ومن المعلوم أن هنيبال لم يعد واثقا بمن معه من الأدلاء، فاعتمد في الاستهداء على نفسه بين هاتيك المجاهل المخيفة، فكان يصيب مرة ويخطئ مرارا معرضا نفسه وجيشه لألوف الأخطار، وعظيم النكبات التي كان بإمكان الخبير في تلك الدروب الصعبة تحاشيها، وكان الجبليون مثابرين على مضايقته؛ عصابات كعصابات قطاع الطرق يهاجمون جيشه مرة في الطليعة، وحينا في المؤخرة، وحيثما سنحت لهم فرصة للإيقاع به. على أن هنيبال ثابر على المسير صابرا على كل هذه المثبطات محافظا على رجاله جهد الاستطاعة، جادا في قطع الوهاد إلى أن بلغ إحدى القمم بعد تسعة أيام.
وفي ذكرنا إحدى القمم لا نعني قمة تلك الجبال، بل قمة ذلك المضيق، أي: أعلى ذروة منه وصل إليها بعد اجتيازه، ولكن بقيت أمامه هنالك قمم كثيرة شاهقة محلقة فوقه بالغة عنان الجو في الارتفاع، فعسكر هنا يومين لكي يريح رجاله ويعيد إليهم ما فقدوه من الهمة والنشاط وكان الأعداء قد تركوه، وفيما هو مقيم هنالك كانت بعض فرق الجيش التي تاهت أو انهزمت من أمام الجبليين تنسل مقبلة نحو المعسكر من كل صوب ومعها الخيول، ومن الرجال الجريح والمنهوك تعبا أو الذي أوهن قواه المرض.
وكانت الخيل في بعض الأحيان تأتي إلى المعسكر لذاتها، وهي الخيل التي انفصلت عن الجيش فرارا من المهاجمين أو التي سقطت عياء أو تدهورت، فلما استعادت نشاطها سارت تريد المعسكر تسوقها السليقة أو رائحة رفاقها أو متأثرة خطوات الجنود إلى أن وصلت إليهم سالمة، وفي الواقع أن بقاء هنيبال مدة يومين هنالك كان المقصود منه إعطاء فرصة كافية للتائهين من جيشه؛ لكي ينضموا إليه هذا إذا كانت لهم مقدرة على اللحاق، ولولا ذلك لكان تابع المسير إلى أن يبلغ مكانا يتوفر له فيه الدفء، أو يكون ملائما للاستراحة.
وفي الواقع أن أردأ مكان للاستراحة هو في ذرى تلك الجبال بل لا يمكن أن يكون أردأ منه، فالصخور جرداء والأرض خالية من العشب وكل ما هنالك يضيق الصدر ويحمل على الاستيحاش، ذلك فضلا عن العواصف التي يكثر هبوبها هنالك والأمطار التي تجعل المقام متوعرا والغيوم التي تتلبد عند ذلك العلو الشاهق فتهدد من هناك بالثلوج أو الأمطار، وفي الجملة إن المكان الذي عسكر فيه هنيبال كان مخيفا موحشا إلى الحد المتناهي.
وداخل الجيش الخوف والجزع من ذلك المكان الذي عسكر فيه خصوصا، وأن الدروب هنالك غير واضحة، فإذا تساقطت الثلوج بغزارة ازداد الموقف هولا وأصبح الجنود في مأزق متجهم لا يدرون منه كيف وفي أية جهة يتوجهون، حتى إن مثل هذه الحالة تخيف الجبليين أنفسهم الذين كثيرا ما يؤدي بهم الأمر إلى التدهور في المنحدرات العميقة لعدم معرفتهم الطريق التي تكون الثلوج المتراكمة قد سترتها عن الأبصار.
