برنامج السنوات العشر القادمة
في شهر مايو من هذا العام - 1947 - ألقي علي القبض بتهمة إلقاء قنبلة في إحدى الدور السينمائية في القاهرة. وأيقظني البوليس في الساعة الثالثة من الصباح وساقني إلى القسم حيث اعتقلت إلى أن نقلت في الساعة الحادية عشرة إلى دار النيابة للتحقيق. وقد وافق هذا القبض علي بلوغي سن الستين. وهي سن التقاعد في نظر الحكومة المصرية أي السن التي تخور فيها القوى وينحط النشاط ويبدأ الركود. ولكن الحكومة أبت إلا أن تميزني بنشاط الشباب وأن تعزو إلى رعونته. وقد أتاح لي هذا القبض أن أفكر كثيرا وأن أتأمل حال مصر هذه الأيام بحال الأتراك أيام السلطنة العثمانية. وذكرت قصة كان قد قصها علي مصري قبل أربعين سنة. فإنه كان حوالي 1907 قادما من أوروبا إلى الأستانة. وكان يلبس القبعة لأنه لم يكن يرغب في لفت الأنظار إليه إذا لبس الطربوش وسار في شوارع باريس وبرلين وبودابست. وكان طربوشه في حقيبته قد احتفظ به إلى يوم يعود إلى مصر. فلما بلغ عاصمة السلطنة العثمانية وصرح بأنه مصري زمجر في وجهه رجال البوليس التركي وسألوه كيف يكون مصريا يلبس قبعة. لا بد أنه جاسوس. وألقي به في السجن.
فلما دخل السجن وجد صبيين تركيين لا يزيد عمر أكبرهما على اثنتي عشرة سنة. وكانت تهمتهما سياسية ... وقد وجدت سبيلا للمقارنة بين اتهامي بإلقاء قنبلة وأنا في الستين من عمري وبين اتهام صبي في سن الثانية عشرة بقلب نظام الحكم في تركيا. وقلت في حديث النفس وأنا معتقل على الأسفلت في قسم الأزبكية: أنا وهذان الصبيان ضحايا الجهل النشيط في الأستانة والقاهرة على حد تعبير جوتيه.
وأنا في سن الستين الآن أحس أني «قوي القوى كلها» كما كان يقول الفارابي أو ابن سينا عن نفسه. ولذلك أرى من حقي - أو بالأحرى واجبي - أن أضع برنامجا للسنين العشر القادمة.
وعلى ذكر ابن سينا أقول إني أجد له اختيارا ثقافيا يتفق واختياري. فهو يقول في ترجمته بحياته: «فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها. وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج. وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.»
وابن سينا لا يعني بالطبع أن المعارف لم تزد بعد هذه السن. وإنما هو يعني أن المبادئ والنظريات والآراء والاتجاهات التي استقرت عنده حوالي الثامنة عشرة لم تتغير بعد ذلك. وإنما قصارى ما حدث فيها توسع وتعمق أي نضج. وظني أن هذه هي حال الجميع الذين عنوا بالتربية الذاتية. فإني حين أعود إلى «مقدمة السبرمان» التي ألفتها وأنا حوالي التاسعة عشرة وأتأمل الموضوعات التي عالجتها فيها لا أكاد أجد موضوعا جديدا قد درسته بعد ذلك طوال الأربعين سنة الأخيرة. وإنما قصارى ما حدث لي هو توسع وتعمق أي نضج. أي إني أستطيع أن أؤلف عن كل فصل من فصول «مقدمة السبرمان» كتابا برأسه. ولا أعرف وأنا أوشك أن أبدأ العقد السابع من عمري فكرة جديدة لم أومئ إليها في تلك الرسالة التي طبعت في 1909.
وليس كبيرا أن أطمع في عشر سنوات قادمة؛ فإن الطب العصري يتقدم بسرعة وهو معقد الآمال لأولئك الذين ينشدون من الشيخوخة عنفوانا وريعانا. وإذا لم نجد منه الشباب الذي يتيح العدو والوثب «وإلقاء القنابل» في الستين والسبعين فلا أقل من أن نجد اليقظة والقدرة على الاستمتاع مع بقاء الحواس سليمة. ولذلك أرى أنه لا يجوز لي أن أترك هذه السنين العشر الباقية تتابع جزافا بل سأضع لها برنامجا يزيدني توسعا وتعمقا للحياة على مستواها الوجداني في الشبكة الدماغية العالية.
وفي أثناء الحرب الكبرى الثانية كنت أتوق إلى رؤية نهايتها واستقرارها على سلم. ولكني إلى الآن لم أر الاستقرار وإن كنت قد رأيت النهاية. وهي نهاية مع ذلك تومئ إلى أنها سوف تكون بداية. ذلك أن العالم يسير رويدا نحو «الأزمة الماركسية» في تصادم نظامين يتناقضان. ونحن الآن في طور المهاترة والسباب بين هذين النظامين وعن قريب سنرى التصادم بالقنابل. وسيرى العالم عن قريب هل القرن العشرين هو القرن الأمريكي أو هو القرن الروسي. وأنا متتبع لأطوار هذا الصراع تائق إلى رؤية نتيجته متشائم في انتظار الحرب الكبرى الثالثة. ولكن لا يزال هناك أمل ضعيف بأن العالم يستطيع بالتسويات والتطورات أن يتجنب هذه الحرب. وأنا أقرأ هذه الأيام أخبار الصين وقوانين العمال الجديدة في الولايات المتحدة وتأميم المناجم والأرض الزراعية في بعض أوروبا ... وأيضا أقرأ أخبار التقدم الآلي الصناعي الكيماوي. وأقرن هذه الأخبار وأجمعها في ضوء الأزمة الماركسية التي ينتظر تفاقمها: إنتاج يزيد ويحدث تعطلا يزيد أيضا، ثم رغبة في الحرب لمعالجة هذا التعطل.
وقد جعلتنا هذه الأزمة نعيش فيما يشبه الذبذبة العصبية كلنا في قلق نعاني مضض الانتظار ولا نعرف المصير. ولكن مع هذا القلق أو المضض نحن في انتباه واهتمام. نحن أحياء لا ننساق على غير وجدان بل ندري بجميع العوامل التي تجرنا إلى الهاوية أو تصدنا عنها. ولهذا السبب تعد الجريدة اليومية هذه الأيام من أعظم الوسائل للتثقيف الذاتي لأنها تنبهنا إلى الأخطار القادمة.
وقد كانت لي أطماع في شبابي أود أن أتابعها في شيخوختي. ولم تكن أطماعي مادية فقط. فلم أرهق نفسي في تحقيق أغراض مالية. وقد وصفني أحد الكتاب حديثا بأني مقتر. وهو واهم في هذا الزعم. فإني منذ 1913 إلى الآن لم أشتر سوى فدان واحد وعشرة قراريط. وليس لي رصيد في أي بنك؛ لأني من اليد إلى الفم. بل بلغ ما بعته من ميراثي منذ 1913 إلى الآن - أي في 34 سنة - أكثر مما اشتريت. وليس هذا القدر صغيرا بالمقارنة إلى جملة ميراثي. ولم أبال قط الاقتناء المالي؛ لأن كل همي واهتمامي هو الاقتناء الذاتي أو بالأحرى الاقتناء النفسي.
अज्ञात पृष्ठ