مقدمة
مقدمة الطبعة الثانية
1 - حياة القابسي
2 - بيئة القابسي الدينية وطريقته في التأليف
3 - تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري
4 - الكتاتيب في الإسلام
5 - الدين والتعليم
6 - التربية الخلقية
7 - العقاب
8 - المناهج وطرق التعليم
9 - المعلم
10 - آراء المسلمين في التربية والتعليم
11 - خاتمة
الملاحق1
المراجع والفهارس
مقدمة
مقدمة الطبعة الثانية
1 - حياة القابسي
2 - بيئة القابسي الدينية وطريقته في التأليف
3 - تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري
4 - الكتاتيب في الإسلام
5 - الدين والتعليم
6 - التربية الخلقية
7 - العقاب
8 - المناهج وطرق التعليم
9 - المعلم
10 - آراء المسلمين في التربية والتعليم
11 - خاتمة
الملاحق1
المراجع والفهارس
التربية في الإسلام
التربية في الإسلام
التعليم في رأي القابسي
تأليف
أحمد فؤاد الأهواني
تقديم
مصطفى عبد الرازق
مقدمة
بقلم شيخ الأزهر المرحوم مصطفى عبد الرازق
موضوع التعليم ومناهجه موضوع جليل الشأن في كل العصور، وفي كل الأمم. وقد عني به الباحثون من العلماء والفلاسفة، فألفوا فيه الرسائل، وكتبوا فيه الكتب، منذ عهد بعيد، ولا يزال موضع اهتمام المفكرين والمصلحين.
ولا غرو فإن العلم أساس كل إصلاح، وتاج كل نهضة. والتعليم ليس إلا السبيل إلى نشر العلم، وتثقيف العقول به وتهذيب النفوس.
والمسلمون لم يتخلفوا عن غيرهم في ميدان هذا البحث؛ فقد كتب في التعليم أئمتهم ومفكروهم منذ القرون الأولى. وكانت لهم أنظار طريفة لم يخلق تطاول الزمن جدتها. على أن كثيرا من مؤلفات القدامى ضاع فيما ضاع من آثار السلف الصالح، وكثيرا من مؤلفات القدامى ظل متواريا عن الأنظار في زوايا دور الكتب، بين أكداس المخطوطات، لا يهتدي إلى مكانه إلا المولعون بالبحث والتنقيب.
وهذا أثر من تلكم الآثار القيمة هو كتاب تفصيل أحوال المعلمين والمتعلمين، لأبي الحسن علي بن محمد القابسي المتوفى 403 هجرية، 1012 ميلادية، ينهض لنشره الباحث المجتهد الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، وينشر معه بحثا في «التعليم في رأي القابسي من علماء القرن الرابع».
ومن البحث والنص المخطوط تتألف الرسالة، التي نال بها إجازة الدكتوراه من كلية الآداب.
أما كتاب القابسي فهو كتاب جليل الفائدة للباحثين في التعليم وتاريخه عند المسلمين، وهو يصور حالة التعليم في عصره من نواح قلما فطن لها مؤلفو ذلك الزمان.
وقد عني الأستاذ الأهواني في بحثه القيم، بأن يترجم للقابسي ثم يعرض موضوعات كتابه عرضا جديدا، فراعى فيه تنظيمها وتوضيحها، وردها إلى أصولها، وربطها بمذاهب الفقهاء، ومقالات المتكلمين.
وعني الدكتور الأهواني أيضا بأن يبرز ما في آراء المؤلف من طرافة، وما هو منها عرضة للنقد، وأن يوازن بين مذهب القابسي وبين المذاهب الحديثة في التربية والتعليم.
نال أحمد فؤاد الأهواني برسالته، حين قدمها إلى كلية الآداب، إجازة الدكتوراه؛ وهو إذ ينشر اليوم هذه الرسالة في الناس، جدير أن ينال التشجيع كله، والثناء الجميل.
وإن كان تلميذنا الأهواني من العلماء المخلصين، لا يبتغي في سبيل العلم وخدمته جزاء ولا شكورا.
مقدمة الطبعة الثانية
تلقى الجمهور هذه الرسالة التي طبعتها عام 1945م لقاء حسنا، فنفدت الطبعة في نهاية ذلك العام، وتهافت الطلب على هذا الكتاب، وبخاصة من المشتغلين بالمسائل الإسلامية وتاريخها. وكنت أفتش في أوراقي، فرأيت خطابا من الدكتور سارتون أرسله إلي عام 1947م يطلب نسخة من هذه الرسالة، ولم أستطع تلبية طلبه لنفاد الكتاب. وفي هذا العام تقابلت مع المستشرق الدكتور كلفرلي الذي جاء يلقي محاضرات في الفلسفة والتصوف الإسلامي بالجامعة الأمريكية، ورأيت أنه مهتم بالتربية في الإسلام، وجاء ذكر رسالة القابسي، وعجبت أنه لم يطلع عليها مع أهميتها. وقد أرشدني إلى مقالة كتبها الأستاذ جولدزيهر في دائرة المعارف عن التربية الإسلامية، وعرض فيها للقابسي، وقال إنه كان يود العثور على رسالته. ومنذ عامين التقيت في مؤتمر ابن سينا بمعالي الأستاذ علي أصغر حكمت الذي كان وزير الخارجية بإيران، وتحدثنا في أهمية تعليم المسلمين في الوقت الحاضر وكيف كان العرب في أوج حضارتهم يباشرون هذه المهمة وينشرونها بأيسر سبيل. ورغب كذلك في الاطلاع على رسالة القابسي.
هؤلاء بعض من لقيت منهم العناية الفائقة بهذا الفن، ولمست منهم الرغبة الصادقة في اقتناء كتاب القابسي عن التعليم. ومن أجل ذلك رأيت أن أدفع بالرسالة إلى المطبعة لتشهد النور مرة أخرى بعد عشر سنوات.
ولم أكن قد قدمت لهذه الرسالة - وهي رسالة الدكتوراه - اكتفاء بتقديم أستاذي المغفور له مصطفى عبد الرازق الذي كان له الفضل في توجيه نظري إلى أهمية هذا الموضوع، وإلى المضي في بحثه. وكانت عناية مصطفى عبد الرازق بالبحوث الإسلامية في شتى نواحيها عظيمة، صرف إليها جهده، وحث تلاميذه على كشف غوامضها، مع الاهتمام بنشر التراث العربي القديم، وإحياء مجد العروبة والإسلام.
وقد أحدثت تعديلات طفيفة في هذه الطبعة الثانية، وأضفت في آخر الكتاب رسالة ابن سحنون «آداب المعلمين»، وهي أيضا من الرسائل النادرة في التربية، نشرها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا في تونس عام 1350هجرية، ونفدت طبعتها منذ زمن طويل، ولا يعرفها إلا عدد قليل.
وترجع أهمية رسالة القابسي إلى أنها الوحيدة - فيما نعلم - التي تفصل أحوال تعليم الصبيان تفصيلا فنيا دقيقا، على حين أن سائر ما كتبه العرب في التربية لا يتجاوز نصائح، أو مبادئ عامة، أو شذرات متناثرة في بطون الكتب الأدبية والتاريخية، لا تكفي في إلقاء الضوء على هذا الجهاز عظيم الخطر في الحضارة، وهو الذي نسميه بالتربية أو التعليم؛ لهذا السبب كان البحث كله، أو يكاد، دائرا حول القابسي وآرائه.
ولا نزاع في أن العرب قد بلغوا في القرون الأولى الإسلامية درجة عظيمة من الحضارة انتشرت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ولا حضارة بغير علم، ولا علم بغير تعليم، ولا تعليم بغير نظام معين يرتب الصلة بين المعلمين والتلاميذ، ويفصل المناهج وطرق التربية وسائر ما يتصل بالتعليم من أدوات.
وقد انتهت الحضارة الإسلامية التي كانت مزدهرة ومنتشرة ومتفوقة على الحضارة الأوروبية إلى الضعف والانحلال، وعم الجهل، وانتشرت الأمية، وأصبح الشرق في موقفه اليوم أشبه بأوروبا في العصر الوسيط حين كانت تعتمد على العلوم المنتشرة عند العرب في حياتها الثقافية. ولكن الشرق العربي أخذ يتنبه ويستيقظ منذ نصف قرن حتى يستعيد مجده السابق. واتجهت النهضة وجهتين: الأولى تأخذ بالحضارة الأوروبية تنقلها كما هي وتعتمد عليها في ثقافتها، والثانية تلتفت إلى الماضي تسعى إلى إحيائه ومعرفة الأساليب القديمة التي اتبعها أجدادنا في تثقيف أبنائهم.
ونحن في حاجة إلى القديم والجديد معا؛ لأننا لا نستطيع قطع الصلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دينه ولغته. لا يزال ديننا الإسلام، وكتابنا القرآن، ولغتنا العربية. ونحن في حاجة اليوم إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم. ويجدر بنا أن نعرف كيف كان أجدادنا منذ ألف عام يعلمونهما، فقد يفيدنا ذلك في موقفنا الحاضر، ويعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابة والقراءة والدين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.
وقد رأيت أن أضيف إلى عنوان الكتاب في طبعته الأولى عنوانا جديدا هو التربية في الإسلام؛ لأن الحديث لم يقتصر على القابسي وحده، بل تجاوزه إلى غيره كذلك.
والله الموفق إلى ما فيه الخير والصواب.
أحمد فؤاد الأهواني
الفصل الأول
حياة القابسي
(1) اسمه ولقبه
في صدر الرسالة التي يتناولها هذا البحث أن المؤلف هو: «أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعروف بالقابسي الفقيه القيرواني».
وفي وفيات الأعيان
1
هو: «أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي المعروف بابن القابسي».
وذكره ابن العماد الحنبلي صاحب «شذرات الذهب، في أخبار من ذهب»:
2 «أبو الحسن القابسي علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني».
ويتفق مؤلف كتاب (معالم الإيمان، في معرفة أهل القيروان)،
3
مع القاضي عياض صاحب (ترتيب المدارك، وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك)،
4
في أنه «أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري المعروف بابن القابسي».
وترجم له السيوطي في (طبقات الحفاظ)
5
فقال: «القابسي الحافظ المحدث الفقيه الإمام علامة المغرب أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي».
ولابن فرحون في (الديباج): «علي بن محمد بن خلف المعافري أبو الحسن المعروف بابن القابسي».
6
وجاء في (نكت الهميان):
7 «علي بن محمد بن خلف، الإمام أبو الحسن المعافري القروي القابسي المالكي».
وذكره ابن فضل الله العمري في (مسالك الأبصار):
8 «علي بن محمد بن خلف المعافري القروي القابسي أبو الحسن».
فجميع الذين ترجموا له لا يختلفون في أن اسمه هو: «أبو الحسن علي بن محمد بن خلف »، ولكن الخلاف بينهم على وصفه المعروف به، أهو القابسي، أم ابن القابسي؟ وإذا كان قابسيا فلماذا سمي المعافري، كما ذكره بعضهم، ولماذا ينسب إلى القيروان؟
قال القاضي عياض: «ولم يكن أبو الحسن قابسيا، وإنما كان له عم يشد عمامته شد القابسيين فسمي بذلك، وهو قيرواني الأصل.» وهذا موافق لما ذكره الصفدي أيضا إذ يقول: «وسمي القابسي؛ لأن عمه كان يشد عمته شدة قابسية.»
ونقد صاحب معالم الإيمان هذا القول، فقال: «وهذا فيه نظر، وظاهر قولهم «المعروف بابن القابسي.» يقتضي أن والده كان من أهل قابس، فإما أن يكون أتى القيروان وتزوج بها، وإما أن يكون أتي به صغيرا.» ثم أضاف: «ولما وليت قضاء قابس، وجدت بقربها قرية خالية تسمى «بالمعافريين» وفيها مسجد يقصد الناس الصلاة فيه تبركا به، يقال له مسجد «سيدي علي» ولا يدرون من يكون عليا. فلما خطبت خطبة العيد، انجر في كلامي أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من زيارة قبور الصالحين، وأن يوصي بالدفن في جوارهم. ثم ذكرت الحكاية الآتية وهي: أن الشيخ أبا الحسن القابسي لما دفن بالقيروان، رأى رجل في منامه كأن رجلا خرج من قبره فقال: لي اليوم في العذاب أربعون سنة، فلما دفن هذا الشيخ أبو الحسن عندنا غفر الله لي ولجميع من في المقبرة. فسألني بعضهم من أي بلدة هو؟ قلت: هو ينسب للمعافريين. فجزموا من محبتهم في ذلك المسجد، وفرحهم بالحكاية المذكورة أنه صاحب ذلك المسجد. فزاد تبركهم وصلاتهم به، وجددوا ما اختل من بنائه، وقالوا: لما كان الشيخ اسمه علي، ويعرف بابن القابسي، وبلده المعافريين، وهذا المسجد بالمعافريين، وسمي بالتواتر سيدي علي، فهو المراد لا غيره.»
ونقل صاحب معالم الإيمان عن القاضي عياض الرواية الآتية: «ذكر ابن سعدون أن أبا الحسن لما جلس للناس، وعزم عليه في الفتوى، تأبى وسد بابه دون الناس، فقال لهم: اكسروا عليه بابه؛ لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا، هو أعلم من بقي بالقيروان.»
وقال عياض: «كان أبو الحسن من صلحاء فقهاء القيروان.»
نخرج من هذا العرض بأن نسبته إلى القيروان نسبة ولادة وإقامة وعمل؛ لأنه ولد بها وأقام فيها، وأفتى. وأن أصل بلدته «المعافريين» وهي قرية بالقرب من قابس، أو قل إنها ضاحية من ضواحيها.
أما القابسي فهي النسبة التي اشتهر بها في الكتب نسبة إلى بلدة قابس بالقرب من القيروان، كما جاء في بعض كتب الناقلين عنه.
جاء في ترجمة عثمان بن سعيد بن عثمان الأموي المقري المعروف بابن الصيرفي أنه سمع من «أبي الحسن القابسي».
9
وفي ترجمة علي بن مسرور الدباغ: «قال القابسي: ما رأيت أكثر حياء من أبي الحسن الدباغ، ما يكلمه أحد إلا احمر لونه، ولقد كان أحيا من الأبكار.»
10
وبعض أصحاب التراجم لا يعرفونه إلا أنه القابسي. انظر إلى السيوطي كيف بدأ بهذا اللقب أول كل شيء، ثم ترجم له بعد ذلك.
وقد وردت قصة على لسان أبي الحسن نفسه في كتاب (نكت الهميان) للصفدي، تثبت أولا أنه «القابسي» لا «ابن القابسي». وتثبت ثانيا أن هذه النسبة إلى قابس مكذوبة عليه. وتثبت ثالثا أنه قيرواني. وهذا نص كلام الصفدي: «قال أبو بكر الصقلي: قال أبو الحسن القابسي: كذب علي وعليك، فسموني القابسي، وما أنا قابسي، وإلا فأنا قيرواني. وأنت دخل أبوك مسافرا إلى صقلية فنسب إليها.»
قابس
في معجم البلدان لياقوت: «قابس إن كان عربيا فهو من أقبست
11
فلانا علما ونارا أو قبسته، فهو قابس بكسر الباء الموحدة: مدينة بين طرابلس وصفاقس ثم المهدية، على ساحل البحر، فيها نخل وبساتين، غربي طرابلس الغرب، بينها وبين طرابلس ثمانية منازل. وهي ذات مياه جارية، من أعمال إفريقية، في الإقليم الرابع، وعرضها خمسة وثلاثون درجة.»
وجاء في أحسن التقاسيم لشمس الدين البشاري
12 «وتأخذ من القيروان إلى قابس، أو إلى نقطة أو إلى سبتة، أو إلى مدينة القصور، أو إلى المهدية، مرحلتين مرحلتين.»
13
وعن ابن خلكان: والقابسي بفتح القاف وبعد الألف باء موحدة مكسورة، ثم سين مهملة، هذه النسبة إلى قابس، وهي مدينة بإفريقية، بالقرب من المهدية، ولما فتحها الأمير تميم بن المعز بن باديس، قال ابن محمد خطيب سوسة قصيدة طويلة أولها:
ضحك الزمان وكان يدعى عابسا
لما فتحت بحد عزمك قابسا
وفي القاموس وشرحه: «وقابس كناصر: بلد المغرب، بين طرابلس الغرب وصفاقس، منه أبو الحسن علي بن محمد القابسي، صاحب الملخص وغيره.» (2) مولده
ذكر ابن خلكان مولده فقال: «وكانت ولادة أبي الحسن المذكورة في يوم الاثنين لست مضين من رجب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.»
واختتم القاضي عياض ترجمته بذكر مولده «في رجب لست ليال مضين منه سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.»
أما السيوطي، وابن العماد الحنبلي، وابن فضل الله العمري، والصفدي، وعبد الرحمن، فلم يعينوا يوم مولده، ولكنهم اكتفوا بذكر السنة التي ولد فيها. وهم جميعا متفقون على أن العام الذي ولد فيه هو أربع وعشرون وثلاثمائة للهجرة.
ويوافق مولده بالتاريخ الميلادي سنة 935م، في الحادي والثلاثين من شهر مايو. (3) رحلته
ذكر ابن خلكان رحلته إلى المشرق، ثم عودته إلى القيروان، فقال: «وحج سنة ثلاث وخمسين. وسمع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد، ورجع إلى القيروان، فوصلها غداة الأربعاء أول شعبان أو ثانيه، سنة سبع وخمسين. كذا قال أبو عبد الله بن وهب.»
وفي (معالم الإيمان) ما يتفق مع ما ورد في (الوفيات)، مع ذكر إقامته بمصر، قال: «ثم رحل إلى المشرق سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وحج سنة ثلاث وخمسين، ثم عاد إلى مصر، فأقام بها يسمع الحديث، فسمع بالإسكندرية من أبي الحسن جعفر الثابياني ... ثم عاد إلى القيروان سنة سبع وخمسين.»
وظاهر هذا القول أنه رحل قبل الحج بعام، وهو طبيعي على الأخص في تلك الأيام. كما أن زيارته لمصر طبيعية؛ إذ كان لا بد لطالب الحج من المغرب إلى المشرق أن يمر بها؛ لأنها في الطريق.
وذكر القاضي عياض ما يؤيد ذلك، قال: ورحل فحج وسمع بمصر ومكة من حمزة بن محمد الكناني، وأبي الحسن الثابياني، وأبي الحسن بن هلال ... وكانت رحلته إلى المشرق سنة اثنتين وخمسين. (4) شيوخه وتلاميذه
قال القاضي عياض: «سمع من رجال إفريقية: أبي العباس الإبياني، وأبي الحسن بن مسرور الدباغ، وأبي عبد الله بن مسرور العسال، وأبي محمد بن مسرور الحجاج، ودراس بن إسماعيل الفاسي والسدري.»
وقال: «وعليه تفقه أبو عمر الفاسي، وأبو القاسم اللبيدي وغيرهما. وروى عنه أبو بكر عتيق السوسي، وأبو القاسم بن الحساري، وابن أبي طالب العابد، وأبو عمرو ابن العتاب، وأبو حفص العطار، وأبو عبد الله الخواص، وأبو عبد الله المالكي، ومكي الفاسي. وروى عنه من الأندلسيين المهلب بن أبي صفرة، وحاتم بن محمد الطرابلسي، وأبو عمرو المغربي.»
وجاء في (نفح الطيب):
14 «ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ المقرئ الإمام الرباني أبو عمرو الداني ... ورحل إلى المشرق سنة 397ه فمكث بالقيروان أربعة أشهر، ودخل مصر في شوالها فمكث بها سنة، وحج ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة 399ه ... وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي.»
قال صاحب (معالم الإيمان): «وسمع منه خلق كثير» وعدد جماعة، منهم من ذكرهم القاضي عياض، ومنهم من لم يذكرهم.
والمشهور أنه أخذ عن الدباغ والكناني. جاء في (شذرات الذهب): «أخذ عن ابن مسرور الدباغ، وفي الرحلة عن حمزة الكناني وطائفة.»
وننقل إليك بعض ما وقع إلينا من كلام القابسي في شيوخه.
جاء في ترجمة أبي العباس بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق التونسي المعروف بالإبياني ما يأتي: «وكان أبو الحسن القابسي يقول ما رأيت بالمشرق ولا بالمغرب مثل أبي العباس. كان يفصل المسائل كما يفصل الجزار الحاذق اللحم. وكان يحب المذاكرة في العلم ويقول: دعونا من السماع، ألقوا المسائل.»
15
وقال في عبد الله أبي محمد ابن أبي زيد: «هو إمام موثوق به في ديانته وروايته.»
16
ورثى القابسي عبد الله أبا محمد بن إسحاق المعروف بابن التبان فقال: «رحمك الله يا أبا محمد فقد كنت تغار على المذهب وتذب عن الشريعة.»
17 (5) صفاته وعلمه
عن السيوطي في (طبقات الحفاظ) أنه «كان حافظا للحديث والعلل، بصيرا بالرجال، عارفا بالأصلين، رأسا في الفقه، ضريرا، زاهدا، ورعا.»
وعن ابن خلكان: «كان إماما في علم الحديث ومتونه وأسانيده ، وجميع ما يتعلق به، وكان للناس فيه اعتقاد كثير.»
وجاء في (شذرات الذهب): «وكان مع تقدمه في العلوم حافظا، صالحا، تقيا، ورعا، حافظا للحديث وعلله منقطع القرين.»
وذكره صاحب (معالم الإيمان) قال: «كان عالما عاملا، جمع العلم والعبادة، والورع والزهد، والإشفاق والخشية، ورقة القلب، ونزاهة النفس، ومحبة الفقراء. حافظا لكتاب الله ومعانيه وأحكامه، عالما بعلوم السنة والفقه واختلاف الناس، سلم له أهل عصره ونظراؤه في العلم والدين والفضل، كثير الصيام والتهجد بالليل والناس نيام مع كثرة التلاوة، وكانت فيه خصال لم تكمل إلا فيه: منها القناعة، والرفق بأهل الذنوب، وكتمان المصائب والشدائد، والصبر على الأذى، وخدمة الإخوان، والتواضع لهم، والإنفاق عليهم، وصلتهم بما عنده.»
وأطال القاضي عياض في ذكر مناقبه، وقد استهل ذكره بما يأتي: «كان أبو الحسن من الخائفين الورعين، المشتهرين بإجابة الدعوة، سلك في كثير من أموره مسلك شيوخه من صلحاء فقهاء القيروان، المتقللين من الدنيا، البكائين المعروفين بإجابة الدعاء، وظهور البراهين.»
وقال ابن فضل الله العمري في (مسالك الأبصار): «رجل نورت بصيرته، وسرت سريرته، وظهرت بزيادة نور الباطن خيرته، فلم يكن ضررا عماه، ولا عادما فضل البصر ونعماه؛ ولم تزل نكبات الأيام عنه ناكبة، ونوائب الحدثان على أعدائه متناوبة؛ اختلج بحرا لا تسع مثله الصدور، وأخرج درا لا تولد شبهه البحور، فما تكلم إلا امتدت إليه يد الالتقاط، وضاق به فسيح الفضاء والبحر في سم الخياط؛ ولم يزل على طرق العلم راصدا، ولسبل الحلم قاصدا، إلى أن قطعت حباله، وغاصت أبحره الزواخر ودكت جباله.»
ثم قال: «وكان حافظا للحديث والعلل، بصيرا بالرجال، عارفا بالأصلين، رأسا في الفقه. وكان ضريرا، وكتبه في نهاية الصحة، كان يضبطها له ثقات أصحابه. وكان زاهدا ورعا يقظا، لم أر بالقيروان أحدا إلا معترفا بفضله.»
ونحب أن نقف قليلا عند مناقبه العلمية، فقد أجمع الذين ترجموا له على أنه كان محدثا حافظا فقيها. ويؤيد ذلك أن صاحب (مسالك الأبصار) ذكره في (طبقات المحدثين). وذكره السيوطي في (طبقات الحفاظ)، وفي هذا دليل على بلوغه مرتبة الحفاظ من أئمة المحدثين.
وما جاء في رسالته التي بين أيدينا من الأحاديث المسندة، يبين أن القابسي كان حقا من علماء الحديث. وكتابه «الملخص» دليل على رسوخ قدمه في الحديث.
وفي ابن خلكان: «وصنف في الحديث كتاب «الملخص» جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث مالك بن أنس رضي الله عنه في (كتاب الموطأ)، رواية أبي عبد الرحمن بن القاسم المصري، وهو على صغر حجمه، جيد في بابه.»
ونختتم القول في صفاته بما شهد فيه أحد شيوخه وهو أبو العباس الإبياني كما روى صاحب الديباج: «يروى أنه قال لأبي الحسن القابسي وهو يطلب عليه: والله لتضربن إليك آباط الإبل من أقصى المغرب فكان كما قال.»
18 (6) مؤلفاته
من الذين أطالوا في ذكر مؤلفاته القاضي عياض، وابن فرحون، وعبد الرحمن. ذكر ابن فرحون خمسة عشر كتابا، وعياض أربعة عشر، وعبد الرحمن عشرة.
واتفق المترجمون الثلاثة على تسعة كتب نذكرها كما جاءت في «ترتيب المدارك» للقاضي عياض، متجاوزين عن ذكر الخلاف اليسير في نص العنوان. وهي: كتاب «الممهد في الفقه وأحكام الديانة»، وكتاب «المبعد من شبه التأويل»، وكتاب «المنبه للفطن من غوائل الفتن»، و«الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين والمعلمين»، وكتاب «الاعتقادات»، وكتاب «مناسك الحج»، وكتاب «ملخص الموطأ»، و«الرسالة الناصرية في الرد على البكرية»، وكتاب «الذكر والدعاء».
وذكر الصفدي ستة من هذه الكتب فقال: «ومن تصانيفه الممهد في الفقه وأحكام الديانات، والمبعد من شبه التأويل، والمنبه للفطن من غوائل الفتن، وملخص الموطأ، والمناسك والاعتقادات.»
واتفق القاضي عياض وابن فرحون في خمسة كتب: «رسالة كشف المقالة في التوبة، وكتاب رتب العلم وأحوال أهله، وكتاب حسن الظن بالله تعالى، رسالة تزكية الشهود وتجريحهم، رسالة في الورع.»
أما الكتاب العاشر الذي جاء في (معالم الإيمان) فهو كتاب «أحمية الحصون» ذكره ابن فرحون في (الديباج)، وأغفله القاضي عياض في (ترتيب المدارك).
وبحثنا عن هذه المؤلفات في (كشف الظنون)، وفي بروكلمان لنهتدي إلى الموجود منها.
ولم يذكر صاحب (كشف الظنون) إلا كتاب الملخص. قال: «ملخص في الحديث لأبي الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي المعافري المالكي المتوفى سنة 403ه جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث مالك في الموطأ. قال أبو عمرو الداني وهو خمسمائة حديث وعشرون حديثا. أوله: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا ... إلخ، وشرح القاضي شهاب الدين محمد بن أحمد بن محمد الخويي الشافعي خمسة عشر حديثا من أوله وتوفي سنة 693ه. ولقد أجاد فيه وأبان عن مزيد علم، وغزارة فضل، كما ذكره السبكي.»
19
وليس القاضي شهاب الدين أول من شرح (الملخص)، فقد جاء في (الديباج) عند ترجمة محمد بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة: «وله شرح في اختصار ملخص القابسي.»
20
وذكر هذا المخطوط بروكلمان في الملحق صفحة 298، فقال: «ومنه نسخة ببانكي بور في الهند، وأخرى بالمدينة.»
وذكر بروكلمان أيضا كتاب «المفصلة لأحكام المعلمين» المخطوط الموجود في باريس، وهو موضوع بحثنا هذا.
وصف النسخة الخطية
هذه النسخة محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس برقم 4595. وهي النسخة الوحيدة في العالم، على ما نعلم. وقد طلبت من دار الكتب المصرية في القاهرة أن تحضر صورة شمسية لها، فأحضرتها. وهي محفوظة برقم 1592 تعليم.
وتاريخ النسخ الموضوع على المخطوطة هو سنة 706 هجرية.
وعدد ورقاتها 97، طول كل منها
سم، وعرضها 12سم. وعدد الأسطر في الصفحة 13 سطرا في الغالب.
اسم الكتاب
عنوان الكتاب كما جاء في فهرست المكتبة الأهلية بباريس هو: «أحوال المتعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين».
والواقع أن المكتوب في صدر المخطوطة عنوان في سطرين: في السطر الأول كلمة «الفضيلة» أو «المفصلة» كما سنبين فيما بعد، وفي السطر الثاني «لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين».
وقد قرأت الكلمة الأولى من العنوان على أنها «الفضيلة»، ولذلك حين أحضرت دار الكتب المصرية بالقاهرة النسخة الشمسية - بناء على طلبي - سجلت عنوان الكتاب في فهارسها «الفضيلة» كما ذكرت للدار.
وقراءة هذه اللفظة على النحو السابق أدخل في ذهن الناظر إليها من أول وهلة. والحقيقة غير ذلك لما سنبينه من أسباب.
والواضح ألف، ثم لام ثم فاء منقوطة، ثم صاد، ثم لام، ثم هاء مربوطة ليست منقوطة.
وإذ جرى الناسخ على إهمال النقط في أغلب الأحيان ، وكانت السنة التي عقبت الصاد منحنية إلى أسفل، مما يوحي بأنها ياء، فقد قرأت الكلمة «الفضيلة».
واتفق صاحب (ترتيب المدارك)، وصاحب (معالم الإيمان)، وهما يترجمان لحياة أبي الحسن، أن من ضمن مؤلفاته كتابا اسمه «الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين».
وبالرجوع إلى الأصل المخطوط، تبين لنا، أنه بالرغم من أن حرف الميم ساقط من اللفظة، فإن قراءتها على أنها «المفصلة» أرجح؛ لأنه هو العنوان المعروف بين العلماء، المذكور في كتبهم، ولأن قراءة الكلمة «الفضيلة» يجعلنا ننقط الصاد ونضيف ياء بعدها ليست موجودة. وعلى ذلك يكون عنوان الكتاب: «المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين»
وفيما ذكره ابن فرحون في الديباج عن عنوان هذا الكتاب تصحيف ظاهر لا يحتاج منا إلى إقامة دليل، فقد جاء في سياق مؤلفاته: «والرسالة المفصلة لأحوال المتقين وكتاب المعلمين والمتعلمين.» ولا شك أن لفظة المتقين مصحفة عن المتعلمين، وأن الرسالة والكتاب ليسا إلا كتابا واحدا، هو الذي نجري عليه هذا البحث.
ونشير إلى ترجمة العنوان التي وردت في فهرست المكتبة الأهلية بباريس؛ إذ فيها تحريف كثير. فالترجمة تقول: «قواعد السلوك للمعلمين والمتعلمين».
Règles de Condnite pour les instituleurs et les élèves .
هذه الترجمة إن اتفقت مع موضوع الكتاب، فإنها لا تتفق مع حرفية العنوان، ونشير كذلك إلى القراءة التي ذكرها الدكتور إبراهيم سلامة
21
لهذا العنوان حيث قال: «فضلة أحوال المتعلمين، وأحكام المعلمين».
وليست هذه القراءة صحيحة، ولا تنطبق على ما جاء في الأصل. (7) وفاته
لا خلاف بين أصحاب الكتب السابقة التي أخذنا عنها في الترجمة للقابسي أن عام وفاته هو 403 هجرية.
ولم يذكر القاضي عياض الشهر الذي توفي فيه، وكذلك ابن العماد الحنبلي.
وذكر السيوطي الشهر دون اليوم.
وحدد ابن خلكان ليلة وفاته قال: «وتوفي ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة.»
وعن (معالم الإيمان): «وتوفي رحمه الله ليلة الأربعاء، ودفن يوم الخميس صلاة الظهر لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة.»
وقال ابن خلكان: إنه دفن يوم الأربعاء لا الخميس. قال: «ودفن يوم الأربعاء وقت العصر بالقيروان، وبات عند قبره من الناس خلق كثير ، وضربت الأخبية، وأقبلت الشعراء بالمراثي، رحمه الله تعالى.»
وبذلك يكون القابسي قد عمر ثمانين عاما.
وتاريخ وفاته الهجري يوافق 1012 بالتاريخ الميلادي في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي.
الفصل الثاني
بيئة القابسي الدينية وطريقته في التأليف
(1) المذهب السائد في شمال أفريقيا
القابسي صورة للعصر الذي عاش فيه، بل صورة للإقليم الذي أظلته سماؤه. وإذا أردنا أن نفهمه، فعلينا أن نفهم البيئة التي نشأ فيها. فالإنسان متصل بالبيئة يتأثر بها ويؤثر فيها. وعندنا أن تأثير البيئة في الفرد أقوى من تأثير الفرد فيها. وبعض المفكرين يسبقون عصرهم وهؤلاء هم قادة الفكر، وهم قلة إلى جانب أغلبية المجتمع. وقد يمر عصر - بل عصور - دون أن يجود الزمان بهؤلاء الأحرار الذين يستطيعون التخلص من سلطان المجتمع ليفكروا دون تقييد أو جمود، وليحكموا عقولهم في سبيل إصدار الحكم الصحيح الخالص من أثر الأهواء والتعصب للشائع المعروف. فهذا أرسطو وهو المعلم الأول، ألف في جميع العلوم، لم يسلم من ربقة البيئة وسلطان المجتمع. فقد أجاز نظام الرق وعد الأرقاء أقل في الطبيعة الإنسانية من غيرهم، والطبيعة البشرية واحدة في جميع الناس.
كانت البيئة السائدة في القرن الرابع بيئة دينية، إسلامية في الشرق، ومسيحية في الغرب، أهم ما يميزها خضوع الناس في مناحي تفكيرهم وأحوالهم لسلطان الدين. هذه سمة العصر كله.
ويحسن أن نتتبع نشأة هذه البيئة الدينية منذ ظهورها إلى أن اتخذت لونا خاصا في شمال أفريقيا، وفي القيروان على وجه الخصوص، وهي المدينة التي ولد القابسي ونشأ فيها، إذ كان هذا التحول لازما لفهم البيئة التي نتحدث عنها.
جاء في كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
أن الدين الإسلامي هو الدين الذي يجب اتباعه:
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19)،
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه (آل عمران: 85)، ولذلك كانت غاية المسلمين أن ينشروا دينهم في جميع البلاد. وكانت وسيلتهم إلى تحقيق هذه الغاية الدعوة والغزو . وقد عمل النبي
صلى الله عليه وسلم
والذين آمنوا معه من العرب بهذه العقيدة الدينية والسياسية؛ لأنهم كانوا يعملون في سبيل الله، ويؤمنون بما جاء على لسان رسوله.
وقد قوت هذه العقيدة عزائم المسلمين، وحفزتهم إلى دعوة الشعوب المختلفة إلى اعتناق الإسلام، بل دفعتهم إلى غزو هذه الشعوب، وإلى فرض الدين الإسلامي على أهلها. ذلك أن الشروط التي اتبعها الغزاة من العرب في فتوحاتهم هي قبول الإسلام أو الجزية أو القتال:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة: 29).
وانتهى بذلك كثير من الشعوب المختلفة إلى الدخول إلى الإسلام.
وامتدت الفتوحات شرقا وغربا في دائرة مركزها جزيرة العرب: فسقطت دولة الفرس، وغلبت الروم، وأخذت العرب فلسطين والشام.
واتجهوا غربا نحو مصر، ففتحها عمرو بن العاص. «وكان مسير عمرو إلى مصر في سنة تسع عشرة.»
1
ولما تم لعمرو فتح مصر، وهزم جيش الروم، وسلم له أهلها، أراد أن يتوسع في الفتح فسار غربا إلى شمال أفريقيا، حتى نزل طرابلس في سنة اثنين وعشرين فقوتل، ثم افتتحها عنوة. وكتب إلى عمر بن الخطاب: «إنا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين إفريقية تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها فعل. فكتب إليه ينهاه عنها.»
2
ولما ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح في خلافة عثمان، غزا شمال إفريقية في سنة سبع وعشرين، ويقال في سنة ثمان وعشرين، ويقال في سنة تسع وعشرين.
3
وصالح عبد الله بن سعد بطريق إفريقية على جزية بعد أن هزم جيشه، «ورجع إلى مصر، ولم يول على إفريقية أحدا، ولم يكن لها يومئذ قيروان، ولا مصر جامع.»
4
وقد لخص ابن خلدون ما وقع في هذا الفتح فقال: «قد ذكرنا في خلافة عثمان بن عفان شأن فتح إفريقية على يد عبد الله بن أبي سرح، وكيف زحف إليها في عشرين ألفا من الصحابة وكبار العرب. ففض جموع النصرانية الذين كانوا بها، من الفرنجة والروم والبربر، وهدم سبيطلة قاعدة ملكهم، وخربها، واستبيحت أموالهم، وسبيت نساؤهم وبناتهم، وافترق أمرهم، وساحت خيول العرب في جهات إفريقية، وأثخنوا في أهل الكفر قتلا وأسرا، حتى لقد طلب أهل إفريقية من ابن أبي سرح أن يرحل عنهم بالعرب إلى بلادهم ويعطوه ثلاثمائة قنطار من الذهب، ففعل. وقفل إلى مصر سنة سبع وعشرين.»
5
وتم فتح إفريقية في خلافة معاوية على يدي عقبة بن نافع، الذي «غزاها في عشرة آلاف من المسلمين، فافتتحها واختط قيروانها ... ثم بنى، وبنى الناس معه الدور والمساكن، وبنى المسجد الجامع بها.»
6
وكان ذلك سنة خمس وأربعين.
ولما استقل يزيد بن معاوية بالخلافة، رجع عقبة بن نافع إلى إفريقية سنة اثنتين وستين. «فدخل إفريقية وقد نشأت الردة في البربر، فزحف إليهم ... وفر منه الروم والفرنجة، فقاتلهم وفتح حصونهم ... ثم رحل إلى طنجة، فأطاعه يليان ملك عمارة وصاحب طنجة، وهاداه، ودله على بلاد البربر وراءه بالمغرب، مثل بلاد المصامدة وبلاد السوس ... فسار عقبة وفتح وغنم ... وكان كسيلة ملك أوربة والبرانس من البربر قد اضطغن عليه ... فانتهز الفرصة، وأرسل البربر فاعترضوا له وقتلوه في ثلاثمائة من كبار الصحابة والتابعين، واستشهدوا كلهم ... واستأمن من كان بالقيروان إلى كسيلة، فأمنهم ودخل القيروان، وأقاموا في عهده.»
7
ولما ولي عبد الملك بن مروان، أرسل زهير بن قيس لحرب البرابرة «فزحف من برقة سنة سبع وستين، ودخل إفريقية، ولقيه كسيلة عند القيروان فهزمه زهير بعد حروب صعبة، وقتله ... ثم قفل زهير إلى المشرق زاهدا في الملك.»
8
ثم أمر عبد الملك بن مروان حسان بن النعمان الغساني بغزو إفريقية، وأمده بالعساكر، ودخل القيروان، وافتتح قرطاجنة عنوة وخربها، وفر من كان بها من الروم والفرنجة ... وأمن البربر، وكتب الخراج عليهم، وعلى من معهم من الروم والفرنج.
9
وبذلك استقر المسلمون في تلك البلاد استقرار من يلتصق بالأرض ويتخذها له وطنا.
هؤلاء هم الرعيل الأول الذي حمل الإسلام إلى أهل إفريقية، فهم الذين كانوا ينشرون الدعوة، ويتخذهم الناس أئمة وقدوة. وكانوا أئمة حقا، لأن منهم من صحب النبي، أو كان من كبار التابعين. كان في جيش عبد الله بن أبي سرح معبد بن العباس بن عبد المطلب، ومروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية، والحارث بن الحكم وأخوه، وعبد الله بن الزبير ابن العوام، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن أبي بكر ... ثم زاد البلاذري على ذلك قوله: «وخرج في هذه الغزاة ممن حول المدينة من العرب خلق كثير.»
10
فإذا قلنا إن كبراء العرب عادوا إلى وطنهم، فإن هذا الخلق الذي خرج من المدينة ومن حولها، لم يعد منهم إلا القليل، على حين مكث أغلبهم وبنى واستقر؛ ذلك أن المعيشة في جزيرة العرب لا تسهل حتى على أهلها، لقلة مواردها وقسوة الجو فيها.
ولم تخل هذه الغزوات من قتلى يستشهدون في ميدان القتال، «وقبورهم تدعى قبور الشهداء.»
11
وبقيت أئمة المسلمين وكبار الصالحين رمزا قويا للصدر الأول من الإسلام، وتبعث في الخلف روح الاستمرار على الاقتداء بالأوائل، وبث تعاليم الإسلام، والتمسك بأهداب الدين القويم.
على أن استتباب الأمر، ونشر الإسلام، وتمكين الدين واللغة العربية من النفوس شغل الدولة الأموية كلها. ذلك أن الثورات لم تنقطع في عهد الأمويين كما رأينا، بسبب قرب العهد بالشعوب المفتوحة من تقاليدها وعاداتها الموروثة. «ولى هشام كلثوم بن عياض إفريقية، فانتفض أهلها عليه، فقتل بها.»
12
ولم يستتب الأمر إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز، الذي ولى المغرب إسماعيل بن أبي المهاجر «فسار أحسن سيرة، ودعا البربر إلى الإسلام.»
13
وهذا يطابق ما ذكره صاحب (البيان المغرب): «وما زال إسماعيل حريصا على دعاء البربر إلى الإسلام، حتى أسلم بقية البربر بإفريقية على يديه في دولة عمر بن عبد العزيز. وهو الذي علم أهل إفريقية الحلال والحرام. وبعث معه عمر رضي الله عنه عشرة من فقهاء التابعين أهل علم وفضل، منهم عبد الرحمن بن نافع، وسعيد بن مسعود التجيبي وغيرهما.»
14
ويؤيد ما سبق ما جاء في تاريخ ابن خلدون قال: «ولما مات سليمان بن عبد الملك، استعمل عمر بن عبد العزيز على إفريقية إسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، وكان حسن السيرة، وأسلم جميع البربر في أيامه.»
15
بذلك تم إسلام البربر، وأصبحت لغتهم هي العربية، كما حدث للفرس وغيرهم من الشعوب غير العربية.
وعني العباسيون بتثبيت الإسلام بعد ان انقضى نحو قرن من الزمان على الفتح، نسي خلاله البربر - وهم أهل شمال إفريقية - تاريخهم ودينهم. وأقبلوا على الدين الجديد، وتشبعوا منه، وأشربوا حبه وتثقفوا بثقافته، وأصبحوا ركنا من أركانه يذودون عنه باللسان والقلم والسيف.
انقضى نحو قرن من الزمان منذ الفتح حتى إسلام البربر، وانقضى نحو قرن آخر تفقه فيه أهل شمال إفريقية، حتى برز منهم علماء يشار إليهم ويعتد بهم، منهم علي بن زياد، وابن أبي حسان، وابن غانم، وابن أشرس.
ولكن أشهر فقهاء شمال إفريقية هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون.
16
ولم يكن في المغرب من أئمة العلماء من يأخذ الناس عنهم. ولم تكن حلقات العلم في مساجدها مما يشبع نهم طلاب التبحر في العلم. وإنما كان سبيل طلاب العلم أن يرحلوا إلى مواطنه يثقفون أنفسهم، ويشبعون نهمهم، ويروون غلتهم. والطريق الطبيعي الذي لا بد لأهل المغرب أن يسلكوه إذا أرادوا طلب العلم هو الرحلة إلى مصر، ومنها إلى البلاد الشرقية خصوصا الحجاز، فقد كانت مصر مركزا من مراكز العلم، ظهر فيها الشافعي، وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الذين يأتم بهم المسلمون، ويعتمدون عليهم في الفقه وتفسير العقائد والعبادات. وانتشر أيضا مذهب مالك، وكان له في مصر تلاميذ كثيرون نذكر منهم أشهب، وابن القاسم، وأصبغ بن الفرج.
أما البلاد الشرقية الأخرى التي كان المغاربة يتوجهون إليها فهي مكة والمدينة. وكانوا يذهبون إليهما بحكم الضرورة: في مكة الكعبة التي يحج إليها كافة المسلمين ليؤدوا فريضة الحج التي أمر الله بها، وفي المدينة قبر النبي
صلى الله عليه وسلم ، يزوره الحجاج، ويشهدون مهبط الوحي، والبيئة الأولى التي ينبع منها الدين.
في مصر ومكة والمدينة من العلماء المتمكنين في العلم غنية لمن يطلب التوسع في أسرار الدين، والتفقه في أحكام المعاملات والعبادات والتشريع.
لذلك كان من الطبيعي أن يتصل المغاربة وهم راحلون إلى الحج بالبيئات العلمية في مصر ومكة والمدينة، فلما تفقه بعضهم ونبغوا، كانوا تلامذة لشيوخ مصر والحجاز، وثمارا من شجرتهم الباسقة، وألسنة تذيع مناهجهم العقلية والنقلية في بلاد المغرب، وفي هذا يقول ابن خلدون: «وأما مالك فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، لأن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم. والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق. ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة. وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله، وتلاميذه من بعده. فرجع إلى أهل المغرب والأندلس، وقلدوه دون غيرهم ممن لم تصل إلينا طريقته.»
17
وسحنون هو الذي نشر مذهب مالك بالمغرب.
سمع سحنون من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وسفيان بن عيينة. قال سحنون: «خرجت إلى ابن القاسم وأنا ابن خمس وعشرين، وقدمت إلى إفريقية ابن ثلاثين سنة.»
وكان سحنون ثقة حافظا للعلم، اجتمعت فيه خلال قلما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والورع الصادق، والزهادة في الدنيا.
وسلم له بالإمامة أهل عصره، واجتمعوا على فضله وتقديمه. سئل أشهب عمن قدم إليكم من المغرب، قال: سحنون. قال له: فأسد؟
18
قال: سحنون والله أفقه منه بتسع وتسعين مرة. وقال ابن القاسم: ما قدم إلينا من إفريقية مثل سحنون. وقال الشيرازي: إليه انتهت الرياسة في العلم بالمغرب، وعلى قوله المعول بالمغرب. قال سحنون: كنت عند ابن القاسم وجوابات مالك ترد عليه، فقيل له: ما منعك من السماع منه؟ قال: قلة الدراهم. وقال مرة أخرى: لحى الله الفقر، فلولاه لأدركت مالكا.
صنف سحنون «المدونة»، وعليها يعتمد أهل القيروان، وعنه انتشر علم مالك بالمغرب.
وذكر ابن خلدون رواية أخرى عن تصنيف المدونة قال: «ورحل من إفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولا ثم انتقل إلى مذهب مالك، وكتب عن ابن القاسم في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه، وسمي الأسدية، فقرأ بها سحنون على أسد. ثم ارتحل سحنون إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها، وكتب سحنون مسائلها ودونها، وأثبت ما رجع عنه؛ وكتب لأسد أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك. فترك الناس كتابه، واتبعوا مدونة سحنون.»
19
وتوفي سحنون سنة 240 للهجرة.
وسار محمد بن سحنون
20
سيرة أبيه في تثبيت مذهب مالك بالقيروان والمغرب، وكان قد تفقه بأبيه، وجلس في مجلسه بعد موته.
كان محمد إماما في الفقه، ثقة عالما بالذب عن مذاهب أهل المدينة، عالما بالآثار. وكان الغالب عليه الفقه والمناظرة. وكان يحسن الحجة والذب عن أهل السنة والمذهب.
وكان ابن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب جامعا لخلال قلما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر والجدل والحديث، والذب عن مذهب أهل الحجاز.
على يد هؤلاء انتشر مذهب مالك في المغرب خلال القرن الثالث، وأصبح هو المذهب السائد في تلك الأنحاء، واتبعه الفقهاء جيلا بعد جيل. ولهذا لم يكن من الغريب أن ينشأ القابسي مالكيا؛ لأنه ولد في المغرب فتأثر بالبيئة الغالبة في عصره، وهي بيئة تبني الفقه الإسلامي على أساس من القرآن والحديث، ولذلك اصطلح العلماء على تسميتهم بأهل الحديث. (2) منهج الفقهاء من أهل الحديث
ويسمون أيضا أصحاب الحديث، في مقابل أصحاب الرأي. وقد عدد ابن قتيبة من هؤلاء وأولئك نفرا.
21
ولم يكن بين المسلمين في القرن الأول من الهجرة خلاف كبير على أحكام المعاملات والعبادات، لبعدهم عن الحضارة، ولبساطة المعيشة بما يشبه فطرة العرب في البداوة، وقربهم من عصر الرسول، وإدراكهم للصحابة الذين صحبوه وسمعوا عنه، وشهدوا أفعاله في شتى المناسبات، ووعوا آثاره عن سلوك المسلم الكامل الإسلام.
فلما توغل المسلمون في الحضارة، وتفرعت مطالب الحياة، وظهرت ألوان من المعاملات لم تكن معروفة في عهد النبي، تصدر الأئمة للحكم عليها من الناحية الشرعية بما يتفق مع الدين، ويتأثر هدي الرسول الأمين.
هذه الأحكام الجديدة تسمى في الفقه بالاجتهاد، ويسمى الأئمة الذين يصدرونها بالمجتهدين.
قال صاحب (الملل والنحل): «ثم المجتهدون من أئمة الأمة محصورون في صنفين لا يعدوان إلى ثالث: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي. وأصحاب الحديث وهم أهل الحجاز، هم أصحاب مالك بن أنس وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأصحاب داود علي بن محمد الأصفهاني. وإنما سموا أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا. وقد قال الشافعي: إذا وجدتم لي مذهبا، ووجدتم خبرا على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر. ومن أصحابه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي ... وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهادا، بل يتصرفون فيما نقل عنه توجيها واستنباطا، ويصدرون عن رأيه جملة، ولا يخالفونه البتة.
أصحاب الرأي وهم أهل العراق، هم أصحاب أبي حنيفة النعمان، وإنما سموا أصحاب الرأي؛ لأن عنايتهم بتحصيل وجه من القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها. وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأيناه. وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهادا، ويخالفونه في الحكم الاجتهادي. وبين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع، ولهم فيها تصانيف، وعليها مناظرات، وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون.»
22
وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي يتفقان في الاعتماد على الكتاب، أي القرآن؛ لأنه الأصل الأول من أصول الفقه، ولا وجه للخلاف فيه لأنه تنزيل العزيز الحكيم.
ولكنهما يفترقان عند الأصل الثاني، أي السنة، فأصحاب الحديث وعلى رأسهم مالك يأخذون بالحديث، وأصحاب الرأي لا يعتمدون عليه كثيرا.
قال ابن فرحون: «أما أبو حنيفة والشافعي فمسلم لهما حسن الاعتبار، وتدقيق النظر والقياس، وجودة الفقه والإمامة فيه، لكن ليس لهما إمامة في الحديث، وضعفهما فيه أهل الصنعة. ولهذا أهل الحديث لم يخرجوا عنهما فيه حرفا،
23
ولا لهما في أكثر مصنفاته ذكر، وإن كان الشافعي متبعا للحديث ، ومفتشا على السنن لكن بتقليد غيره.»
24
وهذا يطابق ما ذكره ابن خلدون قال: «واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال (يريد رواية الحديث) فأبو حنيفة يقال عنده بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها، ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها.»
25
ثم أضاف ابن خلدون في سبب قلة الرواية عند أبي حنيفة وكثرتها عند مالك ما يأتي: «وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث، ولهذا قلت روايته، ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة؛ لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة. ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصوله الصحيحة، ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترض فيها، والعلل التي تعرض في طرقها، سيما والجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد؛ ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف الطرق. هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق؛ لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومن انتقل إلى العراق كان شغلهم بالاجتهاد أكثر. والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. وقلت من أجلها روايته فقل حديثه، لا أنه ترك رواية الحديث متعمدا، فحاشاه من ذلك. ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه فيما بينهم والتعويل عليه واعتباره ردا وقبولا.»
26
وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي يفترقان أكثر من ذلك في الاعتماد على الإجماع والقياس. فأصحاب الرأي أكثر اعتمادا على القياس من أصحاب الحديث. عن الشهرستاني: «أصول الاجتهاد وأركانه أربعة تعود إلى اثنين: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.»
27
يريد الشهرستاني أن يقول إن الإجماع والقياس لا بد أن يرجعا إلى أحد الأصلين: الكتاب أو السنة.
قال القاضي عياض بعد ذكر الكتاب والسنة: «ثم إجماع المسلمين يترتب عليهما ، فلا يصح أن يؤخذ وينعقد إلا عنهما، إما من نص عرفوه ثم تركوا نقله، أو من اجتهاد مبني عليهما على القول بصحة الإجماع من صحة الاجتهاد.»
28
وهناك بعض الفقهاء لم يجوزوا القياس، واكتفوا بالكتاب والسنة والإجماع، وهم أهل الظاهر. قال الشهرستاني: «ومن أصحاب الظاهر مثل داود الأصفهاني وغيره ممن لم يجوز القياس والاجتهاد في الأحكام، وقال: الأصول هو الكتاب والسنة والإجماع فقط، ومنع أن يكون القياس أصلا من الأصول ... وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنة.»
أما مالك فلم يكن يلجأ إلى القياس إلا قليلا، والأغلب اعتماده على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع. «قيل لمالك قولك في الكتاب الأمر المجتمع عليه، والأمر عندنا وببلدنا، وأدركت أهل العلم، وسمعت بعض أهل العلم.
فقال: أما أكثر ما في الكتاب فرأي فلعمري ما هو برأيي، ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم. وهم الذين كانوا يتقون الله، فكثر علي، فقلت رأيي. وذلك رأيي إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك. فهذا وراثة توارثوها قرنا عن قرن إلى زماننا. وما كان رأيا فهو رأي جماعة ممن تقدم من الأئمة. وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم لم يختلفوا فيه.
وما قلت الأمر عندنا، فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام، وعرفه الجاهل والعالم.
وكذلك ما قلت فيه ببلدنا، وما قلت فيه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنته من قول العلماء.
وأما ما لم أسمع منهم، فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته، حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبا منه، حتى لا يخرج من مذهب أهل المدينة وآرائهم.
وإن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلي بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه عمل أهل العلم المقتدى بهم. والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله والأئمة الراشدين مع من لقيت، فذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره.»
29
فهذا كلام مالك نفسه يتضح منه مذهبه.
وقد وضح ابن خلدون الفرق بين عمل أهل المدينة والإجماع فقال: «واختص مالك بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة؛ لأنه رأى أنهم فيما يتفقون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم، واقتدائهم، وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي، الآخذين ذلك عنه، وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره؛ لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة. واعلم أن الإجماع إنما هو الاتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. ومالك لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله عليه.»
30
وبعد أن استقرت المذاهب الفقهية، سرى كل مذهب في جهة من الجهات: «فغلب مذهب مالك على أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس؛ صقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان حتى وقتنا هذا.» أي إلى زمن ابن فرحون صاحب (الديباج) في القرن الثامن.
وقال ابن خلدون: «وأما مالك فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره.»
31
ونشأ القابسي بالقيروان، فوجد مذهب مالك هو المذهب السائد في بيئته. وأخذه عن شيوخ كلهم مالكيون. ثم رحل إلى مصر والحجاز فسمع عن المالكيين، ثم عاد فقيها محدثا مالكيا متبعا لمذهب مالك، وكتابه في التعليم الذي بين أيدينا شاهد على ذلك؛ لأنه يجري فيه على طريقة المالكية، يعتمد على الكتاب، ثم السنة، ثم عمل أهل المدينة، ثم الإجماع ثم القياس. (3) أثر المنهج السابق في التربية عند القابسي
أطلنا الكلام عن منهج أصحاب الحديث، وفصلنا القول في طريقة المالكية التي تعتمد على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع والقياس، لما لذلك من صلة كبيرة بالموضوع الذي نناقشه، وهو موضوع التعليم الذي عالجه القابسي.
وإذا أردنا أن نحكم على القابسي حكما صحيحا، فينبغي أن نبدأ أولا بالنظر في منهجه الذي اتبعه في بحث موضوع التعليم، وهو المنهج الذي سار عليه فعلا، وارتضاه لنفسه؛ لأن الصلة بين المنهج والموضوع صلة بالغة الأهمية في إخراج الموضوع على نحو معين. ومن المسلم به أن كل علم من العلوم لا يمتاز عن غيره باختلاف موضوع العلم فقط، بل المنهج الذي يتبع أيضا في دراسة هذا العلم.
فالمنهج السليم يؤدي إلى نتائج سليمة في الموضوع، والمنهج الخاطئ، يؤدي إلى نتائج خاطئة. ونعني بالمنهج السليم أن يكون ملائما للموضوع.
فهل كان المنهج الذي اتبعه القابسي هو المنهج السليم الذي ينبغي اتباعه في معالجة موضوع التعليم؟
نأتي أولا بشواهد من رسالة القابسي تثبت أنه اتبع منهج أصحاب الحديث، ومنهج المالكية على الخصوص، ثم تبين بعد ذلك الأثر الذي أدى إليه اتباع ذلك المنهج.
اعتمد القابسي على أدلة من الكتاب والسنة نجتزئ منها بما يأتي: (أ)
وقد بين الله سبحانه في كتابه وصف قارئ القرآن، وذلك في قوله عز وجل
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (فاطر: 29) 19-أ.
32 (ب)
قال أبو الحسن: والماهر بالقرآن يؤمر بترتيله. قال الله عز وجل:
يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا ...
إلى قوله:
ورتل القرآن ترتيلا (المزمل: 1-4) 22-أ. (ج) «ومن حسن رعايته لهم أن يكون بينهم رفيقا، فإنه جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فيه، فارفق به.» 54-أ. (د)
وقال في تعليم الشعر: «وقد ثبتت الرواية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: إنما الشعر كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.» 44-ب.
وقد أوضح القابسي نفسه المنهج الذي اتبعه، فأغنانا بذلك عن محاولة الكشف عما استتر في نفسه، وكيف جرى تفكيره، فقال: «فقد بينت لك ما جاء في فضل من تعلم القرآن وعلمه، كل ذلك عن كتاب الله عز وجل، وعما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم
تسليما.» 19-ب.
والقابسي محدث ثقة، له كتاب «ملخص الموطأ» جمع فيه ما صح إسناده من أحاديث «الموطأ»؛ لهذا كان لا يروي إلا الأحاديث القوية، أما الأحاديث الضعيفة السند فلا يرويها. ولا يتحرج من الشك في صحة الحديث إذا ضعفه. قال: «وسألت عما ذكر من أن القرآن في صلاة خير من القرآن في غير صلاة ... فاعلم أني سمعته سماعا هكذا، ولم أقف على صحته بهذا المعنى.» 23-ب.
ومن أصوله بعد الكتاب والسنة عمل أهل المدينة. قال في أجر المعلم: «عن ابن وهب في موطئه عن الجبار بن عمر قال: كل من سألت بالمدينة لا يرى لتعليم المعلمين بالأجر بأسا.» 33-ب.
وهاك مثلا يبين اعتماده على الإجماع، قال: «وأما إمساك الصبيان المصاحف وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك، وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مس المصاحف الجامعة - وهم على غير وضوء - خلاف، من مالك، ولا ممن يقول بقوله.»
وكذلك لجأ القابسي إلى القياس الشرعي، ومثال ذلك الحكم على الوالد بتعليم ابنه القرآن قال: «جاء أن رسول الله مر بامرأة في محفتها فقيل لها: هذا رسول الله؛ فأخذت بعضد صبي معها وقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله: نعم ولك أجر. فهل يكون لهذه المرأة أجر فيما هو لصبيها حج إلا من أجل أنها أحضرته ذلك الحج. والذي يناله الصبي من تعليمه القرآن هو علم يبقى له بحوزه، وهو أطول غناء.» 26-أ.
وهذا قياس آخر في تعليم الوالد لابنه: «إن حكم الولد في الدين حكم والده ما دام طفلا صغيرا. أفيدع ابنه الصغير لا يعلمه الدين، وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» 28-أ.
والأصل في هذا القياس هو الحديث الذي ذكره القابسي وشرحه: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه ... فقالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ فقالوا الله أعلم بما كانوا فاعلين.» 28-أ.
فإذا لم يجد القابسي نصا من القرآن، أو حديثا من السنة، أو إجماعا في الرأي، أو قياسا على أصل من الأصول السابقة، فإنه يحكم في المسألة بما يرى فيه فائدة المعلم والمتعلم، أو يحكم بالعرف إذا كان العرف حسنا، وإذا كان العرف سيئا لم يجزه.
وبيان المصلحة في سلوك الإنسان، يقتضي التأمل في قوانين النفس الإنسانية إذا كان السلوك فرديا، والنظر إلى القوانين الاجتماعية إذا كان سلوك الإنسان متصلا بغيره من الناس.
واتباع العرف، على الأخص إذا كان حسنا، من الأمور الاجتماعية التي لا يستطيع الباحث أن يصرف النظر عنها. لذلك اتبع المشرعون التقاليد. قال القابسي: «وكذلك المعلمون عندي في هذه العادات - إذا كانت مستحسنة في الخاصة - فانتشارها على ما وصفنا يوجبها.» 74-أ.
وهكذا نرى القابسي يتأمل النفس الإنسانية، ويفحص عن سلوك الناس في المجتمع، ويعتمد على العرف السائد، كلما أراد أن يصدر حكما جديدا لا يستند إلى أصل من الكتاب أو السنة أو الإجماع.
ومن أمثلة الحكم القائم على معرفة بالنفس ما جاء عن وجوب الرفق في معاملة الصبيان وعدم العبس. «فكونه عبوسا أبدا من الفظاظة الممقوتة، ويستأنس الصبيان بها، فيجترئون عليه. ولكنه إذا استعملها عند استئهالهم الأدب، صارت دلالة على وقوع الأدب بهم ويأنسوا إليها.» 54-أ. وذكر في مكان آخر أنه ينبغي أن يتجنب المعلم الشتم؛ لأن «الألفاظ القبيحة إنما تجري من لسان التقي إذا تمكن منه الغضب وليس هذا مكان الغضب.»
وقد يذكر حكما من غير بيان الأسباب التي تدعو إلى القول بهذه القاعدة. مثال ذلك ما جاء عن الحفظ حيث قال: «ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقله من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» 59-أ.
ومن المسائل التي تدل على بصر بالأمور الاجتماعية ما ذكره عن الجمع بين الجنسين في التعليم، وعن الاحتراس من البالغين. فقال: «ومن صلاحهم ومن حسن النظر لهم ألا يخلط بين الذكران والإناث.» وقال: «إنه لينبغي للمعلم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده.» 57-أ.
وقد أجاز القابسي العرف في مواضع كثيرة كما جاء عند الكلام في البطالة: «وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو يجري أيضا عرف الناس.» 57-أ. «وكذلك بطالة الأعياد على العرف المشتهر المتواطأ عليه.» 61-ب.
أما إذا كان العرف غير مستحسن فإنه ينبه على وجوب الابتعاد عنه. ومثال ذلك ما ذكره عن صنيع المعلمين الذين يبعثون الصبيان في مناسبات الزواج والولادة لطلب الهدايا، إذ: «لا يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرته شيئا.» 62-ب.
هذه الشواهد السابقة تبين في وضوح أن المنهج الذي اتبعه القابسي هو منهج الفقهاء، وبالأخص منهج أصحاب الحديث، الذين يتلمسون الآثار، ويكرهون الابتداع. وعندنا أن اتباع هذا المنهج في بحث أمور الدنيا يؤدي إلى التقييد، ويمنع حرية الرأي، وكثيرا ما ينتهي إلى الجمود. أما التقييد فناشئ عن الوقوف عند آراء الفقهاء السابقين بحيث لا ينبغي أن يخرج الباحث عنها. ونحن لا نتجنى على الفقهاء ولا نعتسف هذا الرأي اعتسافا نسوقه بغير دليل، بل هو الواقع الذي لا سبيل إلى الشك فيه؛ لأنهم ارتضوا لأنفسهم الوقوف عند آراء صاحب المذهب، وحرموا بعده الاجتهاد. قال ابن خلدون: «ولما صار مذهب كل إمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، احتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق، وتفريعها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم، وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. هذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد، وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك.»
33
فأنت ترى أن ابن خلدون ينص على أن الفقهاء الذين جاءوا بعد الأئمة «لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس.» وإنما كان سبيلهم «التنظير والتفريع.»
والقابسي يجري على هذه النظرية كما يصرح بذلك قال: «فقد بينت لك وجوه جواز أخذ الإجارة على تعلم القرآن، وما يجوز أن يعلم بالأجر، وما يكره من ذلك للمعلم والمتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة.» 47-ب.
أما الجمود فهو نتيجة التقييد ومنع حرية الرأي. ذلك أن المجتمع يتطور مع الزمن، وتتغير عقليته ، وتختلف أساليب معيشته. وهذه هي سنة الحياة: التطور والتغير والحركة. إذن فلا بد من منهج عقلي يختلف عن ذلك المنهج النقلي ليلائم مظاهر الحياة الاجتماعية الدائمة التغير. ولكن منهج أصحاب الحديث بما يعرضه من أصول ثابتة ينتهي إلى الوقوف عن مسايرة الحياة. وهذا هو الجمود.
وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن طريقة التعليم في الكتاتيب كما وصفها القابسي في كتابه ظلت متبعة في أغلب تفاصيلها إلى عهد قريب في كثير من أقطار المسلمين، ولم يشرع المسلمون في تغييرها إلا حديثا عندما اشتد الاتصال بين الشرق وأمم الحضارة الغربية. ومن يقرأ كتاب (الأيام) للدكتور طه حسين، يلمح التشابه الشديد بين وصف حياة الكتاب المصري، وعلاقة الصبيان بمعلم الكتاب، ووصف تلك الحياة والعلاقة كما ذكرها القابسي. ومحور تلك الحياة هو الختمة أو حفظ شيء من القرآن كما هو معروف.
ونعود إلى ذكر بعض الشواهد التي تؤيد الرأي الذي نقول به، وهو أن اتباع منهج أهل الحديث يؤدي إلى التقييد والجمود. وجاء عن محور الألواح: «... وحدثني موسى عن جابر بن منصور، قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد. قال محمد: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعط الكتابة بلسانه. وكان سحنون ربما كتب الشيء ثم يلعطه.» 60-أ. وفي هذا وصف لما كان يفعله أهل ذلك الزمان في محو ألواحهم. وقد أجاز القابسي تلك الطريقة؛ لأنه يعتمد في أحكامه على آراء الفقهاء من شيوخه، ولا يحيد عنها إلا بالتنظير والتفريع. ومحو الألواح من الأمور المتعلقة بالنظافة والقذارة لا بالنجاسة والطهارة. ولا حاجة لمن يريد الاستدلال على طريقة محوها إلى الاعتماد على آثار السابقين؛ إذ إنه من القذارة أن يلعط الإنسان الكتابة باللسان، وأن يقع أثر المداد على أثواب الرجال، فهو مفسدة للثوب، ولا مروءة فيها؛ لأن المروءة تتعلق بالعطف على الناس ومساعدتهم. وإذا نظرنا إلى هذه المسألة على أنها مظهر من مظاهر العرف المألوف، فمن العرف ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح. وقد أجاز القابسي من العرف ما رآه حسنا، وقبح ما استهجنه كما رأينا.
ومثال آخر لهذا التقييد مسألة تعليم المسلم النصراني أو العكس: «قال ابن وهب سمعت مالكا سئل عن الذي يجعل ابنه في كتاب العجم، يعلمه به الوقف، فقال: لا. فقيل له: فهل يعلم المسلم النصراني؟ فقال: لا. فقيل فيعلم أبناء المشركين الخط؟ فقال: لا.» 47-ب، وفي تعليق القابسي على ما سبق أن: «الكافر نجس، ولذلك ينهى أن يعلموا الخط العربي، والهجاء العربي؛ لأنهم يصلون بذلك إلى مس المصحف إذا أرادوه.» 48-أ.
هذه الآراء بدأت منذ عهد مالك أو قبله بقليل، واستمرت إلى عصر القابسي الذي قبلها كما قبل آراء مالك كلها. ومع ذلك فهذه الأحكام عرضة للمناقشة والنقد. فقد قبل النبي فداء بعض المشركين في غزوة بدر بأن يعلموا عشرة من أبناء المسلمين الكتابة. وظلت صناعة الكتابة وتدوين الدواوين في أيدي الفرس والروم إلى أواخر الدولة الأموية. فلما تم إسلام أهل البلاد المغلوبة، أصبح من الحرام أن يعلم المسلم النصراني أو يعلم النصراني المسلم. ولماذا لم يكن هذا حراما قبل ذلك؟ وإذ فهمنا أن النصراني لا يعلم أبناء المسلمين خشية أن يحولهم عن دينهم، فلماذا يحرم على المسلمين تعليم أبناء النصارى في سبيل نشر الدين الإسلامي؟ وأغرب من ذلك النهي عن تعليم الخط العربي والهجاء العربي الذي إذا تم على ما يشتهون، انقطعت الصلة بين المسلمين وبين غيرهم من أبناء الديانات الأخرى، مما هو مخالف لطبيعة العمران، وما هو معروف من قوانين الاجتماع. وسلطان الحياة أقوى من سلطان الآراء. وليس أبلغ في دحض حجة القابسي مما نفعله في العصر الحاضر، من الأخذ عن المستشرقين، وإرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أنحاء العالم لنشر الدين وتأليف لجنة لترجمة معاني القرآن الكريم.
والموضوع الذي طرقه القابسي هو التعليم، الذي يعتبر فرعا من العلوم الاجتماعية.
34
إذا اعتبرنا العلوم ثلاثة أقسام: رياضية، وطبيعية، واجتماعية.
هل المنهج الذي اتبعه القابسي يصلح في كشف حقائق هذا العلم؟ هل هذا المنهج يعتبر من مناهج العلوم الاجتماعية ومظاهر الحياة الإنسانية في الماضي والحاضر، سواء أكانت صادرة عن شعور أم عن لا شعور؟
التعليم هو دراسة الإنسان لا الطبيعة أو الرياضة. فهو فرع من العلوم الاجتماعية.
ويتبع في بحث العلوم الاجتماعية طرق ثلاث. (1)
طريقة الاستقراء التي تبدأ بالمشاهدة الخارجية وتنتهي بكشف القوانين، كما نفعل في بحث العلوم الطبيعية. (2)
منهج علم النفس الذي يعتمد على الاستقراء من جهة، وعلى التأمل الباطني من جهة أخرى، وعلى مناهج تجريبية وإحصائية من جهة ثالثة. (3)
المنهج القياسي لنستمد النتائج من المقدمات التي نحصل عليها بالطريقتين السابقتين.
فلا سبيل للباحث في تربية الصبيان وتعليمهم إلا اتباع الطرق السابقة إذا شاء أن يصل إلى نتائج صحيحة. لأننا لا نعلم سلوك الصبيان وأحوالهم وتدرجهم في النمو العقلي والجسماني إلا بالمشاهدة، وهي الطريق الأول للمعرفة. ولا نقول إن الأقدمين كانوا لا يبصرون ولا يشهدون، ولكننا نقول إنهم لم يهذبوا طريقة المشاهدة، ولم يضعوا لها القواعد التي تضبطها، وجهلوا طرق التجربة التي تقرر الحقائق العامة، ولا يكون تحقيق الفروض الموصلة إلى القوانين إلا بها. ولا بد لنا من موازين تضبط بها أمثل الطرق في التعليم، والتجربة هي الميزان والنتائج العملية أصدق لسان وأنطق من كل برهان، وأحكم من الجدل العقلي الذي لا ينتهي إلى نهاية.
أما القابسي فإنه عكس الطريق، فبدأ من حيث كان ينبغي أن ينتهي؛ لأنه يعتمد على أصول ثابتة من الكتاب أو السنة أو الإجماع يفرع عليها ما يريد من أحكام، والأصح أن ينظر إلى أحوال الصبيان لينتهي بعد ذلك هذه الأحكام.
ولا نلوم القابسي على سلوك هذا المنهج الخاص، وإنما اللوم على العصر كله، فمن العسير أن يتخلص المرء من البيئة العقلية التي شب فيها ونشأ عليها. وقد صورنا هذه البيئة لبيان طبيعة التكوين العقلي للقابسي. وكان الفكر مقيدا بالأغلال من ناحيتين: منطقيا ودينيا. فمن الناحية المنطقية انصرف العلماء عن بحث الطبيعة والإنسان بالاستقراء، وهو الطريق الصحيح للمعرفة. والمنهج الديني يخضع صاحبه لمبادئ لا يستطيع أن يحيد عنها، خشية الخروج على تعاليم رجال الدين، وما يجره ذلك من الاتهام بالكفر والزندقة، فكان العلماء يرون من السلامة لأنفسهم أن يتقيدوا بما ذكر الأوائل حرفا بحرف، فهو طريق مأمون سليم العاقبة.
ونحن نرى أن القابسي لو تجرد من قيود هذا المنهج، وانطلق في حرية البحث كما فعل في بعض الأجزاء اليسيرة من كتابه، لكان لبحثه شأن غير هذا الشأن.
الفصل الثالث
تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري
نستطيع أن نجعل كتاب القابسي الأساس الذي نعتمد عليه في الكلام عن تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري، دون أن يمنعنا ذلك من استقصاء آراء المسلمين الذين تقدموه أو تأخروا عنه. على أن يكون المحور الذي ندور حوله ونعود إليه، هو كتاب القابسي؛ لأنه محدود وكامل، ومرآة للعصر الذي عاش فيه.
توفي القابسي سنة 403 هجرية، وهي توافق سنة 1012 ميلادية. ولا نستطيع أن نعرف على وجه التحقيق العام الذي ألف فيه هذا الكتاب، من بين الأعوام الثمانين التي عاشها المؤلف. وأكبر الظن أنه لم يكتبه في الأعوام الأخيرة التي سبقت وفاته؛ لأننا إذا نظرنا إلى تصانيفه التي ذكرها أصحاب التراجم، نجدها أربعة عشر كما جاء عن القاضي عياض، وذكر منها صاحب معالم الإيمان عشرا، أكبرها كتاب «الممهد في الفقه وأحكام الديانة»، بلغ فيه إلى ستين جزءا ولم يكمله.
1
فقد كان في أواخر حياته مشغولا بإنجاز هذا الكتاب في الفقه، ولم يكن عنده من سعة الوقت ما يجعله ينصرف إلى الاهتمام بتصنيف كتاب في تعليم الصبيان وأحكام المعلمين. على أن عام وفاته لا يبتعد عن القرن الرابع الهجري إلا بثلاث سنوات، إذا تجاوزنا عنها، نستطيع أن نقول إن كتابه في التعليم ألف في القرن الرابع. ثم إن عالما يولد في سنة 324ه، ويتوفى في سنة 403ه، لجدير أن يعد من علماء القرن الرابع لا الخامس؛ لأن معظم حياته، وفتوة شبابه، وبأس رجولته، واكتمال علمه وعقله وعمله، وقع في ذلك القرن.
وقد فطن الدكتور إبراهيم سلامة
2
إلى قيمة هذا الكتاب، ونبه إلى قدر المؤلف، وإلى أهمية آرائه، ولكنه اعتبر وفاته 706 هجرية، وهي السنة المكتوبة في آخر المخطوط، وهي تاريخ النسخ لا تاريخ التأليف أو عام وفاة المؤلف، وبذلك اعتبر القابسي من علماء القرن السابع أو الثامن الهجري.
وظهر في عالم التأليف في الإسلام من الفصول في التربية ما ترتفع قيمته من الناحية العلمية والفنية، وما يجعل أصحاب هذه الآراء من رجال التربية البارزين. ونخص بالذكر ابن مسكويه، المتوفى سنة 421ه، والغزالي المتوفى سنة 505ه، وابن خلدون المتوفى سنة 808ه. ولكنهم جميعا متأخرون عن القابسي، ولو أنه كان متأخرا عنهم لتضاءل شأنه بالنسبة إليهم، ولاقتضاه الزمن أن يأخذ عنهم، وينقل عنهم. أما وقد سبقهم فله فضل السبق ومزية التقدم.
لم يفت الدكتور سلامة أن يشير إلى أهمية القابسي، فذكر في الملحوظات التي قيدها عن المراجع ما يأتي: «وقع اختيارنا من بين كتب التربية التي يمكن اعتبارها كذلك طبقا لعنوانها على كتابين ذكرناهما في المجلد الخاص بالمراجع، وهما للزرنوجي والقابسي. وقد أوردنا عنهما نظرة دقيقة، بل ترجمة بعض النصوص التي نعتقد أنها مهمة من ناحية التربية والمنهج، ولا تزال آراؤهما في الوقت الحاضر أساسا للتربية.»
3
فقدم الزرنوجي (المتوفى 571ه) على القابسي؛ لأنه متقدم عليه في الزمن في رأيه الذي دحضناه.
والذي نراه أن كتاب «تعليم المتعلم طريق التعلم» للزرنوجي، ليس من الكتب ذات القيمة الكبيرة في التربية كما سنذكر فيما بعد. ولذلك لا يصح أن يقرن بالقابسي. ولو أن الدكتور إبراهيم سلامة صحح تاريخ وفاة القابسي لرفع من شأنه أكثر مما فعل، فهو أكمل كتاب في التربية والتعليم، جاء بعد كتاب «آداب المعلمين» لابن سحنون. (1) كتاب ابن سحنون
4
وكتاب «آداب المعلمين» مما دون محمد بن سحنون المتوفى سنة 256ه عن أبيه صغير الحجم، يبلغ ربع كتاب القابسي أو أقل، وهو خاص بتعليم الصبيان، اعتمد عليه القابسي كثيرا، ونقل عنه، واسترشد به، وترسم خطاه. وتبلغ صفحات هذا الكتاب المطبوع 64 صفحة، منها 38 صفحة مقدمة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في شئون التعليم. فكأن كتاب ابن سحنون نفسه عبارة عن ست وعشرين صفحة لا غير من الحجم الصغير.
ونثبت فيما يلي فهرست هذا الكتاب، لتتضح لنا الموازنة بين ما تعرض له ابن سحنون وبين ما كتبه القابسي: (1)
ما جاء في تعليم القرآن العزيز. (2)
ما جاء في العدل بين الصبيان. (3)
باب ما يكره محوه من ذكر الله. (4)
ما جاء في الأدب وما يجوز في ذلك وما لا يجوز. (5)
ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلم. (6)
ما جاء في القضاء بهدية العيد. (7)
ما يجب للمعلم من لزوم الصبيان. (8)
ما جاء في إجارة المعلم ومتى تجب. (9)
ما جاء في إجارة المصحف وكتب الفقه.
