बाबिल और अशूर का इतिहास
تاريخ بابل وآشور
शैलियों
ولما تم هذا الفتح لبعليزيس واطمأنت له البلاد جعل مقامه بآشور وبقيت في حوزته إلى أن توفي سنة 747، وبعليزيس هذا هو المعروف بفول وهو على ما في الآثار الآشورية من سلالة ملوك آشور الأولين، وليس لنا من أخباره إلا ما ورد عنه في رابع أسفار الملوك؛ حيث ذكر أن منحيم ملك إسرائيل لما قتل شلوم بن يابيش الذي كان مالكا قبله وتسلق عرش الملك أرسل إلى فول ملك آشور يستصرخه ويستعين به على إقرار الملك في يده، وجهز له ألف قنطار من الفضة ضربها على قومه فلباه فول وأسعفه بما أراد، وبعد أن استنض منه المال قفل راجعا إلى أرضه وكان ذلك سنة 771، وفي سفر يونان أن الله جل جلاله أرسل نبيه يونان - عليه السلام - إلى نينوى ينذرهم خراب المدينة إن لم يتوبوا إليه تعالى، فلما اتصل خبره بالملك نزل عن أريكته وجلس على الرماد، وهو قد تردى بالمسح وأمر مناديه أن ينادي في المدينة بصوم عام على الناس والبهائم جميعا لا تذوق نفس منها مطعما ولا مشربا، وأن يلبسوا المسوح كذلك ويبتهلوا بالدعاء إلى الله ويأخذوا بأسباب الصلاح والتوبة، فلما فعلوا ذلك عفا الله عنهم وكف عن المدينة.
وبعد وفاة فول انتقض الآشوريون على أهل بابل ونبذوا الطاعة لهم ووقعت بين الفريقين مجاولات شتى، وكان في طليعة الآشوريين واحد من أبناء ملوكهم يعرف بتغلث فلأسر الرابع، ودامت الحرب بينهم نحوا من أربع سنين حتى كان الظفر للآشوريين وذلك سنة 743، وكان تغلث فلأسر هذا رجلا جبارا فاتكا مقداما، وقد أوتي من النصرة والتوفيق شيئا عزيزا حتى طار ذكره في الأقطار، وظللت مهابته على الأمصار، وكان يلقب نفسه بنينوس الثاني، وكان لما استقر في يده أمر آشور واستوثق له الملك أنه صرف اهتمامه إلى النظر في أحوال الدولة وجمع ما تفرق من أمرها، ونظر إلى الممالك التي استفتحها الآشوريون من قبله، فإذا بالكثير منها في قبضة البابليين فعقد عزمه على استرجاعها، ولم يلبث أن زحف من تلك السنة إلى أسروينا وشمالي الأقطار الشامية فأخضعها لسطوته، وفي السنة التالية سار إلى أرمينية فنكبها واستولى عليها وأجلى عدة كثيرة من أهلها إلى آشور، واتفق في تضاعيف ذلك أن هاجت حرب بين فاقح ملك إسرائيل ورصين ملك دمشق وبين آحاز ملك يهوذا، حتى تضايق آحاز جدا فبعث إلى فلأسر المذكور يستعديه، وأنفذ إليه بما كان في الهيكل الكبير وقصر الملك من الذهب والفضة وكان شيئا كثيرا، فجرد فلأسر جيوشه ونزل على دمشق فافتتحها وقتل رصين ملكها، ثم عطف على فلسطين فقهر فاقح ملك إسرائيل واستولى من مدائنه على عيون وآبل بيت معكة ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد وكل أرض نفتالي وساق سكانها إلى آشور، وبعد ذلك ارتد على آحاز ملك يهوذا، فقاتله ثم تاركه الحرب على مال يحمله إليه وذلك سنة 734، ولما فرغ من أمر أولئك الملوك وجه الغارة إلى المشرق، فلم يمر بأرض إلا أذاقها البلاء وظفر بملك أريانا واستحوذ على كثير من مدنه وضياعه، وما زال ذلك دأبه إلى أن توفي سنة 727.
وخلفه على سرير الملك شلمنأسر الرابع وقيل الخامس وقيل السادس، ومن أخباره ما جاء في أسفار الملوك أيضا من أنه زحف على هوشع ملك إسرائيل بالسامرة وقهره وضرب عليه الجزية، فلبث يؤديها مدة، ثم انقطع عن تأديتها وبعث إلى سوء ملك مصر يستنجده فعاد إليه شلمنأسر وظفر به وأرسله إلى السجن مكتوفا، وحاصر مدينته السامرة فمكثت ثلاث سنين تحت الحصار ثم افتتحها عنوة وأجلى من بها من الإسرائيليين إلى آشور، فأنزلهم بحلاح وعلى عدوة خابور نهر جوزان وبث منهم أناسا في مدائن مادي، ثم بعث عصبة كبيرة من الآشوريين، فبوأهم السامرة وانقرضت مذ ذاك مملكة إسرائيل آخر الدهر بعد أن دامت مائتين وأربعا وخمسين سنة، وكان ذلك سنة 721 قبل الميلاد، وفي بعض الآثار أن الذي كان فتح السامرة على يده هو صاريوكين خليفة شلمنأسر المشار إليه، والصحيح في ذلك كما ذهب إليه أكثر المحققين أن شلمنأسر توفي أثناء الحصار، فتم الفتح على يد صاريوكين، وكان القائد الأكبر في الجيش فنسب الفتح إليه.
