الأيوني، وقد جعل همه أولا مساعدة الجيش اليوناني من جهة خليج أرطه (أونارده بالتركية) ومن جهة بريفيزا، وتضييق الحصار على الثغور العثمانية لمنع إرسال الميرة والذخيرة والنجدات من سوريا وغيرها.
وكان في مياه بريفيزا ثلاث مدفعيات عثمانية ضعيفة، فخاف اليونانيون أن تحول دون إرسال المئونة والذخيرة إلى جيشهم في أبيروس فأصدر قائدهم أمرا بضرب تلك المدفعيات، وفي أوائل نوفمبر تمكنت بعض المدفعيات اليونانية من إغراق اثنتين من المدفعيات العثمانية، وأغرق العثمانيون الثالثة بأيديهم، وما كان التاسع عشر من شهر نوفمبر حتى أعلن اليونان حصار جميع السواحل اليونانية هناك ومنعوا إرسال كل مدد إلى يانيه، وتمكنوا من تعضيد الصربيين بعد وصولهم إلى شواطئ الأدرياتيك.
ثم ذهب الأسطول اليوناني فحصر الدردنيل واحتل عدة جزر هناك، وقبل وصول الجيش اليوناني إلى سلانيك ذهبت إحدى سفنه فأغرقت بارجة عثمانية قديمة كانت تهدد قسما من الجيش اليوناني. وفي أواخر شهر نوفمبر احتل اليونان جزر عثمانية أخرى.
وفي 17 ديسمبر خرج الأسطول العثماني من الدردنيل وكان مؤلفا من طورغود وبارباروسا ومسعودية وعصر توفيق وطراد وعدة سفن للتوربيد، فلحظه الأسطول اليوناني وتقدم نحوه، ولما صار على 12 كيلومترا أخذ العثمانيون يطلقون النار فقابلهم اليونانيون بالمثل، وظل القتال حامي الوطيس حتى رأى قائد الأسطول العثماني أن الطرادة أفيروف تقدمت من أحد جانبيه، وأنه كاد يصبح بين نارين، فأمر أسطوله بالرجوع إلى الدردنيل، فأبى الأسطول اليوناني أن يلحقه مخافة أن يستهدف لنيران حصون المضيق.
أما الخسارة فأهم ما يذكر منها ضرر بالغ أصاب مرجل المدرعة العثمانية بارباروسا، وضرر خفيف لحق بالطرادة اليونانية أفيروف، وبضعة قتلى وعدد من الجرحى.
ثم جرت بعض أعمال حربية أهمها خروج الطرادة حميدية وتدميرها بعض السفن اليونانية، وإغراقها بعض البواخر التي كانت تقل جنودا صربية في المياه الألبانية، وكان ربانها البارع ينتقل بها من جهة إلى أخرى في البحر المتوسط ويشغل أفكار الأسطول اليوناني، فحينا يأتي بورسعيد وآخر الإسكندرية، وتارة ينتقل إلى حيفا، أو يجتاز قناة السويس إلى البحر الأحمر، وكان أركان حرب الأسطول العثماني يؤملون فيما يظهر أحد غرضين من طواف حميدية، إما أن يحملوا معظم الأسطول اليوناني على مطاردتها، فيخرج حينئذ الأسطول العثماني من الدردنيل ويفتك بالقسم الباقي وبالثغور اليونانية، وإما أن يلحقوا بأعدائهم ما أمكن من الأضرار إذا أحجم معظم الأسطول اليوناني عن مطاردة حميدية وتركها تطوف في أنحاء البحار، ولكن اليونان اختاروا أن تبقى القوة الكبرى من أسطولهم على مقربة من الدردنيل، وهذا ما أمكن حميدية أن تفتك بعدد من الصربيين وتفعل ما فعلت.
على أن السيادة البحرية في جهات الأرخبيل والبحر المتوسط بقيت حتى النهاية لأسطول اليونان، فنشأ عنها لنكد الدنيا على الأمة العثمانية ضرر كثير وشر كبير؛ لأن طريق البحر لبث مقفلا أمام ألوف عديدة من الجنود العثمانية التي كانت مستعدة للسفر في دمشق وبيروت وغيرهما. كما لبثت الأستانة محرومة من إرسال أي شيء يسمى مئونة أو ذخيرة عن طريق الدردنيل.
وبقيت سلانيك وسائر الثغور العثمانية من جهة أخرى متروكة بلا مدد، وأخذ اليونان يرسلون ما أرادوا من المؤن والذخائر والسلاح من طريق البحر إلى جهات يانيا، وغيرها من بلاد أبيروس وإلى الجزائر التي احتلوها.
وربما عجب المطالع من قدرة الأسطول اليوناني على حفظ السيادة البحرية هناك؛ لأن البوارج العثمانية الكبيرة أكثر من البوارج اليونانية، ولكن الاختصاصيين لم ينلهم العجب؛ لأنهم عرفوا الأسطول العثماني أقل من الأسطول اليوناني سرعة وتجانسا وتمرنا.
باب الفظائع
وضعنا بين يدي المطالع جوهر ما كتبه المؤلفون الأوروبيون، وما نشره المراسلون الحربيون حتى الآن عن معارك البلقان في البر والبحر، فلم يبق منها ما يستحق الذكر إلا المعارك القليلة التي حدثت في شبه جزيرة كليبولي وجتالجه بعد فشل مؤتمر الصلح الأول ، وهي وإن كانت معارك دموية شديدة لم تحسن شيئا من حال العثمانيين كما سترى.
وإذا فكر المرء في تلك الحرب بل في جميع الحروب على ضروبها، وجدها كلها فظائع في فظائع ولكن التقليد والعرف والقانون الدولي جعلها جائزة بين الجيوش، وبات المفهوم من لفظة «فظائع» تعذيب الأسرى أو الجرحى، والفتك بالنساء والأطفال والشيوخ، والتمثيل بمن لزم الحياد، وما اختلف منصفان في أن الحرب إذا كانت فظيعة في ذاتها؛ لأنها تجيز قتل فتية هم أكبر مظهر من مظاهر قوات الأمم وأشد الأركان التي تعتمد عليها في بناء صروح النجاح، فإن قتل الضعفاء والأبرياء هو أكبر الفظائع وأدل الدلائل على أن نفس الإنسان ما زالت حتى هذا القرن الموصوف بقرن المدنية والنور منطوية على غريزة وحشية، تنزل به إلى درك لا يليق بمن ميزه الخالق عن جميع المخلوقات وملكه البر والبحر والهواء. ونحن ذاكرون هنا من الفظائع أخص ما ينسب إلى كل فريق، ثم نقول كلمتنا. (1) ما ينسب إلى البلقانيين
رأس الأمور التي ننكرها مع كل حر على البلقانيين أنهم أرسلوا إلى تراقيه ومقدونيا ألوفا من رجال العصابات، الذين اشتهروا بارتكاب الفظائع في سالف الزمان وجعلوا تلك البلاد موطن الأهوال، وقد روى الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي خبر سفر العصابات البلغارية قبيل الحرب، واتخذه دليلا في وقته على أن الحرب باتت أمرا مقررا لا مندوحة عنه ولا مناص منه، وليس هناك ريب ولا شبه ريب في أن سفر تلك الألوف من سفاكي الدماء كان بأمر حكوماتهم وتحت مراقبتها؛ إذ لا يعقل أن الحكومات التي حرمت على كل جندي أن يكتب كلمة إلى أبيه أو أمه أو حليلته، لا تراقب ألوفا من رجال العصابات الذين أوفدتهم إلى جهات مختلفة ليقطعوا الصلات بين العثمانيين، ويساعدوا الجيوش البلقانية في مهمتها الحربية، وهذا يهدم حجة المراسلين الذين اعتذروا عن حكومة البلغار وغيرها بأن العصابات هي التي ارتكبت الفظائع لا الجيوش المنظمة. وإليك بعض ما طالعناه مأخوذا عن جرائد ونشرات مختلفة ومذكورا مع مصادره: قالت جريدة «فريستش»: إن مائتين من النساء والأطفال لجئوا إلى جامع في دده أغاج، فوضع البلغاريون تحته ديناميتا ونسفوه بمن كان فيه فلم ينج واحد، وإن غور حصار أصبحت مهدا للظلم والأعمال الوحشية، فقد أحرق فيها المسلمون وهم أحياء، وكلف عدد منهم أن يدينوا بالمسيحية وإلا أحرقوا بالنار، ورمي جماعة من كوملنجه في النهر وهم مكتوفو الأيدي والجروح تقطر دما من أبدانهم ورءوسهم.
ونشر مراسل «الألوستراسيون» في جتالجه مقالا تحت عنوان «ما هدم وما بقي من جتالجه»، ذكر فيه أن حي المسلمين الذي كان عدد أهله نحو 3000 خرب كله؛ لأن البلغاريين أحرقوا كل شيء فيه قبل مزايلتهم تلك البلدة، فكل ما تبصره العين جدران قائمة ومسجدان اثنان محولان إلى إصطبلين، وما من شيء يبرر هذا التخريب المقصود بل هذا التوحش المنكر. أما بيوت اليونانيين والبلغاريين فإنها لم تصب بأذى، وكل من ينظر إلى المدينة من جهة هذه البيوت يظنها سليمة لم تمس، ولما وصل الأتراك مروا بالخرائب التي كانت بيوتا عامرة لإخوانهم المسلمين، وأبصروا كل ما حصل فيها ومع ذاك كله لم يكسروا زجاج نافذة واحدة من البيوت اليونانية والبلغارية، بل أبقوا عليها وعلى المدارس كما كانت، فهم يستحقون الثناء ...
وقال مراسل الديلي تلغراف في كليبولي: «إني لا أستطيع وصف البؤس الذي حل بمهاجري البلقان في كليبولي، فإن معظم النساء فقدن رجالهن إما بالحرب وإما بغدر الوحوش واللصوص من رجال العصابات، أو من مواطنيهم اليونانيين والبلغاريين، فقد روت امرأة عجوز: أن الأهالي اليونانيين خانوا المسلمين في موطنها، مع أن الفريقين تعاهدا على أن يحمي كل منهما الآخر عند المقدرة، فإذا دخلت الجنود التركية المدينة أولا فإن المسلمين يحمون المسيحيين ، وإذا دخلتها رجال العصابات أولا فإن المسيحيين يحمون المسلمين، ولقد حدث أن العصابات دخلت قبل الأتراك فأخذت تسأل عن أعيان المسلمين، وقبضت على سبعة وستين منهم ثم قادتهم إلى غابة فأثخنتهم طعنا بالرماح، ثم قطعت حفيد تلك العجوز إربا إربا، «وهنا أخذت العجوز تقطع شعرها وترفع بنظرها إلى السموات وهي تستنزل الرجز واللعنة على أولئك الوحوش».» ثم روى المراسل أنه سمع حكايات أشد فظاعة وهولا من فاجعة العجوز، كالفتك بالنساء والأطفال، وقال إن الفلاح التركي الساذج لا يكذب ولا يعرف أن يستنبط حكايات من هذا الطراز.
وروت شركة روتر في 22 مارس سنة 1913 أن الجبليين شدوا وثاق كاهن و300 شخص من الكاثوليك، ثم وقف على رءوسهم كاهن أرثوذكسي فأراهم بنادق الجنود الجبلية وقال لهم: إما أن تذهبوا المذهب الصحيح الوحيد، وإما أن يرسل هؤلاء الجنود أرواحكم إلى الجحيم؛ فقبل الثلاثمائة مكرهين ورفض الكاهن، فأخذوا يقطعون أطرافه ويعذبونه أشد العذاب حتى لفظ روحه، ولما انتهى هذا الخبر إلى حكومة النمسا أرعدت وأبرقت، على أن الجبليين أنكروا ما نسب إليهم، والله أعلم.
وذكر حضرة كامل بك تيمور التاجر الإسكندري الذي سافر إلى البلقان في مهمة خيرية أنه قابل قنصلي النمسا وإنكلترا في مناستر، فعلم منهما ومن مفتي تلك المدينة أن مناستر كان فيها يوم وصوله خمسة عشر ألف مهاجر بلا مأوى ولا غذاء، وأن خمسة آلاف وستمائة فقط كانوا ينالون جراية يومية من الخبز لا تزيد عن نصف أقة لكل واحد، وذاك على يد قنصلية إنكلترا التي كانت تتلقى من جمعية الصليب الأحمر في لندرا، ومن جمعية إعانة مقدونيا ما يكفي لإطعام ثمانمائة نفس، وعلى يد السيدة مكين التي كانت تتلقى ما يكفي لغذاء ألف نفس، «وكان عند السيدة المذكورة مستشفى للمهاجرين مشتمل على ثلاثين سريرا.» وعلى يد جمعية المبشرين الأمريكيين الذين كانوا يطعمون ثمانمائة شخص، ثم على أيدي الراهبات اللواتي كن يطعمن ألف نفس، ويد قنصلية النمسا التي كانت تسعف ثمانمائة شخص، أما بقية المهاجرين وهم نحو عشرة آلاف، فكانوا يموتون جوعا وبردا، والمرجح أن قيمة ما نهب من المسلمين في ولايات أدرنه وسلانيك ومناستر وأسكوب يبلغ - على تقدير الكاتب - نحو مليار من الفرنكات.
ونشر الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتين بعض رسائل من المبشرين المسيحيين مشتملة على وصف عدة فظائع اقترفها البلقانيون، وهذا موجز ما كتبته البعثة الكاثوليكية بمقدونيا في 21 نوفمبر من يانيجه:
لما دخل اليونانيون المدينة كان عندنا وعند الراهبات نحو ألفي نفس، فجاء اليونان وانتزعوهم من أيدينا برغم تضرعنا إليهم، ثم أخذوا يذبحونهم أمامنا وأمام الراهبات جماعات جماعات. وبعد ذلك جعلوا يحرقون الأسواق التركية التي نهبها الأهالي، وما زال في يانيجه حتى الآن بضعة آلاف من اليونان وهم ينهجون نهج إخوانهم في سلانيك، فيسرقون وينهبون وينهكون حرمة النساء، ولا تنحصر فظائعهم في يانيجه وحدها بل تتعداها إلى الدساكر والقرى المجاورة لها، ثم إنهم يظهرون التعصب الشديد على كل إنسان لا يذهب مذهب الأرثوذكس، بل هم يتعدون هذا الحد بإساءتهم إلى البلغاريين الأرثوذكس، فقد أخذوا من شيخ بلغاري مسكين ستة وثمانين خروفا ولم يدفعوا ثمنها.
ثم قالوا في كتاب ثان من تلك المدينة أيضا: إن اليونان والبلغار يسلكون مسلكا دنيئا في مقدونيا، والنصارى الساكنون في القرى يذبحون المسلمين وينزعون الحلي من آذان النساء ويعتدون عليهن. وحدث في براجوتوفو أن النساء والفتيات لجأن إلى الأديرة بعد قتل الرجال، ولكن الأهالى المسيحيين هجموا عليهن وقتلوهن، وفي دولني يورسي أخذ المسيحيون يضربون الترك رجالا ونساء وصبية بالسياط ثم يمزقونهم جرحا وطعنا، وفي جالدينوفو لم يبق المسيحيون من الترك أحدا وهلم جرا، قال رئيس تحرير الماتين - وصدق في قوله: «ومما يزيد تلك الفظائع هولا أن رجال الدين المسيحي هم الذين يشهدون بها.»
وكتب أحد مراسلي جريدة كيلوزيتويغ أن جماعة من القسوس في مقدونيا نشروا رسالة قالوا فيها: إن الواجب المفروض على كل مسيحي أن يقدم روحا إسلامية على هيكل الكنيسة، فكان لتلك الرسالة صدى عظيم عند البلغاريين، ثم أخذوا يعملون بوصيته، وقد امتد الاعتداء إلى المساجد فنكست المنابر وألقيت خزائن الكتب، فأثر في نفسي هذا العمل تأثيرا شديدا، ولعنت تلك المدنية «الحمراء».
وذكر مراسل جريدة المساجيرو الإيطالية أن الصربيين أفرغوا كل جهدهم في قتل المسلمين الألبانيين، وضربوا المدن التي احتلوها بدعوى أنهم وجدوا فيها مقاومة، وذبحوا كثيرين بينهم عدد كبير من النساء.
ونشرت جريدة كونيش زيتونغ كتابا في شأن الفظائع التي ارتكبها البلغاريون «في قوله» قال كاتبه: «وصلت خمس عصابات بلغارية منذ شهر فأسرت الحاكم وأعلنت أن مدينة قوله صارت بلغارية، فابتهج الأعيان بقدوم هؤلاء اللصوص، ثم وصل أيضا نحو ثلاثين لصا من الطراز نفسه وأخبروا بأن آلايا بلغاريا وصل إلى هناك، فخرجت المدينة في 10 نوفمبر لاستقبال ذاك الآلاي وسار مطرانها في مقدمة المستقبلين، ثم أخذت النساء تزين بنادق الجنود واللصوص البلغاريين بالأزهار والرياحين، وقرعت جميع الكنائس أجراسها. ولما كان اليوم الثاني شرعوا يطاردون الأتراك ويقتلون أعيانهم بلا محاكمة، ويرتكبون أعمالا وحشية في معاملة أناس ليس لهم من ذنب إلا كونهم مسلمين، وعند نصف الليل كانوا يخرجون بالسجناء فينزعون قمصانهم وكل ما يستر عورتهم ثم ينحون عليهم طعنا بالحراب في أدق الجهات شعورا من أجسامهم، ويضربونهم بأخشاب البندقيات حتى يخرجوا أرواحهم، وقد أعدموا على هذا النمط ستة وثلاثين في الليل الأول لوصولهم، وخمسة عشر في الليل الثاني، وثمانية في الليل الثالث وهلم جرا، حتى بلغ الذين قتلوا في قوله وحدها مائة وخمسة عشر، ثم اعتدوا على أعراض النساء والبنات اللواتي قتل رجالهن.
أما في سرس فإن الأتراك أخذوا يدافعون عن أنفسهم فقتلوا جنديين من الصربيين، فلما علم الضابط الصربي بقتلهما فتح ساعته وقال لجنده: «نحن في الساعة الرابعة بعد الظهر فيمكنكم أن تفعلوا ما تريدون منذ الآن حتى الساعة نفسها بعد ظهر غد.» فما صدر هذا الإذن إلى تلك الوحوش الكاسرة حتى هجموا على الأتراك فقتلوا منهم في أربع وعشرين ساعة 1200 أو 1900 على رواية أخرى.»
ولما دخلوا دراما قطعوا رأس أحد الأتراك ونصبوه على صندوق، ثم وضعوا بين شفتيه غليونا.
وقبض جماعة من الجبليين على ضابط عثماني فقطعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينيه قبل موته ، فرسمته جرائد الأستانة وبعض الجرائد الأوروبية، ووضع بيير لوتي الكاتب الفرنساوي ذاك الرسم الفظيع على صدر كتابه «تركيا المحتضرة».
وأحرقت العصابات 38 قرية من 98 في قضاء كاوردار، وذبحت جميع أهالي درينوفو، وحفرت بين هذه القرية وباليكورا عدة قبور دفنت فيها الذين عذبتهم وهم في قيد الحياة أو على وشك الموت، فكان عابر السبيل يبصر رءوس تلك الضحايا نابتة من الأرض على شكل فظيع.
وحدث أن إحدى السيدات المسلمات رأت بعينها رجال بعض العصابات البلغارية يعتدون على ابنتها، فأخذت بندقية وأطلقتها على البلغاريين فكان عملها سببا في مذبحة هائلة، ومما فعله أولئك الوحوش أنهم حبسوا النساء والبنات في إحدى القهوات وأحرقوها بهن، ثم ارتكبوا مثل هذا الجرم في كوركوتوفو، فأحرقوا نساءها وهن داخل مسجد.
ونشرت جريدة ريشبوست تقريرا مفصلا عن الفظائع التي ارتكبها الصربيون في ألبانيا، وخلاصة ما تضمنه أن الصربيين أبادوا أهالي مدن بأسرها، وأنهم ذبحوا في ولاية قوصوه وحدها 25000 نفس، ثم طلب واضع التقرير من الدول الأوروبية أن تؤلف لجنة تحقيق للتثبت من حقيقة تلك الفظائع.
وقال مراسل الديلي تلغراف: إن المراسلين الحربيين من نمساويين وإنكليز وإيطاليين ونرويجيين أظهروا الفظائع التي ارتكبتها الجنود الصربية في كثير من جهات مقدونيا، أما الفظائع التي ارتكبتها في ألبانيا فيظهر أن الخوف من إمكان نشوب حرب أوروبية عامة حول عنها الأفكار، ولكن الاهتمام بها عاد في هذا الوقت (أوائل يناير)، فجمعت الحكومة النمساوية جميع التقارير المشتملة على أخبارها، وقد سنحت لي فرصة للاطلاع عليها فوجدت أن جنود الجنرال يانكوفتش أعادوا في القرن العشرين جميع ضروب الاضطهاد القاسي التي رواها التاريخ، فإنهم لم يكتفوا أيام زحفهم في الأنحاء الألبانية بذبح الألبانيين المسلحين غيلة وخداعا، بل دفعهم التوحش إلى قتل أناس عزل من السلاح والفتك بالشيوخ والنساء والأولاد حتى الأطفال الرضع، ومما قاله الضباط الصربيون وهم في سكرة النصر: إن خير وسيلة لنشر لواء الراحة والسلام في ألبانيا إنما هي إبادة المسلمين فيها، وما اتصل هذا الكلام بآذان الجنود الصربية حتى أسرعت إلى إنفاذه، فبلغ عدد الذين أعدموا فيما بين كومانوفو وأسكوب 3000 نفس، وعند برشتينا 500، وما كان هذا الفتك بهم في معركة شريفة، بل في عدة مذابح لا يمكن تبريرها، وقد اخترعت الجنود الصربية لتبريد شوقها إلى الدم أساليب جديدة فكانت تحيط بالمنازل وتشعل فيها النيران، ثم ترمي بالرصاص كل من يطلب الخلاص، وتعمد إلى قتل الرجال أمام نسائهم وأولادهم ثم تضطر الوالدات البائسات إلى حضور مشهد الفتك بأبنائهن وتقطيعهن إربا إربا.
وكان الإعدام اليومي سلوان الجنود الصربية، فإنها كانت تقبض على كل من تجد عنده سلاحا ثم تقتله شنقا أو رميا بالرصاص، وقد أعدمت في يوم واحد وثلاثين نفسا، وبلغ توحشها إلى حد أن الصربيين المقيمين في بلاد المجر أظهروا استياءهم من المذابح التي ارتكبها إخوانهم في ألبانيا، فإن الموسيو توميتش الذي كان سكرتيرا للموسيو باسيتش رئيس الوزارة الأسبق، روى أنه لما سافر من بريزرند إلى إيبك لم يجد على جانبي الطريق إلا قرى محرقة ومهدمة حتى مستوى الأرض، وكانت الدروب مزروعة من المشانق والجثث معلقة بها ولا سيما درب ديا كوفيتزا.
وروت جرائد بلغراد نفسها بعض ما كانت جنود الصرب تجترمه من القسوة والتوحش، فمن الروايات التي لم تخجل من نشرها أن الكولونل أوبستش لما دخل بريزرند مع ألايه صاح في جنوده «ألا فاقتلوا»، فهجمت الجنود على المنازل وفتكت بكل من وقع تحت يدها، ولو عدت الجنايات التي ارتكبتها الجنود الصربية في برلبه وقوصي وفرسيريزا لعادلت كل ما قاساه الألبانيون في مدة الحكم التركي.
ثم روى المراسل نفسه في موضع آخر نقلا عن تقارير الحكومة النمساوية أيضا أن الصربيين كانوا يذبحون الشيوخ والنساء والأطفال، وأن الجنرال ستفانوفتش أوقف مائتي أسير صفين متناسبين وأخذ يطلق عليهم قنابل الميتراليوز، وأن الجنرال زيفكوفتش قتل 950 عينا من الألبانيين والأتراك بحجة أنهم أبدوا بعض المقاومة.
وأرسل المستر مرمدوك بكثول الكتاب الآتي إلى جريدة التيمس:
إن شهرة التيمس باستقلال الرأي تحملني على الرجاء منكم أن تسمحوا لي بتوجيه الخواطر على صفحات جريدتكم إلى حالة مسلمي مقدونيا، فقد دلت الأخبار التي جاءتني وجاءت غيري أن هناك مكيدة مدبرة لذبح غير المقاتلة من الرجال والنساء والأولاد، وقد بدأت المذابح منذ أسابيع ولا تزال قائمة حتى الآن، وليس لها غاية إلا إبادتهم عن آخرهم، ويقال: إن عدد الضحايا (وفي جملتهم الهاربون) زاد كثيرا حتى الآن على نصف مليون نسمة، والواقع - إذا صحت الأنباء التي وصلتني، وليس هناك ما يحملني على الارتياب في صحتها البتة - أن أفظع المذابح في العصور الحديثة تجري باسم المسيحية.
أنا آخر من ينتظر المحافظة على أصول المروءة في الحروب الشرقية، ولكن ما يجري ليس بحرب بل هو مجزرة، وكلما انتشرت أنباء تلك المذابح عم السخط الشديد من ميل الحكومة الإنكليزية إلى إخفائها على ما يظهر، وهذا ما لا يدرك سره رجل مثلي كان يتصور أن تربية حسن الظن والشعور بين المسيحيين والمسلمين هي جزء من سياسة إنكلترا الثابتة، ولا ريب أن سكوتنا عن تلك الفظائع الهائلة يقع أسوأ وقع في صدر كل مسلم يعلم قيامنا وقعودنا من جراء مذابح محلية صغيرة أقدم عليها الأكراد أو الألبان.
ألا كم كان عدد المسلمين منذ شهرين في البلاد التي فتحتها الجيوش البلقانية، وكم عددهم الآن؟ وما هي الآلام التي حلت بتلك الخلائق البائسة من رجال ونساء؟ وما هي العصابات البلغارية؟ أليست مماثلة لعصابات الباشبزق العثمانية التي ملأنا الآفاق ضجيجا بسبب أعمالها في الماضي؟ فهل شنق البلغاريون رجلا من رجال تلك العصابات؟ ثم ماذا فعلت الجنود النظامية من بلغاريا وصربيا؟
تلك المسائل وغيرها (أي تعذيب اليهود) تتطلب تحقيقا مختلطا، وشرف المسيحية والحضارة أيضا يتطلب تحقيقا كاملا.
وهنا نحبس القلم عن إيراد بقية الأخبار المؤلمة، ونؤكد للقارئ أن بين أيدينا من الرسائل الشبيهة بما ذكرنا ما يملأ مجلدا كبيرا، وجلها من مصادر غير عثمانية تختلف في مبانيها وتتفق في معانيها؛ أي الإحراق والإغراق والنهب والسلب وهتك أعراض النساء والفتك بالضعفاء والأبرياء، وما شاكلها من الأعمال التي تنزل بالإنسانية وتحط من قدر المدنية، وتظهر حقيقة الذين سلوا سيوفهم لخدمة العدل والحرية ... (2) ما ينسب إلى العثمانيين
أما الجنود العثمانية فقد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب أنها فتكت بجماعة من الأبرياء أيام تقهقرت أمام الجيش اليوناني، ثم طالعنا في كتاب الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الصحيفة الآتية:
رأيت مشهدا فاجعا، رأيت أوتومبيل فيه ضابطان جريحان ماتا من شدة البرد، وبلغ عدد الذين ماتوا في هذا الليل نحو 2000، أما أنا فلم أسر على «طريق النزع والاحتضار» الذي اتبعه الجيش التركي المتقهقر، بل درت دورة تبلغ نحو 10 كيلومترات من الجهة الجنوبية، راكبا على جوادي بقصد أن أرى قرية أصبو، وهي إحدى القرى المسيحية العديدة التي أحرقتها الجنود التركية، ولما بلغتها لم أجد إلا أطلالا وخرائب، ولم تكتف تلك الجنود بإحراق المنازل بل ذبحت الأهالي المخلدين إلى السكينة، ولقد رأيتهم يدفنون ثمانين من أولئك المساكين وأبصرت بعيني بعض الجثث مطروحة، وطفلا رضيعا سحقت ميمنة وجهه بضربة شديدة من خشبة بندقية أو رفسة بكعب، وفتاة بين السادسة والسابعة من العمر مخروقة الجسم بحربة، وكان الناظر يبصر أيضا بعض جثث أخرى تحت الأنقاض؛ لأن الجنود ذبحت كل من وجدت ولم تبق إلا على عشر من الفتيات ...
وحدث أن خمسين من الأهالي لجئوا إلى إحدى الكنائس فأحاط الجانون بهم ثم أحرقوهم فيها، وكان أدلائي جماعة من الشيوخ الذين هربوا قبل وصول الجنود، وبينهم واحد يبكي بكاء يفطر الفؤاد؛ لأنه خسر كل آله وماله.
أما في سراي فإن الجنود التركية لم تجد وقتا لسفك الدم، ولكنها صبت جام الانتقام على كنيسة يونانية صغيرة، فكسرت ثرياتها بالعصي ومزقت الصور ورمت بالأقذار في المحل المقدس وشوت اللحم هناك ومزقت الإنجيل.
وأشار الموسيو هوشوختر في كتابه إلى إحراق القرى أيضا، وطالعنا عدة رسائل في وصف فظائع العصابات الألبانية، وهي كلها لا تخرج عما ذكرنا من تلك الأعمال الوحشية. •••
غير أنه يجب علينا أن نثبت هنا خدمة للحقيقة والتاريخ أن الرسائل التي وقعت إلينا منذ ابتداء الحرب في شأن الفظائع البلقانية هي أضعاف أضعاف الرسائل والفصول المتعلقة بالفظائع التركية والألبانية؛ ولذاك ارتفعت أصوات كثيرة من بلاد الحرية والمدنية اعتراضا على البلقانيين، فقد نشر الموسيو بيير لوتي الكاتب الفرنساوي الكبير رسائل عديدة في الطعن على جمود أوروبا أمام الفظائع البلقانية، ثم ألف منها ومن غيرها كتابه المسمى «تركيا المحتضرة». وإذا قيل أن بيير لوتي مشهور بغلوه في الدفاع عن الأتراك، قدمنا للمعترض شطرا من المقدمة الآتية التي وضعها السير أدام بلوك رئيس مجلس إدارة الديون العمومية، فإن هذا المالي الذي لم يشتهر بتطرف أو غلو كتب في صدر تقرير عن الفظائع يقول:
كان من المنتظر أن الضغائن الجنسية والدينية التي أوقظت في مقدونيا مدة الخمس والعشرين سنة الماضية، والتي لا تعزى إلى سوء الإدارة العثمانية وحده - تزداد شدة عند نشوب الحرب، وأسذج ساذج كان يستطيع الإنباء بالنتائج التي لا بد أن تتبع التجاء ممالك البلقان إلى السيف.
قاست مقدونيا في الأشهر القليلة الماضية أكثر مما كانت تقاسيه من سوء الإدارة العثمانية لو دامت سنين جمة. فقد أضيف إلى فظائع حرب هلك فيها مئات ألوف من الرجال إبادة سكان مقدونيا المسلمين، فإن الحرب الحاضرة قامت سوقها بلا اكتراث لقواعد الحروب المعترف بها عند الأمم المتمدنة، وليس من السهل أن نجد لها مثيلا في الحروب الحديثة بين الممالك الحضرية.
وإن عدم استطاعة المنصورين منع القتال والنهب وسائر الفظائع لا يمكن أن يعود عليهم بالسمعة الحسنة. ولست أعزو إليهم العزم على إبادة العنصر الإسلامي عمدا، ولكن هذا ما جرى تقريبا، وسيندم الحلفاء لأن مقدونيا باتت الآن شبه «بيضة فارغة»؛ بلادا أكلها السيف والنار وأقصى عنها أهلها المسلمون حراث الأرض، بسبب ما نالهم من الضيق والفاقة، وكثير من الذنب على الحلفاء أنفسهم.
إن الحرب وأخذ البلاد إنما يبرران إذا عادا بالخير والرخاء على أهل تلك البلاد. ومن الممكن - وإن يكن ليس من المؤكد - أن تبديل الحكام يعود بالفائدة على أهل مقدونيا المسيحيين، ولكن من الواضح وضوح النهار أن الحرب لم تفد المسلمين بتاتا، وخرابهم لا بد أن يكون عظيم الضرر على مستقبل البلاد.
ولست أزعم أن الترك كانوا بريئين من الجرائم والفظائع في الماضي أو أنهم لم يسفكوا دما بريئا في الأشهر القليلة الماضية، على أنه لا يمكن أن يكون ميزانان ومقياسان. وصحف أوروبا وفي جملتها صحف إنكلترا التي ذمت فظائع الترك في أزمانها شديد الذم صمتت في هذا الوقت صمتا غريبا.
لطالما احترم الشرقي وخصوصا التركي الرجل الإنكليزي ووثق به لما اشتهر عنه من حب العدل والإنصاف، ولكني أخشى أن يكون هذا الاعتقاد آخذا في الزوال، وعندي أن شعور التركي بذهاب روح العدل والإنصاف من الإنكليزي إنما يستأصل بالإلحاح في طلب تحقيق تلك الفظائع ومعاقبة المجرمين.
إني لم أشترك في البحث والتحقيق اللذين أفضيا إلى نشر هذا التقرير، ومهما يبد الناس من الشك في صحة جميع التفاصيل المذكورة فيه، فإنه يبقي ما يكفي ليحملنا على الأمل أن أوروبا التي كانت سريعة التصديق لأنباء فظائع الترك لا تنبذ جانبا تلك الأدلة المعروضة عليها نبذ المستخف بها.
وخطب لورد كرومر في مجلس اللوردة عند تناقش المجلس في مسألة ذبح الجنود البلقانية غير النظامية للمسلمين فقال:
مهما تكن نتيجة الحرب فإني لا أشك أن المسألة المقدونية تبقى بيننا، فقد كان الناس يرجون ويؤكدون أنه متى زال الحكم العثماني من مقدونيا لم نعد نسمع بالمذابح، ولكن خابت آمال الذين يظنون أن الجهاد في سبيل المسيحية هو جهاد في سبيل المروءة والفلاح، وإني أبرئ الحكومة الإنكليزية من كل تهمة إهمال، ولكن لا يسعني إلا المقابلة بين الغيظ الشديد الذي كان بعض الطبقات يظهرونه في بلادنا لما كانت المسألة مسألة ذبح الترك للمسيحيين، وبين ما يظهرونه الآن من شدة الجمود لما صارت المسألة مسألة ذبح المسيحيين للترك.
