وكان الوقت في أواخر الصيف بحيث إنه لم يتوقع وصول النجدات إليه في الحال؛ ولهذا السبب صمم هنيبال على اختيار مكان أسهل حصولا من رومية ليقضي فيه فصل الشتاء ، فمال إلى اختيار كابوي؛ وهي مدينة كبيرة وقوية تبعد عن رومية نحو مائة ميل إلى الجنوب الشرقي، وفي الواقع أن هنيبال قد استنبط فكرة الاحتفاظ بإيطاليا وجعل كابوي عاصمته تاركا رومية لوحدها؛ لكي تصير بطبيعة الظروف التي أوجدها في مصاف المدن الثانوية القليلة الأهمية.
ولعله كان تعبا من أهوال الحروب وأخطارها، وبما أنه قد نجا من الدمار المحتم قبل معركة كانيه العظيمة فقد قر رأيه على عدم الاندفاع والتعرض لأخطار جديدة، وشغلت هذه المسألة باله وقتا طويلا تردد فيه بين أن يسير إلى رومية، أو يحاول ابتناء عاصمة جديدة خاصة به في كابوي، وكانت هذه المسألة موضوع جدال كثير في أيامه وبحث لا آخر له بين رجال الحربية في كل عصر بعد تلك الأيام، ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا.
وسواء كان هنييال مخطئا أو مصيبا فقد صمم النية على اتخاذ كابوي عاصمة له، وترك رومية مؤقتا مطمئنة، وأرسل من فوره إلى قرطجنة في طلب النجدات، وكان رسوله إليها أحد قواده، واسمه ماغو، فأسرع هذا المسير قاصدا قرطجنة يحمل معه بشائر النصر، وأحمالا من الخواتم التي انتزعها القرطجنيون من أيدي قتلى الرومانيين في ساحة كانيه كما تقدم البيان، فكان لبشرى النصر في قرطجنة ضجة فرح عظيمة، وسر أصدقاء هنيبال ومريدوه كثيرا مما أوتيه من الظفر بالأعداء ووبخوا أعداءه، وطعنوا على الذين قاوموا تعيينه قائدا في بادئ الأمر للجيش في إسبانيا.
فاجتمع ماغو بمجلس الشيوخ القرطجني، وألقى عليه خطابا بليغا أخبرهم فيه عن المعارك العديدة التي خاض هنيبال غمراتها وعن الانتصارات التي أحرزها، وأنه قد لقي أعظم القواد عند الرومانيين وقهرهم جميعا وقتل في معاركه أكثر من مائتي ألف رجل، وأن إيطاليا أصبحت تحت رحمته ورهن إشارته، فجعل كابوي عاصمة له بعد أن سقطت رومية، ثم قال لهم: إن هنيبال في حاجة ماسة إلى الرجال والأموال والأقوات، وإنه لا يشك بأن القرطجنيين يوافونه من ذلك بما يعوزه بدون أقل تردد.
وبعد الفراغ من خطابه أتى بأكياس الخواتم إلى المجلس، وأفرغها على أرض القاعة دليلا على الانتصارات التي أعلن للمجلس أن هنيبال قد أحرزها، وكان ما فعله ماغو رسول هنيبال وافيا بالمراد من مهمته، لو أن أصدقاء هنيبال وقفوا عند هذا الحد الذي وصل إليه ماغو، لكنهم لم يرعووا ولا اتأدوا بل تطرفوا في سب أعدائه وشتمهم وتعييرهم، وخصوصا هانو الذي كما يذكر القراء كان في مقدمة مقاومي إرسال هنيبال إلى إسبانيا.
فالتفتوا إليه وسألوه عما يعتقده الآن في أمر مقاومته المصنعة لذلك البطل المقدام، فوقف هانو والتفت إليه كل أعضاء المجلس رغبة منهم في سماع ما يريد أن يقوله جوابا لسائليه، فتكلم بكل هدوء ورزانة كما يأتي: «كان في نيتي ألا أقول شيئا، بل أترك للمجلس حرية العمل بما طلبه منه ماغو لو لم أخاطب في ذلك شخصيا، فأنا الآن تحت هذه الظروف أقول: إني أعتقد اليوم بمثل ما اعتقدت في الماضي، وهو أننا قد اندفعنا في تيار حرب باهظة النفقات ولا فائدة ترجى منها، وأننا حسبما أرى لسنا أقرب إلى آخرها منا في الماضي بالرغم من الانتصارات التي نهلل لها ونطبل. يؤيد قولي بفساد هذه المزاعم ما أراه من غرائب التناقض فيما يدعيه هنيبال، وعدم ثباته على قول في مطالبه وادعاءاته.
يقول إنه قد قهر أعداءه جميعا ومع ذلك فهو يسألنا أن نمده بالجنود، وأنه قد ذلل إيطاليا - أخصب بلدان العالم - وأخضعها وسيطر عليها من عاصمته كابوي، ومع ذلك فهو يطلب منا أن نرسل إليه الحنطة، وأرسل إلينا أكياسا عديدة من الخواتم الذهبية دليلا على الغنى الذي أحرزه بالسلب والنهب، وقد أتبع ذلك بطلبه منا إرسال مقادير جديدة من الأموال.
ففي رأيي أن انتصاراته وهم وخداع، وأنه لا يوجد شيء حقيقي في الظروف الحاضرة إلا احتياجاته، والأعباء الثقيلة التي ستلقى على عاتق البلاد من جراء تلك الحاجيات.»
ولكن بالرغم من تهكم هانو صمم القرطجنيون على مؤازرة هنيبال وإمداده بالمئونة التي يحتاج إليها، على أنهم أبطئوا في الوصول لما حال دون ذلك من الصعوبات والعوائق، فالرومانيون مع عجزهم عن طرد هنيبال من بلادهم حشدوا جيوشا جديدة في بلدان مختلفة، وشهروا حروبا عديدة على القرطجنيين وحلفائهم في أنحاء مختلفة من العالم بالبر والبحر في وقت واحد.
فكانت نتيجة ذلك أن هنيبال أقام في إيطاليا خمس عشرة أو ست عشرة سنة بدون جدوى، مشتبكا في غضون ذلك بحروب ومناوشات مملة مع القوى الرومانية، وبدون أن يتمكن من القيام بمعركة فاصلة، فكان يظفر أحيانا ويضايق أحيانا لحد الانحصار لكثرة أعدائه، ويقال إن جيشه قد تولاه الضعف والوهن لتماديه في التمتع باللذات في كابوي؛ فهي كانت مدينة غنية وجميلة للغاية وقد فتح سكانها أبوابها لهنيبال من تلقاء أنفسهم مفضلين، حسبما قالوا، محالفته على محالفة الرومانيين.
अज्ञात पृष्ठ