ولكن مع هذا الظلام الذي عم مصر فيما بين 1907 و1912 كانت هناك أشعة من نور؛ منها الدستور الذي دأب حزب الأمة ولسانه «الجريدة» في المطالبة به، ومنها هذا التطور الملحوظ في الوطنية المصرية، والفضل فيه أيضا للجريدة وأعني به الانتقال من الوطنية العثمانية إلى الوطنية المصرية البحتة. وقد كانت هناك تطورات أخرى غير ملحوظة لأنها سارت في هدوء؛ فقد رأيت مصر سيدة مصرية تكتب في الجرائد باسم «باحثة البادية» هي ابنة المرحوم حفني ناصف، بل رأيت أيضا الآنسة نبوية موسى تنجح في نيل الشهادة الثانوية على الرغم من معارضة دنلوب لها ومنعها من التقدم للامتحان في السنة الأولى. ومن التطورات غير الملحوظة أن الثروة انتقلت من العائلات التركية إلى العائلات المصرية؛ وذلك لأن أبناء الأتراك قنعوا بثرواتهم الموروثة ولم يتعلموا، في حين أقدم الشبان المصريون على التعلم، فصار منهم الأطباء والمحامون والمهندسون وعامة الموظفين. وكان هذا انتصارا عظيما للعنصرية المصرية. والقراء الذين ألفوا رؤية وزراء من المصريين فيما بين 1920 و1947 قد يتعجبون حين يعرفون أن المصري القح لم يكن يعين وزيرا إلا نادرا، بل نادرا جدا، قبل 1900. وكان بطرس غالي باشا أول رئيس وزراء مصري للوزارة منذ الاحتلال البريطاني. كما أن فرح الأمة باختيار سعد زغلول باشا وزيرا للمعارف في وزارة بطرس باشا كان يرجع بعضه إلى أنه مصري العنصر. والتفاتي هنا إلى هذا الموضوع يدل القارئ على أننا منذ بداية هذا القرن كنا على وجدان بالعنصرية المصرية. وقد ضعف هذا الوجدان بتقهقر السلالة التركية في الوظائف الحكومية.
وعدت إلى مصر بعد قضاء سنة في فرنسا في 1909، وأذكر أني حين نزلت في الإسكندرية سارعت إلى قطع التذاكر عند شركة كوك لرؤية مدن الصعيد إلى الأقصر. وقضيت شهرين أتنقل من بلدة إلى أخرى أدرس الآثار المصرية. وكان الباعث المؤلم بل المخزي على هذه الرحلة أني لم أكن ألقى واحدا في أوروبا إلا وكان يفاجئني بالسؤال عن تاريخ الفراعنة الذين كنا نجهلهم تمام الجهل؛ لأن الإنجليز كانوا يشعرون أن هذا التاريخ الذي يشتعل مجدا وعظمة يجب ألا يعرفه أبناء الفراعنة في القرن العشرين لئلا يشتعل فيهم مثل هذا المجد أيضا فيطلبون الاستقلال. ومنذ ذلك الوقت وأنا أهتم بالفراعنة وثقافتهم، وكان كتابي «مصر أصل الحضارة» ثمرة هذا الاهتمام.
وعدت إلى القاهرة بعد هذه الرحلة. وكانت الحركة الوطنية على أشدها، فكانت هناك المظاهرات من الطلبة ، كما كانت هناك الصحف التي تطالب الإنجليز بالجلاء والخديوي بالدستور والشعب بالنهوض. فكتبت أنا بعض المقالات في اللواء جريدة الحزب الوطني. وكان يرأس التحرير فيها المرحوم عثمان صبري. وكان رجلا حكيما عرف الهوة التي أردى فيها عبد العزيز جاويش الأمة حين وصف خدود الأقباط بأنها تصنع نعالا فشرع يستصلح ويسترضي ويضع الوفاق مكان الشقاق. ودعاني إلى التحرير. وكان من أعظم ما طربت له أني وجدت هناك فرح أنطون صاحب الجامعة التي وجدت فيها الثقاب الذي أشعل في نفسي الرغبة في درس الآداب الأوروبية. وقد انتفعت كثيرا بصحبة فرح أنطون في ذلك الوقت؛ فإني - زيادة على ما كنت أستمتع به من حديثه في الصباح - كنت أجتمع به في المساء في إحدى القهوات بميدان الأوبرا. وكان فرح جميل الطلعة عصري الذهن أوروبي التفكير، يكره الأتراك والإنجليز على السواء. وكان مسامرا يتنقل من الأدب إلى السياسة ولا تفوته النكتة العالية والاقتباس الفريد.