تلك قطرة من بحر عن الفظائع التي صبغت هضاب البلقان بدم الإنسان، وجلبت على مرتكبيها من العار ما لم تجلبه فظائع القرون الوسطى؛ لأن أهل ذاك الزمن كان لهم عذر الجهل والهمجية، فما هو اليوم عذر أهل هذا العصر الذين طلعت عليهم شمس العلم وقاموا يدعون المدنية؟
إنا طالعنا بحكم مهنتنا الصحافية جميع الأعذار التي انتحلها أصدقاء البلقانيين لهم، وهي تنحصر في ثلاثة وجوه؛ أولها: أن جنود الأتراك والباشبزق فتكوا بالبلقانيين في سالف الزمان، فلا تجد بلغاريا ولا صربيا ولا يونانيا ولا جبليا إلا ويسمع من والديه وأجداده وجداته أقوالا تشيب الأطفال قبل الرجال، ولا يفتح صحيفة من صحائف تاريخه إلا ويجد فيها ما يضرم نار الحقد في صدره على تركيا. والثاني : أن جميع الجنود في معظم الحروب لم يسلم شرفها من المذمة، ولم يخل تاريخها من أخبار القسوة والحوادث المؤلمة في إبان تحمسها. والثالث: أن ما نشر عن تلك الفظائع كان فيه غلو كبير، وأن العصابات هي التي اقترفت معظمه فلا يصح أن ينسب كله إلى الجنود المنظمة.
فنقول في الوجه الأول: إن مثل من ينتحل لهم هذا العذر مثل من يبرئ السارق أو القاتل؛ لأن أناسا آخرين سرقوا وقتلوا، ثم إن البلقانيين ادعوا دعوى عريضة يوم زحفهم، وهي أنهم يريدون رفع المظالم والمغارم عن رعايا تركيا في مقدونيا، فكيف يجوز لمن يدعي تلك الدعوى أن يظلم الأبرياء والضعفاء، وينهك الأعراض، ويتفنن في ارتكاب الفظائع؟ فهم ينهون عن خلق ويأتون مثله، وهو عار كبير.
ثم إنهم فوق ذاك كله أعلنوا الحرب باسم الصليب، ورمز الصليب إنما هو الرحمة والرأفة، فأين الرحمة في إحراق الشيوخ والنساء والأطفال في الجوامع والقهوات، أين الرحمة في دفن الشبان وهم أحياء، أين الرحمة في تعذيبهم وتقطيعهم إربا إربا أمام والداتهم وفي تدنيس عفة البنات؟ إنا لا ننكر والتاريخ شاهد أن الجنود التركية من باشبزق وغيرها فتكت بالبلقانيين فتكا ذريعا في أوقات مختلفة، ولكن مذبحة البلقانيين قبل معاهدة برلين، تلك المذبحة التي اهتزت لها أوروبا من شرقها إلى غربها وشماليها إلى قبليها، بلغ عدد ضحاياها ما بين 15 و20 ألف نفس، والمأخوذ اليوم من عدة روايات غير عثمانية أن الذين ذبحتهم الجنود المتحالفة في ولاية واحدة يربو على هذا العدد.
ونقول في الوجه الثاني: وهو أن جميع الجنود في جميع الحروب لا يخلو تاريخها من أنباء القسوة والحوادث المؤلمة؛ أجل إن الروسيين في حرب بولونيا، والألمانيين في حرب السبعين، والإنكليز في حرب الترنسفال، لم تخل أعمالهم من ضروب القسوة والخشونة، ولكن الفرق كبير بين حوادث معدودة تقع هنا وهناك وبين فظائع عامة شاملة يراد بها استئصال جنس من الأجناس، أو إنقاص عدده إلى حيث يتولاه الضعف فلا تقوم له قائمة، ولو كان مبلغ الفظائع البلقانية في حرب البلقان كمبلغ الفظائع العثمانية فيها، أو مبلغ فظائع الألمانيين في حرب السبعين لقلنا إن الجيوش المؤلفة من مئات الألوف لا يمكن أن تكون كلها مدنية مهذبة الطبع كريمة الخلق، بيد أن متسع الفظائع التي تنسب إلى الحلفاء بلغ حدا قصيا، حتى قال فيه بعض الكتاب الأحرار: «إنه إذا صحت جميع أخبارها فإن البلقانيين ارتكبوا في خمسة أشهر بقدر ما ارتكبه الباشبزق والجنود التركية في خمسة قرون.»
أما الوجه الثاني أن كون الأخبار المنشورة لا تخلو من غلو كثير وأن العصابات هي التي اقترفت معظم الفظائع، فهو ما يعجز مثلنا عن تكذيبه قبل التحقيق، ونحن لم نر لسوء طالع الإنسانية ولسوء سمعة أوروبا أن أصوات الأحرار الذين طلبوا التحقيق وقعت في آذان مصغية مفتوحة، على أنا نعود فنذكر هنا الملاحظة التي قدمناها، وهي أن تلك العصابات مشت إلى تراقيه ومقدونيا بأوامر من حكوماتها التي جعلت لها مهمات معينة، وحكوماتها أعرف الناس بالفظائع التي ارتكبتها سحابة أعوام في القرى المسيحية نفسها لأجل النفوذ السياسي، فإن العصابات اليونانية كانت تفتك بالأهالي البلغاريين، والعصابات البلغارية كانت تجر ذيل الخراب والدمار على القرى اليونانية وهلم جرا، أفما كان الواجب الإنساني يقضي على تلك الحكومات التي رفعت الصليب يوم زحفها بأن تأمر زعماء تلك الشراذم القاسية بالوقوف عند حدها؟ لا ننكر أن ضبط زمامها صعب ولكن الحكومات كان يمكنها بما عندها من الحول والقوة أن تخفف كثيرا من جرائمها وفظائعها، ولكنها لم تفعل، فلم يجد المنصفون لإهمالها مبررا.
على أن اللوم ليس كله عليها بل يجب أن يلقى شطر كبير منه على أوروبا؛ لأنها لو تحركت للفظائع التي جرت في الشهرين الأولين، كما فعلت أيام ارتكبت الجنود العثمانية آثامها قبل معاهدة برلين في بلاد البلغار؛ لاضطرت الحكومات البلقانية إلى إيقاف تيار الهول، ولكان نصرها باهرا نقيا من الشوائب والمخجلات.
الصحافيون بين النار والحديد
منشئ هذا الكتاب صحافي يحب الصحافة وآلها واليراعة ورجالها، فليسمح له المطالع أن يقول هنا كلمة عن أعمال الصحافيين وهم في ساحات القتال بين الحديد والنار: يروون أن هوميروس صاحب الإلياذة الشهيرة كان أعظم مراسل حربي في قديم الزمان، ثم يتطرقون إلى ذكر أشهر المراسلين وأعلاهم كعبا، فيذكرون عدة أسماء حديثة منها الرحالة ستانلي الذي راسل نيويورك هيرالد، وجورج فيلون الذي عين مديرا لشركة هافاس في فرنسا، وستندال، وفرنسوا دلونكل، وجورج غولي، وجان بارير وغيرهم من الذين لا يسع المقام أسماءهم.
ولا يذهبن عن المطالع أن الكلام في هذا الباب ينحصر بحكم الضرورة في الصحافات الأجنبية؛ لأن صحفنا العربية لم تبلغ حتى الآن من الثروة والرقي ما يمكنها من إرسال مندوبين اختصاصيين على نفقتها إلى ساحات القتال، وأسعدها حظا هي التي تعرف صديقا يحضر حربا فتكلفه أن ينفحها برسائل مأجورة أو غير مأجورة، ولا يهمها أن يكون اختصاصيا أو غير اختصاصي، ولا يسع المنصف إلا أن يلتمس لها عذرا ما دامت الجريدة التي تتفوق على جميع رصيفاتها في البيع والنشر لا تبلغ درجة إحدى جرائد المديريات في أوروبا، فهل يمكن واحدة منها أن تفعل كالبتي باريزيين التي كانت تنفق كل يوم على رسائلها الحربية 3000 إلى 4000 فرنك؟ فكيف بالتيمس وغيرها من سيدات الجرائد في العالمين؟
وهناك عذر آخر لجرائدنا وهو أنه لو أرادت إحداها أن ترسل اختصاصيا كفئا إلى الحروب لما وجدت، فإن المراسل الحربي لا يحتاج إلى مال كثير فقط بل هو يحتاج إلى معرفة فنية وصحة قوية وشجاعة كبيرة. قال جان بارير في رحلته إلى حرب الترنسفال: «أعترف لكم بأن يدي أخذت ترتجف حين وصلت إلى الخنادق الأولى وأخذت أسمع صفير الرصاص لأول مرة، فقد كنت لا أستطيع أن أضع نظارتي على عيني لما أصابني من الارتجاف، وإني لعلى تلك الحال إذا برفاقي هبوا للهجوم فاضطررت إلى التقدم معهم نحو العدو، وكان الرصاص يمر من فوق رأسي كالعصفور الصافر، ثم نظرت يمينا فإذا الجندي القريب مني طريح فظننت أن رجله عثرت بحجر، ولكني تحققت بعدئذ أنه قتل، ثم واصلت العدو نحو العدو فوجدت في طريقي جثة أخرى، ثم وقف جندي آخر وما لبث أن وقع. وكسرت إحدى الرصاصات حجرا كان على بعد سنتيمتر واحد من رجلي، ومع ذاك كله فقد بقينا نتقدم وكأننا نتحامل.»
وقال الموسيو ريمون ريكولي الذي كان مراسلا للتان في حرب الصين: «أول ما يحتاج إليه المراسل الحربي هو بنية كالحديد ليتمكن من مقاومة الأتعاب والأمراض والانفعالات النفسية، ثم يلزمه كثير من الحزم في سلوكه، فقد كدت أقع أسيرا لأني قضيت ليلة في أحد البيوت المنفردة، ولو وقعت في قبضة الأعداء لأعدموني بحجة أني جاسوس روسي، أما المشاهد التي يراها المراسل الحربي فهي من أشد الأهوال على النفوس، فقد رأيت بعيني أن قنبلة أصابت راهبة كانت تداوي الجرحى فقطعتها قطعتين، ورأيت أن خادمي أصبح مجنونا ورأيت ورأيت ... تالله إن حرفة المراسل الحربي لهي مهنة قاسية كمهنة العسكري وكبيرة عظيمة مثلها.»
ويظهر أن المراسلين الحقيقيين يخافون المراقبة بقدر ما يخافون الرصاص، قال الموسيو ريمون المذكور: «لا يخفى أن كل جيش يجعل للصحافة إدارة مخصوصة، وأهم رجالها المراقبون وهم الجلادون الذين يخافهم المراسلون الحربيون أشد الخوف ولا يرتعدون من صفير الرصاص ودوي المدافع بقدر ما يرتعدون منهم.»
ويؤخذ من أقوال مراسلي الجرائد الذين حضروا حرب البلقان أن المناظر الهائلة التي رأوها لم يسبق لها نظير، فقد كانت المدافع تحصد فرقا بأسرها في بضع ساعات فتتراكم الجثث هنا وهناك وتسيل الدماء جداول بل أنهرا، وكأنما أولئك المراسلون لا يكفيهم أن يقاسوا تلك المصاعب العاتية ويروا تلك المناظر التي تقذي العيون وتفطر القلوب حتى يروا في بعض الأحيان مصاعب أخرى من إخوانهم وزملائهم. فقد حدث في حرب الصين أن المراسلين الأميركيين بعد أن أرسلوا تلغرافاتهم قطعوا الأسلاك التلغرافية، فتأخرت تلغرافات المراسلين الأوروبيين ريثما أصلحت تلك الأسلاك، ولكن الجرائد الحرة قبحت عملهم؛ لأنه لا يدل على براعة معجبة، فقد كان يكفيهم أنهم سبقوا غيرهم في إرسال التلغرافات.
أما البراعة الصحافية التي حيرت السياسيين ورمت العلة في قلب بسمرك، فهي التي أبداها المستر بلويتز مراسل التيمس أيام مؤتمر برلين. فإن هذا الصحافي الطائر الصيت كان يرسل إلى جريدته كل ما جرى في ذاك المؤتمر العظيم يوما فيوما، حتى تميز البرنس بسمرك غيظا وملأ جهات القصر الذي كان يعقد فيه المؤتمر عيونا وجواسيس، وكان يذهب بنفسه فيرفع كل ستار ليرى هل اختبأ أحد وراءه، وكان عند جلوس المندوبين يضرب بكعب رجله تحت الطاولة؛ لأن بعضهم أذاع في ذاك الوقت أن أحد لصوص الأخبار كان يختبئ تحتها. أما ما قيل من أن المستر بلويتز نفسه كان يختبئ هناك فهو قول لا يعول عليه؛ لأن الرجل كان عظيم البنية كثير السمن.
وعلى الرغم من تلك الاحتياطات بقي ذاك المراسل الكبير يرسل إلى جريدته نتيجة المباحث اليومية في المؤتمر، حتى ختمها بعمله الشهير وهو إرسال معاهدة برلين إلى التيمس قبل أن تصل إلى الحكومات نفسها، فكيف كان يفعل؟
قال الموسيو جورج ميشيل: «إن صديقا قديما لذاك المراسل خبرني مع التحفظ أنه «اشترى» عضوا من أعضاء المؤتمر، وهذا الخبر لا يقبل التصديق لأول وهلة، ولكن من يتذكر ثروة التيمس الطائلة وبراعة مراسلها الهائلة ثم يتذكر من جهة أخرى أن بعض أعضاء الحكومات البلقانية كان فقيرا، يجد الأمر ممكنا.»
وقيل: إن البرنس بسمرك بقي بعد المؤتمر مهتما اهتماما شديدا بمعرفة الوسيلة التي توسل بها مراسل التيمس، وكان يعرف أنه يحب الحسان فأرسل إليه جاسوسة أجنبية جميلة لتتعشى معه، ولما ظنت أن الفرصة موافقة لسؤاله عن السر حاولت استطلاعه، ولكن الموسيو بلويتز لحظ من جهة أن في المحل مرآة مكسورة وظن أن وراءها أحدا، وكان من جهة أخرى يعرف استخدام النساء في التجسس، فالتفت إلى الجاسوسة الحسناء وقال لها: «أيتها العزيزة لا يمكني أن أخفي عنك شيئا فاعلمي أني حصلت على أخباري من البرنس بسمرك نفسه ...»
وروى أن البرنس دي بسمرك صار يبغض الصحافيين بغضا شديدا من أجله، ولكن هذا البغض لم يكن ليمنعه من اللياذ بهم في ترويج الأفكار السياسية والمشروعات الاقتصادية التي كان يراها مفيدة لألمانيا. •••
وليس بمنتقد على كبار السياسيين ولا سيما قواد الجيوش أن يكون خوفهم كبيرا من الصحافيين في بعض المواقف الحرجة، فإن الصحافة على كونها قوة كبيرة محترمة في أوروبا لا يستطيع أقطاب السياسة وأمراء الجيوش أن يدخلوا أصحابها في جميع مجالسهم، أو يوقفوهم على سرائرهم حين تكون المسألة لدى وطنهم مسألة موت أو حياة؛ لأن من يفكر في الحالة النفسية التي طبع عليها الصحافي الحقيقي، ويعلم أن له من نفسه دافعا قويا إلى التنقيب عن الأخبار، ووصف المشاهد، وانتقاد الأمور أو استحسانها، وأن هذا الدافع كثيرا ما يشتد إلى حد لا يمكن معه كتمان ما حرم نشره، يعلم أيضا أن السياسي الذي يمهد السبيل لاتفاق أو محالفة دولية، والقائد الذي يضع خطة حربية ربما كان علم العدو بها مجلبة لفشل جيشه، لا يمكن لومه إذا بالغ في التكتم كما فعل اليابانيون وأخذ عنهم البلغاريون.
تصور مثلا أن القواد البلغاريين الذين كان لديهم أربعة وثمانون مراسلا حربيا على رواية الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي، والذين كانت مصلحتهم الحيوية تقضي - كما اشتهر - بأن يضربوا ضربة سريعة قبل أن يتم حشد الجيش العثماني - تصور أن هؤلاء القواد سمحوا للمراسلين أن يفعلوا ما فعلوه في حرب السبعين بين الفرنساويين والألمانيين، فهل كان في وسعهم أن يبقوا خطتهم سرية، ويسيروا عليها بتلك السرعة التي بدت منهم أمام الجيش العثماني الشرقي؟ إن الجواب لا يحتمل التردد.
على أن الصحافي من جهة أخرى يلزمه أن يقوم بواجبه ويرضي جريدته وقراءه، والصحافة دولة في دولة عند الغربيين فلا مندوحة عن التوفيق بين المهنة الصحافية والمصلحة الكبرى المعرضة للخطر، ولا وسيلة إلى هذا التوفيق إلا بقبول الصحافيين في الحروب وتقييدهم بشروط، وإذا أراد المطالع أن يعرف مبلغ الصعوبة التي يقاسونها في إرسال الأخبار، فليقرأ هذا الأمر الذي أصدره رئيس أركان حرب الجيش البلغاري:
إلى المراسلين الحربيين
لا يجوز للمراسلين الحربيين أن يرسلوا إلى جرائدهم أخبارا عن الأمور الآتية:
أولا:
نظام الجيوش، أو تفريقها، أو عددها، أو مقاصد قوادها ومشروعاتهم الحربية.
ثانيا:
ترتيب الجنود، والمحلات التي تقيم فيها، وأشخاص قوادها وأركان حربها، ومؤخرة الجيش، والجنود الاحتياطية التي عنده.
ثالثا:
تسليح الجيوش والقلاع، وأحوال المواقع، وإدارة الميرة والذخيرة، والحالة الصحية.
رابعا:
تأثير المقذوفات، وصحة رماية الأعداء.
خامسا:
الاستعداد، وإرسال الجنود إلى إحدى الجهات، والطرق التي تتبعها، أو وصولها، أو تعزيزها، وما يتعلق بالقوة البحرية التي تشترك في عمل حربي.
سادسا:
حالة الخطوط الحربية التي تنقل عليها الجنود والأثقال، وحالة الجسور والطرق القديمة والحديثة في منطقة الأعمال الحربية.
سابعا:
الأخبار التي حصلت عليها «إدارة المخابرات» البلغارية أو بلغتها من الأهالي عن جيش العدو، حينما يكون نشرها مضرا بعمل تلك الإدارة.
ثامنا:
أسماء القتلى والجرحى قبل نشرها في البيان الرسمي.
تاسعا:
وصف الأعمال الحربية التي لا تكون في مصلحة جيشنا، وأيضا انتقاد الأوامر والتدابير التي يتخذها القواد.
وهناك نظام شديد مشتمل على ثلاث وعشرين مادة، وفحواه أن المراسل الحربي يلزمه أن يكون كتماثيل متحركة، لكن حركتها منوطة بإرادة غيرها؛ ولذاك رأينا أبرع المراسلين وأصدقهم نظرا وأوفرهم اطلاعا في الحرب البلقانية وغيرها، لم يفيدوا التاريخ إلا بالرسائل التي وضعوها بمعزل عن كل رقيب حربي، ثم أعادوا النظر فيها بعد رجوعهم من ساحة القتال؛ ولذاك أيضا تجد بعد التحقيق أن بين الرسائل التي نشرتها الجرائد الأوروبية ما كان اختلاقا محضا، والباعث عليه أحد أمرين: إما أن يكون المراسل نفسه عريض الدعوى يشق عليه أن يكون غير سباق بين المراسلين، فيكب على الخريطة الحربية ساعة حدوث إحدى المعارك فيضع البطاريات ويزحف بالسرايا، ويدعي الوقوف على مقاصد القواد ويرتب المعركة من أولها إلى آخرها، وربما اكتشف وهادا وهضابا وحزونا ليتمكن من تدبير معركته الخيالية، حتى إذا انتهت المعركة الحقيقية أصلح بعض الأقوال العامة، وقرب بين المعركتين على قدر المستطاع ... وإما تكون بعض إدارات الجرائد لا يهمها أن تخدم الحقيقة، بقدر ما يهمها الرواج الوقتي الذي تلقاه عند حصولها على تفصيل مخترع قبل أن تصل رسائل الجرائد الأخرى، فتصدر أمرها مشددا إلى مراسليها بالعمل على هذا النحو. قال الموسيو رينيه بيو: إن أحد المراسلين وصف معركة قرق كليسا ودفع ثلاثة أضعاف الرسم التلغرافي؛ أي 90 سنتيم عن كل كلمة، مع أن تفصيل المعركة لم يصل في ذاك اليوم إلى أحد؛ لأن البلاغ البلغاري كان محصورا في كلمات قليلة وهي: «دخلت الجنود البلغارية قرق كليسا، وغنمت مقدارا كبيرا من الذخائر والمدافع.»
فأخذ صاحبنا المراسل هذه الكلمات، ثم أخذ خريطته ووضع علامات على القرى المحيطة بقرق كليسا وسير الطلائع ونصب بطاريات هنا وبطاريات هناك، ثم شرع يصف رماية القنابل من الجانبين، وختم بوصف معركة شديدة بالسلاح الأبيض في شوارع قرق كليسا، غير أنه لسوء طالع هذا المراسل ثبت بعد ذلك أن الجنود العثمانية تركت قرق كليسا قبل وصول البلغاريين إليها بعدة ساعات، لما وصفناه من حدوث الرعب بين صفوفها ...
ولما شكا المراسلون إلى المراقب البلغاري من السماح لبعض زملائهم بإرسال تلك الملفقات أجابهم قائلا: «ليس من وظيفتنا أن نراقب هنا صحة أخباركم، فنحن ندعكم تختلقون ما تريدون من الحكايات، ولكنا لا نسمح بإرسال أخبار صحيحة تفيد أعداءنا.»
على أن أمثال أولئك الملفقين لا يمكنهم أن «يطيلوا حبل الكذب»؛ لأن أهل الجد وطلاب الحقائق لم يلبثوا أن فضحوا أمرهم وهتكوا سترهم، وربما كان اختلاقهم مرة مضرا بالقول الحق الذي نشروه مرارا؛ كما وقع لمراسل الريشبوخت النمساوية.
تأثير الفشل العثماني في العالم الإسلامي
(1) الهلال الأحمر المصري
لقد أكبر العالم الإسلامي كله فشل الجيش العثماني في البلقان، وجاءت الأنباء تترى من الهند وأفغانستان والصين وسائر البلدان التي يقيم فيها الموحدون، بأن خبر ذاك الفشل كان فيها أليما والتأثير من وقوعه عظيما، وأفاد بعض أنباء الهند أن كثيرا من مسلميها كانوا يحيون الليالي بالبكاء والضراعة في المساجد، ثم أخذ كل بلد يجمع ما يستطيع من المال ويرسله إلى ضفاف البوسفور؛ إعانة للجيش العثماني الذي كثرت جرحاه ومرضاه، أو إعانة لألوف المهاجرين من نساء وأطفال وشيوخ؛ لأن دخول المتحالفين بلادهم سحب عليهم ذيل الخراب وذهب بأموالهم ورجالهم، فلم يبق لهم من وسيلة إلا الهجرة إلى جهة يطلع عليها الهلال، ولا غرو، فإن المهاجر إذ كان لم ينل من هجرته الرخاء فقد حقن على الأقل ما بقي من الدماء.
وكان في طليعة الأمم التي كبرت حميتها وفاضت أريحيتها وتحرك فؤادها عطفا وشفقة الأمة المصرية الكريمة، فإنا نعرف أناسا منها باتوا وأحشاؤهم مطوية على الطوى يوم ورد خبر معركة لوله بورغاز، إلا أن المصريين على اختلاف طبقاتهم تسلطوا على عواطفهم كما أثبت جناب لورد كتشنر في تقريره، فلم يظهروا إلا الحكمة والتبصر في إظهار حميتهم الإسلامية وعاطفتهم الإنسانية.
أما الأموال التي جمعوها للإعانة فقد بلغت نحو ثلاثمائة وأربعين ألف جنيه، منها نحو مائتين وأربعين ألفا وصلت إلى يد اللجنة العلياء، ونحو مائة ألف جنيه إلى يد جمعية الهلال الأحمر المصري، وهنا نستأذن المطالع في تخصيص جمعية الهلال بكلمة خليقة بها، فهي بشهادة العثمانيين والأجانب أدت من الخدمات الجليلة ما خلد للقائمين بها ذكرا طيبا يرويه الخلف عن السلف، وحسبنا للدلالة على غرضها الشريف أن نذكر هنا مواد الفصل الأول من قانونها، وهي:
المادة الأولي:
تأسست بمصر جمعية الهلال الأحمر المصري، ومركزها العمومي مدينة القاهرة تحت حماية الحضرة الفخيمة الخديوية، ورعاية صاحبة السمو والدة الجناب العالي الخديوي، ورئاسة صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي.
المادة الثانية:
تستند جمعية الهلال الأحمر المصري في معاملاتها الخارجية:
أولا:
على ما جاء بقانون الهلال الأحمر العثماني في معاملاته.
ثانيا:
على المعاهد التي عقدت بتاريخ 22 أغسطس سنة 1864 في جنيف، وعلى أحكام التعديلات التي قبلتها الدولة العلية بمجتمع السفراء، الذي عقد في المدينة المذكورة بتاريخ (6 تموز سنة 1906)، يوليو 1906.
ثالثا:
على أساس قرارات مجتمع السفراء الذي عقد بشأن الحروب البحرية في «مدينة لاهاي»، في بلاد الفلمنك بتاريخ (18 تشرين أول 1907)، أكتوبر 1907.
المادة الثالثة:
الغرض من جمعية الهلال الأحمر المصري معالجة الجرحى ومداواة المرضى من الجنود البرية والبحرية في زمن الحرب، وتغذيتهم إذا اقتضى الحال، ثم تخفيف آلامهم بجميع الوسائل الممكنة، ويجوز للجمعية إسعاف عائلات الجنود والبؤساء من المجاهدين.
المادة الرابعة:
تعد الجمعية مستشفيات ثابتة وسيارة بحسب مقتضيات الأحوال، ولها أعداد قطارات برية أو سفن بحرية أو حملة من الدواب، أو غير ذلك من المعدات لنقل الجرحى من ميدان القتال إلى موائلهم.
المادة الخامسة:
يجوز للجمعية في زمن السلم أن تعاون البؤساء من الذين يصابون في مصائب عامة في أنحاء القطر المصري، ويكون ذلك بقرار من المجلس الأعلى.
المادة السادسة:
تعاون جمعية الهلال الأحمر المصري جرحى الجنود الأجنبية المحاربة، وفقا لأساس معاهدة مدينة جنيف وتعديلاتها الأخيرة، وطبقا لأحكام قرارات مجتمع السفراء الذي عقد بشأن الحروب البحرية في (18 تشرين أول سنة 1907)، أكتوبر سنة 1907.
المادة السابعة:
تشتغل الجمعية في وقت السلم بتعليم مأموريها وتدريبهم، وإحضار جميع لوازمهم إذا تراءى لها ذلك، وأن تهيئ المعدات اللازمة لتدريب العمال.
المادة الثامنة:
تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات والتبرعات والاكتتابات العمومية، وما يوقف عليها من أهل الخير وغير ذلك.
وتتألف الجمعية من جمعية عمومية، ومجلس أعلى، ولجنة إدارية، ولجنة مالية. وإليك أسماء الكبراء والوجهاء الذين كان المجلس الأعلى يتألف منهم أيام الحرب نقلا عن قانونها:
دولة البرنس محمد علي باشا
رئيس الجمعية
دولة البرنس يوسف باشا كمال
نائب الرئيس
دولة البرنس محمد علي بك حسن
عضو
سعادة عزيز باشا عزت
وكيل الجمعية
سعادة حسين باشا واصف
وكيل الجمعية
عطوفة إدريس بك راغب
سكرتير عام
عزتلو ميشيل بك لطف الله
أمين الصندوق
سعادة يوسف سابا باشا
عضو
فضيلة السيد عبد الحميد البكري
عضو
سعادة محمد باشا نسيم
عضو
سعادة محرم باشا جاهين
عضو
سعادة محمود باشا رياض
عضو
سعادة صالح باشا ثابت
عضو
سعادة قليني باشا فهمي
عضو
سعادة محمد باشا يكن
عضو
سعادة موسى باشا قطاوي
عضو
سعادة منصور باشا يوسف
عضو
سعادة عمر باشا سلطان
عضو
عزتلو محمد بك أبو شادي
عضو
عزتلو حنفي بك ناجي
عضو
عزتلو حسن بك سعيد
عضو
عزتلو الدكتور محمد بك أمين نظيم
عضو
عزتلو الدكتور محمود بك ناشد
عضو
عزتلو الدكتور الميرالاي سليم بك موصلي
عضو
عزتلو الدكتور علي بك إبراهيم
عضو
عزتلو الدكتور مدحت بك سامي
عضو ومساعد السكرتير العام
وإليك أسماء الذين كانت تتألف منهم اللجنة الإدارية:
دولة البرنس يوسف باشا كمال
رئيس
صاحب السعادة عزيز باشا عزت
وكيل
صاحب السعادة حسين باشا واصف
وكيل
عطوفة إدريس بك راغب
عضو
سعادة محمد باشا نسيم
عضو
سعادة موسى باشا قطاوي
عضو
عزتلو ميشيل بك لطف الله
عضو
عزتلو حسن بك سعيد
عضو
عزتلو حنفي بك ناجي
عضو
عزتلو الدكتور محمد بك نظيم
عضو
عزتلو الدكتور محمود بك ناشد
عضو
عزتلو مدحت بك سامي
عضو
أما أعضاء اللجنة المالية فهم:
سعادة موسى باشا قطاوي
رئيس
عزتلو حسن بك سعيد
عضو
عزتلو حنفي بك ناجي
عضو
وبلغ عدد بعثات الجمعية سبعا، بعضها يسمى بعثة ميدان؛ أي غير ثابتة، وبعضها ثابت كبعثة بكلربكي، وأخرى لنقل الجرحى والمرضى والمهاجرين كباخرة «البحر الأحمر». والمستفاد من تقاريرها أنها أعانت عددا عظيما من الذين نكبتهم الحرب الطاحنة. ولا ريب في أن جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر والسيدات الكرائم اللواتي تطوعن لخدمة الجرحى وإعانة المنكوبين على اختلاف الأجناس والأديان، هم الذين أبقوا على بقية من شرف الإنسانية والمدنية والمروءة التي كادت تقضي عليها فظائع الإنسان في هذا العصر، عصر الماديات.
ويحسن بنا في عرض الكلام على صنع الخير أن نشير إلى كرام المصريين الذين أرسلوا ما تبرعوا به إلى الأستانة مباشرة، كصاحبي السعادة محمود سليمان باشا وعلي شعراوي باشا، اللذين أرسل كل منهما مبلغا وافرا إلى عاصمة السلطنة العثمانية؛ إسعافا للجرحى والمرضى، أثاب الله جميع أهل المروءة خير ثواب. (2) تعليل هذا التأثير
أمر طبيعي أن كل إنسان يميل إلى أبناء دينه ويعطف عليهم، والشذوذ لا يقاس عليه، وكل ما رأيناه من عطف المسلمين في أنحاء المعمور على تركيا لا يخرج عن دائرة هذا الأمر الطبيعي الذي سيبقى ما بقيت الأديان والمذاهب.
وهناك باعث آخر لا يحسن إغفاله، وهو أن رؤية المغلوب ورغبة كثيرين في الإجهاز عليه تدفعان على الغالب أهل الشعور من الناس إلى تعضيده بما تسمح به حالهم. والدولة العلية كما عرف القاصي والداني لم تر طالعها سعيدا في الحرب البلقانية، ولم تجد من الأعوان إلا أفرادا قلائل من الكتاب الأحرار أو من أهل الخير الذين تنحصر مساعدتهم في معالجة الجرحى والمساكين، بل هي لم تجد من أوروبا إنجازا لوعد أو حفظا لعهد، فأي الناس أولى من المسلمين في العطف على الدولة وتلك حالها ...؟
وأهم من كل ما تقدم عند أهل الورع منهم ما قاله لنا أحد العلماء المسلمين وهو: «إن المسلم الذي تعلم قواعد دينه يعتقد أن وجود الخلافة واجب كل الوجوب، فلما حدثت معركة لوله بورغاز ثم زحف البلغاريون إلى باب الأستانة اهتز العالم الإسلامي لذاك النبأ الخطير؛ لأن كثيرين من أبنائه خافوا أن توضع مسألة الخلافة المقدسة على بساط البحث عند دخول الأعداء عاصمة السلطنة ومقر الخليفة، ولكن هذا الخوف كان في غير محله.» «أما قولهم: إن أوروبا عرفت بعد حرب البلقان أن الجامعة الإسلامية التي كان يهول بها عبد الحميد لا توجب خوف الدول، فهو قول يسرنا نحن المسلمين الذين ننظر إلى المستقبل؛ لأن أوروبا التي كبرت أوهامها في هذا الموضوع كانت تظهر الخوف من نجاحنا واجتماعنا لإقلاق بالها، أما الآن فقد عرفت أن المسلم مثلا يميل إلى أبناء دينه ميلا طبيعيا كغيره، والمأمول بعد زوال هذا الشبح أن تترك أوروبا المسلمين يسيرون في سبيل النجاح الطبيعي.»
دولة الأمير محمد علي باشا (رئيس جمعية الهلال الأحمر).
وخليق بالمصنف أن يعترف هنا بأن المسلمين بمصر لم يأتوا ما يوجب الانتقاد من الوجهة المشار إليها، بل اتبعوا نهج الحكمة والتبصر في إظهار شعورهم، وفي طريقة إعانتهم للسلطنة فوفقوا بين مصريتهم وعاطفتهم الطبيعية.