وبالرجوع إلى نص الكتاب، نجد أن ما نقله القابسي عنه يكاد يكون بلفظه في بعض المواضع، وباختلاف يسير في مواضع أخرى، كحذف السند عن رأي فقيه، أو تغيير في العبارة دون إخلال بالمعنى.
على أن القابسي لم يكتف بما أخذه عن كتاب «آداب المعلمين»، بل نقل عن الفقهاء الذين أخذ عنهم سحنون وابنه، كابن القاسم وابن وهب وغيرهما.
فإذا كان لابن سحنون فضل الصدارة في تحرير كتاب خاص في تعليم الصبيان، فللقابسي مزية التوسع في هذا الموضوع، والإفاضة في أبوابه المختلفة، والترتيب الذي يدل على استقرار فكرة التعليم في الذهن والعمل على بيان السبل المختلفة المؤدية إلى تحقيق الغاية المنشودة منه. فالقابسي يسجل في كتابه أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع، وابن سحنون يدون هذه الأحوال في القرن الثالث. (2) مرحلة تعليم الصبيان
يختص كتاب القابسي بالبحث في شئون التعليم المتعلقة بالصبيان فقط. ويتعرض كذلك للمكان الذي يتلقون فيه العلم وهو الكتاب. ولو أن المؤلف جعل عنوانه «الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين من الصبيان» لكان ذلك منه فضلا في الإيضاح والبيان.
وللصبي سن يبدأ عندها في دخول الكتاب، وسن ينتهي بعدها من التعلم في ذلك المكان. ولكن القابسي لم يحدد سن الدخول، أو عدد السنين التي يقضيها الصبي، وهي مدة الدراسة في الكتاب. ونستطيع مع ذلك أن نتلمس زمن ابتداء التعليم ووقت انتهائه فيما يختص بالصبيان من ثنايا ما كتبه.
يقول الدكتور إبراهيم سلامة: «إن الطفل بعد أن يتلقى التعليم في المنزل يذهب إلى الكتاب في السابعة من عمره. والحديث المتبع عند المسلمين: «علموا أولادكم الصلاة إذا كانوا بني سبع، واضربوهم عليها إذا كانوا بني عشر.» ثم ذكر في الهامش ما يأتي: «كان هذا هو الأغلب، وهناك حالات كان الأطفال يدفعون إلى المعلمين في سن الخامسة والسادسة - انظر طبقات الأطباء، الجزء الثاني، ص99، والتبر للسخاوي، ص242.»
ويقول القابسي: «وينبغي للمعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ويضربهم إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك.» 43-ب.
ونص الحديث كما أخرجه أبو داود: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر.» من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
ولا يستنتج من ضرب الأولاد على الصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، أن سن التعليم تبدأ منذ ذلك الوقت، وأن يرجح الباحث هذه السن دون غيرها.
والواقع أنه لم يكن هناك سن معينة يبدأ عندها الطفل في تلقي العلم، وإنما كان الأمر متروكا لتقدير آباء الصبيان، فإذا وجدوا أن الطفل بدأ في التمييز والإدراك، دفعوا به إلى الكتاب. عن أبي بكر ابن العربي قال: «وللقوم في التعليم سيرة بديعة وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب.»
5
ونحن نرجح أن هذه السن لم تكن محددة، وإنما كانت تشمل مرحلة بين الخامسة والسابعة، تبعا لاختلاف نضج الصبيان وتقدمهم في الفهم والتمييز. جاء عن القابسي: «سئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد، فقال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة.» وفي موضع آخر: «وإن كان صغيرا لا يقر فيه ويعبث، فلا أحب ذلك.» 67-ب.
فالطفل الذي لا يتحفظ من النجاسة ولا يستطيع الاستقرار، وهو طفل دون السابعة في الغالب.
ويذكر الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب رأيه، دون النص على المراجع التي اهتدى بها في تقرير هذا الرأي، قال: «إذا بلغ الصبي الخامسة أو السادسة من العمر ساقه أبوه إلى الكتاب.»
6
أما السن التي ينتهي عندها تعلم الصبي في الكتاب، فلم تذكر صراحة كذلك، على أنه جاء أن المعلم ينبغي أن يحذر من الصبيان إذا بلغوا الاحتلام. 56-أ. و«إنه لينبغي للمعلم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو تكون له جرأة.» 57-أ.
والشرط السابق يدل على أن أغلبية الصبيان لا يصلون إلى مرحلة البلوغ، وأن بعضهم فقط هم الذين كانوا يظلون في الكتاب حتى سن الاحتلام. وهذه السن تتراوح عند الذكور بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة.
على أن أكثر الصبيان لم يكونوا يمكثون في الكتاب حتى سن الاحتلام. وسبب ذلك أن أهم ما كان يعلم هو حفظ القرآن. فإذا بدأ الصبي تعلمه في سن السادسة مثلا فإنه يحتاج إلى أربع سنوات أو خمس ليتم حفظ القرآن، وهو المعروف بالختمة.
وقد روي عن كثير من النجباء أنهم ختموا القرآن في العاشرة. قال ابن عباس: «توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم.» 25-ب. وذكر ابن سينا يقص سيرة حياته: «ثم انتقلنا إلى بخارى وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب.»
7
ولا نأخذ النابغين مقياسا في الحكم على العامة وأوساط الناس. فإذا قدرنا أن الممتاز النابه يحفظ القرآن في العاشرة، فإن المتوسط العادي يحفظه في الثانية عشرة. وأما المتأخرون فإنهم يحتاجون إلى زمن أطول، وهذا هو السر في تخلف بعض الصبيان عن الكتاتيب حتى سن الاحتلام.
ولم يكن حفظ القرآن جميعه واجبا على كل الصبيان، بل جرى العرف أن من أحب استظهار القرآن كله بقي مع المعلم، ومن أحب أن يترك الكتاب قبل استكمال جميع القرآن، فله الحرية. عن القابسي: «وأما الصبي علم حتى تدانى من الختمة فأراد الخروج من عند المعلم إلى معلم آخر أو إلى صنعة أو إلى ما أحب الانتقال.» 32-أ.
لهذا نستطيع أن نقول: إن الصبي - في الأرجح - كان يبقى في الكتاب في سن الثانية عشرة أو ما دون ذلك.
فإذا اعتبرنا سن الالتحاق بالكتاب في المتوسط هي السادسة، وسن الخروج هي الحادية عشرة، فإن هذه المرحلة من التعليم كانت تشغل خمس سنوات. (3) مراحل التعليم
تعليم الصبي أول مرحلة من مراحل التعليم. وقد اقتصر القابسي على بحث هذه المرحلة، ولم يتعرض لما بعدها. ولم تأت إشارة كذلك إلى تعليم الصبي دون السادسة؛ لأن هذا اللون من التعليم، الذي أنشئت له مدارس الحضانة ورياض الأطفال، لم يلق عناية علماء النفس والتربية إلا في العصر الحديث.
وقد تصدى المؤلف للنواحي المختلفة في تعليم الصبيان، فتعرض لأغراض التعليم والمناهج والعقاب وطرق التدريس، وأحكام خاصة بالمعلم، وبمكان التعليم وهو المعروف بالكتاب.
ومرحلة تعليم الصبيان من المراحل الثابتة في حضارات الأمم، يشاد عليها بنيان الثقافة في الأمة فيما بعد. وتتغير اتجاهات التعليم التي يتلقاها الشباب والذين فاتوا دور الشباب، ويظل تعليم الصبيان هو الدعامة الثابتة التي لا تتحول والأساس الذي لا يتعدل.
ونبسط في إيجاز مراحل التعليم عند المسلمين، ليتضح لنا مصائر الصبيان، بعد الانتهاء من الكتاب.
وقد تغيرت هذه المراحل مع تغير الحضارة الإسلامية، واختلاف العصور، وتقدم الدول وتأخرها، وتباين الجهات. ونذكر هذه المراحل إجمالا، لنشهد البناء الكامل، الذي يعتبر تعليم الصبيان فيه اللبنة الأولى.
في ضحى الإسلام: «أن التعليم كان مرحلة تبتدئ بالكتاب أو بالمعلمين الخاصين، وتنتهي بأن تكون حلقة بالمسجد.»
8
قال مصعب: «كان لمالك حلقة في حياة نافع أكبر من حلقة نافع.»
9
وكان التعليم أحيانا في مجالس خاصة بدلا من حلقات المساجد. جاء في ترجمة مالك أيضا: «وكان كالسلطان له حاجب يأذن عليه. فإذا اجتمع الناس ببابه، أمر فدعاهم فحضر أولا أصحابه فإذا فرغ من يحضر، أذن للعامة، وهذا هو المشهور من سماع أصحاب مالك.»
10
ومن الشائع عند المسلمين أيضا الرحلة في طلب العلم. وفضل الارتحال أن العالم يطوف بدول كثيرة، فيشاهد أحوال الشعوب، وتقاليد الناس وعاداتهم، واختلاف طبائعهم، ثم يتصل بشيوخ بأعيانهم يأخذ عنهم ويتلقى العلم عليهم، مما يؤدي إلى كثرة الاطلاع، ووفرة الثقافة، واتساع دائرة الفكر، وأفق الذهن.
وقد رأينا في ترجمة القابسي أنه رحل فحج وسمع من علماء كثيرين.
وفي ترجمة النسائي صاحب السنن أنه: «طوف وسمع بخراسان والعراق والحجاز ومصر والشام والجزيرة.»
11
وفي ترجمة سحنون أنه «رحل في طلب العلم في حياة مالك وهو ابن ثماني عشرة سنة.»
12
ثم تطور التعليم من حلقات المساجد، إلى مدارس منظمة، حبست عليها الأوقاف لضمان حياتها. وبدأ ذلك التطور في القرن الرابع الهجري في زمن الفاطميين، وازدهرت المدارس في عصر الدولة الأيوبية والمماليك، ثم تدهورت بعد ذلك.
قال ابن جبير في معرض الحديث عن مصر: «ومن مناقب هذا البلد، ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه (يقصد صلاح الدين): المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبد.»
13
وكانت كتب العلم الجليلة الشأن توقف على هذه المدارس ليستفيد منها الطلاب والمدرسون. جاء في صدر مخطوط فيه تلخيص كتب أرسطوطاليس لابن رشد الفيلسوف ما يأتي: «وقف وحبس وسبل وتصدق العبد الفقير صرغتمش ... على المشتغلين بالعلم الشريف، وعلى المقيمين بالمدرسة الحنفية المجاورة لجامع ابن طولون.»
14
ويرى الأستاذ خليل طوطح أن التعليم يمر في المراحل الآتية: (1)
المكتب أو الكتاب. (2)
الجامع. (3)
مجلس العلم أو مجلس الأدب. (4)
المدرسة أو الكلية.
15 (4) تصوير حالة التعليم
يخرج المرء من قراءة كتاب القابسي بصورة واضحة عن حالة تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي.
وهي صورة واضحة، وتعتبر كثيرة الجلاء بالنسبة لما كتبه غير القابسي من المؤلفين في هذا الموضوع؛ لأنه أسهب حين أوجزوا، وذكر ما لم يذكروا، وجمع شئون تعليم الصبيان في كتاب واحد.
يبعث الصبي إلى الكتاب إذا عقل. هذه الكتاتيب منتشرة في أنحاء المدن والقرى، قد تكون إلى جوار المساجد، وقد تكون بعيدة عنها، ولا تكون بداخلها على أي حال.
ويقوم بالتعليم في هذا الكتاب معلم، هو الذي يستأجر الكتاب، ويتخذه مكانا للتعليم. وقد يشترك معلمان أو أكثر في التعليم بالكتاب إذا كان عدد الصبيان كثيرا، ولكن الغالب أنه معلم واحد. وليس للحاكم سلطان على هذه الكتاتيب، فهو لا ينشئها، ولا يشرف على سير التعليم فيها، ولا شأن له بها. وإنما يفتتح المعلمون الكتاتيب من تلقاء أنفسهم، ويدفع إليهم الآباء بأبنائهم حسب رغبتهم، ويتلقى الصبيان التعليم في نظير أجر يدفعونه إلى المعلم، قد يكون مشاهرة،
16
وقد يكون مساناة،
17
وقد يكون بمقدار ما تعلم الصبي.
وليس الكتاب دارا كبيرة فيها فصول كثيرة كما هي الحال في المدرسة الأولية المعروفة الآن، وإنما هو مكان متواضع، يتسع لهذا العدد من الصبيان الذين يشرف عليهم معلم واحد، قد يكون حانوتا، وقد يكون بضع حجرات في منزل.
ويذهب الصبي مبكرا إلى الكتاب، فيبدأ بحفظ القرآن، ثم يتعلم الكتابة، وعند الظهر يعود إلى المنزل لتناول الغداء، ثم يرجع بعد الظهر ويظل حتى آخر النهار.
وبطالة الصبيان من بعد ظهر يوم الخميس، وسحابة يوم الجمعة، ثم يعودون صباح السبت.
يتعلم الصبي مدة دراسته التي قد تستمر إلى وقت البلوغ أو بعده بقليل، القرآن والكتابة والنحو والعربية. وقد يتعلم الحساب والشعر وأخبار العرب. على أن أهم ما يدرس الصبي هو حفظ القرآن على الطريقة الفردية أو الجمعية؛ إذ يبدأ المعلم أو العريف بآية يرددها الصبيان من بعده. ولكل صبي لوح يكتب فيه، يثبت فيه ما يريد أن يحفظه، ثم يمحوه ليكتب شيئا جديدا، ولم يكن من اللازم أن يحفظ الصبي القرآن كله، إلا إذا كانت تلك رغبة أبيه.
فإذا أخطأ الصبي في الكتابة والهجاء والحفظ، أو أهمل أو انصرف إلى اللعب والعبث دون الدرس والعلم، أو هرب من الكتاب، عاقبه المعلم بالنصح تارة، والعزل والتهديد مرة أخرى، والضرب تارة ثالثة إن لم تفلح النصائح ولم يجد التهديد.
وإذا أتم الصبي مرحلة التعليم في الكتاب، جاز امتحانا فيما حفظ من القرآن وفي الكتابة. واختبار حفظ القرآن كله يعرف بالختمة. وعندئذ إما أن ينقطع عن التعليم ويتجه إلى الصناعة التي يريد أن يزاولها لكسب المعاش، وإما أن ينصرف إلى مرحلة أخرى من التعليم أرقى من التعليم في الكتاب.
هذه هي الصورة التي ندركها من الاطلاع على كتاب القابسي على وجه الإيجاز، وأركان هذه الصورة التي تتركب منها أربعة: هي الكتاب والمعلم والصبي والقرآن. هذه العمد الأربعة هي الأساس الذي يقوم عليه التعليم الأولي كما وصفه القابسي. وعلينا أن نبحث بعد ذلك أهذه الصورة مستمدة من الواقع أم يصف فيها ما ينبغي أن يكون، ثم نتبين إذا كان هذا النوع من التعليم إقليميا أم عاما. (5) صورة واقعية أم مثالية
عنوان كتاب القابسي يرشدنا إلى الاتجاه الذي سلكه في معالجة مشكلة تعليم الصبيان، فهي الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين، والأحوال والأحكام كلاهما مستمد من الواقع لا من المثال.
فقد ينصرف الذهن إلى أن هذه الصورة المذكورة عن الصبيان وما يتلقون من مواد مختلفة، وعن طريقة تعليمهم وتأديبهم وسلوكهم، وعن صلة المعلم بهم، ليست منتزعة من الواقع، بل هي المثل الأعلى الذي ينشده القابسي في التعليم.
وليس غريبا أن يسلك بعض المفكرين والفلاسفة طريقة مثالية في كتابتهم عن التربية. في الزمن القديم كتب أفلاطون عن التربية في (الجمهورية). وفي العصر الحديث أخرج روسو كتاب (إميل) في تربية الطفل. وكلاهما مثالي لم يصف حقيقة الحال ولم يأخذ الناس بجميع آرائهما بعدهما. وكثيرا ما يخرج المفكرون في مثلهم عن حدود القوانين الطبيعية والاجتماعية، مما يجعل تطبيق نظرياتهم العقلية ضربا من المستحيل. فقد أراد روسو أن يعود بالإنسان إلى نوع من المعيشة البدائية الفطرية لا يستقيم مع حال الحضارة ولا يتفق مع طبيعة العمران.
ولم يكن القابسي مثاليا من طراز هؤلاء المربين، وإنما كان يصف الواقع، لا ما ينبغي أن يكون. ثم هو لا يتعدى في أحكامه القوانين الاجتماعية.
اتخذ القابسي الواقع أساسا له فيما كتب، وصوره، ثم بين بعد ذلك الأسباب التي تجعله يجيز ما كان سائدا، وكل ذلك بأحكام شرعية. وهو يصور الواقع بما لا يعدو حدود الوصف بكل ما في أحوال التعليم من خير وشر وحسن وقبح. والمظاهر الاجتماعية فيها الصالح وفيها الفاسد في كل زمان ومكان. أما الصالح فإن القابسي يقره، ويأمر به، ويجيزه ويستحسنه. وأما الفاسد فإنه ينهى عنه، ويزجر المعلمين عن الإتيان به، ويستقبحه وينصح بالابتعاد عنه.
وهو حين يحكم على شيء بأنه حسن، فهو يتبع طريقة الفقهاء التي ذكرناها، وهي الاستناد إلى أصول من الكتاب والسنة والإجماع. والمصلحة التي يذكرها هي المصلحة الشرعية أو الدينية. فتعليم «الأنثى القرآن والعلم حسن، ومن مصالحها.» لأن ذلك هو السبيل إلى معرفة الدين وتأدية الصلاة المفروضة على المؤمنين والمؤمنات. ولم تكن هناك حاجة إلى النص على وجوب فصل الجنسين، خشية ما يلحق من فساد، لولا الجمع بين الذكور والإناث في الكتاتيب.
والصورة واقعية؛ لأن كثيرا من المسائل تجري مع العرف الذي أجاز القابسي أغلبه. فوجوب الختمة للمعلم تكون على قدر يسر الأب وعسره، وليس في ذلك حد مؤقت، إنما هو ما يرى أنه واجب في عادات الناس في مثل هذا المعلم. والعطية في العيد مستحسنة، ولم يزل ذلك مستحسنا فعله في أعياد المسلمين.
ولا ننسى أن الكتاب دار على أسئلة وجهها سائل إلى القابسي، فأجاب عنها. وأسئلة السائل هي وصف لأحوال التعليم في عصره، أتتفق مع مبادئ الشرع، أم لا تتفق؟ ولذلك فزع إلى الفقيه يطلب رأيه فيها. ويجيب القابسي بقوله: «وأما وصفك لما جرى عندكم من صنيع معلميكم إذا تزوج رجل ...» 62-ب، فيبعث المعلم صبيانه في طلب طعام وما أشبه بمناسبة الزواج، ويتبطل الصبيان يوما أو بعض اليوم، فطلب الهدية على هذا النحو حرام، وينبغي أن يترك المعلم هذا العمل؛ لأنه من العادات المستقبحة، والعرف المذموم.
وقد يقتضي الأمر في بحث مسألة من المسائل أن يردها إلى أصولها التاريخية، ويتتبع تطورها إلى أن تبلغ زمانه. فالحاضر وليد الماضي. مثال ذلك: مسألة أجر المعلم، ففي عصر القابسي كان المعلمون يتناولون الأجر على التعليم، ولم يكن الأمر كذلك في زمن الصحابة، فما الحاجة التي ألجأت الناس إلى تغيير أحوالهم، والخروج على أفعال الصحابة والتابعين؟ وأفعالهم كما تعلم هي الصراط المستقيم الذي ينبغي أن يسير الناس عليه من بعدهم. إنها حاجة الدين، وحاجة العصر والزمان.
وهذا الذي فعله في مسألة الأجر فعله في جميع المسائل الأخرى، فهو يصف ما يجري عليه المعلمون في أحوالهم، ثم يفسرها في ضوء التاريخ، لهذا رجع إلى مالك، وإلى ابن وهب وإلى ابن القاسم، وإلى ابن سحنون في كتابه الذي دونه عن سحنون. ولم يتطور العالم الإسلامي كثيرا في طريقة تعليم الصبيان منذ عصر سحنون إلى زمن القابسي.
الواقع إذن هو الصورة التي يدور حولها القابسي، فيؤيد ما يستحسنه ويذم ما يستقبحه وما ذكره ابن خلدون في مقدمته خاصا بطريقة التعليم بإفريقية ينطبق على الوصف الذي ذكره القابسي من أن الصبي يتعلم القرآن، والكتابة والخط، وبعض النحو والإعراب. على حين أن الحساب والشعر والنحو والعربية والغريب، ليس تعليمها لازما إلا إذا تطوع المعلم.
رأي واحد هو الذي نستطيع أن نعتبره من النظريات المثالية التي تمنى القابسي ذيوعها، وهو الرأي القائل بإلزام التعليم. فقد أوجب تعليم الصبي من مال أبيه أو وصيه أو أحد أقاربه أو من مال أحد المحسنين، أو يعلمه المعلم احتسابا. ولم يكن جميع صبيان المسلمين يتلقون التعليم ويعرفون القراءة والكتابة، ولكنه رأي رغب القابسي في أن ينتشر، فسبق بذلك عصره، ودل على بعد نظره.
من هذا كله نخرج بالنتيجة الآتية، وهو أن موضوع التعليم الذي ذكره القابسي كان وصفيا يقرر فيه الواقع، ويحيطنا بلون من ألوان البيئة العقلية في أحد جوانبها، وهي بيئة المعلمين في الكتاتيب.
وتختلف هذه الصورة عما كان معهودا عن حال التعليم في الصدر الأول من الإسلام، وتختلف أيضا عن صورتها بعد عصر القابسي، إلى جانب اختلافها في المكان مما سنذكره فيما بعد، في أن هذا اللون من التعليم الذي بين أيدينا هو تعليم إقليمي وليس عاما. وهذا التغيير في الزمان طبيعي؛ لأن المجتمع لا يدوم على حال، بل يتطور وينمو ويزدهر وقد ينحط ويتدهور، كما هي سنة الكائنات الحية جميعا. ولم يكن هذا التطور خافيا عن ذهن القابسي، فقد أشار إليه في مناسبات عدة وذكر أن المسلمين الأوائل لم يعرفوا المعلمين المنقطعين إلى هذه الصناعة التي يتناولون عليها الأجر، ويجعلونها مصدر الكسب وعماد المعاش. فإذا انتفى وجود المعلمين فقد اختفت صورة التعليم المنظمة الداخلة بين جدران الكتاتيب، واختفى معها أوقات الدراسة، وطرق التعليم، ومناهج العلم، وأدوات التأديب. وإنما نشأ هذا كله بعد النبي وبعد عصر الصحابة. حتى إذا بلغنا القرن الرابع قدم إلينا القابسي هذه الصورة التي سادت في شمال إفريقية. وتغيرت أحوال التعليم بعد القرن الرابع الهجري، ولكنه ليس تغييرا عظيما يختلف عن الجوهر المألوف، بل هو تغيير شكلي. فقد انتظمت الكتاتيب نوعا ما، واستقرت لعناية أولي الأمر بها، ورصد الخيرات من مال الأوقاف للصرف عليها. وبذلك ضمنت البقاء والحياة. (6) تعليم إقليمي أم تعليم عام
هل الوصف الذي بسطه القابسي يختص بالإقليم الذي يعيش فيه، أم هو وصف لحالة التعليم والمعلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي؟
هذه مسألة لا بد أن نرجع فيها إلى التاريخ، للموازنة بين رأي القابسي وآراء غيره. والعالم الإسلامي ينقسم على وجه العموم إلى قسمين كبيرين: الشرق ويشمل بلاد العرب وفارس والعراق والشام ومصر؛ والغرب ويشمل شمال إفريقية والأندلس.
وقد وصف حالة تعليم الصبيان في هذه الأقطار المختلفة ابن خلدون في مقدمته وأبو بكر ابن العربي في بعض كتبه. ونجد شذرات متفرقة خلال كتب التاريخ والفقه والأدب تفيد في الحكم على طريقة التعليم في المشرق والمغرب.
وهناك أمور اتفق عليها المسلمون جميعا منذ أشرق نور التعليم واهتم به أولياء الأمر. هذه الأمور هي التعليم في الكتاب، وقيام معلمين مخصوصين بالتعليم يتناولون الأجر على ذلك. فالثابت أن الكتاتيب انتشرت بعد الصدر الأول من الإسلام، وأصبحت المكان المخصوص بتعليم الصبيان. واتخذ بعضهم التعليم صناعة عرف بها، ومنهم من برز في العلم والأدب، مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وأبيه، وعبد الحميد الكاتب
18
وغيرهم. والمعروف أن هؤلاء المعلمين كانوا يتناولون الأجر على صناعتهم.
أما الخلاف فيقع في طريقة التعليم، أو في المنهج الذي يدرسه الصبيان، وفي ترتيب العلوم التي يبدءون بتعلمها.
وقد يقع الخلاف أيضا في سياسة الصبيان وعقابهم، وفي أمور فرعية تتصل بوقت الدراسة والبطالة وأشباه ذلك من الأمور الخاصة بالتعليم. ولكن الكتب التي عالجت مثل هذه المواضيع لم تشمل كثيرا من التفاصيل .
عن ابن خلدون
19 (1)
أما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله.
20
واختلاف حملة القرآن فيه،
21
ولا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه ... (2)
أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك، وأسه، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتابة. ولا تختص عنايتهم بالقرآن دون غيره، بل عنايتهم بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة. (3)
وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ...
إلا أن أكثر عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءته مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع لذلك. (4)
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها، والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراد كما تتعلم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان.
ونخلص من هذا إلى أن جميع الأقطار تبدأ بتعليم القرآن، ثم أهل المغرب يقتصرون عليه، ويخلط أهل إفريقية القرآن بالحديث والخط، ويهتم أهل الأندلس مع القرآن بعلوم العربية والخط، ويخلط أهل المشرق أيضا في التعليم فيضيفون إلى القرآن بعض العلوم، ولا يهتمون بالخط في الكتاتيب.
أما أبو بكر ابن العربي
فلا يصف طريقة التعليم المتبعة، ولكنه يذكر ما يرى أنه الواجب، وقد لخص ابن خلدون رأيه فقال: «وقد ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقد قدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس ... ثم ينتقل منه إلى الحساب ... ثم ينتقل إلى درس القرآن ... ثم قال: «ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ ما لا يفهم».»
22
وفي تعليق ابن خلدون على كلام ابن العربي ما يدل على أن هذه الطريقة غير متبعة، قال: «وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه.»
قال ابن العربي في كتاب (القواصم والعواصم) يصف التعليم بالأندلس: «فصار الصبي عندهم إذا عقل، فإن سلكوا به أمثل طريقة لهم علموه كتاب الله، فإذا حذقه نقلوه إلى الأدب، فإذا نهض منه حفظوه الموطأ، فإذا لقنه نقلوه إلى المدونة ...»
23
وعن أبي بكر ابن العربي يصف التعليم بالمشرق. «وللقوم في التعليم سيرة بديعة؛ وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب، فإذا عبر المكتب أخذوه يتعلم الخط والحساب والعربية. فإذا حذقه كله أو حذق منه ما قدر له خرج إلى المقرئ فلقنه كتاب الله فحفظ منه كل يوم ربع حزب أو نصفه أو حزبا، حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليم أو تركه.»
ومنهم - وهم الأكثر - من يؤخر حفظ القرآن ويتعلم الفقه والحديث وما شاء الله. فربما كان إماما وهو لا يحفظه. وما رأيت بعيني إماما يحفظ القرآن وما رأيت فقيها يحفظه إلا اثنين، ذلك لتعلموا أن المقصود حدوده لا حروفه.
24
ويبدو لنا أن وصف ابن العربي حال التعليم في المشرق بعيد عن الواقع، إذا كان من الضروري تعلم قدر من القرآن تصح به الصلاة، ويجوز أن يحمل كلام ابن العربي على من يريد حفظ القرآن كله، وليس موضوعنا، فقد أجمع كل من كتب عن التعليم على أن القرآن هو الأصل الذي يبدأ الصبيان بتعلمه، كما ذكرنا عن ابن خلدون. وذكر ابن حزم ما نصه: «مات رسول الله والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم مارا إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه مارا إلى الفرات، ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم، وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي، وريبة وقضاعة والطائف ومكة، كلهم قد أسلم وبنوا المساجد، ليس منها مدينة ولا تربة ولا حلة لأعراب إلا قد قرئ فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب.»
25
من هذا يتضح لنا أن تعليم القرآن في المشرق كان هو المبدوء به؛ لنفعه في الصلاة مع ما كان يصحبه من تعلم الكتابة.
أما الطريقة التي أرادها ابن العربي فهي طريقة مثالية وليست واقعية.
وشبيه بهذا ما أثر عن بعض رجال الفكر وقادة العرب في طريقة تعليم أبنائهم. قال الحجاج لمعلم ولده: «علم ولدي السباحة قبل الكتابة.»
26
وعن عمر بن الخطاب: «علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما يجمل من الشعر.»
27
وقال ابن التوأم: «علم ابنك الحساب قبل الكتاب، فإن الحساب أكسب من الكتاب، ومئونة تعلمه أيسر، ووجوه منافعه أكثر ... وفي ما يجب على الآباء من حفظ الأبناء، أن يعلمه الكتاب والحساب والسباحة.»
28
فهذه كلها وصايا خاصة تفصح عن مزاج أصحابها، ولكنها لا تدل على شيوع هذه المبادئ. ولم يكن معلم الكتاب هو المخصوص بتعليم الرماية والسباحة، ولا يتعلم الصبي الرماية في سن السادسة أو السابعة فسنه أصغر من تعلم هذه الصناعة. ولم يكن صبيان العامة يؤخذون بتعلم مثل هذه الأمور، وإنما هي نوع من الترف في التعليم لا يتلقاه إلا أبناء الخاصة على أيدي معلمين ومدربين خاصين بذلك.
والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الطريقة المذكورة في رسالة القابسي تصف التعليم في شمال إفريقية. وأبرز ما في هذه الطريقة البدء بتعليم القرآن واتباع أشهر المقرئين في حفظه والعناية بالخط والهجاء، ويصحب ذلك بعض النحو والعربية. أما الحساب وهو من المواد المهمة اللازمة للكسب والعمران، فلم تكن العناية بدرسه ضرورية، إن لم يكن مهملا.
وقد اتضح لنا من كلام ابن خلدون أنه أثبت اختلاف طريقة التعليم في الأقطار المختلفة، ويشبه ما ذكره عن التعليم في إفريقية والمغرب ما نص عليه القابسي.
وإذا كان القابسي قد وصف طريقة التعليم بما جرى به العرف في بلاده ، فالغالب أن بقية الأبحاث المتعلقة بالتعليم والتربية، هي التي كانت متبعة في موطنه. وإذا رجعنا إلى نص المخطوط وجدنا أنه كثيرا ما يحكم بما اشتهر بين الناس، وبما جرى به العرف. وهو يقصد من العرف ما جرى عليه الناس في بلاده.
لكل هذا نقول: إن التعليم الذي وصفه القابسي إقليمي وليس عاما.
الفصل الرابع
الكتاتيب في الإسلام
نريد أن نقصر الكلام على التعليم الأولي أو التعليم في الكتاب، ولا شأن لنا بأنواع التعليم الأخرى؛ لأن المؤلف لم يتناولها بالبحث. ولم يكن القابسي مشرعا في هذا الفن، بل مؤرخا وصف ما انتهى إليه حال تعليم الصبيان في عصره، من قعود معلم في الكتاب يذهب إليه الصبيان فيحفظون عليه القرآن، ويتعلمون القراءة والكتابة وبعض النحو والعربية والحساب. وكان الحال كذلك في القرن الثالث الهجري كما وصف ابن سحنون في كتابه، وهو الكتاب الذي اعتمد عليه القابسي كثيرا.
والتعليم ظاهرة اجتماعية، يخضع - كغيره من الظواهر الاجتماعية - لقوانين الحياة من النمو والازدهار، والتراجع والموت.
ولم تنشأ الكتاتيب منذ ظهور الإسلام؛ فالمعروف أن بلاد العرب في عهد النبي لم يكن فيها تعليم منتظم، والمشهور أن العرب أميون. ولو أن هناك أخبارا تدل على غير ذلك.
والجديد في الكتاب هو صيغته الديمقراطية التي يسرت للصبيان قاطبة قسطا من التعليم. وهو بهذه الصورة لم يكن معروفا منذ ظهور الإسلام. لذلك نعود إلى الوراء لنرى متى وكيف بدأ انتشار التعليم في الكتاتيب على الصورة المذكورة عند القابسي. عن ابن حزم:
1 «مات رسول الله والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم مارا إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه، مارا إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم. وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وريبة وقضاعة والطائف ومكة. كلهم قد أسلم وبنوا المساجد، ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قرئ فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب.»
2
ثم قال بعد قليل: «ثم مات أبو بكر وولي عمر ففتحت بلاد الفرس طولا وعرضا، وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها، ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد، ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن، وعلمه البيان في المكاتب شرقا وغربا.»
3
في تاج العروس قصة يتضح منها أن الكتاب كان موجودا في زمن عمر بن الخطاب، قال في صدد كلمة أبجد: «ويذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي أعرابيا فقال له: هل تحسن أن تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاقرأ أم القرآن. قال: والله ما أحسن البنات فكيف الأم؟ قال: فضربه. ثم أسلمه إلى الكتاب، فمكث فيه، ثم هرب وأنشأ يقول:
أتيت مهاجرين فعلموني
ثلاثة أسطر متتابعات
كتاب الله في رق صحيح
وآيات القرآن مفصلات
فخطوا لي أبا جاد وقالوا
تعلم صعفصا وقريشات
وما أنا والكتابة والتهجي
وما حظ البنين من البنات
ونستدل من كلام ابن حزم ومن القصة السابقة على أن ظهور الكتاتيب أو المكاتب ليتعلم فيها الصبيان كان في عصر الفتوحات الإسلامية العظيمة، وهي الفرس والشام ومصر وجزيرة العرب كلها. أما قبل ذلك فقد كان الإسلام لا يزال يجاهد في نشر العقيدة في جزيرة العرب التي كان مركزها مكة ثم المدينة. على حين كان الفرس على حضارة تخالف الحضارة الإسلامية، وأهل الشام ومصر يتبعون الحضارة الرومانية.
فماذا كان حال التعليم في بلاد العرب وفي الفرس وفي الشام ومصر؟
أما في داخل بلاد العرب فكانت معرفة الكتابة قليلة جدا. عن البلاذري في (فتوح البلدان): «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ...»
4
وعن البلاذري أيضا: «كان الكتاب بالعربية في الأوس والخزرج قليلا وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون.»
5
وذكر ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) قول أبي بن كعب: «لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب.»
6
كل هذا يدل على أن من يعرف الكتابة من العرب كان بضعة نفر. ثم إن النبي كان أميا لا يعرف الكتابة. والثابت في كتب السيرة أن النبي افتدى أسرى بدر، فمن لم يكن له فداء أمره أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة. وفي هذا العمل إيحاء للمسلمين يبين اتجاه النبي إلى محبة التعليم ونشره.
ونخلص من هذا إلى أن الإسلام حين ظهر في عهد النبي، لم تكن في بلاد العرب كتاتيب منتشرة، يذهب إليها الصبيان. وأن الذين عرفوا القراءة والكتابة هم بضعة نفر من الطبقة الرفيعة، تعلموا الكتابة بحكم صلتهم بغيرهم من الدول المجاورة كالفرس والروم، ولحاجتهم إليها في التجارة. وذلك في مكاتب معظم الروايات تدل أنها كانت لليهود. (1) المدارس في فارس
كيف يتعلم الصبيان في فارس؟ أكانوا يذهبون إلى مدارس أو كتاتيب يتلقون فيها القراءة والكتابة ومبادئ العلوم حتى إذا فتح العرب بلاد الفرس وجدوا أمامهم هذه النظم فنقلوها عنهم، أم أن نظام الكتاتيب نظام إسلامي ابتكره المسلمون؟
كان الفرس أهل حضارة زاهرة يعلو مستواها بكثير عن الحضارة العربية. وكان العرب أهل بداوة لا نستطيع أن نصفهم بالحضارة. لذلك لما أخضع المسلمون الفرس والروم، اضطروا إلى اقتباس نظمهم في الإدارة والحضارة، فكانت الدواوين تكتب بالفارسية أو الرومية.
وظلت الدواوين تكتب بغير اللغة العربية إلى أيام هشام في الدولة الأموية. «وكان أكثر كتاب خرسان إذ ذاك مجوسا، وكانت الحسابات بالفارسية، فكتب يوسف بن عمر وكان يتقلد العراق في سنة أربع وعشرين ومائة إلى نسر بن سيار كتابا أنفذه مع رجل يعرف بسليمان الطيار يأمره ألا يستعين بأحد من أهل الشرك في أعماله وكتابته.»
7
ويتضح من هذه القصة أن صناعة الكتابة ظلت بالفارسية في يد الفرس حتى الصدر الأول من المائة الثانية.
وقد ظلت الدواوين بالفارسية حتى عصر عبد الملك بن مروان. عن الجهشياري: «ولم يزل بالكوفة والبصرة ديوانان أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأعطياتهم، وهذا الذي كان عمر قد رسمه، والآخر لوجوه الأموال بالفارسية. وكان بالشام مثل ذلك أحدهما بالرومية والآخر بالعربية. فجرى الأمر على ذلك إلى أيام عبد الملك بن مروان.»
8
وليس غريبا أن تظل الدواوين في أيدي كتبة الفرس باللغة الفارسية طول هذه المدة؛ لأن العرب كانوا يجهلون هذه النظم الإدارية لبداوتهم، ولا بد من فترة انتقال يتم فيها تعلم العرب هذه الصناعة، وتعريب الفرس. ثم نسأل: أكانت الكتابة عامة في جميع الفرس أم خاصة بطبقة معينة؟
الواضح من التاريخ أن نظام الطبقات كان شائعا في فارس: «وكان رسم ملوك الفرس أن يلبس أهل كل طبقة في خدمتهم لبسة لا يلبسها أحد ممن في غير تلك الطبقة، فإذا وصل الرجل إلى الملك عرفت بلبسته صناعته، والطبقة التي هو فيها.»
9
ويؤيد ما جاء عن شيوع نظام الطبقات ما نترجمه عن الأستاذ أكبر مظاهري
10
حيث قال: «ويتعلم الطفل مهنة أبيه إذ كان النظام الاجتماعي في إيران يقضي بتوزيع الناس في طوائف فهم يتوارثون المهن عن آبائهم.» وفي ذلك يقول الفردوسي: «لم يسمع أحد أن صانع أحذية أصبح كاتبا. فالطفل يتبع مهنة أبيه، فإذا كان زارعا فإنه يعلم ابنه الزراعة، أو صانعا فإنه يعلمه صنعته، أو كاتبا فإنه يعلمه الكتابة والخط، والكاهن يعلم ابنه المعارف المقدسة، والجندي يهيئ ابنه لمعيشة الحرب.»
11
أما أبناء الأشراف فيتلقون طائفة من المعارف على أيدي مرب أو اثنين ولا يذهبون إلى المدرسة الأولية التي تخصص لهم، وفيها يتعلمون العلوم المقدسة والآداب والموسيقى والرياضة البدنية واستعمال السيف.
وإذا كان هناك تمييز في التعليم المهني والاجتماعي، فالجميع متساوون في شيء واحد هو التعليم الديني.
12
ويتعلم الطفل مبادئ الدين عن أبيه. فإذا لم يتسن للأب أن يعلمه لضيق الوقت، فليرسله إلى أقرب معبد حيث توجد المدرسة، ليتعلم القواعد الدينية، والتاريخ المقدس، والتقويم، وأسماء الشهور والأيام، والأدعية، والواجبات الدينية.
وطريقة التعليم هي أسئلة وأجوبة، وإليك نماذج منها:
أيها الطفل من تكون؟ من أين جئنا وإلى أين نذهب؟ أتنتسب إلى يزدان أم إلى أهرمن؟ أإلى خالق خير أم شرير؟ ما الخير والشر؟ ... إلخ.
ويحفظ الطفل الإجابات عن هذه الأسئلة عن ظهر قلب، وتفسر هذه الإجابات شيئا فشيئا بعد الاطلاع على أسرار الدين.
وتعنى الأم بطفلها حتى سن الخامسة، فتعلمه الخير والشر،
13
ويهتم الإيراني اهتماما كبيرا بالتربية، لذلك يعلم ابنه آداب السلوك ويبث فيه بعض التعاليم الخلقية ليصبح رجلا شريفا. وحينما يكبر الطفل يعلمه حرفة. ولا يعلم الأب ابنه شيئا له غرض عملي.
ونستنتج من هذا أن التعليم في فارس كان مقصورا على طبقة معينة هي طبقة الكتاب والأشراف، أما عامة الشعب من زراع وصناع فعنايتهم بالمهنة. أما التعليم الديني العام، فلم يكن الغرض منه التعليم لذاته، أو معرفة القراءة والكتابة، بل تلقين أسرار الدين الفارسية، وهي ديانة ثنوية تخضع العالم لإلهين أحدهما للخير والثاني للشر. وكان الأطفال يتلقون هذه المبادئ في داخل المعابد، ولم تكن هناك مدارس منفصلة عنها. ولم يكن الأطفال يتلقون مبادئ القراءة والكتابة؛ لأنها مخصوصة بطبقة الكتاب.
لهذا لم تعرف الفرس نظام الكتاتيب. لأن الكتاب في الإسلام مكان يتعلم فيه الصبيان الكتابة والقراءة إلى جانب القرآن الكريم، على حين كانت الكتابة صناعة خاصة بطبقة معينة عند الفرس. والمدارس الدينية مختلفة في نوعها عن الكتاتيب لأنها ملحقة بالمعابد، وأساس التعليم فيها هو معرفة الطقوس الدينية ومزاولتها. (2) المدارس في الشام ومصر
وننظر الآن إلى البلاد التي كانت خاضعة للروم وهي الشام ومصر لنرى أكان فيها نظام لتعليم الصبيان يشبه الكتاتيب. ونقصد بهذا النظام أنه عام لجميع أفراد الشعب، وأنه منفصل عن المساجد، وأن الصبيان كانوا يتعلمون فيه القراءة والكتابة.
في الوقت الذي فتح فيه العرب هذه البلاد، كانت الحضارة السائدة فيها مضطربة منقسمة على نفسها، خاضعة لتيارات مختلفة متعارضة. فإلى جانب حضارتي الرومان واليونان الوثنيتين، جاهدت المسيحية للقضاء عليهما، ومع ذلك احتفظت المسيحية بكثير من تراث الرومان والإغريق.
ولما تدهورت الدولة الرومانية الغربية وعاصمتها روما، غزا الجرمان روما، ولم تكن قبائل الجرمان على شيء من الحضارة. فهدموا المدن، وذوت الحضارة وعفت آثارها، وأصبحت الكتب نادرة، وتم التدهور تدريجيا، حتى إذا كان القرن السادس الميلادي انعدمت الثقافة وقبرت المدارس الرومانية. وكانت الحاجة ماسة إلى قوم مثقفين للقيام بشئون الحكومة، فصالت الكنيسة وحدها في الميدان وقامت بالتعليم، ولكنها قصرته على مقدار حاجتها منه.
14
ومن أبرز أسباب سقوط الحضارة الرومانية الترف الذي ساد الحاكمين بعدما أصابوا من أسلاب الدول المغلوبة على أمرها، لذلك انصرفوا إلى الملاذ والاستمتاع بمباهج الدنيا. وركنوا إلى حياة الكسل والترف. ومن قبل ذلك قضى الرومان على الحضارة الإغريقية بالسيف، وانتقلت الثقافة اليونانية من أثينا إلى الإسكندرية في القرنين الأول والثاني للميلاد، وظلت زاهرة زمنا، ثم تدهورت لما أصاب العالم من انحطاط.
ووجد الناس في المسيحية الدين الذي يلتئم مع نزعات النفس الجديدة، فهو دين يدعو إلى تطهير النفوس من الأدران، وإلى الزهد في الحياة المادية التي سئمها الناس.
ولكن المسيحية لما انتشرت أولا في الشرق، ثم في آسيا الصغرى والإسكندرية وأثينا، اصطدم رجالها بعقول أهل الفلسفة الإغريقية الذين لا يقنعهم الإيمان المسيحي فحسب، وإنما يريدون أن يفهموا الديانة فهما عقليا منظما كما يفهمون النظم الفلسفية. من أجل ذلك اضطر القساوسة المسيحيون إلى التسلح بالأدلة العقلية العميقة للرد على انتقادات هؤلاء القوم، وهذا هو السبب في نشأة مدرسة الإسكندرية وغيرها للبحث في أساس الديانة المسيحية.
15
وفي أيام المسيحية الأولى انصرف المسيحيون إلى تطهير أنفسهم من أدران العالم المليء بالشرور، ولم يتصلوا بالحكومة على أي وجه، كما لم يكن بين الكنيسة والدولة صلة. فلما قوي نفوذ الكنيسة وأصبحت دولة داخل الدولة، برز فيها رجال عرفوا بالدهاء السياسي فجعلوا للكنيسة نفوذا مدنيا إلى جانب النفوذ الديني.
ولم تعجب هذه السياسة كثيرا من المسيحيين الزاهدين في النظر إلى الأمور الدنيوية والاتصال بالعالم المملوء بالآثام والشرور. فانصرفوا إلى الصحراء والجبال والغابات، واتخذوا من الكهوف والمغاور مأوى يحميهم من رذائل الناس. وتتلخص مبادئهم في المعيشة الأخوية، والزهد عن العالم والفقر والعفة والطاعة وشغل البدن بأشق الأعمال حتى تصفو الروح وتسمو. ويعيش الأعضاء في خلوة فلا يجتمعون إلا عند تناول الطعام والدعاء.
هذا هو بدء الرهبنة في الشرق، وانتشرت منها إلى الغرب في أوائل القرن الرابع الميلادي، وبلغت الأوج في القرن الخامس.
16
والرهبنة هي الجانب المتطرف في الدين المسيحي.
وهي رد فعل لحياة الترف والاستمتاع التي سادت في ذلك العصر.
هذا ما كان من شأن المسيحية في الشرق، تسلح بعض رجالها بعلوم اليونان والرومان للدفاع عن مبادئ العقيدة المسيحية، ونزل البعض الآخر إلى ميدان السياسة لتعليم المذهب المسيحي الذي قدر له الانتصار حتى أصبح دينا رسميا للدولتين، واعتصم فريق منهم بالزهد والرهبنة في الصوامع والأديرة.
ونشأ في الغرب صراع بين المسيحية وبين الشعوب المتبربرة، تغلبت فيه المسيحية كما تغلبت في الشرق. ولكن الشعوب الجرمانية كانت فتية مملوءة بالحياة، طافحة بالطموح، فكيف قبلت المسيحية التي تنادي بالحرمان والزهد؟
في القرون الوسطى تناقض كبير بين الحياة الواقعية التي يقبل فيها الناس على اللذات، وبين الحياة المثالية التي تصورها الأخلاق المسيحية بما فيها من تضحية وزهد وقسوة في المعيشة وتقييد لأسباب الحياة.
ومع ذلك فهناك جانب في المسيحية اتفق مع مطامع المسيحيين. هو دين العامة والبسطاء والفقراء. وقد سمت المسيحية بفضيلة التواضع ونشدت بسطة القلب والعقل. ولما كان الجرمان شعبا في دور الطفولة فهم أهل بساطة وتواضع، وهم أيضا فقراء لأنهم كانوا يعيشون عيشة البداوة، لذلك قبلوا مع السرور هذا المذهب الجديد الذي يمجد الفقر والبساطة.
وقد حارب الجرمانيون الحضارة الوثنية الرومانية كما حاربها المسيحيون. وهذا يفسر لنا المودة التي توثقت عراها بين الكنيسة والمتبربرين، وكيف وجدت المسيحية أرضا خصبة بين الشعوب الجرمانية. والسر في هذا يرجع إلى أن مبادئ المسيحية حققت آمالهم، ووجدوا فيها الراحة الخلقية التي لم يعثروا عليها في مكان آخر.
ومن ناحية أخرى كانت أصول المسيحية ترجع إلى جذور يونانية ورومانية لم يكن من السهل التخلص منها. ولا يغيب عن بالنا أن المسيحية نشأت ونمت في العالم الروماني، فحملت معها - برغم إرادتها - كثيرا من حضارة الرومان ووثنيتهم. وكانت لغة المسيحيين هي اللغة اللاتينية في الغرب واليونانية، ثم السريانية في الشرق.
وكانت غاية المسيحية الخلاص بالإنسان من الإثم والنجاة به من الرذيلة، وقد خشيت إقبال الناس على دروس آداب الرومان واليونان وفنونهم وعلومهم، وهي ثقافة في مجموعها لا دينية قد تصرف الناس عن الإيمان الصحيح.
وقد عجزت الكنيسة عن التخلص من ثقافة الرومان واليونان؛ لأن اللغة اللاتينية والإغريقية هما اللغتان المقدستان اللتان صبغت بهما عقائد الدين.
وأين يتعلم الناس اللغة اللاتينية واليونانية إن لم يتجهوا نحو آداب الرومان واليونان. وديانة الرومان واليونان شعائر عملية ممتزجة بالأساطير، على عكس المسيحية القائمة على نظام يتركب من مجموعة من العقائد. وليس المسيحي مسيحيا لأنه يقيم بعض الشعائر الدينية فحسب، بل لأنه يؤمن بعقيدة خاصة ويعتقد في آراء معينة.
وسبيل تعلم الشعائر الدينية قد يكتفى فيه بالقليل من التدريب، أما اعتناق الآراء فلا يتم إلا بواسطة التعليم سواء اتجه هذا التعليم إلى العقل أو إلى القلب. لهذا السبب اصطنعت المسيحية منذ نشأتها طريقة التعليم والوعظ. ولكن التعليم لا بد أن يستند إلى أساس من الثقافة، ولم تكن هناك ثقافة إلا ثقافة الرومان واليونان اللاتينيين، فاضطرت المسيحية إلى اصطناعهما، ثم إن المعلم أو الواعظ يحتاج إلى دلالة اللسان وسحر البيان وقوة الحجة والإقناع والبصر بأحوال الناس، والمعرفة بتاريخ البشر. ولم تكن هذه المعارف المختلفة موجودة إلا في آثار الأقدمين. وكانت حاجة المسيحيين شديدة إلى هذه الثقافة لفهم الكتابات المقدسة فهما جيدا، فلا بد من التبحر في اللغة والتمكن منها، ولا بد من معرفة التاريخ لتحديد الحوادث في سجل الزمان. وكانت الحاجة إلى البلاغة أشد لأنها سلاح المؤمن الذي يدفع به أخطاء الرذيلة.
تلك هي الضرورات التي ألجأت الكنيسة إلى افتتاح المدارس لتعليم هذه الألوان المختلفة من الثقافة.
ونشأت باكورة هذه المدارس في أحضان الكنائس والأديرة. وكان الطلبة ينفقون حياتهم منذ الصغر في الأديرة لإعدادهم لحياة الكهنوت. وهي حياة زهد وتقشف يسودها طابع الروح المسيحي.
وتمتاز هذه المعيشة المسيحية عن تصوف الهنود. فالبوذية ترمي إلى فناء الفرد ليصل إلى معرفة الحقيقة الكاملة. أما المسيحي فلم يكن يسعى إلى خلاص نفسه فقط ، بل إلى خلاص الإنسانية كلها. لهذا السبب لم ينصرف الرهبان في عزلتهم إلى التأمل فقط، بل كانوا ألسنة تذيع العقيدة وتبشر بالدين. ولهذا السبب أيضا ظهرت المدارس في داخل الأديرة تهيئ الطلبة إلى معيشة الدير.
ولم يجد المسيحيون حرجا في قبول جميع الصبيان من كل طبقة وصناعة يبثون فيهم الدين والعلم.
هذه المدارس الكنسية هي الخلية الأولى التي تفرع منها بنيان التعليم في أوروبا، فنشأت عنها الجامعات والكليات. ومن هذا يتضح لنا السر في احتضان الكنيسة للمدارس، وفي خضوع التعليم للدين.
ولم يخل المنهج الذي كان متبعا في تلك المدارس من تناقض في نظامه، فهناك علوم مدنية تدرس إلى جانب مبادئ الدين؛ لأن عنصر الدين مستمد من المسيحية، والجانب المدني مشتق من الحضارة القديمة.
والجديد الذي جاء مع هذه المدارس المسيحية هو لزوم الطلبة أستاذا بعينه ومكانا بعينه. ذلك أن الطالب في الأزمنة القديمة كان يتلقى العلم على مدرسين مختلفين لا رابطة بينهم، فهو يذهب إلى معلم اللغة يتلقى عليه قواعد النحو والبيان، وإلى عازف القيثارة يتعلم منه الموسيقى، وإلى معلم الخطابة يتعلم فن الفصاحة، وهكذا. لذلك كان الطالب يحشد فنونا من المعرفة لا صلة بينها.
أما المدارس المسيحية فلأنها انتظمت في مكان ثابت واحد فإنها خضعت لتأثير واحد، واتجهت وجهة خلقية واحدة.
ومما يميز هذه المدارس أيضا الصلة الدائمة بين الأستاذ وتلاميذه؛ لأن معيشة التلاميذ كانت معيشة رهبنة داخل الدير.
ولما كان التلميذ في اليونان والرومان يتلقى علومه على مدرسين متباينين لا تجمعهم صلة، وكان كل مدرس يقوم بالتعليم في داره على طريقته الخاصة، لهذا تنافرت المعرفة في ذهن التلاميذ ولم تتجه إلى هدف واحد. فواحد يعلمه القراءة، وآخر يقوم لسانه، وثالث يلقنه الموسيقى، ورابع آداب السلوك، بينما المدرسة المسيحية تتعهد التلميذ تعهدا كاملا. ولم يكن التلميذ في حاجة إلى مبارحة المدرسة، فهو يجد فيها كل ما يطلب، ويقضي فيها حياته، يأكل وينام ويؤدي طقوسه الدينية. وهذا النظام الداخلي من أخص مميزات هذه المدارس الكنسية. بهذا خضع التلميذ لتأثير واحد وانصرف نحو تيار واحد.
وكان الغرض من التعليم قديما تزويد الأطفال بمعلومات معينة، الغاية منها أن تكون زينة يتحلى بها الطفل ليرفع منزلته الشخصية بين أترابه، كما كان الحال في روما والمدن الإغريقية. وكان من السهل أن يتلقى الطفل هذه المعلومات أو العادات من مدرسين مختلفين؛ إذ كان الغرض أن يتزود الطفل بحلية خارجية، لا أن تطبع شخصيته في أعماقها. أما المسيحية فعلى العكس من ذلك؛ فطنت إلى أن إعداد المسيحي الصحيح لا يتم بتزويده ببعض الآراء أو العادات، بل بطبعه بطابع عام يصوغ العقل والإرادة فيرى العالم في ضوء هذه التعاليم. فالمسيحية استعداد نفساني لا ينشأ إلا بتربية خاصة. ولا يتوصل إلى هذه التربية إلا إذا عاش الأطفال في بيئة اجتماعية واحدة يلازمونها زمنا طويلا، حتى تنزل منهم التعاليم المنشودة منزلة الطبع. وهذا هو السر في معيشة التلاميذ معيشة داخلية واحدة.
17 •••
ونخرج من هذا العرض بالنتائج الآتية: (1)
حلت المدارس المسيحية مكان التعليم اليوناني والروماني، وذلك بعد جهاد طويل. (2)
كانت المدارس الكنسية ملحقة بالأديرة والكنائس والمعيشة فيها داخلية. (3)
الغرض من هذا التعليم هو التأثير في الشخصية، وطبعها بالطابع المسيحي، وإعداد التلاميذ لحياة الرهبنة. (4)
لم تكن هذه المدارس عامة لجميع أفراد الشعب، بل اقتصرت على طبقة الكهنوت.
ومن الواضح أن هذا النوع من التعليم يختلف عن الكتاتيب الإسلامية؛ فالكتاتيب الإسلامية عامة لجميع أفراد الشعب، ولم يكن من الضروري وجودها بالمساجد، ولم يكن يعيش الصبيان فيها معيشة داخلية. ولم تكن صلة معلم الكتاب بالصبيان صلة الراهب بتلاميذه يقتحم شخصياتهم ليطبعها بطابع المسيحية. ذلك أن معلم الكتاب ملقن ومرشد وليس واعظا يسعى إلى بث آراء معينة، فهو يعلمهم القراءة والكتابة، ويحفظهم القرآن الكريم، وهو الجزء الأساسي من تعليمه.
ولو أن المسلمين أخذوا نظام الكتاتيب عن الفرس والروم، ونقلوها عنهم، لظهرت منذ بدأت الدعوة الإسلامية. ولكن الواقع يدلنا على أنها لم تظهر إلا بعد تمام الفتوحات، وبعد دخول الناس في الإسلام. من أجل ذلك قلنا إنها قد نمت وتطورت مع نمو الإسلام وانتشاره .
أما في عهد النبي فكان تعليم الدين الإسلامي شاملا للجميع، صبيانا ورجالا ونساء. وكان الغرض منه أن يحفظ الناس شيئا من القرآن، وأن يتعلموا ما يلزمهم في العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الفرائض الإسلامية. واتبع المسلمون كافة السبل في الوصول إلى نشر دعوتهم فعملوا في دورهم، وفي المساجد، وفي كل مكان. ولم يفتهم الحث على تعلم الكتابة.
ولما انقضى هذا الدور الأول في نشر الدعوة بكافة الطرق، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكثر عدد المسلمين، وأصبحت غالبية السكان على الدين الإسلامي، انصرفوا عن نشر الدين إلى النظر في أمور المعاش وإلى تنظيم الدين وضمان العبادة الصحيحة. ويقتضي النظام الاجتماعي أن يكون البدء في تعليم الأجيال عن طريق تربية الأطفال حتى إذا شبوا أصبحوا مطبوعين بطابع الجيل الجديد.
وقد تطوع المسلمون الأوائل بالتعليم بدافع الروح الجديد. فلما انتشر الإسلام تعذر أن يقوم التعليم على التطوع، وظهرت صناعة التعليم، وتناول المعلمون الأجر، وأفتى الفقهاء بجواز ذلك.
وكان بعض المعلمين يقوم بمهمته في المساجد، ولكن عبث الصبيان الصغار الذين لا يتحفظون من النجاسة جعل الفقهاء يمنعون تعليم الصبيان في المسجد، فظهرت الكتاتيب منفصلة عن المساجد، وخاصة بتعليم الصبيان.
الفصل الخامس
الدين والتعليم
(1) خضوع الحياة الاجتماعية للدين
كان الصراع بين المسيحية والوثنية حادا عنيفا منذ القرن الأول للميلاد، ولقي المسيحيون كثيرا من ألوان التعذيب والمحن إلى أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين الديانة المسيحية وأصبحت الدين الرسمي للدولة. ومنذ القرن الرابع الميلادي وصروح الوثنية تنهار وتضيق دائرتها وينتشر الإيمان بالله خالق كل شيء في أوروبا وفي غرب آسيا وفي شمال إفريقية، وهي جملة العالم المعروف في ذلك الزمان. وبقيت جزيرة العرب يعبد أهلها الأوثان ويسجدون للأصنام، وظلت ربوع فارس تستضيء بهياكل النار.
وشهد العالم في مستهل القرن السابع ظاهرة جديدة شيعت وثنية العرب ومجوسية الفرس إلى الفناء الأخير، تلك الظاهرة هي الديانة الإسلامية بما حملت معها من هدم للآلهة المصنوعة وتوحيد لله الواحد القهار. ولكن الإسلام ببساطته وروحه العملي واتجاهه الواقعي كان سريع الانتشار ، فلم يمض زمن طويل حتى كانت أجزاء العالم المعروف تخضع للأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية.
ولم يكن من السهل أن ينتقل الناس من عهد إلى عهد دون حاجة إلى ما يثبتهم في العهد الجديد، ويهدم العهد القديم. والانتقال من القديم إلى الجديد هو الثورة بعينها، تحمل بين طياتها معاول الهدم وبذور البناء. وفي النفس حنين فطري إلى الماضي الذي يمثل بنيان الحياة الأولى، وسلطان التقاليد هو سلطان الزمان. لهذا قضى الناس زمنا طويلا يلتفتون إلى الماضي، ويعودون إلى الذكريات الغابرة فيتمثلون الآلهة في أوثانها، فينهض المؤمنون لإخفات أصوات الملحدين وآراء الزنادقة الكافرين، واستعمل أهل الإيمان في حربهم سلاحين: لسان الحق يزهق الباطل ويشيد بآيات اليقين، ويقيم الحجة على المخالفين وأهل العناد، والسلاح الثاني سيف القوة يكمم الأفواه ويعذب الكافرين.
بذلك كان الدين في الغرب والشرق هو الشغل الشاغل للأذهان، واستمرت المسيحية والإسلام في حربهما للكفر والإشادة بالإيمان طوال القرون الوسطى.
وأخذ المسلمون كما أخذ المسيحيون يلقنون أبناء الأجيال أسرار الدين وحكمة العقيدة ويطبعون الناشئة على الدين الجديد عن طريق التعليم.
تلك هي البيئة الاجتماعية التي استنارت بضوء الدين، ونور الإيمان واليقين؛ فخضع الناس في كل عمل من أعمالهم الظاهرة، وفي كل نزعة وكل اختلاجة باطنة لتعاليم الدين.
ما الدين الإسلامي وما عقيدته وأسراره، ودعوته وأعماله، وما الديانة المسيحية علما وعملا؟ هذا هو الذي شغل أذهان المفكرين في ذلك العصر.
واختلف رجال الدين وأصحاب الرأي وقادة الفكر في النظر إلى الدين وشرح أصوله وبيان مختلف مناحيه. لذلك نرى أن كل مفكر في الإسلام بدأ يعرض العقيدة الإسلامية على النحو الذي يعتقد أنه الحق والصواب. فلا يخلو كتاب في الفقه أو الحديث أو التاريخ أو الآداب أو الفلسفة من مقدمة تفصح عن عقيدة صاحب الكتاب، وقد تطول هذه الخطبة وقد تقصر، ولكنها على أي الحالات تبدأ بالبسملة والحمد، فتذكر اسم الله الرحمن الرحيم، شهادة بالتوحيد واعترافا بالإيمان والتسليم.
وهكذا بدأ القابسي بذكر اسم الله، ثم أخذ في شرح الإيمان والإسلام.
والكلام في الإيمان والإسلام هو بيان لما يفهمه القابسي عن الديانة الإسلامية، وشرح للعقيدة الإسلامية على طريقة أهل السنة. وفي ضوء هذه الحدود ينبغي للصبيان أن يفهموا الدين، وينبغي للمسلمين أن يقوموا بالتعليم.
ولم يكن تفصيل القول في الإيمان والإسلام أثرا من التقليد الأعمى الذي يقوم به بعض الكتاب مقتفين أثر السابقين وعادة الأوائل، كما كان يفعل الشعراء في الإسلام من ابتداء قصائدهم بالبكاء على الأطلال والدمن كصنيع الشعراء في الجاهلية، ولكن القابسي اضطر إلى إعلان الرأي عن الإيمان والإسلام لما بين الدين والتعليم من صلة وثيقة، بل صلة ضرورية، هي علاقة الأصل بالفرع والغاية بالوسيلة.
وهي صلة لم يصنعها القابسي، ولم يفرضها على التعليم فرضا، ولكنه استمدها من الحياة نفسها، حيث كان الدين سائدا في عصره - كما أسلفنا القول - كل لون من ألوان الحياة الاجتماعية. (2) العقيدة الإسلامية عند أهل السنة
غير أن ماهية الدين كانت موضع خلاف بين المسلمين، وقد استطارت الفتن بين أهل المذاهب المختلفة إلى درجة أنهم كانوا يكفر بعضهم بعضا.
وعقيدة الديانة الإسلامية كما يفهمها القابسي، وكما يريدها وكما ينبغي أن تذيع في الناس عن طريق التعليم تتلخص في خمس:
الإيمان، والإسلام، والإحسان، والاستقامة، والصلاح.
فالدين عنده نظر ينتهي إلى عمل. وليس الدين هو الإيمان فقط أو الإسلام فقط، أو الإحسان والاستقامة والصلاح فحسب، وإنما هو كل ذلك مجتمعا. فالشخص الذي ينتحل الإسلام ينبغي أن يكون مؤمنا ومسلما ومستقيما ومحسنا وصالحا.
هذا الطريق في فهم الدين يختلف عن رأي كثير من أصحاب الفرق الإسلامية الذين نظروا إلى المسلم من جانب واحد لا من هذه الجوانب مؤتلفة. وعندنا أن القابسي لم يضع العقيدة الدينية أو مبادئ الدين في ناحية وأداء المسلم لها في ناحية أخرى، ولكنه مزج بينهما ونظر إلى الدين في سلوك المسلم، أو نظر إلى سلوك المسلم في دينه، وهذا الاتجاه في التفكير هو الذي يجعله يدمج الإيمان في الإسلام ولا يفصل بينهما.
هذه النظرة تركيبية لا تحليلية.
فهي تركيبية؛ لأنه يجعل سلوك المرء وحدة لا تتجزأ ، بل أكثر من هذا يوحد بين سلوكه الخارجي الظاهر، وبين إيمانه الباطن وعقيدته الداخلية، بين التصديق بالقلب وعمل الجوارح، بين الإيمان والإسلام.
أما غيره من المتكلمين والفقهاء فقد حللوا المعاني المنطوية تحتها أعمال المسلم في ظاهره وباطنه، وقسموا الأعمال المختلفة إلى كبائر وصغائر فيما يختص بالمحرمات، وتجاوزوا عن الصغيرة وكفروا مرتكب الكبيرة، واختلفوا فيما بينهم على هذا التقسيم اختلافا كبيرا.
وعندنا أنهم بهذا التحليل قد جزءوا شخصية المسلم، وتكلموا لا عن شخص يعمل، بل عن معان منفصلة لم يرتفعوا بها إلى الوحدة التركيبية الواجبة بعد التحليل الجدلي.
وكثير من فقهاء أهل السنة يميزون بين الإيمان والإسلام، وعندهم أن الإيمان هو التصديق الحاصل في القلب، وأما الإسلام فهو إظهار الإيمان والإعلان به، فكل مؤمن مسلم لأن من اعتقد الإيمان في الباطن فهو معلن به في الظاهر، وليس كل مسلم مؤمنا لأن المنافق والزنديق يظهران الإسلام ويعتقدان الكفر، فالإسلام أعم من الإيمان.
1
ويهمنا أولا أن نقرر رأي أهل السنة في هذه المسألة لما لها من أثر في الموضوع الذي نعالجه وهو موضوع التعليم، والغالبية عندهم أن الإيمان والإسلام والدين عبارات عن معنى واحد، كما هو عند البخاري.
2
ثم أضاف الكرماني في شرحه لحديث الإيمان والإسلام أن قد «اضطربت أقوال العلماء فيمه قديما وحديثا.» وقال محيي السنة: جعل النبي
صلى الله عليه وسلم
الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك: «تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين.»
فالقابسي على هذا الرأي الذي يجعل من الدين وحدة، ومن الإيمان والإسلام جملة لشيء واحد.
والإيمان والإسلام جاء بيانهما في حديث الرسول المشهور، فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ولقائه ورسله والبعث الآخر، والإسلام هو العبادة التي تجتمع في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت .
على أي شكل تكون هذه العبادات؟
إنها مفروضة على أي الحالات، ولا محل للبحث في تاركها. وإنما السؤال أيؤديها المسلم كيفما اتفق، أم يقبل عليها وينفق فيها حياته؟
يطالب القابسي أولا بإحسان عبادة الله في كل ما يتعبد الإنسان، وذلك يكون بالإخلاص في هذه الأعمال، على أن يذكر الإنسان الله حين العبادة كأنه يراه، فإن لم تكن تراه أيها العبد فإنه يراك. وهذا هو المقصود الصحيح من ذكر الله لا كما يفعل المسلمون في العصر الحاضر في حلقات الأذكار يرددون فيها اسم الله ترديدا آليا، وينسون بعد ذلك المعنى السامي من ذكر الله وهو الرقابة على الأعمال. فالغرض من الإحسان هو نوع العبادة التي يؤديها المرء خالصة لله تعالى.
أما الاستقامة فهي مداومة المقام في الدين، ولا ينكب عنه يمينا ولا شمالا، ولا يلتزم منه ما لا يطيقه، فالدين يسر. والقابسي يجري مع روح الإسلام الواقعي الذي ينشد التوسط، ويلتزم الحدود البشرية، وللإنسان بعد ذلك أن يزيد في العبادة بما يطيق، وهذه هي صفة الصالحين، وقد رتبهم القابسي درجات أدناها أن يسلم العبد من الخطايا، وأوسطها الاقتصار على أداء الفرائض واجتناب المحارم مع حسن العبادة، وأرفعها أداء النوافل بعد استكمال الفرائض وهؤلاء هم الأولياء. «فما سلم العبد من الخطايا فهو من الصالحين، وما زاد بعد ذلك من طاعة ربه زاد خيرا.» 14-أ.
فنحن نرى أن القابسي يشرح الدين بما يلائم المجتمع بأسره، ويتفق مع الطبيعة الإنسانية دون مغالاة أو إسراف. (3) غلو المتكلمين والمتصوفة
وطائفة المسرفين في الدين هم أهل التصوف، وهم متفاوتون في مقالاتهم عن العبادة، فالشهرستاني ينشد التصوف مع الاعتدال، مع أنه على مذهب الأشاعرة. قال: إن الإسلام هو المبدأ، ثم إذا كان الإخلاص معه بأن يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويقر عقدا بأن القدر خيره وشره من الله تعالى، بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كان مؤمنا حقا. ثم إذا جمع بين الإسلام والتصديق، وقرن المجاهدة بالمشاهدة، وصار غيبه شهادة فهو الكمال. فكان الإسلام مبدأ وسطا، والإحسان كمالا.
3
فمذهب الأشاعرة يوفق بين رأي المعتزلة العقلي وبين رأي أهل السنة النقلي ، ذلك أن المعتزلة في مسائل الاعتقاد لم يقبلوا ما جاء في الكتاب والسنة قبولا أعمى بل أثبتوا الوحدانية والصفات لله بالعقل، ثم تكلموا في القضاء والقدر كلاما أثبتوا فيه الحرية للإنسان، وأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وهذا ما دعا الأشاعرة أن يخففوا من هذا التطرف العقلي، ويقفوا من إرادة الله موقفا وسطا، وأن ما يصيب الإنسان فمن الله.
ونحن نرى ألفاظا جديدة دخلت إلى الإسلام هي المجاهدة والمشاهدة والغيب والشهادة، وهذه كلها من مصطلحات المتصوفة التي استحدثوها مما لم يكن للمسلمين الأوائل عهد بها. وقد انتهى أمر المتصوفة فيما بعد إلى فهم الإسلام على نحو معقد بلغ من درجة تعقيده أنهم أوجبوا معرفة الطريق على قطب من أقطابهم، وذلك لصعوبة الوصول من غير مرشد يأخذ بيد المسلمين، ويرتفع بهم في درجات المقامات، ومختلف الأحوال.
تقدم المعتزلة والأشاعرة وأهل السنة والمتصوفة إلى الشعب يعرضون بضاعتهم العقلية، فوجد العامة أن ما يلائمهم منها هو بضاعة أهل السنة لسهولة فهمها، وبساطة عرضها، وخلوها من التعقيد والالتواء، وملاءمتها للطبائع البشرية جميعا، ففيها العمق لمن يريد التعمق، والوسط لمن يرغب في التوسط، والحث على مداومة العبادة لمن يريد الارتفاع إلى درجات الصالحين. ولا ننسى إلى جانب ذلك أن شخصية الرسول حجة في تدعيم الرأي، وأن الاعتقاد في الآراء يستند إلى شخصية قائلها إلى حد كبير إلى جانب ما في هذه الآراء من قيمة ذاتية، فاستناد أهل السنة إلى الآيات القرآنية وإلى أحاديث الرسول قربهم من أفهام العامة وعقولهم وقلوبهم.
والعمل في الحياة أسبق من الجدل، وأدعى إلى الفطرة السليمة، وأبعث إلى الشعور بلذة طبيعية غير مصنوعة.
والناس في حاجة إلى العمل في الدنيا لكسب المعاش، وإلى التفكير في الآخرة التي تقرر أحوال المعاد، فهم يعملون لدنياهم ودينهم. على أن الاستغراق في شئون الدنيا مما يصرف عن الدين ويفقد المرء معه نعيم الآخرة. والانصراف التام إلى أمور الدين يبعد الإنسان عن الدنيا فيعجز عن الكسب، بل يعجز عن الحياة. والطريقة المثلى هي الجمع بين الدين والدنيا بما يحقق المصلحة في الجانبين. وسيرة الرسول نفسه خير شاهد على ذلك، فإنه إلى جانب التعمق في العبادة كان يرعى الأغنام ويشتغل بالتجارة، وكذلك كان الصحابة. وفي القرآن إشارة إلى هذا الجمع بين شئون الدين والدنيا في أكثر من موضع:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص: 77).
وجدال المتكلمين يبلبل الأفكار، ولا ينتهي الجمهور منه إلى الاطمئنان الديني، وبعد فهو جدل لا نهاية له. وطريقة أهل التصوف تدفع إلى استغراق في العبادات يصرف عن الكسب. وأحوج الناس إلى تحصيل القوت هم العامة، فلا ضياع لهم ولا مال موروث. فإذا مال العامة مع المتكلمين أضاعوا دينهم، وإذا تصوفوا ضيعوا دنياهم. أما مذهب أهل السنة فإنه يثبتهم في العقيدة، ويقدم لهم الدين في صورة بسيطة، ويضمن لهم سلامة الدين. وهو إلى جانب ذلك لا يصرفهم عن العمل بل يحثهم عليه ويرتب لهم قواعد السلوك ووجوه الكسب الحرام والحلال.
ولم نذكر في هذا الصدد طائفة أخرى من المفكرين هم الفلاسفة فهؤلاء كانوا بعيدين كل البعد عن عقل الجماهير، وقد انطووا على أنفسهم، وقصروا دراسة الفلسفة على فئة خاصة، ولم يحاولوا إذاعتها في الناس كافة لمعرفتهم بصعوبة الآراء الفلسفية على الأفهام، ونستثني من الفلاسفة إخوان الصفا الذين تقربوا إلى الجمهور برسالتهم المعروفة.
فسموا مذاهب المعتزلة العقلية، ومغالاة المتصوفين في مسالكهم الروحية، وصعوبة الآراء الفلسفية، كل أولئك قرب بين أهل الحديث وبين العامة، وهي استجابة طبيعية لتأثير مذهب أهل الحديث الملائم لنفوسهم. ولهذا كان تعليم الشعب في أيدي من يفهمون الشعب ويفهمون عقليته ونفسيته.
وقد عني الفقهاء من أهل السنة بالتعليم ليشب العامة على معرفة الدين علما وعملا؛ لأن معرفة الدين لا تتم إلا بنوع من التعليم، سواء أكان هذا التعليم صادرا من الوالد إلى أبنائه بالتلقين، أم أخذا عن شيخ بعينه يتطوع لتعليم الصبيان شئون دينهم. وفي كلتا الحالتين لا يتحقق نشر الدين بين الناس، لانصراف الآباء إلى أعمالهم، وقلة من يتطوعون بالتعليم. لهذا أجاز الفقهاء قيام المعلمين للتعليم بالأجر.
والتعليم الذي نقصده هو تعليم الصبيان، لأننا بصدد الكلام عن تعليم الصبيان فقط. ونوع التعليم هو الدين لأنه المقصود في ذلك العصر.
ولم يكن من السهل على المتكلمين المتعمقين في فهم العقيدة الإسلامية أن يقوموا بتعليم الصبيان، ولم يكن جدلهم مما تستسيغه هذه العقول الناشئة، وطريق المتصوفة وعر يصعب سلوكه على الرجال، وهو مستحيل على الصبيان.
لهذا انتهى تعليم الدين الصبيان إلى أيدي أهل السنة.
ولم يحاول أهل السنة تغليب مذهبهم بالقوة أو العنف، أو يفرضوه فرضا على الناس، وإنما نجحوا حين أخفق غيرهم، لقرب مذهبهم من البداهة وبساطة الفطرة.
والتعليم على مذهبهم مخالف بطبيعة الحال لألوان التعليم التي صورها أصحاب المذاهب الأخرى، والتي نعرض لها في فصل آخر، لنبين أن التعليم ظل للمذهب العقلي أو النقلي الذي يعتقده صاحبه.
ويرجع السر في وقوع تعليم الصبيان في أيدي أهل السنة إلى أسباب كثيرة، منها أن كثيرا من المفكرين في الإسلام ترفعوا عن تعليم الصبيان، وتركوا هذا الأمر لغيرهم. وقد صرح بذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا الذين بينوا طريقة التعليم مبتدئين بالشباب في سن الخامسة عشرة.
وأهم هذه الأسباب هو عمق المذاهب الإسلامية الأخرى التي تدق على أفهام الصبيان.
وإذا كان جميع هؤلاء بحثوا في الدين، ونشدوا وجه الحق فيه، فإن أهل السنة جمعوا بين الدين وبين الحقيقة على وجه وافقهم عليه الجمهور؛ لأنه يقع في طوق المقدور. ويتفق مع هذا الرأي الغزالي الذي قال عن المعتزلة: «من أشد الناس غلوا وإسرافا طائفة من المتكلمين كفروا المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر. فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين.»
4
والغزالي يضع مقام العوام في مرتبة أدنى من مرتبة النظار، وأن الحق في هذا المقام هو: «الاتباع والكف عن تغيير الظواهر رأسا ... وحسم باب السؤال رأسا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث.»
5
ورأي الغزالي جزء من مذهبه في التصوف؛ لأن حد الكفر والإيمان عنده لا يتجلى للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما، بل إنما ينكشف ذلك لقلوب: «طهرت عن وسخ أوضار الدنيا أولا، ثم صقلت بالرياضة الكاملة ثانيا، ثم نورت بالذكر الصافي ثالثا، ثم عذبت بالفكر الصائب رابعا، ثم زينت بملازمة حدود الشرع خامسا، حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة.»
6
وإذا كان الغزالي قد عاب على المتكلمين إسرافهم في مطالبة العوام بمعرفة أسرار الإيمان بأدلة عقلية عميقة يصعب على أذهان العامة بلوغها لقصور أفهامهم، فإننا نعيب على الغزالي وعلى المتصوفة أن يقصروا طريق الإيمان على الكشف والصفاء، مما لا يتيسر للدهماء.
وقد نشأ عن وقوع تعليم الصبيان في أيدي أهل السنة نتائج كثيرة في الحياة العقلية للمسلمين.