ولا يمكن في هذه الحالة الاهتداء بنور النجوم؛ لأن النجوم تستتر وراء الغيوم أو وراء الثلوج المتساقطة التي تحول نور النهار إلى ظلام يحيط من كل الجهات بالمسافر الغريب الذي يضل طريقه ، فلا يعود يدري كيف يتجه، وذلك ما جرى لهنيبال وهو على تلك القمة داهمته عاصفة ثلجية أوقعت الرعب في قلوب رجاله. كان ذلك في شهر تشرين الثاني؛ لأن العراقيل الكثيرة والصعوبات الطبيعية المتعددة التي لقيها الجيش في تسلق تلك الجبال، فضلا عن مناوأة العدو له في زحفه قد عاقته من المجازفة إذا هو صبر إلى أن تذوب هذه الثلوج؛ ولهذا فإنه حالما انقطع تهطال الثلج وصفا الجو من الغيوم بحيث أصبح الجنود يبصرون ما هو أمامهم اقتلع الجيش خيامه وتابع المسير، فكانت الجنود تسير خائضة في ركام الثلج بملء الخوف والاحتساب، على أن هنيبال أرسل فرقة للاستكشاف والتعرف على الأماكن الصالحة للسير، وقد حملت الأعلام ليهتدي بها الجيش.
فكان السائرون أمام الجيش يمهدون له السبل وذلك بدوسهم الثلج مرارا بحيث يصير صالحا للمشي عليه، ولكن بالرغم من كل ذلك فإن العناء الذي لقيه الجيش من ذلك كان شديدا، فضلا عن مخاوفه المستمرة وإبطائه في الزحف. وبعد أن ساروا مسافة معلومة ونزلوا من تلك القمة أدرك هنيبال أنهم سيطلون بعد اليسير من السير على أودية إيطاليا وسهولها الكائنة فيما وراء الألب، فتقدم مسرعا إلى أن صار بين رجال الطليعة الذين يحملون الأعلام التي يهتدي بها الجيش، وحالما بدت البلاد بجملتها للناظر من هناك اختار مكانا تظهر منه السهول المنبسطة بأبهى مناظرها، وأوقف جيشه لكي يتأمل رجاله في تلك البلاد الجميلة الممتدة أمامهم.
ومعلوم أن جبال الألب على الجانب الإيطالي شامخة وهائلة الانحدار، والنزول منها يكاد يكون فجائيا من الذرى المتجمدة الباردة إلى السهول الدافئة الخصيبة التي تبهر النواظر بما ألقي عليها من أشعة الشمس، من هنالك نظر هنيبال ورجاله تلك السهول المنبسطة تحت أقدامهم، وقد لبست رداء من الخصب جميلا يروق العيون ويشرح الصدور فسروا كثيرا وابتهجوا، وأبصروا في تلك البطاح المترامية الأطراف بحيرات عديدة تخللتها جزر كثيرة، كان شعاع الشمس يترامى عليها فيزيدها وما حولها بهاء ورواء.
وهناك الحقول التي لم يروا لها نهاية مزدانة بألوان الخريف الدالة على الذبول ، قامت عليها أكواخ العمال والفلاحين وعلت عندها أكداس القمح كالقباب، وتجري في جنباتها الأنهار فتزيدها رونقا وجمالا يروق العيون ويأسر الألباب. في تلك الساعة وقف هنيبال في قواد جيشه خطيبا وهنأهم على وصولهم والجنود سالمين إلى حيث ينتهي تعبهم وينتفي عناؤهم ونصبهم، وقال لهم: «إن مشاق الطريق قد انتهت في آخر الأمر، وهذه القمم التي قطعناها بشق النفس هي أسوار إيطاليا بل هي أسوار رومية بالذات، وما دمنا قد اجتزنا جبال الألب فإنه لم يبق للرومانيين ما يحميهم من بأسنا. وإنني أؤكد لكم أن معركة واحدة على تلك السهول أو على الكثير معركتين نجالد فيهما الأعداء تكفيان لإحراز النصر والاستيلاء على تلك المدينة العظيمة.»
فأثر كلام هنيبال على الجيش التأثير المطلوب وأثار فيه روح الشجاعة، وزاده استبشارا ما رآه من خصب الأرض وجودة هوائها. واستعد الجنود للهبوط إلى هاتيك الجنان حاسبين أن الصعوبات قد زالت، على أنهم ما كادوا يتحركون للمسير حتى علموا أن متاعبهم وضيقاتهم لم تنته، فالجبال على جانب إيطاليا أكثر علوا وانحدارا منها على الجانب الآخر؛ ولهذا عانوا أشد الصعوبات في إيجاد دروب يسيرون عليها بسلامة.
अज्ञात पृष्ठ