أسباب الفشل العثماني
أركان الحرب ثلاثة: حسن التأهب، وحسن الإدارة، وحسن التنفيذ. ونقصان واحد منها يكفي على الغالب لإحداث فشل عظيم كما قرر الأساتذة الحربيون، فكيف لا يفشل إذن الجيش العثماني والأركان الثلاثة تكاد تكون مفقودة عنده؟
كان التأهب قبل الحرب عدما أو شبه عدم، وحسبنا برهانا دامغا على هذا القول أن الميرة والذخيرة والطرق والمعدات الحربية والمخترعات العلمية وتدريب الرديف، وسائر ما يجب إعداده للجيش قبل الأيام العصيبة كان مختلا أو معدوما، قال المستر أشمد برتليت مراسل الديلي تلغراف الحربي الذي كان مرافقا للجيش العثماني: «إن ولاة الأمور الحربيين في الأستانة حاولوا أن يخدعوا العالم بأسره آملين أن تعوضهم شجاعة الجندي التركي من كل شيء، لكني ما وصلت إلى حيث كانت الجنود العثمانية حتى سقطت غشاوة الوهم عن بصري. أجل، إن الجندي التركي ما زال باسلا شجاعا كما كان في سالف الزمن، ولولا صبره العجيب في معمعان الحرب ما بقيت معركة لوله بورغاز ثلاثة أيام، فلا يجب إذن أن تلقى التبعة على هذا الجندي، بل يجب أن توضع على رءوس كبار الموظفين الذين انتفخوا بالكبرياء والخيلاء، واحتقروا أمم البلقان، وظنوا أن العدد العظيم المكتوب على الورق موجود حقيقة لديهم، وليس في وسعي أن أبسط للقارئ فكرة تدله على متسع الخدعة الغريبة التي خدعنا بها في مسألة الجيش العثماني، وإني لمقتنع كل الاقتناع بأنه لو كان الجندي التركي يحصل كل يوم على قطعة بقسماط لما تقهقر أمام العدو المهاجم، فإن الجوع هو الذي قهره.»
ثم تناول بجارح القول أركان حرب الجيش العثماني والقواد العثمانيين وولاة الأمور، وذكر أنهم لم ينظموا إدارة الميرة والذخيرة بل تركوا أربعة فيالق بين مخالب الجوع الذي كان ينهش في أحشائها، وقذفوا بضحاياهم إلى المجزرة قبل الأهبة، فكان الجندي جائعا عاريا وموقنا أن من يجرح في المعركة يبيت نصيبه من الحياة ضئيلا جدا؛ لنقص المستشفيات الحربية وقلة الأطباء والأدوية، وكانوا يرسلون البطاريات إلى مواقع الحرب ولا يلحقون بها المقدار اللازم من القنابل لقتال بضع ساعات، ولا يعينون لها الاحتياطي اللازم على مسافة طويلة، فنشأ عن هذا الخلل أن الجيش كان يفقد مدافعه في اليوم التالي.
وقال المراسل نفسه: إنهم جاءوا بفلاحين جهلاء من الأناضول وألفوا منهم آلايات كاملة، ثم ساقوهم إلى الأستانة حيث ألبسوهم الملابس العسكرية وأعطوهم بنادق موزر - وكثيرون منهم لم يروها في حياتهم - وبعد استعراضهم وعدهم أرسلوهم إلى ساحات القتال، ووصفوهم بهذه العبارة المنتفخة «مشاتنا الذين لا يغلبون».
وروى الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتن أن ضابطا من الملحقين العسكريين ذهب إلى جهة سراي، ثم اضطر إلى الرجوع مع تيار المهاجرين، ولما التقى به بعد رجوعه قال له ذاك الضابط ما فحواه: «كانت حياتي منوطة بساقي حصاني وما ذقت في أربع وعشرين ساعة إلا قطعتين من الشكولاتة، وكنت أحفظ في جيبي كسرة من الخبز كذخيرة احتياطية لأصعب الأوقات، فلما أشرق النهار وقفت والتعب آخذ مني أشد مأخذ، وأخرجت قطعة الخبز من جيبي، وبينما كنت مستعدا لالتقامها وقع نظري في أحد جانبي الطريق على جريح ممتقع اللون كالجثث المطروحة في السهول. ولما رآني وقف ومد إلي يدين داميتين على شكل هائل كمن يتضرع إلي أن أسد رمقه، فأثر هذا المنظر تأثيرا شديدا في نفسي، وسقطت قطعة الخبز من يدي فالتقطها الجريح والتهمها وهي ملطخة بالدم والوحل.»
وذكر الكاتب نفسه أنه زار مستشفى بيرا الفرنساوي حيث كانت جماعة من الراهبات الفرنساويات يخدمن الجرحى العثمانيين، فسأل الجرحى: «هل كنتم تتألمون؟» فكانوا يجيبون كلهم على التقريب هذا الجواب المحزن: «نعم، ولكن ألمنا لم يكن من الجروح ولا من التعب ولا من البرد، بل كان على الأخص من شدة الجوع.» وحدث مرة أن إحدى الراهبات سمعت هذا الجواب، فقالت للكاتب: إن كلمة «اكمك» (أي الخبز) لا تفارق أفواههم، ولما كنت أضع لهم ميزان الحرارة لأعرف درجتها كانوا يقولون: «إننا نفضل أن تعطينا قطعة من الخبز.»
ونقل عن جميل بك قائد إحدى الفرق أنه استل سيفه وهجم نحو شرذمة من الجنود الهاربين، وسألهم «لماذا تهربون؟» فأجابوا قائلين: «لأنا لا نجد خبزا.»
ولم يكن الجندي وحده ضحية للجوع المبرح، فإن عبد الله باشا القائد العام للجيش الشرقي كان يشكو مثل أفراد جيشه، بدليل ما رواه السير أشمد برتليث، وهو أن هذا القائد الذي كان تحت إمرته نحو 170 ألف جندي لم يجد لديه في 29 أكتوبر ما يدفع به آفة الجوع، فلما رآه على تلك الحال أهدى إليه بعض علب من اللحوم المحفوظة فشكره عبد الله باشا وقال: «لولاك ما استطعت الوقوف على قدمي.»
ولم يكن عبد الله باشا بلا أكل فقط، بل كان أيضا بلا أخبار عن المعركة العظمى الفاصلة في تراقيه، ولا عجب فكيف يمكنه أن يحصل على الأخبار في وقتها وليس عنده تلغراف سلكي، ولا تلغراف ماركوني، ولا أوتوموبيل حربي، ولا طيارات ولا شيء مما يجب كل الوجوب لاستطلاع طلع العدو وإصدار الأوامر اللازمة في حينها؟ وروى عبوق باشا (وذكر رئيس تحرير الماتن روايته): أن البلغاريين هجموا ليلا وكانوا يملكون في تلك المعركة منيرات كهربائية، فلما صاروا على مسافة 300 متر من الجنود العثمانية، أرسلوا عليها أنوار تلك المنيرات فبهرتها، فلم يعد في وسع الجندي العثماني أن يرى أو يرمي أو يدافع، في حين أن البلغاريين كانوا يرون كل حركة وكل ترتيب في صفوف العثمانيين.
ونشرت الجرائد الأوروبية حديثا لمختار باشا الغازي (الذي كان صدرا أعظم يوم إعلان الحرب كما تقدم) قال فيه: إن ولاة الأمور الذين تقدموا وزارته أحالوا بعد الدستور عددا عظيما من الضباط على المعاش، وعينوا بدلا منهم شبانا غير محنكين، ولما أعلنت الحرب لم يكن للطابور المؤلف من 800 رجل إلا سبعة ضباط بدل 16 أو 17 ضابطا، كما كان قبل النظام الجديد، فماذا يفعل جنودنا الشجعان وهم لا يجدون ضباطا يقودونهم؟
ثم قال: «إن الضابط القديم كان يعنى بأمر جنوده ويفعل كل شيء من أجلهم بعكس ضباطنا الشبان، فإنهم أرادوا أن يحذوا حذو الضباط الألمانيين في برلين، فكنت ترى الضابط منهم بعد التمرين يضع سيفه في غمده ويظن أن شغله انتهى. ولا يخفى أن الألمانيين عندهم طرق وخطوط حديدية وكل ما يلزم لنقل الميرة والذخيرة، أما نحن فلم يكن عندنا شيء.»
ثم انتقل إلى القوة التي تمكن من جمعها لمقاومة البلغار، فقال: إن مجموعها بلغ 200 ألف جندي (منها نحو 70 ألفا كانوا في أدرنه)، ولكن عددا عظيما منها بقي يومين أو ثلاثة بلا أكل ...
وإذا رجع المطالع إلى ما نقلناه في فصل سابق عن الماجور فون هوشوختر وجده مؤيدا لمجمل ما تقدم، ونحن ذاكرون هنا عبارات أخرى من كتابه، قال بعد أن ذكر نقص المواصلات التلغرافية والتلفونية وسوء حالة الطرق: «إن القواد وأمراء الآلايات ... إلخ، لم يعينوا إلا وقت إعلان الحرب، فلم يكونوا يعرفون أركان حربهم ولا جنودهم بل كان القائد منهم يعين في 21 أكتوبر ثم يذهب في اليوم التالي إلى ساحة القتال، وقد عرض الأساتذة الألمانيون خدمتهم على الحكومة العثمانية فرفضتها؛ لأنها أرادت - كما بدأت أعتقد - أن تخفي عنهم ضروب الخلل (كذا).»
وكان تحرير الأوامر بطيئا ونقلها صعبا، والأهالي الذين من أصل بلغاري مسلحين ومعادين للجنود العثمانية، فإذا التقوا بأفراد منها عمدوا في الغالب إلى الفتك بهم، وكانت المواصلة مختلة بين الفيالق، ومقدمات الجنود ممتدة على مسافات طويلة جدا، والطلائع الأمامية غير موجودة، فكانت المعارك تبتدئ بوصول الفرق بعضها تلو بعض، وقد لحظت أن البلغاريين كان عندهم مثل هذا العيب؛ ولذلك حدث أن الفريقين كانا يتصادمان بغتة فينشأ عن ذاك الصدام الفجائي قتالهما بالسلاح الأبيض.
ثم ختم بقوله: إن الذين خسروا المعارك هم الرؤساء المسئولون لا الجنود العثمانية.
وعثرنا على مقال نشره الموسيو رود مراسل التان أيد به ما ذكرناه في فصل سابق، وهو أن وجود الذين من أصل بلغاري أو يوناني أو صربي أثر تأثيرا سيئا في الجيش العثماني، ومما قاله هذا الكاتب إنه رأى في شورلو نحو ألف جندي من الذين هربوا بعد معركة قرق كليسا، وهم يأبون التقدم إلى الإمام، وأن أحدهم - وهو يوناني - قال لخادمه: «نحن نموت جوعا، وقيادتنا سيئة جدا فلا نريد أن نزحف إلى الأمام، وإذا أرادوا إجبارنا على التقدم فإن عندنا بنادق وخرطوشا ...» ثم أبصر بعد معركة لوله بورغاز أن بعض أولئك الجنود وقف على طاولة في إحدى القهوات وأخذ يحرض الهاربين على العصيان.
وأضف إلى كل ما ذكر أن عقارب السياسة كانت تسعى إلى قلوب الضباط، فتنفث سمها في عواطف الألفة وتصرف الضابط عن واجبه المقدس، فكنت ترى الضابط الصغير ينظر بعين الحقد إلى رئيسه إن كان من غير حزبه، وربما استخف بأوامره. وقد أكد لنا ضابط كبير من أركان الحرب أن الشقاق والتنازع كانا واقعين بين كبار القواد قبيل المعركة الكبرى في تراقيه. •••
فأنت ترى مما بدا أن الجيش العثماني لم يقاتل الجيوش البلقانية الأربعة فقط، بل كان يقاتل جيوشا أخرى أشد هولا وأعظم فتكا وأقسى عودا؛ أولها: جيش من الإهمال الفاضح الذي أدى به إلى شلل عام، والثاني: جيش من الجوع الذي بقي ينهش في أحشاء جنوده حتى هدم عزائمها وأعمى أبصارها وبصائرها، وجيش من الدسائس السياسية التي فرقت بين القواد والضباط والأقرباء والإخوان، وهي كلها من أب واحد - لعن الله أباها - وهو الخلل الذي تمشي في جميع فروع الإدارة.
وهنا تخطر لنا حكمة اجتماعية قررها مونتسكيو الكاتب الفرنساوي العظيم حيث قال: «إن أسبابا عامة، إما أدبية وإما مادية، تؤثر في كل مملكة فترفعها أو تحفظها على حالها أو تقذف بها من حالق، وكل ما يطرأ من الحوادث يرجع إلى أحد تلك الأسباب العامة، فإذا وقعت مثلا وقعة جرت وراءها الخراب - أو بعبارة أخرى - إذا حدث سبب خاص، فإن هناك سببا عاما أدى إليه.»
فما هو السبب العام في ذاك الفشل العثماني؟ هو بلا شك ذاك الخلل الشامل المؤدي إلى الفساد القاتل.
مرسح السياسة
وقت الحرب وبعدها
ذكرنا ما فعله السيف بعد إعلان الحرب، فبقي أن نذكر ما فعلته السياسة.
أخذت السياسة تجول جولاتها وتصول صولاتها وترينا غرائبها ومفارقاتها منذ حل الفشل الأليم بالجيش العثماني الشرقي في لوله بورغاز، وزحف الجيش البلغاري إلى جتالجه، فإن أول طفرة طفرتها أنها انتقلت بعد تلك المعركة من رأي إلى ضده، فقررت أن لا يحرم البلقانيون من ثمرة انتصارهم، فألغى هذا القرار إعلانها الرسمي الشهير الذي نشرناه في باب سابق ، وهو أنها لا تسمح بتغير خريطة البلقان، لكن الجرائد الشبيهة بالرسمية كالتان ما لبثت أن نشرت «بالقلم العريض» أن الدول كانت تريد بذاك القول أن تفهم الحكومة العثمانية وحدها بأن أوروبا لا تسمح لها بأخذ شيء من أراضي أعدائها، ولو رأت النصر معقودا بهلالها.
ثم اتفقت الدول من جهة أخرى عملا برأي الموسيو بو انكاريه على أن تعلن عفة قلبها من الطمع في أية أرض عثمانية، كما اتفقت بعد ذاك على اقتراح السير إدوارد جراي وزير خارجية إنكلترا، وهو أن يعقد سفراء الدول العظمى مجتمعا في لندرا بجانب مؤتمر الصلح لدرس ما يهم الدول في البلقان، وتوطئة السبيل لحل المشاكل، والحيلولة دون انفراد إحدى الدول بسياسة محفوفة بالخطر على السلم الأوروبي، وتمهيد طرق الاتفاق بين المندوبين العثمانيين والمندوبين البلقانيين كما سترى. (1) الهدنة الأولى ومؤتمر الصلح الأول
طلبت وزارة كامل باشا منذ 15 نوفمبر إلى قواد البلغار في جتالجه أن يعقدوا هدنة، فأحال القواد هذا الطلب إلى حكوماتهم، وبعد أن تفاوض المتحالفون بضعة عشر يوما وتوسطت الدول العظمى في الموضوع قررت حكومات صوفيا وبلغراد وستينه أن تعقد الهدنة في 3 ديسمبر، أما حكومة اليونان فأبت أن توافق على الهدنة لسببين؛ أولهما: أن قائد الجيش اليوناني كان يؤمل أخذ يانيه في وقت قريب، فلم تشأ حكومته الاشتراك في الهدنة قبل أن تسقط تلك المدينة التي أظهرنا مقامها التاريخي عند اليونان. والثاني: أن بقاء اليونان في حالة الحرب كان نافعا للمتحالفين؛ لأنه مكن الأسطول اليوناني من حصر مواني بحر الأرخبيل والبحر الأيوني في مدة المفاوضات، وحال دون إرسال المؤن والذخائر إلى يانيه وأشقودره من جهة البحر، كما حال دون إرسال النجدات العثمانية من سوريا وغيرها، فلهذين السببين لم يعترض البلغاريون والصربيون والجبليون على إحجام الحكومة اليونانية عن الاشتراك معهم في الهدنة، بل كانوا مؤيدين لها بدليل أنهم أصروا على قبول المندوبين اليونانيين في مؤتمر الصلح.
أما عقد الهدنة فقد تم توقيعه في 3 ديسمبر بين الموسيو ستويان دانيف رئيس مجلس النواب البلغاري، والجنرال سافوف وكيل ملك البلغار في القيادة العامة، والجنرال إيفان فيتشيف رئيس أركان حرب الجيش البلغاري، وكانوا نائبين عن الصرب والجبل الأسود - وبين ناظم باشا وزير الحربية العثمانية ووكيل جلالة السلطان في القيادة العامة، وإليك تعريب الشروط:
أولا:
تعقد هدنة بين جيوش البلغار والصرب والجبل الأسود من جهة، والجيوش العثمانية من جهة أخرى للتمكن من الشروع في مفاوضات الصلح بين الفريقين المتحاربين.
ثانيا:
تبقى الهدنة ما بقيت مفاوضات الصلح، وتنتهي عند البلوغ إلى نتيجة حسنة أو عند قطع المفاوضات.
ثالثا:
تجري مفاوضات الصلح في لندرا وتبتدئ بعد التوقيع على هذا الاتفاق بعشرة أيام.
رابعا:
إذا لم تنجح مفاوضات الصلح فإن كل فريق من المتحاربين ملزم بأن يعلن انتهاء الهدنة للفريق الآخر قبل استئناف الحرب بأربعة أيام، وأن يعين له ساعة الرجوع إلى القتال، وتبتدئ الأربعة الأيام المذكورة منذ الساعة السابعة مساء بعد البلاغ الذي يرسله القائد العام لأحد الفريقين إلى قائد الفريق الآخر.
خامسا:
تبقى جنود كل فريق من المتحاربين في مواقعها الحاضرة، وتعين بينهما شقة حرام بمقتضى اتفاق يعقد بين الضباط الذين ينتدبون لعقده من الفريقين.
سادسا:
تبتدئ الهدنة فعلا منذ التوقيع على هذا الاتفاق، وإذا تجاوزت جنود أحد الفريقين خط التحديد وجب عليها أن تعود إلى مواقعها الأولى.
سابعا:
تتعهد الحكومة السلطانية بأن ترفع الحصار عن ثغور البحر الأسود، وتدع البواخر حرة في الذهاب إليها، ولا تعارض في إرسال الميرة والذخيرة إلى الجنود البلغارية من طريق البحر المذكور، ثم تتعهد أيضا بالسماح للقطارات الحربية البلغارية التي تأتي من بلغاريا أو تذهب إليها بأن تمر حرة على الخط الحديدي الواقع في منطقة أدرنه.
ثامنا:
تبتدئ الهدنة الساعة السابعة مساء من يوم 20 نوفمبر (على الحساب الشرقي) سنة 1912.
وعليه تم التوقيع على هذا الاتفاق، وكتب منه أربع نسخ في جتالجه. •••
ثم عينت الحكومة العثمانية وحكومات البلقان مندوبيها في مؤتمر الصلح، فانتدبت وزارة كامل باشا رشيد باشا وصالح باشا، وكلاهما من الوزراء السابقين، وعثمان نظامي باشا الذي كان سفيرا في برلين، ونابي بك الذي كان سفيرا في روما (وهو الذي وقع على معاهدة الصلح بين تركيا وإيطاليا في لوزان)، وصفوت بك وعلي رضا بك ورشيد بك.
وانتدبت الحكومة البلغارية الموسيو دانيف رئيس مجلس نوابها (وهو رئيس الوزارة البلغارية الآن)، واثنين من كبار رجالها.
وندبت الحكومة الصربية الموسيو نوفاكوفتش رئيس وزرائها سابقا، والموسيو نيقوليتش رئيس مجلسها، ومعهما معتمدها في باريس.
وعينت مملكة الجبل الأسود رئيس مجلسها النيابي واثنين آخرين، وأنابت دولة اليونان عنها الموسيو فنزيلوس رئيس وزارتها ومعه اثنان أيضا.
ولما كان اليوم السادس عشر من ديسمبر سنة 1912 (على الحساب الغربي) اجتمع المندوبون العثمانيون والمندوبون البلقانيون في قصر «سنت جيمس»، وافتتح السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا جلستهم الأولى، فرحب بهم بالنيابة عن الملك وحكومته، وأمل أن يجدوا ردهات القصر رحيبة أمامهم، وجو البلاد ساكنا خاليا من غيوم الهوى والغرض، ثم حضهم على بذل الجهد في سبيل الصلح، وأكد لهم أنهم يجدون عند إنكلترا نية حسنة لتحقيق الأمنية التي جمعتهم في العاصمة الإنكليزية. فشكر رؤساء الوفود للوزير الإنكليزي هذا الشعور، وعرضوا عليه أن يكون رئيس شرف لمؤتمر الصلح فقبل شاكرا ثم خرج، وبعد ذهابه قرر المندوبون أن تكون الرئاسة الفعلية لرؤساء الوفود كل في دوره على ترتيب الأحرف الهجائية.
على أن المندوبين العثمانيين أبوا أن يفاوضوا المندوبين اليونانيين؛ لأن الدولة اليونانية أبت أن تشترك في الهدنة، وبعد أخذ ورد، وجزر ومد رضيت الحكومة العثمانية بأن تفاوضهم.
وكل من وقف على الأحاديث التي نطق بها في ذاك الوقت الموسيو دانيف كبير مندوبي البلغار، والموسيو فنزيلوس كبير مندوبي اليونان وجماعة من ساسة العثمانيين، لم يبق عنده شك في أن مسافة الخلاف كانت متسعة جدا بين مطالبهم والشروط التي كانت تراها الحكومة العثمانية مقبولة عادلة. وأهم وجوه ذاك الخلاف أن البلغاريين كانوا يصرون على طلب أدرنه والحكومة العثمانية لم تكن تريد أن تسمع بمثل هذا الطمع، ولا سيما أن أدرنه مدينة قديمة ذات تاريخ محترم عند المسلمين لما فيها من المساجد الفخمة وقبور السلاطين. ومن وجوه الخلاف أيضا أن الحكومة العثمانية كانت تطلب استقلال الولايات المعروفة باسم مقدونيا، واستبقاء يانيه وأشقودره اللتين كانتا تدافعان إلى ذاك الحين، والمتحالفون كانوا بالعكس يريدون أن تكون يانيه وأشقودره داخلتين في جملة غنائمهم كأدرنه؛ لأن الدولة اليونانية كانت تصر كل الإصرار على طلب الأولى والجبل الأسود على طلب الثانية. ومن وجوه الخلاف أن الحكومة العثمانية لم تكن تنوي التنازل عن جميع الجزر، ولا سيما المجاورة للدردنيل والأملاك العثمانية في آسيا.
غير أن كل فريق كان يعتقد أن الفريق الآخر بدأ يطلب كثيرا وهو لا يؤمل الحصول على كل مطلوبه كما يقع للمتساومين. ومما دفع الحكومة العثمانية إلى إطالة المقاومة في تلك المساومة أن جو السياسة لم يكن صافيا؛ لتفاقم الخلاف بين النمسا والصرب من جهة، وبين بلغاريا ورومانيا من جهة أخرى، ولكون روسيا من جهة ثالثة أخذت تنهج منهج النمسا في التأهب الحربي كما سترى. فتلك الغيوم السوداء في جو السياسة الأوروبية ولدت في الأستانة أملا غامضا بوقوع مشكلة دولية قريبة، يكون من ورائها فائدة للدولة العلية، ولا سيما أن حالة الجيش العثماني في جتالجه كانت متحسنة تحسنا ظاهرا، فلو نشبت إذ ذاك حرب ثانية ووجدت الحكومة العثمانية أنصارا، لكان في استطاعتها أن تجني فائدة كبيرة.
على أن ريح السياسة لم توافق سفينة ذاك الأمل؛ لأن الدول العظمى ضغطت على رومانيا فحملتها على قبول التحكيم الدولي بينها وبين بلغاريا، وقد عقد مجلس التحكيم في بطرسبرج، وحكم على البلغار بأن تعطي المملكة الرومانية سلستريا لقاء حيادها في الحرب البلقانية، وأن تعدل حدودها على وجه موافق لمصلحتها، ثم دارت المفاوضات من جهة أخرى بين روسيا والنمسا، وانتهت بأن صرفت كل دولة جانبا من جيشها المعبأ وأكدت نيتها السلمية.
فكان هذا التحسن السياسي مضعفا لذاك الأمل العثماني ومقويا لآمال البلقانيين؛ فبقي هؤلاء مصرين على معظم شروطهم، وخلاصتها أن تستقل ألبانيا كما طلب مجتمع السفراء الذي كان ينعقد بجانب مؤتمر الصلح، وأن تكون جميع الولايات العثمانية الأوروبية غنيمة للبلقانيين، فلا يبقى للدولة العثمانية إلا عاصمتها وعشرات قليلة من الأميال عند بابها.
فأرسل رشيد باشا، المندوب العثماني الأول، تلك الشروط الثقيلة إلى الحكومة العثمانية، فقررت رفضها وبعثت إلى مندوبيها بشروط أخرى وهي؛ أولا: أن تبقى ولاية أدرنه عثمانية، ثانيا: أن تحول مقدونيا إلى إمارة تحت السيادة السلطانية وتجعل سلانيك عاصمة لها، ويكون أميرها إنجيليا يختاره المتحالفون، ثم يصدر جلالة السلطان أمره بتعيينه، ثالثا: أن تستقل ألبانيا تحت السيادة العثمانية، ويكون أميرها من الأسرة السلطانية لمدة خمس سنوات ويجوز تجديد مدته، رابعا: أن تبقى جزر الأرخبيل للدولة العلية، خامسا: أن لا يبحث المؤتمر في مسألة كريت، بل يكون البحث في شأنها بين الباب العالي والدول العظمى.
وكانت الجلسة التي عرضت فيها هذه الشروط تحت رئاسة رشيد باشا، فدافع عن مطالب دولته دفاعا قويا، لكن مندوبي الحكومات البلقانية أصروا على رفضها.
ولما رأى أولئك المندوبون أن الحكومة العثمانية بقيت مصرة على طلب أدرنه من وجه أخص قرروا إيقاف المفاوضات، ثم أخذت الدول من جهة أخرى تلح على الباب العالي في وجوب الإذعان، وأرسلت إليه مذكرة أفهمته بها أنها لا تضمن سلامة الأستانة والأملاك الأسيوية إن بقي على هذا الإصرار.
فوقعت وزارة كامل باشا في حيرة شديدة؛ لأنها كانت تخشى الرأي العام إذا قبلت، وتخشى سوء المغبة إذا رفضت، ثم ارتأت أخيرا أن لا تستقل بأمر السلم والحرب بل تعقد جمعية وطنية من أقطاب السياسة وشيوخ الوزراء لتشاورهم في الأمر. (2) الجمعية الوطنية
فعقدت الجمعية في قصر ضلمة بغجة برئاسة كامل باشا وحضور ولي عهد الدولة وأمراء الأسرة السلطانية، ولبى الدعوة جميع الكبراء الذين دعوا إليها ما عدا كبار الاتحاديين، وفي مقدمتهم محمود شوكت باشا.
ثم افتتح كامل باشا الجلسة، وأمر سعيد بك - مكتوبجي وزارة الخارجية - بأن يقرأ المذكرة الإجماعية التي بعثت بها الدول إلى الباب العالي. ثم تكلم ناظم باشا وزير الحربية فأظهر تشوق الجيش إلى القتال واستعداده لبذل دمه في سبيل الوطن، ولكنه ألمع إلى صعوبة استرجاع ما فقدته الدولة العلية من الأملاك. وتكلم بعده عبد الرحمن أفندي وزير المالية، فأظهر الحالة التي صارت إليها خزينة الدولة من الضيق، وتلاه وزير الداخلية فشرح للجمعية الحالة الداخلية في السلطنة.
وكان نوردنجيان أفندي وزير الخارجية منحرف الصحة فأوعز إلى سعيد بك المذكور أن يقرأ بالنيابة عنه مذكرة وافية عن الحالة العامة، أوضح فيها أسباب الحرب والأطوار التي دخلت فيها، وتطرق إلى الموقف الاستثنائي الذي وقعت فيه السلطنة.
وروت صباح أن كامل باشا قال للجمعية: إنه لا يمكن الاعتماد على مشاكل خارجية أو على تعضيد من جانب ألمانيا والنمسا؛ لأنهما لو كانتا تنويان حقيقة مساعدة الدولة العلية لما اشتركتا في إرسال المذكرة الدولية. ثم قال: إنه يسلم بالتنازل عن أدرنه، ولكنه يطلب في الوقت ذاته شروطا من شأنها أن تجعل الحكم الفعلي فيها مشتركا بين العثمانيين والبلغاريين، وشرح الخطر الخارجي الذي ينجم عن إصرار الدولة على الشروط الأولى مع الأحوال الحاضرة.
وخطب الداماد شريف باشا، والمشير فؤاد باشا، وعبد الرحمن أفندي، ومحمود أسعد أفندي، ورشيد عاكف باشا، وارستيدي باشا، وأحمد هرما أفندي، ومختار باشا الغازي، وإسماعيل حقي بك، فوافقوا كلهم على رأي الحكومة إلا إسماعيل حقي بك فإنه خالفها في الرأي، ثم ارفض المجتمعون نحو الساعة الرابعة و10 دقائق. ونحو الساعة السادسة مساء أرسل إلى الصحف بلاغ رسمي جاء فيه ما يلي:
عقد مجلس كبير من رجال مجلس الأعيان وأصحاب المقامات السامية من ملكيين وعسكريين وعلماء، فقدم الصدر الأعظم ووزراء الحربية والمالية والخارجية باسم الحكومة إيضاحات متعلقة بالحالة الحاضرة، ثم دارت مناقشة طويلة في شأن تلك الإيضاحات، وكانت دلائل الإخلاص والاستقامة تبدو عليها، وبعد انتهائها وافقت الجمعية على رأي الحكومة، وأفصحت عن ثقتها بالدول العظمى وأملت أن تحقق فعلا ما وعدت به من المساعدة، ثم طلبت الجمعية من الحكومة أن تصرف كل جهدها إلى حفظ سلامة الدولة في المستقبل، وأن تهتم بترقيتها من الوجهة الاقتصادية.
وإذا رجع القارئ معنا إلى سنة 1877؛ أي سنة إعلان الحرب بين الدولة العلية وروسيا، وجد أن عقد جمعية وطنية من أقطاب الدولة ليس بجديد ولا وحيد في تاريخ السلطنة العثمانية، فإن كامل باشا تذكر ولا ريب ما فعله المرحوم مدحت باشا قبل إعلان الحرب الروسية العثمانية في تلك السنة فرآه من الصواب بمكان، يخفف عنه أعباء المسئولية ويكون وسيلة لبسط آراء ناضجة من رجال عركهم الدهر وذاقوا منه الحلو والمر.
أما خلاصة ما جرى في عهد مدحت باشا، فهي أنه لما قامت الحرب بين تركيا من جهة والجبل الأسود من جهة أخرى، عقد مؤتمر دولي للنظر في الحالة، فعرض مندوبو الدول مقترحات إصلاحية وطلبوا تحقيقها، فأبى المندوبون العثمانيون أن يقبلوها، وقالوا لمندوبي الدول العظمى: «إن الحكومة السلطانية قررت أن تنشئ دستورا، والدستور من شأنه أن يعود بالنتائج التي تتفق مع رغائب الدول.»
وفي أثناء اجتماع ذاك المؤتمر اقترح مدحت باشا أبو الدستور العثماني (وكان وقتئذ صدرا أعظم) على السلطان عبد الحميد أن يعقد جمعية من صدور الدولة وعيون الأمة، ليشاورهم في الأمر ويطلعهم على مذكرة بعثت بها الدول إلى الباب العالي، وصرحت فيها بأن وعدها بالدستور لا يكفي وطلبت إصلاحات فعلية، لكن الجمعية أبت أن تقبل هذا الطلب، فأدى رفضها إلى إعلان الحرب بين روسيا والدولة العلية في أبريل سنة 1877، وكان من نتائجها فشل الجيش العثماني؛ لأن يلدز كانت تدير حركاته ولا تدع الحرية الواجبة لقواده، ولأن الخلل كان ملازما للإدارة كلها لسوء الطالع، فجرى ما جرى من وصول الجيش الروسي إلى سان استفانو، وعقد روسيا للمعاهدة الشديدة التي عدلها مؤتمر برلين في السنة التالية. ومن تلك النتائج أيضا قتل الدستور العثماني، وقتل أبي الدستور مدحت باشا. (3) فتنة الأستانة: قتل ناظم باشا وسقوط وزارة كامل باشا
رأى المطالع فيما تقدم أن شوكت باشا وغيره من كبار الاتحاديين لم يحضروا الجمعية الوطنية؛ لأنهم كانوا ينوون الإيقاع بوزارة كامل باشا حين تعلم الأمة أنها قررت التنازل عن أدرنه، ولقد وقع أن تلك الوزارة قررت فعلا أن تترك أدرنه بشرط أن تبقى لها صفتها الإسلامية وتنال شبه استقلال إداري.
وبينما كان مجلس وكلاء الدولة مهتما في 23 يناير بدرس الجواب العثماني على مذكرة الدول التي تقدم ذكرها، هجم جماعة من الاتحاديين على الباب العالي، فحاول أحد الضباط منعهم فقتلوه. ولما سمع ناظم باشا وزير الحربية والقائد العام دوي العيار الناري خرج وانتهرهم فقتلوه أيضا، وهنا نترك الكلام لكامل باشا نفسه قال:
1
فاضطر حينئذ بقية الوكلاء إلى دخول غرفة أخرى لينتظروا ما يكون، أما أنا فقد لبثت في غرفة الصدارة ومعي باشكاتب المابين الذي حمل إلي بعض إرادات سنية، وعلمت أن الثائرين ملئوا الباب العالي وأنهم قتلوا أيضا ستة من الياورية والحجاب الذين كانوا يحافظون على الوكلاء، وأن اثنين من الثائرين أنفسهم قتلا. ثم دخل علي جماعة من الضباط لا أعرفهم، ومعهم أشخاص بملابس ملكية فاقترب مني ضابط جسور وقال: «إن الخواطر هائجة هياجا عظيما خارج الباب العالي، وأنه يجدر بي أن أكتب استقالتي»، فخطر لي أني إذا ترددت في أمر الاستقالة تجاسر هؤلاء على الإيقاع بي ليتسنى لهم احتلال مقام الصدارة، فكتبت عريضة ورفعتها إلى جلالة السلطان ملتمسا منه إقالتي من منصب الصدارة. ولم تمض ساعة حتى جاءني رئيس قرناء الحضرة السلطانية وأبلغني كدر جلالته من الحادثة، ورجا مني أن لا أترك منصبي قبل ظهور النتيجة، فامتثلت.
