وفي تلك السنوات السود أثري كثير من العمد ثراء فاحشا؛ فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين إلى الخمسين كل على مقدار ما يملك. فهذا يؤدي خمسة جنيهات، وذاك عشرة جنيهات، حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم إلى فلسطين. وعرفت عمدة كان يملك ستة أفدنة فقط جمع نحو خمسة آلاف جنيه بهذه الطرق. وكان الفلاحون يجوعون كي يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها.
وقد استمتعت بعد ذلك بالشماتة عندما رأيت هذا العمدة وقد قبض عليه الإنجليز بعيدا عن قريته وأجبروه على النزول في ترعة يبحث عن أحد قضبان الخط الحديدي لشركة الدلتا. فقد فوجئ وهو على حمار قاصدا إلى قرية مجاورة فأنزلوه وضربوه وأجبروه على العمل في ترميم الخط الحديدي الذي كان الفلاحون قد نزعوه في 1919. وعرفت بعد ذلك أنه تورط في معاكسات ومشاجرات بينه وبين الأهلين فضاع كل ما جمعه. فقد تعقبوه بالشكايات جملة سنوات وتمسكوا عليه بمخالفات خطيرة جعلته ينفق في الرشوة وأجور المحامين كل ما كان قد جمعه من هؤلاء الفلاحين المساكين.
وكان معظم النقل في الحرب الكبرى الأولى على الخيول الأسترالية. وكانت ضخمة يعلف الحصان منها بضعف ما يعلف به حصان من خيولنا؛ ولذلك كان التبن والشعير يخطفان من الريف. وقد قام عمالنا المصريون - وهم من الفلاحين - بخدمة الحملة الإنجليزية في فلسطين. وكانوا يعدون بعشرات الألوف مات أكثرهم وعمي بعضهم. ومع ذلك عندما انتهت الحرب واشتعلت الثورة في مصر في سنة 1919 وقف السفير البريطاني في واشنطون ينتقص من قيمة خدمتنا في الحرب كي يحول دون العطف الأمريكي على قضية استقلالنا، فقال: إن جميع من قتلوا في الحرب من المصريين لا يزيدون على ثلاثة أشخاص. ثلاثة فقط.
وكثير من الفلاحين يتركون الأرض إلى المدن لما يلاقون من قسوة المالكين الذين يعصرونهم بالإيجارات والمحاسبات. ولكن الريف لا يزال معمورا بل مزدحما بالفلاحين على الرغم من جميع ما يلقى هؤلاء فيه من مصاعب. وظني أن بعض السبب لذلك أن في الأرض فتنة تسحر الفلاح وتربطه بها مهما قل كسبه منها؛ فإنه يستيقظ قبل الشروق، ويخرج إلى حقله ترافقه بقرته وحماره وعنزته أو نعجته. وهو يحس برفقة هذه الحيوانات ويجد في هذه الرفقة لذة تسمو على الاعتبارات المالية. وهو يتشمم الأرض عقب حرثها حين تنفح التربة الهواء بروائحها التي توحي الرخاء والبركة. بل هو يبكر أحيانا كي يتحقق من النمو الجديد في الذرة أو القمح. وفي الشتاء حين يكسو الندى البرسيم تبدو الدنيا في بهاء لا يعدل الإنسان به أي جمال آخر.
وقد وجدت هذه الفتنة في السنوات التي قضيتها في الريف مدة الحرب. وكنت كثيرا ما أتأمل الفلاحين وهم يكدون من الفجر إلى الغروب، ثم يعودون مرحين يتغنون بالمواويل خلف البهائم إلى بيوتهم. وهذا الحب للأرض وللنبات وللحيوان يلصق الفلاح بالريف ويجعله يرضى بالمعيشة الضنينة من حيث الطعام واللباس والمسكن. بل هو يرضى بقسوة الإيجارات والمحاسبات، بل إن الفلاحة أيضا تجد من الاهتمامات بتربية الدجاج والبط والحمام ما يجعلها مفتونة بهذه الطيور فتغني لها كما لو كانت تؤدي هواية لذيذة. وكثيرا ما رأيت إحدى الفلاحات تخاطب البقرة التي عزفت لسبب ما عن الطعام بقولها: «يا حبيبتي، يا أختي.» ثم تمسحها بيديها كما لو كانت طفلا تدلله.
ثم يجب أن لا ننسى القمر في الريف؛ فإنه يسكب سحره على كل شيء، وأبناء المدن الذين يرون القمر من خلال المباني لا يعرفون فتنة هذا الكوكب في الريف.
وغيري يعد الريف منفى، ولكني أعتقد أن أحسن سني حياتي هي التي قضيتها في الريف. فقد أتاح لي الدراسة الجدية كما أتاح لي الاستمتاع بالطبيعة. ولم يكن يمر علي يوم دون أن أستيقظ في الساعة الرابعة أو الخامسة من الصباح وأسير في الحقول وهي مبللة بالندى في هدوء الطبيعة الرخيم أنتظر بزوغ الشمس فأحييها وأتأملها كأني في صلاة. وهناك آلاف من الناس لم يعرفوا قط هذه الصلاة ولم يحسوا هذا الإحساس الديني في الاتصال بالطبيعة في خلوة الحقول التي تنمو كل نهار بحياة جديدة. والسائر في الحقول في هذه الساعات الأولى من النهار تغمره نشوة حقيقية حتى ليجد خفة في نفسه لا تختلف من تلك التي يحدثها الكئول، ولكن دون تخدير للوجدان.
والريف يوهم التجزؤ والانفصال: هذا نبات، وهذا حيوان، وهذا مسكن، وهذا حقل، بل هذا إنسان وهذا بهيم. ولكن المتأمل يجد الترابط والتكافل، كأن كل هؤلاء وحدة حية.
وقد كان داروين يقول على سبيل الفكاهة إنه يستطيع أن يقدر عدد العوانس في قرية (في إنجلترا) بملاحظة حقول البرسيم المحيطة. فإذا كان البرسيم مزدهرا ناجحا فإنه يدل على أن العرائس كثيرات في القرية؛ ذلك لأنهن يربين القطط، والقطط تأكل الفئران، والفئران تأكل النحل، والنحل هو الذي ينقل إلى البرسيم لقاحه من زهرة إلى زهرة ... فإذا قلت العوانس قلت القطط وزادت الفئران، وقل النحل ثم قل ازدهار البرسيم.
ونحن نرى هنا بالطبع فكاهة، ولكن لها مغزاها، وهو أن النبات والحيوان يعيشان في تضامن سمبيوزي أي إن كلا منهما يخدم الآخر. فحياة هذا تتوقف على حياة ذاك. وقد كنت أبتهج بالتأمل في الريف لهذه الروابط بين النبات والحيوان. وكثيرا ما كنت آسف وأنصح بشأن البومة؛ فإن الفلاحين قد ورثوا عقائد غيبية عنها؛ إذ يقتلونها لأنهم يتشاءمون منها، مع أنها تأكل الفئران التي تقتات بذراهم وخبزهم. ثم إن تكاثر الفئران يؤدي إلى تكاثر الثعابين التي تقتات بها. بل إن للذئاب والثعالب في ريفنا قيمتها السمبيوزية في حياتنا الريفية أيضا لأنها تنظف القنوات من الرمم.
अज्ञात पृष्ठ