وإذا كانت أوروبا قد أهملت إبسن الآن فذلك لأنها تعلمت منه وعملت بجميع مبادئه. ويعد برناردشو إحدى ثمرات إبسن. فإن جميع دراماته اجتماعية أو فلسفية. ولكنه يختلف عن معلمه من حيث عجزه عن الكمال الفني الذي استطاع إبسن أن يرتفع إليه.
وقد تأثرت كثيرا ببرناردشو. وعندما أسائل: لماذا لم أؤلف كتابا عنه إلى الآن؟ أعود بذاكرتي إلى محاولات في هذا التأليف كان يصدني عن المضي فيها أني أعرف الكثير عن برنارد شو. فصعوبتي هي صعوبة خراش، بل هي أكثر. وهي أن زيادة على أني سأضطر إلى الاختيار مع الإسهاب والتفصيل فإني أيضا سوف أواجه من المبادئ والأفكار والفلسفات ما أحتاج إلى تفصيله مما لا يطيقه قارئ رجعي أو جامد لم تتفتح مسام ذهنه للتفكير العصري بل المستقبلي. فإن برناردشو يفكر للمستقبل. وهو علمي الذهن يفكر في آفاق فلسفية بلغة أدبية. وقد أمضيت من حياتي نحو أربعين سنة وأنا أتعلم على يدي هذا الحكيم الذي أعد حياته في عصرنا نورا ونارا لجميع الذين يعرفونه، ولا أظن أنه فاتني شيء مما كتب. وكتاباته هي الآن هورمونات ذهنية توقظني وتحركني.
والكاتب ينفعنا إما بما يبسط لنا من معارف، وإما بما يرسم لنا من خطط واتجاهات. وبرناردشو من النوع الثاني؛ لأنه يسدد العقول الزائغة نحو أهداف بشرية جديدة، ويبعثنا على الاستطلاع العلمي للدنيا والإنسان والمستقبل. والنزعة العلمية في برناردشو قوية جدا، ولكنها ممزوجة بنزعة فنية أيضا؛ ولذلك نشعر كأنه يحس بعقله ويفكر بقلبه. وهو أحيانا يسب ويهاتر ويهدد بالمعاني العلمية. ومشاجرته مع داروين بشأن «تنازع البقاء» هي مشاجرة فلسفية سيتوقف على الإجابة عليها - وخاصة بعد اختراع القنبلة الذرية - مصير الإنسان. إذ ماذا يكون مصير 99 في المائة من البشر إذا ثبت أن الحق للقوة، مهما يكن نوع هذه القوة؟ أو إذا كان معنى تنازع البقاء هو بقاء الأصلح كما نرى هذا «الأصلح» في عصرنا؟
لقد رد برناردشو على داروين بأن ذكره بأن المسيح لم يكن صالحا للبقاء ... في النظام البيولوجي الذي وضعه داروين للتطور.
وبرناردشو مجاهد، وأدبه هو الأدب الجهادي، أو كما يسميه هو الأدب الصحفي؛ لأنه يبحث الهموم والاهتمامات العصرية بالذهن العلمي في ضوء المستقبل. وقد أحدث لي مركبات أو عقدا أدبية وفنية ذهنية كثيرة في حياتي الثقافية لا تزال إلى الآن مثار التفكير والتأمل.
وأحيانا حين أتأمل الكاتب العظيم أجد أنه عظيم من حيث إنه قادر على أن يترك لنا عقدة ذهنية، في المعنى الحسن، تترتب عليها أفكار واهتمامات متصلة متشابكة نامية؛ فقد ترك إبسن في ذهني عقدة ذهنية هي «الشخصية الاستقلالية» التي هي الواجب الأول على كل إنسان. وترك برناردشو عندي طائفة من العقد ربما كان أهمها هو النظر البيولوجي للإنسان، وأن التطور المستقبلي للبشر يجب أن يكون له المقام الأول عند أية حكومة متمدنة. بل هو يقترح أن تكون لكل دولة وزارة خاصة بالتطور غايتها بحث الوسائل كي تتطور الأمة.
ولا عبرة بأن تكون له أخطاء وأوهام؛ إذ ماذا نبالي - كما يقول نيتشه - أن يكون في رأس المفكر بعض الديدان؟
ولم أر رؤيا واحدة في برناردشو، بل رأيت ثلاثا أو أربعا. والرؤيا الأولى هي الاشتراكية الإنسانية. وهي بالطبع لا تختلف عن اشتراكية ماركس العلمية. ولكن برناردشو - لأنه أديب وفيلسوف وفنان - جعل المذهب الاشتراكي مذهبا إنسانيا ، ودمغ بالخزي كل من يجهل الاشتراكية أو لا يسعى لها. وهو الذي استطاع أن ينشر هذا المذهب بين الأثرياء؛ لأنه أثبت لهم أن أموالهم لا تساوي همومهم وما يتعرضون له من قلق، وأن الاشتراكية إنما جاءت لتغني وتزيد لا لتفقر وتنقص.
والرؤيا الثانية هي ديانة برناردشو؛ فإن مشاجرته مع داروين ينتهي مغزاها إلى أنها مشاجرة دينية. إذ كيف يمكن أن نسكن إلى كون يكون محوره ومغزاه تنازع البقاء وبقاء الأصلح؟ وقد قلت إن من الموانع التي حالت دون تأليفي عن برناردشو أني كنت أخشى الأذهان الجامدة التي لم تتسع مسامها الذهنية للآراء الجديدة. وهنا أيضا أقول إني عاجز عن بعض الإسهاب أو التفصيل لديانة برناردشو. وقصاري أن أقول إنها ديانتي وإن عمودها الفقري هو التطور الذي يعد فيها أسلوبا وهدفا.
أما الرؤيا الثالثة فهي الإيمان بالعلم بل السلوك العلمي ولكن مع الدين، وعلم بلا دين هو القنبلة الذرية وبقاء الأصلح كما يفهم هذا الأصلح أو يتخيله تجار منشستر ونيويورك، ولكن العلم مع الدين هو السعادة البشرية والتطور إلى السبرمان.
अज्ञात पृष्ठ