عزت باشا الذي تولى القيادة العامة بعد مقتل ناظم باشا.
وكان الاتحاديون يدخلون ويخرجون في تلك الأثناء، وجاءني أنور بك فأكد لي أنه كان في تمرين العسكر وما علم بالواقعة إلا في الطريق، وبعد حين صدرت الإرادة السلطانية بتعيين محمود شوكت باشا صدرا أعظم فاجتمع بي وفاوضني في الحالة العامة، وما تمكنت من مغادرة الباب العالي إلا بعد نصف الليل بثلاث ساعات، وكان البرد شديدا قارسا، فأثر في صحتي وأصابتني حمى شديدة.
البرنس سعيد حليم باشا الذي عين وزيرا للخارجية بعد سقوط وزارة كامل باشا.
الباب العالي.
وذكر كامل باشا أن جثة ناظم باشا وجثث بقية القتلى باتت مطروحة ذاك الليل، ثم دفنت في اليوم التالي، وقد كان لمقتل ناظم باشا وقع شديد في نفوس خصوم الاتحاديين، واتهموهم بقتله عمدا، وقالوا: إنه لو لم يكن قتله مقصودا لأظهرت الوزارة الاتحادية قاتله وأنزلت به عقابا أليما، أما الاتحاديون فينكرون ضربه عمدا. •••
ولما صارت مقاليد الأمور إلى أيدي الاتحاديين، وطير البرق خبر ذاك الحادث إلى أنحاء أوروبا، وأذاعت صحف العالمين أن حجتهم في إسقاط الوزارة الكاملية إنما هي رغبتها في تسليم أدرنه، أخذ المندوبون البلقانيون في مؤتمر الصلح يقولون: إن المفاوضة أصبحت ضربا من العبث مع وزارة شوكت باشا، وأعلنوا العزم على قطع المفاوضات واستئناف الحرب، وكانت الدول العظمى من جهة أخرى تنتظر من وزارة شوكت باشا جوابا على المذكرة التي بعثت بها في عهد وزارة كامل باشا. وبعد أيام قليلة أرسل الأمير سعيد باشا حليم الذي عين وزيرا للخارجية جوابا إلى الدول قال فيه: «إن الحكومة العثمانية تطلب قسمة أدرنه إلى قسمين: قسم يأخذه البلغار وهو الذي يشتمل على الحصون والمعاقل، وقسم يبقى لتركيا وهو المشتمل على المساجد والقبور السلطانية.»
على أن البلغاريين أصروا أشد الإصرار على رفض هذا الطلب، ولما رأوا وزارة شوكت باشا مصرة عليه قطعوا المفاوضات، وعادوا إلى القتال حول أدرنه وفي جتالجه وشبه جزيرة كليبولي، وعاد الصربيون والجبليون إلى مهاجمة أشقودره، (وكان اليونان يواصلون أعمالهم الحربية عند يانيه وفي أنحاء البحر؛ لأنهم لم يشتركوا في الهدنة كما قدمنا)، فحدثت عدة معارك شديدة في شبه جزيرة كليبولي وجتالجه خسر فيها العثمانيون والبلغاريون عدة آلاف، وحاول أنور بك أن ينزل بقوة عثمانية وراء البلغاريين فأخفق سعيا وخسر كثيرا، ثم تقهقر الجيش البلغاري بضعة كيلومترات لشدة ما رآه من مقاومة العثمانيين، ولرغبة قواده في انتظار نتيجة الأعمال الحربية التي كانت تجري وقتئذ حول أدرنه.
وما مضت أيام حتى استولى الجيش اليوناني على يانيه، ثم سقطت أدرنه كما وصفنا ذاك كله، فخافت عندئذ الدول أن يرسل البلغاريون مائة ألف الجندي الذين كانوا حول أدرنه إلى جهة جتالجه، وأن يتفانوا في أخذ الأستانة فتضطر الدول إلى فتح مسألتها ومسألة تركيا آسيا، وهو ما تود اجتنابه في هذا الوقت، فألحت على البلغار في وجوب الكف عن الزحف إلى جهة العاصمة العثمانية، وأفهمتهم أن كل خسارة يكابدونها في تلك الجهة لا تجديهم نفعا، ثم ألحوا على الحكومة العثمانية في وجوب الرضى بالصلح على شروط من جملتها: أن تعطى أدرنه للبلغار ويكون خط التحديد بين الأملاك البلغارية والأملاك العثمانية ممتدا من إينوس (على بحر إيجه) إلى ميديا (على البحر الأسود)، فقاومت الوزارة العثمانية ما استطاعت، ولكنها عادت فاضطرت إلى قبول هذا الخط، واجتمع مجلس الوكلاء وكلف الأمير سعيد باشا حليم وزير الخارجية أن يرسل إلى الدول مذكرة في قبول مقترحاتها. (4) الهدنة الثانية ومقدمات الصلح والمؤتمر المالي
فقابل البلغاريون وسائر البلقانيين هذا الاستعداد السلمي بالسرور والارتياح، وعقد قواد البلغار وقواد العثمانيين هدنة شفهية، وسافر مندوبو الحكومات العثمانية والبلقانية إلى لندن للتوقيع على مقدمات الصلح طبقا لما اقترحته الدول، وهاك مجمله؛ أولا: أن يكون خط التحديد بين تركيا والبلغار ممتدا من إينوس إلى ميديا. كما قدمنا، ثانيا: أن تستقل ألبانيا كما قرر مؤتمر السفراء. ثالثا: أن يفوض أمر الجزر في بحر إيجه إلى الدول العظمى، وأن تتنازل الدولة عن جميع حقوقها في جزيرة كريت.
الغازي شكري باشا بطل أدرنه.
ولما اجتمعوا في لندن أظهر البلغاريون رغبتهم في التوقيع بلا مهل على المقدمات المذكورة، خلافا للمندوبين الصربيين واليونانيين فإنهم أرادوا أن يدخلوا عليها تعديلات قبل التوقيع، فوقف عندئذ بينهم السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا وألح في وجوب التوقيع على تلك المقدمات، وقال لهم: إن من يأبى التوقيع يمكنه أن يبرح العاصمة الإنكليزية، فوقع البلغاريون والصربيون والجبليون بعد هذا القول الشديد، ونكص مندوبو اليونان. وستعقد الشروط التكميلية بين تركيا وكل دولة من أعدائها على حدة.
ثم قررت الدول أن يعقد مؤتمر مالي في باريس لينظر في أمر الغرامة المالية التي طلبها المتحالفون، وفي مقدار الدين الذي يجب عليهم إيفاؤه من الديون العثمانية بعد أخذ الولايات العثمانية في أوروبا، وفي الامتيازات المعطاة في تلك الولايات وسائر ما يتعلق بالأمور المالية، وقد بدأ هذا المؤتمر بعقد جلساته في العاصمة الفرنساوية، وينتظر أن تبقى أشغاله عدة أشهر . •••
ولما ذاع خبر رضا الوزارة الاتحادية بكل ما تقدم، أخذنا نسمع همسا ما يدل على تأهب خصوم الاتحاديين لعمل كبير، وأخذوا ينشرون على صدور الصحف أن تلك الشروط التي رضيت بها وزارة شوكت باشا هي أشد وأثقل على الدولة من الشروط التي رضيت بها الوزارة الكاملية، على أن الاتحاديين يردون على هذا النقد بقولهم: إن الدولة التي تقع في خطر يجب عليها أن تدافع عن نفسها ما دامت تجد للدفاع سبيلا، حتى إذا فازت استرجعت ما فقد مع الفخر، وإذا فشلت أنقذت شرف سيفها وشهد لها التاريخ بأنها فعلت كل ما استطاعت. (5) مقتل شوكت باشا الصدر الأعظم الاتحادي
وبعد أيام لا تزيد عن أصابع الكفين طيرت الشركات التلغرافية إلى أنحاء العالم نبأ خطيرا توقع كثيرون منه شرا مستطيرا، وهو أن جماعة من خصوم الاتحاديين ركبوا أوتوموبيل وباغتوا شوكت باشا الصدر الأعظم في ساحة بايزيد أمام نظارة الحربية، فقتلوه وأحد الضباط رميا بالرصاص ليثأروا للمرحوم ناظم باشا، فاشتد الخوف وعظم الهرج في دار الملك على أثر هذا الحادث، وأخذت الوزارة تقبض على الذين تتهمهم بتلك الجناية الفظيعة، ثم حاكمتهم في مجلس عرفي رئيسه من صميم الاتحاديين، فحكم على عشرين بالإعدام، منهم اثنا عشر كانوا تحت يد الحكومة الاتحادية فأعدمتهم شنقا في ساحة بايزيد حيث قتل شوكت باشا، وكان بينهم صالح باشا أحد أصهار الأسرة السلطانية، أما الثمانية الباقون فقد كان بعضهم مختبئا والبعض مقيما في أوروبا وبينهم الأمير صباح الدين وشريف باشا صاحب جريدة «مشروطية» التي تصدر في باريس، وما ذاع نبأ هذا الحكم الهائل حتى تضاربت الأقوال في موضوعه، فوصفه قوم بالمجزرة البشرية وتوقعوا له مغبة سيئة؛ لأن الشدة تزيد الأحقاد وتدفع الخصوم إلى الانتقام عاجلا أو آجلا. وقال آخرون: بل هو عبرة مفيدة لمن تحدثه نفسه بطلب الإصلاح من طريق القتل وسفك الدماء، وعندنا أن جميع العقلاء لا يسعهم أن يجادلوا في وجوب العقاب غير أنه ربما كان من المصلحة والعدل أن يكتفى بإعدام القاتلين وبتعديل الأحكام على سائر المتهمين.
ولقد أخطأ الذين دبروا تلك المكيدة بظنهم أن مقتل شوكت باشا يسقط الوزارة الاتحادية ويرفع أعداءها إلى كراسيها، فإن الأمن العام بقي وطيدا في عاصمة السلطنة، ثم رقي فخامة سعيد باشا حليم الذي كان وزيرا للخارجية إلى مقام الصدارة العظمى، وهو من أكابر أمراء الأسرة الخديوية ومن الذين بذلوا المال والوقت واستهدفوا للخطر في سبيل الدستور العثماني، وهو يعتقد اعتقادا راسخا أن جمعية الاتحاد والترقي أقدر من سواها على الحكم.
وكان ممن استوزرهم جلالة السلطان في وزارة الأمير وسليمان أفندي البستاني معرب إلياذة هوميروس، وأحد مؤلفي دائرة المعارف البستانية والعضو في مجلس الأعيان، وكان يومئذ في عاصمة الفرنساويين مهتما بقضاء مهمة للدولة وبعيدا عن مرسح السياسة المحزن الذي تعددت مشاهده في عاصمة السلطنة، فرضي أن يكون وزيرا للتجارة والزراعة على أمل الإصلاح. وكانت الحكومة العثمانية وقتئذ تفاوض لجنة المؤتمر العربي الذي عقد في باريس بقصد أن تتفق معه على الإصلاحات المطلوبة، فكانت للبستاني يد بيضاء في تلك المفاوضة كما سترى في باب آخر.
منازع الدول العظمى ومؤتمر السفراء
عرف المطالع من فصل سابق أن الدول العظمى كلها وافقت، بعد التثاقل الذي يلازم كل عمل دولي، على ما اقترحته فرنسا من إعلان التنزه التام عن كل مطمع خاص، ثم اجتمع مؤتمر سفراء الدول يوم عقد مؤتمر الصلح الأول في عاصمة الإنكليز، طبقا لما اقترحه السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا، وكان غرض ذاك المؤتمر - أي مؤتمر السفراء - أولا: أن يكون واسطة العقد بين الدول العظمى، فتبقى كلها متضامنة لا تنفرد واحدة منهن عن الأخرى، ولا تأتي عملا يكدر صفو السلم العام. ثانيا: أن ينظر في المصالح الخاصة لبعض الدول العظمى فيتخذ من الوسائل ما يصونها ويقصي عنها الضرر. ثالثا: أن يسهل سبيل الاتفاق بين المندوبين في مؤتمر الصلح، ويضغط عليهم ليحملهم على كل ما يراه واجبا للسلم العام وحفظ التوازن.
وهنا يجمل بنا أن نقول كلمة عن سياسة كل دولة لنظهر النحو الذي نحته في مؤتمر السفراء: إن لدى كل دولة من الدول العظمى مصلحة تسمى المصلحة الأوروبية الكبرى في عرف السياسيين، وكل ما عداها من المصالح السياسية يأتي في المقام الثاني، والمصلحة الأوروبية الكبرى عند روسيا تقوم بأن تحفظ التوازن الأوروبي وتجتنب كل ما من شأنه أن يضعف الاتفاق الثلاثي أمام المحالفة الثلاثية؛ ولذلك رأيناها مضطرة من جهة إلى مراعاة هذا الأمر الخطير الذي لا يتوطد بدونه السلم الأوروبي، ومجبرة من جهة أخرى على تعضيد الصقالبة الذين صبغت دماؤهم هضاب البلقان، مخافة أن يثور الجمهور الروسي ثورة تقذف بحكومته من حالق. وكان التوفيق بين هذين الواجبين على روسيا بالغا منتهى الصعوبة؛ لأن مصلحة النمسا كانت معارضة أشد المعارضة لمصلحة الصرب والجبل الأسود؛ أي مصلحة الصقالبة الذين تريد روسيا حمايتهم وإنالتهم ثمر النصر، ومما يوضح للمطالع بعض وجوه السياسة الروسية في تلك الظروف مذكرة نشرتها وزارة الخارجية الروسية في النصف الأول من شهر أبريل سنة 1913، قالت فيها: «إن حصر الحرب في شبه جزيرة البلقان لم يكن مستطاعا إلا بشرطين؛ أولهما: أن لا تطلب الدول العظمى أرضا أو منافع أخرى لأنفسها، والثاني: ألا تنفرد واحدة منها بعمل ما، وهناك شرط إيجابي يأتي بعد هذين الشرطين السلبيين وهو النظر في الحالة التي تنشأ عن الحرب والتوفيق بينها وبين مصالح الدول العظمى التي لا تستطيع التنازل عنها، وكل قرار في هذا الشأن إنما يناط بالمجتمع الذي ينطق بلسان أوروبا كلها.»
على أن دولة القيصر مع رغبتها في حفظ الوحدة الأوروبية أمام الحرب البلقانية، لم تتردد في تعبئة قسم من جيشها حين اشتد الخلاف بين النمسا والصرب من أجل حادثة القنصل بروشاسكا الذي تقدمت الإشارة إليه، ثم من أجل إصرار الصرب على أخذ بعض السواحل في جهات الأدرياتيك. ولقد مرت أيام كانت فيها كل دولة عظيمة ساهرة أشد السهر، وواضعة يدها على مقبض السيف لاكفهرار الجو السياسي، فإن مليون عسكري من جيش النمسا والمجر لبثوا زمنا غير قصير وهم نازلون في المواقع التي يحسن منها الزحف على عاصمة الصرب وحدود الروس. والجيش الروسي من جهة أخرى قام يتأهب للطوارئ فدل استعداده دلالة ساطعة على أن روسيا لم تكن تسمح للنمسا باغتنام فرصة الحرب لسحق الصرب. وحسب القارئ أن يفكر قليلا في انقسام أوروبا إلى قسمين هائلين بمقتضى المحالفات والصداقات، ليعلم قلق الدنيا ولا سيما الأندية المالية من بلوغ الجفاء إلى ذاك الحد.
وما تحسنت الحالة إلا بعد أن قرر مؤتمر السفراء في لندن أن تعطى الصرب ثغرا تجاريا على بحر الأدرياتيك، وبعد أن نالت النمسا الترضية في مسألة القنصل بروشاسكا، وفيما طلبته هي وإيطاليا من استقلال ألبانيا؛ بعد ذاك كله صرفت النمسا وروسيا جانبا من جيوشهما المعبأة.
وليس بعجيب أن نرى الدولة النمساوية تتميز غيظا على الصرب وتغالي في معارضتها؛ لأن النمسا كانت تطمع في سنجق نوى بازار وتنوي أن تهبط إلى سلانيك، فحرمتها الصرب من السنجق وأبطلت حلمها بسلانيك، وزد على ذاك كله أن الصرب كانت أسيرة النمسا في شئونها الاقتصادية، ولطالما وقع الجفاء بينهما من أجل التشديد الذي كانت تأتيه النمسا في معاملة مواشي الصربيين حتى لقب أحد الظرفاء الحرب البلقانية «بحرب البقر والخنازير»، يريد أن الصرب ما تفانت في الفتح وطلب منفذ إلى البحر إلا لتصدر منه بقرها وخنازيرها التي كانت النمسا تتحكم بها وتفعل ما تشاء.
ولما أصر الجبل الأسود على أخذ أشقودره عادت النمسا ترعد وتبرق وتهدد الجبل بالزحف إن بقي مصرا عليها، ولكن الدول أفرغت كل ما في وسعها مرة أخرى لتمنع انفراد النمسا بالعمل، وبعد مناقشات طويلة بين السفراء تمكنت روسيا من أن تبقي لإخوانها الصقالبة مدن بريزرند وإيبك ودياكوفا ودبرا التي كانت تلح النمسا في إلحاقها بألبانيا المستقلة، ثم وافقت على حرمان الجبل الأسود من أشقودره، وقالت في مذكرتها التي أشرنا إليها: «إن الجبليين الحربيين لم يتمكنوا من الامتزاج بعدة آلاف من الألبانيين المسلمين والكاثوليك الذين اختلطوا بهم منذ 35 سنة، كما أثبت فيس قنصل روسيا في أشقودره؟ فهل يرجى أن يمتزجوا بمائة ألف ألباني مقيمين في سنجق أشقودره؟ إن مملكة الجبل إذا ضمت قسما من السنجق كما طلبت تبيت مهددة بالتحول إلى «ألبانيا جبلية».
ثم ذكرت وزارة الخارجية الروسية أن ملك الجبل لم يشاور روسيا قبل إعلان الحرب كما تعهد لها. ومع ذلك فإنها ساعدته وقرر مجلس أمتها أن ينفح مملكته بتسعين ألف جنيه بعد إخراج الجيش الجبلي من أشقودره.
وكلما دقق الباحث النظر وأعمل الفكر في حالة النمسا، رسخ عنده أن مسألة الصقالبة التي تريد روسيا الإشراف عليهم - ومن جملتهم الصربيون والجبليون - هي مسألة داخلية وخارجية معا عند الحكومة النمساوية، ومما كتبته يد المقدور للنمسا أنه كلما ازدادت أراضيها ازداد معها ضعف الوحدة الجنسية، وأن عظمتها في البلقان تكون على حساب تلك الوحدة، قال الموسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقا: «إن الربح الذي نالته النمسا بضم البوسنة والهرسك إلى أملاكها ذو قيمة كبيرة، فإنها ضمت إليها أوسع أرض نالتها دولة أوروبية عظيمة منذ سنة 1870 من غير أن تطلق رصاصة أو تمتشق سيفا، ولكن هذا الربح لم يأتها إلا مصحوبا بالمسئولية؛ لأنها زادت العنصر الصقلبي في داخلية بلادها من جهة، وأغضبت العنصر الصقلبي الخارجي من جهة أخرى.»
ثم أرادت أن تتوج تلك السياسة البلقانية بفوز آخر فنالت من أوروبا ترضية عظيمة وجديرة بالنظر، وهي تأسيس ألبانيا مستقلة فوطدت مطامعها في قلب شبه الجزيرة وعلى الهضاب التي تشرف عليها من كل جانب، ولا غرو فإن إنشاء ألبانيا جديدة تحت حماية النمسا يجعل للنمساويين النفوذ الأكبر في البلاد البلقانية، على أن كل إنسان يدرك ما يقابل تلك المنافع من الأضرار بالوحدة الجنسية في سائر الإمبراطورية النمساوية، وإذا كانت براعة الإدارة تخفف الأضرار التي تنشأ من هذا الوجه في البوسنة والهرسك، فكيف تكون الحال في ألبانيا المستقبلة التي تقامر بها حكومة النمسا في هذا الوقت؟» •••
تلك صفوة ما يقال عن تنافس الدولتين اللتين ظهرتا كثيرا في صدر المرسح السياسي مدة الحرب، وهناك دولة تعد مصالحها حيوية في بعض تلك الأنحاء وتسير مع النمسا خطوة فخطوة، لا حبا فيها بل خوفا من طمعها وهي حليفتها الدولة الإيطالية، فإن منافستها للنمسا في جهات البحر الأدرياتيكي مشهورة، وأصعب عقدة من عقد التنافس الأدرياتيكي بين إيطاليا والنمسا، ذاك التنافس الذي يتعلق أمره بالسلم الأوروبي، إنما هي في جهة ألبانيا؛ ولذاك ترى الحكومتين اللتين تخيفهما نتائج ذاك التنافس تتشبثان بالحالة الحاضرة حبا في السلم.
وإذا كانت النمسا تعتبر نفسها صاحبة السيادة في أشقودره وغيرها بفضل حمايتها للكاثوليك، وبمساعدة رؤساء الأساقفة والأساقفة والقسوس الفرنسيسكانيين والديور التي تنفق من مال النمسا، وبالمعاهد والعمال والمدارس التي أنشئت حتى في آخر قرية ألبانية، أو بالبنك النمساوي؛ فإن إيطاليا من جهة أخرى أقامت معهدا أمام كل معهد نمساوي، وعندها مستشفى إيطالي أمام المستشفى النمساوي في أشقودره، وجمعية دانتي أنشأت «المدارس الملكية» الإيطالية لدى المدارس النمساوية، ولغة إيطاليا هي اللغة التجارية في جهات الأدرياتيك، والتقاليد الإيطالية متبعة هناك؛ فلذا يصعب علينا أن نسلم بأن ورثة جمهورية البندقية يتنازلون عن التركة التي خلفتها لهم، وإذا كانت إيطاليا والنمسا تسيران كتفا لكتف في مجال السياسة كما ظهر من أقوالهما وأعمالهما في الأطوار التي دخلت فيها الحرب، فليس هذا التكاتف إلا لغرضين؛ أولهما: صيانة المصلحة الأوروبية الكبرى التي تقضي على إيطاليا بأن تحتفظ بها، ولا يمكن هذا الاحتفاظ إلا بالتضامن مع حلفائها، والغرض الثاني: هو منع النمسا - تلك الحليفة المنافسة المشاكسة - من العمل وحدها على احتكار المنافع في ألبانيا والأدرياتيك، وما دامت المصلحة الأوروبية الكبرى تقضي بإبقاء التحالف معها، فلا وسيلة إلى ذاك المنع إلا السير بجانبها ومراقبة كل ما تفعله عن كثب حتى لا يحرم الطليان من الغنائم المستقبلية، ولا يشك أحد صادق النظر في أن غيرة النمسا وإيطاليا على ألبانيا لم تكن لوجه الحق الكريم، فقد يأتي يوم تحسر فيه كل واحدة من هاتين الدولتين عن ساعدها فتنقلب منافستهما السلمية الحاضرة إلى منافسة عدائية، وهو أمر راجح تتوقعه صحف الطليان منذ الآن.
أما فرنسا وإنكلترا وألمانيا، فقد كانت الأولى منهن تؤيد روسيا بحكم المحالفة الثنائية، والثانية تؤيدها بحكم الاتفاق الودادي، والثالثة تؤيد النمسا وإيطاليا بحكم المحالفة الثلاثية.
على أن كل دولة منهن لم تكن تدفع تأييد حلفائها وأصدقائها إلى حد مضر بالسلم العام، بل كانت كلها - ولا سيما فرنسا - تشتغل بيمناها لحفظ ذاك السلم وتعمل بيسراها على تأييد حزبها الدولي.
بيد أن جملة من الكتاب - ومنهم الموسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقا - كانوا يعتقدون أن السلم والحرب في تلك الأزمة كانا منوطين بسياسة إنكلترا وألمانيا على الأخص ، وأن وقوف هاتين الدولتين العظيمتين وراء مرسح السياسة أشد تأثيرا عند المفكرين من ظهور روسيا والنمسا في مقدمة المرسح، وإكثارهما من صليل السلاح، وليس هذا الرأي ببعيد عن الصواب؛ لأن النمسا لا تقدم على المخاطرة إلا إذا رأت من ألمانيا دافعا، كما أن روسيا تلتفت مرارا إلى إنكلترا لتعرف رأيها قبل أن تجعل القول الفصل للسيف والمدفع، ولقد دلت الحوادث على أن الدولتين أرادتا التوازن لا الحرب. •••
والخلاصة: أن المنازع الدولية كانت تدل أولا: على سعي روسيا في حماية الصقالبة ومنع النمسا من الإيقاع بهم، ثانيا: على رغبة النمسا وإيطاليا في تمهيد السبيل لغنائم مستقبلية ما دامت الغنائم الحاضرة غير ميسورة لهما، ثالثا: على رغبة جميع الدول في حفظ السلم الأوروبي. وأفضل طريقة وجدها مؤتمر السفراء للتوفيق بين تلك المنازع الدولية هي أن يقرر استقلال ألبانيا وإدخال أشقودره فيها كما طلبت النمسا وإيطاليا، وأن تبقى للصقالبة جملة مدن مما طلبته النمسا عند الحدود الشمالية والشمالية الشرقية من ألبانيا (وهي المدن التي تقدم ذكرها)، ثم يعطى الصربيون ثغرا تجاريا على الأدرياتيك بدلا من ثغر حربي، وأن يفوض أمر الجزر في بحر إيجه إلى الدول العظمى.
وهناك أعمال أخرى أيدها مجتمع السفراء كجعل خط إينوس وميديا حدا فاصلا بين مملكة البلغار والأملاك العثمانية الأوروبية، وغيره مما يؤدي إلى عقد الصلح في زمن قصير.
على أن رغبة الدول في إعادة السلام إلى البلقان في وقت قريب لم تتحقق كما ستعلم.
نتائج الحرب من الوجهة السياسية
أرتنا مقدمات الصلح التي أمضيت في لندرا أن النتيجة المادية لتلك الحرب المشئومة هي خسارة الدولة العلية لمعظم أملاكها في تركيا أوروبا ، فبقي أن نبحث في النتائج السياسية التي أسفرت عنها، وهي قسمان داخلي وخارجي، وإليك ما نراه جديرا بالذكر من القسم الداخلي: كان من نتائج الحرب في أنحاء السلطنة كلها أن الأمة هالها ما ظهر من الخلل في إدارة الجيش الذي كانت تحسبه قويا سليما قادرا على صد كل عدو مفاجئ، ثم التفتت إلى بلادها فوجدت طلائع الخراب تهددها من كل باب، ومما زادها خوفا وهولا أن الجرائد الأوروبية الكبرى أخذت تنشر الفصول السابغة عن قرب اضمحلال الدولة العثمانية - صانها الله - فهب عند ذاك طلاب الإصلاح ينادون بالإسراع، واتفقوا كلهم على تعميمه في أقصر ما يمكن من الوقت، لكنهم اختلفوا في الطرق المؤدية إليه، فمن الجمعيات التي أسست للسعي في سبيله «الجمعية البيروتية الإصلاحية»، وهي مؤلفة من المسلمين والمسيحيين وجامعة لنخبة من الوجهاء والكتاب، ومنها «جمعية اللامركزية» في مصر وأركانها من أفاضل المسلمين والمسيحيين العثمانيين، واسمها يدل على غرضها، وفروعها كثيرة الآن في سوريا والعراق وسائر بلاد العرب وأميركا، ومنها الجمعيات الأرمنية، وأخص مطالبها إجراء الإصلاح تحت مراقبة الدول العظمى.
واجتمع في شهر يونيو سنة 1913 مؤتمر عربي في العاصمة الفرنساوية حضره مندوبون من قبل «اللامركزيين»، وسافر وفد من «الإصلاحيين» البيروتيين إلى تلك العاصمة أيضا للسعي في سبيل الإصلاح، فانتقد عليهم جماعة من أنصار الحكومة الاتحادية ذاك السعي في البلاد الخارجية قبل أن تفرغ الدولة العلية من حل مشاكلها.
على أن طلاب الإصلاح ردوا ذاك الانتقاد بقولهم: «إن اجتماعنا في بلاد الدولة غير ممكن لشدة ما تظهره الحكومة من الضغط، وليس يضر عثمانيتنا أننا اجتمعنا في بلاد أجنبية، فقد كان رجال تركيا الفتاة أنفسهم يجتمعون مثلنا أيام كانت الحكومة السابقة تحول دون اجتماعهم تحت سماء عثمانية، ثم نحن لا نوقظ فتنة على الحكومة العثمانية بل نريد حملها على الاتفاق معنا على الإصلاح الذي كثرت به الوعود الماضية، ولم ينجز منها وعد واحد.»
واتفق في ذاك الوقت أن سليمان أفندي البستاني كان في العاصمة الفرنساوية، وأن الأمير سعيد باشا حليم الذي ارتقى إلى منصب الصدارة بعد مقتل شوكت باشا رغب إليه أن يكون وزيرا للتجارة والزراعة، فاغتنم البستاني تلك الفرصة وباحث مندوبي المؤتمر العربي ومندوبي بيروت، ثم أبلغ مطالبهم إلى الحكومة العثمانية، وأظهر لها وجوب الاتفاق معهم على الإصلاح إرضاء للأمة العربية الكريمة، فأرسلت الوزارة الاتحادية مندوبين من قبلها فاتفقا مع رجال المؤتمر على إجراء الإصلاح، فكان لعمل الوزارة السعيدية أثر جميل في النفوس، وقالوا: إنها إذا أنجزت ما وعدت، وجب أن يسطر لها التاريخ أجمل صحيفة؛ لأنها تفتح وقتئذ عهدا جديدا لاتفاق العنصرين العظيمين اللذين لا تعيش السلطنة إلا بتضامنهما واتفاقهما.
أما صورة الاتفاق الذي قبلته الحكومة العثمانية فهي: (1)
يكون التعليم في جميع البلاد العربية باللسان العربي في القسم الابتدائي والإعدادي، ويكون بلسان الأكثرية في القسم العالي. (2)
يشترط أن يكون جميع رؤساء المأمورين ما عدا الولاة عارفين اللغة العربية، أما من عداهم من المأمورين فيعينون في الولاية، وإنما يعين في العاصمة القضاة ورؤساء العدلية الذين ينصبون بإدارة سنية. (3)
الأوقاف الموقوفة للجهات الخيرية المحلية تترك إدارتها لمجالس الجماعات المحلية. (4)
تترك الأمور النافعة للإدارة المحلية. (5)
العسكر يخدمون في البلاد القريبة منهم ولكن العسكر الذي يلزم إرساله إلى اليمن والحجاز يكون على نسبة عادلة من جميع المملكة العثمانية. (6)
مقررات المجالس العمومية تكون نافذة على كل حال. (7)
يقبل مبدئيا أن يكون في هيئة الوزارة ثلاثة على الأقل من أبناء العرب، وكذلك يؤخذ منهم عدد مثله بصفة مستشارين أو معاونين في النظارات، ويؤخذ اثنان أو ثلاثة منهم في كل مجلس من مجالس شورى الدولة ومحكمة التمييز ودائرة المشيخة وجميع الدوائر، ويؤخذ أربعة أو خمسة على الأقل في مراكز أخرى مختلفة في كل نظارة. (8)
يعين خمسة ولاة على الأقل من أبناء العرب وعشرة متصرفين وتزال «مغدورية» الذين لم يترقوا أسوة بأمثالهم من مأموري الملكية والعدلية والعلمية. (9)
يعين في مجلس الأعيان عدد من أبناء العرب بنسبة اثنين من كل ولاية. (10)
يستخدم مفتشون اختصاصيون من الأجانب في الدوائر المقتضية في كل ولاية وتعين وظائفهم وصلاحيتهم بنظام مخصوص. (11)
يعطى مقدار من المال لسد عجز الدوائر التي تترك إدارتها للولايات، فيضاف هذا المقدار إلى ميزانية الولاية ويعطى غير ذلك نصف رسوم العقارات على أن يصرف للمعارف. (12)
يقبل مبدئيا أن تكون المعاملات الرسمية في البلاد العربية باللسان العربي، وينظر في أمر تنفيذه بالتدريج. (13)
توسع سلطة المجالس العمومية ويكون نصف المجلس العمومي في بيروت من المسلمين ونصفه من غير المسلمين . ا.ه.
ثم صدر هذا الكتاب والفريقان مهتمان بتنفيذ هذا الاتفاق، والألسنة تلهج بذكر الوزارة السعيدية التي أقدمت عليه.
أما الأرمن فما زالوا حتى الآن يفرغون الجهد للحصول على مطالبهم، ولكن وجه الصعوبة الكبرى إنما هو المراقبة الأجنبية التي يطلبونها بلسان وفد منهم يجول في عواصم أوروبا، ويسعى إلى تحقيق تلك الأمنية برئاسة بوغوص نوبار باشا كبير الأرمن في القطر المصري ونجل نوبار باشا الشهير.
وليس في وسع المؤرخ الذي يقرر الحقائق أن ينكر هنا حقيقة راهنة هي أن بين طلاب الإصلاح الذين هالتهم نكبة السلطنة، وهبوا يطلبون لها الإصلاح بإخلاص ليساعدوها على الخلاص، أناسا من ذوي الأغراض التي لا تتفق مع المصلحة العثمانية الحيوية لكنهم قليلون لحسن الطالع، وهناك أناس محبون للدولة راغبون في خلاصها وإصلاحها، إلا أن الحوادث الأليمة التي وقعت أحرجت صدورهم وأضعفت نورهم فشذوا في أحكامهم، واسترسلوا في أوهامهم، حتى رأينا بينهم من طلب الدواء من الداء. أجل إن بينهم من طلب الحكم المطلق، ولعل هذا الفريق الضئيل من الناس ذهبوا هذا المذهب بعد ما نشرته الجرائد من أن السلطان المخلوع قال يوم نقلته الحكومة من سلانيك في إبان الحرب: «إن وقوع حربين وحدوث فشلين للدولة في سنة واحدة لشيء كثير وأمر جليل.» فما انتهى كلام ذاك الطاغية إليهم حتى صعدوا الحسرات قائلين: «آه لو كان عبد الحميد على سرير السلطنة لما أصاب الدولة ذاك الخطب.»