وأهم هذه النتائج أن صبيان العامة نشئوا ولا يعرفون من الدين إلا ما لقنهم إياه شيوخ أهل السنة. والآثار التي يحملها الإنسان معه من الصبا تكون عزيزة عليه، ويصعب محوها. وقيل في الأمثال: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر. حتى إذا شب الصبي، وخرج من الكتاب، ونزل إلى معترك الحياة، واطلع على صور المنازعات العقلية الدائرة حول الأبحاث الدينية، اتجه دون شعور إلى الناحية التي عرفها في صباه، وتعصب للرأي الذي صحبه مع الحياة. وقد كان النزاع عنيفا حادا بين المتكلمين والفلاسفة وأهل السنة. المتكلمون والفلاسفة يغلبون العقل على النقل، ويبحثون المسائل في كثير من حرية الفكر، وهم على استعداد لتجريح آراء السلف إذا أثبتوا بالعقل فسادها. على أن الانتصار في حلبة هذه المعارك العقلية كان يحتاج إلى سند من الجماهير، وتأييد من العامة؛ لأنهم في آخر الأمر هم أداة الحياة للرأي. وقد يكون المتكلمون على حق، وقد يكون الفلاسفة كذلك، ولكن الحق من غير قوة تسنده مصيره إلى الانهيار. وهذه هي طبيعة الحياة. وقد وقف العامة من المتكلمين والفلاسفة، بل من كل صاحب رأي جديد حر موقفا شديدا أخاف المفكرين، وجعلهم ينطوون على أنفسهم خشية غضب العامة وثورة الجماهير، والثورة تلتهم ولا تعرف رحمة ولا عقلا. فإذا كنا في القرن السادس الهجري نجد تعصب الجماهير قد بلغ الأوج فأحرقت كتب ابن رشد وأصيب بمحنة عظيمة. وانتصر الغزالي لأن العامة كانت من ورائه تشد أزره وتعضد رأيه بالعنف والقوة. وأغرب من ذلك مهاجمة أهل السنة للمنطق لأن الفقهاء لم يعترفوا بمنطق اليونان، ومن أقوالهم: «إن هذا الشافعي وأحمد وسائر أئمة الإسلام وتصانيفهم وأئمة التفسير وتصانيفهم لمن نظر فيها، هل راعوا فيها حدود المنطق وأوضاعه وهل صح لهم علمهم من دونه أم لا، بل هم كانوا أجل قدرا وأعظم عقولا من أن يشغلوا أفكارهم بهذيان المنطقيين.»
7
وبهذه الوسائل العنيفة من الهجوم والطعن، أبطل فقهاء أهل السنة الاشتغال بما عدا المعروف عن الأئمة، واستمع لهم العامة والجمهور؛ لأنهم نشئوا على التعاليم منذ الصغر في الكتاتيب.
فإذا شئنا أن نبحث في علة ركود الحركة العقلية عند المسلمين بعد القرن السادس بعد أن ظلت هذه الحركة قوية مزدهرة منذ القرن الثاني في التأليف والترجمة في شتى العلوم والمعارف، بما كان يبشر بأن يحمل المسلمون لواء العلم والحضارة في العالم أجمع، فينبغي أن نتلمس أسبابها في بذورها الأولى عند الصبيان الذين انطبعت نفوسهم على طريقة خاصة في فهم الدين يصعب التحول عنها.
ومن النتائج التي ترتبت على اضطلاع أهل السنة بالتعليم العام جمود التعليم ووقوفه عند طريقة لا يتطور عنها، والسر في ذلك أن غايتهم القصوى هي حفظ القرآن، وغرضهم هو تلقين أصول الدين، مع الابتعاد عن تعليم أي مسألة من مسائل الدنيا إلا ما قضت به الضرورة. ونقول: إنه انتهى الحال في الكتاتيب بصورة عملية إلى حفظ القرآن والكتابة والقراءة فقط. ولطول العهد بهذه الطريقة التي دارت مع الزمان، واتبعها الناس قرنا بعد قرن، آمنوا أنها الطريقة الوحيدة التي ينبغي اتباعها. ولما كان القرآن ثابتا لا يتغير، ولما كان الصبيان لا يتعلمون في الأغلب إلا القرآن، فإنك قد تدخل الكتاتيب في القرن الرابع، فلا تجد فيها فارقا عن الكتاتيب في القرن الرابع عشر إلا في بعض أمور شكلية. (4) الغرض من التعليم
الغرض من تعليم الصبيان عند القابسي ، وعند فقهاء أهل السنة جميعا هو معرفة الدين، علما وعملا.
والقابسي ينظر إلى الحياة، ولا يبتغي منها إلا وسيلة إلى الآخرة، فهو يسرف في نظرته الدينية، ويجعل الإنسان يستغرق جميع أوقاته، وجميع أعماله في سبيل الدين وباسم الدين.
وليس هذا الموقف غريبا عن القابسي وهو التقي الصالح، الورع الحافظ للقرآن والسنن وأصول الدين وأصول الفقه.
ولم يكن القابسي في حقيقة الأمر إلا مرآة للعصر الذي عاش فيه، يصف ما يفعل الناس ويثبتهم في هذا العمل الصالح. وكان العصر كله عصر دين تغلب على النزعات المادية، وكان الناس قريبي العهد بالزمن الأول الذي عاش فيه الصحابة والتابعون فلم ينسوا ما كانوا عليه من سيرة روحية ترمي إلى ابتغاء مرضاة الله، والعمل للدار الآخرة.
وتمييز الغرض في الذهن ضروري لتحديد وسائل العمل، وكان الغرض من التعليم واضحا في ذهن القابسي، وفي ذهن من تقدموا من قبل منذ عصر النبي. كانوا يقصدون إلى تعليم المسلمين الدين، مما لا يتيسر إلا بمعرفة بعض المبادئ التي تكتسب بالتعليم.
ومن هذه المبادئ القراءة والكتابة، لا على أنها غاية في ذاتها يكمل الإنسان بها نفسه، بل على أنها سبيل إلى سهولة تحصيل عنصر عام من عناصر الدين وهو القرآن، ولذلك افتدى النبي عشرة من أسرى بدر بتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. والقرآن هو كتاب المسلمين الذي يجمع في آياته قواعد الدين، وأسرار العقيدة. وإذا كان لأصحاب الديانات المختلفة كتب سماوية أو غير سماوية، فإنها لم تبلغ مبلغ القرآن في تأكيده أنه كلام الله وتنزيل العزيز الحكيم، مما يجعله أكثر قداسة، وأبعد عن الشكوك والريب، وأدعى إلى القبول. ومعرفة القرآن ضرورية لمعرفة الدين، حيث لا تتم الصلاة إلا بقراءة شيء من القرآن فيها. والصلاة مفروضة على المسلمين لأنها ركن من أركان الدين، ولذلك يقول القابسي كما يقول الفقهاء: «وقد أمر المسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة والوضوء لها.» ويقول أيضا: «إن حكم الولد في الدين حكم والده ما دام طفلا صغيرا. أفيدع ابنه الصغير لا يعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» وهذا كله واضح الدلالة في أن الغرض الأول من التعليم هو معرفة القرآن والصلاة، أي معرفة الدين علما وعملا. غير أن القابسي لم يبسط الموضوع على الأساليب الحديثة، التي تقدم الأغراض ثم تسوق الوسائل لخدمتها، ولكننا نتلمس الأغراض عنده من خلال ما كتب، ونقول إن تخصيصه فصلا عن الإيمان والإسلام، لم يكن إلا نوعا من تحديد الغرض للتعليم. ونتلمس أيضا غرضه مما كتب عن تعليم البنت، فهو يريد أن يعلمها القرآن والعبادات المختلفة لأنها فرضت على المؤمنين ذكورا وإناثا. ولكنه إذ يقول إن سلامتها من تعلم الخط أنجى لها، يبين لنا أن غرضه من التعليم هو الاقتصار على معرفة الدين ويضحي بتعلم القراءة والكتابة إذا خشي فسادها.
ومن هنا اتصل التعليم بالدين اتصال الوسيلة بالغرض.
ومن النتائج المهمة التي ترتبت على هذه الصلة الضرورية، أن الديانة الإسلامية تسوي بين العباد ولا تفضل عربيا على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تقصر معرفة الدين على فئة دون فئة؛ وقد حرص المسلمون من أول الأمر على نشر الدين، والمساواة بين الناس في مقدار إنسانيتهم. فإلى جانب ما هو موجود في القرآن من النص على هذه المساواة، فإن سيرة النبي والصحابة والخلفاء الراشدين تبين بطريقة عملية امتناع التفاوت بين الناس في الأقدار والمنزلة الاجتماعية، على العكس من ذلك ساروا سيرة التواضع والبساطة والإقلال، مما يجعلهم يقتربون من العامة لا من الخاصة أو أوساط الناس. كان النبي يخصف نعله ويرقع ثوبه، وقد ثارت فئة من المسلمين على عثمان بن عفان لأنه ابتنى الدور والقصور مما لم يعهد عن رسول الله، ذلك لأن حرص المسلمين كان على السبق في المنزلة الدينية. فإذا كان الجميع سواء أمام الله، فأفضلهم عند الله أتقاهم. ودار الزمن وأثرى المسلمون، وأسلم كثير من الأعاجم، وأقبلت عليهم الدنيا، وبقي هذا الروح الذي يعبر عنه بالاصطلاح الحديث بالروح الديمقراطي قائما ، لا يجرؤ أحد أن يخالفه. ومما يساعد على انتشار هذا الروح ويمنع من تغيره ويعمل على بقائه وتثبيته، صلاة الجماعة التي يقف فيها الغني إلى جانب الفقير، والأمراء إلى جانب السوقة. لكل هذا لم يستطع أحد من المسلمين أن يدعي احتكار الدين لنفسه، يبيعه بعد ذلك لمن يريد طلبه، أو يكون واسطة بين هؤلاء الطالبين وبين الله؛ ومع ذلك فقد درجت في الإسلام في عصور متقدمة ومتأخرة كثير من النظريات يبغي أصحابها احتكار العلم والدين، مثل بعض فرق الشيعة، وإخوان الصفا، ومتأخري المتصوفة الذين اصطنعوا نظرية الأقطاب والأولياء يتوسطون بين المريدين وبين الوصول إلى معرفة الله. ولكن جميع هذه التيارات وأمثالها لا تنفي أن يتعلم الناس جميعا القرآن والعبادات الشرعية المفروضة كالصلاة والزكاة، وهي مذاهب يتحول إليها المسلمون بعد مرحلة الشباب لا قبلها؛ لأن فهمها يحتاج إلى سعة درك وعمق تفكير. ويبقى بعد ذلك أن الصبيان ينبغي أن يتعلموا القرآن والصلاة، وأن تعليمهم هذه المبادئ لا يتسع معها الخلاف أو الجدل، وأهم من هذا كله أن الإسلام يتوجه إلى الجميع فلا بد أن يتعلم الجميع.
فالديانة الإسلامية في طبيعتها النظرية من حيث العقيدة، وفي روحها الذي درج على تفسيره رجال الدين في عصوره المختلفة، تدعو إلى نزعة ديمقراطية وتنحو ناحية المساواة.
وقد أثرت هذه النزعة في التعليم أثرا كبيرا، إذ إن تأصل فكرة الديمقراطية والمساواة الدينيتين، انتقلتا إلى التعليم أيضا.
وقد تنبه المسلمون منذ عصر النبي إلى قيمة التعليم في معرفة الدين معرفة صحيحة. وكان التعليم ضروريا في ذلك العهد لحاجة النبي والخلفاء من بعده إلى نشر الإسلام بين سكان جزيرة العرب الذين يدينون بالوثنية، وبين الفرس الذين يدينون بالمجوسية، وبين أهل الكتاب، فلما أسلم أهل تلك البلاد المختلفة في خلال قرن أو قرنين من الزمان، لم تبطل الحاجة إلى التعليم، لتفقيه الأبناء شئون دينهم المفروض عليهم. (5) إلزام التعليم
وكان التعليم في بدء الأمر تطوعا في سبيل الله. ثم انتظم التعليم في الكتاتيب والمدارس، وتناول المعلمون الأجر. فأصبحت المسألة التي تواجه الفقهاء هي البحث في تعليم الصبيان أواجب هو أم لا؟ وإذا كان واجبا، فمن هم المكلفون بذلك؟ وما هو نوع التعليم الذي ينبغي أن يكتسبه الطفل؟ إلى غير ذلك من المسائل الطارئة في الإسلام، والتي لم يحكم فيها فقهاء العهد الأول في الإسلام، وهم المتبعون في الأحكام.
والمعروف أنه بعد استقرار المذاهب الأربعة في الأمصار، أصبح باب الاجتهاد عسيرا، بحيث يحتاج الفقيه إلى كثير من الجرأة في الفكر والاعتدال في الرأي ليخرج على الناس بحكم جديد.
وقد كان القابسي، على الرغم من اتباعه الدقيق لشيوخه الفقهاء، جريئا في مسألة من المسائل الاجتماعية التي شق بها الطريق لمن جاءوا بعده؛ تلك هي مسألة إلزام التعليم التي أحسن عرضها، وساقها في تطورها مع التاريخ حتى وصل بها إلى العصر الذي يعيش فيه، إلى أن بسطها الفقهاء الذين خلفوه بسطا جديدا، ولكنه أحس بها إحساس من يلتمسها التماسا، ويدور حولها دوران من يشعر بغموض الفكرة.
وإلزام التعليم خطاب للمجتمع بأسره لا لبعض الأفراد فيه.
فالقابسي يريد أن يعلم أبناء الشعب جميعا؛ لأنه يريد أن ينشر الدين ولا يحرم أحدا.
ولم يرد في القرآن نص على وجوب التعليم، ولا يوجب الحديث مثل ذلك، ولم يعهد عن الصحابة والتابعين أنهم أوجبوا على الناس تعليم أبنائهم وإرغامهم على إرسالهم إلى الكتاتيب، أو استحضار المعلمين لهم، والكتاب والسنة والإجماع هي الأصول التي يرجع إليها الفقهاء في أحكامهم. وليس غريبا أن نجد القرآن خلوا من نص على التعليم، فلم يكن في العهد الذي نزل به القرآن كتاتيب، إلى جانب أن التعليم في الكتاتيب من الأمور الدنيوية البحتة التي لا يتعرض لأمثالها القرآن وإنما يتركه لتصرف العباد.
لذلك احتال القابسي للحكم في هذه المسألة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد. وبين أيدينا كتاب ابن سحنون مما دون عن أبيه في التعليم، فلا نجد فيه ذكرا لهذا الموضوع.
وأدلة القابسي قوية أخاذة تنقلك من فكرة إلى أخرى حتى ينتهي بك إلى أن تعليم جميع الصبيان ضروري واجب، وأن هذا الوجوب هو الوجوب الشرعي، على طريقة الفقهاء.
ذلك أن معرفة العبادات واجبة بنص القرآن، ومعرفة القرآن واجبة أيضا لضرورتها في الصلاة، وأن الوالد مكلف تعليم ابنه القرآن والصلاة لأن حكم الولد في الدين حكم أبيه. فإذا لم يتيسر للوالد أن يعلم أبناءه بنفسه فعليه أن يرسلهم إلى الكتاب لتلقي العلم بالأجر، فإذا لم يكن الوالد قادرا على نفقة التعليم فأقرباؤه مكلفون بذلك. فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم فالمحسنون مرغبون في ذلك، أو معلم الكتاب يعلم الفقير احتسابا أو من بيت المال.
النتيجة التي يريد أن يصل إليها القابسي هي تعليم جميع أبناء المسلمين؛ أغنياء وفقراء. وهذا هو التعليم الإلزامي بعينه أعلنه القابسي في القرن العاشر الميلادي أي في صميم القرون الوسطى التي كان أهل أوروبا يعيشون فيها مع الجهل والظلام.
وقد تركزت هذه النظرية فيما بعد واستقرت عند فقهاء المذاهب فجعلوا طلب العلم فرضا. في مقدمات ابن رشد:
8 «وطلب العلم والفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد أوجبه الله تعالى على الجملة. سئل مالك عن طلب العلم أواجب هو أم لا؟ فقال: «أما على كل الناس فلا.» وروي عن ابن وهب كان جالسا معه (مع مالك) فحضرت الصلاة، فقام إليها، فقال له: «ما الذي قمت إليه بأوجب عليك من الذي قمت عنه».» قال ابن رشد: «وهذا كلام فيه نظر، كيف يكون طلب العلم على أحد أوجب عليه من صلاة الفريضة؟ فالمعنى عندي إن صحت الرواية أنه أراد ما الذي قمت إليه بأوجب عليك في هذا الوقت من الذي قمت عنه؛ لأن الصلاة لا تجب بأول الوقت إلا وجوبا موسعا.» إلى أن قال: «وكما يجب على المتعلم التعلم، فكذلك يجب على العالم التعليم.
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (البقرة: 159).»
أما الغزالي
9
فقد قسم العلم إلى قسمين: فرض عين، وفرض كفاية، وهو في ذلك يرجع إلى حديث الرسول: «طلب العلم فريضة على كل مسلم.» قال: «واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة، كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده، فقال المتكلمون: هو علم الكلام إذ به يدرك التوحيد؛ وقال الفقهاء: هو علم الفقه إذ به تعرف العبادات والحلام والحرام؛ وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة؛ وقال المتصوفة: المراد به هذا العلم. أما رأي الغزالي فإنه علم المعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها. أما العلم الآخر فهو علم المكاشفة على مذهبه في التصوف. أما العلوم التي هي فرض كفاية فهي تلك التي يلزم معرفتها لكمال الدين كالنحو والعربية والتفسير والقراءات والحساب.
بذلك تطورت فكرة إلزام التعليم، أو وجوب العلم، وأصبحت مما يقرره فقهاء المسلمين، ويتداولونه في كتبهم. وفي ذلك يقول صاحب مفتاح السعادة:
10 «واعلم أن حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة لئلا ينقطع عدد التواتر فيه، فلا يتطرق إليه التبديل ولا التحريف. وتعليمه أيضا فرض كفاية، وهو من أفضل القرب.» ففي الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه.» وتعلم القرآن عند الغزالي فرض كفاية أيضا، وطاش كبرى زاده يأخذ هذا الرأي ويذهب هذا المذهب.
وتختلف فكرة الإلزام التي نبسطها عند القابسي عنها في الدول الحديثة؛ ووجه الخلاف راجع إلى تطور النظم الاجتماعية، وتطور الفكرة عن الدولة ووظيفتها. والرأي الحديث أن الدولة مكلفة تعليم جميع أبناء الشعب حتى سن معينة دون أجر، فالتعليم واجب على الدولة تنفق عليه من خزائنها. ومن ناحية أخرى على الشعب واجب العلم، وهو واجب قانوني يعاقب صاحبه بالغرامة إذا لم يؤده. ولم تفصل الحقوق والواجبات في العصور القديمة هذا التفصيل، وإنما كانت الحقوق والواجبات كلها دينية، والعقاب عليها مستمدا من الدين، ويقوم الحاكم أو الوالي بتنفيذ هذه العقوبات. أشار القابسي إلى شيء من ذلك إذ سأله سائل عن حالة الوالد الذي يمتنع عن إرسال ابنه إلى الكتاب يتلقى الدين والعلم «هل للإمام أن يجبره؟» فأجاب القابسي أن ليس للإمام أن يجبره، وإنما يوعظ ويؤثم. وإذن فقد عرضت المسألة على بساط البحث، وأوشكت أن تتم أركان الإلزام من ناحية الدولة، لولا تردد الفقهاء في الحكم؛ لأن عقاب الوالد في حالة الامتناع عن إرسال ابنه إلى الكتاب يحتاج إلى دليل شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس فيها مثل هذا النص.
على أن المسألة اتجهت وجهة أخرى هي تطوع الأغنياء والأمراء بالإنفاق على الكتاتيب وإجراء الأموال عليها لتستمر على الحياة، وإذا تيسر افتتاح الكتاتيب وإقامة المسلمين فيها بالأجر، فليس ما يمنع الناس من إرسال أبنائهم إليها، ويحل عمل الأمراء محل الدولة. هؤلاء هم المحسنون الذين أشار إليهم القابسي. وقد كانت هذه العادة متبعة فعلا بتأثير حث الفقهاء الناس على طلب العلم والتعليم، والإشادة بفضل العلم.
وفي كتب التاريخ والتراجم إشارات كثيرة إلى المساعدات العظيمة التي قام بها الأمراء لافتتاح الكتاتيب.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطورت الفكرة إلى شيء أسمى من ذلك وأكثر استقرارا وأشد ضمانا لحياة الكتاتيب، وفي حياتها حياة لتعليم الصبيان، تلك هي رصد الأوقاف على الكتاتيب والمدارس، وبذلك تتم حلقات هذه السلسلة الطويلة في تاريخ التعليم، والجهاد في سبيل نشره وإلزامه؛ إذ تبدأ بالتطوع ثم تستقر شيئا فشيئا مع الزمان حتى تنتهي إلى الوقوف عند الأوقاف المرصودة على التعليم. (6) تعليم الإناث
وتتم هذه الحلقة في إلزام التعليم بإشراك البنت إلى جانب الولد في هذه الفضيلة. وقد أقر القابسي هذا المبدأ لها، واعترف بحقها في التعليم وهو يقرر ذلك في سبيل الدين؛ لأن المؤمنين والمؤمنات مكلفون جميعا بنص القرآن، ولا تتيسر معرفة الدين إلا بنوع من التعليم.
ولم يكن تعليم المرأة في الإسلام بدعة، فالمعروف أن كثيرا من النساء نبغن في العلم والأدب والشعر، وجاء ذكرهن ونوادرهن في كتب الأدب والتاريخ، ولكن المسألة هي إلزام تعليمهن لا على سبيل الزينة بل على الوجوب الديني. فإذا أفتى الفقهاء بوجوب تعليمهن بأسانيد دينية، فليس ما يمنع من تعليمهن كما يتعلم الصبيان، وليس ما يمنع من ذهابهن إلى الكتاتيب في الصغر. فانتشار التعليم في البنات روح جديد لم يكن معهودا في الزمن الأول للإسلام. أما الذي كان معروفا في بدء الإسلام، وقبل الإسلام، فهو أن عددا قليلا يعد على أصابع اليد الواحدة من النساء كن يعرفن القراءة والكتابة؛ والأمر في ذلك يشبه عدد الرجال الذين كانوا يقرءون ويكتبون عندما أقبل الإسلام.
عن البلاذري: «قال النبي للشفاء بنت عبد الله العدوية من رهط عمر ابن الخطاب، ألا تعلمين حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة؟» وكانت الشفاء كاتبة في الجاهلية.
ثم عدد البلاذري بعض النساء الكاتبات منهن «حفصة زوج النبي، وأم كلثوم بنت عقبة، وعائشة بنت سعد التي قالت: علمني أبي الكتاب.»
11
هذا ما كان من شأن المتعلمات في فجر الإسلام، وقد استمرت هذه السنة متبعة جيلا بعد جيل، فكان الأمراء يعلمون بناتهم في داخل القصر ويجلبون لهن المعلمين والمؤدبين.
ونستدل مما كتبه القابسي أن البنات كن يتعلمن في الكتاتيب حيث قال: «ومن صلاحهم ومن حسن النظر لهم ألا يخلط بين الذكران والإناث، وقد قال سحنون أكره للمعلم أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهن.» 57-أ.
واختلاط الجنسين في التعليم من المسائل الشائكة التي واجهها العالم من قديم الزمان، ولا يزال يواجهها حتى الآن في العصر الحاضر. والأقوال في هذه المسألة متضاربة، هل نجمعهما في التعليم، أم نفصل بينهما، وأي الأوقات أنسب لفصلهما؟
والخشية من فساد البنات لاختلاطهن بالذكور، جعلت الكثيرين يعلمونهن على حدة. قال القاضي عياض في كتاب (ترتيب المدارك): «ومن سيرة عيسى بن مسكين في غير مدة قضائه أنه كان إذا أصبح قرأ حزبا من القرآن ثم جلس للطلبة إلى العصر. فإذا كان بعد العصر دعا بنيه وبنات أخيه يعلمهن القرآن والعلم.»
12
ويبقى أن الفقهاء، ومنهم القابسي قرروا تعليم البنات للضرورة الدينية. وكان البنات يتعلمن فعلا إما في قصور الأغنياء، وهم القادرون على استحضار المؤدبين، وإما في الكتاتيب لعامة الشعب، وبذلك ساد مبدأ إلزام التعليم.
ونقول إن الانصراف في العصور المتأخرة عن تعليم البنت يرجع إلى ما سبق أن ذكرناه من الخوف من فساد البنت إذا تعلمت إلى جانب الولد، مما أدى في نهاية الأمر إلى الامتناع عن تعليم البنات في الكتاتيب. والسبب الثاني هو النصح بعدم تعليم البنت الكتابة والخط خشية فسادها أيضا. وفي ذلك يقول القابسي: «وسلامتها من تعلم الخط أنجى لها.» والقابسي يعبر عن روح العصر الذي بدأ قبل ذلك، واستمر إلى أن قضى على المرأة بالانزواء داخل جدران البيت. وقبل زمن القابسي نجد هذا الرأي منتشرا. قال الجاحظ: «لا تعلموا بناتكم الكتابة، ولا ترووهن الشعر، وعلموهن القرآن، ومن القرآن سورة النور.»
13
مما سبق يتضح لنا أن معرفة الدين هي الغاية القصوى والمطلوب الأول، وتحقيقا لهذه الغاية وجب التعليم ومعرفة القراءة والكتابة، لا في دائرة ضيقة، بل في أوسع دائرة بحيث تشمل جميع أفراد الأمة ذكورا وإناثا. (7) مناقشة الغرض من التعليم
ولم يذكر القابسي من الأغراض التي يبتغيها الإنسان حين يتعلم إلا الغرض الديني.
وقد ذكر خليل طوطح
14
أن التعليم عند المسلمين كان يرمي إلى أربعة أغراض: غرض ديني، وغرض اجتماعي، والتلذذ العقلي، وغرض مادي.
وقسمت السيدة أسماء فهمي أغراض التعليم إلى ثلاثة أقسام: غرض ديني، وغرض عقلي وثقافي، وغرض نفسي.
15
وكلاهما يأخذ هذه الأغراض من شتى المؤلفات العربية، مثل تعليم المتعلم للزرنوجي، وجامع بيان العلم لابن عبد البر، وإحياء العلوم للغزالي، وكشف الظنون لحاج خليفة، ومفتاح السعادة لطاش كبري زادة، ورسائل إخوان الصفا.
والرأي عندنا أنه لا يوجد أغراض للتربية عند العرب تعمهم على وجه الإطلاق، وإنما الصواب أن نذكر صاحب المذهب ثم نذكر الغرض من التعليم الذي يلائم هذا المذهب. فطريقة التعليم مستمدة من مذهب صاحبها.
والغرض من التعليم عند القابسي، وهو من فقهاء أهل السنة، غرض ديني يقصد منه إلى تعلم القرآن ومعرفة العبادات المفروضة.
وقد أوجزنا القول في فصل آخر عن التربية عند العرب، وعرضنا هذه المذاهب المختلفة، لنبين أن الاختلاف في أغراض التعليم ووسائله عند المسلمين إنما يرجع إلى اختلاف هذه المذاهب العقلية.
على أن القول بأن من أغراض التعليم عند العرب كسب المنزلة الاجتماعية قول جريء يحتاج إلى دليل.
وقد اعتمد خليل طوطح على ما ذكره ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم»: «اطلبوا العلم، فإن كنتم ملوكا برزتم، وإن كنتم سوقة عشتم.» وهذا نص عن ابن المقفع، وهو القائل بعد ذلك: «إذا أكرمك الناس بمال أو سلطان فلا يعجبك ذلك، فإن زوال الكرامة بزوالها، ولكن ليعجبك إذا أكرموك لعلم أو دين.»
16
وقد عقد ابن عبد البر فصلا في مكان آخر قال فيه: «وقد تبين بما ذكرنا أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء ...» إلى أن قال: «واعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هذا نشأ الكبر والحسد، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره.»
17
والدين والدنيا يجتمعان ويفترقان، فمن طلب الدنيا ذهبت منه الآخرة، ومن عمل للآخرة أقبلت عليه الدنيا أيضا. وفي ذلك يقول ابن عبد البر: «وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه. وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة ولا يجتمع معه. والسعيد من آثر الباقي على الفاني.»
18
ولا نريد أن نستقصي جميع كتاب المسلمين لتصحيح ما أخذه عنهم الباحثون في التربية، والرأي عندنا أنهم جميعا جعلوا الغاية من التعليم غاية دينية، وأكدوا هذه الغاية تأكيدا لا يقبل الشك، وإذا كان بعضهم وجد أن التعليم يحقق أغراضا اجتماعية أو عقلية أو مادية، فإن هذه الغايات الأخيرة تأتي في المرتبة بعد الغاية الدينية، وليست مقصودة لذاتها، ولم يفتهم النص على إيثار الدين على الدنيا في جميع الأحوال.
هذا إلى أن البحث في التعليم عموما يختلف عن البحث في تعليم الصبيان، والغرض من تعليم الصبيان هو معرفة الدين قبل كل شيء. ولذلك أوجبوا تعليمهم.
وإذا نظرنا إلى المواد التي كان يتعلمها الصبيان في الكتاتيب تبين لنا أن الغاية التي حددت هذه العلوم هي الغاية الدينية، وأول هذه العلوم هو القرآن الذي يحفظه الصبي قراءة وكتابة، فالكتابة ليست مقصودة لذاتها من حيث فائدتها الاجتماعية أو العقلية أو المادية، بل لسهولة حفظ القرآن وتقييده، للرجوع إلى المكتوب المقيد في أي وقت يشاء الصبي، والنحو والعربية الغرض منهما قراءة القرآن على الوجه الصحيح وحسن فهمه. وقد نص القابسي على أن تعليم الحساب ليس بلازم إلا إذا اشترط عليه. وقد بحث الفقهاء بعد هذا العصر في تعليم الحساب، والتمسوا له علة دينية هي الفائدة في معرفة المواريث وقسمتها كما هو وارد في الشرع، فإذا كانت هناك ضرورة لتعلم الحساب فهي إذن ضرورة شرعية لا اجتماعية أو مادية.
لقد بدأ القابسي كتابه بفصل عن الإيمان والإسلام، واختتمه بفصل في القراءات والكلام عن فضل المقرئين، وبهذا يبدأ الصبي مؤمنا مسلما وينتهي قارئا للقرآن.
الفصل السادس
التربية الخلقية
(1) الدين أصل من أصول الأخلاق
الدين والأخلاق حقيقتان لا تنفصلان في الديانة الإسلامية، كما تتلازمان في جميع الأديان، وهناك أديان سادت في شعوب مختلفة وتبعها الناس زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل، وليس فيها من أصول الدين إلا نزر يسير لا يلقى إليه بال، إلى جانب ما فيها من حكمة خلقية وفضائل نفسية. مثال ذلك ديانة الصين وهي الكونفوشيوسية، وهي مجموعة فضائل بثها حكيم الصين لخير الإنسانية، ولم تنزل إليه وحيا من الله. فالأمة التي ينتشر فيها الفساد يذهب ريحها وتمحى من صفحة التاريخ هي ودينها إن كانت تدين بدين.
ولم يكن القابسي في حاجة إلى النص على أنه يريد من التعليم تهذيب الخلق، لأن تعليم الدين يحمل في طياته هذا التهذيب.
فالإسلام يفصل الكلام في المسائل الأخلاقية الرئيسة التي تناولها القدامى والمحدثون: فيه بيان عن الأصل الأخلاقي للسلوك الإنساني، وفيه بيان عن البواعث الخلقية، كما ينظر في الحكم الأخلاقي، وفي الغاية من الفعل الخلقي.
وجماع هذه المبادئ الأربعة نجدها في القرآن، فهي مبسوطة وافية، ولكنها متناثرة في شتى آياته على الطريقة القرآنية، وهي ظاهرة لكل من ألم بالكتاب، ونظر فيه نظر أولي الألباب.
ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام: 38).
لهذا جعل المسلمون القرآن حجتهم ومرجعهم، ولهذا السبب ألزموا تعليمه ومعرفته. والفقهاء يعتبرون القرآن الأصل الأول من أصول الدين، ويعتبرون السنة مكملة للكتاب. قال القابسي: «ومشتهر عند المسلمين أنه جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي؛ فهو شيء لا بد من تعلمه.» 31-ب.
والأخلاق من العلوم المعيارية التي تبسط للناس مثلا عليا ينبغي اتباعها، وتختلف عما يكون عليه الإنسان في الواقع.
ويرجع الأصل في الاختلاف بين الواقع والواجب إلى ظهور الدين والعرف، وكلاهما سلطتان قاهرتان خارجتان عن الفرد، ويخضع لهما الفرد.
وظل الإنسان زمنا طويلا لا يميز بين السلطتين؛ سلطة نفسه وسلطة الدين والعرف، الخارجتين عنه. والطفل لا يميز بينهما لقصور عقله؛ والعامة من الناس كذلك لا يفرقون بين هذه الذاتية وبين السلطة الخارجية، وذلك لجهلهم، وبعدهم عن التفكير في أنفسهم.
وأقدم الحضارات التي بينت في وضوح سلطة الدين على الأخلاق هي حضارة قدماء المصريين، التي آمنت بخلود الروح، والبعث والحساب والعقاب. وإنك لتجد في أوراق البردي، والكتابات المسجلة على جدران المعابد كثيرا من قواعد السلوك تعتبر هداية إلى الخير، وميزانا للعمل الصالح. لهذا السبب ارتقى العمران عند قدماء المصريين، واستمرت حضارتهم أحقابا طويلة.
ويعتبر المؤلفون الأوروبيون أن سقراط هو أول من تكلم في علم الأخلاق كلاما له قيمته، بل يعتبرون سقراط واضع علم الأخلاق. وقد صرح بأن الحياة الخلقية تعتمد على أصلين: قوانين الدولة المكتوبة، والقوانين الإلهية غير المكتوبة. ولكن سقراط قد أحس في الوقت نفسه بتدهور الحياة الخلقية التي كان يحياها معاصروه فحاول أن يكشف عن المبادئ العامة الخلقية المسلم بصحتها، وانتهى إلى أن الفضيلة وليدة المعرفة؛ أي أنها أمور يمكن تعليمها وتعلمها.
1
أما أفلاطون فيقابل بين العالم المحسوس والعالم المعقول، ولا يجد الخير إلا في العالم العلوي المعقول، حيث نجد المثل تتدرج نحو الإله الخير الصانع. وقد أعجبت الأفلاطونية المسيحيين لما فيها من روحانية تتفق مع روح المسيحية. وتعتمد المسيحية على مبادئ ثلاثة: فكرة الذنب الموروث، والدعوة إلى محبة الناس كافة، والاعتقاد في الثواب والعقاب في الآخرة.
فالأخلاق إلى عهد المسيحية كانت تسلك طريقين: الأول محاولة الرقي بالإنسان نحو الكمال، والثاني التسليم بأن المعصية موروثة، وأن الخلاص منها بيد الله.
وكلا الطريقين يستند إلى وجود الله، ويعتبر أنه تعالى الأصل في الأخلاق.
ونظر الفلاسفة المحدثون إلى مشاكل العالم والإنسان بالعقل الحر الطليق من جميع الآراء السابقة، وقد وجدوا أن وجود الله ضرورة من ضرورات هذا العالم. فديكارت والمدرسة الديكارتية تصل بين الأخلاق وبين ما بعد الطبيعة، وتجعل الله، وهو الكمال المطلق، أصل الأخلاق.
وهوبز الفيلسوف الإنجليزي ممن يعتبرون الدين وهو سلطة خارجية مصدر التشريع الخلقي، وأن الفعل الخلقي يعتبر خيرا لأن الله يريده، وبذلك يتفق مع الإرادة الإلهية.
فإذا كنا في العصر الحديث لا نزال نفسح المكان للجانب الإلهي الذي يصدر عنه الخلق والخلق بل كل شيء، وعلى الرغم مما يسود العالم من حرية رأي، وجرأة فكر، وفلسفة مادية ملحدة تحاول تفسير كل شيء، فليس من الغريب أن نجد فقهاء المسلمين، ومن بينهم القابسي، يردون كل شيء إلى الله، ويجعلون الواحد القهار الرحمن الرحيم، أصل الأخلاق، ومصدر الأعمال، وهو القائل في كتابه:
والله خلقكم وما تعملون (الصافات: 96).
كانت البيئة دينية؛ التفكير الديني يسود فيها كل شأن من شئون الحياة. (2) القرآن أصل الأخلاق الإسلامية
الأخلاق نظرية وعملية. ولم ينص الإسلام على أخلاق نظرية منفصلة، يتبعها السلوك العملي، ويستمد قوته من تلك النظريات المقررة. وإنما رسم للناس قواعد العمل الصالح الذي ينبغي أن يسيروا عليه. ومرجع المسلمين في ذلك هو القرآن أولا، ثم السنة المكملة للكتاب.
والقرآن زاخر بهذه القواعد العملية التي تتناول أغلب أحوال الناس في معاشهم، وفي صلاتهم بغيرهم من الناس، ومعاملتهم بعضهم بعضا.
والإسلام دين السلام؛ سلام بين المرء ونفسه، وبين المرء وغيره.
وهو أول دين يحمل الخير للإنسانية كافة، لا يقتصر على شعب دون شعب، أو يؤثر أمة على أمة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
فهو شريعة الله لنفع العباد:
إن الدين عند الله الإسلام .
أما الأديان الأخرى فإنها تنسب لأصحابها من الأنبياء والرسل والحكماء.
فالمسيحية تستمد اسمها من المسيح، وكذلك اليهودية والبوذية.
2
ويفسر القابسي الإسلام تفسيرا يؤكد به العمل المفروض على الناس من الله، على طريقة النظار من أهل السنة، لا على طريقة المتأخرين، فالإسلام هو: «عمل الجوارح بما افترض عليها؛ لأنه يدل على استسلام من قال: أسلمت لله.» 5-ب. وإذا لم يقترن الإسلام بالإيمان فهو النفاق.
فالإسلام هو الإيمان بالله، يضاف إليه العمل الصالح.
ويفسر بعض المعتزلة الآية السابقة تفسيرا أعمق، وأقرب إلى طريقتهم ومذهبهم، فالإسلام هو: «العدل والتوحيد. وهو الدين عند الله وما عداه فليس عنده في شيء من الدين.»
3
ويقترب من هذا التفسير ما يراه أمير علي؛ إذ يقول: «إن لفظ الإسلام مشتق من السلام، والتحية، والأمن، والإخلاص. ولا يدل هذا اللفظ، كما هو مشهور، على الاستسلام المطلق لإرادة الله، ولكنه على العكس يدل على الجهاد في سبيل الحق والعدل.»
4
هذا التفسير يتلاءم مع مبادئ الأخلاق؛ لأنه يجعل الإنسان مسئولا عن أعماله، ويؤكد حرية إرادته، وسنرى كيف يوفق القابسي بين الإرادتين: إرادة الله وإرادة الإنسان فيما بعد.
أما مبادئ الإسلام فهي ثابتة مقررة في القرآن.
وإذا نظرنا إلى القرآن نظر الباحث الذي يريد تحليل ما جاء فيه، وجدنا أنه ينقسم إلى أربعة أقسام: قسم للعقائد وما يتصل بها، وقسم للتشريع وثالث للأخلاق، ورابع للقصص.
وقسم التوحيد يدعو الناس إلى الإيمان بالله الواحد القهار، وذلك بأدلة كثيرة منها ما هو عقلي يدعو إلى التفكير والنظر، ومنها ما هو وجداني يثير العواطف المختلفة، ويبعث الرغبة والرهبة، فيقع المرء تحت تأثير العاطفة ويسهل عليه الانقياد. ويتصل بهذا القسم القول في الوحي والآخرة والجنة والنار، وأشباه هذه المسائل التي تعتبر جزءا من العقائد، وتندرج تحت ما وراء الطبيعة. ويتبع هذا القسم أيضا العبادات المختلفة، وأولها الصلاة وهي ذكر الله؛ لأن معرفة الله لا تتم بالنظر، وإنما تستكمل بالعبادة والقرب ودوام الذكر.
وقسم التشريع يبسط القوانين التي ينبغي اتباعها وتطبيقها في المعاملات المختلفة. وبهذا يحل القرآن كثيرا من المشاكل الدنيوية وهي مشاكل خاصة بعلاقة الإنسان بالإنسان، وبحياته الاجتماعية والسياسية، وصلته بأسرته وزوجته وما ينشأ عن ذلك من طلاق وميراث. ويشرع القرآن أيضا تشريعا يتصل بتوزيع الثروة، فيحل مشكلة رأس المال والعمل؛ تلك المشكلة العويصة التي برزت في العصر الحاضر بروزا واضحا، ونشأت عنها نظرية الشيوعية والاشتراكية.
والغرض من القصص هو ضرب الأمثال للناس للعبرة والقدوة كما قال تعالى:
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل (الكهف: 54). ومخاطبة الخيال أوقع في النفس وأشد تأثيرا. وبذلك جمع القرآن بين خطاب العقل والعاطفة والخيال، فملك على الناس مناحي تفكيرهم، وسلب أفئدتهم، وكسب قلوبهم، وأثر في نفوسهم.
والقسم الخاص بالأخلاق ينظم أفعال المرء مع نفسه، وأفعال المرء مع غيره أي المجتمع. فهي أخلاق شخصية واجتماعية. على أن هناك بعض المذاهب تعتبر أن الأخلاق جميعا اجتماعية، وحتى الشخصية منها مرجعها إلى المجتمع.
وقد نصح الله الإنسان في أخلاقه الشخصية أن يقتصد في المال كما يقتصد في تناول الطعام، لصلاح جسده وصلاح شأنه.
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط (الإسراء: 29). وقال:
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا (الأعراف: 31)، هذه فضيلة الوسط بين الإفراط والتفريط، التي تتلاءم مع طبيعة الحياة الواقعية.
وفي أخلاق الأسرة كثير من الآيات. فالقرآن يحث على الزواج، وينفر من الزنا، وينظم العلاقة بين الزوج وزوجته على أساس خلقي من المودة والرحمة، كما يأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين، والآباء أن ينظروا في خير أبنائهم.
وجماع الأخلاق الاجتماعية، أو الأخلاق الفاضلة على وجه العموم يلتقي في التفسير الذي بسطه القابسي للاستقامة والصلاح بعد حديث الإسلام والإحسان.
أما الاستقامة فهي: «القيام بما أمر الله به» 11-أ.
أما الصلاح: «فما تقدم وصفه (أي الإيمان والإسلام والإحسان والاستقامة) من وفى بجميعه وفاء حسنا، فقد استكمل صفة الصالحين.» 13-ب.
وقد أمر الله المسلمين بالإيمان به، وأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، كما جاء في حديث الإيمان والإسلام.
ومن أراد أن يحيط بجميع أوامر الله، فعليه أن يرجع إلى القرآن.
وخلاصة هذه الأوامر تجتمع في أول سورة البقرة، ثانية سور القرآن بعد فاتحة الكتاب.
الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . (البقرة: 1-5)
اعتقاد بالله، والآخرة، والوحي، ثم الصلاة والزكاة.
وفي ذلك يقول محمد علي:
5 «إن مبادئ الإسلام الأساسية خمسة؛ ثلاثة نظرية، واثنان عمليان. فالنظرية الاعتقاد في الله والوحي والآخرة، والعملية الصلاة والزكاة.»
والإنفاق مما ملكت اليد هو الصدقة بأوسع معانيها، أي العمل الصالح للناس جميعا. ذلك أن الله لم يهب للإنسان المال وحده، بل وهب له كذلك عافيته وملكاته.
وقد جمع الله بين الصلاة والزكاة في غير آية من الكتاب، مما يدل على الصلة الوثيقة بينهما. فالصلاة تهيئ الإنسان لخدمة الإنسانية.
والاعتقاد في الله هو النواة التي يدور حولها الإسلام: ومن هذه النواة يتصل الإنسان بالله عن طريق الصلاة. ولا خير في الصلاة إذا لم تؤد إلى فعل الخير، كما قال تعالى في سورة الماعون:
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون (الماعون: 4-7).
ورد في القرآن في مناسبات شتى الحث على الإنفاق، والصدقة والزكاة؛ كما يؤكد كثيرا من أفعال الخير كعتق العبيد، وإطعام المسكين، والعناية باليتيم.
وفي سورة البلد:
فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة (البلد: 13-16).
والصدقة الظاهرة أو الخفية لها جزاؤها. في سورة البقرة:
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (البقرة: 271).
ويرى جولدزيهر: «أنه إذا أردنا الإنصاف، فينبغي أن نؤمن بأن في مذهب الإسلام قوة صالحة توجه الإنسان نحو الخير، وأن الحياة المتفقة مع التعاليم الإسلامية حياة أخلاقية لا غبار عليها؛ ذلك أنها تتطلب الرحمة نحو جميع مخلوقات الله، والوفاء بالعهود، والمحبة والإخلاص وكف غرائز الأنانية، إلى هذه الفضائل التي أخذها الإسلام من الديانات التي اعترف لأصحابها بالرسالة. المسلم الصالح هو ذلك الذي يحيا حياة يحقق فيها مطالب خلقية قاسية.»
6
في بعض آيات القرآن دعوة إلى الابتعاد عن الدنيا وإيثار الآخرة:
بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى (الأعلى: 16-17) وفي سورة النازعات:
فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى . (النازعات: 37-41).
والحقيقة أن دائرة الإسلام لا تشمل الآخرة وحدها، بل الدنيا أيضا، كما قال تعالى:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (القصص: 77).
والروح الصحيح للإسلام لا يتطلب الشدة، ولا يفرض القسوة على النفس. فالاستقامة في الدين كما يقول القابسي: «هو مداومة المقام فيه، لا ينكب عنه يمينا ولا شمالا، ولا يلتزم منه ما لا يطيقه.» ثم ذكر من أحاديث الرسول. «اكفلوا من الأعمال ما تطيقون.» وفي حديث آخر: «إن الدين يسر.»
والرأي عند محمد علي: «أن الإسلام يهتم أولا بهذه الدنيا، وأن الإنسان إذا عاش معيشة صالحة في هذه الدنيا، فإنه يبلغ درجة رفيعة في الآخرة. ولهذا اشتمل القرآن على كثير من المسائل الدنيوية المنوعة.»
7
من هذا نرى أن القرآن أكبر مرجع للمسلمين، وأول أصل من أصول الدين؛ والجانب الخلقي في القرآن عظيم.
لهذا كانت معرفة الدين عند القابسي لا تتم إلا بتعلم القرآن. ولعل القابسي لم يلزم الأمة ذكورا وإناثا بالتعليم، إلا ليتعلموا القرآن. وهو ينص على ذلك في صراحة إذ يقول: «إن حكم الولد في الدين حكم والده ما دام طفلا صغيرا: أفيدع ابنه الصغير لا يعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» 28-أ. (3) الضمير والأخلاق
تبين لنا أن الأصل في الأخلاق الإسلامية على مذهب أهل السنة يرجع إلى سلطة خارجية قاهرة هي سلطة الدين. وأساس هذا الدين القرآن الواجب تعليمه وتعلمه. والصلة بين الدين الإسلامي والأخلاق عظيمة تبلغ حد التوحيد بينهما. فالدين وسيلة لتكوين الخلق، والأخلاق مستمدة من الدين. ولا غنى لصاحب الأخلاق عن عقيدة تسمو على مطالب هذه الحياة الدنيا. إلى هذه العقيدة تتطلع النفوس وتذهب نحو الكمال.
ولعل الذي يجعل الإنسان يتطلع في أفق هذا العالم إلى شيء بعيد يتلمسه ويرقبه ويستمد منه العون، ويركن إليه في ساعات اليأس والمتاعب والنازلات هو امتياز الإنسان بالشعور.
والشعور النفساني هو المرآة التي تنعكس عليها أعمال المرء، فيرى فيها تقدير هذه الأعمال ويتسنى له أن يحكم عليها بالخير أو الشر.
هذا الشعور النفساني هو الذي يعبرون عنه في علم الأخلاق بالضمير؛ ذلك الذي يقف من المرء موقف الرقيب، يحثه على أداء الصالح، وينهاه عن فعل الضار؛ ويعاوده بعد أداء الأعمال، فيؤديه مستنكرا ما أساء، ويجزيه براحة الضمير أحسن الجزاء.
ولا أخلاق بلا ضمير، سواء اعتبرنا أصل الأخلاق سلطة خارجية دينية أو اجتماعية أو قانونية، أو اعتبرنا أصل الأخلاق هو هذه السلطة النفسية الصادرة عن النزعات الذاتية والأفكار الباطنة.
فالشعور بالواجب الخلقي هو الذي يدفعنا إلى الأعمال الصالحة.
والضمير هو الحد الفاصل بين الرغبات المطلوبة، والواجبات المفروضة في الطبائع الإنسانية يدركها صاحبها بالبديهة. وبعضهم يرجع بالضمير إلى الكسب والخبرة، وبذلك ينشأ الضمير فينا بالتعليم والتطور الاجتماعي.
ومن الواضح أن القابسي لا يقول بفطرة الضمير؛ لأنه أحال الأعمال الخلقية إلى سلطة خارجية هي السلطة الدينية.
والضمير على رأيه مكتسب مستمد من الدين.
والقابسي من الموفقين يؤلفون بين شتى المذاهب، ويلائمون بينها. فهو يثبت أن الله يعلم ما في السرائر، ويعرف خبايا النفوس، وهو الذي يراقب العباد، وفي الوقت نفسه يثبت أن الإنسان يعرف ما يعمل، وهو الذي يراقب نفسه؛ ثم يوفق بين مراقبة الله للأعمال وبين مراقبة صاحبها لها.
والسبيل إلى ذلك هو إحلال الضمير الديني محل الضمير الخلقي، بأن يستمد الضمير الخلقي وجوده من الدين، وبذلك يتوحد الضميران.
ويعتمد القابسي في هذا التأليف على حديث الرسول؛ سئل النبي: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.»
وقد ضرب القابسي في تفسير هذا الحديث المثل بالسيد والعبد الذي يجهد نفسه في حضرة سيده ليرضيه بحسن طاعته، فإذا خلا العبد من معاينة سيده له، فإنه قد يقصر. وقياس حال الإنسان مع الله على حال العبد مع سيده قياس مع الفارق العظيم؛ لأن دائرة المشاهدة عند السيد محدودة ويخفى عنه الكثير، وبذلك يتسنى للعبد أن يستغفله. أما العباد فإنما يستغفلون أنفسهم إذا أرادوا الاستخفاء من الله.
فالله يعلم كل كبيرة وصغيرة، ولا يخفى عليه شيء.
وقد دار الجدل بين المسلمين في علم الله، أيعلم الكليات والجزئيات أم الكليات فقط؟ قال ابن الجوزي: «وقد ذهب أكثر الفلاسفة إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا وإنما يعلم نفسه ... وقد خالفهم ابن سينا في هذا فقال: بل يعلم نفسه، ويعلم الأشياء الكلية ولا يعلم الجزئيات. وتلقف هذا المذهب منهم المعتزلة.»
8
والقابسي يمثل مذهب أهل السنة، وهو أن الله يعلم الكليات والجزئيات، لهذا ساق آيات كثيرة من الكتاب لتأكيد هذه المسألة، نذكر منها:
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (يونس: 61).
واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه (البقرة: 235).
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه (ق: 16).
وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير (الحديد: 4).
والأصل أن الضمير هو الذي يطلع على خافية الأنفس؛ لأن الإنسان كساكن الدار لا يعلم ما يجري فيها على وجه التحقيق إلا صاحبها.
والقابسي يسلم للضمير بهذه القوة وهذه الوظيفة: قوة الحفز على العمل الصالح، والنهي عن ارتكاب السيئات، ووظيفة الاطلاع والرقابة على الأعمال. ولكنه في الوقت نفسه يؤمن بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الذي يعلم السر والجهر، فهو رقيب على الرقيب من نفس الإنسان، بل هو ضمير لضمير الإنسان والإنسانية.
ولا خير في الضمير إن لم يكن حيا يقظا يؤدي وظيفته على وجهها الصحيح من الرقابة الصادقة والاطلاع الدقيق. فكثيرا ما يتبلد الضمير مع الإلف والاعتياد، فيقع في سبات لا يقوى معه على الشعور بالحسن والقبيح. وإن شعر فإنه لا يقوى على شحذ الهمة إلى أداء الفضائل، أو حفز النخوة إلى الابتعاد عن الرذائل.
لذلك قالوا عن صاحب الضمير الميت : إنه شخص بلا ضمير.
ولا أخلاق مع انعدام الضمير، والشرط أن يكون الضمير يقظا مع الأخلاق.
والرأي عند القابسي في إحياء الضمير يكون بوسيلتين تتفرعان عن أصل واحد. فالأصل هو الإيمان الخالص بالله القوي العليم الغفور، والسبيل الأول: «أن تعبد الله كأنك تراه، وأن هذا يلتزمه العبد لله في أحوال متقلبه ومثواه ... لأنه يجدد للمؤمن إيمانه كلما ذكره.» 13-ب.
والسبيل الثاني الاعتصام بالله؛ لأن الانزلاق الخلقي مرجعه اتباع الشهوات، ولا عاصم للإنسان من نفسه الأمارة بالسوء إلا الله ... «فإن هم به الشيطان أن يلبس عليه شيئا، فاستغاث ربه، واستعاذ به منه، فكفاه عدوه، وأعانه عليه ... وإنما المعصوم من عصمه الله جل وعز.» 14-أ.
الإيمان بالله، والتزام عبادته، والاعتصام به تعالى، هي الوسائل المؤدية إلى حياة الضمير، فتستقيم الأخلاق. وهذه أمور لا يعرفها الإنسان ويعمل بها بالبديهة والفطرة، وإنما تكتسب بالتعلم.
فالمعلم مكلف بتلقين الصبيان الإيمان الصحيح، والعبادات المختلفة والدعاء. وتمام يقظة الضمير، ومراقبة المرء لنفسه، ترفعه إلى مرتبة الصالحين، تلك المرتبة التي لخصها القابسي فقال: «إن كمال ذلك كله في قول الله عز وجل:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (البينة: 5)» 15-أ.
ذلك أن العبادة ليست عبثا في الدين، فالصلاة وهي الركن الركين في الإسلام عبادة الغرض منها معرفة الله، وذكره في كل وقت، ودوام الذكر هو السبيل إلى يقظة الضمير. لهذا السبب نص الفقهاء على وجوب انصراف المرء في الصلاة إلى ذكر الله مع عدم الاشتغال بأي أمر من أمور الدنيا. والصلاة المفروضة على المسلمين يؤدونها في خمسة أوقات متفرقة من كل يوم لدوام الذكر. وقد طلب إلى المسلمين أن يأمروا أولادهم بتأديتها وهم بنو سبع ليسكنوا إليها ويألفوها ويتطبعوا بها، حتى إذا تأصلت فيهم هذه العبادة، انطبعت شخصيتهم بها، فأصبح المحور الذي تدور حوله الشخصية، ومنه تستمد حياتها وكيانها، هو المحور الديني.
قد تزيد هذه الشخصية الدينية قوة مع قوة الشعور بوجود الله ومعرفته والإقرار برقابته، بشرط أداء العبادة أداء صحيحا.
وقد تضعف هذه الشخصية إذا كان صاحبها يردد العبادات ترديدا آليا ينعدم معه الشعور بوجود الله، فتنعدم الرقابة الدينية، ولكنها لا تمحى تماما. (4) البواعث الخلقية
هل الباعث على الأعمال الخلقية هو العقل أم الوجدان؟
قبل أن نبحث حقيقة هذه البواعث الخلقية عند القابسي، لا بد أن نرى رأيه في حرية الإرادة. ذلك أن الباعث إن لم ينطلق عن اختيار فلا سبيل إلى الحكم الأخلاقي، ولا موضع للمسئولية أو التكليف.
ومشكلة حرية الإرادة من المشاكل الدقيقة التي جرى البحث فيها في شتى العصور. ولم يصل المسلمون حتى الآن إلى حل سليم يتبعونه فيها، مع ما لهذه المشكلة من آثار اجتماعية بعيدة الشأن في حياة المسلمين.
والأصل في هذه المشكلة يرجع إلى التوفيق بين حرية الإنسان والإرادة الإلهية؛ ولا بد من حل هذه المشكلة الدقيقة الشائكة ليستقيم أمر الأخلاق. فقد يستسلم الناس إلى أمر الله استسلاما أعمى فيركنون إلى التواكل، ويلجئون إلى التكاسل. ويذهب بعض الناس إلى حد ارتكاب المعاصي قائلين إن كل شيء بأمر الله، أو هذا ما كتبه الله على العباد.
قال ابن الجوزي: «وقد تشبث القاعدون عن التكسب بتعللات قبيحة، منها أنهم قالوا: لا بد أن يصل إلينا رزقنا؛ وهذا في غاية القبح. فإن الإنسان لو ترك الطاعة وقال: لا أقدر بطاعتي أن أغير ما قضى الله علي، فإن كنت من أهل الجنة فأنا إلى الجنة، أو من أهل النار، فأنا من أهل النار، قلنا له: هذا يرد الأوامر كلها. ومعلوم أننا مطالبون بالأمر لا بالقدر.»
9 «قالت المجبرة: لا قدرة للآدمي، بل هو كالجماد مسلوب الاختيار والفعل.»
10
وينتقد أهل السنة الذين يثبتون الحرية والإرادة للإنسان، بأن في خلق العباد لأفعال أنفسهم سلبا للقدرة الإلهية. وفي ذلك يقول صاحب الإنصاف في تعليقه على تفسير الكشاف: «ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكة الله في مخلوقاته، فيزعمون أنهم يخلقون لأنفسهم ما شاءوا من الأفعال على خلاف مشيئة ربهم، محادة ومعاندة لله في ملكه، ثم يتسترون بعد ذلك بتسمية أنفسهم: أهل العدل والتوحيد والله أعلم بمن اتقى. ولجبر خير من إشراك؛ إن كان أهل السنة مجبرة فأنا أول المجبرين.»
ولم يذكر القابسي حلا صريحا لهذه المشكلة؛ لأن كتابه لم يتعرض لبحث المسائل الكلامية. وأهل السنة على وجه العموم لا يخوضون في بحث هذه المسائل الشائكة التي تدعو في نظرهم إلى الانزلاق نحو الكفر، وإنما يقبلون ما فيها من تعارض بإيمان العقيدة، لا بيقين العقل، كما كان يفعل السلف.
وقد أراد الأشاعرة أن يحلوا هذه المشكلة فما زادوها إلا تعقيدا؛ ورأيهم في الكسب دقيق، ولذلك يضرب به المثل، فيقال: هذا أدق من كسب الأشعري.
والرأي عندهم: «أن الأفعال مخلوقة لله مكتسبة للعبد، فجمعوا بين الأمرين وقالوا: إن الأفعال واقعة بقدرة الله وكسب العبد. فالله تعالى يخلق الفعل والقدرة عليه بإجراء العادة. ولهذا جاز إضافة الفعل إلى العبد وصح التكليف والمدح والذم والوعد. فإنا لو لم نقل بالكسب، لزم أحد الأمرين إما الميل إلى الاعتزال، وإما القول بالجبر، وكلاهما باطل.»
11
أما أهل السنة فقد كفوا أنفسهم مئونة هذا التحايل على التوفيق، وقالوا إن الناس مطالبون بالأمر لا بالقدر.
فالقابسي يثبت القدرة الإلهية، كما يثبت الإرادة الإنسانية، ويضيف إلى الإنسان الاختيار وبذلك يكون مسئولا عن أعماله، محاسبا عن أفعاله.
والباعث إلى تحريك الإرادة نحو جهة معينة باعث ديني.
فإن قلت كيف يكون الباعث دينيا، والبواعث تصدر من باطن الإنسان وهي التي تحركه؟
قلنا: إن هذه المسألة ينطبق عليها ما ذكرنا في الضمير. فكما توحد الضميران الخلقي والديني، كذلك تتوحد البواعث الإنسانية والدينية؛ ونقصد بالبواعث تلك الأوامر والنواهي التي وردت في القرآن، وطلب إلى الناس فعلها. فالزواج باعث إنساني لا شك في ذلك؛ لأنه يرجع إلى الغريزة الجنسية. وهو باعث ديني أيضا لأن الله أمر بالزواج. والباعث إلى الامتناع عن الربا يكون باعثا اجتماعيا ودينيا، فهو اجتماعي لما فيه من أضرار تحل بالمجتمع، وهو ديني لأن الله نهى عنه.
والقابسي يرى أن البواعث يجب أن تكون دينية، أي أن يتبع المرء ما جاء عن الله والرسول .
فإذا كان الأمر كذلك، فالتعليم واجب لأنه يبصر المسلمين بأسباب الدوافع المحركة للإرادة على اختيار الأفعال. ولا بد أن ينتهي الأمر بالمرء إذا استغرق في الحياة الدينية، أن يتصور منازعه صادرة عن الدين، وأن يوزع أعماله بين الحلال والحرام.
فإذا بدأ الصبي الصغير في حفظ القرآن ومعرفة تعاليم الدين، اختلطت هذه التعاليم بشخصيته كلما نما وبلغ مبلغ الرجولة، فتتحد البواعث الدينية في نفسه مع الزمن مع البواعث الشخصية.
فمرجع البواعث إلى الدين، وإلى القرآن.
والقرآن كما ذكرنا يخاطب العقل والوجدان؛ لأن الطبيعة الإنسانية فيها التفكير والتدبير، وفيها المحبة والكراهية؛ ويعمل الإنسان بدافع من الرأي والنظر كما يتحرك بقوة الخوف والغضب.
ومذهب العقليين في الأخلاق - والفلسفة القديمة أغلبها على هذا المذهب - تهمل جانب الوجدان. وأصحاب هذه المذاهب يغلبون الحكمة والعقل على أهواء النفس، ويرون في العقل أساس اختيار الفضائل.
وسقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيون، وديكارت وليبنتز وكانط، وغيرهم كثيرون على هذا المذهب العقلي.
وعند المسيحيين أن الباعث الأساسي إلى أفعال الخير هو الشعور بالمحبة. ويميل أغلب المحدثين - على الأخص علماء النفس - إلى اعتبار الوجدان أساس الإرادة، ويعتبرون العاطفة أساس الاختيار الإرادي، وليس العقل.
وقد مالت طائفة من المسلمين وهم المعتزلة إلى ناحية العقليين، ومالت طائفة أخرى إلى جانب الوجدانيين وهم المتصوفة. قال الجنيد: «المحبة ميل القلوب، معناه أن يميل قلبه إلى الله، وإلى ما لله في غير تكلف.»
12
وبعض المفسرين يفسرون الآية الآتية من سورة الإنسان:
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (الإنسان: 8)، أي محبة الله.
ولكن أهل السنة يأخذون بالجانبين جميعا، بالبواعث العقلية والوجدانية.
مثال ذلك ما جاء عن تعليم اليتيم الذي ليس له مال، فإن المعلم قد يعلمه احتسابا لله عز وجل، فهذا باعث وجداني يرجع إلى العاطفة الدينية.
وجاء في تعليم الأنثى أنها: «تعلم ما يرجى لها صلاحه، ويؤمن عليها من فتنته.» فالباعث إلى تعليمها عقلي؛ لأن القابسي ينظر في مصلحتها، ولو أنه يقصد بالمصلحة المصلحة الدينية بطبيعة الحال.
ولا نريد استقصاء جميع الأمثلة التعليمية الواردة في كتاب القابسي، فكلها على هذا النمط من الجمع في البواعث بين العقل والوجدان. (5) الغاية الخلقية
يختلف المفكرون اختلافا كبيرا في تحديد الغاية من الأفعال الخلقية. وعندنا أن مرجع الخلاف هو إلى تباين الطبائع البشرية في المزاج والتفكير والإدراك والسلوك والشخصية.
جعل القورينائيون في الفلسفة القديمة اللذة الحسية غاية الأعمال الخلقية. وأنصار هذا المذهب قليلون؛ لأن الأخذ باللذات الحسية يؤدي إلى آلام كثيرة، كما يتعارض مع تقدم الإنسانية، إلى جانب وجود لذات أشرف من اللذات الحسية.
ومذهب السعادة أدنى إلى القبول؛ وسقراط وأفلاطون وأرسطو على هذا المذهب. وفي السعادة راحة النفس والضمير، وسرور الفرد وغبطة المجتمع. وإذا كانت السعادة أشرف من اللذة الحسية لأنها فضيلة الحكمة واختيار الوسط العدل بين الإفراط والتفريط، ففي الإمكان التوفيق بين الارتياح الذي يشعر به الفرد وبين السعادة العامة. بينما يصعب التوفيق بين اللذة الشخصية وبين اللذة العامة التي يحس بها الناس جميعا؛ لأن تحقيق اللذة عند الغير يكون على حساب الفرد، بينما الاشتراك في إسعاد الآخرين لا يتنافى مع سعادة المجتمع.
وهناك مذاهب أخرى تنشد غايات خارجية موضوعية، منها الكمال؛ فالذي يفعل الخير إنما يريد أن يصل إلى الكمال.
والذين يقولون بالتطور يرون أن تاريخ الإنسانية صراع دائم نحو التقدم والرقي، وأن وجود هذه الغاية الأخلاقية، هو الذي يجتذب الإنسان مع الخير إلى التقدم دوما.
ويعترضون على المذهبين السابقين بأن الصفات الخلقية هي نفسها الكمال أو التطور، وهاتان الغايتان خاضعتان لغاية أخرى.
قالوا: إن الطبيعة هي الغاية الخلقية. فالحياة الموافقة للطبيعة هي الحياة الخيرة التي تجلب اللذة والسعادة، وروسو في المذاهب الحديثة عنوان على هذه الفلسفة الطبيعية.
وهناك مذهب المنفعة الذي راج في الفلسفة الإنجليزية رواجا كبيرا. والمنفعة العامة إذا كانت رائد الأعمال الخلقية، والغاية منها، حققت الخير لأكبر عدد من الناس.
وقد تجنب بعض الفلاسفة الاعتراضات على المذاهب السابقة فقالوا بأن الخير واجب لذاته، يفعله المرء لأنه واجب. فالواجب الخلقي هو الغاية، لا الكمال أو التطور أو الطبيعة أو المنفعة. وكانط من أنصار مذهب الواجب في الأخلاق.
ومذهب أهل السنة لا يرى رأي هؤلاء جميعا؛ لأنه خرج بالغايات الخلقية من ميدان الدنيا إلى ميدان الآخرة.
وبذلك يلتقي الناس جميعا في غاية واحدة، تتسع لهم جميعا، ولا يقع عليها خلاف، هي التمتع بنعيم الجنة في الآخرة.
وقد وصف الله الجنة في أكثر من آية من القرآن؛ ليكون الناس على بصر بما يلقون من جزاء.
وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية * فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة (الغاشية: 8-14).
إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا (النبأ: 31-36).
إن المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * إنا كذلك نجزي المحسنين (المرسلات: 41-44).
من هذا الوصف للجنة يتبين لنا أن الله وعد المتقين في الدار الآخرة متاعا من اللذة الحسية والسعادة، فجمع بينهما. وإذا كانت الجنة غاية خارجية، ففيها تحقيق للغايات النفسية.
وفي الوقت نفسه أوعد الله المفسدين الذين يؤثرون أنفسهم، بنار الجحيم، وفي ذلك يقول:
إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين (المدثر: 39- 44).
والمنفعة من الغايات الأخلاقية الدنيوية، التي تخضع لغاية أسمى هي الفوز بالدار الآخرة
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (البقرة: 11).
والمسلم مطالب بالمعيشة وفق الطبيعة، والتمتع بالطعام والشراب والزوج. كل ما في الأمر أن تكون هذه المعيشة الطبيعية ملائمة لمطالب الفرد ومطالب المجتمع، لا إسراف فيها، كما تحقق صلاحه وصلاح المجتمع وخيره.
وهناك مصالح رفعها الله إلى مرتبة الواجبات، وفرضها على الناس، كالصلاة والزكاة. فالذي يؤدي الزكاة إنما يؤديها لأنها واجب ديني، وهي في الوقت نفسه واجب خلقي. وبذلك تتوحد الواجبات الدينية والخلقية، كما رأينا في التوحيد بين الضمير الديني والخلقي .
والواجب الخلقي في الإسلام يختلف عن الواجب عند كانط؛ لأن الواجبات الإسلامية ليست غايات في أنفسها، تطلب لذاتها، ولكن من ورائها الجنة تنتظر من أحسن أداءها. أما الواجب الكانطي فهو غاية لذاته.
وبذلك تجتمع الغايات المختلفة التي نظر إليها المفكرون تحت راية واحدة، وغاية أسمى وأعلى هي الغاية الدينية. ولا يمنع السعي إلى الآخرة من التعلق بأهداب الدنيا، إذ لا تعارض بينهما.
والقابسي ينشد من الأخلاق الغاية الدينية، والسعادة في الدار الآخرة، وهو في الوقت نفسه لا يرى بأسا في طلب غايات دينوية؛ لأن الدين أقرها.
من الغايات الدنيوية التي يحققها الوالد من تعليم ابنه، أن يكون به سعيدا، أو كما يقول القابسي: «فمن رغب إلى ربه أن يجعل له من ذريته قرة عين، لم يبخل على ولده بما ينفق عليه في تعليمه القرآن.» 28-أ.
أما الغاية الأصلية فهي رضا الله: «فلعل الوالد إذا أنفق ماله عليه في تعليمه القرآن، أن يكون من السابقين بالخيرات بإذن الله.» 25-أ.
والذي يعلم ولده فيحسن تعليمه، ويؤدبه فيحسن تأديبه، فقد عمل في ولده عملا حسنا، يرجى له من تضعيف الأجر فيه. كما قال الله:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة (البقرة: 245) 25-ب.
وصفة الصالحين عند القابسي هي حسن العبادة، وأداء الفرائض واجتناب المحارم، كما قال تعالى:
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (النساء: 124) 13-أ.
ويتعلق بالغاية مذهب آخر، هو القول بأن الخير هل يلحق الفرد أو الجماعة؟
والإسلام على مذهب الجمعيين؛ لأنه ينشد خير المجتمع، بل الإنسانية كافة. وقد رأينا في سورة القيامة كيف دخل المجرم النار لأنه لا يطعم المسكين.
ويؤثر القابسي خير الجماعة على خير الفرد، ويحض باستمرار على المصلحة العامة.
مثال ذلك ما جاء عن المعلم الذي يعلم الصبي الفقير احتسابا: «فإذا آثره على نفسه، استأهل - إن شاء الله - حظا وافرا من أجور المؤثرين على أنفسهم.» (6) شخصية الصبيان الخلقية
تصل أعمال المرء بعد زمن إلى درجة من الثبات والآلية، فتكون هذه الأعمال عنوانا عليه، وتنسب إلى شخصه، ويعبر عنها بالشخصية. وجزء من هذه الشخصية يكون خلقيا، كالأمانة والصدق إذا عرفت عن شخص معين.
ومرجع الصفات الخلقية في تكوين الشخصية إلى المجتمع؛ لأن الإنسان على أي الحالات كائن اجتماعي قبل كل شيء.
والمدرسة جزء من المجتمع، بل هي عنصر مهم، وعامل من أكبر العوامل في التأثير الاجتماعي، خصوصا في المراحل الأولى من تربية الصبيان. وأول تأثير يتلقاه الطفل في حياته هو تأثير الأشخاص الذين يحيطونه، وهم والده وأهله في المنزل؛ فإذا شب قليلا واشتد ساعده، فإنه يختلط بغيره من الناس في ذلك المحيط الضيق الذي يعيش فيه قريبا من المنزل. ومنذ سن الخامسة أو السادسة أو السابعة، ينتقل الطفل إلى بيئة جديدة هي الكتاب، حيث يبقى فيه إلى أن يتم حفظ القرآن بأكمله، أو يحفظ جزءا منه، إلى جانب تعلمه القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية، وشيئا من الحساب، وما إلى ذلك من الأمور التي كانوا يعتبرونها وسائل للإحاطة بالدين.
في هذه البيئة يتصل الطفل بغيره من الصبيان ممن هم في مثل سنه، أو ممن يكبرونه قليلا، ويتصل أيضا بالمعلم الذي يقوم بتعليم الصبيان وتأديبهم.
وأكبر الظن أن الصبي في مثل هذه السن الصغيرة لا يزن الأمور، ولا يقدر مرامي الأعمال، وإنما يتصرف ويسلك تحت وحي من المحاكاة الفطرية في النفس. ومحاكاة الحركات والأعمال أسبق من محاكاة المعاني والآراء.
والشخصية الجديدة التي يتأثر بها ويحاكيها لأنها أعظم الشخصيات بالنسبة للصبي وبالنسبة لجميع الصبيان، هي شخصية المعلم. فهم لا يجدون أمامهم إلا هو، يتعهدهم منذ الصباح الباكر سحابة النهار، وهو الذي يعلمهم أو يلقنهم هذه المبادئ المختلفة، وهو الذي يرشدهم إذا أخطئوا سواء السبيل. وهو الذي يؤمهم في الصلاة إذا حضر وقتها؛ وله عليهم سيطرة شديدة تسمح له أن يضربهم في بعض الأحيان؛ فهو منهم بمنزلة القائد. والصبيان في هذه السن الصغيرة اللينة يكونون كالعجينة التي يسهل تشكيلها. لهذا نجد الصبيان يحاكون المعلم في كل شيء.
ومن هنا تنطبع شخصية الصبيان بطابع المعلم إلى جانب انطباعها بشخصية زملائهم في الكتاب، بتأثير القرآن الذي يتعلمونه.
على أن تصرف المعلم لا يكون إلا في حدود هذه المعاني القرآنية. وقد يشذ بعض المعلمين عن تعاليم القرآن الصحيحة، ولكنهم قلة لا يعمل لها حساب.
فالمرجع في سلوك الصبي يكون لتأثير المعلم، وتأثير الصبيان الذين يختلط بهم، وتأثير آبائه في المنزل، والمرجع لهؤلاء جميعا هو القرآن في تلك البيئة الإسلامية. ومن صفات القرآن أنه كلام الله، لا مبدل لكلماته. وهو صريح في كثير من المسائل الأساسية في سلوك الإنسان صراحة لا تحتمل التأويل.
أما الخلاف بين الفرق الإسلامية، فهو خلاف في تأويل بعض النظريات العميقة في الإسلام. ولا يستطيع الصبيان لقصور عقولهم أن يفهموا مدى هذا الخلاف، أو ينزلوا إلى معتركه. على أن أهل السنة يأخذون الأمور على ظاهرها، ويتعمقون في التأويل إلى الدرجة التي تبعدهم عن الروح البسيط الموجود في القرآن. لذلك كان أهل السنة قريبين من قلوب العامة وأفهامهم، وقريبين من قلوب الصبيان وعقولهم أيضا.
فالسيرة الخلقية التي ينتهجها الصبي، والشخصية التي يتركب منها في الفترة التي يقضيها في الكتاب، ترجع في نهاية الأمر إلى شيء واحد هو القرآن، بالتفسير الذي يقدمه المعلم على مذهب أهل السنة.
وفي القرآن، إلى جانب النص على أخلاق عملية معينة، أسس خلقية تعد عمادا للأخلاق الحسنة أو الفضيلة. والأخلاق في خلاصتها مجموعة من الفضائل ترمي إلى الخير. والفضيلة والرذيلة، أو الخير والشر، طرفان متناقضان لا يجتمعان؛ لأن الفضيلة هي الكمال، والرذيلة هي النقص. والإنسان يحس نقصه، وهو حين يرتكب الرذائل المختلفة إنما يثبت على نفسه هذا النقص. ولكن الإنسان يحاول التخلص من النقص، ويتطلع نحو الكمال. هذا التطلع هو الرقي بنفسه. والحياة كلها ترمي إلى الرقي والكمال، وقد يصل الإنسان إلى شيء من هذا، ولكنه لا يبلغ النهاية ولا يصل إلى الذروة، لأن الكمال لله وحده؛ ولذة الإنسان في هذا السعي، وفي هذا الرقي لتحقيق المثل العليا.
ولا يتيسر الوصول إلى الفضيلة إلا بأمرين: التعليم والقدوة.
وسيرة الرسول هي قدوة المسلمين كما قال تعالى:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (الحشر: 7)، وقال:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر (الأحزاب: 21). لذلك كان تعليم سيرة الرسول ذا فائدة خلقية عظيمة؛ لأنه يضرب الأمثال للصبيان في الأخلاق الفاضلة. وكذلك تاريخ العرب وهو المعروف بأيام العرب وأخبارها، والذي نص عليه القابسي وغير القابسي من المربين مع المواد التي يتعلمها الصبيان، إنما الغرض منه سوق العبر الفاضلة، والعظات الخلقية التي يقتدي بها الصبيان.
وإذا كانت هذه السيرة بعيدة عن أنظار الصبيان، لا يتم التأثر بها إلا بمقدار، فالمعلم ينبغي أن يكون هو نفسه مثلا حيا للسيرة الفاضلة، ليكون عنوانا على الفضيلة. لهذا أوجب القابسي أن تكون صفات المعلم حميدة ليتأثر بها الصبيان، وتتم بها الفائدة في التربية الخلقية.
وهذا جانب من الطريقة السقراطية في الأخلاق؛ لأنه هو نفسه كان مثلا حيا للفضيلة.
والأمر الثاني المفيد في كسب الفضائل هو معرفتها أو العلم بها. فالإنسان يحب أن يخضع لما يعقل، أو لما له سبب، فهو لا يذهب مذهبا خلقيا إلا بعد الإيمان بأنه مشروع. والإنسان يكون واثقا من نفسه إذا سار على هدى من المعقولات، لا بدافع من النزوات. لذلك نجد المجرم يبرر جريمته، ويقنع نفسه بأن ما يعمله مشروع.
لذلك كانت الأخلاق تحمل في طياتها جراثيم التعليم، سواء أكان تعليمها أو العلم بها صادرا من الشخص إلى نفسه، أم من شخص آخر إليه؛ والبيئة التي تريد أن تنشر الفضيلة، لا بد لها من تعليمها وبيان العلة فيها. وقد أشار القابسي إلى هذا التعليم الواجب للفضيلة قبل الأمر بها، وقبل إنزال العقاب على مخالفيها. قبل أن يلجأ المعلم إلى الضرب، ينبغي أن ينبه الصبي مرة بعد مرة إلى خطته. وقال في موضع آخر: «ويأخذ عليهم ألا يؤذي بعضهم بعضا.» وحين تكلم عن التبايع الذي يحصل بين الصبيان أوجب على المعلم: «أن يشدد عليهم في الأخذ ألا يعودوا إلى التبايع فيما بينهم ، ويعرفهم وجه الربا فيما صنعوا على ذلك، يخبره بعيبه ويقبحه عنده ...»
