على أنهم بالرغم من ذلك جدوا في ملاحقة أعدائهم، وصعدوا على ضفة النهر بعد أن خاضوا متدفقات مياهه، وهناك التأم شملهم واستجمعوا صفوفهم وأمعنوا في اللحاق بالقرطجنيين المتراجعين أمامهم، وعندئذ فاجأهم جيش هنيبال الراصد على مقربة من النهر، وهو على أتم استعداد وعلى جمام ودفء وفتك بهم فتكا ذريعا، فهالهم الأمر الذي لم يكن في حسبانهم وتولاهم الذعر من المباغتة التي انقضت عليهم من الوراء بين صيحات كالرعد القاصف، فانخلعت قلوبهم وسقطوا تحت ضربات أعدائهم من الأمام والوراء.
وجاءت هذه الحركات بصورة سريعة جدا، بحيث تولى الرومانيين الذهول والجزع لما لقوه من هول الموقف بعيدين عن معسكرهم، وقد خارت منهم القوى في الركض وفي اجتياز مياه النهر، وأطبق عليهم رجال هنيبال من كل جانب فأبلوا فيهم بلاء حسنا، فحاروا في أمرهم ولم يدروا بأية طريقة يتخلصون من تلك الورطة المشئومة، وعندها تراجعوا بكل صعوبة إلى النهر فوصلوه من أماكن مختلفة مشتتين متفرقين، فوجدوه طاميا وقد غطت المياه التي طغت كل مكان على ضفتيه، فلم يعرفوا من أين ينزلون إليه ولا كيف يعبرونه وهالهم طغيان المياه كثيرا.
ولما تمزق شمل الجيش الروماني على تلك الصورة المخيفة توقف القرطجنيون عن متابعة القتال، فهم كانوا مثل أعدائهم قد تبللوا وتعبوا فلم يروا من أنفسهم مقدرة على متابعة العدو الهارب، وحاول عدد كبير من الجيش الروماني عبور النهر فنزلوه هربا من الأعداء، فاحتملتهم مياهه الطاغية في مجراها وأغرقتهم ولم يقو أحد منهم على مقاومة التيار؛ لما كانوا عليه من الخوف والتعب، وبعضهم اختبئوا في الأماكن المستورة عن القرطجنيين، ومن ثم اصطنعوا أرماثا عبروا عليها إلى الجانب الثاني من النهر.
وكانت جنود هنيبال قد تبللت إلى حد الأجسام وبردت، ونالها من التعب ما بلغت به حد الإعياء فلم تشأ ملاحقة الرومانيين، فاجتاز هؤلاء النهر على مهل، على أن الكثيرين منهم بالرغم من ذلك غرقوا وجرتهم المياه في تيارها إلى أبعاد مختلفة وأهلكت منهم العدد الكبير، وكان إذ ذاك شهر كانون الأول كما تقدم القول، فرأى هنيبال أن الطقس لا يساعد على ملاحقة الأعداء، ولكنه وجد الطريق إلى جبال أبنين مفتوحة أمامه بعد انكسار سمبرونيوس؛ لأن لا هذا ولا سيبيو يستطيعان الآن الوقوف في وجهه إلا بعد أن تصلهم نجدات جديدة قوية من رومية.
وفي مدة فصل الشتاء اشتبك هنيبال وجيشه في معارك جديدة مع بقايا الجيش الروماني المنهزم، ومع بعض القبائل الوطنية المجاورة لهاتيك الأنحاء، وقاسى مشقات كثيرة لا سيما في توفير القوت لرجاله إلا أنه تمكن بعدئذ من إرشاء حاكم إحدى القلاع الرومانية؛ حيث كانت تحتوي على أقوات كثيرة فدفعها الحاكم إلى هنيبال فأصبح بعدها موفور القوت، على أن سكان هاتيك الأماكن لم تكن ميالة إليه ولا راضية عنه وقد حاولت في غضون الشتاء عرقلة مساعيه، والتهجم على رجاله بكل ما لديها من قوة.
