كل فريق من هذين الفريقين بما لديه فرح فخور، فمن أي الفريقين تريد أن تكون؟ تابعني قليلا ونقل معي خطاك في بحث قصير يمكنك أن تكون لنفسك من بعده فكرة مستقلة، إذا عنيت بعض العناية بتفهم الحقائق التي يقوم عليها.
خلق العقل الإنساني مقسورا على أن يعتقد ببضعة حقائق أولية لا يمكن بدونها أن تحتفظ بألفته التي ينحصر فيها كل معنى من المعاني التي تفضله عن بقية الخلق الأدني منه في الطبيعة نسبا وأحط مكانة، لهذا ترى الناس منصرفين في حياتهم وهم على شعور تام بأنهم يملكون شيئا يكمن بين جوانحهم يسمونه القوة المدركة، وأنهم يحوزون شيئا آخر يدعونه حس الجمال والموسيقى والشعر، وأن هذه الضروب المتنوعة من الحس الكامن إنما تظهر لهم كأشياء أولية ظاهرة بجانب ذلك الشيء الغامض المبهم الذي يسمونه الإرادة الخفية التي لا يستطيع إنسان اكتملت ألفة عقله أن يمضي معتقدا بأن ليس لها وجود حقيقي، لهذا نسوق مباحثنا لنخلص منها بنتيجة تظهرنا على أن القصد والغاية تكمنان وراء كل الظواهر الطبيعية.
ينكر الماديون أن للإرادة وجودا حقيقيا، ولماذا؟ لأنهم إن سلموا أن للإرادة وجودا حقيقيا لما استطاعوا أن يخلصوا مطلقا من النتائج التي تترتب على هذا القول، ولما أمكنهم أن يخرجوا من قولهم هذا إلا معتقدين مع الإلهيين بأن للعالم خالقا مدبرا حكيما تبدو إرادته، وتظهر حكمته جلية في نواحي الكون، ولذا تراهم يقولون بأن الإرادة ليست إلا عرضا لاهتزاز دقائق المخ المادية، على الضد مما يقول به المثبتون للقصد من خلق العالم إذ يمضون معتقدين بأن الإرادة ليست إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي، فإذا أردت أن تمشي مثلا فإنك إنما تنفذ حركة المشي إذ تقوم في عقلك إرادة تحملك رغما منك على أن تتبع هواها.
من هذا ندرك أن الماديين والإلهيين يختلفون من حيث الاعتقاد في السببية الصحيحة التي تقوم عليها الإرادة، يقول الأولون: إن السبب الحقيقي في الإرادة ينحصر في اهتزاز دقائق المخ المادية التي تنتج كل الصفات العقلية، ويقول الإلهيون: إن الإرادة عبارة عن خاصية من الخاصيات التي يتصف بها العقل الإنساني ، ولذا فهي لا تعود إلى سبب منه تستمد، وإنما لها وجود حقيقي قائم بذاته.
فإذا تابعنا الماديين وأنكرنا أن للإرادة وجودا حقيقيا، وأنها ليست سوى عرض من أعراض السببية الحقيقة التي هي عند الماديين عبارة عن اهتزاز دقائق المخ المادية، لم يحل بيننا وبين إنكار كل الخاصيات العقلية الأخرى حائل، وعلى نفس الدلائل التي ينكر بها الماديون الوجود الحقيقي للإرادة نستطيع أن ننكر كل الخصائص والقوى والمدركات الإنسانية الأخرى، نستطيع أن ننكر وجود الجمال والموسيقى، بل لا نقف عند هذا وحده، فنمضي من ثم إلى إنكار أن هنالك فرقا حقيقيا بين منازع الفكر والعواطف، ونقضي من هذه السبيل على الفضائل ومضاداتها من الرذائل، على اعتبار أن هذه الأشياء ليس لها من وجود حقيقي، بل نقضي على كل قضايا العقل الإنساني ولا نترك من ورائنا بعد هذا في الحياة البشرية برمتها من شيء يستحق أن يكون له قيمة صحيحة اللهم إلا كتلة مواتا من المادة والحركة.
إلى هذا المزلق الوعر يسوقك الماديون، يسوقونك أمامهم سعيا إلى حيث تفقد ألفة عقلك، وتقف حائرا أمام ما تحس به بين جوانحك إحساسا صحيحا.