وكان المندوبون الإنجليز - كرومر وجورست وكتشنر - سواء في الغاية وهي استغلالنا ونهب أموالنا. ولكنهم كانوا يختلفون في الوسيلة. فقد كان كرومر لوردا لا يعد هتلر شيئا في جانبه من حيث الاعتقاد بأن الآريين يفضلون الآسيويين والأفريقيين. وكان يصر على مظاهر السيادة البريطانية في كل شيء، بحيث كان يصرح بأنه يجب على الرئيس المصري أن يخضع للمرءوس الإنجليزي. وكان لكل وزارة «مستشار» هو في حقيقته وزير يتصرف كما يشاء، وليس على رؤسائه سوى الخضوع. وأستطيع أن ألخص سياسته كما أذكرها الآن فيما يلي: (1)
قتل الصناعة المصرية قتلا تاما بحيث لا يجوز لمصري أن ينشئ مصنعا؛ إذ على مصر أن تستورد جميع المصنوعات من إنجلترا، بل من غير إنجلترا إذا اقتضى الأمر ذلك؛ حتى لا يتعلم المصريون شيئا من الثقافة الصناعية. (2)
إحالة القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، كأنه ضاحية زراعية لمصانع لنكشير. وتوجيه نشاط الحكومة كله إلى هذه الغاية. حتى فقدت كلمة «مشروعات» معناها اللغوي عند الحكومة وأصبح معناها الوحيد زيادة المياه للري حتى تزيد مساحة الأرض التي تزرع قطنا. وكانت هذه الزيادة في المياه السبب في تفشي البلهارسيا والأنكلستوما واستشباع التربة بالماء حتى وهنت. (3)
قصر التعليم وتحديد عدد المدارس لتخريج الموظفين للحكومة فقط، وذلك بعد قصر نشاط الحكومة على مهمة واحدة هي زراعة القطن. (4)
المحافظة على تقاليدنا التي ورثناها من القرون المظلمة وكانت تؤخرنا، وأهمها بقاء البرقع والحجاب للمرأة وتثبيط تعليمها. وقد اتبع من جاءوا بعده هذه الخطط كلها، حتى إننا لم نؤسس مدرسة ثانوية للبنات إلا في 1925.
أما جورست فكان بعيدا عن صراحة كرومر، ولكنه كان يسير في الخطة نفسها من حيث تثبيط التعليم ومنع الصناعة وزيادة الزراعة القطنية. وزاد على ذلك الوقيعة بين المسلمين والأقباط. وزاد أيضا حبا متبادلا بينه وبين الخديوي عباس على حساب الشعب.
أما كتشنر فقد عاد إلى صراحة كرومر. وكان يكره الخديوي عباس كراهة شخصية، ولم يكن فيه من الميزات السياسية ما يمكنه من إخفاء هذه الكراهة. وكان صغيرا في أساليبه شرسا في مبادئه الإمبيريالية؛ فقد أراد الخديوي عباس حوالي 1913 أن يزور بعض المدن، وكان الأعيان يستقبلونه على المحطات، فكان من صغار كتشنر أنه عندما كانت القهوة توشك أن تقدم على المحطة يصفر القطار ويطير في سرعة مفاجئة فيرتبك الخديوي ويضطرب المستقبلون ويعم الهرج. وكان هذا الصغار يلذ لكتشنر. وقد ذكر هذه القصة جورج لويد مع الإعجاب؛ لأن هذا الأخير كان - نفسا وذهنا - لا يختلف عن كتشنر صغارا وانحطاطا.
अज्ञात पृष्ठ