مهلا أيها القوم، ونظرة إلى التاريخ منذ سنة 1877 إلى اليوم، فإن التفكير القليل بعد التغلب على العواطف يكفي للرجوع عن هذا التمني، ألا ما هي المسألة المقدونية التي امتلأ البلقان من أجلها حديدا ونارا ودما بريئا؟ أليست إرثا من العهد الحميدي الذي كانت فيه لفظة الإصلاح مشاكلة للفظة الخيانة؟ بل ما هي مملكة البلغار؟ إن هي إلا ولاية عثمانية قديمة كان سوء الحكم من أسباب فصلها عن السلطنة، ثم تنبهت ونحن غافلون وصعدت ونحن نازلون حتى صار لها من الحول والقوة ما يمكنها من تجريد الحسام على سيدتها القديمة؟
وليس هذا الخسران كل ما أصاب الأمة من العهد الحميدي الذي تمناه بعض العثمانيين همسا، فإن العاقل المفكر يجد فوقه ضررا أعظم وأقتل، يجد الضرر الهائل الذي أصاب الأخلاق، فجعل نصف العثمانيين في دار الملك وغيرها جواسيس على النصف الآخر، بل جواسيس بعضهم على بعض. وجعل السرقة والرشوة موردا مألوفا حلالا عند الألوف من الموظفين كبارا وصغارا، كما جعل الفضيلة والرذيلة متساويتين، وربما عد صاحب الأولى أحمق، لا يدري كيف يسترزق.
وأضف إلى هذا الفساد العام الجهل المطبق الذي كان أصحاب العهد الحميدي يعدونه من مصلحة الحاكمين، ولا يحسبون الأمة إلا بقرة حلوبا يؤخذ درها وهي تحت النير، وليس من نتيجة طبيعية لذاك الفساد وتلك الجهالة إلا الخلل في جميع الدوائر العسكرية والمالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقطيع أسباب الألفة بين العناصر.
فإذا أرادت الأمة العثمانية أن تعرف نعمة الدستور فلتحكم على الحاكمين بأن ينفذوه بندا بندا، وعندئذ ترى الفرق كوجه الصبح. •••
أما القسم الثاني أي النتائج السياسية الخارجية، فقد ذكرنا منها الأثر الذي حدث في العالم الإسلامي، وليس من الحكمة أن يغفل العثمانيون الأثر الذي حدث أيضا في أفكار السياسيين الأوروبيين والصحف الشبيهة بالرسمية في الغرب، فمن ذلك أن وزير خارجية فرنسا، وجريدة التان التي تنطق على الغالب بلسان وزارته، وسائر الصحف الفرنساوية الكبرى أخذت تكبر مصالح فرنسا في سوريا وغيرها، وتقول: إن الجمهورية لا تسمح بحل مسألة آسيا إلا بالاتفاق معها، وسفير ألمانيا في الأستانة ألقى خطبة أمل فيها أن يكون مستقبل تركيا في آسيا، وذكر «أن لألمانيا مصالح عظيمة في آسيا الصغرى»، وجاءت أيام بعد وصول البلغاريين إلى جتالجه سمع فيها العثمانيون اقتراحات تمجها آذانهم إشفاقا وتخفق منها قلوبهم فرقا، فكان بعضهم يقترح تحويل الأستانة إلى إمارة مستقلة، وأناس يتوقعون أن تأخذها روسيا، ثم زادت الأقاويل وتنوع التخمين بعد أن أرسلت الدول المذكرة التي حضت فيها الحكومة العثمانية على قبول شروط الصلح، وألمعت إلى خطر يهدد الأستانة والبلاد العثمانية الأسيوية إذا أصرت الدولة العلية على رفض تلك الشروط.
بيد أن الدول العظمى رأت بعد التنافس والتنافر أن تبقي باب المسألة الأسيوية مقفلا فسكنت الخواطر واطمأنت القلوب في السلطنة. •••
ومما يصح إدخاله في نتائج الحرب البلقانية أن الحكومة الألمانية لما رأت النصر يكلل هام البلقانيين، ورأت روسيا وسائر دول الاتفاق الثلاثي تشد أزرهم، قالت: إن توازن القوات الأوروبية أصبح مختلا بعد ما أظهرته ممالك البلقان، فقررت أن تسن قانونا جديدا يقضي بزيادة الجيش الألماني العامل من 600 ألف إلى نحو 900 ألف جندي، فما ترامى هذا الخبر إلى فرنسا حتى اضطربت من شرقها إلى الغرب وجنوبها إلى الشمال، وهبت جرائدها تلح في وجوب تعزيز الجيش الفرنساوي العامل؛ لأن قوة الجيش الألماني المعد للصدمة الأولى ستربو بعد زيادته نحو 35 في المائة عن قوة الجيش الفرنساوي المعد للغرض عينه، ومما زاد الفرنساويين قلقا وتطيرا أن الحالة المالية في ألمانيا لم تكن تسمح بإثقال عاتق أمتها، ولا سيما بعد أن قامت بمشروعين حربيين في سنتي 1911 و1912، فتركا عجزا مذكورا في الميزانية العامة؛ لذلك كله لم يصدق الفرنساويون أن غرض ألمانيا الوحيد هو حفظ التوازن العسكري بعد ما أبدته الممالك البلقانية من القوة، بل خافوا أن يكون غرض ألمانيا المستور ما نسب إلى أركان حرب الجيش الألماني من عهد قائدهم الكبير مولتكي، وهو أن تجعل ألمانيا جيشها العامل قادرا على ضرب الجيش الفرنساوي العامل ضربة سريعة قاضية، فيخترق صفوفه من ثلاث جهات حتى يصل إلى الأنحاء التي يعبأ فيها الاحتياطي فيمزقه قبل تعبئته وحشده.
وبعد مناقشات قوية وحملات قلمية، أعادت فرنسا خدمة ثلاث السنوات في جيشها؛ لأن إعادتها تبلغ جيشها العامل إلى نحو 720 ألف رجل.
ثم زادت روسيا جيشها من جهة أخرى وحسنت طريقة التعبئة وضاعفت الخطوط الحديدية الحربية في عدة أنحاء، فصار في وسعها أن تعبئ جيشا جرارا في عشرين يوما أو أقل.
ثم قامت النمسا تعزز جيشها أيضا مجاراة لحليفتها ألمانيا وحذرا من دول البلقان التي ظهرت أولا في مظهر المحترم لمشيئة روسيا والمحقق لرغباتها.
بيد أن الحوادث الآتية ستبرهن لنا على أن البلقانيين وخصوصا البلغاريين ظهروا قبل فوزهم في مظهر المحترم «لكبيرة الممالك الصقلبية»، ثم أعرضوا عن مشيئتها بعد فوزهم، فقامت الحرب البلقانية الثانية بين الحلفاء أنفسهم كما سنشرحه.
1
المذكرات الحربية لمحمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث
لما وصلنا في هذا المؤلف إلى هنا وقفنا على خلاصة لمذكرات القائد الباسل محمود مختار باشا، فلم نشأ أن نختم مباحثنا عن الحرب البلقانية الأولى بدون أن نذكر مجمل رأي هذا القائد الكبير الذي يمكنه أن يتقلد سيفه وهو مرتفع الرأس.
وقبل الكلام على آرائه يجمل بنا أن نذكر هنا أنه قدم مذكراته للأبطال الذين أنقذوا شرف السيف العثماني في تلك الحرب، كشكري باشا وأسعد باشا ووهيب بك ورضا باشا. ولا عجب فإن الشجاع يحب الشجاع.
أما وجوه الانتقاد التي ذكرها فمن أهمها أن القيادة العامة كانت تبني حسابها على العدد لا على القوة الحقيقة ومقدرة الفرق، فلما احتشد في أدرنه وغيرها من تراقيه نحو 150 ألف جندي، ظن ناظم باشا أن الهجوم صار ممكنا، ولكن سوء حال الجنود ظهر منذ أوائل الحرب، بدليل أنه بدء بالأعمال الحربية في 18 أكتوبر سنة 1912، وما جاء 20 منه حتى أصيب قسم من الجنود بهلع شديد تحت جنح الظلام، فتفرق شملهم أمام قوة ضعيفة من الأعداء، ثم حدث مثل ذاك الهلع في بترا فانخلعت القلوب وتقهقرت الجنود إلى قرق كليسا نفسها بلا موجب، وبات فريق من الضباط لا يفكر إلا في نفسه وأهله، فتركوا جنودهم ورحلوا. وكان معظم هؤلاء الضباط من القرى المجاورة فاغتنموا فرصة الظلام لينسلوا إلى قراهم.
ثم وصف محمود مختار باشا المنظر الأليم الذي شهده يوم التقهقر من قرق كليسا، فقال: «إني رأيت المدافع والأسلحة مطروحة على طريق ويزه، والجنود والفلاحين هاربين هائمين، ودلائل الفزع والهلع بادية على وجوههم، فأضاعوا نصف مدافع الفيلق وقدرا كبيرا من صناديق الذخيرة والأمتعة. وكان ذاك المنظر فاجعا أليما لا يوفيه حقه من الوصف إلا قلم أميل زولا. وليس هذا كله نتيجة كسرة طاردنا العدو على أثرها بل هو نتيجة رعب لم يذكر التاريخ العسكري مثله، فإن البلغاريين فازوا فوزا عظيما بلا قتال شديد والجنود العثمانية فشلت وهربت بلا سبب قاهر.»
ثم روى المؤلف أن أحد القواد الذين كانوا تحت إمرته كتب إليه يقول: «لقد كان من أشد الصعوبات قيادتنا لطوابير لا يعرف جنودها كيف يستخدمون بنادقهم، ولا يستطيع رؤساؤها أن يأتوا أقل حركة قبل أن أصدر إليهم الأوامر وأذهب لتنفيذها، وكان بعض الرؤساء إذا صدر إليه أمر رأيته كمن يريد البكاء والعويل، وظهر في أدنى مظاهر الذل رجاء أن يتملص من عبء تنفيذه.»
ثم تطرق إلى تنظيم الفيلق الثالث بعد ذاك الخطب فذكر أنه تمكن من تأليفه، وإضافة فرقتين إليه وقاتل العدو منذ 28 أكتوبر إلى أول نوفمبر شرقي بونار حصار فألحق به خسارة كبيرة، وبعد معركة لوله بورغاز تقهقر مع الجيش كله إلى جتالجه حيث ألفت القيادة العامة هناك ثلاثة فيالق ثم فيلقا احتياطيا، وبقي محمود مختار باشا مستلما قيادة الفيلق الثالث منها حتى أصيب بجرح بالغ في 18 نوفمبر، فنقل إلى الأستانة ثم عين سفيرا في برلين وما زال فيها حتى صدور هذا الكتاب.
وبعد أن بحث المؤلف في أسباب الفشل التي لا يخرج معظمها عما ذكرناه ختم بالعبارة الآتية:
وصفوة القول أن البلغاريين لم يغلبونا بل نحن كنا ضحية لسوء إدارتنا وغلطاتنا، فيجب علينا أن ننظر نظرة صادقة في أحكامنا على أنفسنا، وأن نعود إلى قواعد متينة سواء كان من الوجه الأدبي أو الاجتماعي أو الحربي أو السياسي، وإذا كانت الدروس القاسية التي تلقيناها لا تكفي لتسييرنا في طريق الخلاص فلا شك أنا صائرون مصير بولونيا.
كان أجدادنا قبيلة من الرحل، فنهض بهم جدهم إلى مقام دولة عالمية عظيمة، ثم جاءت عدة أسباب فأودت بالجهد الذي بذله أولئك الأجداد الأبطال، فإذا لم نستأصل تلك الأسباب أوشكنا أن نضيع استقلالنا، بل السلطنة كلها.
تلك صرخة عثماني لم يضن على دولته بالنفس ولا بالنفيس، جعل الله لصداها رنة في قلوب العثمانيين طرا لعلهم يصلحون فيفلحون.
حديث مع الأمير عزيز باشا حسن أحد القواد العثمانيين
الأمير عزيز باشا هو سليل الأسرة العلوية التي أخرجت قوادا كبارا خلد التاريخ ذكرهم، وهو معروف منذ غلواء الشباب بالميل إلى الجندية، والغيرة على الدولة العلية، والسخاء على أنصار الدستور العثماني، ومعدود من جملة الضباط الذين درسوا الأصول الحربية درسا كافيا في ألمانيا، وأكبر دليل على أن شهرته بقيت كما وصفنا إلى يوم قرق كليسا تعيينه قائدا لإحدى الفرق العثمانية في ذاك المكان.
لكن شؤم الطالع قضى بالفشل العظيم في قرق كليسا منذ ابتداء الحرب، فأصاب الأمير وفرقته ما أصاب الفرق التي كانت في تلك الجهات، وأجمع الناقدون الحربيون على أن إرسال أدنى طبقات الرديف إلى هناك وقلة عدد الضباط كانا السبب الأكبر في ذاك الحدث الأليم.
ومن حسن طالع بعض كبار الضباط الذين كانوا هناك وفي مقدمتهم محمود مختار باشا أنهم عادوا فجبروا كسر سمعتهم العسكرية في المعارك التالية، فقامت أعمالهم فيها برهانا دامغا على أن ما جرى في قرق كليسا من الرعب الغريب الفجائي بين الجنود لا يصح أن يجعل أساسا لأحكام عادلة نهائية على كبار الضباط، إذ ليس في وسع ضابط في العالم أن يحرز نصرا حين يكون معظم جنوده من أناس لم يشتموا رائحة البارود، ولم تكتحل عيونهم بدخانه ولم يتعلموا كيف يضعون الرصاص في بنادقهم.
وعلى ذلك نقول: إن المؤرخ الذي ينشد الحقيقة لا يمكنه أن يصدر حكما باتا على الأمير عزيز باشا بعد قرق كليسا وحدها، ولا سيما أن هذا القائد الذي خدم الدولة حبا في الدولة لا في الراتب الذي أغناه الله عنه، أصيب لسوء طالعه بالدوسنطاريا بعد مصيبة قرق كليسا، فلم يستطع مواصلة الخدمة كغيره، ولقد رأيناه كما رآه سكان القاهرة جلدا على عظم يوم قدومه للاستشفاء، وشهد الأطباء الذين عالجوه بأن حالته كانت شديدة، وكل إنسان يدرك بالبداهة أن من كان مريضا لا يمكنه أن يواصل القتال ليعتاض عما أفقدته إياه ظروف قرق كليسا، تلك الظروف التي لم يرو التاريخ مثلها كما قال محمود مختار باشا. •••
قلنا إن دولة الأمير عزيز قدم مصر للاستشفاء، وما نفض عنه غبار السفر حتى هرع إليه الصحافيون يرجون محادثته فأبى أن ينبس ببنت شفه؛ لأن الحرب كانت لا تزال قائمة فلا يجوز لضابط كبير لم يستقل ولم يقل، أن يبحث في الأعمال الحربية. ولما عقدت معاهدة لندرا قصده واضع هذا الكتاب ورجا من دولته أن يجيبه على بعض أسئلة متعلقة بالحرب، فتكرم بالقبول وإليك الأسئلة وخلاصة أجوبتها. سألناه عن تأليف الجيش العثماني قبل الحرب ويوم إعلانها فقال:
إن الحكومة العثمانية غيرت نظام الجيش سنة 1909-1910 فبعد أن كان سبعة فيالق (اوردو) وفرقتين مستقلين، جعلته أربعة عشر فيلقا وعدة فرق مستقلة بعضها في الحجاز والبعض في طرابلس الغرب، ثم في أشقودره ويانيه إلخ. وجعلت كل فرقة مؤلفة من ثلاثة آلايات وفصيلة من النشانجية وعدد من البطاريات، وقررت أن يزاد عليها وقت الحرب بلوك للهندسة، وكوكبتان من الفرسان وعدد من الباشبزق.
على أن الفيالق لم تتم لسوء الحظ بل كان الطابور في كثير من الأحيان لا يزيد عن 200 رجل، ونزل في بعضها إلى 30 أو 20 رجلا، ثم أعلنت الحرب والحال على هذا المنوال في الجهات التي جرت فيها المعارك، وكان معظم الرديف لا يفهم شيئا من الحركات العسكرية.
فسألناه عن الضباط فقال:
إن الحاجة كانت شديدة إلى الضباط، وبعض الطوابير لم يكن معه إلا ثلاثة أو أربعة ضباط، وقلما كنت تجد ستة ضباط في طابور واحد مع أن الطابور يحتاج إلى 15 أو 16 ضابطا، إذا كان 824 بندقية كما يجب أن يكون وقت الحرب، ومما يذكر هنا أن الحكومة أرادت أن تتم العدد اللازم للطوابير فدعت الطبقات الأولى والثانية والثالثة من الرديف، ومع ذاك كله لم يتم العدد المطلوب، ولم يكن في الطابور إلا نحو 150 رجلا يعرفون كيف تطلق البنادق، فأحدثت جهالة الرديف وقلة الضباط خللا كبيرا.
ثم أفاض دولته في الكلام على الغلطة التي ارتكبتها وزارة مختار باشا بصرفها نحو 184 ألفا من الجنود قبل إعلان الحرب بأيام قليلة، وقال: إنه لما قطع المتحالفون علاقتهم بالدولة العلية وبدءوا في 18 أكتوبر الماضي بالقتال ، صدر الأمر بإتمام الفيالق من الرديف فلم تجد الحكومة إليه سبيلا. وضرب لنا مثلا الخلل الذي حدث وقتئذ في ألاي حسن عزت بك، فقال: إن هذا الآلاي سافر يوم صدور الأمر بصرف الجنود، ولما صدر الأمر إلى الرديف بالرجوع قبيل إعلان الحرب شخص حسن عزت بك بجنوده، وما وصل إلى مكان الحشد حتى صار عدد آلايه 350 رجلا فقط؛ لأن كل قائد رآه في طريقه كان يأخذ منه عددا من الجنود حتى نزل الآلاي إلى ذاك الحد من الضعف. وإذا أضفنا إلى هذا الخلل أن طريق البحر كان مقطوعا فلم يكن في طاقة الحكومة أن تستقدم جنود سوريا، أدركنا مبلغ الخطأ الذي نجم عن صرف تلك القوة العظيمة قبيل نشوب الحرب.
ثم أدى بنا الكلام إلى الخطة الحربية والمصاب الذي حل بالجيش في قرق كليسا، فقال إن عبد الله باشا قائد جيش الشرق قال لجلالة السلطان منذ البداءة: إن الجيش لم يكن مستعدا استعدادا وافيا للحرب. ثم جرى حديث بينه وبين جلالته في هذا الشأن أمام المرحوم ناظم باشا ومحمود مختار باشا، ولكن حدث في ذاك الوقت أن الطلاب وغيرهم تظاهروا وألحوا في طلب الحرب، وقامت الدلائل على رغبة البلقانيين في دفع الخلاف إلى أقصى الحدود، فأتمر عبد الله باشا بأمر جلالة السلطان واستلم قيادة الجيش في تراقيه، وكان من خطته أن يلزم الدفاع، ولكن ناظم باشا أمره بالهجوم (وقد أيد محمود مختار باشا هذا الخبر في مذكراته).
وكانت الفكرة العامة أن يزحف الفيلق الثالث بقيادة محمود مختار باشا على ميسرة البلغار، ويزحف الفيلق الرابع بقيادة عبوق باشا على ميمنتهم ويهجم الفيلقان الأول والثاني على الجيش البلغاري، وأن تحارب فرقة الفرسان المستقلة في جهة الميمنة ويهجم في الوقت ذاته قسم من حامية أدرنه على الميمنة البلغارية.
إلا أن الجيش العثماني لم يفلح لسوء الطالع في تنفيذ تلك الخطة؛ لأن الرعب الذي حدث ليلا بين الرديف فكك أوصال فرقة شكري بك، وسرى منها إلى الفيلق الثالث فتقهقر الجنود إلى قرق كليسا، ثم تركوها بلا نظام، ولم يدخلها البلغار إلا بعد ثلاثة أيام؛ لأنهم لم يعلموا بذاك الخطب العثماني في وقته.
وكان دولة البرنس يقود فرقة المشاة الثانية من الفيلق الأول فقاتلت حتى أضناها التعب والجوع وخسرت خسارة عظيمة، ولكن كثرة الرديف غير المدرب فيها أدت إلى تقهقرها بلا نظام كما وقع للفرق الأخرى التي كانت في ذاك الموقع.
وعلى أثر نكبة قرق كليسا صدر أمر عبد الله باشا بحشد الجيش على خط بونار حصار ولوله بورغاز عملا بمشيئة القيادة العامة، وأخذ يستعد لمعركة لوله بورغاز الكبرى.
وهنا ألمع دولة البرنس في حديثه إلى وقوع خلاف بين عبد الله باشا وناظم باشا، وذهب إلى أن خطة الأول هي المثلى، ولكن ناظم باشا أصر على رأيه.
وما تصرمت أيام قليلة حتى مرض دولة البرنس بالدونسطاريا لشدة ما قاساه من شظف العيش والتعب المضني، فسافر إلى الأستانة فأوروبا فمصر للاستشفاء.
الحرب الثانية بين البلقانيين أنفسهم
أسباب نشوبها
ما أغمدت بلغاريا حسامها بعد لوله بورغاز وجتالجه وأدرنه حتى طغت وبغت وجاشت المطامع الآكلة في صدرها، وساد الحزب العسكري في عاصمتها، فضربت الكبرياء على مقلتيه غشاوة كثيفة من الغرور حتى أصبحت كل أقواله وأفعاله تدل على اعتقاده أن جيوش الصرب واليونان والجبل الأسود لم تعمل عملا مذكورا في الحرب الطاحنة التي قامت بين الجيش العثماني والجيوش البلقانية، مع أن الناقدين الحربيين أجمعوا على أن معركة كومانوفو كان أثرها في الجيش العثماني الغربي شبيها بأثر معركة لوله بورغاز في الجيش العثماني الشرقي، كما أجمعوا على أن السيادة البحرية التي كانت للأسطول اليوناني ألحقت بالدولة العلية من الأضرار ما يعادل تأثير إحدى المعارك الكبرى التي ساء فيها طالع العثمانيين؛ لأن هذا الأسطول حال دون إرسال ألوف كثيرة من الجنود السورية وغيرها إلى عاصمة الدولة في إبان الحرب، كما شرحنا في فصل سابق.
لكن البلغاريين لم ينظروا إلى ذاك كله بل أخذوا يطلبون قسمة ضئزى تهضم حقوق الصربيين واليونانيين معا، وأول ما طلبوه أن لا يعدل شيء في الاتفاق المتعلق بتقسيم الأراضي بينهم وبين الصرب؛ رجاء أن يكون وادي واردار ومناستر داخلين في حصتهم، فأنكر عليهم الصربيون هذا الطمع وقالوا في اعتراضهم عليه ما جوهره: «إن الاتفاق عقد بين حكومتي البلغار والصرب قبل الحرب، وقد تضمن أن بلغاريا لا تنكص عن إرسال قوة كبيرة من جيشها لتأييد الجيش الصربي إذا هدده خطر داهم من جانب النمسا، والواقع الذي قضت به الظروف أن الصرب هي التي أرسلت خمسين ألف جندي من صفوة رجالها لمساعدة البلغاريين على فتح أدرنه، بدلا من أن تتلقى النجدات يوم اسود وجه السياسة بين الصرب والنمسا، وهناك حجة أخرى لا تبقي وجها وجيها لإصرار البلغار على ذاك الاتفاق، وهو أن حكومتي صوفيا وبلغراد لم تتوقعا يوم كتابة شروطه أن الدول العظمى ستجعل ألبانيا إمارة مستقلة، وستجبر الصربيين على تركها، وستحرمهم من ثغر حربي على الأدرياتيك كما فعلت إجابة لطلب النمسا. فلو كان في استطاعة الصرب أن تضم إليها جميع البلدان الألبانية التي فتحتها لما عارضت البلغار في إبقاء الاتفاق على حاله.»
غير أن البلغاريين أبوا أن ينزلوا عن طمعهم في مناستر وسائر ما طلبوه بحجة أن خسارتهم كانت أعظم من خسارة غيرهم، فأخذت العلاقات تتراخى يوما فيوما بينهم وبين البلغار، وصار كل فريق ينظر إلى الآخر بعين حمراء من الغيظ والحقد.
وكان البلغاريون يصرون من جهة أخرى على طلب سلانيك، ويدعون دخولها قبل اليونان ويتقاضون معها قوله وأراض أخرى من البلدان التي يعدها اليونان مهد وطنيتهم من سالف الزمان، وصرنا نسمع بين حين وآخر أنباء مناوشات بين الجنود اليونانية والجنود البلغارية على الحدود الوقتية التي عينها الفريقان بعد الحرب الأولى ، وحدث أن الجنود البلغارية اجتازت غير مرة شقة حرام كانت بين الجيشين هناك، فأوغر البلغار صدور اليونانيين كما أوغروا صدور الصربيين عليهم، إلا أن اليونانيين كانوا يفضلون التحكيم السياسي على تحكيم السيف؛ لأن الأخبار التي وردت أولا عليهم كانت تدل على أن الجيش البلغاري قوي هائل، كما روى ولي عهد اليونان لمراسل التان الحربي.
ولكن تهديد البلغار لليونان صار يشتد يوما فيوما حتى اقتنعت الحكومة اليونانية والحكومة الصربية بأن الاحتراس والاحتياط واجبان، فعقدتا محالفة حربية في شهر مايو سنة 1913، وأصدرتا الأوامر إلى جيوشهما بالوقوف على قدم الحذر والأهبة.
وكانت الدول ولا سيما روسيا تحاول في خلال تلك الظروف أن تمنع نشوب الحرب بين الحلفاء، وتحضهم على قبول التحكيم، فوافقوا على الرضا به كقاعدة، ولكن بلغاريا أبت إلا أن يكون الاتفاق السابق بينها وبين الصرب أساسا للتحكيم، وطلبت حكومة الصرب أساسا آخر له، ولما رأى قيصر الروس هذا التراوح بين الصقالبة، ورأى من وجه أخص أن بلغاريا التي أظهرت إبان الحرب الأولى أنها تحترم إرادة روسيا أخذت تتذبذب وتجنح إلى النمسا، ظهرت دلائل الغضب على روسيا من أقوالها الرسمية والشبيهة بالرسمية، وأرسل القيصر إلى ملكي الصرب والبلغار كتابا قال فيه:
لما بلغني أن رؤساء حكومات البلقان سيجتمعون في سلانيك وأنه يمكن اجتماعهم أيضا في بطرسبرج لحل المشاكل بين دولهم، فرحت فرحا شديدا لأني حسبت هذا المسعى دليلا على رغبة الأمم البلقانية في الاتفاق على وجه حبي، وتوثيق روابط التحالف الذي أسفر حتى اليوم عن أجمل النتائج.
ولكني علمت مع الحزن الشديد أن ذاك العزم لم يدخل حتى الآن سبيل التنفيذ، وأن الدول البلقانية تستعد على ما يظهر لإسعار حرب «أخوية»، حرب تسود وجه المجد الذي أحرزوه بالتضامن.
فبناء على الحق الذي لي والواجب الذي علي أوجه الكلام إلى جلالتكم في هذا الوقت العصيب، فإن الأمتين الصربية والبلغارية فوضتا إلى روسيا في معاهدتهما أن تحل ما يمكن حدوثه بينهما من المشاكل عند تنفيذ تلك المعاهدة، فأطلب إلى جلالتكم أن تحافظوا على عهدكم وأن تنيطوا بروسيا حل الخلاف القائم بين بلغاريا وصربيا.
ثم ختم القيصر كتابه بأن روسيا تحفظ لنفسها حرية العمل، وأن الأمة التي تبدأ بإعلان الحرب على الأخرى تكون مسئولة أمام الصقالبة ...
على أن هذا الكتاب القيصري برغم ما ينطوي عليه من التهديد والسخط لم يجد نفعا ولم يحبس طمعا بل أحدث استياء في نفس النمسا؛ لأنها لا تريد أن تسمع تلك اللهجة من القيصر، وفي نفس الحزب البلغاري المعارض للنفوذ الروسي (وهو المعروف بحزب ستمبولوف). ولما قوي تيار الأفكار الحربية في صوفيا سقطت وزارة جيشوف الذي كان ميالا إلى السلم، وأصبحت الحرب لا مناص منها ولا مندوحة عنها، ولا سيما بعد أن تفتحت الجروح القديمة وتنبهت الضغائن الكامنة على إثر الحوادث، فتذكر الصربيون فشلهم في الحرب التي نشبت بينهم وبين البلغار منذ أعوام، وتذكر اليونانيون الفظائع التي أحدثتها العصابات البلغارية في القرى اليونانية بمقدونيا سحابة عشر سنوات، فهاجتهم كما هاجت أعمال العصابات اليونانية في القرى البلغارية دماء البلغاريين.
فالطمع والحقد القديم كانا إذن يدفعان البلقانيين إلى الحرب، وكفى بهما عاملين عظيمين. (1) القتال بين البلغاريين والصربيين (1-1) غدر البلغاريين
1
أدخل الغرور على البلغاريين أن عددا قليلا من جنودهم يمكنه أن يقهر عددا جما من الصربيين واليونانيين، وقام في أذهانهم أن ساعة تأليف بلغاريا الكبرى أصبحت قريبة، فأصدر قوادهم الأوامر إلى الجنود البلغارية المرابطة أمام الجنود الصربية بأن تتقدم منذ 30 يونيو، فزحفت على طول خطها وطردت مقدمات الجيش الصربي واحتلت مواقعها، وأجمع المراسلون الذين يعتد بأقوالهم على أن وزراء البلغار وكبار قوادهم ظنوا أن طرد الصربيين من مواقعهم يجعل بين يدي الحكومة البلغارية ضمانات تنفعها في مؤتمر بطرسبرج إن تم عقده، كما ظنوا أن هذا العمل سهل على الجيش الذي فتح أدرنه.
غير أن الصربيين لم يكونوا غافلين بل أرصدوا قوة عظيمة من جيشهم وراء الخط الأول للقتال، وما بلغهم اعتداء البلغاريين في ليل 29-30 يونيو حتى أرسلوا النجدات القوية إلى جنودهم، وما جاء ظهر أول يوليو حتى استردوا جميع المواقع التي احتلها البلغاريون ، إلا ما فقدوه من جهة الميمنة فإن الجنود البلغارية بقيت ناجحة هناك، ولكن هذا النجاح الجزئي لم يعوض البلغار ما فقدوه على طول الخط ولم يلبثوا أن شعروا بحرج موقفهم، ثم تقدم الجيش الصربي الأول واجتاز زيتوفسكا في 3 يوليو، ثم احتل كوشانه في 5 منه، وقسم جيش الجنرال كوفاتشيف البلغاري قسمين، ولما تم هذا النجاح للجيش الصربي الأول التفت القائد العام إلى تحسين حالة الجيش الصربي الثالث بدلا من أن يواصل الزحف إلى حدود البلغار ويحصرها مع الجيش اليوناني، فانتفع البلغاريون من هذا الاحتراس الذي أبداه القائد الصربي العام، وتقهقروا من وادي سترومجه (ستروميتزا)، وقد انتقد بعض الكتاب الحربيين على القائد المشار إليه أنه أضاع فرصتين كان يمكنه فيهما أن يفتك بالبلغار لو واصل الزحف بعد النصر.
ولكن مكاتب التان يعتذر عنه بأن هناك سببين حملاه على ذاك الاحتراس؛ أولهما: أن إرسال معظم قواته للتلاحم مع البلغاريين في جهة واحدة يجعل من الصعب إرسال النجدات إلى النقط الضعيفة عند اقتضاء الحال، والثاني: أن الحكومة الرومانية قامت من جهة أخرى تعبئ جيشها لتقذف به على بلغاريا، ثم أن الجيش العثماني أخذ من جهة ثالثة يستعد للزحف من بولاير وجتالجه إلى تراقيه كما سترى، واليونان كانوا يزحفون إلى جانب الجيش الصربي؛ أمام هذا الموقف الصعب الذي وقعت فيه بلغاريا لم يجد القائد الصربي حاجة ماسة إلى الإسراع وإلحاق الخسائر بجيشه، ولا سيما أن المعارك الأولى التي جرت كانت من أشد الوقعات هولا وفتكا؛ خسر فيها الصربيون نحو ثلاثين ألف رجل بين قتيل وجريح، وخسر البلغاريون أكثر من هذا العدد. فقال القائد في نفسه: إن الزمان يشتغل لنا، ثم أخذ يتحصن أمام البلغاريين على مسافة طويلة بدلا من أن يهاجمهم، وصار البلغاريون يتحصنون أيضا أمام الصربيين وتمكنوا من الوقوف عند كستنديل.
وبينما كان الصربيون على تلك الحال ينتظرون وصول اليونان إلى الجهات التي على مستوى مواقعهم التي تحصنوا فيها، تمكنت يد السياسة من عقد الهدنة التي تلتها معاهدة الصلح، فبقي الجيش الصربي والاثنا عشر ألفا من رجال الجبل الأسود الذين كانوا معه محتفظين بمواقعهم حتى صدر أمر بصرف الجيش البلغاري.
ولما رأى البلغار فشلهم واعتقاد الناس أنهم البادئون بالشر حاولوا أن ينفوا عنهم تهمة الاعتداء، ولكن الصربيين نشروا أوامر صادرة من قوادهم بالهجوم على الجيش الصربي وعينوا المكان والزمان اللذين كتبت فيهما تلك الأوامر، وإليك ما نشرته إدارة المطبوعات الصربية في هذا الشأن:
تشتمل أوراق الآلاي البلغاري الخامس والثلاثين التي أخذتها الجنود الصربية على الصورة الأصلية للأمر الصادر من القائد البلغاري إلى الآلاي الثاني من الفرقة الرابعة، وهي تدل دلالة واضحة على أن البلغاريين عقدوا العزم على مفاجأة الجيش الصربي بجيشهم الرابع كله وهو مؤلف من مائة طابور ومائتي مدفع تحت إمرة الجنرال كوفاتشيف وزير الحربية والقائد العام، ونحن نستخلص من ذاك الأمر العبارات الآتية بنصها:
أولا:
غدا تبتدئ الأعمال الحربية بيننا وبين الصربيين من جهة وبيننا وبين اليونانيين من جهة أخرى ويمتد خط الصربيين أمام آلايكم على طول نهر زلتوفو.
ثانيا:
يبدأ بالهجوم على الأعداء غدا الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
ثالثا:
يجب على قسمي الآلاي أن يحضرا الساعة الثالثة بعد نصف الليل إلى جهة نهر زلتوفو بغير أن يحدثا أقل ضجة وأن يهجما بغتة على مقدمات الأعداء ويصلا إلى المواقع التي تعين لهما.