فنحن نرى القابسي يطلب العلم بالفضائل أولا، أو المعرفة بها، على أن يكون هذا العلم مستمدا من القرآن والسنة بطبيعة الحال. والقرآن غني بالفضائل وأسبابها، زاخر بالتوجيهات الخلقية، والدوافع إلى الخير.
وتلك هي الطريقة السقراطية في جانبها الثاني، وهو العلم بالفضيلة، بل إن سقراط وحد بين العلم والفضيلة، فجعل العلم شرطا للفضيلة لا تتحقق إلا به، وجعل الذي يعمل الفضيلة عالما بها.
وسبيل الوصول إلى الفضيلة عند سقراط هو الاستقراء والنظر إلى النفس، وفي ذلك يقول الحكمة المأثورة: «اعرف نفسك بنفسك.» وفي القرآن إشارة إلى ذلك حيث قال تعالى:
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون (الذاريات: 20-21) كما حث الله العباد على وجوب النظر والاستدلال.
ولكن الصبي الصغير لا يستطيع أن ينعطف على نفسه ليستخرج منها هذه المعاني الخلقية بنفسه. لهذا اكتفى القابسي بما يفعله المعلم من توجيه نظره وتفهيمه ما يجب عليه. هذا التفهيم مستمد من القرآن والسنة. وقد أشار القابسي إلى ذلك عندما أراد معالجة الولد العاق لوالديه فقال: «فاقرأ على ولده القرآن، وفهمه ما عليه لوالده في لين ورفق لعله يتذكر أو يخشى.»
بذلك يكون الدين نفسه هو المحور الذي يدور عليه التعليم، والذي تدور حوله التربية الخلقية. والنظريات الحديثة في التعليم والتربية تجعل الطفل نفسه هو المحور الذي يدور عليه التعليم. هذا الانقلاب في وجهة النظر التعليمية لم يتم إلا في عصر متأخر، أما في العصر الذي نتحدث عنه فكان الدين مستغرقا حياة الناس العقلية والخلقية والاجتماعية. ولهذا السبب كان أول شيء يعرفه الطفل ويتعلمه هو القرآن، فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، كما قال تعالى:
ما فرطنا في الكتاب من شيء . (الأنعام: 38). (7) الفصائل والرذائل
الفضائل حلية الإنسان. وهي حسنة إذا عمل بها صاحبها؛ أما العلم بها دون عمل، فلا فرق بين إنسان يحملها، أو كتاب يحويها.
وقيل إن الإنسان مجموعة من العادات. وأغلب أعمال الإنسان عادات وهي توفر الوقت والمجهود، وتؤدي إلى الإتقان والسهولة، وتجعل صاحبها يتفرغ لأعمال جديدة يفكر فيها. فإذا كان الأمر كذلك فمن الخير للإنسان المبادرة بتكوين العادات الفاضلة حتى تتأصل منه، وتنزل منزلة الطبع، ولأن الإقلاع عن العادات المرذولة، إذا تمكنت، يكون شاقا عسيرا.
لهذا كان من الواجب على القائمين بتربية النشء أن يزرعوا في أنفسهم الصفات الخلقية الحميدة منذ الصغر؛ ليشبوا عليها، ويألفوها مع الزمن.
وقد فطن القابسي لهذه النتائج المترتبة على تكوين العادة فقال بصدد تعليم الصلاة: «وقد أمر المسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة والوضوء لها، ويدربوهم عليها، ويؤدبوهم بها، ليسكنوا إليها ويألفوها، فتخف عليهم إذا انتهوا إلى وجوبها عليهم.» 27-أ.
وهناك فضائل أوحى القابسي بتوجيه الصبيان إليها، كما أن هناك رذائل نص عليها، ونبه المعلم إلى وجوب الحذر منها، وإبعادها عن طريق الصبيان. والنص على رذائل خاصة، وذنوب بعينها، يدل على ما كان يجري في ذلك العصر، وينبئ عن أسرار تلك البيئة الاجتماعية.
من هذه الصفات الخلقية التي ينبغي أن يتحلى بها الصبيان: الطاعة. وليست الطاعة واجبا على الصبيان نحو المعلم فقط، بل هي واجب المسلمين كافة لأوامر الله والرسول، كما جاء في القرآن:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء: 59). وفي القرآن آيات كثيرة تحث على الطاعة بل تأمر بها، فقد أمر الله المرأة أن تطيع زوجها، والابن أن يطيع أباه. وبذلك نجد الإسلام يضع الناس في درجات من السيطرة والخضوع، والأمر والانقياد. وفي قمة هذه الدرجات الله تعالى الذي أمر العباد بعبادته وتسبيحه وحمده، كما أمرهم بأنواع كثيرة من السلوك بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم. ويلي طاعة الله طاعة الرسول وأولي الأمر، كل ذلك بنص في الدين. والوالد هو الولي الشرعي لأبنائه، لذلك وجبت طاعة الأبناء للآباء بأمر الدين. والمعلم يحل محل الوالد، ومنزلته هي نفس منزلته، وفي ذلك يقول القابسي: «فإنما هو لهم عوض من آبائهم.» وبذلك تجب طاعة الصبيان للمعلم.
هذه الطاعة إنما أوجبها الشرع على الناس لحكمة؛ ذلك أن خير المجتمع ومصلحته إنما تكون في الألفة بين الأفراد، والتعاون بينهم. وتتحقق مصلحة الصبيان بما يمليه عليهم أولياء أمورهم، الذين قد سمت عقولهم، واتسعت مداركهم، وكثرت خبرتهم، وعرفوا الشرع والدين والحياة حق المعرفة. فلا يتم تعليم الدين، بل تعليم أي أمر من الأمور، إلا بالتلقين الصادر من الكبار إلى الصغار؛ ولا يتحقق هذا التلقين إلا بالطاعة.
المعلم وهو يلقن الصبي إنما يقدم إليه خلاصة ما بلغت إليه الحضارة في أجيال متلاحقة. ولو تركت الطفل يحصل بمفرده حقائق الحياة وأسرار الوجود، لوجب أن يطول عمره آلافا من السنين ليبلغ ما وصلت إليه المدنية الحاضرة.
وعلى الصبي حين يكبر أن يضيف إلى خبرة الأجيال الماضية خبرة جديدة.
ومن الصفات الخلقية التي ينبغي أن يتعودها: النظام. والنظام والطاعة صنوان، فإذا كان خير المجتمع في الطاعة، فإنها تستوجب النظام، حيث كانت الفوضى مفسدة للمجتمع، ومضيعة للتعاون الضروري للحياة الإنسانية؛ ولا دولة مع الفوضى.
هذا النظام مطلوب من الصبيان في حضورهم إلى الكتاب، وفي انصرافهم عنه، وفي استماعهم للدرس، وفي أعمالهم المدرسية.
والعبادات في الإسلام تحمل في طياتها إلى جانب الطاعة والنظام كثيرا من الصفات الخلقية الحميدة.
فالصلاة عماد الدين. وتأديتها في أوقاتها يعلم النظام والدقة في حفظ المواعيد، حتى إذا شب الطفل على إقامة الصلاة مع المحافظة عليها تعود الإقبال على العمل في الوقت المناسب، والمبادرة إلى انتهاز الفرصة قبل ضياعها، وابتعد عن التثاقل، وامتنع عن التكاسل.
وفي الصوم من النتائج النفسية والخلقية مثل ما للصلاة؛ لأن التعود على الإفطار في ساعة معينة هو النظام الدقيق، الذي يطبع المسلمين بطابع الإحساس بالوقت، وحسن الاستفادة منه.
ولا تصح الصلاة بغير وضوء؛ لأنه شرط للصلاة. والوضوء غسل وطهارة ونظافة. والنظافة من الفضائل الشخصية العظيمة الأثر في الصحة، كما تنتقل فائدتها إلى النفس فتطهرها. ذلك أن الشعور بالنظافة الظاهرة، يهيئ الإنسان إلى النظر في المعاني بنفس الأسلوب، فيعف اللسان ويطهر الفكر.
فالطفل مطالب بطهارة الجسم، كما هو مطالب بطهارة القلب والنفس. ولذلك ينبغي أن يكون صادقا، عفيفا، أمينا، حافظا للعهد.
والمعلم مكلف تعليم الصبيان الوضوء ، والصلاة مع تأديتها في أوقاتها؛ وهو في هذا التعليم الديني لهذه العبادة، إنما يلقنهم في نفس الوقت الطاعة والنظام والنظافة والعفة والطهارة.
ومن الدواعي التي تبعث الصبي على الانصراف عن المعلم والعلم: اللعب. ومن طبيعة الأطفال اللعب، ففي هذه السن الصغيرة تشتد حيويتهم، وتكثر حركتهم ويقبلون على اللعب بدافع من الفطرة، وقد نص القابسي على أن اللعب من الذنوب التي تستوجب العقاب. فاللعب عنده من الرذائل.
والمعلم معذور إذا حاول أن يزجر الصبيان عن اللعب؛ لأنه يريد الهدوء وينشد النظام المؤدي لحسن سير الدرس والتحصيل، ولم تكن الدراسات النفسية للأطفال قد بلغت في ذلك الزمان مبلغ ما وصلت إليه الآن.
لذلك كانوا يعتبرون الطفل رجلا صغيرا يعامل معاملة الرجال، أما التربية الحديثة فإنها تنظر إلى حياة الطفل نظرة تختلف عن الكبار. لهذا سايرت التربية الحديثة ميول الطفل وغرائزه، فاستغلت اللعب في مصلحة التعليم. وبذلك وفقت بين طبيعة الطفل وحاجة المجتمع. فقامت المدارس الخاصة بالأطفال على اللعب في الظاهر، بينما الغاية المقصودة هي تعليم الأطفال. وعندئذ تتحقق المصلحتان، مصلحة الطفل في الترويح عن نفسه، واستغراق الحيوية الفائضة في كيانه المتدفق نشاطا في هذه السن الصغيرة، كما تتحقق مصلحة المجتمع من تثقيف الصغار على الوجه المطلوب القائد إلى التقدم والرقي.
هذا الجهل بطبيعة الطفل، واعتبار ميله إلى اللعب، ونزوعه إلى الحركة، من الرذائل التي ينبغي أن تحارب، أدت إلى كراهية الصبيان للكتاب. ومن شأن الإنسان إذا أحب شيئا أن يقبل عليه، وإذا كره شيئا أن ينصرف عنه، ويبتعد منه. فليس غريبا أن نرى الصبيان في ذلك العصر يتحولون عن المكان الذي يكرهونه، ولا يجدون فيه المجال الواسع للحركة واللعب، وهو الكتاب، لهذا السبب كان الصبيان يهربون من الكتاب بل يديمون الهرب منه، كما ينبئنا القابسي في صراحة: «فإن اكتسب الصبي جرما من أذى، ولعب، وهروب من الكتاب وإدمان البطالة ...» مما يفصح عن عادة تأصلت في نفوس بعض الصبيان. وكان المعلمون في ذلك الزمان يعانون مشقة هذه الرذيلة، ويحاولون علاجها، ولكنهم لم يفطنوا إلى أصل العلة وهو منع الطفل من اللعب.
إلى جانب هذه الرذائل وهي اللعب، والهروب من الكتاب، وإدمان البطالة نجد رذائل أخرى تشيع في الواقع في كل جو مدرسي أو في كل بيئة اجتماعية يشترك فيها عدد من الصبيان أو الشباب، وهم الذين لم تتأصل في نفوسهم بعد مشاعر احترام الغير، وضبط النفس، وكبح الأهواء الجامحة والنزوات الطائشة. فالصلة بين الصبيان تؤدي إلى التنافس فيما بينهم، ومحاولة ظهور بعضهم على بعض، وسيطرة أحدهم على غيره.
والسيطرة والظهور من أقوى الطبائع المحركة للهمم الباعثة على العمل، ولا تتهذب طريقة السيطرة، ولا يسمو الإنسان بالميل إلى الظهور، إلا بعد تعلم طويل، وثقافة عريضة، بل العامة، وأهل الشعوب المتأخرة، يظل فيهم الميل إلى الظهور والسيطرة على الصورة الأولية من البطش والقوة والاعتداء البدني، والغلبة الجسمية لا العقلية. فليس غريبا أن تبدو على الأطفال هذه النزعات الفطرية التي لم تهذبها الحضارة وتحولها الثقافة نحو الخير والسمو. بل ينبغي أن تظهر لأنها عنوان الحيوية ودليل النشاط والقوة.
ومهمة المعلم أن ينظم مثل هذه النزعات، وأن يمهد لها الطريق السوي المؤدي إلى التقدم والرقي. لذلك كانت مهمة المعلم شاقة، تحتاج إلى كثير من الحكمة والبصر النافذ في أخلاق الناس عموما، وطبائع الأطفال بوجه خاص. وقد سجل القابسي فيما ذكر من طبائع الصبيان: إيذاء بعضهم بعضا، وشكاية بعضهم أذى بعض، بل واستفاضة الأذى في بعض الأحيان. وعندنا أن هذه الرذيلة التي عدها القابسي كذلك هي من فضائل الحياة، بل لا ينبغي اعتبارها رذيلة أو فضيلة؛ لأنها طبيعة الطفولة ومظهر الفتوة، ودليل التوثب. وكان الواجب أن نعالج هذه الطبيعة نحو الخير والنفع بتوجيه قوى الطفل في أمور تستغرق نشاطه، ويبدو فيها الميل إلى التفوق العلمي والغلبة العقلية. وهذه هي الطريقة السليمة، وقد نصح بها القابسي وأجازها في بعض الحالات، كما نذكر عند الكلام على طرق التعليم.
وأشار القابسي أيضا إلى نقيصة خلقية كثيرا ما كانت تقع بين الصبيان وهي التبايع فيما بينهم، كأن يبيع بعضهم من بعض: «كسرة بزبيب، أو زبيبا برمان، أو تفاحا بقثاء.» وهذه الظاهرة ملحوظة في تلاميذ المدارس من كل جيل وفي كل شعب، فهي طبيعة الناس إذا اجتمعوا. وقد نظر القابسي إلى هذه المسألة نظرا دينيا فحرمها لما فيها من ربا، وطلب إلى المعلم أن ينهاهم عن هذا التبايع. والحقيقة أنه إلى جانب الربا المذكور في كتب الفقه، فإن التبايع بين الصبيان صرف لهم عن طلب العلم، وشغل لأذهانهم عن التحصيل، فضلا عن إشاعة الفوضى وسوء النظام، وظهور الحقد والغضب والحسد والبغضاء، مما يؤدي إلى إيذاء بعضهم بعضا رغبة في الانتقام، وشفاء للنفس مما أصابها من الغل والحسد.
ومن الرذائل الفاشية في كل مجتمع، وخاصة بين الشباب، ما ذكره القابسي في هذه الجملة: «وإنه لينبغي للمعلم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة.» وهو تعبير وجيز العبارة، لطيف الإشارة، يدل على عفة في نفس المؤلف، تحمله على الابتعاد عن الإطالة في مواطن الفحشاء والمنكر. وهذا الإيجاز لا يحل هذه المشكلة الخطيرة؛ فهي المشكلة الجنسية التي اجتهد الناس أجيالا في إخفائها، ووضع الرقابة الاجتماعية والخلقية والدينية في سبيلها، إلى أن تبين لعالم النفس «فرويد» أنها أساس السلوك عند الإنسان في كل ناحية من نواحي الحياة، بل إنها أصل الشذوذ والأمراض العصبية والنفسية.
وترجع هذه المشكلة إلى أن الرغبة الجنسية إذا ظهرت في أكمل صورها عند الاحتلام، فلا بد لهذه القوة الغريزية من الانسياب. ولكن الدين يقف عقبة في سبيل تحقيقها، وكذلك المجتمع. فإذا استمع الشاب لوازع الدين، وأوامر التقاليد، تراجعت الغريزة في نفسه، وانحبست هذه القوة، مما قد يؤدي إلى انفجارها بعد زمن. والغالب أن دافع الغريزة يكون أقوى من رادع الدين ووازع الضمير، فيحقق نداء الطبيعة، ويلبي صوت الغريزة ويحمله تيار الفطرة الجارف إلى هذه الألوان من الفساد الجنسي.
والحل الطبيعي الذي يتفق مع أوامر الدين ونواهيه، واصطلاح العرف والتقاليد الحسنة هو الزواج؛ وهو الحل الوحيد. وفي ذلك يقول القرآن:
وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله (النور: 33).
ولكن زواج طفل حديث البلوغ لا يتيسر لأسباب صحية واقتصادية واجتماعية.
وعندئذ تظل المشكلة قائمة، وكل علاج يوصف لها ليس إلا من قبيل الملطفات الوقتية، وما يدرينا ما يجري في الخفاء بين هؤلاء الصبيان، أو بين الصبي ونفسه. ولم يكن للقابسي من حيلة إلا أنه نصح المعلم باتخاذ الحذر والاحتراس، ليكون يقظا لما عساه يحدث بينهم.
ولو أن القابسي أطال الكلام في هذا الموضوع، لحدثنا عن أثر الفضيلة التي اكتسبها الصبي بالتلقين والعادة في صراع الرذيلة.
فالطفل الذي يحفظ القرآن إنما يحفظ آيات الخير؛ لأنه كتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
والطفل الذي يؤدي الصلاة، إنما يذكر الله ويعبده، ويتقرب إليه، ويقف بين يديه ويستعين به على صراع الشر.
الفصل السابع
العقاب
(1) العقوبة مشروعة في الإسلام
لا يفصل القابسي في العقاب بين الطفل والبالغ، أو بين الصبي والمعلم، أو بين الرجل والمرأة. كلهم أفراد من البشر وإن اختلفت صفاتهم وتباينت أعمارهم. فالصبي في الكتاب يوقع عليه العقاب إذا استحق العقاب، ويعاقب المعلم إذا أهمل في أداء عمله. والولد العاق يستأهل التأديب من والده، وللزوج على زوجته حق التأديب الذي يصل إلى حد الضرب.
فهؤلاء جميعا قد ضمهم العقاب، وجمعتهم الذنوب التي تصدر عنهم.
والإنسان في شتى مراحل حياته طفلا ويافعا، ورجلا وكهلا، وذكرا وأنثى، عرضة لارتكاب الشر، والوقوع في الإثم، والانزلاق في الخطأ والذنب.
إنما الكمال لله وحده، فهو الموجود الواحد الكامل. والخلائق بعد ذلك تندرج في مراتب تنحدر من الكمال إلى النقص، ومن الخير إلى الشر، ومن الطهر والتقوى إلى الدنس والفجور. والنبي عند المسلمين في أعلى مراتب البشر وأقرب الدرجات إلى صفات الكمال، فهو كما وصفه الله في كتابه:
وإنك لعلى خلق عظيم (القلم: 4). ولا مطمع لإنسان أن يرتقي إلى درجة الألوهية والكمال إلا إذا فقد الصفات البشرية وما فيها من نقص الخلال، والطبيعة البشرية تحمل في ثناياها بذور النقص والهوى وسوء الخصال.
والحياة صراع بين الخير والشر.
وكل جماعة من الناس تتصور الخير على نحو من الأنحاء، وتريد أن تنشئ عليه الناشئة، وتطبع عليه أجيال المستقبل.
والجماعة الإسلامية كغيرها من المجتمعات التي نشأت وازدهرت، وكغيرها من المجتمعات التي لا تزال تعمر الأرض، لها مثلها العليا وعندها تعاليم الخير. وقرآن المسلمين تنزيل من رب العالمين، ليكون هدى للمتقين، فصلت فيه آيات تدعو إلى الخير وتنهى عن الشر، وفيه تفصيل طويل لكثير من أحكام السلوك، وبيان للناس عن أحوال المعاملات الواجبة فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين غيرهم. وفي الفصل السابق تفصيل للمبادئ الخلقية الداعية إلى الفضيلة عند المسلمين، وعلى الناس أن يأخذوا بهذه الأحكام لخير أنفسهم وخير المجتمع.
فإذا أصر المخالفون على اتباع غير طريق المؤمنين الصالحين، واستمروا في عنادهم، وآثروا الاستماع إلى هوى نفوسهم، متنكبين السبيل التي أمر الله باتباعها، فلا بد من إنزال العقاب، ومحاسبة مثل هؤلاء القوم أشد الحساب، حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويرعووا عن غيهم.
قال تعالى:
ولكم في القصاص حياة (البقرة: 179) وهذه هي بلاغة الإيجاز، والغاية في الإعجاز. ولا غرو فقد جمعت الآية بين الموت والحياة، وأخرجت الحي من الميت. وليس هذا بغريب عن عالم الطبيعة كما هو مشاهد ومعروف، فلا غرابة أن تكون حياة المجتمع وقفا على موت بعض الأفراد، والتضحية بعناصر الفساد؛ وليس وراء القتل وإهدار الحياة عقاب، جزاء وفاقا لمن يستحق العقاب.
فالإسلام يشرع مبدأ العقاب، ويبسط ألوان العقوبات المختلفة باختلاف الجرائم. فجزاء القتل القتل، وجزاء السرقة قطع اليد، وحد شارب الخمر الجلد. وهكذا نجد لكل جريمة عقابا مقررا ينبغي تنفيذه دون شفقة، كما قال تعالى في الزانية والزاني:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله (النور: 2).
وقد جاء الإسلام في عالم سادت فيه المسيحية. والديانة المسيحية تذهب في التسامح أبعد الحدود، والمسيح عليه السلام هو القائل لتلاميذه يعلمهم: «سمعتم أنه عين بعين، وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا.»
1
فنحن نرى إذن إقرار العقوبة ليس من الأمور المتفق عليها عقلا أو شرعا؛ لأن التقابل بين العقاب والتسامح هو تقابل الأضداد، بينهما غاية البعاد.
وأنصار التسامح لهم وجهة نظرهم، وعندهم كثير من الحجج على صحة مبدئهم. وليس مجالنا أن نبسط آرائهم، ولكننا نقول إنهم يبغون من وراء ذلك الخير الأسمى. والقائلون بالعقاب يرمون إلى غاية بعيدة هي الخير أيضا. وعندئذ يلتقي أصحاب التسامح وأنصار العقاب عند الغاية، وإن بعدت الوسيلتان، فقصدهما هو الخير لبني الإنسان.
ونعود إلى القول إن مبدأ العقاب كما يقرره الإسلام ينطبق على جميع الأفراد، والصبيان، يدخلون تحت راية هذا المبدأ فتشملهم العقوبة كما تشمل غيرهم من الناس.
والقابسي يفرض العقوبة على الصبيان، ويبين حدودها، ويفصل مراتبها كما هو مقرر في الإسلام، مما هو ثابت في كلام الله، وأحاديث الرسول. (2) الرفق بالصبيان
ومع أن الإسلام شرع العقاب، فقد نصح الله العباد بالعفو عند المقدرة. وفي القرآن عدة ألفاظ تعتبر من قبيل المترادفات للعفو: كالصفح والرحمة والمغفرة.
والصبر مطية العفو.
والعفو والصفح والمغفرة تختلف عن التسامح المسيحي؛ ذلك أن التسامح لا يرد أذى بأذى، بل هو قبول الأذى، والتجاوز عنه، والصبر عليه. أما العفو فهو اعتراف بوجود الأذى، ووجوب رده، ثم التفضل بالصفح. وفي ذلك يقول الله:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (النحل: 126). وهو القائل:
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (الشورى: 40).
فالعدالة في الإسلام تقتضي رد الأذى، وعقاب الجريمة. والعفو عنها إنما هو قدر زائد على العدالة.
ثم ينصح الله عباده بالمغفرة والصفح لعلة سامية. فالله الذي خلق الإنسان أعرف بطبيعته، وهو أعلم بدوافع الفطرة التي تحمل على الهوى وتزين الشر، وفي هذا قال تعالى:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (التغابن: 14).
فالعلة في ارتكاب الشر هي الاستماع إلى أهواء النفس، وهي أهواء فطرية يعبر عنها علماء النفس المحدثون بالغرائز. لهذا صحت نسبة الشر إلى الإنسان، لأن غرائزه تحمله على سوء الهوى، فهو مضطر إلى ذلك اضطرارا. ولهذا السبب أفاض الله الرحمة والغفران،
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (الشورى: 30).
والعفو وسيلة إلى غاية عليا هي اجتذاب القلوب، وولاء النفوس، والألفة بين الناس، وكل أولئك داعية إلى الاجتماع والعمران والصلاح. لقد أوذي النبي في دعواه أذى شديدا، وهو اعتداء يقتضي الحزم في رده، ولكن الله أمر نبيه بالرحمة والصبر، ودرء السيئة بالحسنة، والدعوة بالتي هي أحسن فإذا الذين بينهم وبينه عداوة كأنهم أولياء. ولو كان النبي فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله. على أن للصبر نهاية، وللعفو أمدا وغاية. وإن الله ليملي للظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر. فالعفو أسبق من العقاب، والصبر مقدمة الحساب.
أخذ القابسي بهذه القاعدة فأمر المعلمين بالرفق مع الصبيان. وإذا كان العفو مع المذنبين من الكبار محبوبا، أغرى به الله وحث عليه، فهو مع الصبيان واجب لصغر سنهم، وطيش أعمالهم، وضيق عقولهم، وقلة مداركهم. وعلى المعلم أن يلجأ مع الصبيان الذين يرتكبون الذنوب إلى الرفق، كما جاء في وصيته للمعلم قائلا: «ومن حسن رعايته لهم أن يكون بهم رفيقا.» 54-أ. ويعتمد القابسي في هذه النصيحة على المأثور من سيرة الرسول، وعلى الحديث: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.» 54-أ.
والأطفال: «تدخل في هذه الوصية المتقدمة.» 54-أ.
فنحن نرى أن القابسي ينزل الصبيان منزلة الكبار البالغين المكلفين يشملهم العفو والرفق، كما يجري عليهم الحساب والعقاب. على أن القابسي ينظر إلى الصبيان نظرة خاصة تلائم طفولتهم. واستعمال لفظ الرفق بدل العفو دليل الشعور بما بين الأطفال والبالغين من فروق. فالرفق عكس التشديد. والعفو في مقابل العقاب. وقد يجتمع الرفق والعقاب، ولا يجتمع العفو والعقاب.
والغرض من الرفق إلى جانب اتباع أمر الرسول في الحديث السابق، هو حسن السياسة، ونفع الرياضة.
والطفل لا يملك من أمره شيئا. ولهذا رفع التكليف عن الصغير دون البلوغ، كما رفع عن المجنون والمريض. والعلة في هذه ظاهرة، وهي نقص الإدراك والعقل الذي هو: «مادة يتأتى به درك العلوم، والدليل على ذلك قوله الله:
وما يذكر إلا أولوا الألباب (البقرة: 269)، و:
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (النحل: 12).»
2
والقابسي ينزل المعلم من الصبيان منزلة الوالد، فهو المأخوذ بأدبهم القائم على زجرهم، وهو الذي يوجههم إلى ما فيه مصلحة أنفسهم. وهذا التوجيه يحتاج إلى سياسة ورياضة؛ حتى يصل المعلم بالطفل مع الزمن إلى معرفة طريق الخير، وهي طريق لا تدرك بالبديهة بل بالرياضة والتعليم.
وكلما أخطأ الصبي متنكبا الطريق السوي، راضه المعلم مبينا له السبيل التي ينبغي سلوكها، وأول سبل الرياضة الإفهام والتنبيه؛ لأن الطفل مهما يكن من شيء فهو عاقل يمتاز عن الحيوان بالنطق والإدراك، ومعرفة العلل والأسباب، ولو أن إدراكه لا يزال قاصرا لا يصل إلى حد الكمال.
هذه السياسة القائمة على الرفق في المعاملة، والعناية ببيان أسباب السلوك وإفهامه للصبيان، من شأنها أن تجعل الصبي يكبر على العمل الصالح من تلقاء نفسه، دون حاجة إلى عصا تسوقه، فتثمر الرياضة في نفسه ثمرة صالحة. ثم إن الشدة الدائمة، كأن يكون المعلم عبوسا أبدا: «من الفظاظة الممقوتة ويستأنس الصبيان بها فيجترئون عليه.» 54-ب.
فالقابسي يقصد من الرفق العدالة في العقاب، وعدم التشديد فيه، والابتعاد من المغالاة في الضرب أو أي وسيلة أخرى من وسائل الرياضة والتأديب؛ وعلة ذلك نفسانية؛ لأن معنى استئناس الصبيان هو الاعتياد الناشئ عن التكرار، ومن أثر العادة إماتة الشعور، وبذلك ينعدم التأثير المطلوب من العقاب، فضلا عن ذهاب سلطة المعلم وعدم هيبة الصبيان من سطوته عليهم.
ومن الرفق ألا يبادر المعلم إلى العقاب إذا استأهل الطفل ذلك، وإنما ينبه الطفل مرة بعد مرة، فإذا لم يستمع لهذا التنبيه، ولم يأخذ بهذا التوجيه، لجأ المعلم إلى وسائل العقاب المنصوص عليها.
حرمان الأطفال الطعام والشراب عقوبة معروفة مشهورة؛ وهي عقوبة شديدة الأثر في نفس الطفل؛ لأن همه في الحياة تناول الطعام واللعب. ولا صبر له على الجوع حتى يشبع، فإذا شبع لعب، ولا زاجر له عن اللعب حتى يتحرك. وحرمان الطعام واللعب عقوبتان معيبتان، وحرمان الطعام أشد عيبا لأن في ذلك ضررا بصحة الطفل، وكبتا لأقوى غريزة وأولها عند الإنسان، فينشأ الطفل على الشره في مستقبل حياته، وقد تمتد يده إلى السرقة لإشباع حاجة نفسه مما يحرمه عليه أهله والقائمون بأمر تعليمه من ألوان الطعام.
لهذا نص القابسي على أن من الرفق بالصبيان الإذن لهم بالانصراف إلى تناول الغداء، وعدم منعهم من الطعام والشراب. ذلك أن العادة كانت جارية في ذلك الزمان أن ينصرف الصبيان مع الظهر إلى دورهم لتناول الغداء ثم يعودون بعد ذلك إلى الكتاب. (3) النهي عن عقوبة الانتقام
العقوبة على أربعة مذاهب حسب الغاية منها، فهي انتقامية أو رادعة أو واعظة أو مصلحة.
وأول أنواع العقوبات ما كان الغرض منه الانتقام من صاحب الذنب. والانتقام فطري في الإنسان؛ لأنه يتصل بغريزة الغضب. والمعروف أن الإنسان إذا اعتدي عليه غضب وثار وحاول أن يرد الاعتداء. وفي سورة الغضب يحطم الإنسان كل شيء، ويعتدي على كل شيء؛ لأن المحرك له قوة الكفاح والمقاتلة، لا ميزان الحكمة وتقدير العقل والمصلحة. والمتوحشون على هذه الصورة الأولية من الاندفاع وراء الانتقام، وشفاء غليل النفس مما تشعر به من الثورة.
وقد أخذت الحضارة بيد الإنسان في طريق الخير، وهذبت ميوله الفطرية وغرائزه الحيوانية، ناظرة في ذلك إلى نفع المجتمع بأسره. هذا التهذيب يقتضي ضبط النفس عند ظهور النوازع الفطرية، ليرى صاحبها: أمن المصلحة أن يستجيب لنداء هذه الدوافع أم يكفها وينهاها؟ على أي الحالات ينبغي أن يسيطر الإنسان على نفسه فيوجه أمره على ضوء العقل، فلا يخضع لكل دافع، أو ينساق وراء كل نازع.
وكثيرا ما يفقد الإنسان الحكمة والبصيرة، ويعود إلى الطور الحيواني من الاندفاع الأعمى، ويكون ذلك في أحوال الغضب الشديد، وما يصحبه من غيظ وكمد.
ولكن المرء لا يكمل معاني الإنسانية الذاهبة نحو السمو، إلا إذا استطاع ضبط النفس، وحبس الغيظ. وفي القرآن إشارة إلى هذه الفضيلة الواجبة حيث قال تعالى:
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (آل عمران: 134).
وإذا كان كظم الغيظ والعفو عن الناس مرغوبا فيه مع الكبار، فهو أوجب مع الصبيان الذين يقعون من المعلم موقع الولد من الوالد. وهم إلى ذلك في مجال التهذيب والتأديب لا في مجال التشفي والانتقام.
لهذا كله نهى القابسي المعلم أن يضرب الصبيان وهو في ساعة الغضب، حتى لا يكون «ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل.» 55-ب.
القصة التي ذكرها القابسي عن عمر بن عبد العزيز الذي أمر بضرب إنسان، ثم قال اتركوه بعد أن أقيم للضرب؛ لأنه كره أن يضربه وهو غضبان، في هذه القصة دليل آخر على أن العقوبة في الإسلام لا ينبغي أن تكون انتقامية.
والتربية وعلم النفس الحديثان لا يقرران جديدا يختلف عما قرره القابسي، وما هو ثابت عند فقهاء المسلمين. وقد جاء وصف آثار الغضب النفسية والجسمية، وما يؤدي إليه من شهوة الانتقام في كثير من الكتب الفقهية. ونثبت ما ذكره الغزالي في ذلك، فهو يفصله تفصيلا لا يحتاج بعده إلى جديد.
قال بعد كلام يصف ما يصيب ملامح الوجه وحالة الجسم في ساعة الغضب «فيحمر الوجه والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها. وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه. فإن صدر الغضب على من فوقه كان معه يأس من الانتقام ... وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب، ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام. وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام قوت هذه القوة، وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به.»
3
ثم قال عن أثر الغضب الخارجي: «وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحيي منه ذو العقل، ويستحيي منه قائله عند فتور الغضب ... وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة ...»
4
هذه المشاهدات النفسية الصحيحة لآثار الغضب التي تلحق بالإنسان، سبق إلى ملاحظتها القابسي فأثبتها في صدد غضب المعلم، وما يصدر عنه من كلام بذيء في حق الصبيان وشتمهم وسب أعراضهم. كل ذلك لأنه: «إنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التقي إذا تمكن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب.» 54-أ.
فالغاية التي يريد أن يصل القابسي إليها هي رياضة الصبيان، ولا بأس بالعقاب بشرط ألا يكون انتقاما، ولا يكون الانتقام إلا إذا ثار الغضب في النفس، وتمكن منها. وليس هذا موضع الغضب والانتقام، وإنما هو موضع التأديب والتهذيب. (4) الخوف وأثره في التهذيب
أما الأغراض الأخرى من العقاب وهي الإصلاح والوعظ والزجر، فهي وسائل تؤدي إلى غاية مطلوبة هي صلاح المذنب أو صلاح المذنبين وخير المجتمع.
وأول هذه الأغراض هو إصلاح المذنب، ويعبرون عن هذا الإصلاح عادة بالتهذيب، ووسيلته الرياضة والتأديب. ويكون هذا الإصلاح بالترغيب والترهيب، والرجاء والخوف، والنصيحة والتهذيب.
والطفل مهما يكن من شيء فهو حدث صغير، لا يعرف ما ينفعه ولا يميز ما يضره، ولا يستطيع أن ينظر إلى مصلحته البعيدة في المستقبل. وما دام الأمر كذلك، فإن الأطفال يظلون أمانة في عنق آبائهم ومربيهم يطبعونهم على ما يريدون. لهذا كانت إشارة القابسي إلى واجب الآباء إشارة سديدة صحيحة؛ حيث قال بصدد تعليم الصبيان القرآن: «وعلى ذلك يربونهم وبه يبتدونهم، وهم أطفال لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يعلمون إلا ما علمهم آباؤهم.»
والطفل الصغير لا يفهم معاني القرآن، ولا يدري لماذا يكلف حفظه، فإذا انصرف عن درسه وآثر اللعب بدافع الفطرة المطبوع عليها، فليس لنا أن نعجب، وإنما نعجب إذا رضي أن يقيد في الكتاب طول النهار، وأن يديم النظر إلى هذه الحروف التي يسطرها في الألواح.
فنحن نريد للطفل شيئا، وهو يريد لنفسه شيئا آخر.
ولا سبيل إلى فرض إرادة المجتمع على الطفل إلا بوسائل الرياضة وألوان العقاب؛ ويعتبرون أن انصراف الطفل من تنفيذ رغبة المجتمع ذنب. فإذا كان المجتمع الإسلامي يريد من الطفل أن يحفظ القرآن وأن يقيم الصلاة ، ثم رفض الطفل، فهو في نظر المعلم مذنب.
والطريقة التي نجتذب بها الصبيان إلى تأدية ما نريد هي الترغيب والترهيب .
والخوف يكون أحيانا من أقوى المؤثرات التي تمنع الإنسان عن أداء الأعمال التي يخاف منها. والخوف فطري في النفس، يصحبه الهرب مما يثير الخوف، والابتعاد عن مصدره. وكل فطرة في النفس فهي من الطبائع الموروثة التي لا أمل في اقتلاعها، وإنما يراعى فيها حسن التوجيه نحو الخير المقصود. ولو أنك جنبت الطفل كل مصادر الخوف، وحطته بالأمن والرعاية فإنه ينشأ مدللا لا شجاعا. فإذا صادف في الحياة عقبة أو شرا اعتقد أنه مهول وانقلب الخوف في نفسه رعبا، والتدليل خورا وجبنا.
والذين ينصحون بعدم إخافة الصبيان، يعودون إلى القول بضرورة تعريضهم للمخاوف الطبيعية لينشأ الصبي صلب العود قوي العزيمة صادق الإرادة على مجابهة الأخطار، والوقوف أمام الصعاب.
وأصحاب المذاهب الحديثة في التربية يقصدون من هذا اللون من ألوان التربية أن يكثر الأطفال من الرياضة البدنية كالسباحة، ولعب كرة القدم، وتسلق الجبال، وركوب الخيل وما إلى ذلك من أنواع الرياضة البدنية التي يتدرب فيها الصبيان والشباب على مواجهة الأخطار، والتغلب على المخاوف الطبيعية. وغرضهم من ذلك أن يتعلموا بأنفسهم من ظروف الحياة، وأن تؤدبهم صروفها. والمعروف أن الشعب الإنجليزي ينحو هذا النحو في التربية؛ وقد أخذ عنهم هذه الطريقة كثير من الشعوب في العصر الحاضر.
ومع ذلك فهذا الأسلوب في التربية والتأديب لا يعتبر حديثا، وإنما هو عود إلى القديم؛ إذ المعروف أن اليونان والرومان كانوا يعنون عناية كبيرة بالرياضة البدنية. وقد عني العرب كذلك بالرياضة البدنية والفروسية كالسباحة وركوب الخيل مما هو ثابت في وصايا الخلفاء والأمراء لمؤدبي أبنائهم.
وجاء في كتاب (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه إشارة إلى تعليم الصبيان الرياضة حيث قال: «ويعود الصبي المشي والحركة والركوب والرياضة.» وقد نقل ابن مسكويه هذا الفصل الخاص بتأديب الأحداث عن «بروسن»، وهي رسالة معروفة عند العرب، ذكرها الغزالي في كتبه.
ولكن عناية القابسي اتجهت إلى التربية في الكتاب، لا إلى التربية عموما في الكتاب وفي خارج الكتاب. ولا ننسى أن الذين كانوا يزاولون الرياضة البدنية في العصور القديمة هم طبقة النبلاء الذين يصطفون لأبنائهم المؤدبين والمربين، ولهم من فراغ الوقت وسعة العيش ما ييسر لهم توجيه أبنائهم على ما يشتهون. على حين أن القابسي وصف طريقة تأديب أبناء الشعب، وأغلبهم من العامة الذين لا يستطيعون أن يتفرغوا لتربية أطفالهم بطريق الرياضة البدنية.
وسواء أكان الأطفال من أبناء النبلاء أم من أبناء الدهماء. فهل نأخذهم بالشدة أم باللين، وهل نعاقبهم بالتخويف أم ننصرف عن هذا الطريق؟
عقد ابن خلدون فصلا في الشدة على المتعلمين مضرة بهم جاء فيه: «إن من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه ... فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده ألا يستبدوا عليهم في التأديب.»
5
وجاء في وصية سحنون الفقيه لمعلم ابنه: «لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، وليس هو ممن يؤدب بالضرب والتعنيف.»
فنحن نرى أن المربين في الإسلام كرهوا التشديد على الصبيان، ونصحوا بالرفق واللين.
وقد وقف القابسي بالسؤال الذي أجاب عنه ابن خلدون وسحنون، وأجاب عنه بمثل ما أجابوا فقال: «فقولك هل يستحب للمعلم التشديد على الصبيان أو ترى أن يرفق بهم ... فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجه ذلك من حسن رفقه بهم، ولا من رحمته إياهم، فإنما هو لهم عوض عن آبائهم.» 54-أ.
وقد فصلنا الكلام عن الرفق والعفو السابقين على العقاب فلا نعود إليه.
أما الطريقة العملية في سياسة الصبيان التي يصحبها الرفق، البعيدة عن الشدة، فهي الثناء على أفعالهم المحمودة، وذم أعمالهم المكروهة.
وجميع المربين في الإسلام يتبعون هذه القاعدة.
كتب شمس الدين الإنباني - وهو من المتأخرين - في سياسة الصبيان ما يأتي: «ثم مهما ظهر منه خلق جميل، وفعل محمود، فينبغي أن يكرم عليه، ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح به بين الناس.
فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة.
فعند ذلك إن عاد ثانيا ينبغي أن يعاقبه سرا، ويعظم الأمر فيه، ويقول له إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا فتفتضح بين الناس. ولا يكثر عليه الملامة في كل وقت فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح.
فإذا عاد، أدبه بما يليق من توبيخه.»
6
وهذا ما نصح به القابسي إذ لفت نظر المعلم إلى أن يغبط الصبي بإحسانه إذا أحسن في غير انبساط إليه، ولا منافرة له، ليعرف وجه الحسن من القبح، وإذا أخطأ الصبي أخبره بهذا الخطأ، ثم «يقبحه عنده، ويتواعده بشدة العقوبة عليه إن هو عاوده ليتدرج على مجانبة الخطأ.» 58-ب.
أما إذا نبه الصبي مرة بعد مرة، ولم ينتج التنبيه فائدة، فعلى المعلم أن يلجأ إلى العذل والتقريع بالكلام من غير شتم. والعذل والتقريع بالكلام من العقوبات التي ترمي إلى استغلال الخوف الأدبي ليحفظ المرء كرامته بين أفراد المجتمع.
والدافع إلى حفظ الكرامة دافع فطري، فطن إليه الأقدمون، فكتبوا عنه إجمالا كما رأينا، وفصله المحدثون تفصيلا طويلا، وكتب فيه زعيم من هؤلاء المحدثين هو عالم التحليل النفساني «أدلر» الذي يعتبر أن المحرك لأعمال الإنسان منذ أن يولد طفلا إلى أن يشب رجلا؛ أي خلال حياته كلها، هو النزعة إلى السيطرة والتطلع إلى السلطان، ويقابل ذلك، إذا فشل المرء في تحقيق ما يتطلع إليه، الشعور بالضعة والقلة والمذلة والصغار.
وميزان ذلك كله المجتمع الذي يعيش فيه الطفل، فإذا تسنى له أن يحقق مطمعه من الشوق إلى التسلط والسيطرة رضيت نفسه وامتلأت بالغبطة والسعادة، وإذا صدمته قوى غيره من الأطفال والكبار الذين يحتك بهم كوالديه ومعلميه، وفشل في تحقيق مطعمه هبط تحت مستوى المجتمع.
فهذان اتجاهان متقابلان أحدهما إلى فوق والآخر إلى تحت، والارتفاع فوق هامات المجتمع هو التسلط والسيطرة، والانخفاض تحت أقدام الناس هو الضعة والصغار. «وكثير من الأطفال يشبون وهم في خوف دائم من السخرية بهم.»
7
والعذل والتهديد والتقريع من العقوبات التي تؤدي إلى هبوط مركز الطفل، وهي تثير في نفسه الخوف من هذا الضياع، وتهيب به أن يتجنب ما يدعو إلى تحقيق إخافته وإيلامه. وهذه الوسيلة الأولى من وسائل العقاب تجمع بين الخوف والرجاء، وتنير أمام الصبي طريق الكرامة والاعتزاز والسلطان.
فهو إذا أحسن لقي الجزاء بالإحسان، وإذا أساء أدبه المعلم بالتعنيف والتشهير. ولا تقبل الطبائع البشرية أن تنزل درجتها في المجتمع وهي راضية، وعندئذ يجري الطفل وراء ما يحقق له شوقه إلى السلطان، وذلك بالامتناع عما يسيء، والابتعاد عما يضر، والإقبال على أداء ما هو مطلوب منه حتى إذا خالف هواه، فيتم تهذيب الطفل بأيسر الوسائل، وهذه هي أفضل الرياضات المؤدية إلى الإصلاح. (5) عقوبة الضرب
إذا لم تفلح العقوبة السابقة وهي الإخافة الأدبية والتهديد والعذل والنصح والتقريع، لجأ المعلم إلى نوع أعنف وأقوى من هذه العقوبات. هذه العقوبة الجديدة القوية ليست مصلحة فحسب، وإنما هي عقوبة رادعة زاجرة، لأنها تترك ألما مباشرا في نفس المذنب فيرتدع عن ارتكاب الذنب.
هذه العقوبة تكون عادة بدنية.
وفي الإسلام ألوان كثيرة من العقوبات البدنية تناسب شتى الجرائم، فجزاء القتل القتل، وجزاء السرقة قطع اليد، وحد شارب الخمر الجلد.
فمبدأ العقوبة البدنية مقرر بنص من القرآن. لهذا لا يتنازع الفقهاء في بحث هذا الأصل، وإنما يطبقونه بما يلائم الأحوال والظروف؛ فلا نستطيع أن نلغي القتل في القصاص، أو قطع اليد في السرقة، وإلا اعتبر هذا تهاونا بل خروجا في تنفيذ ما أمر به الشرع. وإذا كنا الآن في البيئات الإسلامية - ما عدا الأقطار الحجازية - لا نطبق عقوبة قطع اليد في السرقة؛ فذلك لأن الشريعة الإسلامية غير سارية، وحل محلها القانون الأهلي.
والحالة في عقاب الصبيان لا تصل بطبيعة الحال إلى حد القتل وقطع اليد؛ لأن الصبيان لا يزالون قاصرين غير مكلفين، والعقوبة التي توقع عليهم هي الضرب ضربا غير مبرح لمصلحتهم وسياستهم ورياضتهم.
وقد جاء الأمر بضربهم صريحا في المأثور عن النبي، وكما ذكر القابسي، أنه ينبغي أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر.
هذا يدلنا على أن الطفل قبل سن عشر سنوات لا يجوز ضربه لصغر سنه وما يتبع ذلك من انعدام مسئوليته.
والأصل في ضرب الصبيان في الدين لحملهم على أداء فريضة هي ركن من أركان الإسلام وهي الصلاة؛ ليأنس إليها الصبيان ويتطبعوا بها وتنزل منهم منزلة العادة.
وإذا كان الفقهاء قد أجازوا الضرب في حالة ترك الصلاة، بل أمروا بالضرب، فقد أمروا بالضرب أيضا في جميع الحالات التي يحتاج الوالد أو المعلم إليها في تأديب الصبيان، وهي عدم حفظ القرآن، واللعب والأذى، والهرب من الكتاب، وما إلى ذلك من أنواع الذنوب الخلقية والمدرسية التي سبق أن ذكرناها تفصيلا.
ولم يكن الفقهاء في حاجة إلى التفكير؛ هل الضرب مشروع أو غير مشروع، وهل هذه العقوبة البدنية مما يصح أن يوقعها أولياء الأمور على من يستحقونها أم لا؟ ذلك أن الله في كتابه العزيز جعل الزوج يعاقب زوجته بعد الوعظ والهجر في المضاجع بالضرب. فالضرب مشروع بالنسبة للرجال والنساء بنص من الدين. وقد أجازه مالك كما رأينا بالنسبة للصبيان.
سئل القابسي هل يؤدب الرجل امرأته؟ فأجاب: إن أدبه إياها مأخوذ من كتاب الله، ثم أورد الآية:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن (النساء: 34).
ذلك أن القابسي فقيه قبل أن يكون مربيا. وهو يستمد مبادئ التربية من أصول الفقه، ومن معين الدين، ومن كلام الله الذي يقيس عليه المسائل المختلفة التي تعرض له.
فالزوج يؤدب الزوجة، والوالد يؤدب الولد، والمعلم يؤدب الصبي.
والزوج والوالد والمعلم مأمورون بالتأديب؛ لأن مصلحة الزوجة والولد والصبي في عنقهم، وهم القوامون عليهم.
والغرض من التأديب في الأحوال الثلاث واحد، وهو المصلحة. فالزوج يؤدب زوجته: «كأدب المعلم لصبيانه سالما من العطب والحمية؛ لأنه إنما يؤدبها لمصلحتها له ولنفسها.» 93-ب.
على أن القابسي وغيره من الفقهاء قرروا الضرب عقوبة، ثم أحاطوا هذه العقوبة بسياج من الشروط، حتى لا يخرج الضرب من الزجر والإصلاح إلى التشفي والانتقام.
ونلخص الشروط التي ذكرها القابسي فيما يلي: (1)
ألا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب. (2)
أن يوقع المعلم ضرب «بقدر الاستئهال الواجب في ذلك الجرم.» (3)
أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن القائم بأمر الصبي في الزيادة إلى عشر ضربات. (4)
أن يزاد على العشر ضربات إذا كان الصبي «يناهز الاحتلام، سيئ الرعية، غليظ الخلق، لا يريعه وقوع عشر ضربات عليه.» (5)
أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه، ولا يترك هذا الأمر لأحد من الصبيان «الذين تجري بينهم الحمية والمنازعة.» (6)
أن صفة الضرب ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المضر. (7)
أن مكان الضرب في الرجلين «فهو آمن وأحمل للألم في سلامة.» وليتجنب رأس الصبي أو وجهه، إذ قد يوهن الدماغ أو تطرف العين. (8)
أن آلة الضرب هي الدرة أو الفلقة، «وينبغي أن يكون عود الدرة رطبا مأمونا.»
فهذه الشروط كلها تحيط الضرب بسياج من الأمن حتى لا يحدث للصبي ضرر، ولا يخرج الضرب عن معنى التأديب الموضوع له.
وفي هذه الشروط المقيدة للضرب مراعاة لمصلحة الصبي إلى أقصى الحدود، واقتصاد شديد في هذه العقوبة البدنية المرذولة. فالمعلم لا يلجأ إلى الضرب إلا بعد أن يستنفد جميع وسائل الوعظ والتنبيه والتهديد والتخويف. فإذا استحق الصبي الضرب بعد ذلك كله فلا بأس من الضرب. وإذا زاد على ثلاث ضربات فلا بد من استئذان ولي أمر الصبي.
هذه هي العدالة، ولكنها إلى الرفق أميل منها إلى الشدة.
ويلاحظ في هذه العقوبة التدرج من الرفق إلى الشدة. فقد أحيط الضرب بسياج من القيود تمنع أذى الصبي، ولا توقع به إلا الألم المقصود من التأديب.
هذا كله يبين لنا أن الضرب لم يكن يوقع على جميع الصبيان، وإنما على من يستحقه منهم. وهؤلاء هم الذين لا تجدي معهم وسائل التأديب الخلقية، وألوان الوعظ والإرشاد.
عقوبة الضرب التي ذكرناها عن القابسي لا تختلف في شيء عند غيره من المفكرين في الإسلام، لا قبل زمانه، ولا بعد عصره. فجميع المربين في الإسلام يقرون الضرب كما قرره القابسي، ويحيطونه بنفس القيود التي تخفف من وطأته . ولا غرابة في هذا فجميعهم - وهم المربون الفقهاء فقط - ينهلون من نبع واحد هو الحديث الوارد في ضرب الأولاد على الصلاة.
وقد أراد ابن خلدون أن يتحرر من مبدأ الضرب، فعاب الشدة على المتعلمين كما رأينا، ولكنه عاد في آخر الفصل الذي عقده فأجاز الضرب حيث نقل عن محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين: «لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا ... ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده الأمين ... وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباها فعليك بالشدة والغلظة.»
ونذكر ما نص عليه أحد الفقهاء وهو شمس الدين الإنبابي في وصف الضرب لترى معي أن الصورة لم تتغير عند المتأخرين عما كانت عليه عند المتقدمين. قال في كيفية ضرب الصبي: «أن يكون مفرقا لا مجموعا في محل واحد. وأن يكون في غير وجه ومقتل، وأن يكون بين الضربتين زمن يخف به ألم الأولى. وأن يرفع الضارب ذراعه لينقل السوط لا عضده حتى يرى بياض إبطه، فلا يرفعه لئلا يعظم ألمه، ولا يضعه عليه وضعا لا يتألم به.»
ويجب في السوط أن يكون معتدل الحجم، فيكون بين القضيب والعصا؛ وأن يكون معتدل الرطوبة، فلا يكون رطبا يشق الجلد لثقله، ولا شديد اليبوسة فلا يؤلم لخفته. ولا يتعين لذلك نوع بل يجوز بسوط وهي سيور تلوى، وبعود، وخشبة، ونعل، وطرف ثوب بعد فتله حتى يشتد.»
ويميل الإنبابي إلى الشدة والزيادة على العشر ضربات، فقال: «ولا يجوز له أن يبلغ بالضرب أربعين في الحر وعشرين في غيره، بل يلزمه النقص عن ذلك. وأما خبر الصحيحين «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى.» فهو محمول على ما هو الأولى غالبا وإلا فقبح الذنب يقتضي الزيادة.»
8
والجديد في هذا الكلام هو في بعض التفاصيل، وأما مبدأ الضرب وعدد الضربات فهو ثابت منذ زمن القابسي بل وقبل زمنه.
ولا يرى ابن سينا - وهو من الفلاسفة - بالضرب بأسا، وفي ذلك يقول بصدد سياسة الرجل ولده: «فإن احتاج إلى الاستعانة باليد لم يحجم عنه. وليكن أول الضرب قليلا موجعا كما أشار به الحكماء بعد الإرهاب الشديد. فإن الضربة الأولى إذا كانت موجعة ساء ظن الصبي بما بعدها واشتد منها خوفه. وإذا كانت الأولى خفيفة غير مؤلمة حسن ظنه بالباقي فلم يحفل به.»
9
وهنا نسمع كلاما جديدا يختلف عما درجنا على سماعه من القابسي، الذي يرى على العكس التدرج بالضرب من الرفق إلى الشدة، على حين أن ابن سينا يريد أن يبدأ بالشدة ليقوى الأثر.
والعلة في الضرب التي لجأ إليها الفقهاء كما لجأ إليها الفلاسفة والحكماء، هي ما يصحب الضرب من ألم، وما يصحب ذلك من خوف الألم. وفي ذلك يقول الغزالي: «والأصلح للبهيمية أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي، ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة.»
10
وبيان أثر الضرب في لغة علم النفس الحديث أن ضربة العصا تؤلم الصبي، فتؤدي إلى امتناعه عما يفعل حتى لا يقع عليه الضرب مرة ثانية. والإنسان بطبيعته مفطور على الإقبال على ما يسره والابتعاد عما يؤلمه. والذاكرة تلعب دورا مهما إذ يستعيد الصبي سبب أوجاعه، ويستحضر في ذاكرته الموقف الذي ضرب فيه، فيعمل على إبعاد كل ذلك، وبهذا يستقيم، وبهذا تؤثر التربية أثرها، ويتم التدريب المنشود في عالم الصبيان وفي عالم الحيوان كما هو معرف، وكما ذكر الغزالي. أما المبالغة في الضرب فغير محمودة لأنها تؤدي إلى البلادة، وانعدام الألم الذي به يتم الانصراف عن الأفعال القبيحة؛ ذلك أن الزيادة في الضرب لا تتناسب تناسبا رياضيا مع الزيادة في الألم كما هو معروف في علم النفس.
وحقيقة الأمر أن الضرب المبالغ فيه لا ينشأ إلا إذا خرج المعلم عن طوره، وأراد الانتقام والتشفي، وذلك في الأحوال التي يتملكه فيها الغضب. وقد نهى القابسي كما نهى غيره من الفقهاء أن يكون الضرب للانتقام. وعن القابسي أن الرسول عليه السلام قد نهى أن يقضي القاضي وهو غضبان . فإذا كان الأمر كذلك بين القاضي والمذنبين في حالة الغضب فالأمر أوجب لابتعاد المعلم في حالة الغضب عن ضرب الصبيان، وهم الأحداث الصغار الذين لم يستكملوا العقل والحكمة والتجربة.
ونخص من الفقهاء محمد بن سحنون الذي استقى منه القابسي وذكر عنه ونقل منه. جاء في كتاب (آداب المعلمين) لمحمد بن سحنون: «وعن ابن عباس قال: قال رسول الله: «أشرار أمتي معلمو صبيانهم أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المسكين.» قال محمد (أي ابن سحنون) وإنما ذلك لأنه يضربهم إذا غضب، وليس على منافعهم؛ ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يجاوز بالأدب ثلاثا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدا. ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشرة.»
11
من هنا يتبين أن الضرب لمنفعة الصبي، وأن يكون فيه من الرفق ما يؤدي إلى التأديب ولا يتعداه إلى غير ذلك، فيتم الزجر المطلوب من العقاب وينتهي الأمر بعد ذلك إلى الصلاح. (6) العقوبة الواعظة
من أغراض العقوبة في الإسلام عظة الغير، وقيل في المثل السائر: «السعيد من اتعظ بغيره.» ومعنى ذلك أن الضرب الذي يوقع على الصبي، يكون عظة وعبرة لغيره من الصبيان، إلى جانب ما في عقوبة الضرب من زجر للصبي المضروب.
والإسلام يقرر هذا المبدأ في العقوبة حيث قال تعالى:
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (النور: 2). والغرض من هذه المشاهدة مزدوج؛ هو التشهير بالمذنب من جهة، وضرب المثل للغير من جهة أخرى.
أما الأثر الذي يلحق المجرم حين يعذب أمام طائفة من الناس فهو الفضيحة بينهم. وسبق أن ذكرنا أن حب التسلط والسيطرة فطرة في الإنسان، ولا شك أن العقاب الذي يقع بالمرء في مواجهة غيره، يذهب بمنزلته ويسقط من قدره. والمرء يحب الاحتفاظ بسلطانه، وتأكيد احترامه.
أما المشاهدون لهذه العقوبة، فالتأثير فيهم لا يقل عن الأثر الذي يلحق بالمذنب. ذلك أن الألم ينتقل إلى الناس كالعدوى بدافع المشاركة الوجدانية أو التعاطف، وهو من النزعات الفطرية في الإنسان. ويلعب التصور والخيال دورا كبيرا في هذه المسألة. ذلك أن مشاهد العذاب يتصور في خياله ما ينزل به إذا كان هو الواقع تحت العذاب. فهو يتألم كما لو كان التأثير حقيقيا لا وهميا، وهو يخشى العقاب ويرهبه خشية المذنب، ورهبة المعاقب.
لم ينص القابسي على هذا النوع من العقوبة، وهي عقوبة الوعظ والعبرة، ولم يتكلم عن أثرها في الصبيان، ولكنه في الوقت نفسه لم ينصح بعقاب الصبيان كل واحد على حدة. على العكس من ذلك نجد أن في مناسبات كثيرة يحث المعلم على عقاب الصبيان جملة، ليتم تأديبهم جميعا. ذلك أن سلوك المعلم مع الصبيان في الكتاب يحمل روح التأديب. فالعبوس نوع من العقاب اليسير الذي تكلم عنه القابسي؛ والعبوس مظهر من مظاهر الغضب، وعنوان الأمر والشدة، وهذا المظهر يسبق عادة العزم على الضرب والاعتداء. ويتأثر الصبيان بهذا المظهر، فيتجنبون ما يغضب المعلم خشية ما يعقب العبوس من ضرب. لهذا يخضع الصبيان وينكمشون عند عبوس المعلم.
قال القابسي: «فكونه عبوسا أبدا، من الفظاظة الممقوتة ويستأنس بها الصبيان.» 54-ب.
فالمعلم يعبس لصبي واحد لأنه ارتكب جرما يستأهل هذا اللون من العقاب. ولكن باقي الصبيان يشهدون دون شك هذا المظهر ويتأثرون به عن طريق العظة والعبرة. والقابسي يخشى إذا أدام المعلم العبوس أن يستأنس الصبيان بهذا السلوك فلا يتأثرون منه. والأمر كذلك في جميع أنواع العقاب، فالمبالغة في التهديد أو العذل أو الضرب يعتادها الصبيان فلا تفيد الأثر المطلوب في التأديب.
ثم عقوبة التقريع بالكلام من العقوبات التي لا تؤثر أثرها إلا إذا وقعها المعلم على الصبي في مواجهة غيره من الصبيان. ذلك أن الغرض من التقريع إذلال الصبي، وإسقاط منزلته، واحتقار شأنه. ولا يذل الصبي إلا بالنسبة إلى غيره من الرفقاء، ولا تسقط منزلته إلا بالإضافة إلى غيره من الزملاء. واحتقار شأنه المقصود منه خفض منزلته عن مستوى أقرانه لا مستوى معلمه، حيث كانت سلطة المعلم وقدره فوق مرتقى الصبي بطبيعة الحال. وفي هذا التقريع عظة لجميع الصبيان الحاضرين في الكتاب المشاهدين لهذا التعريض، فهم يخشون أن يقع بهم مثل ما يقع بمن يوجه إليه التشهير.
إلى جانب ذلك نجد القابسي يلجأ إلى استشارة والد الصبي إذا استحق العقاب زيادة عن ثلاث ضربات. وإذا بلغ الأمر حد إخبار آباء الصبيان واستشارتهم، فإن المسألة لن يحوطها الكتمان، وإنما تخرج إلى العلانية فيعلم بها جميع الصبيان. وفي هذا عظة لهم لأنهم يخشون عقاب الآباء أكثر من خشيتهم عقاب المعلم.
واستئذان آباء الصبيان في العقاب يحمل فائدة تهذيبية كبيرة. فهو دليل على التعاون بين البيت والمدرسة، وبين الوالد والمعلم؛ لأن كليهما يقول بتأديب الصبي، ويرمي إلى رياضته وتهذيبه. والمعلم - كما يقول القابسي - في منزلة الوالد. ولا يخفى أن سلطان الوالد على ولده أقوى وأشد من سلطان المعلم على الصبي؛ لأن الوالد هو الذي يقوم بالنفقة على ابنه، وهو الذي يتعهده بالتربية منذ الصغر حتى يبلغ السن التي يذهب فيها إلى الكتاب. وهو الذي يرعاه في الصباح الباكر قبل الانصراف إلى العلم، كما يرعاه مع الضحى حين أوبته من الكتاب. فالوالد يلازم ابنه ملازمة تجعل الابن يشعر بحاجته الدائمة في معاشه وفي منزلته الاجتماعية. لذلك كان سلطان الأب طبيعيا على ابنه، ويتبع ذلك خشية الابن من سطوة أبيه عليه، وخوفه من غضبه وعقابه. فالصبي يخاف أن يعلم والده بما يرتكب من ذنوب في الكتاب، ولذلك يحاول جهده تجنب ارتكاب هذه الذنوب.
ومما يدل على أن القابسي لا يرى بالعقوبة العلانية بأسا، أنه يرخص للمعلم أن يعهد إلى أحد الصبيان بالضرب إن أمن المعلم ألا يتجاوز الصبي في ضربه الحدود الموضوعة، وكان للمعلم عذر في تخلفه عن الضرب.
على أن القابسي نقل عن سحنون ووافقه في ذلك، أن الأصل هو قيام المعلم بنفسه بتوقيع العقوبة على الصبيان. ثم عاد القابسي فذكر عن سحنون إباحة تأديب الصبيان بعضهم بعضا.
ونحن نحبذ رأي القابسي الذي بدأ به، وهو قصر توقيع العقاب بواسطة المعلم وحده، والتنبيه على عدم إباحته للصبيان الذين: «تجري بينهم الحمية والمنازعة، فقد يتجاوز الصبي المطبق فيما يؤلم المضروب.» 56-ب.
ولا ندري لماذا عاد القابسي فأباح العقاب لأحد الصبيان بعد ذكر هذه الأسباب الوجيهة المانعة لولاية الصبي الضرب مما يخالف مبادئ التربية.
وعندنا أن هذه المسألة كانت تجري على عرف الناس في الكتاتيب، فأجازها سحنون كما أجازها القابسي مع التقييد والحيطة.
هذه خلاصة ما ذكره القابسي في العقاب، متمشيا مع روح الإسلام في مبادئه وأصوله، حيث يبدأ بالرفق وينتهي بالشدة، ويضع الأمور موضعها فيقرر العقوبة الملائمة للذنب، ويأخذ الصبيان بالشدة في رفق، وينصح بالحزم في غير قسوة، مع مراعاة الروح الإنساني وعاطفة الرحمة.
وغرضه من العقاب الإصلاح والزجر والوعظ لا التشفي والانتقام. وإننا لنرى روح العدل ممتزجة بالشفقة تطل من وراء هذه المبادئ التي قررها في التهذيب والتأديب.
الفصل الثامن
المناهج وطرق التعليم
(1) المنهج صورة لأحوال المجتمع
إذا شئنا أن نعرف العلة التي من أجلها وضع القابسي منهج التعليم للصبيان في الكتاتيب أو أقره على النحو المذكور في رسالته، فينبغي أن ننظر إلى حالة المجتمع في ذلك العصر، لنرى مبلغ حاجاته ومطالبه. وعندئذ يتبين لنا السر الذي دفع المربين في الإسلام إلى تعليم الصبيان علوما معينة، منها يتألف ما نسميه المنهج الدراسي على الاصطلاح الحديث المعروف الآن.
وقد يكون المنهج واقعيا، وقد يكون مثاليا، في الحالين يستمد وجوده من المجتمع. فالمنهج الواقعي، وهو ما يدرس بالفعل، يستقي كيانه من المجتمع القائم، بينما المنهج المثالي، وهو ما يطالب به المفكرون والمصلحون يلائم صورة المجتمع المثالية التي يتخيلها هؤلاء المفكرون في مدنهم الفاضلة. ومنهج القابسي في التعليم واقعي كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فهو يصف ما كان متبعا فعلا في الكتاتيب الإسلامية في شمال أفريقيا. وهذا المنهج المتبع في عصره هو أثر البيئة الاجتماعية.
يقول بيتس: «على المجتمع يقع عبء تعليم الأجيال الجديدة، والمجتمع هو الذي يهيئ البيئة الصالحة لنمو الأفراد. وعلى الأفراد أن يحملوا عبء المسئولية فيستجيبوا لنداء التعليم بحسن التعلم.»
1
وقد أورد المؤلف تعريفين للتعليم ؛ الأول يرمي إلى تنبيه مواهب الفرد، والثاني إعداد الفرد للحياة الاجتماعية. والمقصود بمواهب الفرد القوى العقلية المختلفة كالذاكرة والابتكار والذكاء والملاحظة وما إلى ذلك.
2
ويقول ألبير مالو أستاذ التربية بجامعة السوربون: «الآراء متفقة في جميع الشعوب الحديثة على أن التعليم يجب أن يعد الفرد للحياة الاجتماعية أكثر مما هو حاصل الآن.»
3
والرأي عندنا أن التعليم إعداد للحياة الاجتماعية، ولا ننكر أنه يأخذ بيد الفرد في طريق التقدم، وبذلك يهيئه في نهاية الأمر للحياة الاجتماعية.
ولا نستطيع أن نفهم الخلاف في مناهج التعليم خلال العصور المتعاقبة، وفي الأمم المختلفة التي تعيش في عصر واحد، إلا نتيجة اختلاف البيئات جميعا.
فإذا قلبنا صفحات التاريخ وجدنا أن اليونان كانوا يعنون بتعليم الصبيان الرياضة البدنية بألوانها والموسيقى والأدب والقراءة والكتابة. وكانت عناية الإسبرطيين بالرياضة البدنية الشاقة شديدة، بينما اتجهت أنظار الأثينيين إلى الموسيقى والأدب. ومناهج التعليم في الدولة الرومانية كانت تشبه إلى حد كبير ما عند اليونان؛ لأن الدولة الرومانية ورثت حضارة اليونان وثقافتها. هذه المناهج كانت تلائم البيئة الاجتماعية في ذلك العصر. وهي مناهج تلائم الطبقة الأرستقراطية، وتتفق مع انقسام الدولتين إلى طبقات فيها الأشراف والعامة. أما العامة فكانوا بعيدين عن التعليم لا يلحقهم نوره، أما أبناء الأشراف فكانوا يهيئون لهذه الحياة الخاصة بما فيها من لهو وترف وزينة ومتاع. ولم تكن هناك مدارس بالمعنى الصحيح، بل كان الغالب اتصال الطفل بمعلم خاص.
وإلى عهد المسيحية الأولى كانت جميع المدارس لا دينية. وكان الأطفال يعلمون القراءة في كتب مملوءة بالميثولوجيا. لذلك كان من الخطر على أبناء المسيحيين أن يتأثروا بما في تلك الكتب من آراء تخالف الدين. واستمر الصراع بين المسيحية والوثنية شديدا، وتأثرت البرامج الدراسية بالنظام الروماني وبالكنيسة معا. فقد كانت المعرفة باللاتينية ضرورية لفهم الإنجيل في الترجمة المقبولة التي قام بها سانت جيروم. ثم أصبحت المعرفة باليونانية ضرورية أيضا.
4
ولما انتصرت المسيحية كان الأطفال يلحقون بالمدارس الكنسية، يتعلمون فيها القراءة والكتابة والموسيقى الكنسية وبعض الحساب.
5
فالخلاف في البرامج الدراسية عند المسيحيين عما كان عند الرومانيين ناشئ عن الخلاف في الحياة الاجتماعية؛ حيث اتخذ الدين مكان الوثنية.
ووظيفة المنهج تحقيق أغراض التعليم . وللمنهج وظائف ثلاث: (1)
إبراز القيم الاجتماعية في شعور الفرد. (2)
حفز المواهب الفردية إلى النمو. (3)
إعداد الفرد للحياة الاجتماعية.
6
وهذه الوظائف كلها ترمي إلى نتيجة واحدة هي إعداد الفرد للحياة الاجتماعية.
فإذا ألقينا نظرة سريعة على المنهج الذي وضعه القابسي لتعليم الصبيان، نجد أنه متأثر بالبيئة الاجتماعية للمسلمين في ذلك العصر، وأنه يهيئ الصبيان للحياة الاجتماعية المستقبلة، وذلك ببيان قيمة العلوم والواجب معرفتها إلى نظر الصبيان، وإبراز وجه أهميتها وضرورتها في عقولهم، ثم تنمية المواهب الفردية التي تلائم المطالب الاجتماعية.
والبيئة الاجتماعية في عصر القابسي كانت بيئة دينية خالصة. لذلك نجد المنهج الدراسي يدور حول محور الدين، ويهيئ الصبيان لهذه الحياة الدينية.
وينقسم المنهج الذي ذكره القابسي إلى قسمين: إجباري واختياري. فالعلوم الإجبارية هي: القرآن، والصلاة، والدعاء، وبعض النحو والعربية والقراءة والكتابة. والعلوم الاختيارية هي: الحساب، وجميع النحو والعربية، والشعر، وأيام العرب وأخبارها.
هذا المنهج المتبع في القرن الرابع الهجري هو الذي كان متبعا في القرن الثالث أيضا كما جاء في كتاب محمد بن سحنون. ولا حاجة بنا إلى بيان أن المنهج على هذا النحو هو الذي كان متبعا في الكتاتيب الإسلامية منذ نشأتها. وأنه ظل متبعا إلى عهد قريب جدا في الكتاتيب في شتى الأقطار الإسلامية. بل تستطيع أن تجزم إذا وجدت كتابا في أي قطر إسلامي أن ما يدرسه الصبيان في هذا الكتاب لا يختلف اليوم عما كان يدرس منذ ألف عام.
أما الخلاف الذي ذكره ابن خلدون في طريقة التعليم فهو خلاف في المظهر لا الجوهر. فبعض الأقطار كان يقدم تعليم الخط على تعليم القرآن، والبعض الآخر كان يبدأ بتحفيظ القرآن، يصحبه تعليم الخط أو يتأخر عنه قليلا. أما الجوهر الثابت الذي لم يلحقه التغيير منذ ظهور الكتاتيب حتى عصور متأخرة، بل حتى العصر الحاضر، فهو تعليم القرآن والصلاة، وما يصحب ذلك من معرفة القراءة والكتابة وبعض النحو والعربية.
ففي القرن الثامن الهجري، نجد الحافظ ابن رجب البغدادي يصف المنهج على النحو الآتي: «فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم في مسائل الحلال والحرام والزهد، والرقائق والمعارف وغير ذلك.»
7
ولا نزال في العصر الحاضر، في مصر وفي الأقطار العربية الأخرى، نشهد هذا اللون من التعليم في الكتاتيب. وقد سجل الدكتور طه حسين في كتابه (الأيام) صورة واضحة لحياة الكتاب في العصر الحاضر لا نعتقد أنها تختلف عن تلك التي كانت جارية في عصر القابسي.
والمشاهد الآن
8
في مصر وجود نوعين من التعليم الأولي، يسيران جنبا إلى جنب: النوع القديم الذي يعتمد على تعليم القرآن والكتابة في الكتاتيب، والنوع الحديث الذي يضيف إلى جانب ذلك مبادئ الحساب ومبادئ العلوم.
وسينتهي الأمر بالكتاتيب القديمة إلى الزوال عندما يطبق التعليم الإلزامي عن طريق الدولة، فيزول آخر مظهر من مظاهر القديم.
هذا التحول الجديد دليل على تغير الحياة الاجتماعية، ودليل على مسايرة الشرق للحضارة الحديثة، والتقدم العالمي السريع.
على أن ثبات المنهج الدراسي هذه الفترة الطويلة من الزمان يحتاج منا إلى تفسير؛ فالعلة في هذا الثبات ترجع إلى سلطان التقاليد على المنهج، والخضوع للتراث الموروث. وتأثير التقاليد الميل بالمنهج إلى المحافظة، والنصوص الثابتة هي التي تحفظ المنهج.
9
والقرآن نص المسلمين الثابت، وكتاب الله لا مبدل لكلماته.
وستبقى برامج تعليم الصبيان عند المسلمين ثابتة، ما دام المسلمون متمسكين بدينهم وكتابهم، إلا إذا اكتفى الناس بقدر يسير من الدين، حتى يفسح المجال لدرس العلوم الحديثة كما هو واقع الآن.
أما القابسي فإنه لا يقبل التهاون في تعليم القرآن، ويستعيذ بالله: «أن يتفق المسلمون على ترك القيام به، ولو كان كذلك لكانت الهلكة المبيرة، فأعوذ بالله من غضبه، ومن أن ينتزع كتابه من صدور المؤمنين.» 31-ب.
هذه البيئة الدينية المستغرقة في الشعور الديني قد تغيرت الآن حتى بلغت حد التقابل في بعض الممالك الغربية، التي خلعت رداء الدين، وعادت بالمدارس إلى اللا دينية المطلقة. وهذا الاتجاه الحديث يحمل روح الثورة على التقاليد، فلا ندري أتفلح هذه الثورة فيلغى الدين، أم تنتصر المبادئ الروحية على الموجة المادية الطاغية فيعود الدين إلى مكانته.
وإننا نسوق هذه المشاهدات والوقائع من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب، لنبين أن مناهج التعليم تستمد وجودها من التيارات الفكرية التي تسود المجتمع.
وقد كانت البيئة الاجتماعية في عصر القابسي بيئة دينية بعيدة عن الروح المادي والنزعة الإلحادية، ولهذا ليس من الغريب أن يكون القرآن والصلاة وما يتصل بالقرآن من علوم ضرورية لفهمه، أول ما يتجه الناس إلى تعليمه لأبنائهم. والقابسي يؤيد هذه الطريقة ويقرها ويطالب بدوام الاستمرار عليها. (2) العلوم الإجبارية في المنهج
القرآن هو أول العلوم التي ينبغي أن يدرسها الصبيان، بل هو المحور الذي يدور عليه التعليم في الكتاتيب.
ووجه الضرورة في تعليم القرآن عند القابسي، وعند غيره من الفقهاء، ترجع إلى أسباب كثيرة: القرآن كلام الله، وقد حث الله العباد على تلاوته على غير آية، ذكر بعضها القابسي، مثل:
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (فاطر: 29). وهنا نرى الجمع بين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، والإحسان، وهي أهم واجبات المسلم.
والقرآن مرجع المسلمين في معرفة العبادات والمعاملات، ولا سبيل إلى معرفة الحدود الشرعية الصحيحة للديانة إلا بمعرفة الأصل الأول من أصول الدين، وهو القرآن.
إلى جانب ذلك، فإن الصلاة، وهي ركن مهم من أركان الدين، لا تتم إلا بقراءة شيء من القرآن فيها، فمعرفة القرآن ضرورية لأداء الصلاة المفروضة. وأقل جزء من القرآن تصح به الصلاة عند المالكية هو الفاتحة.
قال الدردير في (شرح مختصر خليل في فقه المالكية): «وإن كانت الفاتحة من فرائض الصلاة، فيجب على كل مكلف تعلمها إن أمكن بأن قبل التعلم، ولو في أزمنة طويلة وأيام كثيرة. ويجب عليه بذلك وسعه في تعلمها إن كان عسير الحفظ في كل الأوقات إلا أوقات الضرورة، ووجد معلما ولو بأجرة.»
10
وللقرآن فضائل كثيرة، وللنبي أحاديث تفيض بهذا الفضل، مثل: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه.» وفي ذلك حث على تعلمه وتعليمه. وقد أطال فقهاء المسلمين الذين كتبوا في التربية في ذكر فضائل القرآن، وألف بعضهم كتبا منفصلة ورسائل خاصة في هذا الموضوع.
وقد انتهى الأمر بالفقهاء إلى فرض تعليم القرآن، فقال صاحب (مفتاح دار السعادة): «اعلم أن حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة لئلا ينقطع عدد التواتر فيه، فلا يتطرق إليه التبديل ولا التحريف. وتعليمه أيضا فرض؛ وهو من أفضل القرب؛ ففي الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».»
11
والقابسي وبعض من الفقهاء يبدءون في المنهج بتعليم القرآن، وكانت هذه هي العادة المتبعة. وقد أراد أحد العلماء وهو أبو بكر بن العربي أن يؤخر تعليم القرآن، وأن يبدأ الصبي بتعلم الشعر والعربية ثم الحساب، فأنكر عليه ابن خلدون ذلك قائلا: «وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه، وهي أملك بالأحوال. ووجه ما اختصت به العوائد من تقديم دراسة القرآن إيثار التبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن.»