فلما رأى تحرج موقفه هناك سار جنوبا، وصمم في آخر الأمر، بالرغم من رداءة الطقس، على اجتياز جبال أبنين. وعندما يلقي القارئ نظرة على خارطة إيطاليا يجد أن نهر «بو» الكبير يمتد عبر شمالي إيطاليا كله، وأن وادي أرنو ووادي أمبرو واقعان إلى الجنوب منه منفصلان عنه بسلسلة من جبال أبنين، وهذا الوادي الجنوبي هو وادي أتروريا في الجنوب، فقر رأي هنيبال على اجتياز الجبال للوصول إلى أتروريا على نية أن يجد هنالك طقسا دافئا وسكانا أميل إليه، ويكون بذلك أقرب إلى رومية.
وإذا كان هنيبال قد قهر جبال الألب فجبال أبنين قهرته؛ فإنه عندما بلغ أرفع ذراها هبت عليه عاصفة هوجاء، وكان البرد قارسا إلى الغاية والهواء يهب بشدة، فيحمل الثلج وحب الغمام ويدفعها على وجوه الجنود فيسدل على عيونهم نقابا كثيفا يجعل متابعة السير عليهم مستحيلة، ولما أعيوا عن مقاومة العناصر وقفوا وأداروا ظهورهم للرياح، ولكن العواصف تضاعفت في الشدة وجاء معها رعود وبروق أزعجت الجنود وأوقعت الرعب في قلوبهم؛ لأنهم كانوا في قمم الجبال ملتحفين بالغيوم التي كان البرق والرعد ينبعثان منها.
ولم يشأ هنيبال النكوص إلى الوراء، فأصدر أوامره إلى الجيش بالنزول في تلك البقعة، وفي أفضل ملجأ منها استطاعوا العثور عليه فضربوا الخيام؛ ولكنها لم تثبت في وجه العواصف؛ إذ كانت قد اشتدت في الهياج فقلبت عمد الخيام واقتلعت الجنفيص من معالقه، فكان بعضه يتمزق قطعا وتحمله الأرياح، وكان ذلك على الأفيال أو ما بقي حيا منها أشد منه على الناس، فخارت قواها من البرد الشديد وماتت فلم يبق منها حيا إلا فيل واحد.
إذ ذاك أمر هنيبال الجيش بالتراجع من ذلك المكان فعادوا إلى وادي «بو»، ولكن هنيبال كان قلقا هناك؛ لأن السكان كانوا منزعجين من وجوده بينهم، ذلك لأن جيشه قد التهم أقواتهم وخرب بلادهم وعكر كأس سلامتهم وهنائهم، فشعر هنيبال بأنهم سيكيدون له ليقتلوه إما بالسم أو بغيره؛ ولهذا كان كثير الحذر والاحتياط لاتقاء شرهم، وكانت له ملابس عديدة مختلفة وشعور عارية يلبسها عند التنكر، فيظهر كل يوم بحلة تختلف هي وشعر الرأس عن غيرها باللون والزي.
عمد إلى هذه الطريقة لكيلا يعرفه القتلة من وصف منظره ويغتالوه؛ إما في مضربه أو في مكان آخر، ولكنه بالرغم من ذلك كان كثير القلق عظيم المخاوف على حياته، بحيث إنه لم يصدق أن أقبل الربيع حتى رحل وجيشه لاجتياز تلك الجبال ففاز بذلك هذه المرة، ولما هبط من الجبل على الجانب الجنوبي علم أن جيشا رومانيا جديدا بقيادة قنصل جديد يزحف من ناحية الجنوب للقائه، فتاق إلى مواجهة هذه القوة الجديدة، وأسرع المسير في أقرب الطرق لملاقاتها.
अज्ञात पृष्ठ