فإذا فكر المرء في الوقت اللازم لوضع خطة هجومية كهذه، ولكتابة الأوامر وإصدارها إلى كبار الضباط، لا يبقى عنده ريب في أن البلغاريين كانوا يضمرون الشر للصربيين واليونانيين وأنهم أخذوا يستعدون من قبل، وروت إحدى الجرائد أن الحكومة الصربية صورت بالفوتوغراف شكل ذاك الأمر حتى لا تبقي مجالا لتنصل البلغاريين من ذنب الاعتداء على الحلفاء. (2) القتال بين البلغاريين واليونان
بدأ البلغاريون باعتدائهم على الجنود اليونانية يوم اعتدائهم على الصربيين، فلما أيقن الملك قسطنطين والموسيو فنزيلوس كبير وزرائه أن الحرب واقعة لا مناص منها اتفقا على إصدار الأمر بالزحف ثم أمر الملك بنزع السلاح من 1200 جندي بلغاري كانوا في مدينة سلانيك، فسلموا بعد قتال بضع ساعات، وكانت الحرب لم تعلن رسميا حتى ذاك اليوم بين اليونان والبلغار، فاعترضت الحكومة البلغارية على إيقاع الجيش اليوناني في سلانيك بتلك الحامية الصغيرة، والصحيح أن الحرب كانت ناشبة فعلا لما سبق من اعتداء البلغاريين على الشقة الحرام.
وما كان اليوم التاسع والعشرون من شهر يونيو حتى هب البلغار إلى الهجوم الشديد من جهة اليونان بينما كانوا يهاجمون الصرب، على أنهم ما لبثوا أن تقهقروا أمام الجيش اليوناني الذي زحف بقيادة الملك قسطنطين كما تقهقروا أمام الصربيين للأسباب التي سنشرحها في الفصل التالي. وأول معركة كبيرة طاحنة حدثت بين الجيشين هي معركة قلقيش (أو كيلكيس) فإن مشاة اليونان حملوا حملات هائلة ومعهم جيش آخر من الحقد على البلغاريين، وكانت هجمتهم
2
على مسافة 800 متر تحت نيران البلغاريين الذين كانوا محصنين ممتنعين حتى زحزحوهم عن مواقعهم وأعملوا الحراب في ظهورهم، وقد بلغت خسارة اليونان في تلك المعركة على روايتهم الرسمية نحو عشرة آلاف رجل؛ أي نحو الخسارة التي أصابتهم في مقاتلة العثمانيين في جميع المعارك منذ 18 أكتوبر سنة 1912 إلى أن عقد مؤتمر لندن الثاني.
وبعد هذا النصر المبين صرف الملك قسطنطين همه إلى مطاردة البلغاريين حتى لا يبقي لهم وقتا طويلا لاستئناف معركة كبيرة أخرى، وحتى يتمكن من وصل جيشه بالجيش الصربي قبل دخول الأرض البلغارية الأصلية، ولم يكن أمامه إلا طريق واحد صالح وهو وادي ستروما من دمير حصار إلى جمعه، فأخذ يتقدم والبلغاريون يتقهقرون أمامه وينسفون الجسور بعد أن يجتازوها فتجددها فرق الهندسة اليونانية بعد المتاعب العظيمة.
ولما وصلت الجنود اليونانية إلى مضيق قرسنا تفاقمت عليها المصاعب واضطر المشاة إلى الصعود على قمم الجبال التي على جانبي المضيق ليضطروا البلغاريين إلى تركها. فأفلحوا بعد احتمال العناء الكبير من وعورة الطريق ونيران البلغار. وليس يهم القارئ أن نصف كل معركة ومناوشة، فحسبنا أن نقول له على وجه الجملة إن اليونانيين قاتلوا أعداءهم أكثر من عشرين دفعة في مدة زحفهم من سلانيك إلى جمعه بالا وهناك نشبت معركة عظيمة خسر فيها الفريقان خسارة كبيرة، وقرر الملحقون العسكريون أن أحد جناحي الجيش اليوناني أصيب فيها بالفشل وأن الهدنة التي طلبتها حينئذ رومانيا جاءته في وقتها، وقال الموسيو رينيه بيو بعد عقد الصلح في بوخارست: «يمكننا اليوم أن نذكر أمرا لم يكن في وسعنا أن نبوح به في وقته؛ وهو أن الملك قسطنطين لم يكن تحت إمرته إلا خمسة وثمانون ألف رجل من المشاة، وكانت مهمته صعبة محفوفة بالخطر؛ لأنه كان يريد أن يمنع عدوه من ضم أطرافه وجمع قواه وأن يضربه ويقهره قبل أن يستريح فاضطر للوصول إلى هذا الغرض أن يطلب من جنوده أكبر جهد ينهك القوى. وكان معظم فرقه بلا احتياطي يؤيده عند الضرورة، ولشدة تعب الجيش اليوناني عزم أركان حربه على الوقوف مدة من الزمن لتتمكن البطاريات من ضم أطرافها ويذوق المشاة راحة لم يكن بد منها ولا غنى عنها؛ فجاءتهم الهدنة بها. وأجمعت الروايات اليونانية نفسها على أن خسارة اليونان كلها بلغت أكثر من أربعين ألف رجل بين قتيل وجريح، وأن أقل من ربع تلك الخسارة الكبرى لحقت بالجيش اليوناني في الحرب الأولى وثلاثة الأرباع الباقية في محاربتهم للبلغاريين.»
وأجمع المراسلون الحربيون على أن اندفاع اليونان وتفانيهم في قتال البلغار كان من جملة الأسباب الكبرى في زيادة خسائرهم إلى ذاك الحد؛ فهم من قديم الزمان يكرهون البلغاري وكثيرون منهم يفضلون التركي عليه، ثم اشتد عندهم هذا الشعور بعد الفظائع التي ارتكبتها الجنود البلغارية أيام فشلها ونكوصها. وكان ولاة الأمور وفي مقدمتهم الملك قسطنطين يفرغون جهدا عظيما في إثارة خواطرهم وتوطيد قوتهم المعنوية، وهاك أنموذجا من خطب صاحب التاج اليوناني، وهو ما قاله قبل معركة قلقيش الكبرى:
لا يفوتني أنه منذ عهد الملك كودوروس إلى عهد الملك باليولوغ لم يمت من ملوك اليونان الذين تولوا قيادة الجيوش ملك واحد على سريره وتحت سقف قصره، واعلموا أن المعركة التي سنخوض معمعانها غدا لهي من أعظم المعارك شأنا وخطرا، فأنا أفكر والقلب حزين في أني لن أرى بعدها عددا منكم، وليس في وسعي أن أصافح كل فرد على حدة، فأكتفي بأن أقول أيها الضباط كونوا على الدوام في مقدمة جنودكم (وهنا التفت إلى ولي العهد وقال له) وأنت كن دائما في مقدمة فرقتك.
فأجابه كثير من الضباط هاتفين «إلى الملتقى في العالم الثاني.» وقد دل الإحصاء أخيرا على أن عدد القتلى من الضباط كان كبيرا.
وأكد لنا وجيه يوناني أن ضابطا من أنسبائه كتب إليه من ساحة الحرب أن الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية اتفق مع ملك اليونان على توزيع كراسة جامعة لأهم ما ارتكبه البلغاريون في القرى اليونانية من هتك الأعراض وإحراق البيوت والفتك بالأطفال والأبرياء، فكان لهذا العمل تأثير ساحر في نفوس الجنود وغلت صدورهم غلي المرجل حقدا وسخطا على البلغاريين حتى إن عشرات منهم انتزعوا بأسنانهم خدود بعض الجنود البلغارية في إبان القتال.
أما خسارة البلغار في قتالهم للصرب واليونان معا فتربو على ستين ألف رجل. فإذا قدرنا أن خسارتهم في محاربة العثمانيين بلغت تسعين ألفا في جميع المعارك كان مجموع خسائرهم في الحربين مائة وخمسين ألف رجل لم يذهب منهم أحد إلى ساحة القتال إلا بعد أن شهد له طبيب حكومته بتمام الصحة.
جرى كل ما تقدم في شهر واحد؛ لأن الحرب البلقانية الثانية كانت سريعة مدهشة فلم يكن أحد أن الجيش البلغاري يذوب ذوبان الشمع أمام نيران عدوه، كما أنه لم يكن يظن في الحرب الأولى - إلا القليل - أن الجيش العثماني سيفشل. (3) أسباب فشل البلغار في الحرب الثانية
دهش العالم من سرعة فشل الجيش البلغاري أمام الصربيين واليونانيين بعد أن ترامت شهرته وأكبر الناس قوته. ولكن من يرجع إلى أقوال مراسلي التان الحربيين في الجانبين، ويطلع على الأخبار التي ترد تباعا، تزول دهشته ويعلم أن الأسباب التي أدت إلى فشل الجيش العثماني الشهير بصبره وعزمه وشجاعته هي التي أفضت إلى فشل الجيش البلغاري.
ورأس تلك الأسباب أن القواد البلغاريين بالغوا كما قدمنا في احتقارهم للصربيين واليونانيين وتوهمهم أن الغلبة مضمونة لدولتهم. ومما يروى أن المعتمد البلغاري في سلانيك كان يقول ويردد: «إن الجيش اليوناني عدم ...» فنشأ عن ذاك الاحتقار أن البلغار لم يأخذوا الأهبة التامة للحرب الثانية، بل أهملوا أمورهم كما أهملها العثمانيون قبل الحرب الأولى.
ومن أسباب فشلهم أن قوادهم وزعوا قواتهم على مسافات طويلة وظنوا أن الاستيلاء على المواقع التي يطمحون إليها سهل هين لشدة غلوهم في احتقار أعدائهم، فكان لفريق القوات البلغارية وطول خطوطها الحربية شؤما عليها، فنالها بسببه ما نال الجنود العثمانية التي هاجمت في تراقيه بأمر ناظم باشا قبل أن يتم حشدها ويتم لها العدد والعدد.
ومنها أن جانبا كبيرا من زهرة ضباط البلغار قتلوا في معارك قرق كليسا ولوله بورغاز وجتالجه، فأصبحوا كالعثمانيين وقت إعلان الحرب الأولى محتاجين أشد احتياج إلى الضباط، ثم نشبت الحرب الثانية وهم على تلك الحال.
ومنها أنهم لم يستعدوا استعدادا كافيا لتموين جنودهم قبل زحفها بل كانت إدارتهم العسكرية مختلة كالإدارة العثمانية في أكتوبر سنة 1912، فلم تأتهم الميرة والذخيرة على النظام الواجب في الحروب الحديثة. وإذا كان جيشهم لم يصبه من الجوع ما أصاب الجيش العثماني على وجه عام، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى سرعة نكوصهم وقصر مدة الحرب التي لم تبق إلا شهرا واحدا.
ومنها أن عددا كبيرا من الجنود النظامية المدربة قتل في محاربة العثمانيين وقام مقامه كثير من الرديف غير المدرب، وهو لا يصلح للهجوم كما قرر الاختصاصيون. (4) فظائع البلغاريين في الحرب الثانية
غلت أحقاد البلغاريين في صدورهم من جراء ذاك الفشل الذي أصابهم، فتفجرت غيظا على أهالي القرى اليونانية، وإذا صدقنا جميع الأنباء والشروح التي نشرتها جرائد أوروبا وغيرها، فإن الوحوش الضارية التي يقتلها الجوع لأقل فتكا وتوحشا وفظاعة من البلغاريين، وإليك ما ننقله أولا عن الموسيو جيسن الكاتب الدينمركي الذي دعاه ملك اليونان للحضور مع الموسيو ألبير ترامبان مراسل الدايلي تلغراف إلى قرية نيجريتا، ليبصرا الفظائع بأعينهما ويأخذا رسوم الضحايا بالفوتوغراف. فإنه بعد التحقيق كتب إلى عدة جرائد ومنها جريدة التان رسالة أكد فيها حدوث الفظائع، وذكر أنه رأى بعينه الجثث العديدة مطروحة على أنقاض نيجريتا، وأن نحو 1400 بيت ذهبت طعاما للنيران التي أضرمتها البلغار، وأن رائحة جثث البشر والحيوانات كانت لا تزال متصاعدة يوم وصوله.
ثم روى أنه سأل رجلا اسمه جورجيوس فلانشوف عما جرى فقال له هذا الرجل بعد أن أقسم بحياة أولاده إنه لا يقول إلا الصدق ولا ينطق بغير الحق: «هربت مع الهاربين لما علمت أن الجنود البلغارية اجتازت الشقة الحرام على بضعة كيلومترات جنوبي المدينة، ولكن هذه الجنود تمكنت من القبض علي وعلى أحد رفاقي ورمت بنا في السجن حيث لقينا رجلا ثالثا، فلبثنا في السجن إلى يوم الاثنين ولم يعطنا البلغاريون شيئا من المأكل والمشرب إلا دفعة واحدة سحابة المدة التي قضيناها، ولما كان يوم الثلاثاء أبصرت من النافذة أن البلغاريين يستعدون لإحراق المنزل الذي كنا فيه، وكان الضباط يصدرون الأوامر للجنود بجلب البترول والهشيم، ثم دخل علينا ضابط وبيده مسدس وتهددنا بالقتل إذا كنا لا ندفع إليه ما حوت جيوبنا، فدفعت إليه اثني عشر دراخما، ودفع إليه رفيقي ستة، وقدم الثالث الذي كان معنا اثنين ونصفا. وبعد خروجه صدر الأمر إلى الجنود بأن تطلق علينا الرصاص من النوافذ، فأطلقوا خمس رصاصات فقتلوا أحدنا وجرحوا الثاني، أما أنا فلم أصب بضرر لأني كنت مختبئا تحت النافذة. وبعد قليل دخلت الجنود البلغارية فوجدت أن اثنين منا ما برحا في قيد الحياة، فأنحت علينا طعنا بالحراب حتى قتلت رفيقي وأغمى علي بعد ثلاث طعنات في الفخذ اليمنى. ثم لما عاد إلي صوابي شعرت باحتراق في فخذي، فنظرت فإذا الجنود البلغارية قد صبت علينا بترولا وألهبت النار فأطفأتها بيدي - وهاك آثار الحريق فيها - ثم فررت من الباب؛ لأن البلغاريين تركوه مفتوحا، ولجأت إلى اصطبل لم يتناوله لسان النيران، ومن هناك كنت أرى الجنود البلغارية تشعل النار في كل جهة من المدينة، وإني لعلى تلك الحال إذا بانفجار عظيم حدث في المنزل المحترق فهلعت وهربت بالقسر عن جروحي، فرآني بعض الجنود وأطلقوا علي الرصاص فأخطأوني، وما وصلت إلى الربوة القائمة جنوبي المدينة حتى وقعت لا أبدي حراكا، ولما أفقت من غيبوبتي وجدتني بين أيدي الجنود اليونانية وهم يعتنون بي كما يعتني الأخ بأخيه. ثم قال بعد هنيهة: «إني فقدت كل ما كنت أملك، وأضعت امرأتي وأولادي، ورأيت جنود البلغار تلطخ عرض أمي بالعار والشنار.»
فبكي الحاضرون لقصته، ثم روى المكاتب فوق ما تقدم أن الذي رآه مع زميله يؤيد رواية جورجيوس المذكور، وأنه زار الغرفة التي سجن فيها هذا البائس فوجد على أرضها بقايا جثث بشرية. وقدر محافظ المدينة أن الذين هلكوا إحراقا وقتلا من النساء والأطفال والرجال يبلغون نحو 470 نفسا.
واتصل بجريدة التان أن الأسقف جوستاف ميشيل رأى بعينه كثيرا من الفظائع التي ارتكبها البلغاريون، ومما رواه أن جماعة منهم دخلوا قرية كوركوت برئاسة رجل اسمه دونسيوف، فجمعوا الرجال الذين كانوا فيها وأدخلوهم إلى المسجد وأغلقوا عليهم الأبواب، ثم جاءوا بالنسوة وربطوهن حول المسجد ليشاهدن بأعينهن ما يجري، وبعد قليل رموا بثلاث قذائف من الديناميت فقتلت كثيرا من الرجال على أن المسجد لم يتهدم، فلما رأوا أنه ما زال قائما أضرموا فيه النيران فأحرقوا نحو 700 رجل، وكانوا كلما رأوا أحدا يحاول الفرار رموه بالرصاص.
ونشرت الفيغارو في 24 يوليو بتوقيع الموسيو جورج بودرون أن هذا المكاتب المعروف والموسيو لابورت مكاتب الألوستراسيون والموسيو لون الذي رافق الجيش اليوناني ومعه قرينته، رأوا شمالي قرية ليفونوفو جثث عدد من أعيان اليونان الذين ساقهم البلغاريون كرهائن من مدينة سرس يوم تقهقرهم عنها مدحورين أمام الجيش اليوناني، فأخذوا الرسوم الفوتوغرافية لتلك الجثث ونشرتها جريدة الألوستراسيون بعد أيام.
وكتب موظف روسي - والروس لا يتهمون بالتحامل على البلغاريين - فصلا طويلا شرح فيه ما سمعه من الأسرى وغيرهم عن فظائع البلغاريين التي يحمى لها أنف أهل النخوة، وتنزل مرتكبيها إلى درك الوحوش الضارية.
وأكدت الجرائد اليونانية أن بعض رجال العصابات البلغارية كانوا يقطعون أصابع النساء وآذانهن ليلبسوا الحلي منها، وإن بعض الأصابع البشرية وجدت في جيوبهم مع خواتمها.
وأرسل الموسيو بييرلوتي إلى بعض جرائد لندرا الشهيرة مقالة على أثر تحقيق أجراه بنفسه قال فيها: «إني طفت في جميع أنحاء تراقيه فرأيت أن الفظائع الوحشية التي ارتكبها البلغاريون تفوق كل ما تصورته وتوقعته، فإن تراقيه كلها خضبت بالدماء، وما وقع نظري فيها إلا على جثث أو غربان أو أطلال تدل على القرى التي كانت هناك. وقال لي أناس من الذين نجوا في هالسان: إن البلغاريين اضطروا أسرى الأتراك إلى هدم أعمدة الجوامع بأيديهم وأنذروهم بالقتل طعنا بالحراب إذا ترددوا في تنفيذ أمرهم، وكانوا يصعدون بضحاياهم إلى أعلى المآذن ويرتكبون معهم فظائع لا يمكن تصديقها، ولقد رأيت بعيني آبارا مملوءة بجثث النساء والأطفال.»
ثم روى الموسيو لوتي أن البلغاريين كانوا ينوون أن يذبحوا جميع المسلمين في أدرنه، وأن يأمروا الأرمن بذبح اليونانيين، وكان من جملة فظائعهم أنهم قطعوا ذراعي رشيد بك نجل فؤاد باشا المصري وفقأوا عينه.
ولو أردنا أن ننشر لقراء هذا الكتاب جميع ما وقفنا عليه من الرسائل والفصول في وصف الفظائع البلغارية لاحتجنا إلى مجلد كبير؛ لأنهم كانوا في الحرب الثانية أولئك الضواري الذين رأيناهم في الحرب الأولى. ولكثرة ما نشره المراسلون من صور الفظائع ألفت الحكومة الفرنساوية وفدا لتحقيق ما نسب إليهم فزار القرى والبلاد التي وقعت فيها الفظائع وشهد الخراب وذوي العاهات والألوف العديدة من البيوت المحرقة، وقال أحد أعضاء هذا الوفد أن الجنود البلغارية المنظمة ارتكبت من الفظائع مثل ما اقترفته العصابات.
أما الحكومة البلغارية فإنها تنفي عن جيشها تلك الوصمة، ولكننا لم نجد كاتبا حربيا أو واحدا من المحققين يؤيد قولها، وكل ما هناك أن بعض الكتاب يرى شيئا من الغلو فيما يعزى إلى البلغار، على أننا إذا فرضنا أن ثلاثة أرباع ما نسب إليهم تخرص وتلفيق، فإن الباقي يكفي لتسويد صحيفتهم التاريخية، واستهجان غريزتهم الوحشية.
3
زحف الجيش الروماني إلى بلغاريا
تقدم أن رومانيا طلبت من بلغاريا مكافأة لها على التزامها الحياد مدة الحرب الأولى بين العثمانيين والبلقانيين، فأبت بلغاريا أن تجيبها إلى طلبها وتراخت العلاقات بينهما حتى خيف من الحرب، ولكنها لم تنشب حينئذ لسوء طالع الدولة العلية؛ لأن الدول وفي مقدمتها روسيا ألحت على رومانيا في وجوب قبول التحكيم فقبلته مكرهة، واجتمع مجلس دولي في بطرسبرج فحكم باعطاء مدينة سلستريا لرومانيا.
على أن هذا الحكم لم يرض الحكومة الرومانية؛ لأنها كانت تطمع في شطر كبير من دوبروجا حيث يقيم عدد كبير من الرومانيين والعثمانيين.
ولما عبس وجه السياسة بين بلغاريا وبين الصرب واليونان وأخذت تتوالى بين الفريقين حوادث العدوان، أبلغت رومانيا حكومة البلغار أنها لا تلزم جانب الحياد إذا نشبت حرب ثانية في البلقان وهكذا كان. فإن الحكومة الرومانية أمرت بتعبئة جيشها بعد قيام الحرب، وأرسلت بلاغا إلى حكومة البلغار ذكرتها فيه بالبلاغ الأول وسكوت الحكومة البلغارية عليه، وانتقدت هجوم الجنود البلغارية على الصربيين واليونانيين قبل إعلان الحرب، وختمت بإعلانها أن الأمر صدر إلى الجيش الروماني باجتياز حدود البلغار.
فلما رأت الحكومة البلغارية أن جيشها مدحور أمام الصربيين واليونانيين وأن الجيش الروماني الذي يمكن إبلاغه إلى 600 ألف رجل عمد إلى دخول أرضها، وأن العثمانيين كانوا وقتئذ زاحفين إلى تراقيه، تولاها شيء من الذهول واليأس فأكثرت من الاستغاثة بالقيصر، وكتب الملك فردينان إلى الملك كارلو في طلب المعونة، والتمست ملكة البلغار من ملكة رومانيا أن تتوسط لأمتها.
غير أن الجيش الروماني بقي زاحفا حتى اقترب من صوفيا عاصمة بلغاريا وضيق عليها المنافذ، فأصبح البلغاريون محصورين من جميع الأنحاء، فالصربيون والجبليون من جهة، واليونانيون من جهة، والرومانيون يحتلون طريق عاصمتهم، والعثمانيون يطوون بلاد تراقيه ويرفعون فيها الراية العثمانية بدلا من الراية البلغارية.
فلما بلغ الضيق بالبلغار إلى ذاك الحد تركوا العناد والخيلاء، ثم اشتد إلحاح الدول على المنصورين بوجوب المفاوضة في شأن الصلح، ولانت رومانيا بعض اللين فاقترحت تقرير هدنة للمفاوضة الابتدائية، فقبلتها حكومات الصرب والجبل الأسود واليونان، وقد أكدت رومانيا التي كانت صاحبة الكلمة الأولى والقدح المعلى أنها لا تريد سحق بلغاريا بل هي ترمي إلى غرضين؛ أولهما: تعديل حدودها كما يجب لمصلحتها، والثاني: حفظ التوازن بين قوات الدول البلقانية. ولا غرو فإن رومانيا لا يمكنها أن تنام ناعمة البال إذا كانت ترى بجانبها بلغاريا قوية طامعة مبغضة. (1) معاهدة الصلح في بوخارست
ما تقرر عقد الهدنة عملا برغبة الدول الكبرى ورومانيا، حتى أخذ مندوبو المتحاربين يفدون إلى العاصمة الرومانية، فوصل مندوبو البلغار في 27 يوليو
1
وقابلوا رئيس الوزارة الرومانية، ثم قدم مندوبو الصرب واليونان والجبل الأسود في 29 منه، وقابلوا رئيس وزارة رومانيا أيضا ، ونحو الساعة الرابعة بعد ظهر 30 يوليو عقدت الجلسة التمهيدية لتقديم المندوبين بعضهم لبعض، فألقى الرئيس الروماني خطبة وجيزة أفصح بها عن أمله في نجاح المؤتمر، وإبرام معاهدة مبنية على التوازن العدل، ثم اقترح «لمصلحة الإنسانية» عقد هدنة لا تزيد مدتها عن خمسة أيام، فوقف الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية وكبير مندوبي اليونان، فشكر بالأصالة عن نفسه والنيابة عن زملائه مندوبي المتحالفين ما رأوه من حسن الاستقبال وإكرام الوفادة في رومانيا، وتمنى نجاح المؤتمر وإبرام اتفاق مبني على «التوازن العدل» (أعاد كلمة رئيس الوزارة الرومانية بحروفها)، ثم وافق على هدنة خمسة أيام، وتلاه الموسيو تونتشيف المندوب البلغاري الأول وقال: إن مندوبي بلغاريا قدموا وهم يرغبون رغبة خالصة في عقد الصلح وأمل أن يتم عقده بين الخصمين على قاعدة ثابتة راسخة.
ولما مضت خمسة أيام ولم يتم الاتفاق بين المندوبين على تحديد الأراضي التي ستكون نصيب كل دولة بلقانية من تركيا أوروبا، طلب رئيس الوزارة الرومانية تجديد الهدنة ثلاثة أيام، وكانت مسألة ثغر قوله أهم العقبات، فدولة اليونان كانت تريدها بدعوى أن معظم أهلها من اليونان، وبلغاريا كانت تصر على طلبها بحجة أنها لازمة لنجاحها الاقتصادي، وكانت النمسا وروسيا تؤيدان بلغاريا، وفرنسا وألمانيا تميلان إلى إدخالها في حصة اليونان، وقامت بين الجرائد الفرنساوية والجرائد الروسية مناقشة في هذا الموضوع، حتى خيل لكثيرين أن قوله ستضعف أساس المحالفة الروسية الفرنساوية، وبعد مد وجزر وافق مندوبو البلغار على إعطاء قوله لليونان، ولا سيما بعد ما أفهمهم الموسيو ماجورسكو أن توقيع المعاهدة أمر واجب في أقرب وقت، وإلا اضطرت الحكومة الرومانية إلى إصدار الأمر إلى جيشها بدخول صوفيا .
ولقد ظهر أن مندوبي البلغار كانوا يحاولون أن يحدثوا شقاقا بين مندوبي المتحالفين ورومانيا، وظنوا أن التعجيل بموافقتهم على مطالب رومانيا يسهل لهم سبيل فصلها عن أعدائهم، فقد روى مندوب التان الخاص الذي نعتمد عليه في هذا التفصيل أنهم لم يكتفوا بمحاولة فصل رومانيا عن أعدائهم بل أرادوا خدع مندوبي هؤلاء الأعداء أنفسهم. قال: إن الموسيو تونتشيف كبير مندوبي البلغار زار الموسيو باشيتش كبير مندوبي الصرب، والموسيو فنزيلوس كبير مندوبي اليونان قبل الاتفاق، فذكر للأول جامعة الجنسية الصقلبية ووجوب اتفاق الصرب والبلغار على مقاومة تيار اليونان، وحادث الثاني في مسألة قوله وأكد له أن البلاد التي تنالها بلغاريا شرقي مقدونيا لا يمكنها أن تستغنى عن هذا الثغر، فأجابه الموسيو فنزيلوس بأن النمسا تكتفي بتريستا ... فطلب إليه حينئذ المندوب البلغاري أن يفكر في الأمر، وقال له: إن بلغاريا تؤثر أن يكون بلغار ومقدونيا تحت الحكم اليوناني؛ لأنها تفضله على الحكم الصربي. ثم قابل الموسيو تونتشيف في اليوم التالي بعض رجال الوزارة الرومانية، وأكد لهم أن بلغاريا ستوافق على كل مطالبهم بشرط أن لا تدع دولتهم أعداء بلغاريا يقضون عليها ...
دس المندوب البلغاري دسيسته وهو يظن أنه أتى من البراعة ما يعجز بسمرك، غير أن وزراء رومانيا ومندوبي المتحالفين ما لبثوا أن اجتمعوا فقص كل واحد منهم ما جرى له مع المندوب البلغاري فزادتهم تلك الدسيسة تضامنا، ولما أفهم البلغاريون رومانيا أنهم قبلوا جميع مطالبها أظهرت ارتياحها إلى تسليمهم، ولكنها أبت إلا الثبات على تضامنها مع اليونان والصرب، وأفهمت المندوبين البلغاريين ما صحت عليه عزيمتها في هذا الشأن، وكان من أقوى الدلائل على احتفاظها بذاك التضامن أنها لما رأت البلغار يريدون المحاولة والمخاتلة بعد تسليمهم بمطالبها، لم تنكص عن تهديدهم بدخول عاصمتهم كما تقدم.
ولما ثبت للبلغار أنهم أخفقوا سعيا وأن دسيستهم بلغت منهم وأخطأت أعداءهم لم يبق لهم إلا أمل واحد، هو أن تنقح الدول العظمى شروط المعاهدة؛ لأن روسيا والنمسا وإنكلترا أظهرن ميلا إلى تنقيحها، فوقعوا عليها وهم لا يعتقدون أنها نهائية، وإليك ترجمتها:
المادة الأولى:
يعقد الصلح بين ملك البلغار وملوك الصرب واليونان والجبل الأسود ورومانيا وورثائهم وحلفائهم.
المادة الثانية:
تبتدئ الحدود البلغارية الرومانية المعدلة (طبقا للملحق نمرة 5) من غربي تورتوكاي (توتره قان بالتركية) على نهر الطونة، وينتهي جنوب أكرنة (أقرانية بالتركية) على البحر الأسود. ويجب على بلغاريا أن تهدم الحصون القائمة في روتشوك (روسجق بالتركية )، وسيملا وبالشيكت (بالجق بالتركية) في خلال سنتين على الأكثر، وأن تؤلف لجنة مختلطة قبل مضي خمسة عشر يوما لتخطيط الحدود في مواقعها، وتقسيم الأملاك التي يقطعها خط التحديد، وإذا وقع خلاف عين حكم للفصل فيه.
المادة الثالثة:
تبتدئ الحدود الصربية البلغارية المعينة (طبقا للملحق نمرة 9) من جبل باراتريكا على الحدود القديمة، وتمتد على خط انقسام المياه بين واردار وستروما، ويخرج من هذا الخط أعلى وادي سترومجه فإنه يكون من نصيب الصرب.
ثم تنتهي الحدود المذكورة عند جبل بيلاسيكا ومنه تتصل بالحدود البلغارية اليونانية، ويجب تأليف لجنة مختلطة لتخطيط الحدود وتقسيم الأملاك، وإذا وقع خلاف؛ يلجأ إلى التحكيم.
المادة الرابعة:
تحل المسائل المتعلقة بالحدود البلغارية الصربية القديمة بموجب اتفاق بين الفريقين المتعاقدين.
المادة الخامسة:
تبتدئ الحدود البلغارية اليونانية (كما جاء في الملحق نمرة 9) من أكمة سيلاسينا بلانينا عند الحدود البلغارية الصربية الجديدة، وتنتهي عند مصب نهر مستا على بحر إيجه، وتؤلف لجنة مختلطة كالتي تقدم ذكرها للتحديد، وتعدل بلغاريا منذ اليوم عن كل دعوى تتعلق بجزيرة كريت.
المادة السادسة:
يبلغ التوقيع على معاهدة الصلح إلى المعسكرات العامة، وتبتدئ بلغاريا منذ اليوم التالي للتوقيع بصرف جيشها، أما الجنود البلغارية التي يكون محلها في جهات يحتلها المحاربون الآخرون فترسل إلى جهات أخرى من أراضي بلغاريا، ولا تذهب إلى محلها إلا بعد جلائهم عن المنطقة المحتلة في هذا الوقت.
المادة السابعة:
يبتدئ الجلاء عن الأراضي البلغارية على أثر تسريح الجيش البلغاري، ويتم هذا الجلاء في خمسة عشر يوما على الأكثر.
المادة الثامنة:
يحق لجيوش رومانيا والمتحالفين مدة احتلالهم للأراضي البلغارية أن يأخذوا حوائجهم بعد أن يدفعوا ثمنها ، وأن يستخدموا السكك الحديدية لنقل الجنود من غير أن يدفعوا غرامة عنها، أما ولاة الأمور المحليون والمرضى والجرحى فيكونون تحت حماية تلك الجيوش.
المادة التاسعة:
يعيد كل فريق أسرى الفريق الآخر في أقرب ما يمكن من الوقت، وتقدم الحكومات حساب المصروفات التي اقتضاها أسرهم.
المادة العاشرة:
يصدق على هذه المعاهدة بمدينة بوخارست في خلال 15 يوما أو أقل من هذا الزمن إذا أمكن.
حرر في بوخارست يوم 28 يوليو الموافق 10 أغسطس على الحساب الشرقي من سنة 1913.
تلك هي الشروط الأساسية لمعاهدة بوخارست، وكل من ينظر إلى الخريطة البلقانية يجد أن رومانيا أخذت أرضا من أخصب أراضي بلغاريا الأصلية، وفصلت عن الأمة البلغارية نحو 280 ألف نفس، وأن وادي واردار ومناستر وسائر الأراضي التي كان البلغاريون يريدون حرمان الصرب منها بقيت للصربيين مع أراض أخرى كان في وسع بلغاريا أن تنالها لو تساهلت بعد الحرب الأولى، كما أن سلانيك وقوله وسرس ومعظم الأراضي المجاورة لها بقيت لليونان، وسترى أن أدرنه وقرق كليسا ومعظم تراقيه عادت ملكا عثمانيا.
أما حلم البلغار بتنقيح الدول العظمى لتلك المعاهدة فقد ذهب كسائر أحلامهم؛ لأن روسيا والنمسا عدلتا عن طلب التنقيح، فاضطرت بلغاريا أن تقبل المعاهدة كما ذكرناها والحقد يغلي في صدر مليكها ووزرائها وقوادها. ولما أصدر مليكها فردينان منشوره إلى الجيش يوم صرفه ختمه بعبارة تدل على ذاك الحقد الشديد وهي: «أيها الجنود أخبروا أولادكم وأحفادكم عن بسالة الجندي البلغاري وأعدوهم لإتمام العمل المجيد الذي بدأتم به ...»