12
وقد جرت العادة أن يتعلم الصبيان جميع القرآن، ويعرف هذا بالختمة. على أن ختم القرآن لم يكن واجبا، فقد يكتفى بثلاثة أرباع أو ثلثي أو نصف أو ثلث أو ربع القرآن، حسب طاقة الصبي والظروف الخارجية الأخرى.
ويشترط القابسي في تعليم القرآن: حسن الترتيل، وجودة القراءة، وحسن الوقف، والأخذ عن مقرئ حسن؛ وهو ينصح بقراءة نافع.
أما تعليم الصلاة فهو فرض عين على جميع المسلمين، كما ذكر الفقهاء الذين قسموا الفرض قسمين: فرض عين وفرض كفاية. ولذلك قال القابسي: ينبغي للمعلم أن يعلمهم الصلاة إذا كانوا بني سبع، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. ويلزمه أن يعلمهم الوضوء للصلاة، وعدد ركوعها وسجودها، والقراءة فيها، والتكبير والإحرام، والسلام. والقابسي لا يكتفي بتعليم الصلاة المفروضة، وإنما يذكر أنه: «ينبغي أن يعلمهم سنن الصلاة حتى يعلمهم دينهم، الذي هو تعبدهم الله عز وجل وسنة نبيهم.»
فالصلاة هي الواجب الديني المفروض على الذكور والإناث. وقد سمى النبي عليه السلام الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة .
13
ولا عذر في التخلف عن الصلاة. وفي ذلك يقول الإنبابي: «وأن لا يسامح (أي الصبي) في ترك الطهارة والصلاة ونحوهما.»
ومن الأمور التي يرى القابسي وجوب تعليمها الدعاء: «ليرغبوا إلى الله عز وجل، ويعرفهم عظمته وجلاله، ليكبروا على ذلك.»
والصلاة مع أنها عبادة فيها ركوع وسجود لا تخلو من الدعاء، وقد جمع الله بين العبادة والدعاء في فاتحة الكتاب قائلا:
إياك نعبد وإياك نستعين (الفاتحة: 5). فالجمع بين وجوب تعليم الصلاة والدعاء والقرآن ليس غريبا؛ لأن هذه الأمور الثلاثة تجمع بين الفكر والوجدان والعمل، وترمي إلى غرض واحد هو معرفة الله معرفة صحيحة كاملة، والإيمان به إيمانا صادقا، ولا يتم ذلك إلا بالعبادة والحمد والشكر والتسبيح، والالتجاء إليه بطلب الهدى والحرمة، وكشف المصيبة والغمة.
وحفظ القرآن يزيد في معرفة الإنسان لله، لما جاء فيه من آيات دالة على الوحدانية، دافعة إلى الإيمان الصحيح، وما فيه من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب، ووصف للجنة والنار، وما فيهما من نعيم وعذاب.
وفي الأثر أن الرسول كان يقرأ في الصلاة سورا طويلة بأكملها، كالبقرة وآل عمران والنساء؛ وعلى ذلك جرى الصحابة والتابعون. وقد كان القابسي أمينا على هذه السنة فقرر أن القرآن في الصلاة خير من القرآن في غير صلاة. لهذا لم يكن من الغريب أن يسعى الناس إلى تحفيظ أبنائهم القرآن بأكمله، تبركا به كما يقول ابن خلدون، وزيادة في القرب من الله على رأي القابسي.
على أن المعرفة الصحيحة للقرآن تستلزم العلم بالنحو لإعراب الكلمات إعرابا صحيحا، والعلم باللغة العربية لفهم معاني القرآن، والعلم بالهجاء والخط لكتابته والنطق به صحيحا.
والإعراب يميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين.
14
وذكر القابسي عن ابن وهب: «أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك.» 46-أ.
وقد نص الله في أول سورة نزلت على فضل القلم والكتابة فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 1-5). فنبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة. ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا.
15
فالنحو والعربية والخط من «معاني التقوية على القرآن.» 43-أ. وتعليمها واجب على المعلم كما نقل القابسي عن ابن سحنون: «فإنه ينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن، ذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن.»
والاهتمام بحسن الخط كان عادة جارية في بلاد المغرب، وهو يدل على تذوق الجمال، والعناية بالكمال والإتقان. ولا ننسى أن المسلمين كرهوا بل حرموا تصوير ذي الروح لما فيه من تشبيه بالوثنية، ولهذا السبب اتجه الروح الفني عندهم إلى الزخرفة الهندسية، والبراعة في رسم الخط على أشكال مختلفة جميلة. والآيات القرآنية المسطورة على جدران المساجد شاهد على الإبداع في الفن. لهذا حلت العناية بحسن الخط في برامج الدراسة الإسلامية محل الرسم والتصوير عند غير المسلمين.
ويرى ابن خلدون أن حسن الخط يتصل بالحضارة، ورداءته بالبداوة: «لذلك كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع.» ثم ترقت الخطوط لما استبحر الإسلام في العمران ... «وكان الخط البغدادي معروف الرسم، وتبعه الإفريقي ويقرب من أوضاع الخط المشرقي، وتميز صنف الخط الأندلسي.»
16
والإجادة في الخط، والحذق في رسم الحروف طبقا لقوانين وأشكال متعارفة، مما يؤدي إلى ضبط القراءة والبعد عن التحريف. ولا تخفى أهمية ذلك في قراءة القرآن خاصة؛ لأن التبديل في كلمات القرآن مما يأباه الدين وينهى عنه. فإذا صارت الخطوط مائلة إلى الرداءة، بعيدة عن الجودة «صارت الكتب إذا انتسخت؛ فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء والمشقة، لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف.»
17
وقال صاحب (الإتقان): «يستحب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها.»
18
ونذكر لهذه المناسبة أن: «أهل المشرق لا يعلمون الصبيان الخط في المكاتب بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراد، كما تتعلم سائر الصنائع. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة.»
19
من الطبيعي إذن أن ينص المنهج الإجباري على تعليم القرآن والصلاة والدعاء والكتابة والنحو وبعض العربية، فكلها ترمي إلى غاية واحدة هي معرفة الدين والعبادات مما هو مفروض على المسلمين كافة. (3) العلوم الاختيارية في المنهج
العلوم الاختيارية هي الحساب، والشعر، وأيام العرب وأخبارها، وجميع النحو والعربية.
ومن الواضح أن هذه العلوم تختلف عن سابقتها في بعدها عن الصفة الدينية؛ وإذا كان بعض النحو والعربية مما يجب درسه، فإن هذا البعض ضروري لفهم الدين. أما جميع النحو وجميع العربية، فمما يعتبر خروجا على الغاية الدينية إلى غاية أخرى.
ولذلك كره أحمد (وهو الإمام أحمد بن حنبل) التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك، وقال: هو يشغل عما هو أهم منه.
20
وفي الحديث: «تعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا.»
21
ومن الطبيعي الاقتصار في المنهج على قدر من العلوم دون القدر الآخر، واختيار علوم معينة وإهمال باقي العلوم، إذ لا يخفى أن الأمم التي تضرب في الحضارة وترتفع في المدنية، تتعدد عندها المعارف والصنائع، ولا يستطيع الفرد الواحد الإحاطة بها جميعا. واختيار المنهج المناسب للطفل من بين هذا الحشد من المعرفة النظرية والعملية يتوقف على الغاية من التعليم، وعلى حاجة المجتمع، وعلى طبيعة الطفل.
ولكن المبدأ المسلم به عند جميع علماء التربية، هو الاقتصار في المنهج على بعض العلوم دون البعض الآخر.
قال المأمون يصف العلوم ويحث على التخصص: «ولو قلت إن العلم لا يدرك غوره، ولا يسبر قعره، ولا تبلغ غايته، ولا يستقصى أصنافه، ولا يضبط آخره، فالأمر على ما قلت. فإذا كان الأمر كذلك فابدءوا بالأهم فالمهم، وابدءوا بالفرض قبل النفل.»
22
وأهمية العلوم مسألة اعتبارية، تتوقف على الغرض المنشود والمطالب الاجتماعية، ونوع الإعداد المطلوب.
فعلم الملوك: النسب والخبر وجمل الفقه. وعلم التجار: الحساب والكتاب. وعلم أصحاب الحرب: درس كتب المغازي وكتب السير.
23
ولكن القابسي لا يريد أن يعلم ملوكا أو تجارا، أو قادة حرب وساسة دول، إنما يريد أن يعلم أبناء المسلمين لينشئوا على الإسلام، ولا يعنيه ماذا يصيرون فيما بعد.
فالمنهج الذي يذكره يخص جميع الصبيان في السن التي تسبق التخصص، سواء استكمل الصبي التعليم، أو انقطع عنه وتوجه إلى احتراف صناعة يكسب منها معاشه.
وقد يتطرق إلى الذهن أن تعليم الحساب لا صلة له بالدين. فعلماء التربية في العصر الحاضر ينصون على تعليم الحساب، إما لفائدته العملية في الحياة، وإما لقيمته في التدريب على التفكير الصحيح؛ لأن الرياضة علم العلاقات الضرورية المضبوطة.
أما فقهاء المسلمين فقد نظروا إلى الحساب من وجهة نظر دينية، وعندهم أن الحساب فرض كفاية، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها؛ وأما ما يعد فضيلة لا فريضة: «فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.»
24
ويذهب ابن رجب البغدادي مذهب الغزالي فيقول: «كذلك الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقين لها. والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقلها لا حاجة إليه، ويشغل عما هو أهم منه.»
25
فالغزالي وغيره يرون في معرفة الحساب مصلحة دينية. أما الجاحظ فإنه يرمي من معرفته إلى النفع الاجتماعي وضبط الحضارة والعمران. وفي ذلك يقول: «وأما القول في العقد وهو الحساب دون اللفظ والخط، فالدليل على فضيلته، وعظم قدر الانتفاع به قول الله عز وجل:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب (يونس: 5). والحساب يشتمل على معان كثيرة ومنافع جليلة. وفي عدم اللفظ، وفساد الخط، والجهل بالعقد فساد جل النعم، وفقدان جمهور المنافع، واختلال كل ما جعله الله عز وجل لنا قواما ومصلحة ونظاما.»
26
ولا ندري أأراد القابسي من تعليم الحساب المصلحة الدينية أم الاجتماعية أم كليهما معا. وأكبر الظن أنه يرمي إلى نفع الحساب في كمال المعرفة الدينية الصحيحة على مذهب الفقهاء وهو في ذلك يقول: «ينبغي أن يعلمهم (أي المعلم) الحساب، وليس ذلك بلازم له، إلا أنه يشترط عليه.» 44-أ.
وهذا يؤيد وجهة نظرنا القائلة بأن الغرض من تعليم الحساب عند القابسي هو المصلحة الدينية لا الاجتماعية. ولو كان الأمر غير ذلك لألزم تعليمه على الإطلاق، دون التعليق بشرط رضا الآباء.
وتعليم الشعر موضع جدل بين الفقهاء. وقد عرض القابسي هذا الجدال بين الأنصار والمعارضين، ثم رجح تعليمه على وجه الاختيار. فمالك وسحنون يأبيان تعليم الشعر بالأجر إذا لم يكن القصد تعليم القرآن والكتابة. وابن حبيب لا يرى بتعليم الشعر بأسا إلا أنه يكره من الشعر: «ما فيه ذكر الحمية والخنا أو قبح الهجاء.»
وقد اعتمد القابسي في تعليم الشعر على أحاديث للرسول: منها: «إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبحه قبيح.» ومنها: «إن من الشعر لحكمة.» وقد شك القابسي في رواية الحديث الأول، ثم أثبت حديثا ثالثا لم يشك في نسبته إلى النبي، وهو: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا.» وقد فسر القابسي هذا الحديث بأن يكون الشعر غالبا على الإنسان حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن.
ومن الفوائد التي يجنيها من يحفظ شيئا من الشعر أنه: «يقيم لسانه ويفصحه ويأنس إليه في بعض الأوقات، ويستشهد به فيما يريد بيانه.» 45-ب.
وقد عابوا على العرب إهمال الفنون في مناهج التعليم، وها نحن نرى القابسي يطلب تعليم الشعر، وهو لون من ألوان الفن. ولم يغب عن نظر القابسي قيمة الشعر الفنية وأثرها في النفس الإنسانية. ذلك أن الإحساس بالجمال، وتذوق الفن، من عوامل الراحة النفسية، أو الأنس على حد قول القابسي. وقد رأينا هذه النزعة المتجهة نحو الفنون الجميلة بادية في العناية بحسن الخط، ونحن نراها الآن في تعليم الشعر، وهو نوع من الأدب، وفرع من الفن.
وقد دار مثل هذا الجدل في العصر الحاضر حول قيمة الفن في التعليم، وفي الحياة، وهل الأهم العلوم الطبيعية أو الأدبية أو الفنية، وأثر كل ذلك في تربية الأطفال .
ويرى دوركهيم
27
أن حب الفنون الجميلة وتذوق الجمال، مما يؤدي إلى تحرر المرء من نفسه، فيخفف عنه عبء الحياة. فالفن سبيل إلى الراحة النفسية لأنه يخفي عن العين مشاغل الحياة اليومية.
ولكن ميدان الفن هو الخيال لا الحقيقة. وجمال الآثار الفنية مستمد من إحساس الفنان لا من حقائق الأشياء. ولذة الفن ناشئة عن تأثيره في الخيال لا في الحواس والعقل. ويحرك الفن الخيال إلى العمل، والخيال أكثر العمليات النفسية مرونة وأقلها جمودا. لهذا كان ميدان الفن بعيدا عن عالم الحقيقة بينما عالم الأخلاق هو الحقيقة نفسها. وهنا ينتهي دوركهيم إلى هذه النتيجة وهي أن الفن والأدب لا يصلحان أساسا للسلوك والعمل.
وقد انتهى سبنسر إلى نفس هذه النتيجة، ولهذا يجعل أساس السلوك في الحياة تعليم العلوم الطبيعية؛ لأنها تعرفنا حقائق الأشياء على الوجه الصحيح.
28
وقد أشار القرآن إلى ابتعاد الشعر عن عالم الحقيقة قائلا:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون (الشعراء: 224-226).
ومع ذلك فالتمييز الحاد بين الفن والعلم، والحقيقة والخيال «فيه كثير من الافتعال؛ لأن الحقيقة والخيال قطعة واحدة في عقل الإنسان؛ والفن جهد للتعبير بطريقته الخاصة عن أغوار الحقيقة وما فيها من أعماق.»
29
وقديما وحد أفلاطون بين الحق والخير والجمال في المثال الأول.
وقد كان الغرض الأول الذي يرمي إليه القابسي هو تهيئة الأطفال إلى معرفة الخير أولا وقبل كل شيء، وذلك عن طريق الفن. ولا بأس عنده بقدر من الفن الجميل إذا كان هذا القدر لا يتعارض مع معرفة الخير والعمل به.
ولهذا لم يقف القابسي في سبيل تعليم الشعر، بل نصح منه بمقدار.
ومن العلوم الاختيارية التي لا يرى القابسي ما يمنع تعليمها: «أيام العرب وما أشبه ذلك من علم الرجال وذوي المروءات.» 44-ب.
هذه المادة تعرف في المناهج الحديثة بعلم التاريخ السياسي.
وبعض علماء التربية يقدمون علم التاريخ في الأهمية بالنسبة للطفل على العلوم الطبيعية؛ لأنه أكثر مساسا بمشاعر الأطفال، وألصق بخيالهم، وأنفع في المعرفة بالماضي وما له من صلة وثيقة بالحاضر.
والطفل جزء من الحياة يتحرك في العالم الخارجي المحيط به، وسلوكه في هذا العالم استجابة للمؤثرات الخارجية؛ وهذه الاستجابة نتيجة فهم العالم وإدراك الأشياء. والعالم الخارجي بالنسبة إلى الطفل هو عالم الأشياء وعالم الإنسان. ولا بد لمن يعيش في هذه الحياة من إدراك الأشياء وحقائقها، ومعرفة الإنسان وطبائعه.
روسو وسبنسر وغيرهما ممن يبدءون بتعليم الأطفال العلوم الطبيعية يجعلون تاريخ الإنسان في المحل الثاني.
فدراسة التاريخ على أي الحالات من العلوم اللازمة لتثقيف الطفل.
والقابسي يريد من تعليم التاريخ أن يكون محركا لهمم الأطفال نحو أعمال البطولة، وباعثا لهم على أفعال الخير. والغرض من علم الرجال التشبه بالأبطال، والتشبه بالرجال من الكمال. والغاية من سير ذوي المروءات القدوة في السبق إلى الخيرات.
والمحاكاة فطرة نفسية تدفع الأطفال إلى تقليد الأعمال من غير قصد أو شعور.
وذكر الإنبابي «أن تعلم الطفل القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم، لينغرس في نفسه حب الصالحين.» وهذا المؤلف يقصر فائدة التاريخ على ناحية واحدة هي ناحية الصلاح والخير.
وتعليم السير وحكايات الأبرار وأيام العرب وأخبارها، زيادة فضل على ما جاء في القرآن من قصص الأمم السالفة وأخبار الأولين، ففيه من تاريخ الغابرين الشيء الكثير. وقصص القرآن يرمي إلى غاية دينية وخلقية، فالظلم والفساد مما يؤدي إلى الهلاك، والله هو الذي يصب على المفسدين أسواط العذاب، إن ربك لبالمرصاد. (4) نقد منهج القابسي
إذا نظرنا إلى المنهج الذي وضعه القابسي في ضوء التربية الحديثة، أخذنا عليه أمرين: الأول أنه يغفل نفسية الطفل ومراعاة مراحل نموه، والثاني إهمال العلوم الطبيعية والرياضة البدنية.
ولا يعاب القابسي إذا كان قد أغفل اعتبار الحياة النفسية للأطفال، فهو عيب العصر كله في الشرق والغرب. ذلك أن علم النفس الحديث لم يتحرر من الفلسفة إلا في عصر متأخر جدا، فقد انصرف العلماء إلى البحث عن النفس لا عن مظاهرها ، ولم يعنوا بتقييد الأحوال النفسية تقييدا كاملا صحيحا يكون أساسا لتفسير سلوك الإنسان. وإلى جانب ذلك أخطأ جميع الأقدمين في نظرهم إلى الأطفال نظرهم إلى الكبار. ويرجع الفضل في تصحيح الموقف من الطفل، وبيان أن حياته النفسية تختلف عن حياة البالغين، إلى روسو في القرن الثامن عشر؛ ويعتبر كتابه (إميل) نقطة التحول في التربية الحديثة.
ومع ذلك فاحترام ميول الطفل ونزعاته عند وضع المنهج الدراسي، مما يصعب تنفيذه. فالطفل إلى سن السادسة بل السابعة يميل إلى اللعب والحركة، فهل نتركه في لهوه الحر لا نعلمه القراءة والكتابة؟ ومن من الأطفال يحب التقيد أمام الألواح والأوراق ليخط الحروف ويركب الكلمات؟ فالمجتمع يريد من الطفل حين يكبر أن يكون قد تعلم الكتابة حتى يفرغ إلى معرفة باقي العلوم التي اتسعت دائرتها إلى حد كبير مع تقدم الحضارة السريع.
أما القول بتعليم الأطفال الكتابة والقراءة عن طريق اللعب والتشويق كما هو الحال في رياض الأطفال، فهو قول ينصب على الطريقة لا على المنهج الدراسي.
ومهما يكن من شيء فالطفل لا يدرك، ولا يستطيع أن يعرف قيمة هذه العلوم المختلفة التي يلقنها، حتى نقول إن قيمة الشيء هي التي تجتذبه إلى الإقبال عليه بالرغم من تعارضها مع ميوله. فهو إذن يدرس العلوم المختلفة رغم أنفه.
إننا نقدم العلوم إلى الطفل كما نقدم إليه الدواء، فهو لا يحب الدواء ولا يدرك نفعه في الشفاء، وقيمته في جلب الصحة والعافية، وإنما يدرك شيئا واحدا هو أنه لا يميل إلى الدواء ولا يريد تناوله. ويصطنع الآباء الحيلة في تقديم الدواء، بدسه مع الحلوى، أو الوعد بعمل شيء مما يميل إليه الطفل، أو إرغامه في آخر الأمر على شرب الدواء بالعنف.
ورياض الأطفال كالحلوى من الدواء.
فالطفل يريد شيئا، والمجتمع يريد له شيئا آخر. والمجتمع هو الذي ينتصر آخر الأمر، فيهيئ للطفل ما ينبغي أن يتعلمه، والدليل على ذلك اختلاف المناهج باختلاف الأمم.
وكانت إرادة المجتمع في عصر القابسي أن يتعلم الطفل القرآن وما يمت إلى القرآن بصلة . وكم يفرح الأب عندما يختم ابنه القرآن، فيقدم إلى معلم الكتاب الهدايا جزاء الختمة، حتى لقد أصبح أجر الختمة واجبا على الآباء. فالآباء أنفسهم (أو الشعب على الاصطلاح الحديث) كان يطالب بتعليم القرآن، ولا يغتفر التهاون في ذلك.
ولم يكن تعليم القرآن رأي الشعب ونصيحة الفقهاء من علماء التربية فحسب، وإنما كان رأي الفلاسفة أيضا. فهذا ابن سينا يقول: «فإذا اشتدت مفاصل الصبي، واستوى لسانه، وتهيأ للتلقين، أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء، ولقن معالم الدين، وإذا فرغ الصبي من تعلم القرآن وحفظ أصول اللغة نظر عند ذلك إلى ما يراد أن تكون صناعته فوجه لطريقه.»
30
وليس لنا أن نعجب من رأي ابن سينا فهو القائل في سيرة حياته: إنه ختم القرآن، وأتى على كثير من الأدب، وهو ابن عشر سنين.
ولم تبدأ دراسة العلوم الطبيعية إلا من عصر النهضة. وقد درج الأقدمون على احتقار الصناعة لأنها مخصوصة بالعبيد، أما الأشراف فلا يليق بهم إلا الاشتغال بالأعمال العقلية. كانت الحال كذلك عند اليونان كما كانت عند العرب. ثم إن تجارب المعامل وهي الأساس في كشف العلوم الطبيعية كانت تحوطها الأسرار ويغمرها السحر والشعوذة، ويهاجمها الجمهور باعتبار أن أصحابها يشتغلون بالكيمياء مما يرادف السحر في ذلك الزمان. لهذا انصرف العلماء عن البحوث التجريبية خشية التعرض لغضب الجمهور، واحتقار المجتمع، وامتهان الكرامة الشخصية.
وظهر «بيكون» في القرن السابع عشر فشق طريق التجريب أمام العلماء، ووصف طريقة الاستقراء، ونصح بالنظر في كتاب الطبيعة. ونادى روسو بنفس المبدأ وهو القراءة في كتاب الطبيعة المفتوح، لا في بطون الكتب المحبرة على الأوراق.
وهذه دعوى جديدة تطالب أولا بمعرفة الأشياء الخارجية المحيطة بالإنسان أو عالم الطبيعة، وتطالب ثانيا أن تكون الطريقة لهذه المعرفة المشاهدة والاستقراء والتجريب.
ثم استقرت المناهج الحديثة وعلى رأسها دراسة العلوم الطبيعية.
هذا التحول في المناهج ناشئ عن التطور الذي لحق المجتمع، وأهم ما يمتاز به هذا التحول الانصراف إلى عالم المادة، والنظر في سفر الطبيعة، لتسخير القوى الكامنة في أرجاء الأرض لمصلحة الإنسان.
ولم ينه القرآن عن النظر إلى الطبيعة، بل حث الإنسان على التأمل في المخلوقات في أكثر من آية، حتى يصل الإنسان من معرفة أمور الطبيعة إلى عظمة الخالق ووجوده. ولكن المسلمين لشدة غيرتهم على الدين، وخوفهم من التحول عنه، وجدوا من السلامة الابتعاد عن البحث في الطبيعة حتى لا يصرفهم ذلك عن الإيمان والعبادة.
ومن الذين هاجموا العلوم الطبيعية هجوما عنيفا، وصرفوا الناس عن دراستها الغزالي؛ للعلة التي ذكرناها قال: «الطبيعيات بعضها مخالف للشرع والدين والحق، فهو جهل وليس بعلم حتى يورد في أقسام العلوم. وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها وهو شبيه بنظر الأطباء ... وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها. فإذن الكلام كان من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية، حراسة لقلوب العوام عن تخييلات المبتدعة، وإنما حدث ذلك بحدوث البدع.»
31
فإذا كان القابسي لم يوجه الاهتمام إلى العلوم الطبيعية بل أهملها الإهمال التام؛ فذلك لأن حفظ القرآن وتعلم الكتابة والنحو والعربية يستغرق كل وقت الصبيان فلا يتسع بعد ذلك لأي نوع من الدراسة. يضاف إلى ذلك أن الفقهاء كانوا ينظرون بعين الريبة إلى العلوم الطبيعية، والجمهور على هذا الرأي أيضا.
فإذا التمسنا العذر في نقص المنهج من درس الطبيعة، فلا عذر عن التخلف بالاهتمام بالرياضة البدنية. وإننا لنجد السلف في صدر الإسلام يعنون بألوان الرياضة التي تطبع الأطفال على الحركة وتبعث فيهم القوة والحياة والصحة؛ والنصائح كثيرة تدعو إلى الاهتمام بالرماية والسباحة وركوب الخيل.
وإهمال مثل هذا التدريب في الكتاتيب يرجع إلى أسباب: منها أن معلم الكتاب فقيه تخصص في العلوم الدينية، ويعمل على تحفيظ الصبيان القرآن والكتابة وليست صناعته الرماية والسباحة.
ولا يخفى أن الكتاب كان مكانا متواضعا لا يزيد على حجرة أو حانوت في داره، يجلس للتعليم فيه معلم واحد في الغالب. فلم تكن هناك مدرسة خاصة، ذات بناء مما تمتاز به المدارس، وفيها فناء يلعب فيه الصبيان ويتسع لهذه الحركات الرياضية المطلوب تعلمها.
وكانت الغاية القصوى من طلب العلم معرفة الله، والتطبع على الدين القويم والأخلاق الفاضلة، فصرفت الغاية الدينية أنظار الفقهاء عن الغايات الدنيوية.
وصحة الأبدان لازمة على كل حال، ولكن الرياضة البدنية لا ترمي إلى صحة البدن فحسب، بل إلى قوته وجماله ورشاقته، وهذه الغايات مما لا يدخل عند الفقهاء في حساب. (5) اليوم المدرسي والأسبوع الدراسي
أحوال الدراسة في الكتاتيب، واختيار الصبيان، وتوزيع المنهج على اليوم المدرسي وبطالة الصبيان، كل ذلك مستمد من الغاية من التعليم، وطبيعة المنهج، والحالة الاجتماعية.
فالأسبوع الدراسي يبدأ في صباح السبت، وينتهي في عصر الخميس. وبذلك يكون يوم الجمعة بطوله من أيام العطلة. «فدراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إياها على معلميهم في عشي الأربعاء وغدو الخميس إلى وقت الكتابة. والتخاير إلى قبل انقلابهم نصف النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر إلى الكتاب، والخيار إلى العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يبكرون فيه إلى معلميهم.» 60-ب.
من هنا يتضح أن القابسي كان يعتبر الأسبوع وحدة تعليم، يراقب فيها المعلم أعمال الصبيان، ويقف عند آخر الأسبوع وقفة قصيرة ليرى مبلغ ما حصلوا.
ويدرس الصبي خلال هذا الأسبوع القرآن والكتابة وسائر العلوم الأخرى المذكورة في المنهج.
وتوزيع هذه العلوم على اليوم المدرسي يجري كالنظام الآتي: (1)
يدرس الصبيان القرآن من أول النهار في وقت مبكر حتى الضحى. (2)
يتعلمون الكتابة من الضحى إلى الظهر. (3)
ينصرف الصبيان إلى بيوتهم لتناول الغذاء ويعودون بعد صلاة الظهر. (4)
تدرس بقية العلوم كالنحو والعربية والشعر وأيام العرب والحساب، من بعد الظهر إلى آخر النهار.
فأول شيء يبدأ الصبي بدراسته القرآن؛ لأنه أهم العلوم، وأكثرها قيمة في المنهج، وهو المقصود من التعليم.
وكانت العادة أن ينصرف الصبيان إلى بيوتهم لتناول الغذاء. ذلك أن الكتاب مكان متواضع لا يشبه مدارس الدول الحديثة التي تقوم بالإنفاق على التعليم، وتنشئ أبنية مخصوصة للمدارس مجهزة بالمطاعم، وتعنى بإطعام التلاميذ.
والغالب أن الكتاب كان يقع قريبا من بيوت الصبيان، حيث كانت المدن صغيرة الحجم لا تبلغ من الاتساع ما هي عليه الآن.
وقد أوصى القابسي المعلمين بعدم حرمان الصبي الانصراف إلى بيته لتناول الطعام، مع التنبيه عليه بسرعة العودة. ونستطيع اعتبار فترة الظهر راحة من التعليم.
وبطالة يوم الجمعة الغرض منها راحة الصبيان؛ ويوم الجمعة معظم عند المسلمين كما جرت به العادة.
وبطالة الأعياد تجري حسب العرف أيضا، فقد تكون يوما واحدا في عيد الفطر، وقد تبلغ ثلاثة أيام في عيد الأضحى، وقد تصل إلى خمسة. وكذلك الشأن في باقي الأعياد التي اصطلح الناس على البطالة فيها.
ويؤذن في بطالة الصبيان من أجل الختم يوما أو بعض يوم، إجلالا لهذا الحادث المبارك في تاريخ الصبي، حيث يصبح بعده من حملة كتاب الله.
وقد نبه الفقهاء إلى وجوب الراحة في التعليم وأثر ذلك في الصبي، كما قال الإنبابي: «وإلا كان متسببا في موت قلبه وإبطال ذكائه، وتنغيص عيشه حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا.»
32
والتربية الحديثة تهتم بأوقات الراحة. ولكن هذه الأوقات ومدتها وموضعها من اليوم المدرسي تستند إلى التجارب العلمية التي أجريت على التعب في علم النفس. (6) الفصل بين الذكور والإناث في التعليم
وقد اقتصرت الكتاتيب على الذكور دون الإناث، وفي ذلك يقول سحنون: «أكره للمعلم أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهن.» 57-أ.
وهذه القضية قديمة وحديثة. وقد استقر الرأي الآن في دول الغرب بعد البحث الطويل والمشاهدات الاجتماعية المستندة إلى الواقع على الجمع بين الجنسين في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ثم الفصل بينهما في مرحلة التعليم الثانوي. ويعود الاختلاط في الجامعة.
ومرحلة التعليم الابتدائي تصل إلى سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة أي قبل البلوغ، خصوصا في دول الغرب التي تتأخر فيها سن البلوغ لبرودة الجو والفصل بين الجنسين بعد هذه المرحلة، في العصر الحديث الذي بلغت فيه حرية المرأة حدا لم تصل إليه من قبل، يدل على ما يتم بينهما من فساد إذا تركت الصلة بينهما مطلقة من غير رقابة.
وفي عصر القابسي كان بعض الصبيان يستمرون في الكتاب إلى سن الاحتلام، ولهذا خشي على الإناث الفساد.
ولم يكن الخوف مقصورا على إفساد الإناث مما دعا إلى إبعادهن من الكتاب، بل شمل الخوف الغلمان أيضا، ولهذا نص على الحذر من إفساد الغلمان بعضهم بعضا: «إذا كان فيهم من يناهز الاحتلام.» 57-أ، مما يخشى معه الفساد.
وقد أشار القابسي إلى الرذائل الجنسية إشارة خاطفة دون التعمق في وصف العلاج الواجب في مثل هذه الأحوال، تاركا للمعلم حرية التصرف بحكمته وطريقته الخاصة في معالجتها.
على أن النهي عن تعليم البنت في الكتاب لا يعني أنها لا تتعلم. فقد ألزم القابسي من قبل تعليمها لضرورة معرفتها الدين والعبادات. وقد جرت العادة على تعليم البنات داخل الدور، والنساء الكاتبات والشاعرات اللاتي نجد ذكرهن في كتب الأدب أكبر دليل على انتشار التعليم بين النساء. فالعلة في منع البنات عن الذهاب إلى الكتاتيب ترجع إلى الغيرة على الأخلاق وحفظ الدين. (7) النهي عن تعليم غير المسلمين في الكتاتيب الإسلامية
ومما يلفت النظر النص على عدم تعليم أبناء النصارى في الكتاتيب، وكذلك تعليم أبناء المسلمين في المدارس النصرانية. فقد كره مالك أن يطرح المسلم ولده في كتاب النصارى، ووافقه في ذلك ابن وهب وسحنون وابن حبيب. سئل مالك: «هل يعلم المسلم النصراني؟ فقال: لا. وقال: لا أرى أن يترك أحد من اليهود أو النصارى يعلم المسلمين القرآن.» 47-ب.
وتعليل القابسي لذلك يرجع إلى الآية الكريمة:
إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون (الواقعة: 77-79). فالكافر نجس، ولذلك ينهون أن يعلموا الخط العربي والهجاء حتى لا يمسوا المصحف.» 48-أ.
هذه هي القاعدة الفقهية التي حكم بها مالك وأعلام مذهبه من بعده، وتبعهم القابسي على هذا الرأي وهو تحريم تعليم النصارى في كتاتيب المسلمين، وتحريم تعليم أبناء المسلمين في كتاتيب النصارى.
وليس لنا أن نعجب لهذين الحكمين، إذا أنزلنا الروح الديني الذي كان مسيطرا على المجتمع في ذلك العصر منزلة الاعتبار. فقد كان الدين شديد السلطان على النفوس، والقرآن محترما احتراما شديدا.
ونحن إذا رجعنا إلى المسلمين الأوائل نجد أن النبي هو الذي افتدى أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة، وهؤلاء الذين افتدوا أنفسهم بالتعليم من المشركين. وإذن فالنبي نفسه لم ير بتعليم المشركين أبناء المسلمين بأسا لحاجته إلى نشر الكتابة. ولما استقر الإسلام، ودخل الفرس والروم تحت راية المسلمين، لم يتحولوا إلى الإسلام دفعة واحدة. والمعروف أن كثيرا من المفكرين في صدر الإسلام أسلموا في الظاهر، وكانوا يحملون في باطن أنفسهم عقائدهم السالفة. وبعضهم ظل على النصرانية أو اليهودية أو المجوسية؛ وهؤلاء عرفوا القرآن ومنهم من كان يحفظه، والمؤكد أنهم عرفوا الخط العربي واللغة العربية، خصوصا عندما تم تعريب الأعاجم في آخر الدولة الأموية.
فمما لا شك فيه أن المسلمين في القرن الأول والثاني كانوا يقومون بتعليم هؤلاء القوم القرآن والكتابة في سبيل الدعوة الإسلامية، التي لا يمكن أن تتم إلا بالتعليم والتعلم.
والظاهر أن الدعوة لنشر الإسلام ركدت بعد القرن الثاني، واكتفى المسلمون بما وصلوا إليه من فتوحات، وما صحبها من انتشار الدين، ثم انعكفوا على تثبيت العقائد من الزيغ والزندقة، التي حاول اليهود على الخصوص أن يدسوها على المسلمين.
لهذا وجد الفقهاء من السلامة أن يقفوا في وجه النصارى واليهود، وأن يقيموا بينهم وبين الإسلام سدا منيعا يحول دون النيل منه بشر أو سوء، أو تغيير وتبديل، أو تحريف وتحويل.
هذا الموقف الجديد يختلف عن موقف المسلمين في صدر الإسلام؛ فهو موقف دفاع لا موقف هجوم. ذلك أنه بعد أن اقتحم المسلمون الأوائل قلوب النصارى وغزوا عقائدهم، واجتذبوا عقولهم ونفوسهم إلى الإسلام، إذا بالمسلمين في القرن الثالث والرابع يقفون موقف الدفاع عن أنفسهم وأبنائهم من هجمات النصارى واليهود وطعناتهم المسددة إلى العقائد الإسلامية.
واستمرت حالة المسلمين في هذا الموقف الدفاعي العاجز حتى العصر الحاضر، إذ بدأ الأزهر في مصر - وهو قلب الإسلام النابض - ينفض عن نفسه غبار الضعف، ويزيل آثار الضعة والخوف، وأخذ يشق الطريق من جديد لينشر الإسلام في دول بعيدة أشد البعد عن مصر كاليابان، وأرسل البعوث الأزهرية إلى شتى الدول التي تحتاج إلى أنوار الدين منافسا في ذلك المسيحية.
ودار البحث في ترجمة معاني القرآن. وترجم القرآن فعلا إلى كثير من اللغات الأجنبية، وهي ترجمات موجودة بين أيدينا على الرغم من عدم اعتراف بعض المسلمين بها.
ثم كان من أهم آثار النهضة الأوروبية الحديثة أن اهتم الغربيون بدرس العلوم الإسلامية فظهر المستشرقون، وألفوا الكتب الحديثة في شتى المعارف الإسلامية؛ ومنهم من يختص في علوم قرآنية صميمة كالقراءات والتفسير. وهؤلاء المستشرقون على الديانة النصرانية أو اليهودية؛ ومع ذلك فهم يمسون المصاحف، ويدرسونها ويتعمقون في بحثها، وينشرون خلاصة أبحاثهم على العالم، ويستقي الشرقيون من هذه البحوث ويأخذون منها في علمهم.
ولكننا لا نقول اليوم إن الكافر نجس لا ينبغي أن يعلم الخط العربي والهجاء حتى لا يمس المصحف كما يقول القابسي.
وتفسير هذا التحول الذي يذهب إلى النقيض يرجع إلى اختلاف الروح الاجتماعي؛ فالمجتمع الإسلامي الحاضر لا ينظر إلى غير المسلمين كما كان ينظر إليهم القدماء. (8) الاستظهار
الطريقة في تعليم المنهج السابق لا بد أن تعتمد على الحفظ والاستظهار، وتعرف هذه الطريقة في علم التربية الحديثة بالتعليم اللفظي. وهذه الطريقة تختلف عن التعليم التجريبي المعتمد على التجارب والمشاهدات كما هي الحال في دروس العلوم الطبيعية، أو التعليم المهني الذي يوجه التلاميذ إلى تعلم الصناعات المختلفة.
ولم يكن معلم الكتاب مخصوصا بتعليم المهن أو درس الطبيعة.
وإنما كانت وظيفة المعلم القيام بتعليم القرآن والكتابة والنحو والعربية والشعر والحساب وأيام العرب. وهذه كلها علوم لفظية، يقرأ التلاميذ ألفاظها ويسمعونها من المعلم، وعليهم استيعابها وحفظها.
فالمنهج بطبيعته يتجه إلى التعليم اللفظي، ويعتمد على الذاكرة، على الأخص إذا عرفنا أن القرآن وهو أهم العلوم يجب حفظه بألفاظه دون تحريف أو تبديل. لهذا السبب كانت الطرق التعليمية التي أوصى بها القابسي لا تخرج عن الطرق الموصلة إلى جودة الحفظ، وعدم النسيان فيما يختص بالقرآن.
وعنده أن طرق الحفظ ثلاث: التكرار والميل والفهم.
وقد جاء ذكر التكرار في حديث عن الرسول يختص بحفظ القرآن. قال: «مثل القرآن كمثل الإبل المعقلة، إذا عاهد صاحبها على عقلها أمسكها، وإذا أطلقها ذهبت. إذا قام صاحب القرآن بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقرأه نسيه.» ويعلق القابسي على هذا الحديث قائلا: «وقد بين في هذا الحديث كيف المعاهدة التي يثبت بها حفظ القرآن ويقوى على الحفظ حتى لا يتلعثم فيه.» 21-ب.
والقابسي يذكر هنا مراحل الذاكرة الثلاث الأساسية وهي: الحفظ والوعي والاسترجاع. وما نصطلح على تسميته الآن الوعي يطلق عليه التثبيت، وسهولة الاسترجاع هي عدم التلعثم.
والميل هو محبة القرآن، فيؤدي إلى الإقبال على تلاوته، وعدم الانصراف عنه إلى شيء آخر، بل يكون القرآن شاغلا للذهن على الدوام. «قال معاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما وقاعدا، وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقا.» 22-ب.
أما الفهم فناشئ عن الترتيل. وقد فسر القابسي معنى قوله تعالى:
أشد وطئا (المزمل: 6) ... أي موطأة للقرآن بسمعك وبصرك أي فهمك. وقال في فائدة الترتيل: «إن الترتيل في القراءة يحيي الفهم للعالم فيستعين به على التدبر الذي له أنزل القرآن.»
ويرى الفقهاء الذين ألفوا في علوم القرآن هذا الرأي من النصح بقراءة التحقيق والترتيل لفائدتهما في التعليم. فالتحقيق في القراءة: «يكون لرياضة الألسن وتقويم الألفاظ ويستحب الأخذ به على المتعلمين.» وذكر بعضهم: «أن التحقيق يكون للرياضة والتعليم والتمرين، والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط».
33
وفي (البرهان) للزركشي: «كمال الترتيل تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، وأن لا يدغم حرف في حرف، وقيل هذا أقله. وأكمله أن يقرأه على منازله فإن قرأ تهديدا لفظ به لفظ التهديد، أو تعظيما لفظ به لفظ التعظيم.»
34 «وقالوا إن قراءة التدبر والتفهم هي المقصود الأعظم والمطلوب الأهم. وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك.»
35
فالإجماع على قراءة القرآن بالترتيل حسب أمر الله وسنة الرسول، مما يدعو دون شك إلى الفهم. وقد أيدت التجارب الحديثة في علم النفس أن الحفظ مع الفهم أسرع وأثبت، وأدعى إلى عدم النسيان، وأقوى على الاسترجاع.
وكانوا ينصحون المتعلمين بهذه الطريقة.
ونحن لا ندري هل يستطيع الصبي الصغير أن يفهم معاني القرآن وأوامره ونواهيه، وما جاء فيه من وعد ووعيد، ودعاء وتضرع، وطلب وتعوذ واستغفار؛ إذ لا شك أن هذه المعاني أعلى من مستوى عقول الصبيان، مما دعا أبا بكر بن العربي إلى النصيحة بتأخير حفظ القرآن إلى سن متأخرة، ووافقه ابن خلدون على هذه الطريقة، ولكنه آثر اتباع التقاليد فأوصى مع العرف بالبدء بتعليم القرآن.
ولا يفوتنا أن نذكر أن الإعراب من دواعي فهم المعنى، وكذلك الهجاء والكتابة. وكانت الطريقة هي حفظ السورة بإعرابها وحسن قراءتها، مع الترتيل المؤدي إلى التدبر والتفكر. وهذا كله ينتهي دون شك إلى كمال الفهم.
ثم أضاف القابسي أنه: «من الاجتهاد للصبي أن لا ينقله من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» 59-أ.
ولا يفوتنا أن نذكر أن وسائل الحفظ مع الاستفادة من جميع الحواس أفضل من استعمال حاسة واحدة، على الأخص إذا عرفنا أن بعض الناس بصريون وبعضهم سمعيون وبعضهم حركيون. فهناك من يحفظ عن طريق البصر بالقراءة الظاهرة الصامتة؛ وهناك من يستفيد عن طريق السمع بالقراءة جهرا بصوت عال؛ وهناك من يستفيد بالحركة عن طريق الكتابة. وهذه الوسائل كلها كانت متبعة في تعليم الصبيان؛ فالعين تستفيد من القراءة، واليد من الكتابة، والأذن من الاستماع.
وكانت العادة أن يقرأ الصبيان أحزابهم وهم جماعة، ويستمع المعلم إليهم، وعليه أن يأخذ باله من كل واحد منهم؛ لأن: «اجتماعهم في القراءة يخفي عنه قوي الحفظ من الضعيف.» 69-أ. وإذا اتخذ الصبيان من هذه القراءة أداة للهو والخفة، فعليه أن يعالجهم باختبار كل واحد منهم على حدة، فينصرفوا إلى الجد. «والجهر أفضل لأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم ويزيد في النشاط.»
36
فإذا تعاونت هذه الوسائل كلها من التكرار والإقبال والفهم فلا شك أن يصل الصبي إلى حفظ القرآن. ولا علة له إذا نسي، ولا علة لأحد في نسيان القرآن بعد حفظه؛ لأن هذا دليل على التشاغل عنه، أو لأن صاحب القرآن: «تغلب عليه غية تصرفه عنه، وإما لأنه يتعمد التشاغل عنه بعمل من أعمال الدنيا أو من أعمال السفهاء.» وعندئذ ينسيه الله القرآن: «عقوبة لاشتغاله بسوء الاكتساب، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث: «ما لأحدكم يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي.» معناه أن الله أنساه ما نسي.» 19-ب.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى ما هو أبعد من ذلك، فاعتبروا نسيان القرآن من الكبائر: «صرح به النووي في (الروضة) وغيرها، لحديث أبي داود (عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة أو آية أوتيها رجل ثم نسيها.»
37
والاختبار هو الوسيلة التي يعرف بها المعلم أأجاد الصبي الحفظ أم لا.
وأول درجات الإجادة والامتياز أن: «يستظهر الصبي القرآن حفظا من أوله إلى آخره، مع ضبط الشكل والإعراب والفهم وحسن الخط.» 70-ب.
ويقل عن هذا درجة من «يقرأ القرآن نظرا في المصحف مع ضبط الشكل والهجاء.» 71-أ.
وآخر درجات الإجادة: «أن يملى على الصبي فلا يتهجى، ويرى الحروف فلا يضبطها، ولا يستمر في قراءتها.» 71-ب.
ومن الصبيان من يبلغ درجة البلاهة. ومقياس ذلك عند القابسي أن يختبر: «فوجد لذلك لا يحفظ ما علم، ولا يضبط ما فهم.» 72-أ.
ونحن نرى أن موازين الاختبار لا تعتمد على الذاكرة وحدها، بل على الفهم أيضا. فهي اختبار للذاكرة والذكاء معا.
ولا يجب أن نأخذ الفهم الذي ذكره القابسي على أنه مرادف للذكاء، بل هو يستند إلى الذاكرة؛ لأن إعراب الكلمات، ومعرفة المعاني القرآنية مما يتلقاه الصبيان من أفواه المعلمين ويحفظونه عنهم، ولا يصلون إليه من تلقاء أنفسهم.
ومن هنا يتضح لنا أن التربية العقلية عند القابسي تنتهي إلى كسب معلومات معينة، وتلعب الذاكرة الدور الأول في هذا الكسب، وتخص بالذات الذاكرة اللفظية؛ ومهمة الصبيان أن يحفظوا عن الكتب أو عن المعلم، وأن يعيدوا ما حفظوا دون تلعثم. والصبي الممتاز هو ذلك الذي يجيد حفظ كل ما لقن كلمة بكلمة، وحرفا بحرف.
ولسنا في حاجة إلى بيان فساد هذه الطريقة التي تعتمد على الاستظهار والتسميع؛ وقد هاجم «موتيني» هذه الطريقة في شدة، ومما يؤثر عنه قوله: «لا معرفة مع الاستظهار.»
38
وقد انتهى بعض العلماء إلى ازدراء الحفظ، والعمل على الحد من الغلو في التذكر اللفظي، فنظروا إلى الحفظ كأنه من العمليات العقلية الوضيعة، مؤيدين وجهة نظرهم بأن كثيرا من البلهاء وضعاف العقول ينعمون بذاكرة قوية، بينما بعض الأذكياء ذاكرتهم ضعيفة.
39
ولكن ازدراء الذاكرة والنظر إليها هذه النظرة القليلة الأهمية، فيه بعد عن الحقائق النفسية. وتدل نتائج البحث في الأمراض النفسية على أن فقدان الذاكرة يؤدي إلى اضطراب الحياة العقلية وفساد السلوك.
ومما لا شك فيه أن الذاكرة الجيدة تخدم علماء الطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان؛ لأنهم في حاجة إلى استظهار كثير من القوانين الرياضية والمعادلات الكيميائية التي تتألف منها مبادئ المعرفة الصحيحة الضرورية.
ولا يستطيع الإنسان إجادة اللغة دون معرفة كثير من الألفاظ وقواعد النحو والصرف.
وقد ظن كثير من علماء النفس والتربية أن هناك تعارضا بين الذكاء والذاكرة، والحقيقة على خلاف ذلك؛ لأن موهبة الذكاء وحسن التفكير مما يخدم الذاكرة في سرعة التحصيل، وجودة الحفظ، وسهولة الاسترجاع. وفي ذلك يقول وليم جيمس: «إن فن التذكر هو فن التفكير.»
40
والخلاصة أننا لا ينبغي أن ننظر إلى الذاكرة كما كان ينظر علم النفس القديم باعتبار أنها ملكة مستقلة من ملكات العقل؛ إذ الواقع أن الحياة العقلية كلها وحدة متماسكة، تتعاون فيها جميع المواهب النفسية على العمل.
قال الأستاذ بييرون: «ومكانة الذاكرة في حياة الإنسان عظيمة القدر. ومن جهة أخرى فالشخص المثقف، المضطر إلى مسايرة تقدم المعرفة على مر العصور، وهي معرفة لا تنفك عن الاتساع والانتشار بالرغم من وسائل التبسيط، هذا الشخص في حاة دائمة إلى الذاكرة. والمجتمع يزن أقدار الطلاب العقلية إذا تقدموا للوظائف بميزان ما حصلوه من الحفظ. وقد نتج عن ذلك ضرورة عملية هي بذل جهد عظيم تحمله الذاكرة.»
41
فالحياة العقلية للفرد لا تنفصل عن الحياة الاجتماعية بل هي جزء منها. والطريق الذي تسلكه الحياة العقلية يستضيء بهدي المجتمع، ويتأثر به، وفي الوقت نفسه تتشكل الحياة العقلية بحيث تلائم المجتمع.
وقد كان المجتمع في عصر القابسي يريد معرفة القرآن وما يتصل به من علوم تعين على فهمه والتمكن منه، ولا يرغب في غير ذلك من علوم طبيعية أو خلافها.
ومن الطبيعي أن تكون الطريقة الملائمة لتحصيل القرآن هي الحفظ والتذكر. (9) تكوين الشخصية
كتبت مدام منتسوري تقول: «إن أهم ما يميز التربية الحديثة هو احترام شخصية الطفل إلى حد لم يبلغه من قبل.»
42
ونحن لا نتفق مع هذه المربية في الحكم على الماضي، فقد يكون هذا الرأي صحيحا بالنسبة إلى التعليم في أوروبا، ولكنه غير صحيح على إطلاقه عن التعليم في الكتاتيب؛ ذلك أن شخصية الطفل كانت محترمة إلى حد كبير في الكتاتيب الإسلامية كما يتضح في رسالة القابسي.
ونحب أن نوضح معنى الشخصية قبل الاستطراد في الكلام عن أثر التربية الإسلامية في تكوينها، نظرا إلى ما يلابس هذا الاصطلاح من غموض.
فالشخصية على المعنى النفساني نسبة إلى شخص، ولهذا كان كل فرد صاحب شخصية. ولكنهم يقصدون عادة من الشخصية ما كانت قوية لا ضعيفة، وما كانت صالحة للحياة مؤثرة في المجتمع، لا تلك التي تعجز عن العمل، وتنساق في تيار المجتمع وإلى دوافع الفطرة دون إرادة وتمييز أو قصد وشعور.
والغرض من التربية هو تكوين الشخصية القوية الصالحة. ولا يتنافى هذا الغرض مع ما سبق ذكره من أهداف للتربية، مثل تنمية مواهب الطفل، أو إعداده للحياة الاجتماعية، أو دفعه في سبيل التقدم والرقي؛ لأن صاحب الشخصية هو ذلك الذي شحذت مواهبه، وامتلأت جعبته بأسلحة الكفاح في الحياة الاجتماعية، وتهيأ للتقدم المطرد والرقي المستمر. والتقدم هو سنة الوجود، ودليل الحياة الصحيحة.
وكمال الشخصية في العلم والعمل، والفكر والإرادة. والسلوك هو الغاية الأخيرة التي نقصدها من التربية، بل من الحياة كلها. أما تثقيف العقل، وحسن التفكير ومعرفة العلم فكلها وسائل إلى السلوك المطلوب، حتى يستند إلى أساس من المعرفة الصحيحة.
وكان المطلوب في عصر القابسي تكوين الشخصية الدينية، يؤمن صاحبها بالله، ويعتقد بوجوده، ويعبده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره في كل عمل من الأعمال ليميز بين الحلال والحرام.
وقد اختلفت أهداف التربية الحديثة في الممالك المختلفة، ففي أمريكا يرمون إلى تعلم المهنة التي يكسب منها الإنسان معاشه. وفي إنجلترا يهيئون الفرد ليكون مهذبا رشيقا أو على حد تعبيرهم (جنتلمان). وفي فرنسا يقصدون من التربية الثقافة العقلية وكسب المعارف النظرية.
43
وتختلف شخصية الأفراد في البلاد المختلفة تبعا لاختلاف الحياة الاجتماعية وما تطلبه هذه المجتمعات من أبنائها.
ومهما يكن من شيء، فالشخص الذي يريد أن يشق طريقه في المجتمع، فلا بد له من إعداد نفسه للنزول إلى معترك الحياة. وفي هذه الحال يشعر بنفسه مستقلا عن غيره، فيعمل على الاستجابة للتأثيرات الاجتماعية، ثم ينصرف بما يلائم مصلحته الخاصة ومصلحة المجتمع.
وشعور الإنسان نفسه هو المحور الذي تدور عليه الشخصية، والذي به يتم التأثير المقصود الصادر عن الشعور. وعندما يشعر بشخصه، ويحس بكيانه كفرد مستقل، يدرك ألا سبيل له إلى السلوك الصحيح إلا بكسب المعرفة والتزيد من العلم.
والغرض من التربية والتعليم هو تزويد الأفراد خلاصة الحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، حتى إذا كبر الطفل كان على استعداد لمواجهة مطالب الحياة الاجتماعية.
وفي زمن الطفولة يكون الصبي عبئا على أهله في كل شيء. وليس هذا من مصلحته أو مصلحة المجتمع. ومصلحة الطفل أن يعتمد على نفسه، أو أن يتعلم الاعتماد على النفس حتى يستمد أسباب القوة المعينة على التقدم والنجاح. ومصلحة المجتمع في وجود أفراد من أصحاب الشخصيات القوية حتى يرتقي المجتمع. أما العاجزون فهم عبء ثقيل يسوق المجتمع إلى التأخر والضعف والانحلال.
ولم ينس القابسي وهو يقوم على تربية الأطفال أن يمهد لهم سبيل تكوين الشخصية القوية التي يعتمد صاحبها على نفسه، ويستطيع أن ينهض بما تتطلبه حاجة البيئة ومطالب المجتمع. وعنده أنه لا بأس أن يقوم الصبيان بأعمال لها فائدة في تخريجهم.
منها أن يكتب الصبي للناس. سئل القابسي: «هل يؤذن للصبي أن يكتب لأحد كتابا؟ فقال: لا بأس، وهذا مما يخرج الصبي إذا كتب الرسائل.» 63-أ.
ومنها أن يعلم بعضهم بعضا: «ولا يحل له (أي المعلم) أن يأمر أحدا أن يعلم أحدا منهم إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه .» 63-ب.
ومنها أن يملي بعضهم على بعض، وذلك في الأوقات التي يستغني فيها الصبيان عن المعلم: «مثل أن يصيروا إلى الكتابة، وأملى بعضهم على بعض، إذا كان في ذلك منفعة لهم؛ فإن هذا قد سهل فيه بعض أصحابنا.» 64-أ. فمن المنفعة لهم أن يملي بعضهم على بعض، وعلى المعلم «أن يتفقد إملاءهم.» 63-أ.
ومنها أن يجعل على الصبيان عريفا. والعريف هو الصبي البارز في العلم يقوم بتعليم الصبيان إذا كان في ذلك منفعة في تكوينه. وقد أجاز الفقهاء هذه الطريقة في التعليم. سئل مالك عن المعلم يجعل للصبيان عريفا فقال: «إن كان مثله في نفاذه.» 63-ب. وعن سحنون: «وأحب للمعلم أن يجعل لهم عريفا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قدمهم وعرف القرآن، وهو مستغن عن التعليم، فلا بأس أن يعينه، فإن ذلك منفعة للصبي.» 63-ب.
وهذا كله يتعارض مع قول مدام منتسوري من أن التربية القديمة لم تكن تحترم شخصية الطفل. ذلك أن تكليف الصبيان بهذه الأعمال كلها، مثل كتابة الرسائل للجمهور، وإملاء بعضهم على بعض، واصطناع العريف يعلم غيره من الصبيان ممن هم أصغر منه سنا وأقل علما، دليل على احترام شخصية الصبي ورفع قدره والسمو بمنزلته، إذ إنه يتخذ مركز المعلم نفسه.
ولم تكن شخصية الصبي محترمة في العلم فقط، بل في شئون الدين أيضا، فقد أجاز القابسي أن يؤم الصبي، إذا بلغ سن الاحتلام وصلح للإمامة، غيره من الصبيان في صلاة الجماعة: «لكي يتدرجوا على معرفة صلاة الجماعة.» 70-أ.
هذه حياة كلها جد، وكلها تشبه بالرجولة؛ لأن الطفل الصغير ينظر إليه كأنه رجل كبير، فيكلف أعمال الرجال.
وكانت التربية القديمة تضحي بمرحلة الطفولة في سبيل الإعداد للرجولة. وكانوا يرغمون الطفل على سلوك مسلك الرجال وتعلم أعمالهم، وإلا وقع عليه العقاب.
ومن الخطأ الاعتقاد أن سعادة الرجولة تشترى على حساب الطفولة.
حقا إن الحياة الاجتماعية فيها كثير من القسوة وتحتاج إلى كثير من الجد، ولهذا ينبغي أن يهيأ الطفل لحياة الجد حتى لا يصدم بما فيها من صعاب وعقبات في المستقبل. ولكن الجد لا يستلزم العبوس الدائم، والشدة المستمرة. وقد نهى القابسي عن العبوس في غير حاجة إليه. كما أن اللهو لا يعني المرح المتلاحق، أو اللعب الذي لا انقطاع فيه.
على أن حياة الطفولة ينبغي أن تنصرف إلى اللعب أكثر منها إلى الجد، وأن يكون قسط المرح والسرور فيها كبيرا. ذلك أن شقاء الطفولة يترك في النفس آثارا لا تمحى وذكريات أليمة تلقي على الرجل ظلا كثيفا من الكآبة والتشاؤم من الحياة.
لهذا كان من الخطأ أن نحمل الطفل في وقت مبكر متاعب الحياة وآلام العيش. إننا نخاطر بإضعاف القوى الكامنة في الفرد، بتحميلها فوق ما تطيق، فتنوء في المستقبل بأعباء الحياة الجسام. وقد أوضح روسو في كتابه (إميل) أن واجب المربين إسعاد الطفل على قدرة الاستطاعة حتى يحس الإحساس الصادق بالحياة، ويتذوق لذة الوجود.
من هذه الناحية نستطيع أن نلوم القابسي، مع التربية القديمة كلها؛ لأنه كان يأخذ الصبيان بحياة الجد، وينهى عن اللهو واللعب.
ثم إن نمو شخصية الطفل لا يتطلب المحافظة على مواهبه من الضمور والانحلال فقط، وإنما يتطلب شق الطريق أمام هذه المواهب لتتفتح وتقوى. ولا ينبغي الوقوف في سبيل الطفل، بل لا بد له من حرية العمل ليكون المجال أمامه فسيحا للظهور.
وقد رأينا كيف ترك القابسي الحرية للصبيان لأن يقوموا بكثير من الأعمال التي تصلح لتخريجهم، وبذلك تنمو فيهم المواهب الملائمة لمطالب المجتمع.
ولكن القابسي كان مقيدا بعصره، ولم يعمل على سبق الزمان وتهيئة الأجيال القادمة للتقدم والرقي، فاكتفى بإعداد الصبيان لحياة الحاضر، بل لحياة شبيهة بالماضي، فهو يدعو إلى معرفة ثقافة السلف، ويطلب التمسك بها، والنسج على منوالها، وعدم التحول عنها.
لهذا عجزت شخصية المتعلمين عن مسايرة التقدم في الحياة، إلى أن تغيرت البيئة الاجتماعية في العصور الأخيرة، لأن تكوين الشخصية على الطريقة التي يريدها القابسي مقيد بالمجتمع الذي كان يعيش فيه. وكان همه الأكبر أن يصنع شخصية دينية وخلقية.
أما الشخصية الدينية فإن تعلم القرآن والقيام على الصلاة في أوقاتها مما يكفل طبعها على ذكر الله.
والشخصية الخلقية مطلوبة على كل حال، ولو اضطرنا ذلك إلى إرغام الأطفال؛ إذ مما لا شك فيه أن الإنسان ينبغي أن يلتزم حدود نفسه، فلا يتعدى على غيره باغتصاب أو إيذاء أو ضرب أو سرقة أو أي شيء من ضروب الرذائل التي ترجع في النهاية إلى الاعتداء على شخص الغير أو ملكه، ولا يتسنى هذا كله إلا إذا ميز الإنسان نفسه، وشعر بوجود شخصه واعتقد في حريته، ومسئوليته عن أعماله.
ولا بد للإنسان إلى جانب ذلك من تكوين عادات صالحة يصبح معها من ذوي الخلق المستقيم، كالصدق والأمانة والشجاعة وحب النظام والنظافة إلى آخر هذه العادات المختلفة، مما ذكرناه عند الكلام في التربية الخلقية.
ولا يتم تكوين الشخصية الخلقية، بتشييد العادات الفاضلة، وتهذيب الضمير، إلا بالتعليم والتربية.
ويرى وليم جيمس أن التربية هي تنظيم العادات والنزعات التي ترمي إلى السلوك الحسن.
44
وقد فطن القابسي إلى أثر العادة في طبع الشخصية، فنصح بالمبادرة إلى تكون العادات الخلقية الفاضلة ليألفها الصبيان.
ومما لا شك فيه أن الكتاب الإسلامي كان له أثر كبير في خلق الشخصية القوية الملائمة للمجتمع في القرن الرابع الهجري. فالصبي بعد ذهابه إلى الكتاب يصلح لإمامة الناس في الصلاة، فضلا عن معرفة أسرار الفروض والنوافل، مما يرفع قدره ويسمو بمنزلته. وكما يتقدم إليه العامة فيكتب إليهم الكتب والرسائل. وبعض الصبيان قد يختم القرآن وهو أهم أنواع المعرفة وأوجبها، فضلا عن معرفة العربية وأيام العرب والشعر، وبذلك يتهيأ له السبيل إلى بلوغ مراتب العلماء.
الفصل التاسع
المعلم
(1) شخصية المعلم وأثرها في المتعلم
شخصية المعلم لها أثر عظيم في عقول التلاميذ ونفوسهم، إذ يتأثرون وهم في تلك السن الصغيرة بمظهره وشكله، وحركاته وسكناته، وإشاراته وإيماءاته، وألفاظه التي تصدر عنه، وسلوكه الذي يبدو منه. والطفل أشد تأثرا بغيره من الناس من الشاب، وأسرع في كسب الكلام والحركات والتقاطها عن الذين يتصل بهم من الكبار، الذين نمت عقولهم، وصلب عودهم، وأصبحوا أقدر على التمييز والنقد والاختيار.
والوقت الذي يقضيه الطفل في الكتاب يستغرق معظم النهار، فهو يذهب إليه مع الصباح الباكر، ولا ينصرف إلى آخر اليوم.
فالصبي يتصل بالمعلم، إلى جانب صلته بغيره من الصبيان، أكثر من الصلة بآبائه وأهله. ومن الطبيعي أن يكون تأثير المعلم في نفوس الصبيان أقوى وأشد وأعمق من تأثير أهله، فهو الذي يقدم إليهم الغذاء العقلي والديني، وهو الذي يطبعهم على العادات، ويثبت فيهم آداب السلوك، وما يترتب على ذلك من نشوء الصبيان وهم يحملون في أنفسهم الآراء التي طبعوا عليها في صباهم، ويصعب فيما بعد التحول عنها.
ومما يؤيد تأثر الصبيان بشخصية المعلمين ما رواه الجاحظ
1
من كلام عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده قال: «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت.»
كما فطن إخوان الصفا إلى تأثير المعلم التأثير الشديد في صبيان المسلمين.
وقد سادت في المعلمين شخصية علمية وخلقية عرفت عنهم واشتهروا بها، وسرت منهم إلى الصبيان بطريق الإيحاء والمحاكاة مما هو فطري في النفس الإنسانية؛ فالإيحاء التأثير الذي ينتهي إلى قبول الآراء واعتقادها والعمل بها، والمحاكاة التشبه بغيره في الحركات والإشارات والسلوك على وجه العموم.
ولم تكن شخصية المعلم بارزة في العلم بحيث تسمو به إلى مرتبة الأدباء أو الشعراء أو النحاة أو الفقهاء. فهو يحفظ القرآن، وما يتصل بالقرآن من العلوم الضرورية لفهمه وحسن نطقه.
ولو بلغ معلم الكتاب منزلة علمية سامية، مع سعة الذهن، ونفاذ الفكر، وقوة العارضة، لتطلع إلى مرتبة اجتماعية أسمى من مرتبة المعلمين في الكتاتيب. فقد كان الحجاج بن يوسف على ما هو مشهور معلما في الطائف، ثم أصبح من الحكام البارزين، والخطباء المفوهين، وترك صناعة التعليم في الكتاب إلى غيرها.
والمعلمون على ما ذكر الجاحظ على ضربين: منهم رجال ارتفعوا عن تعليم العامة إلى تعليم أولاد الخاصة، ومنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة إلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة. فكيف نستطيع أن نزعم أن مثل علي بن حمزة الكسائي، ومحمد بن المستنير الذي يقال له قطرب وأشباه هؤلاء الرجال يقال لهم حمقى، ولا يجوز هذا القول على هؤلاء، ولا على الطبقة التي دونهم. فإن ذهبوا إلى معلمي كتاتيب القرى فإن لكل قوم حاشية وسفلة، فما هم في ذلك إلا كغيرهم.
2
لم يتكلم القابسي في رسالته على معلمي الخاصة، بل قصر الكتابة والنصيحة والحكم على معلمي الكتاتيب الذين يتصلون بأولاد العامة. وهؤلاء هم الذين ذاع عنهم الحمق فقيل في أمثال العامة: «أحمق من معلم كتاب.» وفي قول بعض الحكماء: «لا تستشيروا معلما.»
3
وقد انتصر الجاحظ لمعلمي الخاصة، ويعرفون بالمؤدبين، فهؤلاء منزلتهم غير منكورة ثم أنصف بعد ذلك معلمي الكتاتيب فأبعد عنهم ذلك الوهم الذائع عنهم والحمق اللاصق بأغلبيتهم.
وقد اعتمد الأستاذ خليل طوطح على هذا الجانب السيئ الذي ذكره الجاحظ عن المعلم، فحكم على معلمي الصبيان جميعا بالحمق وقلة العقل، وأرجع السبب في ذلك: «إلى احتقار العرب للمهن التي لا تظهر فيها أعمال الرجولة كالفروسية، وإلى ما أظهره بعض المعلمين من صغر النفس والمسكنة وسخافة العقل والغطرسة على الصغار وضربهم بالعصا وإذاقتهم آلام الفلقة.»
4
ولما كان وصف المعلمين هذا الوصف غير صحيح، فالتعليل المذكور لا أساس له. وإلى جانب ذلك فليس صحيحا أن العرب احتقروا جميع المهن التي لا تظهر فيها أعمال الرجولة كالفروسية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان الفقهاء والأدباء والشعراء وأصحاب المهن العقلية والدينية محتقرين عند العرب، والواقع يخالف ذلك.
أما ارتكاب المعلمين ما يخل بالكرامة، ففي كل طائفة، كما يقول الجاحظ، أشرافها وسفلتها، فلا يدفعنا ذلك إلى إطلاق الحكم على الطائفة بأسرها بسوء الخلق، وصغار النفس والحمق.
ويتصل الحمق بالعقل كما يتصل بالسلوك، بل هو بالعقل والتدبير، والرأي والتفكير، أشد التصاقا، وأكثر صلة. ذلك أن العمل يرجع في الغالب إلى اضطراب الرأي وعمى البصيرة، ووضع الشيء في غير موضعه الصحيح ، وفساد التطبيق.
وقد يحفظ المرء القرآن، ويردده حرفا بحرف، ولفظا بلفظ، وآية بآية، ومع ذلك لا يجيد التصرف والتمييز، ويخلو من الحكمة والسداد.
ليست شخصية المعلم العقلية إذن في حفظ القرآن، بل في العمل بما جاء فيه، وفهم أسراره ومعانيه بمعرفة العلوم التي تعين على هذا الفهم.
وقد عقد القابسي الموازنة بين معلم ومعلم، وفاضل بينهما في العلم، ورفع الأكثر علما على صاحبه في الكسب إذا اشتركا في التعليم.
فالاختلاف القريب لا يوجد التفاضل في الجعل. مثل: «أن أحدهما يكون رفيع الخط والآخر ليس كذلك.»
ويقع التفاضل إذا كان أحدهما لا يحسن إلا القرآن والكتابة، والآخر يعرف إلى جانب ذلك الشكل والهجاء وعلم العربية والنحو والشعر، 69-أ.
ومن هذا نرى أن المعلمين في عصر القابسي كانوا على ضربين: بعض لا يعرف إلا القرآن والكتابة، وبعض آخر تتسع ثقافته لمعرفة علوم أخرى غير القرآن، فترتفع منزلته العلمية، وإذا وضع في ميزان المادة الصحيح عند أصحاب الفلسفة المادية، كان أوفر أجرا وأكثر جعلا.
فالميزان الذي تقاس به الشخصية العلمية عند القابسي هو معرفة القرآن ومعرفة النحو والعربية وأيام العرب والشعر.
ولكن القابسي لم يذكر الطريقة التي نحكم بها على معرفة المعلم وثقافته، بحيث نجيز له التعليم.
ولم تكن هناك إجازة يشترط أن يحصل المعلم عليها ليكون صالحا للتعليم حتى يرخص له بمزاولة المهنة. «فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يجزه أحد. وعلى ذلك السلف الأولون، والصدر الصالح. وكذلك في كل علم، وفي الإقراء والإفتاء، خلافا لما يتوهمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطا. وإنما اصطلح الناس على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالبا من يريد الأخذ عنه من المبتدئين ونحوهم لقصور مقامهم عن ذلك.»
5
أما اشتراط حصول المعلم على إجازة لتعليم القرآن، فإنما جاء بعد العصر الذي عاش فيه القابسي، أي بعد القرن الرابع، وهو دليل على شعور المجتمع بوجود كثير من المعلمين غير أهل للقيام بالتدريس.
ثم تطورت الأحوال إلى ما هو أبعد من ذلك، نعني: «اعتياد مشايخ القراء من امتناعهم عن الإجازة إلا بأخذ مال في مقابلها، وهذا لا يجوز إجماعا ... وليست الإجازة مما يقابل بالمال ، فلا يجوز أخذه عنها ولا الأجرة عليها.»
6
فالشخصية العلمية على النحو الذي ذكره القابسي، أقلها أن يكون صاحبها حافظا للقرآن عارفا بالخط والكتابة، وترتفع شخصيته مع تزود المعلم بعلوم العربية والنحو والشعر.
وشخصية المعلم الدينية لا شك فيها؛ لأنه يحمل القرآن وهو أصل الدين. والمعلم يقيم الصلاة ويعلمها الصبيان، وهو على مذهب أهل السنة، ولا مطعن في دينه من هذه الناحية خصوصا من جهة الجمهور.
وشخصية المعلم الخلقية مستمدة إلى حد كبير من شخصيته الدينية؛ لأن من يحفظ القرآن ويقيم شعائر الدين أقرب من غيره إلى العمل الصالح. (2) عيوب المعلمين
على أن القابسي لم ينص على رذائل في أخلاق المعلمين طالب بإصلاحها. إنما ذكر الواجب على المعلم، وضرورة انصرافه إلى عمله، وعدم الانشغال عن تعليم الصبيان بأي شيء من الأشياء؛ لأنه يتناول أجرا عن عمله، فلا بد له من وفاء ما استؤجر عليه. ومن واجب المعلم أيضا ألا يطلب فوق أجرته من الصبيان شيئا كهدية أو طعام.
وسنفصل الأحوال المختلفة التي ذكرها القابسي عن المعلمين في انشغالهم عن التعليم، وفي طلبهم الهدايا، ومنها يتبين أن النقائص الخلقية التي قد تقع من بعض المعلمين إنما ترجع لأسباب مادية.
والقابسي يعتبرها من النقائص؛ لأنه قرر أن يتناول المعلم الأجر على التعليم، فالتطلع إلى ما هو أكثر من الأجر المشترط عليه إسراف في الطمع، وإخلال بالعقد.
وقد نهى سحنون أن يطلب بعض المعلمين هدايا من الصبيان؛ لأنه: «لا يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرته شيئا من هدية أو غير ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك فهو حرام، إلا أن يهدوا إليه من غير مسألة.» 62-أ.
ومن العادات المذمومة أن يبعث المعلمون صبيانهم إذا تزوج رجل أو ولد له «فيصيحون عند بابه ويقولون: أستاذنا ... بصوت عال. فيعطون ما أحبوا من طعام أو غير ذلك، فيأتون معلمهم، فيأذن لهم يتبطلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم بغير أمر الآباء. وهذا شديد الكراهية، لعل صاحب التزويج أو أبا المولود لا يعطي ما يعطي إلا تقية من أذى المعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهال، فيصير المعلم من ذلك إلى أكل السحت، ولا يفعل هذا إلا معلم جاهل.» 62-أ.
وقال في موضع آخر: «ولا يحل للمعلمين أن يأمروا الصبيان أو يكلفوهم إحضار طعام أو غيره، وإن قل قدره، كالحطب وغيره، من بيوت آبائهم.» 66-أ.
ومن الوصف السابق يتضح لنا سلطان المعلم على الصبيان، وقوة شخصيته وخضوع الصبيان لأمره، إلى درجة أن القابسي يعد صبيان المعلم جزءا منه، إذا وقع منهم الأذى فهو المسئول عنهم.
ومن هذا الوصف لسلوك المعلم تتضح لنا صفحة من صفحات التاريخ، وجزء من التقاليد التي سادت في القرن الرابع.
ولا نحب أن نسوغ هذه الأفعال للمعلمين، ولكننا نقول: إن الشعب مسئول عن إفسادهم في هذه الناحية، إذا اعتبرنا الطلب نوعا من الفساد الخلقي. ذلك أن عادة الطلب والسؤال جاءت من جهتين: الأولى العطية على الختمة، والثانية عطية الأعياد. وقد جرت عادة الناس أن يعطوا في الحالتين: فرحا بختم أولادهم القرآن وابتهاجا بقدوم الأعياد.
روي أن سحنون قضى بسبعة دنانير في ختمة البقرة.
7
وحكى ابن الدباغ أن عبد الله بن غانم الرعيني - قاضي القيروان عام 171 - دخل عليه يوما ولد صغير له من المكتب فسأله عن سورته فقال: حولني المعلم من سورة الحمد. فقال له اقرأها، فقرأها. فقال له تهجها، فتهجاها. فقال له أبوه: ارفع ذلك المقعد فرفعه، فإذا تحته دنانير دون العشرين وفوق العشرة، فقال له: ارفعها إلى معلمك، فرفعها إليه فأنكرها المعلم على الولد، وظن بعض الظن، وحملها إلى عبد الله بن غانم. فقال له عبد الله كالمعتذر: لعلك رددتها استقلالا لها! فقال المعلم: ما أتيت لهذا، وإنما ظننت ظنا. فقال له القاضي: أتدري ما علمته يا معلم؟ كل حرف منها خير من الدنيا وما فيها.
8
وقد أجاز الفقهاء أيضا العطية في الأعياد. قال القابسي: «عطية العيد لا يقضى بها إلا أن يتطوعوا، من شاء منهم فعل، ومن شاء لم يفعل.» 73-ب. ويقول ابن حبيب الفقيه المالكي: «وفعل ذلك حسن من فعله، وتكرم من آباء الصبيان لمعلميهم، ولم يزل ذلك مستحسنا في أعياد المسلمين.» 73-ب.
ثم أوجب الفقهاء العطية في العيدين، نزولا على العرف السائد؛ فالأصل في الحكم عدم القضاء بالعطية في العيد إلا إذا تطوع الآباء. ولكن للعادات حكم آخر، لذلك أوجب القابسي العطية في الأعياد. أو كما يقول: «وكذلك المسلمون عندي في هذه العادات، إذا كانت مستحسنة في الخاصة، فانتشارها على وصفنا يوجبها.» 74-أ.
وروى المالكي: «أن الأمراء من بني الأغلب كانوا يأتون جامع القيروان ليلة نصف شعبان وليلة نصف رمضان، ويعطون فيها من الصدقات كثيرا ثم يخرجون في حشمهم وأهل بيتهم وخدمتهم من الجامع إلى المدينة، فيزورون دور العباد والعلماء والكتاتيب والمدارس، فيوزعون عليهم الأموال والعطايا الجسيمة.»
9
فالخاصة كما نرى هم الذين بدءوا بتقديم العطايا إلى المعلمين، وتبعهم في ذلك العامة، وما زال الأمر كذلك إلى أن أصبح من العادات الثابتة في المجتمع، التي يحترمها المشرعون ويأخذون بها في أحكامهم.
فإذا رأى المعلمون أن يطلبوا الهدايا في مناسبات أخرى غير الأعياد كالزواج والميلاد وغير ذلك، فالجمهور هو الذي شق لهم طريق العطية في العيدين، بل في: «رمضان وفي القدوم من سفر.» 74-أ. وأجاز القابسي كل ذلك.
ومما يعاب على المعلم أن ينصرف عن التعليم، فيشغل نفسه، أو يشغل الصبيان بغير طلب العلم. وقد أفاض القابسي القول في ذكر هذه الأحوال الشاغلة للمعلم.
فلا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في حوائجه. سئل سحنون هل يرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض، فقال: «لا أرى ذلك إلا أن يأذن له أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون الموضع قريبا لا يشغل الصبيان في ذلك.» 63-أ.
وعن سحنون: «ولا يجوز للمعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكونوا في وقت لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدث وهو في هذا ينظر إليهم، ويتفقدهم.» 63-ب.
ولا بأس أن ينظر المعلم في كتب العلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة، وأملى بعضهم على بعض 64-أ.
ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بد منه؛ لأنه أجير لا يدع عمله ويتتبع الجنائز والمرضى.
وشهود النكاحات وشهادة البياعات لا تجوز، هي مثل شهود الجنازة وعيادة المريض أو أشد 65-ب.
وإن كانت عنده شهادة والسلطان عنه بعيد، في سيره إليه شغل عن صبيانه فله عذر في تخلفه عن أدائها. وإن سافر سفرا بعيدا أو خيف بعد الغريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث فلا يصلح له ذلك.