ولما هلك شلمنأسر لم يكن في ولده من يضطلع بأعباء الملك، فتسلق السرير صاريوكين قائده المشار إليه وهو المسمى في الكتاب بسرجون، وعلى يده تم فتح السامرة على ما قررناه، وكان جملة من أجلاهم من اليهود نحوا من سبعة وعشرين ألف نفس، وكان هذا الملك كثير الغزوات والحروب نهض لاسترجاع ما بقي من فتوح آشور وممالكهم في أيدي الكلدان منذ حين سقط سردنابال آخر ملوك الدولة الأولى على ما سلف إيراده. فدوخ جميع ما بين النهرين وأخضع أرمينية ومصر وقبرس، ونصب في قبرس حجرا كبيرا نقش عليه صورته مع تاريخ استيلائه عليها والحجر المذكور اليوم في برلين، وكان في جميع هذه المغازي والغارات مظفرا منصورا، ولم يدركه الفشل إلا في حصار مدينة صور، فإنه قصدها ونازلها بجيشه زمنا طويلا وتفانى من جنوده تحت أسوارها خلق لا يحصى، وفي عاقبة الأمر نفد ما عنده من القوت والعلف فتراجع عنها خاسرا.
وله غير ما ذكر وقائع كثيرة أثبتها على جدران الأبنية التي شيدها بخرساباد يقول في موضع منها: هذه سياقة ما فعلته من لدن استيلائي على زمام الملك إلى منتهى الغزوة الخامسة عشرة من غزواتي. كان استيلائي على الملك في يوم الخسوف التام - يعني خسوف القمر وكان فيما عينه بطليموس في 19 آذار سنة 721 - وقد قهرت كمبانيغاز ملك عيلام، ثم حاصرت مدينة السامرة وأخذتها وأجليت 27280 نسمة من سكانها، وتحالف هانون ملك غزة وفرعون ملك مصر على قتالي، فنازلتهما وأوقعت بهما في أرض رافيا، فانهزما شر هزيمة وسكتت نأمتهما آخر الدهر. ثم إني ضربت على فرعون ملك مصر وعلى شمس ملك العرب ويطعمير ملك الصابئة إتاوة من الذهب والعقاقير العطرية والخيل والإبل والبقر، وبعد ذلك حاول عبيد المالك في حماة أن يحرش علي أهل دمشق والسامرة، فزحفت بجنودي المظفرة إلى كركار وانتشبت بيني وبينه وقائع هائلة كانت العاقبة فيها عليه، فدككت سور المدينة وأعملت الهدم في سائر أبنيتها حتى رددتها ركاما، ثم قتلت زعماء الأحزاب وقبضت على الملك وسلخت جلده عن بدنه، ولما ملك إرنزو في وإن كانت في حوزة يدي، فلما مات بايع الأهالي ابنه آسا وعقدوا بينهم وبين أورساما الأرمني حلفا سريا على أن يمالئهم في رد استقلالهم، فسرت إليهم بالجيوش الآشورية وضربتهم ونسفت قلاعهم عن آخرها، وقبضت على الملك الخائن - يعني ملك أرمينية - وسلخته وقطعته خراذل وأخضعت الجميع لسلطاني.
وفي تضاعيف ذلك انتهز آزوري ملك أسوط فرصة اشتغالي بأولئك الأقوام وامتنع عن حمل الجزية إلي، فدمرت مدائنه واستحوذت على آلهته وعلى امرأته وبنيه وكل من ينتمي إليه. ثم أخذتني الرحمة فأعدت عمارة المدائن التي خربتها وأسكنت فيها الأقوام الذين أجليتهم من مشارق الشمس ووليت أمرهم واحدا من قوادي وأدخلتهم في عداد الآشوريين، وبعد ذلك ذكر عدة مواقع بينه وبين مرودخ بلأدان سنة 709 كان النصر فيها له، واستولى على الفسطاط الذي كان لمرودخ من الذهب وغنم كنوزه وذخائره، وأسر عددا كبيرا من جنوده، ودمر مدينة دورياقين بثأر سردنابال، وإن ملوك يطنان السبعة - أي ملوك قبرس - الذين لم يسمع أسلافه بذكرهم بسطوا له يد الإذعان، ووفدوا عليه بالهدايا والطرف من الذهب والفضة والآنية الثمينة وخشب الأبنوس، وعدد كثيرا من الحروب التي عملها بعد ذلك مما يطول شرحه ولا فائدة في استيفائه.