استرجاع أدرنه ومعظم تراقيه
فوز العثمانيين
ما هب البلقانيون يروون بدمائهم البلدان التي فتحوها بعد الخسارة العظمى، حتى أخذت الحكومة العثمانية تجس نبض السياسة الأوروبية وتتأهب للاستفادة من الحرب الجديدة.
ولما كان اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1913؛ أي بعد ابتداء القتال بين البلغاريين وأعدائهم باثني عشر يوما، صدر الأمر إلى الجيش العثماني المتأهب في جتالجه بأن يزحف إلى تراقيه، ويطرد منها البلغاريين الذين تركوا عددا قليلا من الجنود في البلاد التي أبقتها معاهدة لندرا ملكا عثمانيا. وما حل اليوم الخامس عشر من يوليو حتى تجاوز صدر الجيش العثماني خط إينوس وميديا الذي جعلته تلك المعاهدة حدا فاصلا بين أملاك العثمانيين وأملاك البلغاريين في تراقيه، وعادت الراية العثمانية تخفق على جميع البلاد الواقعة بين لوله بورغاز وبونار حصار، فتظلل عظام ألوف الأبطال الذين قضوا هناك في سبيل الدفاع عن وطنهم. ثم تقدم الجيش العثماني إلى بابا اسكي فقرق كليسا، ثم دخلت فرقة من الجيش أدرنه بقيادة أنور بك فلم تجد مقاومة جديرة بالذكر.
وشاع في ذاك الوقت أن الحكومة العثمانية عقدت اتفاقا مع حكومتي الصرب واليونان، وأن هذا الاتفاق هو الذي شد ساعدها وبعث فيها الجراءة على نبذ معاهدة لندرا والسعي في سبيل الاستفادة من الحوادث الجديدة، ولكن الأيام ما لبثت أن برهنت لنا على أن اعتماد الحكومة العثمانية كان أولا على نحو 200 ألف جندي كاملي الأهبة ومتشوقين إلى استرجاع سمعتهم العسكرية التاريخية، ثم على التراوح والتماوج اللذين رأتها في السياسة الأوروبية، وعلى صعوبة اتفاق الدول العظمى في مسألة استخدام القوة، كما ظهر من الأقوال الشبيهة بالرسمية التي نشرت في برلين وتناقلتها جرائد العالم، وربما كان من مشجعات الحكومة العثمانية أيضا أن روسيا كانت مستاءة من بلغاريا حانقة عليها لتذبذبها السياسي بين بطرسبرج وفينا.
فاعتمادا على ما تقدم قررت الحكومة العثمانية أن تلزم جانب الحزم والحكمة معا، فلا تنكص أمام التهديد والوعيد، ولا تتمادى في المجازفة حين ترى الخطر الحقيقي قريبا داهما؛ ولذاك رأيناها لم تهن عزما من أقوال سفراء الدول في الأستانة الذين نصحوا لها بأن لا تتجاوز خط إينوس وميديا، ولم ينخلع قلبها خوفا من إنذار المستر إسكويث رئيس وزارة إنكلترا والسير إدوارد غراي وزير خارجيتها.
وليس من فضلة القول هنا أن نذكر أهم ما يتعلق بالدولة العلية في خطبتين شهيرتين نطق بهما ذانك الوزيران. قال المستر اسكويث في 12 يوليو: «وأما ما يتعلق بتركيا فقد كنا نحن - أي بريطانيا العظمى ومعنا سائر الدول فيما أظن - نحسب أن تعيين الأراضي في معاهدة لندرا أصبح أمرا مقبولا، وأن سلامة تركيا آسيا ستكون مضمونة مؤكدة بشرط أن تحسن إدارتها، وكنا مستعدين لتقديم كل عون لتركيا بقصد أن نعضدها في أداء الواجب الكبير الذي أمامها، ولكن تركيا - وهنا أريد أن أكون صريح القول - أخطأت بتمزيقها معاهدة لندرا، وصار من الواجب عليها أن تستعد لفتح مسائل ليس من مصلحتها أن توضع موضع البحث والمناقشة.»
وقال السير إدوارد غراي في مجلس النواب يوم 12 أغسطس؛ أي بعد الخطبة الأولى بشهر: «وأوكد أن عدم إصغاء تركيا إلى مشورة الدول في مسألة أدرنه يجر على الحكومة العثمانية عواقب وخيمة لا نستطيع إنقاذها منها، وذاك يكون إما بالتضييق المالي وإما بمداخلة دولة أو دول بقوة السلاح. وعندي أن تركيا ترتكب خطأ عظيما إذا لم تصغ إلى مشورة الدول في المسألة، أما إذا كانت تسمع مشورتهن فأنا أعتقد أنهن يضعن أمامها مشروعا حسنا لإنشاء حدود حربية موافقة لها، ولمساعدتها في إنفاذ الخطة التي قلت: «إنا نريد الاشتراك فيها»؛ أي إعانة الحكومة العثمانية على الإصلاح المطلوب.» •••
غير أن الحكومة العثمانية لم تفزع من هذا الوعيد؛ لأنها بقيت تلحظ من وراء ستار السياسة أن الدول العظمى التي اتفقت على الكلام، لن تتفق على استخدام الحسام، وكانت تعلم من وجه آخر أن الجيش البلغاري واهن القوى فلا يستطيع وحده أن يخرج الجيش العثماني من تراقيه، وأن الصربيين واليونانيين والرومانيين لم يكونوا يفضلون البلغاريين على العثمانيين بعد ما عرفوه وبلوه من غدر البلغار، فبقيت الحكومة العثمانية على سياسة الحزم، وأخذت من جهة أخرى تتذرع بأحسن الذرائع السياسية، وتبسط ما عندها من البراهين الدامغة القوية لتقنع الدول بأن الحق الدولي في جانبها، وأن حفظ النظام في الجيش العثماني، ورغبة أهالي أدرنه وسائر بلاد تراقيه، وواجب الإنسانية وسلامة العاصمة العثمانية؛ كل ذلك يدعوها إلى التشبث بأدرنه وبحدود موافقة للمصلحة العثمانية. وليسمح لنا القارئ هنا أن نوضح ما تضمنته دعوى الحكومة العثمانية من لباب الصواب فنقول: أما قولها أن الحق الدولي كان في جانب العثمانيين فرأس البراهين عليه هو أن معاهدة لندرا تتضمن مادة صريحة جلية ، تقضي بأن الصلح لا يكون نهائيا إلا بعد تصديق الملوك والحكومات، والمعروف المؤكد أن هذا التصديق لم يتم وأن حكومة اليونان لم توقع على شروط المعاهدة، وهذا هو السبب الذي حمل السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا على التصريح بأن القانون الدولي لا يحول دون عمل تركيا،
1
وأن اعتبارات أخرى توجب جلاءها عن أدرنه. ومما ذكره نظامي باشا المندوب العثماني الأول في مؤتمر لندن لمراسل الماتين في الأستانة: «أنه لما عرض علينا نص المعاهدة لنوقع عليها؛ دهشنا عندما قرأنا في المادة الأولى منها أن الصلح لا يصير نهائيا إلا بعد التصديق، فطلبنا حذف هذا الشرط وعقد الصلح النهائي في لندرا، فأجابنا مندوبو المتحالفين بالرفض.» فهل يصح مع ذاك كله أن تتهم الحكومة العثمانية بخرق حرمة القانون الدولي؛ لأنها اغتنمت فرصة موافقة لمصلحتها قبل التصديق على معاهدة الصلح؟
وإذا رجع المطالع إلى ما فعلته رومانيا وجد أن الحكومة الرومانية نبذت قرار مجلس التحكيم الدولي الذي عقد في بطرسبرج؛ لأن حكمه لم يعجبها ثم عبأت جيشها وغزت البلاد البلغارية الأصلية، فلم تقل لها الدول صاحبة التحكيم إنك احتقرت قرار مندوبينا وأهنت أوروبا، كما قال بعضهم للدولة العثمانية حين نبذت معاهدة غير نهائية لتسترجع قسما من البلاد التي خسرتها.
وأما كون النظام في الجيش العثماني كان يوجب التمسك بتعديل تلك المعاهدة، فظاهر من أقوال عزت باشا القائد العام للجيش العثماني وأقوال أنور بك وغيره، قال عزت باشا وأنور بك: إنا لا نترك أدرنه إلا بقوة السيف، وهذا القول مع دلالته على اشتغال الجيش بالسياسة، يدل من جهة أخرى على أن الحكومة العثمانية لا يسعها أن تقاوم تيار الرأي الحربي إن رضيت بالجلاء عن أدرنه، وإلا استهدفت للخطر.
وكل من ينظر إلى مشيئة أهالي أدرنه نفسها يجدها تؤيد مطلب الحكومة العثمانية أيضا. فإن عدد سكان تلك المدينة التاريخية يبلغ نحو خمسة وسبعين ألف نفس بينهم نحو خمسة وخمسين ألفا من المسلمين، فهل يعقل أن هؤلاء يفضلون الحكم البلغاري على الحكم العثماني؟ ومما لا ريب فيه أن اليونانيين واليهود في أدرنه لا يختارون حكم البلغار على حكم الأتراك، فلا يمكن بلغاريا والحالة تلك أن تدعي العمل بالقاعدة التي توجب إرجاع البلاد التي يقطنها البلغار إلى بلغاريا وهلم جرا؛ لأن دعواها من هذا الوجه تناقض مصلحتها وتتفق مع المصلحة العثمانية، وهاك فحوى مذكرة قدمها وفد مدينة أدرنه لوزارة الخارجية النمساوية، وهو الوفد الذي أرسله الأهالي على اختلاف أديانهم إلى عواصم أوروبا ليقنع الدول العظمى بوجوب إبقاء أدرنه للدولة العثمانية، قال:
مضت ستة قرون ونحن نعيش تحت الراية العثمانية فلم يقم لدينا مانع في سبيل القيام بواجباتنا الدينية، ولما هجم البلغاريون بحجة تخليص المسيحيين من ظلم الترك هتكوا أعراضنا وقتلوا أولادنا وجعلوا بلادنا أطلالا دارسة، فكانوا يعلقون مئات من النساء بشعورهن، ويقتلون من لا يزيد عمره عن ثماني عشرة سنة، ويبقرون بطون الفتيات المسلمات بالحراب، ويغتالون الأجنة في بطون الوالدات، وبالجملة أنهم أنسوا بفظائعهم ما جرى في القرون الأولى، ونحن نجوب عواصم أوروبا لنعلن مظالم البلغار ولا نشك في أننا نفوز بعطف الدول.
ثم قال:
إن عدد أهالي تراقيه كلها 1229582 نفسا، منهم 189000 بلغاري والباقون؛ أي نحو 1200000 نفس هم من المسلمين والبلغاريين والأروام، فكيف يسلم هؤلاء كلهم إلي أيدي البلغاريين.
فإذا كانت أوروبا لا تشفق على أهل أدرنه بل تصر على تسليمهم إلى البلغار فإن الأدرنيين يؤثرون سفك دمائهم إلى آخر قطرة، وإذا غلبوا على أمرهم فإنهم يهجرون أرضهم؛ لأنهم لا يريدون علما غير الهلال العثماني.
أما المذكرات التي قدمها الوفد لسائر الدول العظمى فإنها لا تخرج بمعناها عما تقدم، وكل ناقد بصير لا يسعه أن يقف عند قول البلغاريين: إن القوة العسكرية هي التي أجبرت ذاك الوفد على تقديم تلك المذكرات؛ لأن من يسلم جدلا بضغط القوة العسكرية، لا يمكنه إلا التسليم أيضا بأن المسلمين واليونانيين والإسرائيليين - وهم الغالبية العظمى - ينفرون من الحكم البلغاري. •••
فكل من ينظر إلى ما تقدم ويضيف إليه أن البلغاريين بعد تلوثهم بتلك الفظائع لا يسعهم أن يدعوا حب الإنسانية، ولا إنقاذ الأهالي من الظلم التركي، وأن سلامة الأستانة نفسها توجب تغيير خط إينوس وميديا، يعلم أن الدولة أقدمت على العمل بينما كانت دخائل السياسة الأوروبية تشجعها، والحق الدولي بجانبها، ونخوة الجيش العثماني تدفعها، ومشيئة أهالي أدرنه وسلامة عاصمتها وإعادة نفوذها الأدبي توجب الحزم عليها، ثم أضف إلى ذاك كله أن القوة كانت لديها. •••
والمأخوذ من الروايات التي يعتمد عليها أن الحكومة العثمانية لما رأت الظروف مؤيدة لها، خطر لها أن لا تكتفي باحتلال أدرنه وأن تثأر من البلغار، ولكن اعتراض روسيا اشتد وظهر في مظهر الجد حين تجاوز بعض الآلايات العثمانية حدود بلغاريا الأصلية، فقد زار عندئذ سفير روسيا بالعاصمة العثمانية الصدر الأعظم، وألح في وجوب إصدار الأمر إلى أولئك الجنود بالرجوع من أرض بلغاريا. وذكر السفير الروسي بالعاصمة الإيطالية في حديث أن روسيا لا تحارب تركيا من أجل أدرنه، ولكنها لا ترضى بإعلان الحرب على بلغاريا لسحقها.
فعرفت عند ذاك الحكومة العثمانية كيف تقف عند حد الحكمة وأمرت جنودها بالرجوع من الحدود البلغارية، كما عرفت كيف تواصل سياسة الحزم.
أما بلغاريا فإنها لما رأت الدول العظمى لا تساعدها إلا بالكلام، وأن روسيا على الأخص تأبى أن تسفك دماء أبنائها لتعيد إليها أدرنه وسائر تراقيه، حطت من كبريائها ونظرت إلى الحقيقة وجها لوجه، وطلبت إلى الدولة العلية أن تتفق معها مباشرة، فقابلت الدول العظمى هذا الطلب بالارتياح، ورضيت به الحكومة العثمانية، وبناء عليه بعثت حكومة صوفيا وفدا إلى الأستانة برئاسة الجنرال سافوف للاتفاق مع ولاة الأمور العثمانيين، فاتفقوا على المعاهدة الآتية المعروفة بمعاهدة الأستانة.
الهلال العثماني في أدرنه.
معاهدة الأستانة
المادة الأولى:
تبتدئ الحدود الجديدة بين الدولتين عند مصب نهر رزوايا على البحر الأسود، متبعة مجراه إلى حيث تلتقي مياه نهري «بروغو» و«دليوا» على مقربة من قرية كاميله، ثم تنحرف من مصب نهر رزوايا المشار إليه جنوبا بغرب فتظل «بلاق» للعثمانيين، وتقام زاوية في تلك الأنحاء تنحرف شمالا بغرب ثم جنوبا بغرب فتترك قرية «ماجوره» وبلدة «بيرغويلو» داخل الحدود العثمانية. ولما كان نهر رزوايا يجري في زاوية على بعد خمسة كيلومترات ونصف من بلدة بيرغويلو ثم ينحرف قليلا إلى الشمال سائرا على الجهة الغربية، فتبقى بلدتا «ليكودي» و«وكلادارا» الداخلتين في تلك الزاوية بلغاريتين، وتظل «سيكنيغووي» و«ماروديو» و«ولفوه» داخل الحدود العثمانية.
ثم يتبع خط الحدود مجرى نهر رزوايا تاركا «طورني» للبلغاريين، وينحرف غربا فيمر على بعد ثمانيمائة متر من قرية «رادوسلاوس» التي تظل في حيازة الدولة العلية، ويسير من هناك في خط مستقيم إلى مصب نهر «بروغو» فنهر «دليوا» مارا على بعد أربعمائة متر من بلدة «كامل كوي» التي تبقى للعثمانيين.
ويتبع خط الحدود مجرى نهر «دليوا» حيث يلتقي بنهر بروغو تاركا «يامباله» و«قنديلجك» و«ديلي» للعثمانيين، وينتهي شرقي «حقوف صو» التي تبقى للعثمانيين أيضا، ويمر خط الحدود بين «حقوف صو» المذكورة و«صوه لي كوى» التي تبقى لبلغاريا متجها شمالا بغرب، ومارا بأرقام 687 و619 و563 على الساحل.
ثم يسير إلى ما وراء قمة 563 فيترك بلدة «فاجرلق» للعثمانيين، وينحرف على بعد ثلاثة كيلومترات من هذه البلدة غربيها وينتهي في نهر «غولينا». وتتبع الحدود مجرى هذا النهر على بعد كيلومترين حتى يصب في نهر آخر اسمه «غولينا» أيضا (نمرة 2) منبعه جنوب «قره يانلر»، وتظل متبعة حتى يفصل هذا النهر قمة الجبال شمال نهر غولينا (نمرة 2) الذي يجري من جهة «ترك الإيلي»، ثم تنتهي على الحدود العثمانية البلغارية القديمة على بعد أربعة كيلومترات شرقي «ترك الإيلي» وشمال «إيفري بول»، حيث كانت الحدود البلغارية القديمة كثيرة الانحراف.
وتفرق الحدود الجديدة عن الحدود القديمة قرب «يالابان باشي» على بعد كيلومترين من كنيسة بلدة «درو يشفه موغ»، وتهبط على خط مستقيم إلى «سرك دره» تاركه بلدة «درويشفه موغ» للدولة العلية، ومتبعة مجرى نهر «دكرن دره» إلى قرية «يلقارلفكه» التي تظل بيد البلغاريين، ويترك خط الحدود مجرى هذا النهر قرب حدود قرية يلقارلفكه متجها غربا تاركا «تونس لفله» و«ديمتري كوى» للعثمانيين، ثم يتبع خط تقسيم المياه بين «بولا دره» و«دمير خان دره » حيث توضع نمرة 241 إلى أن يصل إلى أبعد نقطة شمالية حيث انحراف نهر مرتزا غربي مصطفى باشا، وتبعد هذه النقطة عن مدخل كبري مصطفي باشا الشرقي 3 كيلومترات ونصفا، ثم تتبع الحدود خطا مستقيما إلى «كرمن دره» شمال جسر سكة الحديد، وكرمن دره هذه ساقية تصب في نهر مرتزا على بعد ثلاثة كيلومترات شرقي قرية «كرمن»، ثم تنحرف الحدود شمالا إلى «تازه تبه» تاركة «كرمن» للدولة العلية ومتبعة مجرى نهر «كرمن دره»، إلى أن تقطع سكة الحديد في الشمال الغربي من قرية «كرمن» المذكورة، وتحاذي دائما مجرى هذا النهر إلى قمة «تازه تبه»، حيث النمرة 313 مارة بأعلاها، ثم تسير في خط تقسيم المياه بين نهري «أردا» و«مرتزا» تاركة مدينتي «يابلاجف» و«كولجك» داخل الحدود العثمانية، وتمر بعد كولجك بساحل 449 ثم 367 منحرفة جنوبا على خط مستقيم إلى نهر «اردا»، ويمر هذا الخط المستقيم على بعد كيلومتر واحد قرب قرية «كيكتساسلي» تاركا هذه القرية بيد العثمانيين.
وبعد ما تصل الحدود إلى ساحل 367 حيث نهر «اردا» تتبع شاطئ هذا النهر الأيمن إلى مطحنة هناك على بعد كيلومترين من قرية «إيتجيرلي»، ثم تسير في خط تقسيم المياه شرقي قرية «غيداخور» مارة على بعد كيلومترين منها، وتاركة قرية «دربزبنا» في الحدود البلغارية إلى أن تصل إلى بعد كيلومتر واحد من قرية «اتبرم دره»، وتتبع بعد ذلك أقصر طريق إلى منبع النهر الجاري بين «أق الان» و«قابلقلي كوى» مارة بنهر «قزل دلى دره»، وبعد ما تترك «كوك بيكاري» داخل الحدود البلغارية تتبع مجرى نهر «قزل دلى دره» إلى منبعه، ثم تتبع أقصر طريق إلى منبع نهر «ماندارا دره»، وتنحو بعد ذلك مجرى هذا النهر حتى نهر «ماريقا» في الجهة الغربية من «ماندارا»، فتبقى مدينة «كازانتي» لبلغاريا، وقرى «أشاغي كبز» و«اخور باينار» و«ماندارا» للدولة العلية.
ثم يسير خط الحدود بعد ذلك محازيا لمجرى نهر «ماريقا» جنوب قرية «قالدير كوز»، إلى أن ينقسم النهر إلى قسمين على بعد ثلاثة كيلومترات ونصف من القرية المذكورة، فيتبع مجرى القسم الأيمن من النهر ويمر قرب قرية «فريجك» ثم ينتهي في بحر إيجه تاركا مستنقعات «أق صد» و«بحيرني» و«قازلي كوى» و«كبنه لي كولي» للدولة العلية، و«طوزله كول» و«درنه كول» لبلغاريا.
المادة الثانية:
يجب على كل من جيشي الفريقين المتعاهدين أن يعمد إلى الجلاء عن الأراضي التي دخلت في ملك الفريق الآخر بعد عشرة أيام من التوقيع على هذه المعاهدة، وأن يسلمها إليه بعد خمسة عشر يوما طبقا للقواعد والعادات المتبعة، ثم يصرف جيشا الفريقين في خلال ثلاثة أسابيع بعد التوقيع.
المادة الثالثة:
تعود العلاقات السياسية ومواصلات البريد والتلغراف والسكك الحديدية بعد التوقيع.
وينفذ الاتفاق المختص بتعيين المفتين والمذكور بالملحق الثاني في البلاد البلغارية كلها.
المادة الرابعة:
أنه رغبة في توثيق العلاقات الاقتصادية بين الدولتين يتعهد المتعاقدان بأن يعودا منذ التوقيع على هذه المعاهدة إلى تنفيذ الاتفاق التجاري البحري الذي عقد في 6 فبراير سنة 1911، فيبقى نافذا لمدة سنة منذ اليوم، وبأن يظهرا في جماركهما للحاصلات الزراعية والصناعية كل تسهيل ينطبق على الاتفاقات المعقودة بينهما وبين الدول الأخرى، ويتعهدان أيضا بأن ينفذا الاتفاق القنصلي الذي عقد في 18 نوفمبر سنة 1909 للمدة نفسها (أي سنة).
ويجوز لكل من الفريقين المتعاهدين أن ينشئ قنصليات جنرالية أو قنصليات أو فيس قنصليات في جميع الجهات التي يقبل فيها وكلاء دوليون من أراضي الفريقين. ثم يتعهد الفريقان بأن يعينا في أقرب ما يمكن من الوقت لجنة مختلطة للمفاوضة في عقد معاهدة تجارية واتفاق قنصلي.
المادة الخامسة:
يسلم كل فريق أسرى الحرب أو الرهائن إلى الفريق الآخر في خلال شهر واحد منذ التوقيع على هذه المعاهدة أو أقل من شهر إذا أمكن الأمر، ويكون تسليمهم إلى مندوبين اختصاصيين يعينهم الفريقان، وتحتمل الحكومة التي وقعوا في أسرها نفقات هذا الأسر، ولا تدفع حكومتهم إلا رواتب الضباط.
المادة السادسة:
يمنح الفريقان عفوا تاما للذين اشتركوا في القتال أو كانوا موضع الشبهة في الحوادث السياسية التي سبقت هذه المعاهدة، ويشمل ذاك العفو سكان البلاد المتنازل عنها ، ولا ينتهي مفعوله إلا بعد انتهاء أسبوعين يعينهما ولاة الأمور الشرعيون عند احتلال الأراضي التي صارت ملكا للبلغار، ويجب إعلان هذا الميعاد لجميع الأهالي.
المادة السابعة:
يعطى أهالي البلاد التي تنازلت الحكومة السلطانية عنها لبلغاريا مهلة أربع سنوات ليختاروا بين التابعية العثمانية والتابعية البلغارية، ويكفي من يريد البقاء عثمانيا أن يبلغ رادته ولاة الأمور البلغاريين، ثم يكتب اسمه في قنصلية الدولة العلية، وإذا كان الطالب مقيما في بلاد خارجية يكفيه أن يبلغ عزمه إلى قنصلية البلغار ويكتب اسمه في القنصلية العثمانية، وكل طلب من هذا القبيل يعد شخصيا ولا يوجب على الحكومة العثمانية أن تقبله. أما القصر فتعطى لهم مهلة أربع سنوات منذ بلوغهم سن الرشد ليختاروا تابعيتهم.
ولا يحق للحكومة البلغارية في مدة المهلة أن تدعو المسلمين للخدمة العسكرية. ويلزم المسلمون الذين أبوا إلا الرعوية العثمانية أن يتركوا البلاد المتنازل عنها بعد نهاية أربع السنوات، غير أنه يحق لهم أن يتصرفوا بحقوق ملكيتهم هناك، فيبقوا ملاكا وينيطوا إدارة أملاكهم بغيرهم سواء كانت ثابتة أو منقولة.
المادة الثامنة:
ينال الرعايا المسلمون في البلاد البلغارية كلها جميع الحقوق المدنية والسياسية التي ينالها الرعايا الذين من أصل بلغاري، ويتمتعون بحرية العقيدة وحرية القيام بفروضهم الدينية، وتكون عاداتهم موضع الاحترام، ويذكرون اسم جلالة السلطان في صلواتهم بصفته خليفة للمسلمين، ولا يقام أي حائل دون الجمعيات الدينية الإسلامية وعلاقاتها برؤسائها.
المادة التاسعة:
يتمتع البلغاريون في البلدان العثمانية بحقوق سائر المسيحيين المقيمين في بلاد السلطنة.
أما البلغاريون التابعون للدولة العثمانية فيمكنهم أن يحفظوا أملاكهم الثابتة والمنقولة، ولا يمس حق ملكيتهم ولا حقهم الإنساني، ويمكن الذين تركوا بلادهم على أثر الحوادث الأخيرة أن يعودوا إليها في خلال سنتين على الأكثر.
المادة العاشرة:
تحترم جميع الحقوق التي كان الحصول عليها قبل ضم الأراضي (إلى بلغاريا)، كما تحترم العقود القضائية التي أبرمت على أيدي الموظفين العثمانيين، ولا يمكن نقضها إلا إذا قام برهان قضائي على فسادها.
المادة الحادية عشرة:
تعترف بلغاريا بصحة الملكية العقارية في الأراضي المتنازل عنها طبقا لما تقرر بموجب القانون العثماني من قبل، ويظل أصحاب الأملاك المنقولة والثابتة متمتعين بحقوق الملكية إذا أقاموا مؤقتا أو دائما خارج البلاد البلغارية، ويمكنهم أن يؤجروا أملاكهم أو يديروا شئونها بواسطة آخرين.
المادة الثانية عشرة: «خلاصتها وجوب احترام الأوقاف على اختلاف أنواعها وسائر ما يتعلق بها.»
المادة الثالثة عشرة:
تحترم أملاك جلالة السلطان وسائر أعضاء الأسرة السلطانية في الأراضي المتنازل عنها، ويمكن جلالته وسائر أعضاء أسرته أن يبيعوها أو يؤجروها بواسطة مفوضين من قبلهم، وكذلك أملاك الحكومة العثمانية الخاصة، وإذا عرضت للبيع يفضل الرعايا البلغاريون بشرط أن يدفعوا ثمنا معادلا لما يعرضه الآخرون.
المادة الرابعة عشرة:
يصدر الفريقان المتعاهدان أوامرهما إلى أولياء الأمور في الولايات بأن يوجبوا احترام المدافن، وخصوصا مدافن الجنود، ولا يمنعون الأقرباء والأصدقاء من زيارتها.
المادة الخامسة عشرة:
يمكن رعايا كل فريق من المتعاهدين أن يقيم ويتنقل بحرية في أراضي الفريق الآخر، كما كانوا في الزمن السالف.
المادة السادسة عشرة:
تنتقل جميع الحقوق والواجبات التي كانت للحكومة العثمانية إلى الحكومة البلغارية فيما يتعلق بقسم الخط الحديدي (الممتد في الأراضي المتنازل عنها) من خطوط شركة السكك الحديدية الشرقية، وتتعهد الحكومة البلغارية بأن تعيد إلى الشركة المشار إليها جميع المعدات التي استولت عليها.
المادة السابعة عشرة:
كل ما يقع من الخلاف في تفسير أو تنفيذ المواد (12 و13 و16)، أو الملحق (نمرة 7) يحال على محكمة «لاهاي» لتفصل فيه.
المادة الثامنة عشرة:
تعتبر جميع الملحقات بهذه المعاهدة جزءا منها لا ينفصل.
1
المادة التاسعة عشرة:
يحافظ الفريقان على بنود معاهدة لندرا، إلا ما ألغي أو عدل منها بموجب هذه المعاهدة.
المادة العشرون:
تعد هذه المعاهدة نافذة منذ التوقيع عليها، ويصدق عليها في خمسة عشر يوما. ا.ه.
وقد وقع عليها مندوبو الفريقين، وكتبت منها نسختان في 19 سبتمبر سنة 1913.
وأجمع مراسلو عدة جرائد أوروبية ومراسلا المقطم والأهرام في الأستانة على أن كبير قومه سليمان أفندي البستاني وزير الزراعة والتجارة، كان له فضل مأثور وسعي مشكور في عقد هذا الاتفاق الذي انطبق على مصلحة الدولة العثمانية وكفاها مئونة حرب ثانية.
ونشرت جريدة البرلينر تاجبلاط حديثا للموسيو نانشوفتش المندوب البلغاري الذي أوفدته حكومته إلى الأستانة لإجراء المفاوضات التمهيدية قال فيه: «إن البستاني أفندي أظهر في المفاوضات التمهيدية براعة ووطنية كبيرة، ودل على أنه الرجل الخبير الذي يعرف كيف يدافع عن مصلحة وطنه، فأهنئ الوزارة العثمانية به، وأرى أنه يجدر بها أن تفتخر بمثله.»
أما الأساس الذي وضعه البستاني للمفاوضات فهو أن تبقى أدرنه وقرق كليسا للدولة العلية، وأما بقية الشروط فقد تم الاتفاق عليها بعد وصول الوفد البلغاري الرسمي إلى دار الملك.
وليس هناك ريب في أن الحكومة العثمانية فازت فوزا كبيرا بعقدها تلك الشروط وإلغائها ما جاء في معاهدة لندرا التي ماتت عند ولادتها وانقلبت سيفا ونارا على البلقانيين، أما وجوه الفوز فأولها: أن الدولة العلية نالت بدلا من حد إينوس وميديا حدا حربيا يمكنها من الدفاع عن عاصمتها، والثاني: أنها استردت أدرنه ومعظم تراقيه، والثالث: أن مقامها الأدبي ارتفع على أثر هذا الفوز لدى الدول الأوروبية والأمة العثمانية والعالم الإسلامي.
قيمة البلدان التي خسرتها الدولة العلية
نعقد هنا فصلا للولايات التي خسرتها الدولة العلية بعد ما ذكرناه من الحوادث الفواجع، وسيرى المطالع أن الولايات الخمس التي فقدناها، والبلاد الألبانية التي فصلتها الدول عن جسم السلطنة، والجزر التي لم يجزم في أمرها حتى صدور هذا الكتاب، هي مملكة واسعة طالما كانت مطمح أنظار الفاتحين من الملوك والسلاطين.
ولاية سلانيك:
أشهر مدنها ثغر سلانيك، وسيزور القائمة على مقربة من نهر ستروما والشهيرة بزراعة التبغ والأرز والقطن، ومدينة أورفاني وهي ميناء على خليج باسمها، وكوبريلي، وقوله التي ولد فيها محمد علي باشا رأس الأسرة الخديوية، ومساحة الولاية خمسون ألف كيلومتر، وجوها على ثلاثة أقسام: بارد على جبالها، ومتوسط على روابيها، وحار في سهولها، وتجارتها البذور والثمار والعنب والتبغ والقطن، وعدد أهلها 1200000 نفس بينهم نحو أكثر من 560 ألف بلغاري، والباقون من المسلمين والإسرائيليين والفلاخ واليونان،
1
وهي وطن الإسكندر ذي القرنين.
أما مدينة سلانيك، فهي قائمة داخل خليج يسمى باسمها، وعدد أهلها نحو 150 ألف نفس نصفهم من الإسرائيليين والباقون من المسلمين واليونان والبلغار والصرب. ومركزها من أفضل المراكز البحرية؛ لأنها قريبة من آسيا وأفريقية وقناة السويس، ومشتملة على خط حديدي يصلها بالطونه وأوروبا، وكل من ينظر إلى موقعها الطبيعي الجميل يتكهن لها عن مستقبل جميل، وهي أهم ثغور تركيا أوروبا بعد الأستانة.
أما آثارها فأخصها سور ممتد على ثمانية كيلومترات ومشيد منذ القرون الوسطى، ثم مسجد كان كنيسة للقديسة صوفيا وهو مبني على طراز مسجد أجيا صوفيا الشهير في الأستانة لكنه أصغر مساحة منه، وهناك مسجدان آخران أحدهما يسمى جامع إسكي جمعه والثاني جامع القديس ديمتري؛ لأنه كان كنيسة باسم هذا القديس.
وهي قديمة العهد عظيمة التاريخ رأت الحروب المقدونية القديمة وأصيبت بالخراب، ثم جدد كاساندر بناءها سنة 315 بعد المسيح وسماها تسالونيك، ولقد بلغت شاهقة المجد في عهد الرومانيين وكانت محط رحال التجار، وسقطت تحت سلطان اليونان غير مرة، ثم فتحها السلطان مراد الثاني سنة 1430، وبعد معاهدة برلين اشتد طموح اليونان والبلغار إليها، وما برحت موضوع التنازع بينهم حتى الساعة.
ولاية مناستر:
مساحتها 27300 كيلومتر مربع، وعدد أهلها نحو 851300 نفس، كان بينهم قبل الحرب نحو 180 ألف مسلم، وأشهر مدنها مناستر وهي مدينة تجارية خطيرة، فيها معامل للأسلحة ونسيج الحرير واللباد، ثم مدينة بريزرن (أوبريزرند)، ومدينة إيلبصان التي فيها مياه كبريتية حارة، واوخريده القائمة على بحيرة تسمى باسمها، وبرليبه المعروفة بإتقان صنع المقصات والمدى، وكاستورا القائمة على بحيرة تسمى باسمها.
ومدينة مناستر تعد من المواقع الحربية المهمة بالنظر إلى ملتقى عدة طرق تصلها بسلانيك واسكوب وأدرنه. ومما يذكر أن هناك خطا حديديا نال امتيازه جماعة من الماليين الألمانيين، فمدوه في أراض خصيبة جدا بين سلانيك ومناستر.