وإذا غلب النوم على المعلم، فيغالبه إن استطاع في وقت التعليم.
فهذه كلها صفات خلقية تتصل بالعمل في الكتاب ووجوب الانصراف إلى التعليم.
وجماع هذه الصفات يندرج تحت عنوان واحد هو واجب المعلم نحو عمله.
هذا الواجب - الذي ينبغي أن يكون - شيء والواقع شيء آخر.
قال صاحب (مفتاح السعادة): «ينبغي أن يكون تعليمه (أي المعلم) لوجه الله تعالى، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رسما ولا عادة، ولا زيادة جاه ولا حرمة، وإنما يريد ابتغاء مرضاة الله، والامتثال لأوامره، والاجتناب عن نواهيه، ويريد نشر العلم، وتكثير الفقهاء، وتقليل الجهلة، وإرشاد عباد الله إلى الحق، ودلالتهم على ما يصلحهم في النشأتين، وإظهار دين الله، وإقامة سنة رسول الله، وتشييد قواعد الإسلام، والتفريق بين الحلال والحرام، ويكون مخلصا في ذلك راغبا في الآخرة.»
10
وعن شيخ الإسلام أبي زكريا الأنصاري في بيان شروط تعليم العلوم وتعلمها: «أن يقصد به ما وضع ذلك العلم له، فلا يقصد به غير ذلك كاكتساب مال أو جاه أو مغالبة خصم أو مكابرة.»
11
وفي مقدمات ابن رشد: «يجب على طالب العلم ألا يريد بتعلمه الرياء والسمعة ولا غرضا من أغراض الدنيا.»
12
وقد فصل الغزالي في (الإحياء) و(ميزان العمل) وظائف المعلم بما لا يخرج عن ذلك. وقد ذكر كثير من الفقهاء قبل ذلك ما ينبغي أن يكون عليه المعلم، وكلهم مجمعون على أن المعلم لا ينبغي أن يطلب سمعة أو جاها أو مالا أو مصلحة.
أما الواقع فيختلف عما ينبغي أن يكون؛ ذلك أن المعلم في القرن الرابع كان يطلب المال ليعيش، أو السمعة ليرتفع قدره، لهذا كان يشتغل عن التعليم بالنظر في كتب العلم، وكتابة الرسائل للناس، وشهود النكاحات والبياعات والصلاة وراء الجنائز وما إلى ذلك.
ولم يكن الحال كذلك في الصدر الأول للإسلام؛ لأن الروح الديني الصادق كان متغلغلا في الصدور، فتيا في القلوب، حتى إذا تقدمت العصور بالمسلمين شغلوا كثيرا بالأمور الدنيوية.
وقد أشار السيوطي كما سبق أن ذكرنا إلى امتناع بعض المشايخ من إعطاء الإجازة إلا بالمال. ولم تقرر هذه العادة إلا في عصر متأخر عن عصر القابسي.
فشخصية العلم الخلقية كانت متصلة إذن اتصالا وثيقا بالحالة الاقتصادية السائدة في المجتمع. واختلال الميزان الاقتصادي بين الطبقات الرفيعة والدنيا، هو الذي أدى مع الزمن إلى تحول المعلمين وغيرهم من أصحاب الصناعات الدينية والعقلية إلى البحث عن المادة، والانصراف عن العلم الصحيح، والروح الديني الحق.
ولم يكن القابسي مغاليا في التطلع نحو المثل العليا البعيدة التحقيق، بل أجاز الأجر للمعلم، ووافق على قبوله العطية في الأعياد كما جرت به العادة.
ولكنه لم يقبل أن تمتد يد المعلم إلى غير أجره المشترط عليه. ولذلك وضع قواعد الجزاء على اشتغال المعلم عن التعليم.
أما الاشتغال الخفيف الذي لا يؤثر في مصلحة الصبيان فقد أجازه: «مثل الذي يكون في حديثه في مجلسه ... فهذا وما أشبهه يقل خطبه، ويخف قدره، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب ذلك إن كان الأجر من أموالهم.»
وإن كان الأجر من أموال الصبيان، فلا بأس أن يعوضهم من وقت عادة راحته ما يجبر لهم ما نقصهم من حظوظهم باشتغالهم ذلك.
وإن مرض أو عليه شغل: «فهو يستأجر لهم من يكون فيهم بمثل كفايته لهم، إذا لم تطل مدة ذلك. كذلك إن سافر سفرا قريبا؛ اليوم واليومين وما أشبههما، يقيم من يوفيهم كفايته لهم. وكذلك إذا لم يستطع مغالبة النوم، فليقم فيهم من يخلفه عليهم.» 65-أ، 66-أ.
هذا التعويض ملحوظ فيه مصلحة الصبيان، وتقديم المقابل المادي الذي يتناسب مع إخلال المعلم بواجبه. وميزان المادة أصدق الموازين. وملحوظ فيه الرفق بالمعلم إذا كان عنده عذر في تخلفه عن التعليم، ولا يخلو إنسان عن الأعذار الطارئة والظروف العارضة كالمرض وغيره. وملحوظ فيه احترام شخصية المعلم، بوضع الأمور في موضعها الصحيح، حتى يكون قدر المعلم محفوظا مهيبا.
بهذا تستقيم شخصية المعلم العلمية والدينية والخلقية وتخلو من الشوائب، فلا تؤثر أثرا سيئا في نفوس الصبيان الذين يتصل بهم. وصلاح المعلم فيه صلاح الصبيان؛ لأنه القدوة لهم والمثل الأعلى بالنسبة إليهم.
الحقيقة أن شخصية المعلم في القرن الرابع كانت قوية تبسط ظلها على المجتمع بأسره، خصوصا في القرى والأقاليم النائية عن العواصم، حيث يعتبره أهل الجهة التي يقوم فيها بالتعليم أكثرهم ثقافة، وأسماهم منزلة، وأشدهم معرفة بالدين.
وسلطة المعلم على الصبيان ظل لشخصيته.
وقد كانت سلطة المعلم عظيمة القدر كبيرة الأثر، أجازها القابسي للمعلمين واعترف بها لهم.
والمعلم يستمد هذه السلطة من الوالد، إذ يقوم مقامه، ويحل محله في تربية الأبناء وتثقيفهم: «لأنه هو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عما لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على مثل منافعهم، فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حسن رفقه بهم، ولا من رحمته إياهم، فإنما هو لهم عوض من آبائهم.» 54-أ.
وجميع المربين في الإسلام ينظرون إلى المعلم هذه النظرة الروحية. قال صاحب (مفتاح السعادة) عند الكلام على الوظيفة الثانية للمعلم: «أن يجري المتعلم منه مجرى بنيه.»
13
والوظيفة الأولى للمعلم المرشد عند الغزالي هي الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه.
14
فإذا تقررت السلطة للمعلم فهو مسئول عن الصبيان؛ لأنه لا مسئولية لمن لا سلطة له، فالمعلم صاحب سلطة وصاحب مسئولية، ويجب عليه حسن رعاية الصبيان لأن: «نظره فيمن التزم النظر له من الصبيان رعاية يدخل بها في قول الرسول: «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته».» 53-أ.
والقابسي حين يقرر للمعلم هذه السلطة العظيمة التي تساوي في مقدارها سلطة الوالد ، إنما يرمي إلى فائدة الصبيان أنفسهم، من جهة ثقافتهم العقلية، ورياضتهم الخلقية؛ لأن المعلم إذا شعر بنقص في سلطته عجز عن حكم الصبيان، وخرجوا على طاعته، وامتنع عليه أن يدفعهم إلى الامتثال لأمره. أما إذا باشر السلطة الكاملة التامة فإنه يأمر فيطاع، وينصح فيسمع.
ولا يستطيع المعلم أن يعتذر عن فساد النتيجة في التعليم والتأديب بنقص سلطته، فهو مسئول عن صبيانه في تحصيلهم للدرس وسلوكهم المهذب.
ولهذا صح عقاب المعلم ومحاسبته على أعماله لأنه يتحمل المسئولية المستمدة من السلطة.
فإذا نقص حذق الصبي حتى ينتهي إلى ما يسمى تعلما، في إجادته ومعرفته بالشكل والهجاء والنظر في المصحف، ويملي على الصبي فلا يتهجى، ويرى الحروف فلا يضبطها ولا يستمر في قراءتها، فإن هذا المعلم يعتبر مفرطا إذا كان يحسن التعليم، ومغررا إذا كان لا يحسن التعليم.
وهو مسئول سواء فرط أو غرر.
ثم ذكر القابسي آراء العلماء في مثل هذا المعلم فقال: «إنه يستأهل الأدب لتفريطه فيما وليه، وتهاونه بما التزمه، وأن يمنع من التعليم. وهو صواب إذا كان شأنه التفريط أو الغرور بتعليمه وهو لا يحسن.»
ورأي بعضهم «أن مثل هذا المعلم يستأهل اللوم والتعنيف والغلظة والتأنيب من الإمام العدل.» 72-أ.
فالقابسي لا يتهاون مع المعلم المقصر في أداء واجباته، ويفرض عليه جزاء أدبيا وماديا، قد يصل من الشدة إلى درجة منع المعلم من التعليم. والجزاء المادي يتصل بنقص أجر المعلم المتفق عليه أو عدم دفعه، فإذا أخرج الصبي من عند معلم إلى معلم آخر ولم ينل عند الأول «من التعليم شيئا له منفعة.» فالجعل كله للثاني، وقل ما يناله الأول.
ومسئولية المعلم ظاهرة أيضا في العقوبات التي يوقعها على الصبيان إذا خرجت على الحدود المشروعة.
فهو مسئول عن الألفاظ القبيحة التي تصدر عنه في ساعة الغضب، ويجب عليه الاستغفار عنها والاستعاذة منها.
وإذا تعدى المعلم في ضربه: «فهذا إنما يقع من المعلم الجافي الجاهل.» وفي وصف المعلم بالجفاء والجهل كفاية في عقابه على قسوته وخروجه على الحدود.
ومسئولية المعلم شديدة إذا أدى الضرب إلى إلحاق الضرر بالصبي، وقد نظر الفقهاء في مثل هذه الأحوال، ووضعوا العقوبة التي تفرض على المعلم في كل حالة منها.
سئل مالك عن معلم لو ضرب صبيا ففقأ عينه أو كسر يده، فقال: إن ضربه بالدرة على الأدب، وأصابه بعودها فكسر يده أو فقأ عينه، فالدية على العاقلة إذا فعل ما يجوز.
فإن مات الصبي فالدية على العاقلة بالقسامة، وعليه الكفارة.
فإن ضربه باللوح أو بعصا فقتله، فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذن له أن يضربه بعصا ولا بلوح.
فسلطة المعلم تبسط على الصبيان في تعليمهم وفي تأديبهم. وهو مسئول عن حسن تعليمهم وكمال تأديبهم؛ لهذا منح المعلم حرية، إلا تكن مطلقة، فهي حرية واسعة.
وتقييد حرية المعلم ينشأ من جهات كثيرة.
فهو مقيد بالمناهج الموضوعة لا يستطيع أن يتركها إلى غيرها. بل لقد نص الفقهاء على إبعاد بعض المواد من المنهج والنهي عن تدريسها، كالشعر الذي يكون فيه الهجاء أو العزل.
وهو مقيد في التأديب بشروط إذا تجاوزها أصبح مسئولا، ويحاسب على ذلك حسابا أدبيا وماديا.
فليس له أن يضرب إلا بالدرة لتكون رطبة مأمونة، فإذا ضرب بعصا أو بغير ذلك كان مسئولا. وحد الضرب ثلاث ضربات، وإذا أراد أن يزيد عليها فعليه أن يستشير ولي أمر الصبي وأن يستأذنه في زيادة الضرب.
والقيد الشديد هو استشارة أولياء أمور الصبيان والرجوع إليهم. ذلك أن المعلم يستمد سلطته من آباء الصبيان، ولهؤلاء أن يستردوا هذه السلطة إذا شاءوا. وقد أوجب القابسي على المعلم أن يرجع إلى ولي أمر الصبي في أمور كثيرة تخص عمله وحضوره إلى الكتاب وغيابه عنه، وإدمانه البطالة، وعقابه، إلى غير ذلك من الشئون التي تعرض للصبيان في الكتاتيب.
واستشارة أولياء الأمور، وإبلاغهم أحوال أبنائهم في دراستهم وأخلاقهم يدل على التعاون الواجب بين البيت والمدرسة، وفي هذا التعاون فوائد كثيرة تعود على التلميذ بالخير.
مثال ذلك أن الصبي إذا هرب من الكتاب وتعود البطالة، فإن المعلم إذا سأله عن علة غيابه أخبره أنه في البيت، على حين يعتقد أبوه أنه موجود في الكتاب، والحقيقة أنه لا يوجد في البيت، ولا في الكتاب، بل يلهو ويعبث ويلعب في الأزقة والشوارع. فإذا بادر المعلم بإخبار الآباء عن غياب أبنائهم عرف هؤلاء ما يعمل الصبيان فيعاقبونهم ويردعونهم ويعملون على التزامهم الذهاب إلى الكتاب.
وفي حالة الصبي الأبله الذي لا يستفيد من الدرس «ولا يحفظ ما علم، ولا يضبط ما فهم.» على المعلم أن يعرف الآباء بمكان هذا الصبي من فقد الفهم. فإذا رضي الوالد أن يترك ابنه في الكتاب، فإنه يدفع الأجر على حيازته لا على تعليمه.
ولا شك أن الصبيان في حاجة إلى الرقابة؛ لأن سنهم الصغيرة لا تسمح بالحرية المطلقة التي يشعر فيها الإنسان بالمسئولية ويحمل تبعاتها. والرقابة الدقيقة يجب أن تصدر عن البيت والكتاب معا، حتى لا يجد الصبي ثغرة ينفذ منها إلى الإهمال في الحفظ، والإقبال على العبث، فتضيع الفائدة المنشودة.
فالمعلم مسئول عن التلاميذ أمام أولياء أمورهم.
وتقع عليه هذه المسئولية لأنه يتناول أجرا على قيامه بالتعليم، فينبغي أن يوفي عمله مقابل ما يأخذ من أجر. (3) أجر المعلم
وقضية أجر المعلم من القضايا التي دار حولها النزاع خلال العصور المتعاقبة، واختلف المفكرون والفلاسفة وأهل الرأي في قبول المعلم الأجر أو عدم قبوله.
وأشهر من امتنع عن تناول الأجر سقراط الفيلسوف اليوناني.
عاش سقراط في عصر السفسطائيين، وهم طائفة من المعلمين كانوا يعلمون الشباب البلاغة والبيان والجدل والفلسفة ويتناولون أجورا على دروسهم؛ وخالفهم سقراط فكان يعلم الشباب ولا يأخذ أجرا. وكان يعلم في كل مكان وجد فيه، في الأروقة والشوارع والميادين والطرقات.
وهناك أسباب فلسفية على أساسها امتنع سقراط عن أخذ الأجر، ذلك أن الفضيلة يستمدها صاحبها من النفس، ويستطيع أن يصل إلى ذلك العلم بالتأمل، ولا يمكن أن تعلم الفضائل، فلا يستحق المعلم بناء على ذلك أجرا.
ولا شك أن سلطان المعلم على تلميذه يكون أقوى وأكثر إيحاء، ويكون التلميذ أدنى إلى قبول آراء المعلم إذا عف عن أخذ الأجر؛ إذ تكون الصلة بينهما روحية معنوية، لا تدخل المادة في علاقة بعضها ببعض فتفسدها.
ومن المعروف أن تعليم القرآن والدين في صدر الإسلام كان تطوعا، وهكذا ذكر القابسي في رسالته. ولما انتشر الإسلام، وأصبح من العسير وجود من يعلم للمسلمين أولادهم «ويحبس نفسه عليهم ويترك التماس معايشه.» «صلح للمسلمين أن يستأجروا من يكفيهم تعليم أولادهم، ويلازمهم لهم.»
فالأجر إذن ضروري في نظر القابسي، ووجه الضرورة: «أنه لو اعتمد الناس على التطوع، لضاع كثير من الصبيان ولما تعلم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تثبت أطفال المسلمين على الجهالة.» 33-أ.
والروح الذي دفع المسلمين في صدر الإسلام إلى القيام بتعليم القرآن والكتابة تطوعا، هو ذلك الروح الديني الذي استغرق النفوس، فملأ القلوب وعمرها بالإيمان، مما أدى إلى هذه الفتوحات العظيمة في التاريخ، والتي لا يمكن تفسيرها إلا بقوة الإيمان وشدة اليقين.
فلما استقر المسلمون في الممالك التي فتحوها وتحول أهلها إلى الإسلام، واطمأنت النظم الإسلامية، وركد الروح الأول الدافع إلى الفتح والغزو ونشر الدين وتحويل الأمم إلى الإسلام، اضطر المسلمون إلى تنظيم أمر التعليم الذي يخص أبناءهم فنشأت الكتاتيب، وظهرت مع ظهورها الحاجة إلى تحديد العلاقة بين المعلم والتلميذ، وبين المعلم والنظام المدرسي والعلوم التي يقوم بتدريسها.
وأهم هذه العلوم: القرآن، فهو المحور الذي يدور عليه التعليم في الكتاب، وهو السبيل في ظهور الكتاتيب، وهو همزة الوصل بين المعلم والتلميذ.
ثم برزت مشكلتان: الأولى أخذ الأجر على تعليم القرآن، وهل يجوز ذلك أو لا يجوز. والثانية قبول المعلم الأجر على علوم أخرى غير القرآن.
وهنا نرى أن قضية أجر المعلم عند المسلمين تختلف عن مثلها عند سقراط؛ فقد آثر سقراط الامتناع عن تناول الأجر لغاية خلقية وإنسانية وروحية، فعنده أن الوصول إلى الحقيقة، ثم نشرها وإذاعتها بين الناس لا يتم على الوجه الصحيح الذي نصل فيه إلى الحقيقة الخالصة، إلا إذا ابتعد المعلمون عن شوائب المادة.
أما المسلمون فلم يكن همهم الوصول إلى الحقيقة والبحث عنها؛ لأن القرآن كتاب الله المنزل على عباده فيه جماع الحقائق وغاية المعارف. ومن أراد الوصول إلى الحق فليحفظ القرآن ويع ما فيه. فهل يؤجر من يعلم القرآن؟
فمسألة الأجر نشأت عن علة دينية وعن تعليم القرآن بالذات.
وقد اختلف الفقهاء فيما بينهم على أخذ الأجر على تعليم القرآن. ولكل فقيه وجهة نظر يعتمد عليها في الحكم. وقد كانت هذه المسألة موضع خلاف شديد؛ لأنها تمس القرآن وهو أقدس الأشياء عند المسلمين، ولهذا السبب أفاض القابسي في عرض وجهات النظر المختلفة وانتهى إلى ترجيح رأي القائلين بجواز أجر المعلم.
والذين يكرهون أخذ الأجر على تعليم القرآن يعتمدون على حجج ثلاث:
الأولى: «أن القرآن يعلم لله، فلا ينبغي أن يؤخذ عنه عوض.» وهذه الحجة دينية تطالب المعلمين أن يعلموا في سبيل الله.
والثانية: «أن أئمة المسلمين في صدر الأمة، ما فيهم إلا من قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يبلغنا أن أحدا منهم أقام معلمين يعلمون للناس أولادهم من صغرهم في الكتاتيب، ويجعلون لهم على ذلك نصيبا من مال الله.» 32-ب.
وهذه حجة تعتمد على التقاليد الموروثة، وعلى العادات التي كانت تصدر عن السلف الصالح. وأعمال أئمة المسلمين حجة على غيرهم وأصل من أصول الدين.
وعلى هاتين الحجتين اعتمد الغزالي في تحريم الأجر حيث قال في الوظيفة الثانية للمعلم المرشد: «أن يقتدي بصاحب الشرع
صلى الله عليه وسلم
فلا يطلب على إفادة العلم أجرا، ولا يقصد به جزاء ولا شكورا، بل يعلم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه، ولا يرى لنفسه منة عليهم، وإن كانت المنة لازمة لهم.» إلى أن قال: «فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قوم يزعمون أن مقصودهم التقرب إلى الله تعالى بما هم فيه من علم الفقه والكلام، والتدريس فيهما وفي غيرهما، فإنهم يبذلون المال والجاه ويتحملون صفات الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات ... فأخسس بعالم يرضى لنفسه بهذه المنزلة، ثم يفرح بها، ثم لا يستحي من أن يقول غرضي من التدريس نشر العلم تقربا إلى الله تعالى ونصرة لدينه.»
15
والحجة الثالثة:
حديث القوس الذي ينسب إلى الرسول عليه السلام. وسنة الرسول هي الأصل الثاني من أصول الفقه بعد كتاب الله.
ونذكر هذا الحديث لأهميته كما جاء في رسالة القابسي: «عن عبادة بن الصامت: علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى لي رجل منهم قوسا. فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. لآتين رسول الله فلأسألنه. فأتيته فقلت: يا رسول الله رجل أهدى لي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب؛ القرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنت تحب أن تكون طوقا من النار فاقبلها.» 39-أ.
ويعلق ابن حبيب على هذا الحديث بقوله: «وتأويل هذا النهي أن ذلك كان في مبتدأ الإسلام، وحين كان القرآن قليلا في صدور الرجال، غير فاش ولا مستفيض في الناس. وكان الأخذ على تعليمه يومئذ، وفي تلك الحال، إنما كان ثمنا للقرآن. أما بعد أن صار فاشيا في الناس، قد أثبتوه في المصاحب، وصارت المصاحف وما فيها مباحة للجاهل والعالم، وللقارئ وغير القارئ، غير محجوبة ولا ممنوعة، ولا مطلوبة إلى قوم دون قوم، ولا مخصوص بها قوم دون غيرهم، فإنما الإجارة على تعليمه إجارة البدن المشتغل بذلك، وليس ثمنا للقرآن.» 39-ب.
وبهذا أخرج ابن حبيب المسألة من الأجر على القرآن إلى الأجر على الاشتغال بالتعليم، فتحلل من القرآن بأن يكون الأجر ثمنا للقرآن.
وهذا تحليل غريب في بابه؛ لأنه مع افتراض أن الأجر الذي يتناوله المعلم إنما يأخذه عوضا عن الوقت الذي يشغله، والمجهود الذي يبذله، فإن هذا لا يعني أن الشيء الذي يعلمه هو القرآن، وأنه هو الأصل في التعليم.
أما القابسي فإنه يجعل لحيازة الصبي في الكتاب أجرا، ولتعليمه أجرا آخر، وذلك كما قال عن المعلم الذي يحفظ الصبي الأبله الذي لا يستفيد، ويأخذ أجرا على حوزه لا على تعليمه. فإجارة البدن المشتغل بالتعليم من الأمور المتفق عليها، ويبقى أجر القرآن والتعليم.
وقد وقف القابسي من حديث القوس موقفا يختلف عن موقف ابن حبيب، ذلك أنه لم يقبل الحديث ويعمل على تخريجه وتأويله ذلك التخريج الغريب الذي رأيناه، ولكنه شك في صحة الحديث فقال: «ولو ثبتت صحة نقل حديث القوس على ما ذكر.» 39-أ.
وشك القرطبي أيضا في حديث القوس فقال: «وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زيادة الموصلي عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة عنه؛ والمغيرة معروف بحمل العلم، ولكن له مناكير هذا منها. قاله أبو عمر عبد البر. ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم، لكنه عن عبادة من وجهين؛ وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي، وهو منقطع، وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل.»
16
والذين يجيزون الأجر يعتمدون على أحاديث الرسول أيضا. منها حديث «أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله.» وفي حديث الرقية: «أن بعض أصحاب النبي رقوا ملدوغا بالقرآن واشترطوا جعلا، وسألوا النبي في ذلك فقال: «اقسموا واضربوا لي معكم سهما.» فالحديث يجيز أخذ الإجارة على كتاب الله ممن ينتفع به.» 360-ب.
إنما الأجر المعيب أن يكون للتكسب بالقرآن كما في الحديث: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تراءوا به، ولا تسمعوا به.»
هذا ولا يرى أئمة المسلمين بأسا بأخذ الإجارة على التعليم. وقد جرى المسلمون على ذلك وأجازوه، «وذكروا ذلك عن عطاء بن رباح، وعن الحسن البصري، وعن غير واحد من الأئمة الصالحين.» 34-ب.
وهذا يدحض حجة القائلين بعدم جواز أخذ الأجر اعتمادا على ما كان يعمل السلف الصالح.
عن مالك: «كل من أدركت من أهل العلم لا يرى بأجر المعلمين - معلمي الكتاب - بأسا.»
وعن ابن وهب في موطئه: «سمعت مالكا يقول: لا بأس بأخذ الأجر على تعليم القرآن والكتابة.» «وفي المدونة أن سعد بن أبي وقاص قدم برجل من أهل العراق، وكان يعلم أبناءهم الكتابة والقرآن بالمدينة، ويعطونه على ذلك الأجرة.»
وعن مالك: «لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشتراط شيئا كان حلالا له جائزا.»
وبذلك حل القابسي مشكلة أخذ الأجر على تعليم القرآن، وأجاز ذلك كما أجازه جميع أئمة المذهب المالكي.
وبقيت المشكلة الثانية وهي أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن؛ فهي موضع خلاف بين فقهاء المالكية.
ذلك أن مالكا لا يجيز الأجر على غير القرآن والكتابة، حيث أجاب عن أجر الشعر كما يأتي: «أما الاستئجار على تعليم الشعر لولده فقال فيه ابن القاسم، قال مالك: لا يعجبني هذا.» 43-أ.
وسحنون من رأي مالك وابن القاسم 44-ب.
أما ابن حبيب فقال: «لا بأس بإجارة المعلم على تعليم الشعر والنحو والرسائل وأيام العرب وما أشبه ذلك من علم الرجال وذوي المروءات.» 44-ب.
وإذا علمنا أن ابن حبيب كان فقيه الأندلس، فليس لنا أن نعجب إذا أجاز تعليم الشعر وأخذ الأجرة عليه، فالأندلس بيئة الجمال والفن والشعر.
ويرى القابسي أن وجه الخلاف في الأجر عند الفقهاء: «إنما هو في إفراد المعلم بالإجارة على غير القرآن والكتابة. فأما ما كان من معاني التقوية على القرآن من الكتابة والخط فما اختلفوا فيه.» 43-أ.
وهذا يدلنا على حقيقتين: الأولى الحث على تعليم القرآن ولهذا أجازوا الأجر، والثانية منع تعليم شيء غير القرآن، حتى لا ينصرف الناس إلى هذه العلوم عن القرآن نفسه. ولهذا السبب نصح القابسي بالاقتصاد في تعليم الشعر حتى: «لا يغلب الشعر على الإنسان فيصده عن ذكر الله والقرآن.» 46-أ.
فالقرآن هو الهدف الأول والأخير من التعليم، وفي سبيل تعليمه ونشره أجازوا أخذ الأجرة.
وقد لخص السيوطي في (الإتقان) الكلام في الأجر فقال: «أما أخذ الأجرة على التعليم فجائز. ففي البخاري: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله».» وقيل إن تعين لم يجز، واختاره الحليمي. وقيل لا يجوز مطلقا لحديث أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه: علم رجلا من أهل الصفة القرآن فأهدى له قوسا، فقال له النبي إن سرك أن تطوق به طوقا من نار فاقبلها.
وفي (البستان) لأبي الليث: «التعليم على ثلاثة أوجه ، أحدها للحسبة ولا يأخذ به عوضا؛ والثاني أن يعلم بالأجرة؛ والثالث أن يعلم بغير شرط فإن أهدي إليه قبل. فالأول مأجور وعليه عمل الأنبياء، والثاني مختلف فيه والأرجح الجواز، والثالث يجوز إجماعا لأن النبي كان معلما للخلق وكان يقبل الهدية.»
17
ولخص طاش كبري زاده آراء الفقهاء الذين أجازوا أخذ الأجرة على التعليم، ثم قال: «وقيل لا يجوز مطلقا وهو مذهب أبي حنيفة. إلا أن المتأخرين من أصحابه قالوا لا بأس في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وللتدريس، لظهور التواني والتكاسل في هذا الزمان. ولو منع ذلك لانسد الباب.»
18
وهذا هو رأي القابسي في جواز أخذ الأجرة على التعليم لضرورة تعليم القرآن، حتى لا يضيع من الصدور فينشأ أبناء المسلمين على الجهالة.
ويرى خليل طوطح: «أن كبار الأئمة أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن. وإن أجازوه على تعليم القرآن، فلا ريب أنهم لم يحرموا على تعليم بقية المواضيع المدرسية.»
19
وقد كان الأجر على غير القرآن موضع خلاف بين الفقهاء كما رأينا، ولذلك كان إطلاق القضية على النحو الذي ذكره طوطح في كتابه غير صحيح.
وقد وضع القابسي قواعد الشرط بين المعلم وآباء الصبيان على الأجر، حتى لا يقع الخلاف بينهم.
ويختلف الشرط على التعليم باختلاف البلاد وعاداتها. وقد أجاز الفقهاء جميع الأحوال الخاصة بالشرط على الأجر، فقد يكون مشاهرة أو مساناة أو بأجل معين.
وقد تكون الأجرة على أجزاء القرآن التي يستكمل الصبي حفظها، وذلك حسب عادة البلد، واشتهار أداء الناس في ذلك، مثل الجعل في
لم يكن الذين كفروا (البينة) وفي
عم يتساءلون (النبأ) و
تبارك (الملك) و
إنا فتحنا (الفتح) و«الصافات» و«الكهف» 73-أ.
ولا بأس بالأجر عن سورة واحدة. «جاء رجل إلى مالك قال: علمت رجلا سورة بالأجر. قال: لا بأس.» 71-أ.
وإذا كان الأجر المتفق عليه بحذقة جزءا معينا من القرآن، فلا يجوز التوقيت بأجل مسمى؛ «إذ يخشى أن يوقت وقتا ضيقا لا يبلغ الصبي حذقة ما اشترط تعلمه.»
فإذا انتهى الأجل ولم يكن الصبي قد استكمل الحذقة: «فيكون له أجر مثله فيما علمه في تلك السنة.» 51-ب.
ويأخذ المعلم أجر الختمة زيادة على أجر التعليم المشترط عليه. والختمة في الأصل أن يستكمل الصبي حفظ القرآن. وقد جرت العادة بدفع أجر الختم. قال مالك: «وحق الختمة واجب؛ اشترطها المعلم أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا.» 47-أ.
ومقاربة الختمة عند سحنون إذا بلغ الثلثين أو جاوز ذلك. وقيل عند الثلاثة أرباع أبين: «وعنده أنه إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس أنه لا يقضى له بشيء.» 75-أ.
وتجب الختمة في حالتين، ولا يقضى بها في حالة: (1)
أن يستظهر الصبي القرآن حفظا من أوله إلى آخره، وقدر ما فهمه والصبي مما علمه المعلم 70-أ. (2)
أن يكون الصبي استكمل قراءة القرآن في المصحف نظرا، لا يخفى عليه شيء من حروفه مع ما فهمه الصبي مما ينضاف إلى ذلك من ضبط الهجاء والشكل وحسن الخط 71-أ. (3)
إن كان الصبي لم يتعلم، يملى عليه فلا يتهجى، ويرى الحروف فلا يضبطها فلا يستحق المعلم شيئا إلا إذا كان الصبي أبله.
وإذا تعلم الصبي عند معلم بعض القرآن، ثم خرج من عنده إلى معلم آخر يستكمل عنده الختمة، فالأجر يكون بينهما بمقدار ما علم كل منهما نصفا ونصفا، أو ثلثا وثلثين، أو ربعا وثلاثة أرباع.
فإذا كان المعلم الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرا أو استظهارا، حتى بلغ من الحذقة في ذلك إلى الاستغناء عن المعلم، وكان خروجه إلى الثاني لا يريد علما في تعليمه إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فالجعل كله للأول أو ينقص منه قليل 85-أ.
أما إذا تعلم الصبي عند الأول، ثم أخرج من عنده، ولم ينل من التعليم شيئا له فيه منفعة، لعوج قراءته في سورة يسيرة تعلمها، ولا خط ولا هجاء، فالجعل كله للثاني، وقل ما يناله الأول ... 85-ب.
وأما سحنون فقال: «إن علمه الأول إلى يونس فالختمة للثاني، وإن جاوز ذلك إلى ثلثين أو زاد على ثلثين لم يقض للثاني بشيء.»
وتفسخ الإجارة إن مات المعلم أو مات الصبي أو مات أبو الصبي.
فإن مات المعلم، فهو يستأجر من ماله من يعلم مكانه، وله من الإجارة بحسب ما علم من الأجل 78-أ.
وإذا مات الصبي، فللمعلم من الإجارة بحسب ما علم.
وإن مات الصبي، يأخذ المعلم من تركة الميت إن كان للصبي مال ورثه، وإن لم يكن له مال، فللمعلم أن يفسخ الإجارة إلا أن يشاء أن يتطوع 87-ب.
وإذا نزل بقوم ما يضطرهم إلى الرحيل، فرحل بعضهم إلى مكان وبعضهم إلى مكان آخر، أو رحل بعضهم وثبت بعضهم في البلدة فالحكم في الأجر يكون كما يأتي: (1)
إذا كان قد عاقدهم على المشاهرة شهرا بشهر أو سنة بسنة، فالحكم فيه أن يتركوه متى شاءوا، ويترك تعليمهم متى شاء. والحكم بينهم فيما قد علم لهم. (2)
إن كان قد عاقدهم على سنة بعينها أو أشهر بأعيانها، ورحلوا مضطرين فليس عليه أن يتبعهم في السفر، بل ينتظر عودتهم ويكمل باقي مدة التعليم 88-ب. (3)
إن كان رحيلهم طوعا، فليس لهم أن ينقصوا إجارته 76-ب.
وشركة المعلمين أو أكثر جائزة، إذا كانوا في مكان واحد لسببين:
الأول: «لأن لهم في ذلك ترافقا وتعاونا.» والثاني: «أن يمرض بعضهم، فيكون السالم مكانه حتى يفيق.» 68-أ.
ويشترط مالك في شركة المعلمين أن يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضل على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، فإنه يتناول أجرا أكثر من الأقل علما.
ولا تصح الشركة على مذهب ابن القاسم، إذا استؤجر أحدهما لتعليم النحو والشعر والحساب وما أشبه واستؤجر الآخر لتعليم القرآن والكتابة. وهذا هو مذهب من يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتابة 69-أ.
والمعلم هو الذي يستأجر مكان الكتاب، بيتا كان أو حانوتا.
أما إذا استؤجر المعلم على صبيان معلومين سنة معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المعلم لأنهم هم أتوا بالمعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم 66-ب.
وإذا أراد المعلم الانتقال بالكتاب إلى موضع آخر، فإن كان المكان الجديد لا مضرة فيه على الآتين منه، ولا مشقة ولا خوف على الصبيان، فلا مانع من الانتقال.
فإن كان فيه مضرة على واحد منهم فليس للمعلم أن ينتقل من مكان على التعليم فيه وقعت الإجارة 87-أ.
بهذا نرى أن القابسي فصل الأحوال المختلفة التي تعرض لعلاقة المعلم بالتلميذ من ناحية الأجر، وحكم في كل منها حكما يستند إلى الحق والشرع والمصلحة، حتى يسوى النزاع بين المعلمين وآباء الصبيان، لتستقر الأمور وتجري في مجراها السليم.
وفي الحكم بالأجر إنصاف للمعلمين، وإنصاف للجمهور، وإنصاف للتعليم نفسه.
فالقابسي ينظر إلى الواقع، ولا يتطلب المثل العليا العسيرة المثال.
فهو يريد معلما ورعا تقيا، مخلصا في عمله وفي دينه وفي سلوكه، يقوم من التلاميذ مقام الوالد من الولد، فيأخذ الصبيان بالشفقة والرحمة، والسياسة والحكمة، ويبصرهم أحوال دينهم، ويحفظهم كتاب الله وسنة رسوله، حفظا للدين من الضياع. ولم يضن القابسي على المعلم في سبيل ذلك بالأجر لحفظ المعاش، والكسب الضروري للحياة.
الفصل العاشر
آراء المسلمين في التربية والتعليم
سنعرض في هذا الفصل طائفة من آراء المسلمين في التربية والتعليم، ونخص بالذكر أصحاب الآراء الخاصة التي اشتهرت في تاريخ الفكر الإسلامي. ونحن نرمي من هذا الغرض أن نبين أمورا ثلاثة:
الأول:
أن المستشرقين الذين كتبوا في التربية الإسلامية، ومن تبعهم من المؤلفين في الشرق، درجوا على تقرير آراء معينة في التعليم قالوا عنها إنها آراء المسلمين أو العرب فيما يختص بأغراض التعليم، ومناهجه، وطرقه، وأحواله. وهذا التعميم خطأ؛ لأن أمور التعليم اختلفت باختلاف الأقاليم، واختلاف أشخاص القائلين بها. وقد نجد اتفاقا على بعض الأمور، ولكنهم اختلفوا في أمور أخرى كثيرة مما جعلنا نفرد لكل مفكر منهم كلمة خاصة تجمع رأيه، وتبين ما امتاز به.
والثاني:
أن الآراء التعليمية لمفكر ما وحدة متماسكة في ذهن صاحبها، فقد يذكر منهجا خاصا يلائم الغرض من التعليم الذي يذهب إليه، وكذلك طريقة التعليم التي سلكها في تحقيق ذلك المنهج، فلا يصح أن ننقل جزءا من مذهب مفكر في التعليم ونترك سائر ما ذكره في هذا الصدد
والثالث:
أننا نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقول: إن مذهب المفكر في التعليم جزء أو صدى لمذهبه العام في الحياة أو فلسفته، إذا كانت الفلسفة هي النظر الشامل للحياة. وقد التزمنا هذا المنهج في بحثنا، فبدأنا بذكر مذهب القابسي، وهو مذهب أهل السنة، ثم بينا أن طريقته في التعليم تلائم هذا المذهب. وجمهور الفقهاء كانوا على مذهب أهل السنة، وهذا هو السبب في التشابه الشديد في الرأي بين المتقدمين والمتأخرين فيما ذكروا من فصول متناثرة خلال كتب الفقه، وكتب القرآن التي تعرضت لموضوعات التعليم. وإلى جانب هؤلاء ظهر في البيئة الإسلامية طوائف أخرى تفكر بطريقة مختلفة عن جمهور أهل السنة، كالمعتزلة والفلاسفة والمتصوفة وغيرهم؛ وسنرى في هذا الفصل أن ما نذكره من مسائل التعليم المستندة إلى صاحبها هي صدى لمذهبه العام.
لهذا كله آثرنا أن نجمع أشهر آراء المسلمين في التربية، أو آراء أشهر المربين في الإسلام في مكان واحد، لتكون الموازنة بينهم وبين القابسي الذي يمثل فريق الفقهاء بارزة جلية. (1) إخوان الصفا والتعليم
أما إخوان الصفا وهم فريق من الفلاسفة، ألفوا جماعة سرية، واعتنقوا مذهبا سياسيا، ويقال إنهم من الباطنية، فطنوا إلى أهمية التعليم في طبع النفوس على العقيدة فأشاروا إلى هذا بقولهم: «واعلم أن مثل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم واعتقاد من الآراء، كمثل ورق أبيض نقي لم يكتب فيه شيء، فإذا كتب فيه شيء، حقا كان أو باطلا، فقد شغل المكان، ومنع أن يكتب فيه شيء آخر، ويصعب حكه ومحوه.»
1
وقد نظروا إلى التعليم والتربية نظرا عقليا لا عمليا.
عرفوا العلم بأنه: «صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو: عدم تلك الصورة من النفس.»
2
وعندهم أن طريق اكتساب المعلومات يكون بثلاثة طرق: الأول الحواس الخمس التي بها يدرك الأمور الحاضرة في الزمان والمكان. والثاني استماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان دون سائر الحيوان، يفهم بها الأمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعا. والثالث طريق الكتابة والقراءة يفهم بها الإنسان معاني الكلمات واللغات والأقاويل بالنظر فيها.
3
والمعرفة كلها مكتسبة وليست فطرية. وأصل المعرفة هي الحواس. «والمعقولات التي هي في أوائل العقول ليست شيئا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس. والدليل على ذلك قوله تعالى:
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا (النحل: 78).»
4
والمقصود بالمعقولات الموجودة في أوائل العقول، المعرفة البديهية مثل: الكل أعظم من الجزء. وهذه الأوليات مكتسبة. وقد رد إخوان الصفا على القائلين بأنها «مركوزة» اعتمادا على رأي أفلاطون بما يأتي: «وليس الأمر كما ظنوا، وإنما أراد أفلاطون بقوله إن العلم تذكر أن النفس علامة بالقوة فتحتاج إلى التعليم حتى تصير علامة بالفعل، فسمي العلم تذكرا ثم إن طريق التعاليم هي الحواس ثم العقل ثم البرهان.»
5
وأصحاب (رسائل إخوان الصفا) مخطئون في فهم أفلاطون؛ لأن معنى رأيه «العلم تذكر والجهل نسيان.» أن النفس كانت تعيش مع الآلهة في عالم المثل فعندها معرفة بكل شيء، ولما اتصلت بالجسد نسيت، فإذا انكشف عنها ستار المعرفة، فإنها لا تكسب شيئا جديدا، بل تتذكر ما كانت تعرفه في عالم المثل قبل اتصالها بالجسد.
ومذهب إخوان الصفا شبيه بمذهب لوك الذي يعتبر أن أصل المعرفة هو الحواس، وأنه لا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحواس.
فإذا كانت المعرفة مكتسبة، فكيف الطريق إلى تحصيلها؟
الطريق إليها بالاعتياد الذي يستند إلى المداومة والنظر. وفي ذلك يقولون: «واعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها تقوي الأخلاق المشاكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها، والدرس لها، والمذاكرة فيها، يقوي الحذق بها، والرسوخ فيها ...»
6
والمحاكاة الناشئة عن الاختلاط من وسائل نقل الأفكار، وطبع المعتقدات في النفوس: «والمثال في ذلك أن كثيرا من الصبيان إذا نشئوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربوا معهم، تطبعوا بأخلاقهم، وصاروا مثلهم. وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي يتطبع عليها الصبيان منذ الصغر، إما بأخلاق الآباء والأمهات ... والمعلمين والأساتذة المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم.»
7
والمحاكاة تسير من الكبير إلى الصغير، ومن العالم إلى الجاهل، ولذلك كانت للخواص والعلماء تقليدا وقولا، أو كإقرار الصبيان للآباء والمعلمين تعليما وتلقينا.
8
ومن طرق كسب المعرفة أن تؤخذ عن معلم؛ لأن للمعرفة شرائط: «ليس في وسع كل إنسان معرفتها في أول مرئياته. ومن أجل هذا يحتاج كل إنسان إلى معلم أو مؤدب أو أستاذ، في تعلمه وتخلقه وأقاويله واعتقاده وأعماله وصنائعه.»
9
فطن إخوان الصفا إلى قيمة المعلم وضرورته في تلقين العلوم والمعارف. ولكنهم اشترطوا في المعلم شروطا تتلاءم مع مذهبهم، وتخدم أغراضهم السياسية، وتتفق مع الغاية من نشر دعوتهم، فقالوا: «واعلم أيها الأخ أن من سعادتك أيضا أن يتفق لك معلم ذكي، جيد الطبع، حسن الخلق، صافي الذهن، محب للعلم، طالب للحق، غير متعصب لمذهب من المذاهب.»
10
ولا تتفق هذه الشروط إلا في جماعتهم، كما صرحوا بذلك قائلين: «ثم اعلم أن أصحاب الناموس هم المعلمون والمؤدبون والأساتذة للبشر كلهم، ومعلمو أصحاب النواميس هم الملائكة، ومعلم الملائكة هو النفس الكلية، ومعلمها العقل الفعال والله تعالى معلم الكل.»
11
وأصحاب الناموس في الرتبة الثالثة من جماعة إخوان الصفا. ذلك أنهم رتبوا أنفسهم مراتب أربع بعضها فوق بعض: (1)
الأبرار والرحماء، يشترط فيهم صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول، سنهم خمس عشرة سنة. (2)
مرتبة الرؤساء وذوي الرياسات، عمرهم ثلاثون سنة، يشترط فيهم مراعاة الإخوان وسخاء النفس. (3)
رتبة الملوك وذوي السلطان، وهي القوة الناموسية الواردة بعد ملوك الجسد بأربعين سنة. (4)
الرتبة الرابعة «وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد، ومشاهدة الحق عيانا، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد.»
12
وقد نبه إخوان الصفا في غير موضع إلى أهمية التربية والتعليم والمحافظة في طبع النفوس بالآراء والسجايا، مما يصعب محوه بعد ذلك. ولكنهم أغفلوا مع ذلك حلقة أولى في التعليم، تعتبر من بنيانه كالأساس، وهي مرحلة تعليم الصبيان حتى سن الخامسة عشرة.
ولعلهم تركوا الصبيان وشأنهم يتعلمون في الكتاتيب؛ لأن تعليمهم يتم بالتحفيظ لا بالتفهيم. فهم يحفظون مبادئ العلوم التي لا يستغنى عنها فيما بعد، وفي ذلك يقولون: «كما أن الصبي إذا أحكم ما يراد منه في المكتب استغنى عن حمل اللوح والدواة والمداد والقلم وسواده. لأنه كان يكتب به ، ويقرأ منه ويمحو، ليحصل العلم في نفسه محفوظا، من القرآن، والأخبار، والأشعار، والنحو، واللغة، وما شاكلها مما يحفظ الصبيان في المكتب.»
13
وفي هذا النص إشارة إلى منهج تعليم الصبيان في المشرق، وليس فيه خلاف عن المنهج المتبع في المغرب. (2) ابن مسكويه
وتكلم أحمد بن محمد بن مسكويه عن تعليم الصبيان في كتاب «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق». وقد درج في هذا الكلام على طريقة الفلاسفة، ولكنه كأغلب الفلاسفة المسلمين، أخذ عن الفلسفة اليونانية دون أن يتبع فيلسوفا بعينه، ولكنه أخذ من كل مذهب ما أعجبه، ومزج الآراء بعضها ببعض.
ويتضح تأثره الشديد بالفلسفة لا بالدين، مما ذكره من الغرض من الأخلاق والطريق الموصل إلى ذلك الغرض، فقال: «غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر بها عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا، لا كلفة فيها ولا مشقة. يكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي. والطريق في ذلك أن نعرف أولا نفوسنا ما هي؟ وأي شيء هي؟ ولأي شيء أوجدت؟»
14
وإذا انتهى الصبي من كمال التمييز يسمى عاقلا: «إلى أن ينتهي إلى الغاية الأخيرة، وهي التي لا تراد لغاية أخرى، وهو الخير المطلق.»
15
ثم إن الفضائل التي يتعود عليها الصبيان، وينشئون عليها: «تسوقهم إلى مرتبة الفلسفة العالية.»
16
الحق والخير والجمال هي الغايات التي يتطلع إليها الإنسان. وهذه الثلاثة هي بذاتها مثل أفلاطون الأخيرة.
والنفس جوهر مخالف للجسد؛ لأن: «النفس تقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات على التمام والكمال ... ولهذه العلة يزداد الإنسان فهما كلما ارتاض وتخرج في العلوم والآداب. فليس النفس إذن جسما.»
17
وتنقسم النفس إلى ثلاث قوى: النفس الناطقة، والغضبية، والشهوانية. والناطقة هي القوة التي بها يكون التفكير والنظر في حقائق الأمور، والغضبية هي التي يكون بها النجدة والإقدام على الأحوال، والشهوانية يكون بها طلب الغذاء والملاذ.
وفضيلة النفس الناطقة الحكمة، وآلاتها: الذكاء وهو سرعة انقداح النتائج وسهولتها على النفس؛ والذكر وهو ثبات ما يخلصه العقل أو الوهم من الأمور؛ والتعقل وهو موافقة بحث النفس عن الأشياء الموضوعة بقدر ما هي عليه؛ وصفاء الذهن وهو استعداد النفس لاستخراج المطلوب؛ وجودة الذهن وهو استعداد النفس لاستخراج المطلوب؛ وجودة الذهن وهو تأمل النفس لما قد لزم من المقدم؛ وسهولة التعلم وهي قوة للنفس وحدة للفهم بها تدرك الأمور النظرية.
18
والمعلومات بعضها مكتسب، وبعضها فطري. «فإن النفس وإن كانت تأخذ كثيرا من مبادئ العلوم عن الحواس، فلها من نفسها مبادئ أخر، وأفعال لا تؤخذ عن الحواس البتة. وهي المبادئ الشريفة العالية التي تنبني عليها القياسات الصحيحة.
وبالجملة فإن النفس إذا علمت أن الحس صدق أو كذب، فليست تأخذ هذا العلم من الحس ... وهذا العلم من ذاتها وجوهرها أعني العقل.»
19
وإذا أردنا التعبير عن هذا الرأي بأسلوب آخر، نقول إن مادة المعلومات مكتسبة، أما صورتها ففطرية.
والأحوال الخلقية بعضها مكتسب وبعضها فطري، «فمنها ما يكون طبيعيا من أصل المزاج، ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولا فأولا حتى يصير ملكة واختيارا.» «ولهذا اختلف القدماء فقالوا من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه، وقال أخرون ليس شيء من الأخلاق طبيعيا.»
وقد اختار ابن مسكويه المذهب الثاني وهو أننا: «ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا وإما بطيئا. ولأن الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها، وترك الناس همجا مهملين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا.»
فالصبي قابل للتعليم والتأديب.
ثم وصف بن مسكويه العلوم والفضائل التي يأخذ الناس بها أنفسهم منذ الصبا. «فمن اتفق له في الصبا أن يربى على أدب الشريعة، ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها، ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق حتى تتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه بالبراهين، ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البرهان، ثم يتدرج في منازل العلوم، فهو السعيد الكامل.»
20
في هذا المنهج نجد ابن مسكويه يمزج بين الدين والفضيلة والعلم على الأخص علم الحساب والهندسة، وهذا شبيه بالفيثاغوريين.
ثم ذكر ابن مسكويه فصلا في تأديب الأحداث والصبيان خاصة، نقل أكثره من كتاب بروسن.
21
وأكبر الظن أن بروسن هذا نقل عن فلوطرخس، ويقول العرب عنها إنها رسالة أفلاطون في آداب الصبيان؛ والتأديب في هذه الرسالة ينصرف إلى أبناء الأشراف الذين: «لا يربون أولادهم بين حشمهم وخدامهم خوفا عليهم من الأحوال التي ذكرناها.»
22
والكلام في هذا الفصل ينصب على التربية والتأديب، لا على كسب العلوم. وقد كانت عناية الروم والفرس متجهة في الغالب إلى تهذيب الخلق وتعليم الأدب.
ولا ننسى أن الروم كانت دولة أرستقراطية انعزلت فيها الطبقات بعضها عن بعض، على عكس الإسلام الذي سوى بين الناس في الحقوق، ومحا فوارق الطبقات.
قال ابن مسكويه نقلا عن هذا الكتاب: وأحوج الصبيان إلى هذا الأدب أولاد الأغنياء والمترفين.
لذلك كانت آداب السلوك التي ذكرها بأهل الطبقة الرفيعة أليق.
ونفس الصبي ساذجة لن تنتقش بعد بصورة، ولا لها رأي وعزيمة تمليها من شيء إلى شيء. فإذا نقشت بصورة قبلتها نشأ عليها واعتادها. وهذا يطابق الرأي الذي ذهب إليه من قبل، وقد ساد هذا الرأي بنصه عند أغلب المفكرين في الإسلام.
وأولى الآداب بالتقديم أدب المطاعم، التي تراد للصحة لا للذة، ولدفع الجوع وحفظ صحة البدن. ولا يرغب الصبي في الألوان الكثيرة، وإذا جلس مع غيره فلا يبادر إلى الطعام، ولا يحدق إليه شديدا، ولا يسرع في الأكل.
أما الحلوى والفاكهة فينبغي أن يمتنع عنها البتة إن أمكن، وإلا فيتناول أقل ما يمكن، فإنها تستحيل في بدنه وتكثر انحلاله. ونقول إن هذا الرأي لا يتفق ومبادئ الطب الحديث. «فأما النبيذ وأصناف الأشربة المسكرة فإياه وإياها، فإنها تضره في بدنه ونفسه، وتحمله على سرعة الغضب والتهور والإقدام على القبائح. ولا يحضر مجالس أهل الشرب إلا أن يكون أهل المجلس أدباء.» وهذا الرأي أجنبي لا إسلامي؛ إذ المعلم ينهى عن الخمر لأن الدين حرمها، ولا ينصح البتة بحضور مجالس الشراب. ثم إن هذه المجالس يجتمع فيها الخاصة لا العوام، وهذا يطابق ما ذكرناه من أن هذا الفصل يعالج تأديب الصبيان في الطبقة الرفيعة.
ويمنع الصبي من النوم الكثير؛ فإنه يقبحه ويغلظ ذهنه. ولا يتعود النوم بالنهار ألبتة، ويعود الحركة والمشي والرياضة.
فالغاية من هذه الآداب كلها هي أن يتعود الخشونة ويصلب بدنه. ولذلك: «يؤاخذ باشتهائه المآكل والمشارب والملابس الفاخرة. ويعلم أن أولى الناس بالملابس الملونة والمنقوشة النساء اللاتي يتزين للرجال، وأن الأحسن بأهل النبل والشرف من اللباس البياض.»
وأبلغ مما سبق في التعود على الخشونة والرجولة: «أنه ينبغي إذا ضربه المعلم ألا يصرخ وألا يستشفع بأحد، فإن هذا فعل المماليك، ومن هو خوار ضعيف.»
ومع ذلك فالصبي «يؤذن له في بعض الأوقات أن يلعب لعبا جميلا ليستريح إليه من تعب الأدب.»
ومما يجري مجرى الرجولة والأدب أن يحفظ الأخبار والأشعار التي تعوده الأدب: «ويحذر النظر في الأشعار السخيفة، وما فيها من ذكر العشق وأهله، وما يوهمه أصحابها أنه ضرب من الظرف، ورقة الطبع. فإن هذا الباب مفسدة للأحداث جدا.»
وطريقة التأديب إذا وقع من الصبي مخالفات هي التغافل أولا، ثم التوبيخ، ثم الضرب؛ «لأنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة.» ويمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل.
هذه هي خلاصة ما ذكره ابن مسكويه في التعليم والتأديب. ومن الواضح أنه تأثر في آرائه بالفلسفة، فأخذ عن أفلاطون، وعن أرسطو، وعن الفيثاغوريين، وعن الفرس، وجعل من كل ذلك مذهبا جديدا في الأخلاق، مؤتلفا إلى حد كبير.
فهو يرمي إلى السعادة بالترقي إلى الحق والخير والجمال «مع حسن الحال في الدنيا، وطيب المعيشة، وجميل الأحدوثة.»
23
وهذا الرقي يقبله المرء بالتأديب. (3) ابن سينا
عرض ابن سينا في كتاب (السياسة)
24
لواجب الرجل نحو ولده، فبسط أحوال تعليمه وتأديبه بكلام يدل على نفاذ الفكر وصدق النظر، مما هو جدير بمقام فيلسوف الإسلام الشيخ الرئيس ابن سينا.
وآراؤه تدل على حرية شديدة في التفكير ، على العكس من ابن مسكويه الذي تقيد بآراء أفلاطون وأرسطو، وأراد أن يطبقها على البيئة الإسلامية، فخرجت لذلك مغايرة لطبيعة المسلمين. أما ابن سينا فينظر إلى البيئة الإسلامية، ويتحرى الأساليب الملائمة لها في التعليم والتهذيب، بما يتفق مع العقل السليم. «إذا فطم الصبي عن الرضاع بدئ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة؛ فإن الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق، فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة.»
هذه هي نظرية تكوين العادة وصعوبة الإقلاع عنها، وأغلب المسلمين على هذا الرأي، ولهم في ذلك حكم مأثورة مشهورة مثل: «التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.» إلى غير ذلك.
وقد رأينا القابسي أيضا ينصح بتكوين العادات الحسنة منذ الصغر، ومنها المبادرة بتعليم الصبي الصلاة. «فإذا اشتدت مفاصل الصبي، واستوى لسانه، وتهيأ للتلقين، ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء، ولقن معالم الدين.»
وابن سينا هنا يرجع بالذاكرة إلى نفسه حين كان صبيا صغيرا، فأحضر معلم القرآن، ولم يبلغ العاشرة من عمره حتى أتى على القرآن وعلى كثير من الأدب، كما ذكر في سيرة حياته.
فهو يريد أن ينشئ أبناء المسلمين على الصورة التي نشأ هو عليها، ولا يجد في ذلك حرجا أو مطعنا، ولهذا أقر هذه الطريقة التي تبدأ بتعليم القرآن والكتابة، كما جرت العادة في الكتاتيب.
ويرى ابن سينا: «أن يروى الصبي الرجز ثم القصيد.» وهذا الاهتمام الشديد بالشعر والنص عليه، دليل على عناية ابن سينا بالفن وأثره في النفس، وقد كان ابن سينا شاعرا نظم القصيدة العينية في النفس، وله قصيدة في المنطق. وأرجوزة في الطب، وعدة قصائد في الزهد وغير ذلك، فلا غرابة أن يحث على تعليم الشعر.
ومن رأي ابن سينا أن يكون التعليم جميعا في المكتب، لا فرديا على مؤدب خاص. وكانت عادة الأغنياء والأشراف اتخاذ المؤدبين لأولادهم. «لأن انفراد الصبي الواحد بالمؤدب أجلب لضجرهما.» «ولأن الصبي عن الصبي ألقن، وهو عنه آخذ وبه آنس.»
ووجود الصبي مع غيره من الصبيان «أدعى إلى التعلم والتخرج فإنه يباهي الصبيان مرة ويغبطهم مرة ويأنف عن القصور عن شأوهم مرة. ثم إنهم يترافقون ويتعاوضون الزيارة ويتكارمون ويتعاوضون الحقوق، وكل ذلك من أسباب المباراة والمباهلة والمساجلة والمحاكاة، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهممهم وتمرين لعاداتهم.»
وليس في هذا الكلام جديد عما ذكر القابسي الذي حبذ المخايرة بين الصبيان، وأجاز اتخاذ العريف لما في ذلك من فائدة في تخريج الصبيان.
وإنما الجديد النصيحة لأبناء الطبقة الرفيعة أن يتصلوا بأبناء الشعب في الكتاتيب مما يدل على تأصل الروح الديموقراطي في قلب ابن سينا. ولم يكن ابن مسكويه على هذا الرأي؛ لأن رسالة تأديب الأحداث التي نقلها في كتابه إنما تصف تعليم صبيان الخاصة فقط، وينصرف الرأي فيها إلى المؤدب وتلميذه، لا المعلم وصبيانه.»
وقيمة المعلم عند ابن سينا في خلقه وسيرته، لذلك ينبغي أن يكون: «عاقلا، ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق، حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا رزينا بعيدا عن الخفة والسخف، قليل التبذل والاسترسال بحضرة الصبي.»
ورأي ابن سينا في العقوبة لا يخرج عما هو معروف عند فقهاء المسلمين، وعما ذكر القابسي، فهو ينصح بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، والحمد مرة والتوبيخ مرة أخرى، والضرب بعد الإرهاب الشديد.
ونحب أن نقف قليلا عند رأي جديد لابن سينا لم يسبقه إليه أحد في الإسلام، وهو من الآراء الحديثة في التربية وعلم النفس. ذلك هو مسايرة ميول الصبي، ثم توجيه الصبي إلى الصناعة أو المهنة التي تتفق مع ميوله.
ذلك أنه: «ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه، وأنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب، وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والملائمة، إذن ما كان أحد غفلا من الأدب، وعاريا من صناعته، وإذن لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف وأرفع الصناعات.» «وينبغي لمدبر الصبي إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولا طبع الصبي، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له الصناعات بحسب ذلك.»
ولكن ابن سينا لم يوضح لنا طريقة اختبار الذكاء، وميزان الطبع والقريحة؛ ولعله ترك ذلك لفراسة المعلم ورأيه. بينما الجديد في علم النفس الحديث هو ابتكار اختبارات الذكاء، واختبارات الشخصية. (4) الغزالي
ذكرنا التربية عند إخوان الصفا، وعند ابن مسكويه، وعند ابن سينا، لنبين ما يراه بعض الفلاسفة في تعليم الصبيان.
ونذكر الآن رأي المتصوفة، وسنتخذ الغزالي ممثلا لهم؛ لأنه أوفى من كتب في هذا الموضوع، ولأن آراءه أوسع انتشارا من غيره.
يرى أبو حامد الغزالي المتوفى عام 505 هجرية، أن قيمة المعلم كبيرة في انتشار المذاهب المختلفة، ونشوء الناس عليها. والمذهب: «هو نمط الآباء والأجداد، ومذهب المعلم، ومذهب أهل البلد فيه النشء، وذلك يختلف باختلاف البلاد والأقطار، ويختلف بالمعلمين.»
25
وليس غريبا أن ينبه الغزالي على قيمة التعليم والمعلمين، وهو الذي كان معلما في إحدى مدارس بغداد، ثم اعتزل التعليم وصناعته ليكون معلما للناس كافة عن طريق كتبه التي ألفها، وأكبرها «إحياء علوم الدين».
وبعد أن طاف الغزالي بجميع المذاهب في الكلام والفلسفة، انصرف عنها، وطعن عليها، وآثر طريق التصوف.
ولكنه اعتنق هذا المذهب عن روية وتفكير، لا عن اتباع وتقليد.
وجانب العمل متفق عليه من الصوفية، فهو محو الصفات الرديئة، وتطهير النفس من الأخلاق السيئة، ولكن جانب العلم مختلف فيه. فإن الصوفية لم يحرصوا على تحصيل العلوم ودراستها، وتحصيل ما صنفه المصنفون في البحث عن حقائق الأمور، بل قالوا الطريق المجاهدة بمحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكل همة على الله. وأما النظار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإفضاءه إلى المقصد، ولكن استوعروا هذا الطريق ... فالاشتغال بتحصيل العلوم أولى؛ فإنه يسوق إلى المقصود سياقة موثوقا بها.
26
وأفضل المعلومات وأعلاها، وأشرفها هو الله الصانع المبدع الحق الواحد؛ وهذا العلم ضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء كما قال
صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم.» وهذا العلم لا ينفي سائر العلوم، بل لا يحصل إلا بمقدمات كثيرة، وتلك المقدمات لا تنتظم إلا من علوم شتى.
27
وهذه المقدمات التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو. ومن الآلات علم كتابة الخط.
28
وإلى جانب ذلك فالعلم فضيلة في ذاته وعلى الإطلاق من غير إضافة، فإنه وصف كمال الله سبحانه. وتعرف فضيلة العلم بثمرته، وهي القرب من الله تعالى. أما في الدنيا فالعز، والوقار، ونفوذ الحكم على الملوك، ولزوم الاحترام في الطباع.
29
والعلم الذي هو فرض عين على كل مسلم: اعتقاد وفعل وترك؛ أي اعتقاد بالله، وفعل بما أمر الله، وترك لما نهى عنه.
والعلم الذي هو فرض كفاية: فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، والحساب فإنه ضروري للمعاملات وقسمة الوصايا والمواريث.
30
وهنا نرى أن الغزالي يقترب من رأي القابسي وهو رأي أهل السنة، الذين يجعلون علم القرآن والصلاة وبعض النحو والخط من العلوم الضرورية، أما الحساب فليس بلازم على المعلم إلا أن يشترط عليه.
أما الطريق إلى تحصيل العلوم فهو على وجهين: (1)
التعلم الإنساني وهو التحصيل بالتعلم من خارج. (2)
التعليم الرباني وهو الاشتغال بالتفكر من داخل.
والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي، والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العلماء والفضلاء
31
إلى أن قال: «والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة كالبذر في الأرض، والتعلم هو إخراجه من القوة إلى الفعل.» وليس ما يقوله الغزالي مبتكرا، فهذا مذهب ابن سينا والفارابي من قبل، وكلاهما أخذ عن الأفلاطونية الحديثة.
وقد مزج الغزالي هذه الآراء الفلسفية بما يقوله المتصوفة، وما لا يخرج عن ذلك وإنما بأسلوب آخر. «وقال قوم من المتصوفة: إن للقلب عينا كما للجسد، فيرى الظواهر بالعين الظاهرة، ويرى الحقائق بعين العقل.»
32
والإنسان لا يقدر أن يتعلم جميع الأشياء: الجزئيات والكليات، وجميع العلوم؛ بل يتعلم شيئا، ويستخرج بالتفكر من العلوم شيئا، وإذا انفتح باب الفكر على النفس علمت كيفية طريق التفكر، وكيفية الرجوع بالحدس إلى المطلوب.
33
وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحس أولا ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب ابن سينا، كما هو مذكور في (النجاة) وغيره من الكتب.
أما التعليم الرباني فعلى وجهين: إلقاء الوحي بأن يقبل الله تعالى على تلك النفس إقبالا كليا، وينظر إليها نظرا إلهيا، ويصير العقل الكلي كالمعلم، والنفس القدسية كالمتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس من غير تعلم وتفكر.
والإلهام تنبيه النفس الكلية للنفس الجزئية الإنسانية على قدر صفائها وقبولها وقوة استعدادها، والعلم الذي يحصل على الإلهام يسمى علما لدنيا، ويكون لأهل النبوة والولاية.
34
ويحصل العلم اللدني باتباع الطرق الآتية: (1)
تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر منها. (2)
الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. (3)
التفكر، فإن النفس إذا تعلمت وارتاضت بالعلم، ثم تفكرت في معلوماتها بشروط التفكر، ينفتح عليها باب الغيب.
35
فخلاصة مذهب الغزالي أن: «الأولى أن يقدم طريق التعليم فيحصل من العلوم البرهانية ما للقوة البشرية إدراكه بالجهد والتعليم ... فإذا حصل ذلك على قدر إمكانه ... فلا بأس بعده أن يؤثر الاعتزال عن هذه الخلق، الإعراض عن الدنيا، والتجرد لله.»
36
وهذا الرأي هو صورة من حياة الغزالي؛ لأنه لم يتصوف إلا في آخر حياته، بعد أن اشتغل بتحصيل العلوم.
ونعود إلى الكلام عن تعليم الصبيان.
وينبغي أن نعلمهم منذ الصغر؛ لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
37
والطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها. وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش.
38
ثم نقل الغزالي في هذا الفصل الخاص برياضة الصبيان في أول نشوئهم ووجه تأديبهم ما ذكره ابن مسكويه في كتاب «تهذيب الأخلاق» نقلا عن بروسن، وذلك بنفس الترتيب في الآراء، وبألفاظه في أكثر المواضع؛ وكل ما في الأمر أن الغزالي حذف منه الأغراض الفلسفية التي شرحناها سابقا، ووضع أغراضا جديدة تتلاءم مع مذهبه في التصوف. قال في بيان الغرض من تأديب الصبيان: «وإنما المقصود منها أن يقوى بها على طاعة الله ... وإن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة حتى تعظم درجته عند الله تعالى.»
39
وذكر الغزالي في مكان آخر الشروط التي ينبغي أن يأخذ بها المتعلم
40
وهي: (1)
تقديم طهارة النفس على رذائل الأخلاق؛ إذ لا تصلح عبادة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق. (2)
أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن. (3)
ألا يتكبر على العلم، ولا يتأمر على المعلم، بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية. (4)
أن يحذر الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يدهش عقله، ويحير ذهنه، ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع. (5)
ألا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة، ولا نوعا من أنواعه، إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ... فإن العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط ببعض. (6)
ألا يخوض في فن من فنون العلم دفعة، بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم، فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا، فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه. (7)
ألا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا، وبعضها طريق إلى بعض. (8)
أن يعرف السبب الذي به يدرك الشرف في العلوم، فإن ثمرة علم الطب الحياة الدنيوية، وثمرة الدين الحياة الأخرى، فيكون علم الدين أشرف. (9)
أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضائل، وفي المآل القرب من الله ... ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران. ولا ينبغي أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم التي هي فرض كفاية. (10)
أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد، كما يؤثر الرفيع القريب على البعيد، والمهم على غيره.
أما واجبات المعلم فهي: (1)
الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه. (2)
ألا يطلب على العلم أجرا، ولا يقصد به جزاء ولا شكورا. (3)
ألا يدع من نصح المتعلم شيئا، وأن ينبه أن الغرض من طلب العلوم القرب من الله دون الرياسة والمنافسة والمباهاة. (4)
أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ. (5)
ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه. (6)
أن يقتصر المتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله. (7)
أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقي إليه الجلي اللائق به، ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقا وهو يدخره عنه؛ فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي، ويشوش عليه قلبه. (8)
أن يكون المعلم عاملا بعلمه، فلا يكذب قوله فعله .
في القواعد السابقة بعض المبادئ في التعليم تعتبر من أسمى ما وصل إليه علماء التربية. وأهمها الترابط بين العلوم، والبدء بالأهم فالمهم، وبالواضح قبل الغامض، وبالأسبق في الترتيب.
ونأخذ على الغزالي ما يعيبه على المعلم من أخذ الأجر على التعليم، فهذا من الآراء المثالية التي لا تتفق مع الواقع. وهذا يختلف عن رأي القابسي.
ولكن الغزالي بسط هذه المبادئ العامة في إيجاز دون أن يخوض في تفصيل شئون التعليم والتربية. فلم يتكلم عن المنهج، أو مكان التعليم، أو اليوم المدرسي؛ أو العقاب، أو اختيار الصبيان إلى آخر ما جاء في رسالة القابسي.
وبعد فإننا نرى أن رأي الغزالي في التعليم جزء من مذهبه في التصوف، وهو مخالف بعض الشيء لمذهب أهل السنة.
فهو يتفق معهم في الغرض وهو معرفة الله تعالى، ومعرفة العبادات التي أمرنا بها، وأنواع الأفعال التي نهانا عنها.
ولكن الطريقة مختلفة، فهو ينصح بطريق الصوفية وهو مجاهدة النفس ورياضتها للوصول إلى قرب من الله. وقد جرح الغزالي الفقهاء والمتكلمين كما جرح الفلاسفة، فقال: «فكن حريصا على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين.»
41 (5) الزرنوجي
ومن الكتب الذائعة الذكر عند العرب «تعليم المتعلم طريق التعلم» لبرهان الدين الزرنوجي المتوفى سنة 591ه. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية.
ويعده الدكتور إبراهيم سلامة، إلى جانب كتاب القابسي، أهم كتابين في التربية، وقد ترجم عناوين فصوله، ثم عرض بعض آرائه في إيجاز.
42
وعندنا أن السر في شهرة هذا الكتاب راجع إلى عنوانه من جهة، وإلى أنه كتاب خاص بالتربية والتعليم فقط، ومثل هذه التآليف الخاصة قليلة عند المسلمين.
والرأي عندي أن قيمة هذا الكتيب ضئيلة الشأن.
فهو صغير الحجم لا يكاد يبلغ فصلا من الفصول المؤلفة في التربية في كتب الفقه.
ولم يأت صاحبه بجديد، وإنما ذكر ما هو معروف متداول، ومزج الآراء بالحكايات وبعض الأشعار والأمثال.
وكثيرا ما ينزل إلى مستوى العامة في الاعتقاد بأوهام لا تستند إلى أساس علمي. قال فيما يمنع الرزق كلاما لا ينبغي أن يقوله العلماء منه: «كنس البيت في الليل، وحرق قش البصل والثوم، والامتشاط بمشط منكسر، والتعمم قاعدا، والتبول قائما.»
43
وهو يجري في هذا الكتاب مجرى أهل السنة المائلين إلى التصوف، كما اشترط لطالب العلم أن: «يشتغل بالشكر باللسان والجنان، ويرى الفهم والعلم والتوفيق من الله، ويطلب الهداية من الله بالدعاء منه والتضرع إليه، فأهل الحق وهم أهل السنة والجماعة طلبوا الحق من الله تعالى.»
44
وكان الغزالي من قبل متصوفا، ولكنه كما ذكر عن نفسه أنه من فريق النظار، أي أهل النظر العلمي. ولذلك أوجب الغزالي معرفة العلوم في أول العمر، وهي التي تحصل بالدأب والاجتهاد، ثم ينقطع الإنسان إلى التصوف في آخر العمر بعد تحصيل العلوم. أما الزرنوجي فإنه بعد أن نصح طالب العلم بالمذاكرة والمناظرة والمطارحة والتأني والتأمل، عاد فذكر أشياء لا توصل إلى العلم، وإنما تصلح لغايات أخرى. «قال أبو حنيفة: إنما أدركت العلم بالحمد والشكر.»
45
والحمد والشكر يأتيان بعد تحصيل العلم، وليس الحمد والشكر من أسباب تحصيله. ثم قال «ولا يعتمد على نفسه وعقله، بل يتوكل على الله ويطلب الحق منه.»
46
وهذه النصائح وأمثالها هي التي بثت في المسلمين روح التواكل والكسل وعدم الاعتماد على النفس.
وبدأ الزرنوجي ببيان أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، وهو علم الحال كالصلاة والزكاة وما إلى ذلك، وبعد ذلك ينتقل إلى علم المآل.
وينبغي لطالب العلم أن يصبر على أستاذ بعينه، ولا يشتغل بفن قبل أن يتقن الأول، وأن يعظم أستاذه ويوقره، وأن يجود الكتابة ولا يقرمط، «وينبغي ألا يكون في الكتاب شيء من الحمرة، فإنها صنيع الفلاسفة لا صنيع السلف.»
47
وهذا منتهى الغاية في الجمود، والتعسف في الرأي دون علة معقولة؛ إذ أي عيب في الكتابة بالمداد الأحمر.
ولذة العلم من دواعي تحصيل العلم. أما الكسل والنسيان فعلاجهما تقليل الطعام. وينبغي أن يبدأ المتعلم بما هو أقرب إلى فهمه، ولا يحفظ إلا بعد الفهم.
أما التكرار فيتبع فيه الطريقة الآتية: وهي خمس مرات أول يوم، ثم أربع مرات في اليوم الثاني ، وثلاث مرات في اليوم الثالث، ومرتان في اليوم الرابع، ومرة في اليوم الخامس. فهذا أدعى إلى الحفظ.
48
وقد ضبط علماء التربية الحديثة طريقة التكرار بالتجارب، فوجدوا أن التكرار الموزع على أيام كثيرة، أفضل من التكرار المستمر. وهذا يشبه ما قاله الزرنوجي، ولكنه لا يعتمد فيه على التجارب. (6) ابن عبد البر
ونعرض قبل أن نختم هذا الفصل بما ذكره ابن خلدون، لكتاب آخر في التعليم هو (جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله) لابن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463ه.
وصاحب هذا الكتاب من أهل الحديث، ويتبع منهجهم في التأليف والتفكير، فهو لا يجادل ولا يسوق البراهين والأدلة، وإنما يتلمس آثار السلف، وقد ذكر المؤلف هذا المنهج في المقدمة، فقال بعد ذكر الموضوعات التي سيعرض لها ثم يجيب عنها: «مما روي عن سلف هذه الأمة، لتتبع هديهم، وتسلك سبيلهم، وتعرف ما اعتمدوا عليه من ذلك.»
49
والجزء الثاني من الكتاب دفاع عن طريقة أصحاب الحديث، وفي وجوب الأخذ بالحديث في إقامة العلم، واتباع السلف، وأن الرأي سبب في الوقوع في البدع.
فطريقة ابن عبد البر تماثل طريقة القابسي في التأليف، إلا أن القابسي أكثر حرية؛ لأنه يرجح آراء الفقهاء إذا اختلفت، ويسلك في الرواية السبيل التي تتفق مع العقل وتلائم طبيعة الأشياء، أما ابن عبد البر فيذكر الرأي ونقيضه بما ورد من أحاديث وآثار دون أن يرجح أحدهما على الآخر، مثال ذلك ما جاء في ذكر النهي عن كتابة العلم، ثم ما جاء عن الرخصة في كتابة العلم.
50
وبدأ المؤلف بالكلام عن وجوب طلب العلم معتمدا على الحديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم.» بعد أن خرج هذا الحديث من عدة طرق؛ ثم بين أن العلم فرض عين، ومنه فرض كفاية، وأن الأول هو معرفة أصول الإسلام، كالاعتقاد بوجود الله، والصلاة، والزكاة، والحج.
ثم استطرد إلى الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، كالصبر والزهد في الطعام والمال والرياسة.
ونصح المؤلف أن يكون طلب العلم في الصغر؛ لأن من تعلم العلم وهو شاب كان كوشم في حجر، ومن تعلم العلم بعد ما يدخل في السن كان كالكاتب على ظهر الماء.
51 (7) ابن خلدون
واتبع ابن خلدون - المتوفى عام 808ه - مذهبا مخالفا للفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة وأهل السنة، وهو المذهب الذي ابتدعه وسبق به عصره، نعني المذهب الاجتماعي.
ذلك أن الإنسان حيوان مفكر اجتماعي، خاضع في صلة بعضه ببعض لقوانين اجتماعية، في جميع أمور معاشه وعمرانه.
ويمتاز الإنسان عن الحيوان بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه، والتعاون عليه بأبناء جنسه، والاجتماع المهيئ لذلك التعاون. «وعن هذا الفكر تنشأ العلوم.» «فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلم، أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك، أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه فيتلقى ذلك عنهم.»
52
فالتعليم ضروري وطبيعي في البشر لحاجة الإنسان إلى معرفة العلوم المختلفة التي لا تتيسر بالفهم والوعي فقط، بل بملكة خاصة. «والحصول على هذه الملكة في العلم أو الفن يكون بالتعليم. ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند أهل كل أفق وجيل.»
53
وانتشار التعليم، وتقدم العلم، متوقفان على الحضارة، «والمثال في ذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس، واستبحر عمرانهما، وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة، ورسخ فيهما التعليم، فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلا.»
54
والتفاوت بين الناس ناشئ عن حصول الملكات بواسطة التعليم، على عكس ما يظنه بعض الناس من أن هذا التفاوت راجع إلى اختلاف في حقيقة الإنسانية.
55
والعلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين؛ علوم مقصودة بالذات كالعلوم الشرعية والطبيعية والإلهية؛ وعلوم آلية ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، والمنطق للفلسفة. وينبغي أن يوجه الاهتمام إلى علوم المقاصد أكثر من وسائلها، ولهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها.
56
والقرآن هو أول العلوم التي يتعلمها الصبي؛ لأن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعار الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان ... وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل به بعض من الملكات. «وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا، وهو أصل لما بعده.»
57
وهذا مما أخذ به جميع المفكرين في الإسلام.