وفي سنة 711 بعدما عنت له تلك الأقاليم ونفذت كلمته وارتفع سلطانه شرع في بناء مدينة تضاهي نينوى في مجدها الأول، فاتخذ لها أسباب العمارة وحشد أهل الصناعة من كل أوب وجعل مركزها إلى الشمال الغربي من نينوى على مسافة ستة عشر كيلومترا منها، وزينها بالقصور الشاهقة والهياكل الباسقة والأبنية الفسيحة، وشرع في تشييد قصر له ولمن يخلفه على سرير آشور وسماه دورصاريوكين؛ أي قصر صاريوكين وأتم بناءه في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 706، وقسمه ثلاثة أقسام زينها كلها بالنقوش والتماثيل وأصناف الآنية والتحف النفيسة، ونقش على جدرانها صور كثير من وقائعه مع تاريخ انتصاراته، وقد استوفينا الكلام على هذا القصر في القسم الأول، ولا يزال معظمه ماثلا إلى هذا العهد لم يفقد من رونقه إلا القليل.
وبعد وفاة صاريوكين استقل بالملك ابنه سنحاريب واسمه فيما حققه بعضهم محرف عن سين اح ريب، وسين اسم للقمر كان ملوكهم يزيدونه في أوائل أسمائهم تبركا على ما سلف الإلماع إليه، ومعنى اح ريب أخ آخر، وكان سنحاربب ملكا عظيم الشأن شديد الوطأة بعيد الهمة كثير المغازي والفتوح أتى في أيامه من عظائم الأمور ما لم يأته ملك قبله ، حتى طار ذكره في الآفاق وامتدت شوكته إلى أبعد الأقطار وتحامت حوزته كبراء الملوك ودان لدولته كثير من الأقاليم، وكان يلقب نفسه بملك الأرض وخليل الآلهة على ما كان من دأب ملوك آشور وبابل في ذلك العهد، وأخباره كثيرة طويلة نقتصر منها على ما سنورده في هذا الموضع ميلا إلى الاختصار الذي هو أليق بحال هذه الرسالة، وأكثره ملخص عما وجد له من الكتابات التي كتبها بنفسه مما خلت عنه أسفار المؤرخين. قال في بعض تلك الكتابات ما محصله: أول غزوة لي كانت على مرودخ بلأدان ملك بابل وجيوش عيلام، وكانت الواقعة بيننا في بقعة كيش، فما تطاول أمد القتال حتى أجفل الملك من أمامي وفر معتصما بأحد معاقله، فلحقت بأصحابه وأطلقت يدي فيهم بالسبي والأسر والقتل وغنمت أمواله وخيوله وأسلحته وسائر كنوزه وذخائره، وكان فيها من الذهب والفضة والآنية الثمينة والملابس الملكية شيء كثير. ثم وجهت نفرا من رجالي فقبضوا على امرأته وأعوانه وسائر من ينتمي إليه من آله وحشمه ذكرانا وإناثا مع الخصيان وخدام البلاط، وأسرت بقية الجند كلهم وأخذت الجميع وبعتهم عبيدا. ثم إني بإمداد ربي آشور وحوله أقمت الحصار على تسع وسبعين مدينة من مدائن الكلدان الكبيرة وثمانمائة وعشرين قرية، فأخذتها جميعا وغنمت منها الغنائم الطائلة وسبيت نساءها وبعت الرجال عبيدا.
ثم إنه بعد وصفه لغزوته الثانية ونصرته في بلاد مادي وأرمينية وألبانية وأرض البرثيين وكوماجينة، أقبل على وصف غزوته الثالثة قال: وفي غزوتي الثالثة وجهت بأسي نحو الديار الشامية وعليها يوم ذاك ملك سخيف العزم ضعيف البطش يسمى إيلولي، كان قد بلغ خوفي من قلبه كل مبلغ، حتى إنه لما اتصل به خبر مقدمي عليه لم يتمالك أن احتمل بنفسه وابتدر المفر إلى إحدى جزائر البحر تاركا لي جميع حوزته وما ملكت يداه مغنما باردا. فأخذت مدائن صيداء الكبرى وصيداء الصغرى وما يتبعها من المصانع والمعاقل والهياكل، ثم عدت عنها واستعملت عليها إيتوبعل على خراج يرفعه إلي.
وفي أعقاب ذلك كان إيتوبعل الصيداوي وعبدليت الأروادي وميطنتي الأسوطي وبادول العموني وشمس ناداب الموآبي ومولك رام الأدومي وسائر ملوك فينيقية، يتزلفون إلي بالهدايا والطرف ويعتملون في اجتلاب مرضاتي إلا صدقا العسقلاني، فإنه ذهب بنفسه مذهب الكبر والعتي وزين له الغرور شق عصا الطاعة، فزحفت عليه بجندي ومنحني ربي عنقه فقبضت عليه وحطمت آلهته وآلهة آبائه وأسرت امرأته وبنيه وبناته وإخوته وجميع أعقابه معه وقفلت بهم راجعا إلى آشور.
अज्ञात पृष्ठ