ولاية قوصوه:
يبلغ عدد أهلها نحو مليون نسمة، ومساحتها 27561 كيلومترا وهي عظيمة الشهرة في تاريخ الصرب؛ لأن الأتراك قهروهم في سهلها سنة 1389 وفتكوا بهم فتكا ذريعا، وأشهر مدنها أسكوب وبرشتينا وأشتيب.
ولاية أدرنه:
رأى المطالع من نص معاهدة الأستانة أن الدولة العلية بعد أن خسرت ولاية أدرنه كلها على التقريب بمقتضى معاهدة لندرا، عادت فاسترجعت مدينة أدرنه وقرق كليسا وشطرا كبيرا من تراقيه، فكان استرجاع مدينة أدرنه التي بقيت عاصمة للسلطنة مدة سبعين سنة قبل افتتاح القسطنطينية ربحا كبيرا، كما أوضحنا في فصل سابق.
أما أشهر المدن الأخرى الباقية للدولة من ولاية أدرنه فهي كليبولي على بحر مرمرا عند مدخل الدردنيل، ورودوستو على بحر مرمرا أيضا، وإينوس عند مصب نهر مريتزا (مريج)، وغيرها مما يراه القارئ في خريطة تراقيه المفصلة والمنشورة في غير هذا الموضع، ومساحة ولاية أدرنه كلها 41407 كيلومترات مربعة.
ولاية أشقودره:
مساحتها نحو 10700 كيلومتر مربع، وعدد أهلها نحو 322000، بينهم نحو 14000 ألباني كاثوليكي، و80000 ألباني مسلم، و12000 تركي، و10000 من الفلاخ، و5000 من البوهميين، و5000 من الإسرائيليين.
أما عاصمتها فمدينة أشقودره، وهي واقعة على 735 كيلومترا من الأستانة ومشيدة في سهل، تكثر عندها المستنقعات فتجلب الحمى، وتنبسط لديها بحيرة تسمى باسمها، وهي تشبه من بعض الوجوه مدينة «جنوى» بالنظر إلى بحيرتها والنهر الذي يتسرب هناك والجبال التي أمامها، وقد فتحها الرومانيون والصربيون والغوطيون والفينيقيون والمجريون ثم الفينيقيون أيضا، وفي سنة 1477 فتحها الأتراك وبقيت في قبضتهم حتى خسروها في هذا الزمن.
2 •••
تلك هي البلدان التي خسرناها في هذا الزمن السيئ الطالع علينا، وحسبنا لنظهر أرباح خصومنا أن نذكر للمطالع إحصاء تقريبيا حديثا نشرته الجرائد الأوروبية بعد الحربين البلقانيتين وبعد معاهدة بوخارست، وهو:
كانت مساحة بلغاريا 96300 كيلومتر مربع، وكان عدد أهلها 4380000 نفسا، فصارت مساحتها بعد ما أخذته رومانيا من أملاكها بمقتضى معاهدة بوخارست 88800 كيلومتر مربع، وصار عدد أهلها 410000، أما الأراضي التي أخذتها من بلاد تراقيه فمساحتها 32700 كيلومتر مربع، وعدد أهلها 670000 فتكون مساحة أرضها اليوم نحو 129000 كيلومتر مربع، وعدد أهلها 5050000 نفس، فهي إذن لا تزال رابحة.
وكانت مساحة أراضي اليونان 64600 كيلومتر مربع، وعدد أهلها نحو 2800000، أما الأراضي التي ضمتها إليها بعد الحربين فتبلغ مساحتها نحو 56000 كيلومتر مربع، وعدد أهلها نحو 1900000 نفس، فيكون مجموع أهلها الآن نحو 4700000.
وكانت مساحة أراضي صربيا قبل الحربين 48900 كيلومتر مربع، وعدد أهلها 2950000 نفس، فصارت مساحتها بعد الأراضي التي غنمتها 84400 كيلومتر مربع، وعدد أهلها 4240000 نفس.
أما رومانيا فقد كانت مساحتها قبل الحربين 131000 كيلومتر مربع، وعدد أهلها 7262000 نفس، وأما الأراضي التي اغتصبتها من بلغاريا فتبلغ مساحتها 7500 كيلومتر مربع، وعدد أهلها نحو 280000 نفس، وعليه يكون مجموع مساحة رومانيا بعد الحربين 138800 كيلومتر مربع، ومجموع أهلها 7550000 نفس.
على أنه يجدر بنا أن نكرر هنا أن هذا الإحصاء تقريبي، ولكنه قريب جدا من الحقيقة ، ثم يجدر بالمطالع أن يسقط من أعداد الأهالي ألوفا كثيرة ذهبت فريسة الجوع، أو سالت نفوسها على ظبى السيوف وتحت نيران المدافع.
ومما لا ريب فيه أن ربح اليونان كان أعظم من سواه بالنسبة إلى عديدهم وخسارتهم، ولا سيما أنهم سينالون عدة جزر لها شأن حربي كبير وأخصها جزيرة كريت المشتملة على خليج الصودا الشهير، وسيكون لتلك المواقع إذا بقيت لليونان شأن يحمل الدول التي يهمها البحر المتوسط على خطبة مودتهم، وأضف إلى هذا كله الأرباح الاقتصادية، فإن الموسيو فنزيلوس رئيس وزارتهم يرى دخل الولايات المكتسبة سيكون في العام المقبل نحو 4171000 جنيه عثماني.
أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة
خطر لنا عند الفراغ من تأليف هذا الكتاب، أن نستطلع آراء نخبة من أكابر العلماء وفحول الكتاب، عن أفضل وسيلة تنهض بالسلطنة بعد كبوتها وتزيد في يقظة الأمة بعد غفوتها، فسألنا من أسعدنا الحظ بالوصول إليه قبيل صدور هذا المؤلف أن يصوغ لنا فكرته الأساسية في أسطر قليلة، فتكرموا بتلبية الطلب، أدامهم الله زهرا نضيرا في بستان العلم والأدب، وإليك آراءهم مرتبة حسب تواريخ ورودها. (1) رأي سياسي شهير
كتب إلي عالم كبير لم يشأ أن ينشر اسمه قال: «إن الأمر عويص جدا لأن في السلطنة فواعل كثيرة متناقضة وبعضها خفي، ولقد سمعت مرة المرحوم نوبار باشا رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إن لورد دربي ألقى عليه سؤالا مثل سؤالك وطلب منه أن يرتئي رأيا أو يضع مشروعا نافعا للسلطنة العثمانية، قال نوبار: فأخذت القلم وكتبت: «أن ينشأ في السلطنة محكمة مختلطة مستقلة ترفع إليها الشكاوى من المأمورين ، فتحاكمهم وتنفذ الحكومة ما تحكم به عليهم.»
فما أدق هذا الانتقاد، وما أرق هذا التهكم ...! (2) رأي القانوني الكبير، والعالم الاجتماعي الشهير سعادة فتحي باشا زغلول
أقرئك السلام وبعد، فسؤلك هام ومطلبك أهم.
الدولة العلية رعاك الله مجموع يحتاج في سياسته وإنهاضه إلى حكمة عالية وبصر بالأمور كبير، فإذا غلب الرأي الهوى وبطل التفاضل بين العناصر وأقيم وزن العدل وتساوى الناس جميعا في الحقوق وفي الواجبات، وإذا خلصت نيات أهل الزعامة وصدقت عزائم ذوي الرئاسة ففضلوا مصالح الأمة على المنافع الفردية، وجد الكل في طلب الإصلاح فنشروا التعليم وعنوا بالأمور الاقتصادية، فاستبقوا لأنفسهم مرافق البلاد وكنوزها وذللوا السبل وأمنوا السابلة وقربوا المسافات، ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا، وإذا أحكموا نظام الجند وهذبوه لا شك أن الدولة ناهضة من سقطتها، وأن الأمة ناشطة من عقالها، وأنها نائلة من الحضارة والمناعة مكانا عليا. (3) رأي العالم العامل الشهير، والصحافي المحنك الخبير الدكتور فارس أفندي نمر صاحب المقتطف والمقطم
حضرة الفاضل، إن كان المقصود من «السلطنة» في سؤالكم «الحكومة والأمة» في حالتهما الحاضرة؛ أي الدستورية، فوسائط إنهاضها متعددة منها مادي ومنها أدبي، ولكل واسطة منها قوة لا يستغنى عنها وخصوصا وسائط العلم والمال، على أن في الحكومة وفي الأمة رجالا من ذوي العلم وذوي المال، فلا يعوزهم إدراك ولا يسار، ولكن الذي ينقصنا هو تربية الحكومة على الأخلاق القويمة والصفات المنظمة والمرقية لشئون الهيئة الاجتماعية حتى نستطيع الاتحاد والتعاون على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالنا، ونحن جماعات كما يستطيع كثيرون منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم وهم أفراد. (4) رأي شيخ الأدباء، وكبير الشعراء سعادة إسماعيل صبري باشا
التوظيف:
إذا أراد التركي أن يستبقي ما بقي له من ملكه فلا يفرقن بين التركي وسائر الأجناس التي تتألف منها الدولة العثمانية، بل يجب عليه أن يفضل في التوظيف في كل بلد أهل الكفاءة من بنيها، فلا يوظف التركي في بلد غير بلده الأصلي إلا إذا كان يتعسر وجود أكفاء مثله من أبناء ذاك البلد، فتتعود جميع العناصر التي تتألف منها الدولة حب الراية التي تظلهم والأراضي التي تقلهم، فيقوم عندئذ وطن عثماني حقيقي يحبونه ويذبون عنه في اليوم العصيب.
التعليم:
التعليم من أوجب الواجبات لنهوض الشعب العثماني مما هو فيه، ولا يراد بالتعليم أن يصبح جميع الأفراد من العلماء بل يكفي أن يكون هناك عدد وافر من المتعلمين يسيرون بالدولة إلى مقام الشعوب الراقية، وأن يتعلم باقي أفراد الأمة ما يمكنهم من فهم قادتهم وأرباب الرأي فيهم.
العدل:
العدل بسيط في معناه صعب في تنفيذه بين الأفراد، وأكبر آفاته الغرض والرشوة، فإذا أرادت الدولة أن يسود فيها العدل فلتصرف كل جهدها في ملاشاة هاتين الآفتين، ولتحذر من أن تستعين بالأجانب في سن قوانينها وتوزيع العدل بين رعاياها، ومن أن تطلب غير أبناء بلادها لإقامة العدل وسن القوانين، وإلا تعذر عليها أن تجد عدلا وطنيا متفقا مع أخلاق أمتها وعاداتها. وما يقال في العدل يقال أيضا في سائر فروع الإدارة، وإذا كانت الحكومة لا تجد مندوحة عن الاستعانة بالأجانب الأكفاء فلا تطلبهم من حكوماتهم، بل تكلفهم وضع التقارير بعد اختبارهم لحالة البلاد، ثم تأخذ النافع والموافق لعادات الأهالي من تلك التقارير دون أن تجعل أصحابها موظفين رسميين. (5) رأي العالم الاجتماعي الشهير الدكتور شبلي الشميل
الدولة لا تنهض إلا بثلاثة: رجال ومال ووقت، والرجال بالعلم والتربية، والمال بالموارد، فهل ذلك متوفر؟ ولا سيما الوقت وحالنا في الاجتماع كما هي من قلة التكافؤ مع ما هو عليه اليوم من شدة التنازع؟ والجواب على ذلك يدل على المصير. (6) رأي الأستاذ الفاضل الشهير أبو شادي بك رئيس تحرير جريدة المؤيد
رأيي أن الدولة لا تنهض من سقطتها ولا تعود إلى سابق مجدها إلا إذا توفر لديها ما يأتي:
أولا:
تعميم التعليم في أنحاء البلاد وجعل الأولي منه إجباريا.
ثانيا:
إزالة التنافر بين العناصر، ولا يكون ذلك إلا بمنح كل ولاية استقلالا إداريا داخليا حتى يعلم كل فرد أن اجتهاده منصرف إلى بلده وإلى نفسه.
ثالثا:
إيجاد الأكفاء من الموظفين؛ إذ بغير شك أن قوانين الدولة عادلة ولكن تنفيذها معدوم.
رابعا:
إصلاح جباية الضرائب بحيث تكون الضرائب متسلطة على الأعيان لا على الحاصلات وتنظيم أوقات تحصيلها.
خامسا:
نزع السياسة من أفكار الجيش.
سادسا:
تعميم اللغة العربية في جميع الولايات وبين المسلمين بنوع أخص؛ وذلك لأن مظهر الدولة إسلامي والقرآن عربي. (7) رأي العالم الإسلامي الكبير السيد رشيد رضا صاحب المنار
الدولة كائن حي يحفظ وجودها بالسنة التي تحفظ بها حياة سائر الأحياء، وهي سلامة مزاجها في نفسها ووقايته مما يعدو عليه من الخارج.
فأما سلامة مزاج دولتنا العثمانية في نفسه فإنما يكون بإقامة الشرع العادل في القضية، والمساواة في الحقوق بين الرعية، وبناء إدارة المملكة على أساس اللامركزية، وجعل السلطة العليا شق الأبلمة بين العنصرين الكبيرين فيها - العرب والترك - بحيث يكونان منها كالعنصرين اللذين يتكون منهما الماء والهواء، وأما وقايتها مما يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوط بدول أوروبة الكبرى، فهن أصحاب المطامع فيها ومطامعهن متعارضة، وما دامت كذلك كانت الدولة آمنة على نفسها من اقتسامهن إياها بالقوة، فيجب أن تتقي استيلاءهن على البلاد بقوة المال والسياسة أي بالفتح السلمي، وأن تقوي مزاج الأمة بالمال والعلم وإعدادها للدفاع عن نفسها، فإذا هي فرطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأوروبيين وبقيت على تبذيرها وتوهمها أنها تستطيع أن تحمي نفسها منهن بقوتي الدولة البرية والبحرية الرسميتين، ولم تجعل كل اعتمادها على الأمة فالخطر عليها من الفتح السلمي أقرب وأقوى من خطر الفتح الحربي. (8) رأي الكاتب النحرير الشهير داود أفندي بركات رئيس تحرير جريدة الأهرام
رأيي في إصلاح السلطنة العثمانية أن تقسم مناطق، وأن تكون كل منطقة مؤلفة من العناصر المتفقة في التقاليد والعادات واللغة، فتعطى الاستقلال الإداري تبت من أموره كل ما لا يتناول منطقة أخرى أو أكثر من منطقة، ويعين لكل منطقة مندوب سام يعاونه مجلس إدارة يؤلف من الفنيين في الأمور المالية والإدارية والقضائية والعسكرية، ويؤخذ للمركز العام جزء معين من دخل كل منطقة، وتلغى الضرائب العشرية، وتقرر ضرائب ثابتة معينة على الأملاك، وتوضع قوانين للشركات على اختلاف أنواعها، ويوحد القضاء فلا يكون من اختصاص رجال الدين إلا الأمور الشخصية، فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة.
ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة. (9) رأي العالم المؤرخ جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال
العلة الحقيقية في حال الدولة العثمانية اليوم فقر المملكة واضطراب الحكومة، والحكومة الدستورية في أيدي الأمة، والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق، عريقة في الانقسام بسبب ما توالى عليها من أعصر الفساد.
أما المملكة ونعني الولايات الباقية منها في آسيا، فليس فقرها أصليا فيها وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها، فالعراق كانت وحدها مملكة البابليين والآشوريين، وبها اعتز العباسيون في إبان دولتهم، وكانت جبايتها ثلث جباية مملكتهم الواسعة الممتدة من حدود الهند إلى شواطئ الأتلانتيكي، وسوريا كانت مؤلفة من عدة دول ثم اعتز بها السلوقيون أجيالا وكذلك آسيا الصغرى، وظلت مدة هي أعظم أركان الدولة العثمانية.
فهذه الولايات إذا أحسنت سياستها وإدارتها صارت غنية، وهذا لا يتم والأمة كما تقدم، فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولة العثمانية إنما هي ترقية الشعب وهو لا يقدر أن يرقي نفسه رغم استعداده الطبيعي للرقي، وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل إنما يشترط أن يكون مستبدا وهذا لا يتيسر والحكومة دستورية.
فلا بد من الاستعانة بالأجانب وأسلم الطرق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثق بصداقتها، فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها من مطامع الدول الأخرى، بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار، فإذا وفقت إلى ذلك في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها. (10) رأي الشاعر الكاتب الطائر الصيت خليل أفندي مطران
أخي؛ سألتني عما أرتئيه لإصلاح الدولة العلية، فالذي أرتئيه إنما هو أمر واحد يلخص في كلمة واحدة: التعليم.
منذ عشرين سنة أرقب حوادث الدولة وأستقري ما يجري فيها، فالذي بدا لي من شأنها في كل حال: أن الحكام كانوا لا يهتمون بإصلاحها اعتمادا منهم على جهل الأمة، وعلى تسليمها لهم بسبب ذلك الجهل، وأن المحكومين كانوا فاقدي الحيلة في التماس ما هو خير لهم وكانوا صابرين على مضض، وربما أومض لهم بارق الإصلاح في إحدى المصادفات فتألموا منه تألمهم من الرمد المفاجئ.
فهؤلاء المحكومون ما لم يتعلموا لا يقيمون لأنفسهم وزنا ولا يفرقون بين حق لهم وحق عليهم، كما أن أولئك الحكام أيا كان جنسهم ودينهم يلبثون أبد الدهر متنكرين لأمتهم جانين عليها، إلا حيث تضطرهم إلى الإصلاح اضطرارا وتأخذ منهم قسرا ما يأبونه عليها اختيارا.
وكل ذلك لا يتم شيء منه إلا بالتعليم. (11) رأي الكاتب الشهير محمد أفندي مسعود
حياة الدولة في مستقبلها، ومستقبلها في حكومة كفيلة باسترجاع مجدها المضيع، وهذه الحكومة لا توجد إلا متى عرف رجالها قدر أنفسهم، فوضعوها فوق عبث الأحزاب. (12) رأي الصحافي الخبير والكاتب الألمعي سامي أفندي قصيري المحرر في المقطم
لما كانت الدولة العثمانية فيما مضى دولة استبدادية قائمة على حكومة الفرد كانت تقوى بقوة ذلك الفرد وتضعف بضعفه وتسعد بسعده وتشقى بشقائه، أما الآن وقد أعلن فيها الحكم الدستوري مراعاة لأحوال الزمان والمكان وتبدلت حكومة الفرد بحكومة الأمة، فصلاح الحكومة قائم بصلاح الأمة. ولا يكون ذلك في رأيي إلا بنشر التعليم الحر بين طبقاتها والفصل بين دنياها ودينها، والتأليف بين عناصرها وطوائفها حتى تصبح جميعها كتلة واحدة يحركها من أعلاها إلى أسفلها عامل واحد هو عامل الوطنية، وتجمعها من أقصاها إلى أدناها جامعة واحدة هي الجامعة العثمانية. (13) رأي الكاتب الشهير فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة
إن سنة التطور
evolution
التي تحكم العالم المادي والعالم الاجتماعي أمر لا مفر منه، فما السبيل إلى جعل التطور في السلطنة لها لا عليها؟ لا أظن أن صديقي المؤلف يكلفني الجواب على هذا السؤال في بضعة أسطر، على أن كل ما يقوله الكاتب ويفكر فيه المفكر في هذا الشأن أمر معلوم، فما تنقصنا الأقوال ولكن تنقصنا الأفعال، فقد يقال: «العدل والسواء وتوسيع سلطة الولايات وقطع دابر الرشوة بحسن اختيار الموظفين وشدة مراقبتهم وإصلاح المحاكم وتنظيم البوليس وتقويته، وإنشاء الطرق الحديدية واستثمار الأرض ظهرها وبطنها (الزراعة والمعادن)، وإحياء الصناعة والتجارة والمستشارون الأجانب وتنظيف الدوائر العليا والدنيا ... إلخ إلخ» وكلها أشياء جميلة، ولكني أرى أمرا آخر مقدما عليها وإن وجد المال وقوة الإرادة لإنفاذها، وهو ما أسميه «الانسلاخ» أعني به انسلاخ الرجل الشرقي القديم - وكلنا ذلك الرجل - من جلده القديم وروحه القديمة واتخاذه جلدا جديدا وروحا جديدة، ومعنى هذا بكلام مجرد من الزخرف والخيال تغيير السياسة التي حكمت بها السلطنة وجعلها بوزيتيفيست
positiviste
وهنا المشكلة العظمى ، فإنه يجب بناء أعمال الحكومة على هذه السياسة من غير أن يصدم هذا البناء معتقدات العناصر المختلفة وأوهامها؛ أي سوق التطور في طريق هذه السياسة من غير أن يؤدي إلى كسر في أعضائها، ورأس سياسة الوزيتيفست أن يفصل الدين عن السياسة الدنيوية عند جميع العناصر العثمانية، وبعد هذا الفصل يمكن الالتجاء إلى موحدة الأمة وبانية أساس مستقبلها أعني بها المدرسة الابتدائية الإلزامية - واحدة لجميع أبناء الأمة، وبمعزل عن المذاهب الدينية لتوحيد أغراض الأمة وأهوائها ما أمكن التوحيد، وجعلها أمة واحدة لا أمما متخلفة كما هي الآن. (14) رأي الأستاذ القانوني الشهير عزيز خانكي بك
يجب أن تبدأ الدولة بإعطاء ولاياتها الاستقلال الذاتي الداخلي ثم تجعل الصلة بينها وبين ولاياتها كالصلة بين ممالك ألمانيا والإمبراطورية، أو كالصلة بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية، ثم تتعاون جميع الولايات على تكوين قوة الدولة البرية والبحرية، بمعنى أن كل ولاية تشترك بنسبة ثروتها.
هذا من جهة سياسة الدولة من حيث مجموعها، أما رقي الولايات فلا أمل فيه إلا بإنشاء المحاكم، ووضع القوانين النظامية على الطريقة العصرية، وإقامة المدارس، ومد السكك الحديدية، وتوطيد أركان الأمن العام، وإجراء الإصلاحات العامة اللازمة لكل بلد، مثل إنشاء السكك الزراعية وبناء القناطر للري، وتسهيل المواصلات البرية والبحرية، وتعميم بعض النظامات الغربية مثل التلغرافات والتلفونات وتنظيم البريد داخل الولايات، وتشجيع الأهالي على إنشاء الشركات للاستئثار بخيرات هذه الأقطار التي يقال إنها كلها كنوز لا تنفد. (15) رأي الأستاذ الفاضل الشهير إسكندر بك عمون
أصلح نظام للدولة على ما بين العناصر والولايات العثمانية من التباين في الحاجات، والأخلاق ، والعادات، والتقاليد، وعلى ما بين أهليها من التفاوت في الحضارة، أن تجعل ممالك أو ولايات مستقلة في جميع شئونها الخاصة استقلالا تاما حتى في قوانينها، وفي شكل حكومتها مع ارتباطها جميعا في الشئون العمومية على نحو نظام الولايات المتحدة الأميركانية أو الممالك الجرمانية، فتسمى حينئذ الولايات أو الممالك العثمانية المتحدة.
ولهذا النظام مزية على كل نظام آخر وهي: أنه النظام الوحيد الذي يمكنه أن يجمع بين الولايات والإمارات العربية في جزيرة العرب وسائر الولايات الأخرى الممتازة وغير الممتازة. (16) رأي الكاتب العالم نجيب بك البستاني أحد مؤلفي وأصحاب دائرة المعارف البستانية
أهم ما يجب لإحياء أمر الدولة العثمانية وإعلاء شأنها إنما هو العدل الصحيح في الرعية، وإصلاح المالية؛ فهما أساس الملك وبهما قوام الدولة: ذلك بأن تشترك جميع عناصر المملكة في الأمر على نسبة كل منها إلى المجموع، فيعهد في الوظائف إلى ذوي الكفاءة وتؤدى الرواتب في مواقيتها، وتوضع المكوس على ما تطيق الرعية، وتستثمر المعادن، وتقام أعمال الري والطرق الحديدية، وغيرها على السواء في جميع أقطار البلاد، وتستعمل الدولة في الإصلاح وتعميم التعليم العلماء الراسخين من الشرقيين والغربيين، ويكون الانتخاب على ما يضمن لكل ملة العدد النسبي من الأعيان والنواب دون محاباة أو تفاضل، فمتى حصل ذلك توفرت الأموال واتحدت كلمة الجيش وساد الأمن، واستوثقت الرعية من الوازع وانتظمت الشورى وحصلت الألفة بين الأمم المختلفة، وانصرف هم القائمين بالأمر إلى استصلاح الزراعة وترقية الصناعة والعناية بأسباب العمران ونبذوا الشقاق، وصدقوا في حب الوطن وتعاونوا على الأمر مخلصين منزهين عن المطامع الشخصية بما يزيد هيبة الحكومة ويؤيد سلطانها.
يتم ذلك بإذن الله إذا امتنعت الدول عن تعكير الأمر على العثمانيين، وجرى هؤلاء نحو ما تقدم ربع قرن أو ما يزيد لتنال الناشئة، وعليها المعول في الاحتفاظ بعمل الإصلاح، من العلم والمدنية والمران على الأعمال ما يضمن للدولة كيانها وعظمتها وللعثمانيين اتحادهم واستقلالهم. (17) رأي الكاتب البليغ الأستاذ أمين أفندي البستاني
سألتني رأيي في الدولة ومصيرها: جاز بالدولة في هذا العام عبرة كبرى إذا لم تعتبر بها نالها ما هو شر منها، وللدولة الآن بقية ملك هو أبعد مدى وأمنع حمى وأطيب بقعة من جل الممالك الأوروبية، فهل لها أن تعدل في الباقي من هذا الملك وتمنعه حادثات الدهر؟ الله أعلم. على أن الدولة لا تجهل أشراط الملك على المالك وما هو مبق له وما هو ذاهب به، حتى لقد أصبحت الدلالة على وجوه الإصلاح المنشود من مبتذلات الكلام وملوكات الأفواه والأقلام، فهل للدولة أن تعمل بما علمها الدهر على حين لم يبق لها من ناصر إلا ما تسعى إليه من ترميم هذا الملك العزيز، وإلا فقد قضى الله بما لا دافع له ولا مانع منه، وحسبكم الإشارة يا ألباء هذه الدولة، فاعدلوا بين ضروب الرعية؛ لأن دولتكم مستمدة من جملتها لا من أبعاضها وقدموا الكفؤ على غيره مهما كانت نبعته ومنبت أسلته، واستعملوا الأجنبي في تدبير ما أنتم ضعاف عن تدبيره، واسلكوا القصد في عملكم من غير سرف ولا تفريط، وخذوا بالجديد الصالح واخلعوا القديم المبتذل، ثم أعدوا للملك عدته من رجال ومال، والله الواقي في هذا الباقي. (18) رأي أستاذنا الاجتماعي الكبير أحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة
وصل في آخر ساعة لغياب حضرته عن القاهرة
راجعت نفسي فوجدتني غير حاصل على المقدمات التفصيلية اللازمة لتكوين رأي صحيح في الوسائل العملية لإصلاح الدولة العلية، وإن الذين يستطيعون معرفة هذه الوسائل هم رجال الدولة المشتغلون بسياستها والواقفون بأنفسهم على ما أجهله من المقدمات الضرورية لتكوين رأي صحيح، غير أن لرقي الأمم وهبوطها قوانين قد تكفي لتكوين رأي إجمالي ونظري في الإصلاح.
مهما كانت الأسباب التي حملت أوروبا على اضطهاد الدولة العلية، فلا شك أن وقوعها في الضعف والهرم هو أهم تلك الأسباب، وليس يوجد مانع طبيعي يمنع الدولة بعد أن مسها الهرم من استعادة شبابها، بالأخذ بالتعاليم الحديثة من حيث الحكم والتربية والتعليم وتدبير حالها الاقتصادية على وجه يكفل لها النظام والقوة، ولست أجد في هذا الحاضر ما يرجح كفة توقع الشر في المستقبل على كفة انتظار الخير، فإذا قام العنصر الحاكم باحترام أطماع العناصر المحكومة والنهضة بالأمة عن الجمود إلى التسلح بجميع الأسلحة الحديثة إن في التربية وإن في الاقتصاد؛ أمكن الحكم بهذه الدلائل على الإصلاح المنتظر. نعم إن للظروف الخارجية دخلا في إصلاح الدولة، ولكن العثمانيين هم المسئولون وحدهم عن إجراء هذا الإصلاح، عليهم عمل ما في قدرتهم والله يتولى أمر ما لا يقدرون عليه.
ملحوظات
رأيت بعد التحقيق ومراقبة الحقائق مدة طبع هذا الكتاب أن أنشر للمطالع هنا الملحوظات الآتية: (1)
حمل مراسلا التيمس والتان وغيرهما حملات شديدة على الموسيو وجنر مراسل الريشبوخت الذي اعتمدنا عليه في مواضع قليلة من هذا الكتاب، وسبب تلك الحملات أن وجنر تفوق على جميع المراسلين في إرسال الأخبار إلى جريدته حتى اضطر أعظم جرائد العالم إلى النقل عنها، ثم حدث لسوء طالعه أنه أخذ عن جريدة «مير» البلغارية الشبيهة بالرسمية خبر معركة غير صحيح في أواخر الحرب الأولى، فتوسع في وصف تلك المعركة الوهمية، فهب المراسلون يرمونه بصواعق غضبهم من كل جهة، وكانوا على حق.
إلا أن هذا الخطأ لا يفيد أن كل ما قاله الرجل مكذوب، فهو لا يزال ظافرا بثقة جريدته على الرغم من هفوته، بدليل أنها أوفدته إلى بلغاريا عند نشوب الحرب البلقانية الثانية. ومعروف أن الريشبوخت هي الجريدة المقربة إلى ولي عهد النمسا وإلى كبار الجيش النمساوي، فلو كان وجنر أفاكا بطبعه كما قال بعض خصومه لما بقيت له منزلة عند تلك الجريدة الشهيرة.
وهناك أمر آخر معروف، هو أن وجنر كان مقربا إلى الموسيو جيشوف الذي كان رئيسا لوزارة البلغار أيام الحرب الأولى، وأقوى دليل على ذلك أن الموسيو جيشوف نفسه كتب رسالة بخطه إلى وجنر، فنشرها في صدر مؤلفه كما رأى مطالع هذا الكتاب، ثم إن وجنر نفسه يلمع في كتابه إلى أن أخباره مأخوذة من التقارير الرسمية التي تلقتها حكومة البلغار، ويقول: إن من يعرف فحوى تلك التقارير يمكنه أن يحيط بما يجري في كل جهة، خلافا للمراسل الذي يقيم في جهة معينة من مواقع القتال فإنه لا يرى إلا جانبا مما يحدث.
ومع ذاك كله فإن القليل الذي اعتمدت فيه على رواية وجنر لم يدحضه مراسل بل أرى بالعكس أن الروايات الأخرى تؤيده، فلو كان مكذوبا ملفقا لفضحه المراسلون كما فضحوه بنقد الوصف الوهمي الذي نشره بعد معركة لوله بورغاز. (2)
صدر هذا الكتاب قبل أن تصدر جميع الدول البلقانية إحصاءات رسمية دقيقة لخسائرها ، فاتبعنا في تقدير الخسائر أفضل طريقة تقربنا من الحقيقة وهي ذكر التقدير الذي أجمع عليه معظم المراسلين الحربيين الموثوق بأقوالهم، ومما يدل على حسن تلك الطريقة أن حكومة البلغار أصدرت منذ أيام إحصاء رسميا، فإذا هو لا يختلف عما نشرناه إلا قليلا.
وخلاصته أن قتلاها والمفقودين من جنودها بلغوا في الحربين 52716 رجلا وعدد جرحاها 104536؛ أي 157242 رجلا بين قتيل وجريح. (3)
قال مراسل التيمس البلقاني: إن دولة اليونان كانت أول من حرك السواكن لتأسيس الاتحاد البلقاني. (4)
رأيت في الترجمة الفرنساوية لكتاب محمود مختار باشا أنه أهدى كتابه إلى الآلاي الألماني الذي تعلم تحت رايته لا إلى شكري باشا بطل أدرنه وسائر الأبطال العثمانيين، كما نقلت عن بعض الجرائد الأوروبية، ثم رأيت فيها أنه لم يهدد الدولة العلية بمثل ما أصاب بولونيا كما رأى المطالع عند الكلام على آرائه في الفشل العثماني، فهل اختلقت تلك الجرائد هاتين العبارتين؟ (5)
ذكرنا في المقدمة أن المساحة الباقية للدولة العلية هي مليون و156 ألف ميل مربع، والصواب أن هذه المساحة هي مساحة الأملاك العثمانية قبل الحرب ما عدا البلاد الممتازة، فإذا حذفنا منها مساحة الولايات التي خسرناها بقيت مساحة الباقي لها في آسيا وأوروبا أكبر من مساحات فرنسا وألمانيا وإنكلترا وإيطاليا وإسبانيا مجتمعة. (6)
كان الجيش العثماني قبيل الحرب 14 فيلقا، فلما قامت الحرب أرادت وزارة الحربية أن تجعله 24 فيلقا، فلم تفلح لقلة الضباط والجنود ولشدة الخلل. (7)
أسعد باشا الذي أسره اليونان في يانيه حيث كان قائدا لحاميتها، هو غير أسعد باشا الألباني الذي كان في أشقودره، والذي يعاكس الآن الحكومة الألبانية الوقتية . (8)
قال السير إدوارد غراي وزير خارجية إنكلترا ما يفيد أن سلوك جيش اليونان كان مدة الحرب أفضل من سلوك بقية الجيوش البلقانية.
خريطة قدمها سليل بيت الفضل جبرائيل بك نقلا صاحب الأهرام لصديقه مؤلف هذا الكتاب، وهي توضح للمطالع مساحة كل ولاية من الولايات التي خسرتها الدولة العلية، وعدد الذين خرجوا من رعويتها وهم 4956400 نسمة على التقريب، قلنا «على التقريب»؛ لأن الحديد والنار فتكا بألوف كثيرة، فلا يمكن الحصول على إحصاء دقيق إلا بعد مدة.أما أدرنه وسائر تراقيه فالهلال العثماني لا يزال طالعا عليهما حتى الساعة، والمرجو أن يبقى هناك إلى ما شاء الله.
خريطة مفصلة لتراقيه.
अज्ञात पृष्ठ