وكان في هذا الحين ملك قدير على عرش سوريا وفينيقية اسمه أنتيوخوس، وكانت عاصمة ملكه دمشق، وقد عرف بالصولة والغنى الوفير، وصدف في ذلك الوقت اشتباكه بمشاكل كثيرة مع الدولة الرومانية التي توسعت في فتوحاتها حتى بلغت تخوم مملكته من ناحية الشرق، وكاد الأمر بينهما يؤدي إلى حرب طاحنة بسبب ذلك، فاهتبل أعداء هنيبال في قرطجنة فرصة وجود هذه المشاكل بينهما، وأخبروا المجلس الروماني بأن هنيبال يدبر المكائد مع أنتيوخوس بقصد توحيد جيوش سوريا وقرطجنة ضد الجيش الروماني، وإضرام نيران تندلع ألسنة لهيبها في العالم مرة أخرى.
فعول مجلس رومية عندما اتصلت به هذه الأنباء على إرسال بعثة إلى الحكومة القرطجنية تطالبها باسم رومية بوجوب عزل هنيبال من وظيفته، وتسليمه أسيرا للرومانيين؛ لكي يحاكموه على هذه التهمة، ووصلت تلك البعثة إلى قرطجنة، ولكنها كتمت الأمر الذي قدمت من أجله احتسابا لما يقدم عليه هنيبال من ترك المدينة، والفرار إلى حيث يكون في مأمن من شرهم إذا هو درى بما هم آتون لأجله، فينجو بنفسه قبل أن يقر رأي المجلس القرطجني على تسليم هنيبال إلى الرومانيين.
على أن هنيبال كان أوفر منهم فطنة وأكثر حذرا واحتسابا، فهو قد سعى بكل وسيلة لديه للاطلاع على غرضهم من المجيء إلى قرطجنة، وعزم في الحال على النجاة بنفسه علما منه بأن أعداءه في قرطجنة كثار العدد، وأن كرههم له يتفاقم يوما عن يوم؛ ولهذا لم يجسر على ترك المسألة للأقدار، وانتظار نتيجة قرار مجلس وطنه في شأنه، بل صمم على الفرار بلا أقل تردد.
وكانت له قلعة أو برج صغير على الشاطئ يبعد عن قرطجنة مائة وخمسين ميلا إلى الجنوب، فوجه على الفور رسولا أمينا إلى هناك؛ لكي يهيئ له سفينة تكون على استعداد لركوبه البحر، ودبر جماعة من الفرسان تقف على بوابات المدينة عند حلول الظلام، وفي سحابة ذلك اليوم ظهر هنيبال في الشوارع العمومية بكل حرية وبقلة مبالاة؛ كأنه غير عالم بشيء يزعجه قاصدا بذلك إقناع سفراء رومية الذين كانوا يراقبونه بأنه غير مفكر في الهرب.
وعند المساء اتجه متمهلا في سيره نحو منزله، وهناك شرع في إعداد كل ما يلزم لسفره، ولما خيم الظلام ذهب إلى بوابة المدينة راكبا الجواد الذي أعد له، وأسرع في الفرار قاطعا الوهاد والبطاح يريد قلعته، وهناك وجد السفينة التي أمر بإعدادها له، فركبها في الحال وأطلق شراعها للريح فأبعدته عن الشاطئ مسافة غير يسيرة.
ويوجد على مسافة من الشاطئ جزيرة صغيرة اسمها سرسينيا، فوصلها هنيبال في ذات اليوم الذي غادر فيه قلعته، وكان لتلك الجزيرة مرفأ تأوي إليه السفن التجارية، فبحث بين السفن ووجد عددا بينها من السفن الفينيقية، وكان البعض منها ذاهبا إلى قرطجنة، فأحدث وصول هنيبال إلى تلك الجزيرة ضجة كبرى واستغرب القوم أمر مجيئه إلى هناك؛ فلكي يزيل انذهالهم قال لهم إنه موفد من الحكومة القرطجنية إلى حكومة صور.
وخشي هنيبال أن بعض تلك السفن التي كانت موشكة أن تمخر البحر إلى قرطجنة تحمل إلى حكومتها خبر وجوده في جزيرة سرسينيا؛ فلكي يحول دون ذلك دبر بدهائه الخارق الخطة التالية؛ وهي أنه أرسل إلى ربابنة تلك السفن دعوة رسمية إلى حفلة يريد القيام بها، وسألهم في الوقت نفسه أن يعيره كل واحد منهم شراع سفينته الأكبر؛ لكي يؤلف منها جميعها خيمة تسع الضيوف، وتقيهم البلل من ندى الليل.
فقبل الربابنة دعوة هنيبال فرحين تائقين إلى رؤية ما أعده لهم وأمروا رجالهم بإنزال الشرع الكبرى، ومعلوم أن نزع تلك الشرع عن السفن جعلها غير قادرة على الحراك، وهكذا اجتمع جمهور المدعوين تحت تلك الخيمة العظيمة المركبة من شرع السفن والمضروبة على شاطئ البحر، فلقيهم هنيبال مرحبا وبقي معهم ردحا من الوقت، ثم انسل في غضون الليل عندما كان المدعوين متمتعين بما أعده لهم لاهين بمعاقرة الخمرة، وركب سفينته وأقلع مبحرا.
ولم يستيقظ ربابنة السفن من نومهم الثقيل المتسبب عن تماديهم في شرب الخمور، ولا تمكنوا من إعادة شرع سفنهم إلى الأدقال إلا بعد أن كان هنيبال على بعد شاسع عنهم على طريقه إلى سوريا، وفي ذلك اليوم نفسه اضطربت أرجاء قرطجنة واشتد تحمس الناس فيها واستغرابهم عندما انتشرت الأخبار في سائر أنحائها عن اختفاء هنيبال، وازدحم الناس أمام منزله سائلين مستفهمين، ولكن بدون جدوى، وتواترت الإشاعات وتعددت الأقاويل وتضاربت الآراء في أمر اختفائه، ولكنها كانت متناقضة ومما لا يقبله العقل، فزادت في تعجب الناس واستنكارهم الأمر.
واستمرت هذه الضجة في قرطجنة إلى يوم وصلتها السفن من جزيرة سرسينيا، فوقف الأهلون منها على الحقيقة، ولكن هنيبال كان عندئذ قد بعد كثيرا وأصبح في حرز حريز عن أن تصل إليه أيدي أعدائه، ومع أنه كان فرحا بخلاصه وفوزه على الكائدين فإن قلبه كان غاصا بالغصات الناجمة عن الحالة التي وصلته إليها صروف الزمن، ووصل صور فنزل إلى البر سالما وقوبل بمزيد التجلة، وبعد أيام معدودة أخذ يتجول في الداخلية ذاهبا في وهادها وبطاحها على غير هدى إلى أن وصل إلى أفسس، حيث وجد أنتيوخوس ملك سوريا.
अज्ञात पृष्ठ