تناجي نفسك، إني خلقت مقسورا على أن أعتقد أن دقائق المادة تتجاذب وتتدافع لأني إذا أردت أن أكسر حجرا، وكذلك إذا أردت أن أضغطه، فإن جواهره ودقائقه تقاوم إرادتي في كلتا الحالتين، ذلك في حين أني لا أدرك كيف أن دقيقتين من المادة تتجاذبان في حين أنهما تتدافعان، وكذلك أعتقد أن في الفضاء أثيرا يحمل إلى شبكية عيني الضوء، وينقل إلى صماخ أذني مختلف الأصوات، في حين أني لم أر الأثير ولم أتناوله بتجربة تثبت وجوده من طريق الحواس. إرضاء لطرائق العلم، يهمس في روعك وحي العقل بأن لا تعتقد بغير هذا وإن امتنع عليك حسيا إدراكه؛ يهمس في روعك بأن للعالم المادي المحيط بك وجودا حقيقيا على الرغم من أن الفلاسفة قد ينكرون وجوده كحقيقة ثابتة، وعلى هذا تتدرج من الاعتقاد بالعالم الخارجي، إلى الاعتقاد بعالمك الكائن في تضاعيف فطرتك ، تعتقد بأن هناك فرقا حقيقيا بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحانية وبين إسفاف النزعات السفلى، تدرك أن الأنانية وحب الذات شر، وأن الغيرية وإنكار الذات خير؛ وعلى الجملة تدرك أن هنالك فروقا كائنة في عالم العقل بين منازل الفكر والعواطف.
بذلك تناجيك نفسك ويهمس في روعك عقلك، فإذا رجعت إلى الماديين وألفيتهم يرجعون بهذه المعاني جماعها بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة بعضها عن بعض أي اختلاف ما، ولا تدرك من تلك الفروق شيئا مطلقا، فلا يصبح من شيء هو أثبت في يقينك من الاعتقاد بأنهم إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم المنطق بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافا حقيقيا.
ثم ارجع بعد هذا ثانية إلى الإرادة؛ فإنك تجد نفسك مقسورا على الاعتقاد بوجود حقيقي لها على الرغم من معتقد الماديين بأنها ليست سوى عرض يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، فإذا اعتقدت بهذا وشعرت بأن ألفة عقلك تتطلب منك سببا يعود إليه نظام العالم المادي، وإذا كان كل ما في مستطاع اختبارك أن يصل من علم بالسبب الأول والعلة الأولى ينحصر في الفعل العقلي لإرادتك، التي هي رغم مزاعم الماديين عبارة عن الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل المادي؛ أصبح من المحتوم، مادمت قد قسرت على فطرتك التي فطرت عليها، أن ترجع بمقتضى ألفة عقلك ومقتضيات تكوينه وخصائصه إلى الاعتقاد بأن هذا الكون معلول لإرادة عاقلة؛ أي إلى خالق، وليس لك أن تبحث بعد ذلك في أن لهذه الإرادة العاقلة التي تدبر العالم وجودا حقيقيا يثبته العلم من طريق الحواس؛ كما أنه ليس لك أن تبحث من طريق العلم المعتمد على الحواس الكائنة فيك؛ ولا تخرج عن حيزك، عن دليل يثبت لك وجود العالم المادي، أو يظهر لك كيف تتجاذب دقائق المادة وتتدافع! وإنما كل ما تدرك وتعلم أنك جبلت على ألا تستطيع أن ترد على عقلك ألفته، وأن تحتفظ بنظامه الذي خلقت مقسورا على الاعتقاد بصحة ما يوحي إليك به، إلا إذا مضيت مؤمنا بوجود خالق ذي إرادة حرة يدبر العالم على مقتضى الحكمة البالغة من سمو المعاني مبلغا لن تدركه قواك البشرية المحدودة.
نعود بعد هذا ونكرر ثانية أن الإنسان مقسور على أن يقيس حالات العالم المحيط به على حالات نفسه، وأنه لا يستطيع أن يدرك علة العالم إدراكا صحيحا كاملا، وإنما كل ما في مستطاعه محصور في أن يدرك أن للعالم إرادة تدبره كما تدبر إرادته حركاته وأفعاله في الحياة.
अज्ञात पृष्ठ