ثم ذكر ابن خلدون بعد ذلك اختلاف الأمصار في الشرق والغرب في طريقة التعليم وما يبدءون به الصبي من العلوم المختلفة كما ذكرنا من قبل.
58
وعقد ابن خلدون فصلا عن ضرر الشدة بالمتعلمين، يدل على بصر شديد بعلم النفس، لأن: «من كان مرباه بالعسف والقهر، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه.» وهذا شبيه بما يذكره علماء التحليل النفساني المحدثون في وجود عقدة نفسية كامنة في اللا شعور هي التي تحرك أفعال المرء.
والعسف يفسد في الصبي معاني الإنسانية، فيفقد الحمية المدافعة عن نفسه، ويصير عيالا على غيره.
لذلك ينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدوا عليهم في التأديب.
على أنه إذا استحق الضرب، «فلا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا.»
59
وهذا هو رأي القابسي. •••
والذين ألفوا في التعليم من المتأخرين عن ذلك، لم يفعلوا أكثر من تلخيص آراء المتقدمين دون ذكر المراجع التي رجعوا إليها، كما هي الحال في أغلب الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة في جميع العلوم الإسلامية.
ومن هذه الكتب (رسالة في رياضة الصبيان) لشمس الدين الإنبابي، و(اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم) لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، و(تحرير المقال) لابن حجر الهيثمي، وفضل علم السلف على الخلف لابن رجب البغدادي.
وكل من رجع إلى هذه الكتب، يستطيع أن يعثر بسهولة على الأصل الذي استمد منه أصحابها آراءهم. فهي إما لابن مسكويه كما فعل الإنبابي في نقل «رسالة تأديب الصبيان»، أو الغزالي كما فعل الأنصاري في نقل شروط المعلم والمتعلم ، أو مما هو معروف في كتب الفقه والأدب.
الفصل الحادي عشر
خاتمة
كتب الأستاذ كارا دي فو في كتابه «مذهب الإسلام»: «لا يجد الإنسان في الشرق الإسلامي ذلك الذوق الفطري للتعليم، ولا الميل للبحث عن المناهج العقلية، ولا الرغبة في التقدم في أمثال هذه المسائل.
ولم يهتم الإسلام بأمر الطفل، وكذلك لم تحفل به المسيحية. والطفولة عند المسلمين بسيطة، ويبدو أنها سعيدة. ولا نجد في القرآن إلا آيات قليلة جدا تتعرض لهذا الموضوع. فالكتاب المنزل لا يشمل إلا بعض الآيات الخاصة بالواجب نحو اليتامى وحمايتهم. هذا والسير التاريخية المتعلقة بالطفولة نادرة في الأدب الإسلامي. وقد ألفت رسائل جليلة في التربية باللغة العربية خلال القرون الوسطى، ولكن المؤلفين لها من المسيحيين العرب. وقد أهمل المفكرون المسلمون هذا الموضوع بعض الشيء. وأثر الابتكار فيما أضافوه ضئيل. وقد عرفوا الآثار التي ألفها المسيحيون، أو التي درسها المسيحيون، مثل الكتاب المؤلف في التربية والمنسوب إلى أفلاطون، والغالب أن يكون من مدرسة فلوطرخس، وهو الكتاب الذي قام بترجمته أحد المسيحيين.»
1
والأستاذ كارا دي فو من المستشرقين الذين تعد كتبهم الفلسفية عمدة في البحث. ولعل له عذرا في الحكم على المسلمين بإهمال شأن تربية الأطفال وتعليمهم؛ لأنه لم يقع على كتب إسلامية توضح معالم هذا الفن عند المسلمين.
ولو وقع الأستاذ كارا دي فو على رسالة القابسي المخطوطة لغير من رأيه، وخفف هذا الحكم الذي ينسب إلى المسلمين الجهل بموضوع التربية، خصوصا تربية الأحداث والصبيان، ثم الاعتماد التام على المسيحيين من العرب، وما قاموا بترجمته في هذا الفن عن اليونانية وغيرها.
وقد تبين لنا أن المسلمين ألفوا في التربية كتبا مستقلة، منها كتاب ابن سحنون ويرجع تاريخه إلى القرن الثالث الهجري، ومنها كتب متأخرة عن هذا التاريخ بعضها مطبوع وبعضها لا يزال مخطوطا، وقد أشرنا إلى هذه الكتب في الفصل السابق الخاص بآراء العرب في التربية والتعليم؛ وإلى جانب ذلك نجد فصولا كثيرة متناثرة خلال مؤلفات الفقه، وكتب الفلسفة وموسوعات الأدب، تتحدث عن تعليم الصبيان، وتصف أحوالهم، وتبين أحكام التعليم.
وهذه الكتب والرسائل والشذرات أغلبها إسلامي بحت، يغلب عليه الروح الإسلامي، وعلى الأخص ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه.
ورسالة القابسي تزيل الوهم الذي علق بالأذهان من أن المسلمين لم يعنوا بتعليم الصبيان، وتثبت أن المسلمين ابتكروا في التربية آراء جديدة لم يصطنعوها عن العرب المسيحيين، أو ينقلوها عن التراجم اليونانية واللاتينية التي قام النقلة من المترجمين بتقديمها إلى العالم العربي.
وهذه الرسالة دليل على تأصل الميل إلى فن التعليم، والاهتمام بالطفل، والاشتغال بالبحث والتنقيب، والتفكير في المسائل من جميع أطرافها وزواياها، رغبة في التقدم والرقي.
فإذا نظرنا إلى رسالة القابسي في أحكام المتعلمين، وأحوال المعلمين والمتعلمين، من جهة ما جاء فيها من آراء مفصلة وحل للمشكلات المعضلة، وتسجيل لجميع الأمور التي تخص التعليم والتأديب، فالرسالة عظيمة القدر بالغة الأهمية.
وإذا نظرنا إلى القابسي كأحد المربين في الإسلام، فهو صاحب رأي، وصاحب رسالة ترفع اسمه إلى قائمة قادة التربية، ولا سيما إذا عرفنا أنه عاش في القرن الرابع الهجري، أي في صميم القرون الوسطى، التي يعدها المؤرخون من عصور الظلام والتأخر في حياة العالم.
ذلك أن الميزان الذي يقاس به قاعدة الفكر وزعماء الرأي هو سبقهم للزمان، والتقدم في سبيل الرقي لبني الإنسان. وطريق الرقي هو الطريق الذي يميز عالما عن آخر، ويرفع المفكرين إلى قوائم المجد والتخليد.
ومن الآراء التي تجعلنا نضع القابسي في سجل المبرزين، المناداة بالتعليم الإلزامي، فهذا الرأي من أدلة التقدم، ولم تأخذ به الحضارة الحديثة إلا في عصور متأخرة، ولا تزال الدول تنادي به عاملة على نشر التعليم بجميع الوسائل، ليتزود من نور المعرفة جميع أفراد الأمة.
والذين قصروا التعليم على طبقة معينة، وحرموا أغلب الشعب من نعمة المعرفة إنما كانوا ينظرون إلى مصلحة طبقتهم؛ لينعموا بالسلطان والثروة والجاه، لأن العلم يفتق الأذهان، ويبصر الإنسان بحقوقه وواجباته، ويدفعه إلى المطالبة بهما.
وهذه هي الأنانية المتأصلة في النفوس.
وقد برزت إلى العالم أفكار جديدة، تحمل في طياتها روح الإيثار والخير للإنسانية كافة ، ليشارك الناس في الحقوق وليتمتعوا بالحرية والإخاء والمساواة.
إن حرمان فريق من الناس التعليم، هو القتل الأدبي. لأنك تقبر العقول، وتطمس الأذهان، ولعل هذه العقول إذا زالت عنها غشاوة الجهل أن تتفتق عن الخير والحق، والعمل الصالح للإنسانية بما لا يستطيع أن يفعله أبناء الأغنياء.
وقد عادت الدول الإسلامية إلى نوع من الأرستقراطية الحادة، خصوصا في العصور المتأخرة، حيث انطوت الطبقة الرفيعة على نفسها، وعلت على العامة علوا كبيرا. ولم يكن الحال كذلك في صدر الإسلام، ولا تتفق هذه النزعة مع الروح الصحيح للإسلام. والدليل على هذه الأرستقراطية هو اتخاذ الأمراء ومن شاكلهم المؤدبين لأبنائهم حتى لا يختلطوا بأبناء العامة في الكتاتيب، وقد أشار إلى ذلك الجاحظ في (البيان والتبيين) كما ذكرنا عند تقسيمه المعلمين قسمين؛ قسما يعلم أبناء الملوك والأمراء، وقسما يعلم أبناء السوقة. وأشار ابن سينا في (كتاب السياسة) إلى هذه النزعة أيضا، فلم يقرها، وآثر لمصلحة التعليم وفائدة الطفل أن يشترك مع غيره من الصبيان.
أما القابسي فإنه خاطب الجمهور، وفكر في مصلحته، ونظر في فائدة أبنائه، وأهمل الكلام على الأمراء والأشراف، فلا نجد إشارة إلى هؤلاء المؤدبين الذين يصحبون أولاد الملوك لتعليمهم وتأديبهم.
ونحن نميل إلى الاعتقاد أن القابسي أهمل الحديث عن المؤدب الخاص قصدا؛ لأنه لا ينزله منزلة الاعتبار، ولا يريد أن يعترف له بالوجود، حتى يتعلم أبناء المسلمين جميعا في مكان واحد، ويتلقوا المعرفة عن معلم واحد، فلا تتسع الهوة بين الطبقات، وتسود النزعة الإسلامية الصحيحة.
ومما يدل على صحة الرأي الذي ننسبه إلى القابسي، ما ذكره عند الكلام على أجر المعلم من أن بعض الصبيان يدفع أجرا أكثر من غيره، وأن بعض الصبيان يقدم للمعلم هدايا لا يستطيع غيرهم أن يقدمها، وأن هذا الاختلاف في الجعل ينبغي ألا يترتب عليه اختلاف في التعليم، بل على العكس ينبغي أن تكون معاملة المعلم للصبيان على قدم المساواة. ومن الطبيعي أن هؤلاء الذين يدفعون أجورا عالية، إنما هم من أبناء الأغنياء لا الفقراء، وفي هذا الدليل على افتتاح أبواب الكتاتيب لجميع الصبيان على السواء، من غير اختصاص الموسرين بالمؤدبين على انفراد.
فالقابسي حين يطالب بتعليم أبناء المسلمين جميعا، القادر منهم وغير القادر، والموسر والمعسر، بل المعدم، وحين يقدم إليهم لونا واحدا وثقافة واحدة لا يخص بها أحدا دون أحد، إنما يجري في طريق التقدم العقلي، ويشرف على الإنسانية من سماء العدل والحق والخير.
وهذه هي الديموقراطية في التعليم. فكما أن هناك ديموقراطية سياسية تتناول الحقوق والواجبات، وتفسح المجال للحرية والمساواة، فكذلك هنالك ديموقراطية عقلية تفتح الأبواب لجميع الناس لينهلوا من بحور العلم التي لا تغيض. وقد كان مذهب أهل السنة مذهب الجمهور، فكان أنسب المذاهب إلى عقولهم، وأقربها إلى الديموقراطية.
وقد أشارت السيدة أسماء فهمي، وكذلك خليل طوطح، في رسالتيهما إلى الروح الديموقراطي البارز في التعليم عند العرب.
هذه الديموقراطية هي التي أوحت إلى القابسي أن يقرر تعليم البنات، بالرغم مما يعترض تعليمهن من عقبات ناشئة عن المجتمع الإسلامي وشدته، في النظر إلى علاقة الرجل بالمرأة، وغيرة المسلمين على العرض، وما جاء في القرآن من عقاب شديد للزاني والزانية. ولا ننسى أن روح المحافظة على المرأة هي التي أدت إلى الحجاب الشديد في أواخر عصور المسلمين.
والفرق بين التعليم الإلزامي كما يقرر القابسي وبين التعليم الإلزامي الذي ساد الدول التي أقرته منذ القرن التاسع عشر الميلادي، هو أن الدولة الحديثة مكلفة بالتعليم، وملزمة بافتتاح المدارس التي تسمح بتعليم جميع أفراد الدولة ذكورا وإناثا. فالتعليم واجب على الدولة، ومن جهة أخرى فهو حق من حقوق الأفراد، عليهم أن يطالبوا به، وأن يقدموا أبناءهم لتلقي التعليم في المدارس التي تنشئها الدولة. وإذا امتنع أحد عن تعليم أبنائه، حل به العقاب لمخالفته هذا الواجب. على حين أن إلزام القابسي للتعليم إلزام ديني أدبي لا إلزام قانوني، لهذا لم يضع القابسي عقابا لمن يترك ابنه دون تعليم ، بل ترك هذا الوالد لعقاب الله وضميره وجزاء المجتمع فقال: «لو ظهر على أحد أنه ترك أن يعلم ولده القرآن تهاونا وبذلك لجهل وقبح ونقص حاله، ووضع عن حال أهل القناعة والرضا.»
وقد سئل القابسي عن «رجل امتنع أن يجعل ولده في الكتاب هل للإمام أن يجبره؟ وكيف إن كان له أب وله مال ولا يبالي ذلك، فهل للإمام أن يسجنه أو يضربه على ذلك أم ليس ذلك؟» وفي هذا شعور أهل ذلك الزمان بمسئولية إهمال الطفل، ومحاولة تقرير قاعدة العقوبة لمن يتخلف عن أداء هذا الواجب. ولكن القابسي لم يستطع فيما أجاب به السائل، أن يقرر هذه العقوبة؛ لأن منهجه الفقهي لا يبيح أن يقرر أمرا ليس له نص في الدين.
وإذا كانت الحكومات الحديثة تنفق من مال الدولة الشيء الكثير على التعليم بإقرار نواب الأمة الممثلين لها لفائدة الأمة، فقد نصح القابسي بتعليم أبناء المسلمين غير القادرين على الإنفاق على التعليم، ودفع أجر المعلم، بأن يقوم بيت مال المسلمين بالإنفاق عليهم.
وقد تطورت الفكرة فيما بعد إلى نظام الأوقاف التي يحبسها الموسرون على المدارس ضمانا لحياتها، واستمرارا لوجود التعليم.
وليست فكرة التعليم العام، أو تعليم البنات هما الفكرتان الوحيدتان الموجودتان عند القابسي، مما يجعلنا ننظر إليه باعتبار أنه مفكر ينشد الرقي والتقدم، بل هناك آراء أخرى كثيرة ترفع القابسي إلى درجات المفكرين البارزين، وتسمو به إلى منزلة المصلحين.
من ذلك رأيه في طرق الحفظ التي ينبغي أن يصحبها الفهم، وهو من الآراء الصائبة الصحيحة. ثم التثبت مما يحفظ الصبي فلا ينقله المعلم من سورة إلى سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.
وفي طرق التربية والتأديب، نجد كثيرا من الإشارات الدالة على البصر بشئون الصبيان وحسن سياستهم.
من ذلك الحذر من الصبيان إذا بلغوا سن الاحتلام، وعدم الجمع بين الذكور والإناث بعد سن الطفولة.
ومن ذلك اتخاذ العريف ليعاون المعلم، مما يفيد الصبي في حياته من جهة الاعتماد على النفس، وتكوين الشخصية، ويتصل بذلك أن يقوم الصبي بأعمال تفيده في تخريجه مثل كتابة الرسائل للناس، وإملاء الصبيان بعضهم على بعض.
وقد فصلنا هذا كله عند الكلام على صلة الدين بالتعليم وعلى التربية الخلقية والعقاب وطرق التعليم، فلا نعود إليه.
وإنما نحب أن نعلل هذه الآراء لبيان المصادر التي استقى منها القابسي أحكامه في التعليم، لنرى أكان مبتكرا لم يسبقه أحد، أم ملخصا لمن تقدمه، أم ناقلا عن شيوخه، مقلدا لهم؟
والقابسي قد فصل القول في موضوع التعليم من جميع نواحيه، فكتب عن التلميذ والمعلم، والمناهج التي يتلقاها الصبي، وطرق التعليم والتأديب، ومكان التعليم، وهذا التفصيل يصف أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري في شمال إفريقية.
ولا نستطيع أن نتخذ هذا الوصف عنوانا على التربية الإسلامية في جميع العصور، وعند جميع المفكرين المسلمين. وقد اتضح لنا عند الكلام في الفصل السابق عن التربية عند المسلمين اختلاف آراء المفكرين فيما يختص بأغراض ووسائل التعليم. فالغزالي يختلف عن ابن مسكويه، وابن سينا يختلف عن ابن خلدون، وهؤلاء يختلفون عن إخوان الصفاء، وهكذا.
وقد نجد بعض الآراء المشتركة العامة عند المسلمين جميعا، أخذوا بها في جميع العصور، مثل البدء بتعليم القرآن، والنص على تعلم القراءة والكتابة، وأخذ المتعلمين بالشفقة لا بالشدة.
ومع ذلك فهناك اختلاف في طريقة التعليم في المشرق والمغرب، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته، وهو خلاف على هذه المسائل العامة الأولية المختصة بتعليم الصبيان.
وإذا نزلنا إلى ميدان التفاصيل المتعلقة بالتعليم، فإننا نجد الخلاف كبيرا بين أصحاب المذاهب. فابن مسكويه يرى أن الغرض من التعليم هو الوصول إلى الحق والخير والجمال؛ وإخوان الصفا يرغبون في تنشئة الناس على مذهبهم الفلسفي وعقيدتهم السياسية؛ والغزالي يمهد إلى معرفة الله بطريق التصوف، ومجاهدة النفس ورياضتها.
والأمثلة كثيرة على هذه الاختلافات الجزئية، وعلى الأغراض العامة.
لهذا كان من الخطأ أن ينظر الباحثون في التربية الإسلامية جملة، دون تحديد الجهة التي تقوم بالتعليم وتعمل عليه، ودون تحديد العصر الذي ساد فيه هذا اللون من التعليم.
وجميع الذين كتبوا عن التربية الإسلامية لم ينتبهوا إلى هذا التمييز الواجب في الآراء، من حيث تحديدها في الزمان، وصلتها بالأشخاص.
وأهم هؤلاء الباحثين المتأخرين، ونذكرهم بحسب ترتيب أبحاثهم في الزمن، هم: خليل طوطح، والسيدة أسماء فهمي، والدكتور إبراهيم سلامة، والدكتور أحمد شلبي.
وإحدى رسائل هؤلاء الباحثين لا تزال مطبوعة على الآلة الكاتبة، ولم تنشرها صاحبتها وهي السيدة أسماء فهمي.
2
وقد أشرنا إلى بعض آرائها في كتابنا هذا كما سبق.
وجميع هؤلاء الباحثين ينظرون إلى المسائل في تطورها التاريخي، ولكنهم لا ينتقلون من مرحلة الوصف إلى المرحلة التالية من مراحل العلم وهي مرحلة التفسير.
والتفسير الصحيح للآراء الإسلامية المختلفة في التعليم هو أن نردها إلى المذاهب العقلية التي كان أصحاب هذه الآراء التعليمية يعتنقونها من جهة، ثم ملاءمة هذه الآراء لحالة المجتمع من جهة أخرى.
أي أن التفسير ينصرف إلى ناحيتين: ناحية عقلية، وناحية اجتماعية.
وعلى هذا الأساس الجديد الذي نطالب به، والذي لم يسبقنا إليه أحد من الذين عالجوا الكتابة عن التربية عند المسلمين، تستقيم النظريات التعليمية وترد إلى أصولها الصحيحة، ويتضح لنا السر في اختلاف مذاهب التعليم والتأديب في الممالك الإسلامية المختلفة في الشرق والغرب، وفي العصور المختلفة، وفي عقول المفكرين.
وخلاصة هذا الرأي الجديد الذي نقول به: أن أهل السنة كانت لهم طريقة خاصة في التعليم، وللفلاسفة طريقة أخرى، وللمتصوفة طريقة ثالثة، بل أكثر من هذا أن كل مفكر له طريقة خاصة في التعليم تتلاءم مع مذهبه، وتتفق مع مجموع آرائه.
وليس هذا غريبا في شيء؛ لأن التربية تعتبر جزءا من المذهب الفلسفي النظري أو العملي الذي يتصوره ويعتقده المرء في الحياة. ومن الطبيعي أن يعمل أصحاب المذاهب المختلفة على نشر مذاهبهم وإذاعتها في الناس، وتنشئة الأجيال الجديدة عليها، بطريقة من طرق التعليم؛ لأن من طبيعة الإنسان إذا اعتقد الحق أن يذيعه في الناس، ويحملهم على المشاركة فيه.
وهذا ما فعله أفلاطون قديما، حين تكلم في جمهوريته عن التربية ليطبع الناس على آرائه، ويصلح المجتمع.
وهذا ما فعله روسو، وسبنسر وغيرهما.
أي أن صاحب الفكر الجديد إذا أراد أن يضمن لآرائه الذيوع بين الناس، بطريقة عملية تحمل الناس على اعتناق آرائه، فإنه يصف طريقة التعليم الملائمة لهذه الآراء.
والتعليم الذي يذكره القابسي في رسالته، جزء من مذهب أهل السنة وعقيدتهم الإسلامية، والرسالة تبين الطريقة التي رأى أهل السنة أن يتبعوها في التريبة، لتعليم الأجيال الناشئة على مذهبهم، حتى يشبوا على اعتقاد آراء أصحاب الحديث، وأهل السنة.
وكان القابسي فقيها محدثا، ثقة في علوم الحديث، فهو يمثل هذا المذهب.
هذه الصلة بين القابسي وبين مذهب أهل السنة من ناحية، وبين مذهب أهل السنة وطريقة التعليم من ناحية أخرى، هي السر الذي نستطيع أن نفسر به الآراء المذكورة في رسالته.
وقد درجنا على هذا المنهج خلال ما قدمنا من بحث، والتزمنا هذه الطريقة في كل ما عالجناه، وبذلك تيسر لنا أن نفهم السر في اختلاف آراء المفكرين فيما يتصل بالتعليم.
ولما كان المعلمون في الكتاتيب هم من أهل السنة، شب الناس بالفعل على طريقتهم وتشبعت بها عقولهم، وتطبعت نفوسهم، وصعب الانصراف عنها، وأصبح المسلمون ينظرون إلى الحياة من خلال هذا المنظار. وبذلك ساد مذهب أهل السنة، وأصبح هو صاحب الغلبة في أغلب الأقطار الإسلامية.
أما الناحية الثانية التي بها تفسر الآراء التعليمية فهي نسبتها إلى المجتمع الذي ظهرت فيه هذه الآراء، ما دام التعليم مظهرا من مظاهر الحياة الاجتماعية.
وهذا يقتضي منا أن ننظر هل كانت الآراء التعليمية واقعية أم مثالية؟ فإذا كانت واقعية فإنها تصف ما هو كائن فعلا في المجتمع، وتعد في هذه الحالة ظلا للحياة الاجتماعية. وإذا كانت مثالية، فإنها لا تتعدى عقول الذين نادوا بها، ولا تمثل حقيقة المظهر الاجتماعي.
وقد كان القابسي واقعيا يصف ما كان يجري في المجتمع الإسلامي في القرن الرابع الهجري.
ولم يكن الحال كذلك في الآراء التي بسطها كثير من المفكرين في الإسلام، ونضرب في هذا الصدد المثل بما ذكره الغزالي عند الكلام على الأجرة فقد نصح بالتعفف عن تناول الأجر تشبها بالرسول، وبما ينبغي أن يكون، ولم يكن هذا هو الواقع، حيث كان المعلمون يأخذون الأجور على التعليم، ولم يتحقق رأي الغزالي لمخالفته طبائع الأشياء، وإغراقه في التطلع إلى الغايات الروحية.
لهذا كان من الخطأ أن يذكر الباحث الرأي التعليمي على أنه يمثل التربية عند العرب، دون أن يحدد هل أخذ الناس بهذا الرأي واتبعوه، أو بقي مسطورا في بطون الكتب.
ولما كان القابسي واقعيا، فإننا نستطيع اتخاذ رسالته في التعليم مرآة صادقة، تصور ناحية مهمة من النواحي الاجتماعية للمسلمين في القرن الرابع، وهي تعليم الصبيان، وحياة المعلم في الكتاب، ومناهج التعليم والطرق التي كان يتبعها.
والنظر إلى المجتمع يفسر لنا كثيرا من الاتجاهات في التربية، ويفسر لنا التطور الذي حدث في التعليم منذ صدر الإسلام حتى الآن.
كان التعليم في فجر الإسلام تطوعا لقوة الروح الديني، وتغلبه على النزعات المادية، فلما فترت هذه الروح أخذ المعلمون الأجور، ولما فسد المجتمع تطلع المعلم إلى ما هو أكثر من الأجر، وقد رأينا كيف أجاز القابسي أن يتناول المعلم الهدايا في المواسم والأعياد كما جرت به العادة. فالقابسي يخضع لروح المجتمع، وينزل على أحكامه.
كذلك كانت بطالة الصبيان تجري على عادة الناس.
فالتفسير الصحيح لشئون التربية والتعليم يقتضي الرجوع إلى المجتمع الذي يشكل حالة التعليم، تبعا للتيارات التي تسوده وتوجهه.
فإذا كان المعلم في الكتاب ينصرف إلى حفظ القرآن حتى يبلغ بالصبي الختمة، فلم يكن هذا العمل من إيحاء قادة الفكر، أو من رغبة المعلم نفسه، بل هو اتجاه الجمهور وتيار المجتمع. وقد بلغ من فرح الآباء بحفظ أبنائهم القرآن، أنهم كانوا يدفعون فوق أجر المعلم أجرا آخر للختمة احتفالا بهذه المناسبة السعيدة.
ولم يمتنع المسلمون عن تعليم الحساب، وأجاز القابسي تعليم الحساب، ولكن أولياء الصبيان لم يطالبوا بتعليم أبنائهم الحساب، بل وضعوا نصب أعينهم شيئا واحدا هو أن يحفظ أبناؤهم القرآن.
ولا شك أن تقدم المجتمع وتطوره يرجع إلى حد كبير إلى الآراء الجديدة التي يطلع بها المفكرون على الناس. فإذا أثرت هذه الآراء أثرها خرج المجتمع على التقاليد الموروثة ، وخلعها عنه، وسار في الطريق الجديد. فالجمود هو المحافظة على التقاليد، والتجديد هو التحول إلى شيء جديد.
فإذا اتخذنا عصر القابسي وآراءه في التعليم أساسا لما كان يجري في القرن الرابع الهجري، فإننا نستطيع أن نشرف على القرون التي سبقته، وعلى القرون التي جاءت بعده، فنرى كيف تقدم التعليم إلى ذلك العهد، وكيف سار بعد ذلك.
ولا شك أن التعليم سجل منذ القرن الأول في الإسلام حتى القرن الرابع تقدما كبيرا.
ففي حياة النبي كان التعليم نادرا في الجزيرة العربية، وفي الفرس والشام ومصر نفسها. وكان عدد الذين يعرفون الكتابة والقراءة قليلا جدا، ثم بدأت الكتابة تنتشر بإيحاء النبي وتشجيعه. ثم ظهرت الكتاتيب فكانت مظهرا للحياة الاجتماعية عند المسلمين، ثم احتاج الناس إلى تنظيم العلاقة بين المعلم والصبي، بما يتفق مع الشريعة الإسلامية المطبقة في العالم الإسلامي؛ فأدلى الفقهاء بالأحكام الشرعية التي تفصل فيما قد ينشأ من نزاع بين المعلم وآباء الصبيان على الأجر، وما قد يصيب الصبي من أشرار إذا وقع المعلم العقاب عليه، والفقهاء هم المختصون بالتشريع في المسائل الجزئية التي لم يرد فيها نص في القرآن. واجتمع كثير من هذه الأحكام على مر الأيام؛ جمعها ولخصها وضمها في كتاب واحد أبو الحسن القابسي، الذي ألف رسالته في نهاية القرن الرابع. وبذلك تمثل هذه الرسالة أحوال التعليم في ذلك القرن، وتمثل التطور الذي حدث في هذا الفن منذ صدر الإسلام حتى ذلك الوقت؛ لأن القابسي نفسه تتبع ذلك التطور في أبحاثه، كما يتضح لنا من النظر في رسالته.
وقد لحق تعليم الصبيان في الكتاتيب بعد القرن الرابع كثير من التغيير، لم يكن في سبيل التقدم، بل في سبيل الجمود.
وأهم المظاهر التي استحدثت على الكتاتيب هي اعتماد أكثرها على أوقاف الموسرين. وفيما عدا ذلك بقي المنهج ثابتا وهو تعليم القرآن والكتابة. وبقيت الألواح في أيدي الصبيان للكتابة فيها، وبقيت العصا أداة التأديب في يد المعلم.
والخلاصة أن تفسير حالة التعليم في عصر من العصور يقتضي النظر إلى آراء المربين، وصلة آرائهم بالمذاهب العقلية التي يعتنقونها، ويقتضي النظر إلى حالة المجتمع الذي تفرع عنه التعليم كمظهر من الحياة العقلية.
فإذا طبقنا هذين المبدأين على الغرض التعليمي كما جاء عند القابسي، باعتبار أن الغرض من التعليم هو النقطة التي تلتقي عندها جميع شئون التربية، ومنها تتفرع أحواله المختلفة، فإننا نجد أن القابسي كان يقصد إلى غرض ديني، وكذلك كان المجتمع يريد. لهذا اقتصر التعليم في الكتاب على القرآن والكتابة في الغالب.
وقد يتبع هذا الغرض الديني غرض آخر، أو أغراض أخرى، ولكنها تابعة بالضرورة لهذا الغرض الديني.
فإذا قلنا إن القابسي يطلب تهذيب الأخلاق، فتعليم الدين يحمل في طياته التهذيب الخلقي، وإذا قلنا إنه يطلب نشر العلم، فالديانة الإسلامية تتوجه إلى الجميع؛ وفي سبيل تعليم الدين وخصوصا الصلاة وهي عماد الدين، وجب التعليم وحفظ القرآن.
ولم يكن المجتمع يطلب من الغايات إلا الغاية الدينية، ولهذا السبب اهتم الآباء اهتماما شديدا أن يختم أبناؤهم القرآن، وكان أغلب الصبيان ينصرفون، بعد حياة الكتاب، إلى تعلم حرفة أو صناعة لكسب المعاش.
هذا هو الغرض الذي نتلمسه من رسالة القابسي التي تصف حالة التعليم في الكتاتيب في القرن الرابع.
وقد لخص خليل طوطح أغراض التربية في أربعة: الأول ديني؛ والثاني اجتماعي، لأن العلم: يرفع صاحبه كما قال صاحب «جامع بيان العلم»: اطلبوا العلم فإن كنتم ملوكا برزتم، وإن كنتم سوقة عشتم؛ والثالث التلذذ العقلي، كما قال صاحب «كشف الظنون»: من تعلم علما للاحتراف، لم يأت عالما، إنما جاء شبيها بالعلماء. والعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق؛ والرابع غرض مادي.
3
واعتمدت السيدة أسماء فهمي على ما جاء في كتب الزرنوجي وابن عبد البر والغزالي وطاش كبري زاده وخلافهم، وقسمت أغراض التربية عند المسلمين إلى ثلاثة أقسام: الأول ديني، والثاني ثقافي، والثالث نفسي.
4
ولو اتبع هذان المؤلفان الطريقة التي آثرنا اتباعها في تفسير التربية وهي نسبة الآراء إلى أصحابها، ثم النظر إلى صلتها بالمذهب العقلي، وعلاقة الآراء بالمجتمع الواقعي لغيرا من تفسيراتهما.
ولم تكن الأغراض من التعليم واحدة في جميع العصور الإسلامية، فغاية التعليم في القرن الأول تختلف عنها في القرن الرابع، عنها بعد ذلك.
ولم يكن المسلمون يقصدون إلى غرض نفسي أو مادي أو عقلي في صدر الإسلام، بل كان كل همهم خدمة الدين والعمل على إذاعته وتثبيته في القلوب.
والقابسي في القرن الرابع يريد أن يكون وفيا للسلف الصالح، متبعا لآثارهم، مقتفيا خطواتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فهو يريد أن يعلم أبناء المسلمين القرآن والكتابة لمعرفة الدين، وإذا كان قد اضطر إلى التعديل من طريقة السلف، فهو تعديل يتلاءم مع أحوال المجتمع المتغيرة؛ ولهذا أوصى بأجر المعلم، بتعليم النحو والعربية والشعر.
ولا شك أن آراء القابسي كانت مناسبة للعصر الذي عاش فيه، وقد تكون متقدمة على عصر أيضا.
ولهذا السبب لا نستطيع أن نحكم على رسالة القابسي في ضوء علم التربية الحديث؛ لأن العلوم الحديثة كلها لم تبعث إلا بعد عصر النهضة، بعد أن اتخذ العقل منهجا جديدا في التفكير. هذه المناهج الجديدة هي التي شق طريقها «بيكون» و«ديكارت» في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين؛ و«بيكون» صاحب المنهج التجريبي، و«ديكارت» رسول المنهج العقلي الرياضي، الذي يبني الحقائق بعد الشك في القديم، فلا يقيم إلا ما كان واضحا جليا لا سبيل إلى الشك فيه.
وقد أصبحت العلوم الطبيعية والاجتماعية تعتمد في البحث على المشاهدة والتجربة، وابتعدت عن ميدان الاعتقادات الموروثة. ثم وضع العلماء طرق التجريب الواجب اتباعها كما بسطها جون ستيوارت مل.
وبدأ علماء النفس والتربية والاجتماع يطبقون هذه المناهج التجريبية - التي ثبت أنها الطرق الوحيدة الموصلة إلى العلوم الطبيعية - على الأبحاث النفسية والاجتماعية والتعليمية. ولم يتم إخضاع هذه العلوم للتجارب إلا حديثا جدا، ولا يزال العلماء في أول مراحل هذه التجارب.
وفي ذلك يقول جول بايوه في كتابه «سقوط التعليم» الذي تعرض فيه للأسباب التي تعمل على فشل التعليم في فرنسا: إن أول هذه الأسباب هو عدم اتباع التجارب؛ وقد عقد في ذلك الفصل الأول من الكتاب، جاء فيه أن القرون الوسطى حاربت التجارب، وأن «روجر بيكون» الذي سار في طريق التجريب واستحدث اكتشافات كيميائية اتهم بالسحر ، ثم عذب وقبض عليه مرتين، مما دعا إلى عدم التشجيع في ميدان التجارب.
وتبع ذلك في فجر النهضة حتى القرن التاسع عشر روح تجريب قوي، أدى إلى انتصار العلوم التجريبية، واستقرار العلوم الطبيعية على أساس صحيح.
إلى أن قال: «ولكن في غمار هذه الحركة العظيمة الباهرة، لم تتأثر مناهج التعليم. ولا تزال التربية في الوقت الحاضر في مثل هذه الحالة التي كان الطب عليها قبل تقدمه.»
5
فإذا كان هذا المؤلف ينتقد نظم التعليم في فرنسا في الوقت الحاضر؛ لأنها لا تستند إلى التجارب العلمية، فالقابسي معذور إذا لم يتبع هذه التجارب منذ ألف عام، وهو الذي عاش في صميم القرون الوسطى التي حقرت التجريب كل الاحتقار.
وقد سجلت النهضة الحديثة في التعليم ظهور مدارس جديدة، أساسها الاعتماد على نفسية الطفل ونموه ومراعاة ميوله وغرائزه واستعداده؛ فمدارس «منتسوري» تعطي الطفل الحرية في التنقل لأن السكون مضر بهم، كما تعمل على تدريب حواسهم، وتربي الطفل عن طريق اللعب. وطريقة «دالتون» تلقي جانبا كبيرا من المسئولية على التلميذ، فهو الذي يحصل ويدرس، ووظيفة المدرس الإرشاد والتوجيه فقط، حيث يقوم بتفسير ما يشكل على التلاميذ، ويكسب المدرسة جو دراسة. وطريقة المشروع، والتعليم عن طريق النشاط، وهذه الألوان الجديدة من المدارس، الغرض منها إعداد الفرد للكفاح في المجتمع، بتكوين شخصيته تكوينا يجعله يعتمد على نفسه في تحصيل المعاش، وذلك بما يتفق مع صبغة المجتمعات الحديثة التي طغت عليها موجة المادية، وأصبح الناس يتهالكون على تحسين معيشتهم المادية.
ومراعاة ميول الطفل من الاتجاهات الحديثة في التربية، خصوصا بعد أن نادى روسو في كتاب «إميل» بالنظر إلى حياة الطفل نظرا يختلف عن النظر إلى حياة الرجل.
أما الاتجاه الآخر الحديث، فهو إعداد الطفل ليعيش في المجتمع عيشة تلائم مطالب المجتمع. لهذا السبب تختلف الدول في طرق تعليمها تبعا لاختلاف غاياتها في الحياة. وكثيرا ما يضحي المربون بالميول النفسية في سبيل تحقيق أغراض الدولة ومطالب المجتمع. فالدولة التي ترغب في الحرب تعد الطفل من صغره، لحياة النظام والطاعة والخضوع، والخشونة والشدة والصبر والجهاد.
فإذا رجعنا إلى القابسي ونظرنا إلى آرائه التعليمية، فإننا نجد أنه يراعي المجتمع، ويعد الصبيان إلى حياة تلائم البيئة التي عاش فيها، ولكنه لا يراعي ميول الصبيان النفسية.
فإذا كان القابسي قد أهمل النظر إلى الحياة النفسية للطفل، فالعيب يقع على العصر بأسره، لا على القابسي وحده.
ومن هذه العيوب منع الصبيان من اللعب، مع أن اللعب ضروري لنموهم
ومن هذه العيوب إهمال التربية الجسمية إهمالا تاما، وهي ناحية لم يرجع لها المربون إلا في العصور الحديثة، حيث وجهوا الاهتمام إلى تربية الجسم بالألعاب الرياضية المختلفة المناسبة لكل مرحلة من مراحل نمو الطفل.
وقد كانت أمة اليونان قديما تعنى بالرياضة البدنية عناية عظيمة. ولم يغب عن نظر المسلمين قيمة الرياضة البدنية فحثوا على تعلم السباحة وركوب الخيل وغير ذلك من الرياضيات التي تنشئ الأطفال على الرجولة والفروسية. ولكن معلم الكتاب لم يكن مخصوصا بمثل هذه التربية، واختص بتعليم القرآن وتهذيب العقل والخلق.
على أن القابسي وضع أسس التربية بحيث تلائم المجتمع وحاجة العصر الذي كان يعيش فيه. وقد ساد في ذلك العصر الروح الديني، فجاءت طريقة القابسي في التعليم موافقة لهذه البيئة كل الموافقة، حيث يتعلم الصبيان المسلمون القرآن والكتابة والنحو والعربية والشعر، ويتعودون القيام بالعبادات الإسلامية المختلفة، فيترك الصبي الكتاب وهو عارف بالديانة الإسلامية علما وعملا.
الملاحق1
(1) الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين [جاء في ظاهر النسخة الخطية عبارتان بقلمين مختلفين، الأولى: الحمد لله وحده من عوادي الزمان، وهو المعان على عفو ربه الكريم الغفار.
2
علي بن أحمد بن محمد البيطار. غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين.
والثانية: الجزء الأول والثاني والثالث من الفضيلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين. الحمد لله وحده. طالع هذا الكتاب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى، المعترف بذنبه محمد بن حسن. غفر الله له ولوالديه ولمن ترحم عليه ولجميع المسلمين آمين.
الخط يبقى زمانا بعد كاتبه
وكاتب الخط تحت الترب مدفون
يا رب فاغفر لعبد كان كاتبه
يا قارئ الخط قل يا ربي
3
آمين
تمت. يا قارئ الخط ترحم على من كتبه].
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيقي
قال أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعروف
4
القابسي الفقيه القيرواني:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (الكهف: 1-5) و
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا (الفرقان: 1-2). والحمد لله الذي لم يزل واحدا، أحدا، حيا، قيوما، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ليس [2-1] كمثله شيء، وهو السميع البصير. تكلم بالقرآن، وأنزله على محمد خير الأنام، للرحمة والتبيان، بالنور والبرهان، والحكمة والفرقان،
ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (النحل: 102) وقال جل ثناؤه:
طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (طه: 1-8). أحمده، وأؤمن به، وأستعينه، وأتوكل عليه وأبرأ من الحول والقوة إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فقام بالرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة،
عزيز عليه ما عنتم [2-ب] حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (التوبة: 128). فسبحان الله الذي سبح له ما في السماوات وما في الأرض
الملك القدوس العزيز الحكيم * هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (الجمعة: 1-4). والحمد لله الذي هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، ومن علينا باتباع نبيه محمد عليه السلام. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم وعلمنا ما بعثت به إلينا نبينا محمدا خاتم النبيين، من كتاب وحكمة، وما تلا من آياتك، وزكنا إنك أنت العزيز الحكيم. [3- أ] اللهم وألهمنا شكر نعمتك به علينا، فإنك قلت:
ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون * كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (البقرة: 150-151). اللهم وأعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، فإنك قلت:
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (البقرة: 152) وأيدنا على طاعتك، بأن نستعين عليها كما أمرتنا، فإنك قلت:
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (البقرة: 153). أنت الحق، ووعدك الحق، لا إله إلا أنت، الملك الحق المبين. إياك نعبد، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأنلنا حسن مرافقتهم بفضلك ورحمتك، فأنت أرحم الراحمين، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وأنت مولانا، فنعم المولى ونعم النصير [3-ب] فانصرنا بحسن الخلاص فيما أوليتنا وفيما ابتليتنا، برحمتك في عبادك الصالحين، الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. •••
قال أبو الحسن: قد سألني سائل، وألح علي أن أجيبه عن مسائل، كتبها، وشرط فيها شروطا، واعتذر من إلحاحه علي، أنه مضطر إليها وراغب في فهم ما تعذر عليه من فهمها، إذ هي تحل عليه، وتنزل به فيرهبها، ويخشى القدوم عليها، ويخاف ضيق الإمساك عنها، لبعده ممن يصلح أن يستعان به فيها، فعذرته بعذره، وأشفقت من التوقف عنه، على وجل مني في مجاوبته عن كل ما سأل عنه، فتراخيت عن سرعة مجاوبته طويلا، وهو مقيم على حفزي فيما أراد مني، حتى ألقى الله عز وجل في قلبي الانقياد إلى مجاوبته. فأعوذ بالله أن [4-أ] أكون من المتكلفين، وأسأل الله الكريم العصمة بالحق فيما ابتلاني به من المقالة في الدين، وأن يهديني إلى أحسن القول فأتبعه بهدي من عنده، فهو هادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
ذكر سؤاله عن تفسير الإيمان والإسلام والإحسان وعن الاستقامة ما هي وكيف صفة الصلاح
قال أبو الحسن: أما تفسير الإيمان والإسلام فقد بين ذلك في الصحيح.
5
قال أبو هريرة: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال أن تعبد الله [4-ب] كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البينان، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي
صلى الله عليه وسلم
إن الله عنده علم الساعة ... (لقمان: 34) الآية، ثم أدبر، فقال: ردوه، فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل، جاء يعلم الناس دينهم.
قال أبو الحسن: فبين
صلى الله عليه وسلم
أن جميع ما جرى في نص الحديث دين للناس، ويدل أيضا ما في هذا الحديث، أنه كان قبل نزول فرض الحج، لأن الحج أيضا من عمل الأبدان، وبه كمل العمل الذي هو الإسلام. يبين ذلك ما جاء في الصحيح من حديث طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها [5-أ] لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال: أي آية؟ قال:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 3). قال: فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو قائم بعرفة، يوم جمعة. قال أبو الحسن؛ فبين له عمر رضي الله عنه، أن اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية في الإسلام، معظم على مر الدهر، هو عيد في سائر أمصار المسلمين كلما تكرر يوم الجمعة، والمكان الذي أنزلت فيه هو مكان الحج المفترض على جميع المسلمين. فقد تم التعظيم لذلك اليوم، ولذلك المكان الذي أنزلت فيه، والحمد لله رب العالمين.
والذي سماه الرسول عليه السلام، في هذا الحديث، إيمانا، هو الإقرار بما قد سماه
صلى الله عليه وسلم . والذي [5-ب] سماه إسلاما، هو عمل الجوارح بما افترض عليها؛ لأنه هو الذي يدل على استسلام من قال: أسلمت لله؛ ومن قال: آمنت بالله، وملائكته وبلقائه، ورسله، وآمنت بالبعث بعد الموت، فإنما هو مخبر عن تصديقه لما جاء به الرسول عليه السلام. ومحل صحته التصديق فيما عقد عليه القلب واطمأن إليه. وكذلك هو في الإيمان بجميع ما جاءت به الرسل. قوله: آمنت بذلك، إنما هو إخبار عن قلبه، أنه قبل ذلك، واطمأن به، وفي ذلك إيمانه بفرض الصلاة والزكاة، وصيام رمضان، والحج المفترض على المسلمين مع سائر ما افترض عليهم من الحقوق كلها. فتصديقه بذلك كله - أن الله عز وجل فرضه، وأنه هو الحق الذي لا شك فيه - كل هذا هو إيمان، القول يعبر عنه، ولا يعلم صحة ما وراء القول من هذا [6-أ] المخبر عن نفسه بالإيمان، إلا الله عز وجل، فإذا أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت إذا استطاعه، وفعل بجوارحه جميع ما أمر به أنه واجب عليه، فقد استسلم، وصدق باستسلامه هذا قوله: إني آمنت به، عند من ظهر له ذلك منه، وهو عند الله جل وعز على ما علمه من صحة اعتقاده، وصدقه فيما صدق به. وقول الرسول عليه السلام، حين فسر الإسلام: تعبد الله لا تشرك به، معناه: بذلك يصح لهذا العمل المذكور أن يكون إسلامه، كما قال الله عز وجل:
فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (الكهف: 110). والإيمان هو القبول من الرسول ما جاء به، يصححه لقائله اعتقاد قلبه بتصديقه. والإسلام: هو العمل بما أمر به، ودعا إليه، والانتهاء عما نهى عنه، يصححه اعتقاد قلب [6-ب] عامله أن الله عز وجل أمر به على لسان رسوله عليه السلام. فإذا كان كذلك كان ها هنا الإسلام هو الإيمان، لقول الله جل وعز:
إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: 19). وقوله تعالى:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين * كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق (آل عمران: 85-86). وقال جل ذكره:
ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (المائدة: 5). فبين أن المبتغي غير الإسلام كافر بالإيمان. وتبين بذلك أن الإيمان على الحقيقة إسلام، والإسلام على الحقيقة إيمان. ويزيدك بيانا ما جاء في قصة آل لوط عليه السلام قوله:
فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (الذاريات: 35-36). وإذا لم يكن الإيمان من قائله على الحقيقة، كان إظهار ذلك ممن أقر به نفاقا [7-أ] كما قال الله جل وعز:
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم (المائدة: 41)، وكذلك من أظهر الإقرار بالإيمان، وعمل فيما أظهر بما أمره به، وانتهى فيما يرى منه عما نهي عنه، وقلبه غير مؤمن بذلك أنه من عند الله، فليس هو إسلاما على الحقيقة. وهو كما قال الله جل وعز:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات: 14) فنبأهم أن الإيمان، الذي هو التصديق في القول والعمل، لم يدخل قلوبهم، ولكن عملوا عملا هو إسلام، أي استسلموا وألقوا السلم مداراة لمن قهرهم، يحمون بذلك أنفسهم وأهليهم وأموالهم، مما يلقاه الصابئون بالكفر. وقد قال الله عز وجل:
وممن حولكم من الأعراب [7-ب] منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق (التوبة : 101) وقال:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله (التوبة: 97) وقال جل وعز:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (الأنعام: 125). فبين أيضا أن الإسلام هو ما انشرح الصدر إليه؛ وأما ما ضاق الصدر عن قبوله، ونفر منه عند سماعه، فصاحبه غير مؤمن. فقامت كلمة الإيمان مقام كلمة الإسلام. وكذلك قوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين (الزمر: 22).
قال أبو الحسن: فافهم فقد بينت لك أن تفسير الإيمان أنه التصديق. [8-أ] وقال الله جل ذكره يصف رسوله عليه السلام:
يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين (التوبة: 61). أي يصدق المؤمنين. وأمره أن يقول لمن اعتذر عن تخلفه من المنافقين:
لن نؤمن لكم
أي لن نصدقكم
قد نبأنا الله من أخباركم ...
الآية (التوبة: 94). وأمره أيضا أن يقول لهم:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (التوبة: 105). وبينت لك أن تفسير الإسلام، إذا لم يكن من قائله على الحقيقة أنه هو الاستسلام - وذلك بأنه يلقي السلم إظهارا لطاعة من قهره - فيكون من فاعله نفاقا. قال الله عز وجل:
فما لكم في المنافقين فئتين (النساء: 87) إلى قوله:
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا * ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم ... (النساء: 90-91). فبينت لك وجه ما يكون به الإيمان إسلاما، وما يكون به الإسلام إيمانا، بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
وأما قول الرسول عليه السلام في تفسير الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فمعناه: أن هذا هو إحسان عبادة الله في كل ما تعبد، من الشهادة له بالألوهية وحده ، ومن كل ما أمر به من عمل بطاعته، أن يكون العامل بذلك يعمل لله - وهو يعلم أن الله يراه - فيما يؤديه إليه من طاعته، ولا يخفى عنه ما في سره من ذلك. وكذلك فيما تعبده به، من الانتهاء عما نهاه عنه، يكون في ذلك يعلم أن الله جل وعز يراه، ويعلم ما في سره، من الانتهاء عن ذلك مما
6
أراد به، لتخلص عبادة العبد لله [9-أ] على الحقيقة، سالم
7
من كل خلط ينزغ به الشيطان، ويميل إليه سوء الهوى. وقد عرف الناس فيما بينهم، أن عبد الرجل إذا عمل ما أمره به سيده بحضرة سيده - وهو يراه - أن العبد يجهد نفسه في ذلك العمل، ليرضي سيده بحسن طاعته، فإن كان سيده سلطانا كان أشد لاجتهاد العبد في نصيحة سيده، وإذا خلا العبد من معاينة سيده له، أو استغفله، قصر، فهذه صفة العبد مع من يغفل ويشغله شأن عن شأن. فأما عبد الله يؤدي طاعته إليه، فلا يغفل عن مراقبة ربه فيما يطيعه به في السر والعلانية، فإنك أيها العبد، إن لم تكن ترى ربك بعينك في حين عبادتك إياه، فقد أيقنت أنت أنه يراك، ولا يخفى عنه ما تسر وتعلن. فأخلص العمل له والتزم مراقبته، فإنه يقول عز وجل:
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن [9-ب] ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (يونس: 61) وقال عز وجل:
واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (البقرة: 235) وقال:
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه (ق: 16). في آي كثير يحذر فيهن العبد من غفلة نفسه. وقال عز وجل:
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (الأعراف: 205)، وقال تعالى:
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (الأعراف: 206) فوصف عبادة الملائكة. وقال في موضع آخر يصف عبادة الملائكة:
يسبحون الليل والنهار لا يفترون (الأنبياء: 20). وأنتم عباد الله إنما أمركم أن تتقوا الله؛ ما
8 [10-أ] الموقن بهذا تعبد ربك كأنك تراه، وأنت قد أيقنت بعد أنه يراك. قال الله جل وعز:
وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (الأنعام: 3)، وقال تعالى:
وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير (الحديد: 4)، وقال تعالى:
إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار (المائدة: 12)، فبين عز وجل لمن عمل بطاعته، أن يعمل ذلك عملا حسنا. وكذلك قوله عز وجل:
إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (الكهف: 30)، و
إن الله لا يضيع أجر المحسنين (التوبة: 120). وما كان يمثل هذا كله، فمعنى ذلك إحسانهم ما عملوه لله عز وجل. وتفسير هذا الإحسان هو الذي جرى بين جبريل ورسول الله [10-ب]
صلى الله عليه وسلم ، من قول النبي
صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم أخبر أصحابه
صلى الله عليه وسلم
عن السائل، أنه جبريل يعلم الناس دينهم. فبين أن مراقبة العبيد ربهم في عبادتهم إياه، أن ذلك من دينهم ليحافظوا عليه. فافهم؛ فقد طولت لك، ليرتفع الإشكال عنك فيما فسرت لك، والله ولي التوفيق.
وأما سؤالك عن الاستقامة ما هي؟ فاعلم أن وصفها قد مر فيما تقدم من هذا الباب. وقال الله عز وجل لنبيه عليه السلام:
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (هود: 112)، فالاستقامة هي القيام بما أمر الله به، وفي الذي قدمنا قول الله جل وعز:
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن [10-أ] هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب (الرعد: 19). وفي وصف أولي الألباب، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، فتلك الأوصاف كلها، من وفى بها فهو المستقيم كما أمر. وإن مما يزيدك بيانا لما وصفت لك قول الله جل وعز:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء: 65)، ثم قال:
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما (النساء: 66-68)، ثم قال:
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [11-ب] - إلى قوله - وكفى بالله عليما (النساء: 69-70) وقد أمر الله عز وجل في فاتحة الكتاب المؤمنين أن يقولوا:
اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (الفاتحة: 6-7) وفسر عز وجل لهم في سورة النساء، من الذين أنعم الله عليهم، وذلك بما هداهم له من طاعته وطاعة رسوله، وقبولهم لما جاء عنهما، ففعلوا ما يوعظون به، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما. والاستقامة في الدين هي مداومة المقام فيه، على استوائه واعتداله، لا ينكب عنه يمينا ولا شمالا، ولا يلتزم منه ما لا يطيقه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان أحب العمل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذي يدوم عليه صاحبه. وقالت أيضا: سئل النبي
صلى الله عليه وسلم [12-أ] أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قل. وقال: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون. وقال أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم : إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد
9
إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة. فافهم؛ فقد بينت لك من وصف الاستقامة ما لا يدع إن شاء الله عليك إشكالا. فاستعن بالله واقتصد، فإن ابن عباس رضي الله عنه قال: القصد والتؤدة وحسن السمت، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة، وهذه الثلاث الخصال، تجتمع لمن ائتمر لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وانتهى لنهيه، وتأسى به
صلى الله عليه وسلم
في هديه. قال الله جل وعز:
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم [12-ب] بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (النور: 63) وقال تعالى:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (الحشر: 7) وقال:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (الأحزاب: 21) وقال:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (آل عمران: 31). قال حذيفة بن اليمان: يا معشر القرى إن تستقيموا، فقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم
10
يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا. قال أبو الحسن: يريد حذيفة - رحمة الله عليه - بقوله هذا من لم يدرك النبي
صلى الله عليه وسلم ، يأمرهم [13-أ] أن يستقيموا في متابعة أصحاب النبي عليه السلام، لأن أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، هم المتبعون على السبيل التي
11
دعا إليها الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال الله عز وجل لنبيه عليه السلام:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني (يوسف: 108). وقال جل من قائل: ... ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (النساء: 115). والصحابة هم الذين قال الله عز وجل فيهم:
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...
إلى آخر السورة (الفتح: 28-29). وقد قال ابن مسعود: أرى أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وإن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين.
وأما قولك: كيف صفة الصلاح، فصفة الصلاح هي ما تقدم وصفه في هذا الباب [13-ب] من أوله إلى آخره، فمن وفى بجميعه وفاء حسنا، فقد استكمل صفة الصالحين، ومن عجز عن شيء منه ، فبمقدار ذلك الذي عجز عنه - إذا كان عن تفريط فيه - يكون نزوله عن وصف من استكمل ذلك كله. قال الله عز وجل:
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل: 97). فقد بينت لك ما عندي في تفسير الإحسان، وقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه، وأن هذا يلتزمه العبد لله في أحوال متقلبه ومثواه؛ وهو سهل على من يسره الله له، وبركته عظيمة؛ لأنه يجدد للمؤمن إيمانه كلما ذكره، وذلك أنه إذا أخذ في طاعة ربه، وهو ذاكر مشاهدة ربه [14-أ] له في ذلك الشأن، قوي اعتصامه بربه، فإن هم به الشيطان أن يلبس عليه شيئا، فاستغاث ربه، واستعاذ به منه، كفاه عدوه، وأعانه عليه، فلم يجد إليه سبيلا كما يجده إلى من كان في شأنه غافلا في غمرة الوسواس والشهوات، وإنما المعصوم من عصمه الله عز وجل. وإن اقتصر العبد الحسن العبادة على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، ولم يزد، فهو أيضا من الصالحين، قال الله عز وجل:
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (النساء: 124). فما سلم العبد من الخطايا فهو من الصالحين، وما زاد بعد ذلك من طاعة ربه زاده خيرا. وأتى في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته [14-ب] بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته، فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي به. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. قال أبو الحسن: وهذا حديث حسن التبيان، بالغ في الموعظة والبشرى، لمن أخذ بما فيه، اقتصر على أداء الفرائض، أو زاد بعد استكمالها من النوافل؛ لأن النوافل إنما تكون من بعد استكمال الفرائض، والفرائض جارية في أعمال البر التي أمر الله بها، والنوافل كذلك هي جارية في سائر الطاعات التي ندب الله إليها، ورغب فيها رسوله. وقوله في هذا الحديث : فكنت سمعه إلى آخر هذا الوصف، معناه: كنت [15-أ] حافظا له، أحمي سمعه الذي يسمع به أن يسمع مأثما، وكذلك بصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فلا يستعمل أشياء من هذه الجوارح في مأثم، ولا يصل إليه مكروه، مع الحفظ الذي استأهله بتقربه ذلك. فقد شرحت لك وصف ما إذا اقتصر عليه المؤمن كان به من الصالحين، وما إذا زاد منه زاد رفعة وقربا، وكمال ذلك كله في قول الله جل وعز:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (البينة: 5)، وقال عز وجل:
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (الشورى: 23). وأحسن الأعمال ما عهد صاحبها فيه على أن يؤديه، وهو كأنه يراه، كما بينه الرسول عليه السلام، وجرى [15-ب] فيما بين عليه السلام، أن جبريل عليه السلام جاء يعلم الناس دينهم، قوله: متى الساعة؟ وقول الرسول عليه السلام ما المسئول بأعلم من السائل، إلى قوله: في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا عليه السلام: إن الله عنده علم الساعة ... الآية ... يخبرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، أن هذه الخمس لا يعلم أحد ما فيهن إلا الله، كما قال عز وجل:
قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله (النمل: 65)، وقال:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو (الأنعام: 59)، وإنما يعلم الخلق منها ما أظهره الله إليهم بعد ظهوره عند المشاهدة لحلول ذلك، أي فقد علمت ما ليس لكم أن تتكلفوا السؤال عنه. و[ليس] للساعة أشراط
12
قبلها تدل على قربها، فاستدلوا واحذروا، فإن الله عز وجل يقول:
لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت [16-أ] في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة (الأعراف: 187)، وفي آية أخرى:
يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا (الأنعام: 158)، وجاء في الصحيح قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها، ثم قرأ الآية.
13
ذكر سؤاله عما جاء في فضائل القرآن، وما لمن تعلمه وعلمه وما يصحب به القرآن، وعن آداب حامله، ومن ضيعه حتى نسيه، وما لمن علمه ولده، وهل ذلك في الصغير واجب على أبيه أو على غيره، ومن يعلم الإناث
قال أبو الحسن: أما سؤالك أن نبدأ لك بشيء، من فضائل القرآن فيكفيك من فضل القرآن، معرفتك [16-ب] أن القرآن كلام الله عز وجل، وكلام الله غير مخلوق، ثم ثناء الله على هذا القرآن في غير موضع منه. قال الله عز وجل:
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (الزمر: 23)، وقوله تعالى:
الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (يوسف: 1-3)،
الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (البقرة: 1-2)،
المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (الأعراف: 1-2)، وكل ما جرى في أوائل السور من هذا، فهو تعظيم [17-أ] للقرآن، وتعريف للمؤمنين بفضله، وكذلك قوله عز وجل:
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (النساء: 174)، وقوله تعالى:
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (المائدة: 15-16)، وقوله سبحانه لنبيه
صلى الله عليه وسلم :
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه (المائدة: 48)
وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (فصلت: 41-42)،
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (الإسراء: 9-10)،
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [الأنعام: 155) ومن هذا المعنى [17-ب] في القرآن كثير معروف تتبع ذكره في هذا الكتاب يطيله، وهو شيء بين في القرآن يغني عن كل كتاب، والحمد لله رب العالمين.
وأما ما لمن تعلمه أو علمه من الفضل، ففيه حديث مشهور ومنشور، وهو حديث سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه.»
14
قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمارة عثمان حتى كان الحجاج. قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا.
15
قال أبو الحسن، قال: فأبو عبد الرحمن هو القائل: «وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا.» يريد أن حديث عثمان رضي الله عنه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم
في فضل من تعلم القرآن أو علمه، هو الذي أقعده لتعليم الناس القرآن يقرئهم [18-أ] إياه. وقد قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان، قال: حدثنا علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال شعبة: خيركم من تعلم القرآن أو علمه. وقال سفيان: أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه. وقال النسائي أيضا: أخبرنا عبيد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن، قال حدثني عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن لله أهلين من خلقه، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. وقد بين الله سبحانه مراتب أهل القرآن، وذلك قوله عز وجل:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم [18-ب] لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها ... إلى قوله:
لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (فاطر: 32-35). وفي الصحيح من حديث سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي موسى، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال: المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به، كالأترجة طعمها وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، كالريحانة ريحها طيب، وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كالحنظلة طعمها مر أو خبيث، وريحها مر.
16
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه [19-أ] جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل؛ ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فعملت مثل ما يعمل.
17
وقد بين الله سبحانه في كتابه وصف قارئ القرآن، وذلك قوله عز وجل:
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور * والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (فاطر: 29-31).
قال أبو الحسن: فقد بينت لك ما جاء في فضل من تعلم القرآن وعلمه، وبينت لك من وصف حامل القرآن ما يكفيك عن سؤالك عما يصحب به القرآن وعن آداب حامله، كل ذلك من كتاب الله عز وجل، [19-ب] ومما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم
تسليما.
وأما سؤالك عمن تعلم القرآن ثم ضيعه حتى نسيه، فإن كان تضييعه إياه، زهادة فيه - ليس بغالب عليه عمل
18
يقوم له به عذر - فهو الذي أخشى عليه من شيء قد جاء فيمن تعلم القرآن ثم نسيه؛ فهي نعمة كفرها. وإنما يكون ذلك فيمن تعمد التشاغل به عنه. فإن كان تشاغله عنه بعمل من أعمال السفهاء، كان أشد. وما يدريك أن ذلك النسيان إنما أصابه عقوبة لاشتغاله عنه بسوء الاكتساب، فكان اكتسابه السوء ذنبا منه عجلت له عقوبته بأن نسي القرآن بعدما حفظه. إن في الصحيح من حديث سمرة بن جندب عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال لهم ذات غداة: أتاني الليلة اثنان، وإنما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت [20-أ] معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده هذا الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما سبحان الله ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، وذكر الحديث إلى قوله، فقلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبا! فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.
19
قال أبو الحسن: ولقد أمر من نسي شيئا من القرآن ألا يقول نسيته، كما في الصحيح من حديث سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما لأحدهم يقول: نسيت [20-ب] آية كيت وكيت، بل هو نسي،
20
واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم.
21
قال أبو الحسن: فانظر كيف عاب عليه السلام على أحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت. وقال عليه السلام «بل هو نسي»، معناه أن الله أنساه ما نسي. فها هنا ينظر العبد فيما شغله عن القرآن حتى نسي منه ما نسي، هل له في ذلك عذر أم لا عذر له، فيحسن الإنابة إلى ربه مما لا عذر له فيه. وقد قال الله عز وجل لنبيه:
سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (الأعلى: 6-7). وقد وصى الرسول عليه [21-أ] السلام أهل القرآن بالمحافظة على استذكاره، وأخبرهم أنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم. وفي حديث أبي موسى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها.
22
وأما ابن عمر فذكر من حديث مالك وغيره، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت.
23
واعلم أن صاحب الإبل المعقلة، إن تعمد إطلاقها إطلاقا يتلفها، فإنه
24
ارتكب النهي الذي جاء عن رسول الله عليه السلام، أنه نهى عن إضاعة المال؛ وإن أطلقها بعذر يجيز له إطلاقها خلص من ركوب النهب، وفقد نفعها. فمثل صاحب القرآن إن ترك [21-ب] تعاهد استذكاره بصاحب هذه الإبل. وقد قال النسائي: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال أخبرنا يعقوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: إنما مثل القرآن كمثل الإبل المعقلة، إذا عاهد صاحبها على عقلها أمسكها، وإذا أغفلها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقرأه نسيه. قال أبو الحسن: قد بين في هذا الحديث كيف المعاهدة التي يثبت بها حفظ القرآن ويقوى على الحفظ حتى لا يتعلثم فيه. وقد قال النسائي: أخبرنا عبد الله بن سعيد قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال حدثني أبي عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام، عن عائشة، عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: مثل الذي [22-أ] يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق فله أجران. قال أبو الحسن والماهر بالقرآن يؤمر بترتيله، قال الله عز وجل:
يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا (المزمل: 1-6). قيل معنى هذا أشد وطأ، أي مواطأة للقرآن بسمعك وبصرك، أي فهمك، فالقراءة على هذه الصفة أقوم قيلا. ذكرت حفصة أم المؤمنين عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وقال النسائي: أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي ذر عن عبد الله بن عمر، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق [22-ب] ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها. قال أبو الحسن: إن الترتيل في القراءة يحيي الفهم للعالم، فيستعين به على التدبر الذي له أنزل القرآن قال الله عز وجل:
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب (ص: 29) وأهل حفظ القرآن أيضا، فيختلفون في القوة على دراسته. قال معاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائما وقاعدا، وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقا. قال: أما أنا فأنام وأقوم وأحتسب نومي كما أحتسب قومتي. فأخبر كل واحد منهما عن نفسه بما يطيق.
وأما سؤالك عن الماشي هل يقرأ القرآن، أو الراكب، أو الواقف، أو من في السوق، أو من في الحمام، تريد في غير الصلاة، فإن هذا للمتصرف في حاجاته في الأسواق [23-أ] وغير ذلك من أزقة الحضر، والصانع على صنعته، فلم يستحب مالك من ذلك شيئا. وإنما يخفف من ذلك ما كان من فاعله من وجه التحفيظ للمتعلمين ليقوى حفظه بدراسته. فأما ما كان على وجه التبرز،
25
قال مالك فإنما يقرأ القرآن في المساجد، وفي الصلاة، وعلى حال التفرد بقراءته؛ أو في السفر، فيقرأه ماشيا وراكبا في سفره؛ إلا أنه إن مر بسجدة تلاوة، لم يقم بها الراكب، ولكن ينزل فيسجدها إذا كان على طهارة، وفي وقت يجوز أن يسجد فيه، إلا أن يكون في سفر تقصر في مثله الصلاة، فيومئ الراكب بسجودها إيماء. وأما الحمام، فقال مالك: يقرأ الرجل القرآن إن شاء في الحمام، والحمام بيت من البيوت، وذكر عنه الإباء منه في الحمام.
وأما قولك هل على المعلم أو المتعلم إذا قرءوا سجدة أن يسجدوا [23-ب] في كل مرة أو في أول مرة، فقد خفف مالك عنهما، واستحب لهما أيضا أن يسجدا في أول مرة إذا تكررت السجدة بعينها. وأما المعلم فيكثر ذلك عليه على قدر كثرة أصحاب الأحزاب،
26
فأكثر القول التخفيف عنه من ذلك، فإن سجد في أول مرة فحسن. ولقد قال مالك: ولو كان على من تعلم إذا مر بسجدة يسجد، لسجد الرجل سجودا كثيرا، فليس التعليم كغيره. قال أبو الحسن: فافهم؛ فقد بينت لك من مسائلك التي جرت في هذا المعنى بيانا حسنا.
وسألت عما ذكر من أن القرآن في صلاة خير من القرآن في غير صلاة، والقرآن في غير صلاة خير من الذكر، والذكر خير من الصدقة، هل هذا ثابت أم لا؟ فاعلم أني قد سمعته سماعا هكذا ولم أقف على صحته بهذا النص. ولكن قول الرسول [24-أ] عليه السلام إن المصلي يناجي ربه فلينظر ما يناجيه به. فقد تبين لك أنه قد جاء في المصلي ما لم يأت في غير المصلي، وهو زيادة فضل. وأما فضل قراءة غير المصلي على سائر الذكر، فقول الله عز وجل:
الله نزل أحسن الحديث (الزمر: 23) بين أن القرآن أحسن القول، مع سائر ما جاء في القرآن من حسن الثناء على القرآن وما لقارئه فيه من اتساع الفوائد. وأما الذكر فخير من الصدقة، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة، قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور
27
بالدرجات والنعيم المقيم، قال: كيف ذاك؟ قال: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال. قال: أفلا أخبركم بأمر تدركون من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله: تسبحون في دبر كل صلاة عشرا [24-ب] وتحمدون عشرا، وتكبرون عشرا.
28
قال أبو الحسن: الإقبال على ذكر الله عز وجل يورث القلوب الإشفاق من خشية الله، ويدخلها التذكار لعظمة الله، فهي مع ذلك تستلين لربها وتتضرع. والصدقة عطاء يفعله المرء - إذا كان متطوعا - لله جل وعز، لا يكاد يحيط بصحته له علما، مع ما يدخل في ذلك من وسواس الشيطان، والله أعلم. وذكر الله حرز من الشيطان، وحسن الظن بالله أولى على كل حال، والله ولي التوفيق.
وأما سؤالك عما لمن علم القرآن لولده، فيكفيك منه قول الرسول عليه السلام: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
29
والذي يعلم القرآن لولده داخل في ذلك الفضل. فإن قلت: إنه لا يلي تعليمه بنفسه، ولكنه يستأجر له من يعلمه، فاعلم أنه هو [25-أ] الذي يعلم ولده، إذا أنفق ماله عليه في تعليمه القرآن، فلعله أن يكون بما علمه من ذلك، من السابقين بالخيرات بإذن الله تعالى، وتكون هذه الدرجة هي نية هذا الوالد في تعليم ولده القرآن. وما زال المسلمون وهم يرغبون في تعليم أولادهم القرآن، وعلى ذلك يربونهم، وبه يبتدونهم وهم أطفال لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يعلمون إلا ما علمهم آباؤهم. فقد جاء في الصحيح، من حديث هشام، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: جمعنا المحكم في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقلت له: وما المحكم؟ قال: المفصل. وفي حديث أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أن الذي تدعونه المفصل هو المحكم.
30
وقال ابن عباس: توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، [25-ب] وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم.
31
وقد قال أبو موسى: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران؛ وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بي، فله أجران؛ وأيما مملوك أدى حق مواليه، وحق ربه، فله أجران.
32
فإذا كان لمن علم وليدة فأحسن تعليمها، وصنع فيها ما قال في هذا الحديث يكون له أجران، فالذي يعلم ولده فيحسن تعليمه، ويؤدبه فيحسن تأديبه، فقد عمل في ولده عملا حسنا، يرجى له من تضعيف الأجر فيه، كما قال الله جل وعز:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة (البقرة: 245). وقد جاء أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مر بامرأة في محفتها، فقيل لها : هذا رسول [26-أ] الله، فأخذت بعضد صبي معها، وقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نعم ولك أجر.
33
فهل يكون لهذه المرأة أجر فيما هو لصبيها حج، إلا من أجل أنها أحضرته ذلك الحج، ووليت القيام به فيه. وإنما له من ذلك الحج بركة شهوده الخير، ودعوة المسلمين. والذي يناله الصبي من تعليمه القرآن هو علم يبقى له بحوزه؛ وهو أطول غناء، وأكثر نفقة. وهذا أبين من أن يطال فيه بأكثر من هذا. وقد قال رجل لابن سحنون رحمة الله عليه، ممن يطلب ابنه العلم عنده: إني أتولى العمل بنفسي، ولا أشغله عما هو فيه، فقال له: أعلمت أن أجرك في ذلك أعظم من الحج والرباط والجهاد.
وأما سؤالك عن رجل امتنع أن يجعل ولده في الكتاب هل للإمام أن يجبره؟ وهل الذكر والأنثى في ذلك [26-ب] سواء؟ فإن قلت لا يجبره فقل يوعظ ويؤثم. وكيف إن لم يكن له والد وله وصي، فهل يلزم ذلك بالجبر؟ فإن لم يكن وصي فهل ذلك للولي أو للإمام؟ فإن كان لا أحد لهذا الولد فهل للمسلمين أن يفعلوا ذلك من ماله؟ فإن لم يكن له مال فهل على المسلمين أن يؤدوا عنه، أو يكون في الكتاب ولا يكلفه المعلم إجارة؟ وكيف إن كان له أب وله مال ولا يبالي ذلك، فهل للإمام أن يسجنه، أو يضربه على ذلك أم ليس ذلك عليه؟ وكيف إن كان هذا في بلد لا سلطان يكرههم على الواجبات، وينهاهم عن المنكرات، فهل
34
نبيح لجماعة من المسلمين المرضين دينهم، أن يقوموا مقام السلطان، أم ليس يجوز ذلك؟
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد
قال أبو الحسن: إن الذي قدمت لك مما يرجى للوالد في تعليم ولده القرآن، إنما هو على وجه الترغيب للوالد في تعليم ولده الطفل ، الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يميز لنفسه ما يأخذ لها، وما يدفعه عنها، وليس له ملجأ إلا لوالده، الذي تجب عليه نفقته لمعيشته. فما زاده بعد ذلك الواجب، فهو إحسان من الوالد للولد، كما لو أحسن للأجنبيين، أو لمن لا يلزمه نفقته ولكن يرجى له فيما أحسن به إلى ولده المحتاج إليه ما هو أفضل، إذ ليس يشركه فيه غيره، ولا حيلة للطفل يستعين بها فيستغني بنفسه فيها عن نظر والده له فيها. وقد أمر المسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة، والوضوء لها، ويدربوهم عليها، ويؤدبوهم بها ليسكنوا إليها ويألفوها، فتخف [27-ب] عليهم إذا انتهوا إلى وجوبها عليهم. وهم لا بد لهم إذا علموهم الصلاة، أن يعلموهم من القرآن ما يقرءونه فيها. وقد مضى أمر المسلمين أنهم يعلمون أولادهم القرآن، ويأتونهم بالمعلمين، ويجتهدون في ذلك، وهذا مما لا يمتنع منه الوالد لولده وهو يجد إليه سبيلا، إلا مداركة شح نفسه، فذلك لا حجة له. قال الله سبحانه:
وأحضرت الأنفس الشح (النساء: 128)، وقال تعالى:
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (التغابن: 16). ولا يدع أيضا هذا والد واحد تهاونا واستخفافا لتركه، إلا والد جاف لا رغبة له في الخير. إن الله سبحانه وصف في كتابه عباده فقال سبحانه:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ...
إلى قوله عز وجل:
والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (الفرقان: 63-74). فمن رغب إلى ربه أن يجعل له [28-أ] من ذريته قرة عين، لم يبخل على ولده بما ينفق عليه في تعليمه القرآن. قال الله جل ذكره:
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء (الطور: 21) أي وما نقصناهم من عملهم من شيء؛ فما يدع الرغبة في تعليم أهله وولده الخير شحا على الإنفاق أو تهاونا به يفقدهم ذلك الخير، إلا جاف أو بخيل. إن حكم الولد في الدين حكم والده، ما دام طفلا صغيرا، أفيدع ابنه الصغير لا يعلمه الدين ، وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين؟ ألم يسمع قول الرسول عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء، هل تحسن من جدعاء، فقالوا يا رسول الله: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
35
فأخبر بما يدرك الولد من أبويه مما يعلمانه. فمن [28-ب] مات قبل أن يبلغ أن يعلم، رد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمره، إلى علم الله بهم ما كانوا عاملين لو عاشوا. فإذا كان ولد الكافرين يدركهم الضرر من قبل آبائهم، انبغى أن يدرك أولاد المؤمنين النفع في الدين من قبل آبائهم. ولقد استغنى سلف المؤمنين أن يتكلفوا الاحتجاج في مثل هذا، واكتفوا بما جعل الله في قلوبهم من الرغبة في ذلك فعملوا به، وأبقوا ذلك سنة ينقلها الخلف عن السلف ما احتسب في ذلك على أحد من الآباء، ولا تبين على أحد من الآباء أنه ترك ذلك رغبة عنه ولا تهاونا به، وليس هذا من صفة المؤمن المسلم. ولو ظهر على أحد أنه ترك أن يعلم ولده القرآن تهاونا بذلك، لجهل وقبح ونقص حاله، ووضع عن حال أهل القناعة والرضا. ولكن قد يخلف الآباء عن ذلك قلة ذات اليد، فيكون معذورا حسب ما يتبين من صحة عذره. [29-أ] وأما إن كان للولد مال، فلا يدعه أبوه أو وصيه - إن كان قد مات أبوه - وليدخل الكتاب، ويؤاجر المعلم على تعليمه القرآن من ماله حسب ما يجب. فإن لم يكن لليتيم وصي نظر في أمره حاكم المسلمين، وسار في تعليمه سيرة أبيه أو وصيه. وإن كان ببلد لا حاكم فيه، نظر له في مثل هذا، لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله؛ فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح. وإن لم يكن لليتيم مال، فأمه أو أولياؤه الأقرب فالأقرب به، هم المرغبون في القيام به في تعليم القرآن. فإن تطوع غيرهم بحمل ذلك عنهم، فله أجره. وإن لم يكن لليتيم من أهله من يعنى به في ذلك، فمن عني به من المسلمين فله أجره؛ وإن احتسب فيه المعلم فعلمه لله عز وجل، وصبر على ذلك ، فأجره إن شاء الله يضعف في ذلك، إذ هي صنعته التي [29-ب] يقوم منها معاشه، فإذا آثره على نفسه استأهل - إن شاء الله - حظا وافرا من أجور المؤثرين على أنفسهم، ويكفيك من البيان عما وصفت لك من ثواب من رغب في ذلك وسارع إليه، الذي تقدم عن الرسول عليه السلام، إذ قال للمرأة: نعم، ولك أجر.
وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومن مصالحها. فأما أن تعلم الترسل والشعر وما أشبهه، فهو مخوف عليها. وإنما تعلم ما يرجى لها صلاحه، ويؤمن عليها من فتنته؛ وسلامتها من تعلم الخط أنجى لها. ولما أذن النبي
صلى الله عليه وسلم
للنساء في شهود العيد أمرهن أن يخرجن العواتق ذوات الخدور أو العواتق وذوات الخدور، وأمر الحائض أن تعتزل مصلى الناس، وقال: يشهدن الخير ودعوة المسلمين. فعلى مثل هذا يقبل في تعليمهن الخير الذي يؤمن عليهن [30-أ] فيه، وما خيف عليهن منه، فصرفه عنهن أفضل لهن، وأوجب على متولي أمرهن. فافهم ما بينت لك، واستهد الله يهد، وكفى به هاديا ونصيرا.
واعلم أن الله جل وعز قد أخذ على المؤمنات فيما عليهن، كما أخذ على المؤمنين فيما عليهم، وذلك في قوله جل وعز:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ...
الآية (الأحزاب: 36) وقوله:
والمؤمنون والمؤمنات ...
الآية (التوبة: 71)، وجمعها في حسن الجزاء في غير آية من كتابه، وفي قوله تعالى:
وعد الله المؤمنين والمؤمنات ...
الآية (التوبة 72)، وأمر أزواج نبيه عليه السلام أن يذكرن ما سمعن منه
صلى الله عليه وسلم
فقال:
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة (الأحزاب: 34) فكيف لا يعلمن الخير، وما يعين عليه، ويصرف عنهن القائم عليهن ما يحذر عليهن منه؛ إذ هو الراعي فيهن والمسئول عنهن، والفضل [30-ب] بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ذكر ما أراد أن يبين له فيما يأخذه المعلمون على المتعلمين
وسنة ذلك، وما يصلح أن يعلم للصبيان مع القرآن، وما على المعلم أن يعلمهم إياه من سائر مصالحهم، وما لا ينبغي له أن يأخذ منهم عليه أجرا إن هو علمهم إياه على الانفراد. وهل يعلم المسلم النصراني، أو يترك النصارى يعلمون المسلمين؟ وهل يشترط المعلم للحذقة أجلا معلوما؟
قال أبو الحسن: قدمت فوق هذا الباب ما جاء لمن علم القرآن، وبينت ما يؤكد تعليمه، والحرص عليه، ويحذر مما يشغل عنه لئلا ينساه من حفظه، بما فيه الكفاية وفي قول الله عز وجل لنبيه عليه السلام:
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي [31-أ] هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ (الأنعام: 19) ما يلزم القيام بتعلم القرآن حتى يقوم له من يبلغه إلى يوم القيامة. وكذلك قوله عز وجل:
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (القمر: 17). وهو ميسر للذكر إلى يوم القيامة، وما اختلف المسلمون أن القرآن هو حجة الله على عباده إلى يوم القيامة، وأن على المسلمين القيام به، والدعوة إليه إلى يوم القيامة. وفي الصحيح لطلحة بن مطرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى النبي
صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية، أو أمر بها، ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله.
36
ومشتهر عند المسلمين أنه جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي. فهو شيء لا بد من تعلمه، ولكن من قام به فله أجره، ومن لم يقم [31-ب] به ترك حظه، وأعوذ بالله أن يتفق المسلمون على ترك القيام به، ولو كان كذلك لكانت الهلكة المبيرة، فأعوذ بالله من غضبه ومن أن ينتزع كتابه من صدور المؤمنين. وأسأله أن يثبت القرآن في قلوب المؤمنين، وأن يشرح صدورهم له، وأن يقبلوا بقلوبهم على استذكاره وحسن تدبره حتى يفقههم فيه على ما بينه لهم الرسول المبين، محمد خاتم النبيين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، فيهديهم بذلك صراطه المستقيم، وسبيله المستبين، الذي درج عليه صالحو سلف المؤمنين. فإنه عز وجل قال:
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [32- أ] واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون (لقمان: 14-15). وأعوذ بالله من مضلات الفتن التي حذر منها ومن كونها في آخر الزمان الرسول عليه السلام، وأسأل الله الكريم أن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين، المعتصمين به المنصورين، فإنه قد جاء عن الرسول عليه السلام أنه قال: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله. وأهل الحق لا يزالون يستشيرون القرآن، ويهتدون في استبانته بما بينه الرسول عليه السلام، مقتدين في ذلك بما عرفه أئمة الدين من سالف الأمة المرضيين.
ثم اعلم أن أئمة المسلمين في صدر هذه الأمة، ما منهم إلا من قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يبلغنا أن أحدا منهم أقام معلمين يعلمون للناس أولادهم [32-ب] من صغرهم في الكتاتيب، ويجعلون لهم على ذلك نصيبا من مال الله جل وعز، كما قد صنعوا لمن كلفوه القيام للمسلمين، في النظر بينهم في أحكامهم، والأذان لصلاتهم في مساجدهم، مع سائر ما جعلوه حفظا لأمور المسلمين، وحيطة عليهم، وما يمكن أن يكونوا أغفلوا شأن معلم الصبيان، ولكنهم - والله أعلم - رأوا أنه شيء مما يختص أمره كل إنسان في نفسه، إذ كان ما يعلمه المرء لولده، فهو من صلاح نفسه المختص به، فأبقوه عملا من عمل الآباء، الذي يكون لا ينبغي أن يحمله عنهم غيرهم إذا كانوا مطيقيه. ولما ترك أئمة المسلمين النظر في هذا الأمر، وكان مما لا بد منه للمسلمين أن يفعلوه في أولادهم، ولا تطيب أنفسهم إلا على ذلك، واتخذوا لأولادهم معلما يختص بهم، ويداومهم، ويرعاهم حسب ما يرعى المعلم صبيانهم، وبعد [33-أ] أن يمكن أن يوجد من الناس من يتطوع للمسلمين فيعلم لهم أولادهم ويحبس نفسه عليهم، ويترك التماس معايشه، وتصرفه في مكاسبه وفي سائر حاجياته، صلح للمسلمين أن يستأجروا من يكفيهم تعليم أولادهم، ويلازمهم لهم، ويكتفي بذلك عن تشاغله بغيره. ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مئونة تأديبهم، ويبصرهم استقامة أحوالهم، وما ينمي لهم في الخير أفهامهم، ويبعد عن الشر ما لهم، وهذه عناية لا يكثر المتطوعون بها. ولو انتظر من يتطوع بمعالجة تعليم الصبيان القرآن، لضاع كثير من الصبيان، ولما تعلم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تثبت أطفال المسلمين على الجهل، فلا وجه لتضييق ما لم يأت فيه ضيق، ولا ثبت [33-ب] فيه عن الرسول عليه السلام ما يدل على التنزيه عنه.
ولقد ذكر الحارث بن مسكين في تاريخ سنة ثلاث وسبعين، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: كل من أدركت من أهل العلم لا يرى بأجر المعلمين - معلمي الكتاب - بأسا. ولابن وهب أيضا في موطئه عن عبد الجبار بن عمر قال: كل من سألت بالمدينة لا يرى لتعليم المعلمين بالأجر بأسا. وللحارث عن ابن وهب قال: وسئل مالك عن الرجل يجعل للرجل عشرين دينارا، يعلم ابنه الكتب، والقرآن حتى يحذقه، فقال: لا بأس بذلك، وإن لم يضرب أجلا. ثم قال: والقرآن أحق ما يعلم، أو قال علم. وقال ابن وهب في موطئه: سمعت مالكا يقول: لا بأس بأخذ الأجر على تعليم القرآن والكتاب. قال: فقلت لمالك: أفرأيت إذا شرط من ماله من الأجر في ذلك شيئا مسمى كل فطر أو أضحى؟ [34-أ] قال لا بأس بذلك. قال، قال أبو الحسن: ولقد مرت بي حكاية تذكر عن ابن وهب أنه قال: كنت جالسا عند مالك فأقبل إليه معلم الكتاب، فقال له: يا أبا عبد الله، إني رجل مؤدب الصبيان، وإنه بلغني شيء ، فكرهت أن أشارط، وقد امتنع الناس علي، وليس يعطونني كما كانوا يعطون، وقد اضطررت بعيالي وليس لي حيلة إلى التعليم. فقال له مالك اذهب وشارط. فانصرف الرجل. فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، تأمره أن يشترط على التعليم؟ فقال لهم مالك: نعم. فمن يمحط
37
لنا صبياننا؟ ومن يؤدبهم لنا؟ لولا المعلمون، أي شيء كنا نكون نحن؟ ويشد ما في هذه الحكاية عن مالك ما ذكره ابن سحنون قال: حدثونا عن سفيان الثوري، عن العلاء بن السائب، قال: قال ابن مسعود: ثلاث لا بد للناس منهم؛ من أمير يحكم [34-ب] بينهم، ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضا؛ ولا بد للناس من شراء المصاحف وبيعها، ولولا ذلك لبطل كتاب الله؛ ولا بد للناس من معلم يعلم أولادهم، ويأخذ على ذلك أجرا، ولولا ذلك كان الناس أميين. يريد لولا المصاحف لنسي القرآن. وكل هذا يشد لك قولي: فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور.
وقد احتج كثير من علمائنا في جواز أخذ الإجارة، بشرط كانت أو بغير شرط أن الناس قد عملوا به، وأجازوه، وذكروا ذلك عن عطاء بن أبي رباح، وعن الحسن البصري، وعن غير واحد من الأئمة والصالحين، فمن زعم أنه يكره الشرط فيه، ويجيزه بغير شرط، لم فرق بينهما؟ هل هو يكرهه إذا اشترط إلا من قبل أنه أخذ عوضا عن تعليمه القرآن؟ وإنما يجب أن يعلم لله. أفليس هكذا إذا أخذه بغير شرط؟ ومن علم أنه سيعطى [35-أ] أليس هو كالشرط؟ وإذا كان مقام التعليم مقام الصدقات التي إنما يراد بها وجه الله، كيف يصلح أن يؤخذ عليها عوض؟
38
هذا ما لا ينبغي ولكن ما يؤخذ على تعليم القرآن، ليس معناه أن يؤخذ معارضة هكذا، لعلة ما فهم المعلم من القرآن، وإنما هو عوض من العناية بالتعليم، والقيام لرياضته حسب ما تقدم من أول. وما كان إنما يعمل لله، لا يجوز أن يعمل لغير ذلك من الأعواض التي تنال في الدنيا، إلا على معنى غير المعاوضة من العمل نفسه الذي لا يكون إلا لله. وذكر في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم؛ فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا إليه بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء [35-ب] الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عندهم بعض شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي. ولكن والله لقد استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا؛ فصالحهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال، فانقلب يمشي وما به قلبة. فقال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم: اقسموا. قال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فذكروا له فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما [36-أ]، وضحك النبي
صلى الله عليه وسلم .
39
قال البخاري: وقال ابن عباس، قال النبي
صلى الله عليه وسلم : أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله.
40
قال، وقال الحكم: لم أسمع أحدا كره أجر المعلم. وقال الشعبي: لا يشترط المعلم إلا أن يعطى شيئا فيقبله، وأعطى الحسن عشرة دراهم. وأما النسائي فقال: أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السقر، عن الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمه قال: أقبلنا من عند النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأتينا على حي من العرب، فقالوا: هل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوها في القيود. فجاءوا بمعتوه في القيود، فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي وأتفل، فكأنما نشط من عقال. فأعطوني جعلا، فقلت: لا. فقالوا: سل النبي
صلى الله عليه وسلم . فسألته، فقال: كل، فلعمري من أكل برقية باطل ، فلقد أكلت برقية حق. وقال أبو داود السجستاني: حدثنا عبد الله بن معاذ، قال: حدثنا شعبة بإسناده عن خارجة بن الصلت عن عبد الله، أنه مر بقوم فأتوه، فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارق لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية، كلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل، فكأنما أنشط من عقال، فأعطوه شيئا. فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فذكر له. فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : كل؛ فلعمري فلمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق. قال أبو الحسن. فهذا الحديث موافق للذي تقدم ذكره عن الصحيح يصدق بعضه بعضا، في إجازة أخذ الإجارة على كتاب الله ممن ينتفع به. وقد بين في حديث أبي سعيد الخدري، أن الراقي يشترط عليهم [37-أ] الجعل على رقيته وهو [إتفاله]
41
في ذلك العناء الذي عني بالملدوغ حتى شفاه الله بكتابه. وفيه قال النبي
صلى الله عليه وسلم
واضربوا لي معكم بسهم. فذهب عن هذا الكسب الذم كله، ولا إعافة فيه، ولا فيما مغناه مغنى. وفي حديث خارجة بن الصلت، عن عمه، أن أهل المعتوه أعطوه، ولم يكن شرط. فذكر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
إباحته له، وإن كان لم يشترط. وبين في حديث النسائي أنه أبى أن يأخذ، فقالوا له: سل النبي
صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا بيان أنه رقى، ولم يكن في نفسه أخذ شيء، فلم يمنع من قبوله. وما في حديث أبي داود أنه أخذ ما أعطوه، وإذا كان لم يأخذ ما أعطي حتى سأل، فيحتمل أن قول النبي
صلى الله عليه وسلم - إن صح الحديث كل إلى آخره - معناه الإذن له - فيما يستقبل - أن يفعل ذلك، ليأخذ عليه الأجر [37-ب] ولا يتأثم منه. وما في نص حديث خارجة، ما يدل على أنه أخذ من هذا المعتوه شيئا بعد إذن النبي
صلى الله عليه وسلم
له في ذلك. وكذا يحتمل أنه ما فعل لأنه قصده في أول رقياه، إنما كان لله عز وجل احتسابا، والاحتساب لا يصلح أخذ العوض عنه. فإن قيل: فقد قال ابن وهب أخبرني عروة بن الحارث، والليث بن سعد، عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي عبد الرحمن، أنه بلغه أن رجلا من الأنصار جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
ومعه قوس، فأبصرها النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: من أين لك هذه القوس؟ فقال: أعطانيها رجل ممن يستقرئني. فقال: ارددها وإلا فقوس من نار. وقال: اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تراءوا به، ولا تسمعوا به. قال أبو الحسن: هذا يوضح لك أن في الصحيح له أصل، كما بحديث خارجة بن الصلت الذي [38-أ] قدمناه. فأما قوله اقرءوا القرآن إلى آخر الحديث، فمعناه ليس من معنى الإجارة على تعليم القرآن والرقية به في شيء. إنما معنى ما صح نقله من هذا، عيب من لا يقرأ القرآن إلا ليأكل به، أي من أجل أنه يقرأ القرآن يطعم، فيقرأ هو القرآن لهذه العلة. وقارئه للرقية وللتعليم، إنما يريد به نفع المرقي والمعلم بالعوض ليس من قراءته القرآن، إنما هو من عنايته بالمرقي والمعلم. والأجر المعيب إنما يطعم لقراءته، وللإطعام قرأ، لا لينفع بقراءته أحدا. ألا ترى كيف قيل: ولا تراءوا به ولا تسمعوا به. وقصد هذين
42
الثناء عليهما بما أظهرا من ذلك، كما قصد الآخر أن يأكل به لا منفعة في ذلك لأحد. وأما قصة القوس فقد قال فيها أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن مغيرة [38-ب] بن زياد، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت، قال: علمت ناسا من أهل الصفة
43
الكتاب والقرآن، فأهدى لي رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلأسألنه. فأتيته، فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى لي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنت تحب أن تكون طوقا من النار فاقبلها. وقال: حدثنا عمر بن عثمان، وكثير بن عبيد، قالا: حدثنا معبد، قال: حدثني بشر بن عبد الله بن بشار. قال عمرو: قال حدثني عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت بنحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال: جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها. قال أبو الحسن: هذه الأسانيد ليس بمثلها [39-أ] تضيق ما دلت الأسانيد الصحيحة على جوازه وسعته، ولو ثبت نقل حديث هذا القوس على ما ذكر، لتوجه إلى معان: منها أن هذا المعلم إنما كان يعلمه لله، لا يرجو على ذلك من المتعلم أخذ شيء من الدنيا، فيمكن أن يكون هذا المتعلم ممن لا يصلح أن يقبل منه تطوع عطائه؛ ورأى هذا المعلم أن القوس ليست مالا كما قال، وإنما هي آلة يستعان بها في الحرب. ولعل معطيها لا يصلح لشهود الحرب، فرأى المعلم أن أخذه إياها ليقاتل بها في سبيل الله يتسع له، فأخذها ليستشير فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كما نص في حديث أبي داود هذا له، فقال له: إن كنت تحب أن تطوق طوقا من النار فاقبلها. فمثل له العقوبة في أخذها بما جاء من العقوبة في أكل أموال اليتامى ظلما،
إنما يأكلون في بطونهم نارا (النساء: 10)، والقوس ليست تؤكل [39-ب] إنما توضع على العنق وبين الأكتاف، لأنها تتقلد؛ إذ رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن أخذه إياها من الظلم لدافعها؛ إذ ليس ذلك واجبا عليه، إذ كان تعليمه من وجه الصدقة عليه، وهو ممن لا يصلح له أن يعطي. ويمكن أن يكون هذا كما قال ابن حبيب على أثر روايته لقصة القوس: إنما تأويل هذا النهي، ومعنى هذا الحديث، أن ذلك كان في مبتدأ الإسلام، وحين كان القرآن قليلا في صدور الرجال، غير فاش ولا مستفيض في الناس، وكان الأخذ على تعليمه يومئذ، وفي تلك الحال، إنما ثمنا للقرآن. وأما بعد أن صار فاشيا في الناس، قد أثبتوه في المصاحف، وصارت المصاحف وما فيها مباحة للجاهل والعالم، وللقارئ وغير القارئ، غير محجوبة ولا ممنوعة، ولا مطلوبة إلى قوم [40-أ] دون قوم، ولا مخصوص بها قوم دون غيرهم، فإنما الإجارة على تعليمه، إجارة البدن المشتغل بذلك، وليس ثمنا للقرآن، كما أن بيع المصاحف إنما هو بيع للرقوق والخط والصنعة، وليس بيعا لما فيها؛ لأن الذي فيها موجود غير مطلوب إلى أحد، ولا محجوب عن أحد، ولا ممنوع من أحد، ولا مخصوص به بائع المصحف دون مشتريه. وكذلك تعليم ما في المصاحف إنما هو ثمن وإجارة للمعلم في اشتغاله بمن علمه، وانفراده بمن علمه، وشغل نفسه بمن قعد لتعليمه. وقد علم الكتاب والقرآن رجال من أئمة هذا الدين، لم يروا به لأنفسهم بأسا ولم ير لهم به بأس.
قال أبو الحسن: يريد ابن حبيب بقوله: وصارت المصاحف مباحة غير محجوبة ولا ممنوعة، أي من أراد شراءها أو اكتتابها، وجد ذلك ممكنا؛ فإذا كان كذلك [40-ب] وكذلك أيضا من أراد أن يتعلم القرآن من عند المعلمين يجده كثيرا غير محجوب ولا ممنوع، إذا أعطى عليه الإجارة، كما يعطي الثمن في المصاحف ليشتري منها ما يجوز شراؤه، كذلك يؤاجر من المعلم ما يجوز إجارته من اشتغاله به، وحركاته في تعليمه. وهذا كله حسب ما قدمت لك من البيان، كله يؤكد بعضه بعضا، ويجيز إجارة المعلم على تعليم القرآن، ويجيز للمعلم أن يأخذ الأجر على ذلك، ولا يضره أخذ الأجر شيئا إذا وفى بشروط التعليم، وقد قدمت لك قول مالك عن كل من أدرك أنهم يجيزون إجارة المعلمين. وقد قال سحنون: قال ابن وهب: قال مالك: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئا كان له حلالا جائزا، ولا بأس [41-أ] بالاشتراك في ذلك، وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا.
الحارث عن ابن وهب، قال: سئل مالك عن الغلام يدفع إلى المعلم يعلمه ثلث القرآن، ويشترط ذلك عليه بشيء مسمى، فقال: لا أرى بذلك بأسا. قال أبو الحسن: ولقد مرت بي حكاية لموسى بن معاوية عن معن بن عيسى، قال: جاء رجل إلى مالك قال: علمت رجلا سورة بالأجر، قال: لا بأس به. قال أبو الحسن: وتعليم سورة على المعلم، في حفظ المتعلم لها عناء وشغل، فيمكن أخذ الأجر على ذلك. وحكاية أخرى عن علي بن أبي طالب قال: لا بأس أن يأخذ الرجل من الرجل الأجر على تعليم القرآن، ولا يجوز له إن قال له: أفتني هذا الحرف [41-ب] بجعل، أن يأخذ منه عليه جعلا لأن الحرف أمر يسير؛ أو هو مثل رجل يريد الإسلام فيقول للرجل: علمني الإسلام، فيقول له: فأعطني على تعليمي إياك جعلا، فإن هذا أيضا لا يجوز مع ما فيه من القبح. قال أبو الحسن: فهذا يبين لك أن ما لم يكن على المعلم في تعليمه من الخير مئونة كلفة وتشاغل، أن عليه أن يعلمه لمن لا يعلمه إذا كان لا بد من تعليمه في الوقت. ومثل هذا لو أن أحدا من أهل الكفر أتى لمسلم، فسأله أن يعلمه الإسلام لوجب عليه أن يعلمه ذلك، ولا يسأله عليه أجرا. وإذا علمه الإسلام فليعلمه ما يكون به مسلما: من الشهادة، وصفة الفروض، يخبره أن عليه خمس صلوات يصليهن على طهارة في كل يوم وليلة، ويوقفه على عدد ركوع كل صلاة، ويريه كيف [42-أ] الركوع، وكيف الصلاة، وإن لم يجد من يعلمه القرآن وجب على هذا الذي ابتلي به أن يعلمه أم القرآن ليصلي بها، ولا يأخذ منه على شيء من ذلك أجرا. ثم يذهب هذا الداخل في الإسلام فيتعلم ما يحتاج إليه من زيادة على ما يجب عليه في يومه، ويصير إلى حال الواجدين للتعليم بالأجرة، والذي أجاز أهل العلم أخذ الإجارة على تعليمه القرآن والكتاب، ليس بين من يجيز الإجارة على التعليم اختلاف في ذلك.
فأما تعليم الفقه والفرائض، يستأجر الرجل من يعلم ولده ذلك، فسئل ابن القاسم عنه فقال: ما سمعت - يعني من مالك - فيه شيئا، إلا أنه كره بيع كتب الفقه، فإنا نرى الإجارة على تعليم ذلك لا تعجبني، والشرط على تعليمها أشر. وأما ابن سحنون فذكر في كتابه، قال: [42-ب] قال مالك لا أرى أن يجوز إجارة من يعلم الفقه والفرائض. وقال لابنه: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشعر والنحو، وهو مثل القرآن، فقال: كره ذلك مالك وأصحابنا، وكيف يشبه القرآن، والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعلم أمر قد اختلف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شك فيه، والفقه لا يستظهر مثل القرآن، وهو لا يشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه. قال ابن حبيب: قلت لأصبغ: فكيف جوزتم الشرط على تعليم الشعر والنحو والرسائل، إذا لم تسموا لذلك أجلا، وهو مما ليس له منتهى ينتهي منه إلى حد معروف؟ فقال لي: هو عندنا معروف بمنزلة الحناطة والخبز، وقد أجاز مالك الشرط على [43-أ] تعليم الحناطة والخبز، وما أشبه ذلك من الصناعات، فإذا بلغ من ذلك مبلغ أهل العلم به من الناس، وجب في ذلك حقه.
قال أبو الحسن: أما الاستئجار على تعليم الشعر لولده: فقال فيه ابن القاسم: قال مالك: لا يعجبني هذا. والذي اختلف فيه من قدمنا ذكره، إنما في إفراد العلم بالإجارة على غير القرآن والكتابة، فأما ما كان من معاني التقوية على القرآن: من الكتابة والخط، فما اختلفوا فيه. ولقد ذكر ابن سحنون أنه ينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن، ذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن، والقراءة الحسنة بالتوقيف والترتيل، يلزمه ذلك، ويلزمه أن يعلمهم ما علم من المقارئ الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إن أقرأهم بغيره إذا لم يكن مستشنعا
44 [43-ب]؛ ولا بأس أن يعلمهم الخطب إن أرادوا. قال: ويعلمهم الأدب، فإنه من الواجب لله عليه، وهو من النصيحة لهم، وحفظهم ورعايتهم. وينبغي للمعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك؛ أخبرنا عنه عبد الرحمن وقال: قال مالك: يضربوا عليها بنو عشر، ويفرق بينهم في المضاجع. قلت: الذكور والإناث؟ قال: نعم. قال: ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة لأن ذلك من دينهم، وعدد ركوعها وسجودها، والقراءة فيها والتكبير، وكيف الجلوس، والإحرام، والسلام، وجميع التكبير، وما يلزمهم في الصلاة، والتشهد والقنوت في الصبح؛ فإنه من سنة الصلاة، ومن واجب حقها. وليعلمهم الصلاة على الجنائز، والدعاء عليها، فإنه من دينهم؛ وينبغي [44-أ] له أن يعلمهم سنن الصلاة، مثل ركعتي الفجر، والوتر، وصلاة العيدين، والاستسقاء، والخسوف، حتى يعلمهم دينهم الذي تعبدهم الله عز وجل، وسنة نبيهم
صلى الله عليه وسلم ، وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله عز وجل، ويعرفهم عظمته وجلاله، ليكبروا على ذلك؛ وإذا أجدب الناس، فاستسقى بهم الإمام، فأحب للمعلم أن يخرج منهم بمن يعرف ليبتهلوا إلى الله عز وجل ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس عليه السلام لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم يتضرعون إلى الله تبارك وتعالى بهم معهم، فرفع عنهم. وينبغي له أن يعلمهم الحساب، وليس ذلك بلازم له إلا أن يشترط عليه ذلك. وكذلك الشعر، والغريب، والعربية، وجميع النحو، هو في ذلك متطوع. ولا بأس أن يعلمهم الشعر مما لا يكون فيه [44-ب] فحش، ومن كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجب عليه؛ كل هذا عند سحنون لا بأس أن يعلمه الذي يعلم القرآن والكتاب، يتطوع به، أو يشترط عليه. فأما إقراره بالإجارة على تعليم هذه الأشياء. ولم يكن القصد إلى تعليم القرآن والكتاب، فسحنون يأباه، كما تقدم عنه كل ذلك، لقول مالك في الإجارة على تعليم الشعر: لا يعجبني. وأما ابن حبيب فقال: لا بأس بإجارة المعلم على تعليم الشعر والنحو والرسائل وأيام العرب، وما أشبه ذلك من علم الرجال وذوي المروءات، لا بأس بالإجارة على ذلك كله. إلا أني أكره من تعليم الشعر وتعلمه وروايته الكبير والصغير، ما فيه ذكر الحمية والخنا، أو قبح الهجاء. قال: وقد ثبتت الرواية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم [45-أ] أنه قال: إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح.
45
وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر حكمة.
46
قال أبو الحسن: فثبتت الرواية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بقوله: إن من الشعر لحكمة. فأما، إنما الشعر كلام، فما أدري، ولكن ثبت عن الرسول عليه السلام قوله: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا.
47
معناه - وثبت أيضا قوله: لأن يمتلئ جوف رجل قيحا - فيما قال بعض العلماء: أن يكون الشعر غالبا على الإنسان حتى يصده عن ذكر الله عز وجل والعلم والقرآن. وثبت أيضا أن الرسول عليه السلام قال: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.
48
معناه لما في شعره من الثناء على الله، فلم ينفعه ذلك إذا مات ولم يجب إلى الإسلام. وأما لبيد، فقد أجاب إلى الإسلام. ويقال إنه كف في الإسلام عن قول الشعر تعظيما للقرآن والله أعلم. وليس يعد [45-ب] شاعرا من جرى له في بعض الأوقات كلام موزون، ولا سيما إذا كانت الفصاحة من طبعه، كما قال جندب: بينما النبي
صلى الله عليه وسلم : يمشي إذا أصابه حجر فعثر، فدميت إصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت. ولا يعد راويه شاعرا. ومن كان حفظ منه شيئا يقيم لسانه ويفصحه، ويأنس إليه في بعض الأوقات، ويستشهد به فيما يريد بيانه، لا بأس. فقد قال ابن وهب، قال الليث: سألت ربيعة عن تعليم النحو لإعراب القرآن، فقال: وددت لو أني أحسنه. وقال ابن وهب أيضا: حدثني حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق قال: قلت للحسن: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه، ويصلح بها منطقه؟ قال: نعم، فليتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية، فيعيا [46-أ] بوجهها فيهلك. وإنما قصد ابن حبيب إلى جواز الإجارة على تعلم الشعر وما ذكره معه دون تعلم القرآن والكتاب، وهو الذي خالف فيه قول سحنون، ولكن إذا اشترط ذلك على المعلم للقرآن فما بينهما في جوازه خلاف إن شاء الله؛ وكذلك ذكر ابن حبيب يعلمه من الشعر ما يخالف فيه سحنون. ولسحنون: لا بأس بأن يستأجر من يعلم ولده الخط والهجاء. وقال في المدونة ابن وهب: وأخبرني حفص بن عمر، عن يونس، عن ابن شهاب أن سعد بن أبي وقاص قدم برجل من العراق يعلم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه على ذلك الأجرة. وكذا هو في موطأ ابن وهب من روايتنا عن أبي الحسن ابن مسرور
49
عن أبي سليمان عن سحنون، عن ابن وهب أخبرني حفص بن عمر، عن يونس بن [46-ب] يزيد، ثم كما قال في المدونة. وقال ابن حبيب فيه: حدثني أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، أن سعد بن أبي وقاص قدم برجل من أهل العراق وكان يعلم أبناءهم الكتاب والقرآن بالمدينة، ويعطونه على ذلك الأجر. فأسقط من الإسناد حفص بن عمر وزاد مع تعلمهم الكتاب والقرآن، فالله أعلم. وقال محمد: سمعت سحنون يقول: لا أرى للمعلم أن يعلم أبا جاد؛
50
وأرى أن يتقدم إلى المعلمين في ذلك. وقد سمعت حفص بن غياث يحدث: أن أبا جاد أسماء الشياطين ألقوها على ألسنة العرب في الجاهلية فكتبوها. قال محمد: وسمعت بعض أهل العلم يزعم أنها اسم ولد سابور ملك فارس، أمر العرب الذين كانوا في طاعته أن يكتبوها، فلا أرى لأحد أن يكتبها [47-أ] فإن ذلك حرام. قال أخبرني سحنون بن سعيد، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قوم ينظرون في النجوم، يكتبون أبا جاد أولئك لا خلاق لهم. ولسحنون قال: ولا أرى أن يعلمهم ألحان القرآن؛ لأن مالكا قال: لا يجوز أن يقرأ القرآن بألحان. ولا أرى أن يعلمهم التغبير؛
51
لأن ذلك داعية إلى الغناء، وهو مكروه. وأرى أن ينهى عن ذلك بأشد النهي. قال: ولقد سئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمعون فيها للقراءة، فقال: بدعة. وأرى للوالي أن ينهاهم عن ذلك، ويحسن أدبهم. وقال أبو الحسن: نهى مالك عن الاجتماع في المجالس لاستماع القراءة بالألحان وما يصحبه من تغبير، وغير ذلك مشهور. فكل ما نهى عنه سحنون المعلم والمتعلم في هذا الباب، كله صحيح [47-ب] الموافقة لمذهب مالك، على ما جرى من تشديد أو كراهية.
فافهم، فقد بينت لك وجوه جواز أخذ الإجارة على تعلم القرآن، وما يجوز أن يعلم بالأجر، وما يكره من ذلك للمعلم والمتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة، ليستبين طالب الحلال ما يصفو له به الحال في أجرة التعليم، وما ينزه منه ذو الورع من ذلك. وبينت لك ما ينبغي للمسلم أن يتعلمه أو يعلمه لولده وما يختلف من ذلك.
ومن ذلك أيضا قال ابن وهب: سمعت مالكا سئل عن الذي يجعل ابنه في كتاب العجم، يعلمه به الوقف، فقال: لا. فقيل له: فهل يعلم المسلم النصراني؟ فقال: لا. فقيل له: فيعلم أبناء المشركين الخط؟ فقال: لا. ولابن وهب أيضا في تاريخ سنة ثلاثة وسبعين قال: وقال مالك: لا أرى أن يترك أحد من اليهود والنصارى يعلم المسلمين القرآن [48-أ]. قال أبو الحسن: إن كان معنى هذا القرآن الذي أنزل على محمد
صلى الله عليه وسلم
ن فيمكن النهي عن ذلك، والمسلم ينهى أن يعلم الكافر القرآن. قال الله سبحانه وتعالى:
إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون (الواقعة: 77-79) فالكافر نجس، ولذلك ينهى أن يعلموا الخط العربي، والهجاء العربي؛ لأنهم يصلون بذلك إلى مس المصحف إذا أرادوه. وإن كان إنما أراد مالك لا يتركوا أن يعلموا كتابهم المسلمين، فيصح أيضا منعهم من ذلك، لأنهم غير مأمونين على كتابهم. قد جاء كعب الأحبار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام بين يديه، فاستخرج من تحت يده مصحفا قد تشرمت حواشيه، فقال: يا أمير المؤمنين في هذه التوراة، أفأقرؤها؟ فسكت عمر طويلا، فأعاد عليه كعب مرتين أو ثلاثا، فقال [48-ب] عمر: إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلت على موسى بن عمران يوم طور سيناء، فاقرأها آناء الليل وآناء النهار، وإلا فلا. فراجعه كعب، فلم يزده عمر على هذا. وكعب قد بان فضله في الإسلام في فقهه في الدين، فلم يطلق له عمر ما سأله فيه، إنما رد الأمر في ذلك إليه، ثم لم يذكر عن كعب أنه دام على دراسة ذلك المصحف.
52
والله أعلم ما صنع ذلك. وأما المقيم على كفره فهو بعيد من أن يؤمن على كتاب الله، أو على أولاد المسلمين، ليعلمهم شيئا ما، أو يخالط صبيان المسلمين صبيان الكافرين في تعليم كل ما قدمنا؛ عن ابن وهب عن مالك يمنع من ذلك. وفي الموازية:
53
وكره مالك أن يطرح المسلم ولده في كتاب النصارى؛ ولسحنون قال: ولا يجوز للمعلم [49-أ] أن يعلم أولاد النصارى الكتاب ولا القرآن. وقال ابن حبيب قيل لمالك: أيعلم أبناء المشركين الخط دون القرآن؟ فقال: لا، وعظم فيه الكراهية. وقال ابن حبيب: وكل من لقيت يكرهون ذلك، ويرون للإمام العدل أن يغير ذلك ويعاقب عليه، ومن فعله من جهال المعلمين فذلك طارح شهادته، موجب لسخطته، لمسهم لكلام الله وكتابه وهم أنجاس.
والذي وصفت لك أيضا في هذا الفصل صواب كله. وقد وصفت لك فيما تقدم احتجاج سحنون في الإباء من تحذير الإجارة على تعليم الفقه والفرائض وغير ذلك مما فرق بينه وبين الإجارة على تعليم القرآن؛ فافهمه، إذا مررت به، فإنه حسن، أخبر فيه أن القرآن لتعلمه غاية ينتهى إليها، والفقه وغيره من العلوم ليس له غاية. يريد أن القرآن [49-ب] إنما يتعلم استظهاره، وهو شيء مجموع، إن يشرط استكماله، فله غاية وهو ما حواه المصحف المجتمع عليه من سور القرآن المعدودة. والفقه إنما التعلم به الفهم فيه، وهو شيء لا يحاط به، ولا يعرف من الفهم جزء مقتصر عليه. والنحو مثله. وكل شيء يحتاج إلى الاستنباط منهم بالفهم فيه، فهذه سبيله؛ وقد يرى الفهم فيه شيئا ثم ينتقل عنه بعد ذلك لمعنى يحدث عند المتفهم فتبعد الغاية فيه، ويختلف عليه. وأما ما
54
طريقه حفظه، كالشعر وما أشبهه من مقالات العرب يستأجره ليحفظ ذلك ظاهرا، فوجه الكراهية فيه أنه إنما يراد ليفهم منهم ما يستعان به، والتفهم فيه أيضا لا غاية له، واستظهاره لغير التفهم أي فائدة فيه؟ وأي أجر يؤجر عليه؟ وليس هو كالقرآن. فإن [50-أ] قلت ليستظهر حفظ حروفه خاصة، ثم ينظر في تفهمه بعد استظهاره بغير أجر على يدي غير هذا المعلم، فاعلم أن الباب المكروه، لا وجه إلى أن يستثنى منه شيء إلا بتوقيف، ولا يحمى الباب إلا بمنع جميعه، وإن دخل فيه ما لا تقوى حجته إلا لإحماء الباب؛
55
ولذلك جرى فيه الاختلاف الذي وصفناه. على أن القاصد إلى حفظ حروف ذلك ليفهم فيه بعد ذلك، قد لا ينتهي إلى التفهم، فيحصل بما يحفظ على غير فائدة تفيده في دينه. والقرآن من استكمل حفظه انتفع به، وإن حفظ منه حرفا انتفع به في دينه، فخالف القرآن كل شيء يحفظ من كلام الناس خلافا بينا، لا إشكال فيه. ولذلك أجازوا إجارة التعليم على أجزائه واستكماله، فقد تقدم من ذلك في صدر الباب فضل.
وأزيدك [50-ب] ها هنا منه ما يكون عونا لك في استبانته. قيل لابن القاسم: إن استأجرت رجلا يعلم لي ولدي القرآن، يحذقه القرآن بكذا وكذا درهما، قال مالك: لا بأس بذلك. وقال ابن القاسم: ولا بأس بالسدس أيضا مثل قول مالك في الجميع. وقال ابن القاسم: لا بأس أن يقدم إلى معلم الكتاب حقه، قبل أن يدخل الصبي. وعند ابن سحنون قال مالك: لا بأس أن يستأجر الرجل المعلم على أن يعلم ولده القرآن بأجر معلوم، إلى أجل معلوم أو كل شهر، وكذلك نصف القرآن، وربعه، وما سمي منه. قال أبو الحسن: أما قوله أو كل شهر، فقد قيل لابن القاسم أن يستأجره على تعليم ولده القرآن كل شهر بدرهم، أو كل سنة بدرهم. قال: قال مالك: لا بأس بذلك، قيل إن [51-أ] استأجره على أن يعلم ولده الكتابة كل شهر بدرهم؟ قال: قال: لا بأس بذلك. قيل - وهو قول مالك - قال: قال مالك في إجارة المعلمين سنة بسنة: لا بأس بذلك. والذي يستأجره يعلم ولده الكتابة وحدها، لا بأس بذلك، مثل قول مالك في إجارة المعلمين سنة بسنة. قال أبو الحسن: وأما قوله إلى أجل معلوم، فإن كان يريد أن يكون يعلمه القرآن كله إلى أجل معلوم، فإن ابن المواز ذكر في قول مالك، لو اشترط أن يعلمه سنة أو سنتين كان ذلك لازما. قال محمد بن إبراهيم: جائز، ما لم يقل له: تعلمه في سنة أو سنتين. قال أبو الحسن: قول مالك في سماع ابن القاسم، وابن وهب، كما حكاه محمد، ورواه مطرف عن مالك، قال: وجميع علمائنا بالمدينة. وفسره محمد أنه لم يشترط استكمال القرآن في هذا [51-ب] الأجل، وتفسيره جار على الأصول في سائر الإجارات. ولكن قال ابن حبيب: قد أجاز مالك أن يشارط المعلم في الغلام على الحذقة ظاهرا أو نظرا، سميا في ذلك أجلا أو لم يسميا. ولقد قلت لأصبغ: كيف أجاز مالك الشرط على الحذقة إذا سميا لها أجلا، أرأيت إذا انقضى الأجل ولم يحذقه، ما يكون له؟ قال: يكون له أجرة مثله فيما علمه في تلك السنة، وليس على حساب الأجرة الأولى. قلت: ولا ترى هذا من شرطين في شرط؟ قال: لا، وإنما كان يدخله شرطان في شرط، لو كان عاقده على هذا اللفظ بديا، فأما إذا عاقده على أن يحذقه في سنة فإنما هو على شرط واحد، حتى يحدث بينهما الذي وصفنا من تقصيره عما شرط عليه، فيرد إلى أجرة مثله على تحذيقه إياه في أكثر من السنة، لأن أبا [52-أ] الغلام إنما كان رضي بالأجرة الأولى على أن يحذق ولده في سنة، فلما جاوز المعلم توقيت ما وقت له، لم يكن له أن يأخذ على التأخير ما سمي له على التعجيل، وكان ذلك مظلمة على أبي الغلام، إن أخذ ذلك منه. وإنما الذي لا يجوز فيه التوقيت مع الحذقة، أن يوقت وقتا ضيقا يرى ويخشى أنه لا يبلغ ذلك فيه لضيقه، فالعذر والخطر يدخله. قال أبو الحسن: وفرق أصبغ في هذا الجواب بين معلم الكتاب وبين الخياط يشترط الفراغ في أجل معلوم، فأجراه مجاري الإجارة الداخلة في معاني البيوع على ما استحسن، إذا كان الأجل المؤقت يمكن الفراغ مما اشترط عليه فيه قبل ذهاب الوقت، فلا باس به؛ كذا قال في المعلم والخياط. وقضيته للمعلم، إذا تم الأجل قبل تمام الحذقة بأجرة مثله ليس على حساب ما استؤجر [52-ب]، صواب مستقيم.
ذكر ما أراد بيانه من سياسة معلم الصبيان
وقيامه عليهم، وعدله فيهم، ورفقه بهم، وهل يستعين بهم فيما بينهم، أو لنفسه، وهل يوليهم غيره إن احتاج إلى ذلك؟ وهل يشتغل مع غيره معهم أو يشتغل له؟ وكيف يرتب لهم أوقاتهم لدرسهم، وكتابتهم، وكيف محوهم ألواحهم، وأكتافهم، وأوقات بطالتهم لراحتهم، وحد أدبه إياهم، وعلى من الآلة التي بها يؤدبهم، والمكان الذي فيه يعلمهم؟ وهل يكون ذلك في مسجد؟ وهل يشترك معلمان أو أكثر؟ وهل يدرس الصبيان في حزب واحد مجتمعين؟ وهل يمسون المصحف وهم على غير طهر، ويعلمون الوضوء لمس المصحف، ويصلون في جماعة يؤمهم أحدهم؟
قال أبو الحسن: قد تقدم من بيان [53-أ] ما يخبره
56
الشرط لمعلم الصبيان على آبائهم من إجارتهم، وما على المعلمين أن يعلموه الصبيان، وما لا ينبغي أن يعلموه لهم ما فيه الكفاية. فالواجب على المعلم الاجتهاد حتى يوفي ما يجب عليه للصبيان، فإن وفى ذلك يطيب له ما يأخذه على التعليم بشرط. وليعلم أنه إن فرط في وفاء ما عليه، أنه لا يجب له ولا يطيب له ما يأخذ من ذلك؛ لأن الذين أجازوا له شرط الإجارة، بينوا له ما يجب عليه، فإن خالف ما بينوا له لم يطيبوا له ما أخذ بشرطه. فليس يجد إلى من يستند من العلماء في جواز ما فعل من التفريط، لما في الأخذ على تعليم القرآن من الخلاف الذي قدمنا التعريض به. وبعد ، فإن التزامه لما التزم من هذا يدخل في العقود التي أمر الله سبحانه بوفائها، ونظره فيمن التزم النظر له من الصبيان رعاية يدخل بها في قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : [53-ب] كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
57
وليعلم أنه إن قام فيهم بالواجب عليه لهم ونصح لهم، ووفاهم كما ينبغي أنه يدخل في معنى قول الرسول عليه السلام: أيما مملوك أدى حق مواليه، وحق ربه، فله أجران.
58
لأن المملوك استأهل ذلك بما وفى به، مما وجب عليه لمالكه. هذا وليعلم الملتزم الصبيان إنما استأهل ذلك بما وفى به ما وجب لهم عليه، بشرطه أخذ الإجارة عليهم، قد ملكوا منافعه وتصرفاته حتى يستوفوا واجبهم، وكان لمن وفاهم ذلك تأدية لحقهم الواجب لهم عليه، ولحق ربه فيما أمره به من أداء ما عليه لهم، في المعنى الذي استأهل به المملوك أجرين. وكذلك كل أجير ملكت عليه منافعه؛ لأن المؤدي لما عليه طيبة بذلك نفسه من المحسنين. وقال الله سبحانه وتعالى:
إنا لا نضيع أجر من [54-أ] أحسن عملا (الكهف: 30).
ومن حسن رعايته لهم أن يكون بهم رفيقا، فإنه قد جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فيه فارفق به.
59
وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الرفق في الأمر كله، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
60
قال أبو الحسن: فقولك هل يستحب للمعلم التشديد على الصبيان، أو ترى أن يرفق بهم ولا يكون عبوسا، لأن الأطفال كما علمت تدخل في هذه الوصية المتقدمة؛ ولكن إذا أحسن المعلم القيام، وعني بالرعاية، وضع الأمور مواضعها، لأنه هو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عما لا يصلح لهم، والقائم بإكرامهم على مثل منافعهم، فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حسن رفقه بهم، ولا من رحمته إياهم [54-ب] فإنما هو لهم عوض من آبائهم. فكونه عبوسا أبدا من الفظاظة الممقوتة، ويستأنس الصبيان بها فيجترئون عليه، ولكنه إذا استعملها عند استئهالهم الأدب، صارت دلالة على وقوع الأدب بهم، فلم يأنسوا إليها، فيكون فيها إذا استعملت أدبا لهم في بعض الأحايين دون الضرب، وفي بعض الأحايين، يوقع الضرب معها، بقدر الاستئهال الواجب في ذلك الجرم. ولكن ينبغي له ألا ينبسط إليهم تبسط الاستئناس في غير تقبض موحش في كل الأحايين، ولا يضاحك أحدا منهم على حال، ولا يبتسم في وجهه، وإن أرضاه وأرجاه
61
على ما يجب، ولكنه لا يغضب عليه فيوحشه إذا كان محسنا.
وإذا استأهل الضرب، فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في [55-أ] رتبة فوق استئهال. وهذا هو أدبه إذا فرط، فتثاقل عن الإقبال على المعلم، فتباطأ في حفظه، أو كثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه، من نقص حروفه، وسوء تهجيه، وقبح شكله، وغلطه في نقطه، فنبه مرة بعد مرة، فأكثر التغافل ولم يغن فيه العذل، والتقريع بالكلام، الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سب لعرض، كقول من لا يعرف لأطفال المؤمنين حقا فيقول: يا مسخ، يا قرد. فلا يفعل هذا ولا ما كان مثله في القبح، فإن قلت له واحدة، فلتستغفر الله منها ولتنته عن معاودتها. وإنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التقي لتمكن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب. وقد نهى الرسول عليه السلام أن يقضي القاضي وهو غضبان. وأمر عمر بن عبد العزيز - [55-ب] رحمة الله عليه - بضرب إنسان، فلما أقيم للضرب قال: اتركوه. فقيل له في ذلك فقال: وجدت في نفسي عليه غضبا، فكرهت أن أضربه وأنا غضبان. قال أبو الحسن: كذا ينبغي لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، وليس لمعلهم في ذلك شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه، فإن ذلك إن أصابه فإنما ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل، فإن اكتسب الصبي جرما من أذى، ولعب، وهروب من الكتاب، وإدمان البطالة، فينبغي للمعلم أن يستشير أباه، أو وصيه إن كان يتيما، ويعلمه بجرمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يوجبه التقصير في التعليم عن إذن من القائم بأمر [56-ب] هذا الصبي؛ ثم يزاد على الثلاث ما بينه وبين العشر، إذا كان الصبي يطيق ذلك. وصفة الضرب هو ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع، أو الوهن المضر. وربما كان من صبيان المعلم من يناهز الاحتلام، ويكون سيئ الرعية،
62
غليظ الخلق، لا يريعه وقوع عشر ضربات عليه، ويرى للزيادة عليه مكانا، وفيه محتمل مأمون، فلا بأس - إن شاء الله - من الزيادة على العشر ضربات، والله يعلم المفسد من المصلح. وإنما هي أعراض المسلمين وأبشارهم فلا يتهاون بنيلها بغير الحق الواجب؛ وليل أدبهم بنفسه، فقد أحب سحنون ألا يولي أحدا من الصبيان الضرب. قال أبو الحسن: ونعم ما أحب سحنون من ذلك، من قبل أن الصبيان تجري بينهم الحمية والمنازعة، فقد [56-ب] يتجاوز الصبي المطيق فيما يؤلم المضروب، فإن أمن المعلم التقي من ذلك، وعلم أن المتولي للضرب لا يتجاوز فيه، وسعه ذلك إن كان له عذر في تخلفه عن ولاية ذلك بنفسه. وليجتنب أن يضرب رأس الصبي أو وجهه، فإن سحنون قال فيه: لا يجوز أن يضربه فيهما، وضرر الضرب فيهما بين، قد يوهن الدماغ، أو تطرف العين أو يؤثر أثرا قبيحا، فليجتنبا. فالضرب في الرجلين آمن، وأحمل للألم في سلامة.
ومن رفقه بالصبيان أن الصبي إذا أرسل وراءه ليتغدى فيأذن له ولا يمنعه من طعامه وشرابه، ويأخذ عليه في سرعة الرجوع إذا فرغ من طعامه.
ومن حقهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم، ولا يفضل بعضهم على بعض، وإن تفاضلوا في الجعل، وإن كان بعضهم يكرمه بالهدايا والأرفاق، إلا أن [57-أ] يفضل من أحب تفضيله في ساعة راحاته، بعد تفرغه من العدل بينهم. وذلك من قبل أن القليل الجعل إنما رضي أن يؤدي أداءه ذلك على إتمام تعليم ولده، كما شرط الرفيع الجعل. إلا أن يبين المعلم لآباء الصبيان أنه يفاضل بينهم على قدر ما يصل إليه من العطاء من كل واحد منهم، فيرضوا له بذلك، فيجوز له، وعليه أن يفي بما التزم من قدر ذلك.
ومن صلاحهم، ومن حسن النظر لهم، ألا يخلط بين الذكران والإناث، وقد قال سحنون: أكره للمعلم أن يعلم الجواري، ويخلطهن مع الغلمان، لأن ذلك فساد لهن.
قال أبو الحسن: وإنه لينبغي للمعلم أن يحترس الصبيان بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة.
وعليه كما قال سحنون: أن يتفقدهم بالتعليم [57-ب] والعرض، ويجعل لعرض القرآن وقتا معلوما، مثل عشية الأربعاء يوم الخميس. قال: فينبغي له أن يجعل لهم وقتا من النهار يعلمهم فيه الكتاب، ويجعلهم يتخايرون؛
63
لأن ذلك مما يصلحهم، ويخرجهم ويبيح لهم أدب بعضهم بعضا، ولا يجاوز ثلاثا. ويجعل الكتاب، يعني في كل يوم من الضحى إلى وقت الانقلاب.
ويأخذ عليهم ألا يؤذي بعضهم بعضا، فإن شكا بعضهم أذى بعض، فقد سئل سحنون عن المعلم يأخذ الصبيان بقول بعضهم على بعض في الأذى. قال: ما أرى هذا من ناحية الحكم، وإنما على المعلم أن يؤدبهم إذا آذى بعضهم بعضا. وذلك عندي إذا استفاض على الإيذاء من الجماعة منهم، أو كان الاعتراف، إلا أن يكونوا صبيانا قد عرفهم بالصدق فيقبل قولهم، ويعاقب على ذلك، ولا يجوز
64
في الأدب [58-أ] كما أعلمتك. قال أبو الحسن: يريد كما تقدم من واحد إلى ثلاث؛ فإن استأهلوا الزيادة للأذى، فعلى قدر شدة ذلك، يريد من الثلاث إلى العشر، ويأمرهم بالكف عن الأذى، ويرد ما أخذ بعضهم لبعض، وليس هو من ناحية القضية، وكذلك سمعت من غير واحد من أصحابنا. وقد أجيزت شهادة الصبيان في القتل والجراح، فكيف هذا؟ والله أعلم. قال أبو الحسن: وما يوجد في هذا الفصل الذي تقدم أسعد
65
به من كلام سحنون، هذا وتعلم به أن على المعلم أن يتعاهدهم، ويتحفظ منهم، وينهاهم عن الربا، فإن باع بعضهم من بعض كسرة بزبيب أو زبيبا برمان، أو تفاحا بقثاء، كما ذكرت، فإن أدرك ذلك بأيديهم، رد كل واحد ما كان له، وإن أفاتوه، أعلم آبائهم بما صنعوا من ذلك فيكون غرم [58-ب] ما صار إلى كل واحد من الصبيان من صاحبه، في ماله إن كان له مال، أو يتبعه به إن لم يكن له مال، إذا وقع الاستقصاء في ذلك. وإن كان إنما أسلم بعضهم إلى بعض طعاما في طعام، فيغرم القابض مثل ما قبض، أو قيمته إن لم يكن له مثل إن كان له مال. وإلا فليتبع بما وجب عليه من ذلك، ويفسخ ما كان بينهما؛ ثم يأخذ عليهم المعلم، ويشدد عليهم في الأخذ ألا يعودوا إلى التبايع فيما بينهم، لا فيما يحل بين الأكابر، ولا فيما لا يحل. ويعرفهم وجه الربا فيما صنعوا في ذلك: يخبره بعينه، ويقبحه عنده، ويتواعده بشدة العقوبة عليه إن هو عاوده، ليتدرج على مجانبة الخطأ؛ وإذا هو أحسن، يغبطه بإحسانه في غير انبساط إليه، ولا منافرة له، ليعرف وجه الحسن من القبح، فيتدرج على اختيار الحسن [59-أ] وهذا ما يدل الاجتهاد. والله يزكي من يشاء، وهو السميع العليم.
ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقله من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها. قال سحنون: إلا أن يسهل لهم الآباء، فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصي، فإن كان دفع أجر المعلم من غير مال الصبي إنما هو من عندهم، فلهم أن يسهلوا كما للأب؛ وإن كان من مال الصبي الأجر، لم يجز لهم أن يسهلوا حتى يحفظها كما أعلمتك. قال: وكذلك إذا كان الأب يعطي من مال الصبي. قال: وأرى ما يلزم الصبي من مئونة المعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته.
قال أبو الحسن: صواب. ولكن قوله إن كان يأخذ المعلم من غير مال الصبي، أنى لأبيه أو من قام له أن يسهل للمعلم في نقله من السورة قبل [59-ب] تمامها، ما أدري ما وجه العطاء للمعلم على الصبي، إنما كان على حسن العناية بالصبي فقد صار الحق للصبي، فمن أين لأحد أن يسهل فيه، إلا أن يكون مراد سحنون - رحمه الله - أن للصبي التسهيل في ذلك وقع عند عقد الإجارة، فيكون صوابا في الجواب، والأحسن ما هو أتم للصبي.
وأما ما يصنعه الصبيان من محو ألواحهم وأكتافهم، فذكر ابن سحنون فيه عن أنس بن مالك بإسناد ليس هو من رواية سحنون، قال: إذا محت صبية الكتاب تنزيل رب العالمين بأرجلهم، نبذ المعلم إسلامه خلف ظهره، ثم لم يبال حين يلقى الله على ما يلقاه عليه. قيل لأنس: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم؟ قال أنس: كان المؤدب له إنجانة
66
وكل صبي يجيء كل يوم بنوبته ماء [60-أ] طاهرا فيصبه فيها، فيمحون به ألواحهم. قال أنس: ثم يحفرون له حفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فينشف، قال محمد: قلت لسحنون فترى أن يلعط؟ قال: لا بأس به، ولا يمسح بالرجل، ويمسح بالمنديل وما أشبه. قلت له: فما تقول فيما يكتب الصبيان في الكتف من الرسائل؟ فقال: أما ما كان من ذكر الله تعالى، فلا يمحه برجله، ولا بأس أن يمحى غير ذلك مما ليس من القرآن. وقال محمد: وحدثني موسى عن جابر بن منصور، قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد. قال محمد: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعط الكتاب بلسانه. وكان سحنون ربما كتب الشيء ثم يلعطه. وهذا الوصف يكفيك فيما سألت عنه من هذا المعنى، فإنه وصف حسن. وما جاء فيه عن أنس من التغليظ، فينبغي [60-ب] أن يحذر منه فإنه تغليظ شديد على المعلم، إن هو ترك الصبيان يمحون القرآن بأرجلهم.
وأما بطالة الصبيان يوم الجمعة؛ فقال سحنون: يأذن في يوم الجمعة، وذلك سنة المعلمين منذ كانوا، لم يعب ذلك عليهم. وذكر أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال في المعلم يستأجر شهرا، له أن يتبطل يوم الجمعة؛ وما كان الناس قد عملوا به، وجروا عليه فهو كالشرط. وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو أيضا يجري على عرف الناس، إن كان قد عرف ذلك من شأن المعلمين، فهو كما عرف من شأنهم في يوم الجمعة. فأما بطالتهم يوم الخميس كله، فهذا بعيد، إنما دراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إياها على معلميهم في عشي يوم الأربعاء، وغدو يوم الخميس، إلى وقت الكتابة، والتخابر إلى قبل انقلابهم نصف [61-أ] النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر للكتاب، والخيار إلى صلاة العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يبكرون فيه إلى معلميهم. وهذا حسن نافع رفيق بالصبيان وبالمعلمين لا شطط فيه. وكذلك بطالة الأعياد أيضا على العرف المشتهر المتواطأ عليه. وقال ابن سحنون لأبيه: كم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ فقال: الفطر يوما واحدا، ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام؛ والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذنهم خمسة أيام. قال أبو الحسن: يريد ثلاثة أيام في الفطر، يوما قبل العيد، ويوم العيد، فيوم ثانيه. وخمسة أيام في الأضحى: يوم قبل يوم النحر، وثلاثة أيام النحر، واليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق، ثم يعودون إلى معلميهم في اليوم الخامس من أيام النحر؛ وهذا وسط في الرفق.
وأما بطالة [61-ب] الصبيان من أجل الختم، فقيل لسحنون أيضا: أترى للمعلم في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم. قيل له: ربما أهدى الصبي إلى المعلم أو أعطاه شيئا، فيأذن لهم على ذلك؟ فقال: إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز إلا بإذن الآباء. قال: ومن ها هنا أسقطت شهادة أكثر المعلمين؛ لأنهم غير مؤدين لما يجب عليهم إلا من عصم الله.
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو الحسن: وهذا إذا كان المعلم بأجر معلوم كل شهر، أو كل سنة. وأما إن كان على غير شرط، [62-أ] وما أعطي قبل، وما لم يعط لم يسأل، فله أن يفعل ما شاء إذا كان أولياء الصبيان يعلمون بتضييعه، فهم إن شاءوا أعطوا على ذلك، وإن شاءوا لم يعطوه. وهذا الوصف يكفيك مما سألت عنه، وفيه بطالتهم عند الختمة؛ فإن كان بلد قد عرف فيه العطاء عند النصف، أو الثلث، أو الربع حتى صار ثابتا، فالمطالبة فيه على حسب ما عرف عنه، وتووطئ عليه.
وأما وصفك لما جرى عندكم من صنيع معلميكم إذا تزوج رجل، أو ولد له، فيبعثون صبيانهم، فيصيحون عند بابه، ويقولون: أستاذنا، بصوت عال فيعطون ما أحبوا من طعام، أو غير ذلك، فيأتون به معلمهم، فيأذن لهم يتبطلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم، بغير أمر الآباء، يكفيك ما سألت عنه قول سحنون: ولا يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرته شيئا من هدية أو غير ذلك، ويسألهم [62-ب] في ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف فإن فعلوا لم يضرهم في ذلك. وأما إن كان يهددهم أو يخليهم إذا أهدوا إليه، فلا يحل له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية وهو مكروه. فإذا كان هذا كما وصف سحنون فيما يأتي به الصبيان، فالذي سألت أنت عنه أشد وأكره: لعل صاحب التزويج، أو أبا المولود، لا يعطي ما يعطي، إلا تقية أذى المعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهال، فيصير المعلم من ذلك إلى أكل السحت، ولا يفعل هذا إلا معلم جاهل. فليوعظ فيه ولينه عنه ويزجر، حتى يترك العمل الذي وصفت، فإنه من عمل الشيطان، وليس من عمل أهل القرآن.
وأما [63-أ] سؤالك عما يصرف المعلم الصبيان فيه، ويكلفهم إياه، وهل يتشاغل هو عنهم بشيء، فإن سحنون قال: سئل مالك عن المعلم يجعل للصبيان عريفا. فقال : إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك، إذا كان للصبي في ذلك منفعة. قال سحنون: ولا بأس أن يجعلهم يملي بعضهم على بعض؛ لأن في ذلك منفعة لهم. وليتفقد إملاءهم. قيل له: فيأذن للصبي أن يكتب لأحد كتابا؟ فقال: لا بأس به، وهذا مما يخرج الصبي، إذا كتب الرسائل. قال: ولا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في حوائجه. قيل له: فيرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ فقال: لا أرى ذلك له إلا أن يأذن أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون الموضع قريبا لا يشغل الصبيان في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب [63-ب] الصبيان، يخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا. قال: وأحب للمعلم ألا يولي أحدا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعرف القرآن، وهو مستغن عن التعليم، فلا بأس أن يعينه فإن في ذلك منفعة للصبي. قال: ولا يحل له أن يأمر أحدا أن يعلم أحدا منهم، إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك. وليل ذلك هو بنفسه، أو يستأجر هو من يعينه، إذا كان في مثل كفايته. قال: ولا يجوز للمعلم أن يشتغل عن الصبيان إلا أن يكونوا في وقت لا يعرضهم فيه بأس بأن يتحدث، وهو في ذلك ينظر إليهم يتفقدهم. قال: ولا بأس للمعلم أن يشتري ما يصلحه لنفسه من حوائجه، إذا لم يجد من يكفيه. قال: ولا بأس أن ينظر [64-أ] في العلم في الأوقات التي يستغني [فيها] الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة وأملى بعضهم بعضا، إذا كان في ذلك منفعة لهم، فإن هذا قد سهل فيه بعض أصحابنا. قال: وليلزم المعلم الاجتهاد، وليتفرغ لهم.
ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بد له منه، ممن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عمله ويتبع الجنائز وعيادة المرضى.
قيل: فهل ترى للمعلم أن يكتب كتب العلم له أو للناس؟ فقال: أما في وقت فراغه من الصبيان، فلا بأس أن يكتب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب. وأما ما داموا حوله، فلا أراه يجوز له ذلك. وكيف يجوز له أن يخرج مما يلزمه النظر فيه إلى ما لا يلزمه؟ ألا ترى أنه لا يجوز له أن يوكل تعليم بعضهم [64-ب] إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم! قال أبو الحسن: كل ما جرى في هذا الفصل صواب حسن. وما قال فيه: إلا أن يأذن في ذلك أبوه أو وليه، فمعناه: إذا كان أجر المعلم من غير مال الصبي الذي يجوز إذنهم في ذلك من أموالهم، دفعوا الإجارة عن الصبي. وقد تقدم مثله، وأن معناه: أنه كان في الشرط عند عقد الإجارة، قبل أن يجب الحق للصبيان، وهو وجه القول عندي. والله أعلم.
وقد أتى ما وصفه سحنون على مسائلك وأكثر منها.
وأما قولك: هل للمعلم إذا غلب عليه النوم أن ينام عندهم، أم يغالب ذلك عن نفسه؟ فإنه إن كان في وقت تعليمه إياهم، وحضورهم عنده، فليغالبه إن استطاع. وإن غلب فليقم فيهم من يخلفه عليهم، إذا كان في مثل كفايته، بإجارة [65-أ] يستأجره، أو يتطوع له إذا كان من غير الصبيان. وإن كان من الصبيان أنفسهم فقد تقدم من الشرائط في ذلك.
وكذلك إن مرض، أو [كان] عليه شغل، فهو يستأجر لهم من يكون فيهم بمثل كفايته لهم، إذا لم تطل مدة ذلك. فإن طالت فلآباء الصبيان في ذلك نظر ومتكلم من قبل أنه هو المستأجر بعينه، فلا يصلح أن يقيم عوضا منه إلا فيما قرب، فيستخف إذا كانت الإجارة واجبة عليه.
كذلك إن هو سافر فأقام من يوفيهم كفايته لهم، إن كان سفرا لا بد منه، قريبا اليوم واليومين وما أشبههما فيستخف ذلك إن شاء الله. وأما إن بعد أو خيف بعد القريب، لما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك.
وأما شهود النكاحات، وشهادات [65-ب] البياعات، فليس له ذلك؛ هو في هذا مثل شهود الجنازة، وعيادة المريض ، أو أشد. وأما إن كانت عنده شهادة، والسلطان عنه بعيد، في سيره إليه شغل عن صبيانه، فهو له عذر في تخلفه عن أداء الشهادة ؛ ولكن إن لم يوجد منه بد، أودع شهادته عند من ينقلها عنه، وله في ذلك عذر، ويقبلها الحاكم ممن نقلها إليه، ويعذره بعذره الذي لزمه. فافهم، فقد بينت لك جميع ما سألت عنه من هذا المعنى.
فأما قولك: فإن فعل، يريد ما نهى عنه، وتشاغل عن الصبيان، ماذا عليه؟ فاعلم أنه يكون من الاشتغال الخفيف، الذي يكون في مثل حديثه في مجلسه، فيشغله من الصبيان شيئا، فهذا وما اشبهه يقل خطبه، ويخف قدره، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب من ذلك، إن كان الأجر من أموالهم. وإن كان من [66-أ] أموال الصبيان فلا بأس به عندي أن يعوضهم من وقت عادة راحته، ما يجبر لهم به من نقصهم من حظوظهم باشتغاله ذلك؛ وإن كان غائبا اليوم أو أكثر اليوم، فهذا كثير. فإن كانت إجارته أجلا معلوما، وقد عطلهم، ولم يقم لهم عوضا منه، فيضع من أجره ما ينوب ذلك اليوم الذي عطله. وإن كانت الإجارة مطلقة، وفي كل شهر بما علم فيه: وليس له أن يعتاد التشاغل، حتى يلجئه إلى العوض؛ لأن ذلك يضر بالصبيان.
وأما سؤالك عما يكلفه المعلم الصبيان أن يأتوه به من بيوت آبائهم، يريد بغير إذن آبائهم، أو حمله الصبيان بغير تكليف من المعلم، وكان ذلك من الطعام أو غير الطعام، وإن قل قدره من حطب أو غير ذلك، فهذا لا يحل للمعلمين أن يأمروا به، ولا أن يقبلوه إن أتي به [66-ب] إليهم، وإن لم يأمروا به، إلا بإذن الآباء، ويسلم أيضا من أن يكون ما أذن الآباء في ذلك على وجه الحياء وتقية اللائمة. وقد تقدم من قول سحنون في فصل ما يجوز من بطالتهم ما فيه الكفاية من سؤالك هذا. فافهم.
وشراء الدرة
67
والفلقة على المعلم، ليس على الصبيان. وكذلك كراء الحانوت لمجلس التعليم، على المعلم أن يكون. كل ذلك لسحنون، وهو صواب.
وقال: إذا استؤجر المعلم على صبيان معلومين سنة معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المعلم. قال أبو الحسن: وهذا صواب أيضا؛ لأنهم هم أتوا بالمعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم، وعلى هذا يعتدل الجواب.
وقال سحنون: إذا استأجر الرجل معلما على صبيان معلومين، جاز للمعلمين أن يعلم [67-أ] معهم غيرهم، إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجر لهم. ومعنى هذا: إذا كان لم يشترط على المعلم أنه لا يزيد على العدة المذكورة له شيئا، فأما أن يشترطوا عليه أن لا يزيد على العدة المذكورة له، أو شرطوا عليه أن لا يخلط مع صبيانهم غيرهم، فليس له ذلك. وهذا هو جواب سؤالك عندي له.
وأما تعليم الصبيان في المسجد، فإن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد، أتستحب ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب، وعرف ذلك، ولا يعبث في المسجد فلا أرى بأسا. وإن كان صغيرا، لا يقر فيه ويعبث، فلا أحب ذلك، ولابن وهب عن مالك مثل معنى هذا. وأما سحنون فقال: سئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد فقال: [67-ب] لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة، ولم ينصب المسجد للتعليم. قال أبو الحسن: جواب صحيح، وتكسب الدنيا في المسجد لا يصلح. ألم تسمع قول عطاء بن يسار للذي أراد أن يبيع سلعة في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. فلا يترك لمعلم الصبيان أن يجلس بهم في المجسد، وإن اضطر إلى ذلك بانهدام مكانه، فليتخذ مكانا يعلم فيه إلى أن يصلح ما انهدم له، إن أحب.
واتخاذ المكان عليه، كان بيتا أو حانوتا، إلا أن يدعى إلى صبيان بأعيانهم، فقد تقدم قول سحنون في كراء ذلك أنه على الصبيان. فإذا كان بيت المعلم لهم - إذ هم بأعيانهم - فبناؤه عليهم، أو يتخذوا مكانا غيره؛ وليس على المعلم من ذلك شيء. إنما على المعلم المكان، إذا كان يعلم لعامة الناس. [68-أ] وأما شركة المعلمين والثلاثة والأربعة، فهي جائزة إلا إذا كانوا في مكان واحد، وإن كان بعضهم أجود تعليما من بعض؛ لأن لهم في ذلك ترافقا وتعاونا، ويمرض بعضهم فيكون السالم مكانه حتى يفيق. وإن كان بعضهم عربي القراءة، يحسن التقويم، والآخر ليس كذلك، ولكنه ليس يلحن، فلا بأس بذلك. قلت: ذلك على ما جاء عن مالك، وعن ابن القاسم في معلمين اشتركا. وقد روي عن مالك أن ذلك لا يصلح حتى يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضل على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، لم يصلح، إلا أن يكون لأعلمهما فضل من الكسب يقدر عليه على صاحبه، وإلا لم يصلح. قال أبو الحسن: أما إذا لم يكن بين المعلمين من الاختلاف إلا أن أحدهما يعرب قراءته، والآخر لا يعربها، إلا أنه [68-ب] لا يلحن، فما في هذا ما يوجب عندي التفاضل بين أجرتيهما إذا اشتركا. وكذلك يكون أحدهما رفيع الخط، والآخر ليس بذلك، إلا أن يكتب ويتهجى. والاختلاف في هذا وشبهه متقارب في الشركة. وكذلك هذا في الصنائع وفي التجارة يكون أحدهما أعلى من الآخر فيما يحسن من ذلك، فليس لهذا فضل على الآخر في الإجارة إذا كانا شريكين، ولكن إذا كان أحد المعلمين يقوم بالشكل والهجاء، وعلم العربية، والشعر، والنحو، والحساب، والأشياء التي لو انفرد معلم القرآن بجمع علومها لجاز أن يشترط عليه تعليمها مع تعليم القرآن، من قبل أنها مما يعين على ضبط القرآن، وحسن المعرفة، فهذا إن شارك من لا يحسن إلا قراءة القرآن والكتاب، فهو الذي تكون الإجارة [69-أ] بينهما متفاضلة على هذه الرواية، على قدر علم كل واحد منهما. وأما لو أن أحدهما يستأجر ليعلم النحو والشعر والحساب وما أشبه ذلك، والآخر يستأجر على تعليم القرآن والكتاب، ما صلحت هذه الشركة، على مذهب ابن القاسم، وعلى قول من يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتاب. [فافهم، فقد] بينت لك ذلك ليردع عنه من يحب أن يأكل حلالا طيبا.
وسألت هل للصبيان الصغار، أو الكبار البالغين، أن يقرءوا في سورة واحدة وهم جماعة على وجه التعليم؟ فإن كنت تريد يفعلون ذلك عند المعلم، فينبغي على المعلم أن ينظر فيما هو أصلح لتعلمهم، ليأمرهم به، ويأخذ عليهم فيه؛ لأن اجتماعهم في القراءة بحضرته يخفي عنه قوي الحفظ من الضعيف. ولكن إن كان على الصبيان من ذلك خفة، فيخبرهم [69-ب] أنه سيعرض كل واحد منهم في حزبه، فيؤدبه على ما كان من تقصير، تهديدا يتهددهم، ولا يوقع الضرب لأدب، إلا عن ذنب يتبين حسب ما تقدم قبل هذا.
وأما إمساك الصبيان المصاحف، وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك؛ وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مس المصاحف الجامعة - وهم على غير وضوء - خلاف من مالك، ولا ممن يقول بقوله. ورأى سحنون أن على المعلم أن يأمرهم ألا يمسوا المصحف إلا وهم على وضوء، حتى يعلموه. وهو حسن صواب، كما قال سحنون؛ لأن معلمهم يعلمهم مصالح دينهم.
قد سئل مالك عن صبيان الكتاب يصلي بهم صبي لم يحتلم، قال: ما زال ذلك من شأن الصبيان وخففه. قال أبو الحسن: يريد الذين يصلون معه لم يحتلموا، ولو كان [70-أ] في صبيان الكتاب محتلم، فإن صلح للإمامة قدم، وإن لم يصلح للإمامة فلا يصلى خلف من لم يحتلم، ولا يقطع عن صبيان الكتاب عادتهم، لكي يتدرجوا على معرفة صلاة الجماعة، وليعرفوا فضلها حتى يكبروا على الرغبة فيها، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
ذكر سؤاله عما تكون فيه الأحكام بين المعلمين والصبيان وعن أدب الرجل زوجته وولده وعبده وشكواه ولده الكبير
قال أبو الحسن: قد قدمت لك من وصف ما يطيب للمعلمين، يأخذونه من المتعلمين، ومن وصف ما ليس لهم أخذه، وما يكون نزاهة لأهل الورع منهم، ما فيه الكفاية والبيان لما سألت عنه، وفيه ما يوجب لهم في شرطهم، فإن أراد منهم أحد ترك ما دخل فيه، أو اختلفوا في [70-ب] أمر، وسعتهم الأحكام.
وسألت عن الختمة متى تجب للمعلم، وعلى أي وجه تجب له، وكيف يكون حال الصبي في حفظه ، وقراءته، وإجارته، فيستوجبها المعلم؟ قال: ووجوب الختمة للمعلم فيما سألت عنه على وجهين:
أحدهما أن يستظهر القرآن حفظا من أوله إلى آخره، فهذا الذي تجب له الختمة على نظر حاكم المسلمين، المأمون على النظر في ذلك. وتكون على قدر يسر الأب وعسره؛ وقدر ما فهمه الصبي، مما علمه المعلم، مع استظهاره للقرآن؛ وليس في ذلك حد موقت، إنما هو ما يرى أنه هو الواجب في عادات الناس في مثل هذا المعلم، بمثل هذا الصبي، وفي حال أبيه. والوجه الآخر أن يكون الصبي استكمل قراءة القرآن في المصحف نظرا، لا يخفى عليه شيء من حروفه، [71-أ] مع ما فهمه الصبي مما ينضاف إلى ذلك، من ضبط الهجاء، والشكل، وحسن الخط، فيكون الاجتهاد في الواجب لمعلم هذا الصبي أيضا، على قدر عادات الناس في أحوالهم، إلا أن المستظهر للحفظ مع ما صاحبه من حسن خط، وضبط شكل، وهجاء، وإعراب قراءة، يكون في الاجتهاد أفضل جعلا ممن لم يستظهر الحفظ، إنما قوي على تلاوة القرآن نظرا؛ وما نقص تعلم كل واحد منهما عما وصفت لك، كان الاجتهاد له فيما يجب من الجعل دون من استكمل ذلك. فعلى هذين الوجهين، يحمل ما يجب للمعلم على المتعلم إذا هو استكمل ختم القرآن. وهذا إذا لم يكن شرط المعلم للختمة جعلا مسمى. فأما إن شرط ذلك كان له ما شرط إذا حذق الصبي الوجه الذي علم من ظاهر أو نظر [71-ب] فإن نقص تعلم الصبي مما علم به، نقص من الأجر المسمى بمقدار ما نقص من تعلم الصبي، حتى ينتهي من نقص التعليم إلى أقل ما ينفعه، فيكون له بمقدار المنفعة التي له فيه. وإن كان لم يشترط للختمة شيئا مسمى، حتى يكون للمعلم فيها إذا أحذقها الصبي الاجتهاد، فنقص حذق الصبي حتى ينتهي إلى ما لا يسمى تعلما، في إجادته، ومعرفته بالهجاء والشكل، والنظر في المصحف، فبأي شيء ختم هذا؟ ما لهذا ختمة: يملى على الصبي فلا يتهجى، ويرى الحروف فلا يضبطها، ولا يستمر في قراءتها. معلم هذا قد فرط فيه، إن كان يحسن التعليم، وإن كان لا يحسن التعليم، فقد غرر. ورأي العلماء أن مثل هذا المعلم يستأهل الأدب لتفريطه فيما وليه، وتهاونه بما التزمه، وأن يمنع من التعليم؛ وهو صواب، إذا كان شأنه التفريط أو الغرور بتعليمه وهو لا يحسن. ورأي [72-أ] بعضهم أن مثل هذا المعلم لا يستأهل الإلزام، بل يستأهل اللوم، والتعنيف والغلظة والتأنيب من الإمام العدل. فإن اعتذر المعلم ببله الصبي، واختبر الصبي فوجد لذلك لا يحفظ ما علم، ولا يضبط ما فهم، فلم يحصل لهذا المعلم إلا إجارة حوزه وتأديبه، لا إجارة التعليم، إذا لم يعرف آباءه بمكانه من فقد الفهم. لأنه لو عرف أباه، فرضي له بشيء لزمه، فإذا لم يعرفه فقد غره. والمغرر لا يستأهل على تغريره جعلا ولا إحسانا. وأما الصبي علم حتى تدانى من الختمة فأراد الخروج من عند المعلم إلى معلم آخر، أو إلى صنعة، أو إلى ما أحب من الانتقال، أو مات الصبي قبل استكمال الختمة، وهو لم يسم لها جعلا مسمى، فهو عندي أصل واحد، كأن الذي بقي عليه من استكمال الختمة الثلث، أو الربع، أو أقل من ذلك [72-ب] أو أقل من السدس، فإنه يكون للمعلم عندي على أبي الصبي مما يجب على مثله في جعل ختمة ابنه، بمقدار ما انتهى؛ ثلاثة أرباع ذلك، أو خمسة أسداسه، أو أكثر، أو أقل من ذلك. ولو كان إنما علمه نصف القرآن، لوجب له حساب ذلك. وكذلك يجب عندي في الوقت للمعلم ما اشتهرت عادة وجوبه له في البلد الذي يعلم فيه مثل الجعل في
لم يكن الذين كفروا [البينة] إذا بلغها الصبي وفي
عم يتساءلون [النبأ] وفي
تبارك [الملك] وفي
إنا فتحنا [الفتح] و(الصافات) وفي سورة (الكهف) لاشتهار أداء الناس في ذلك؛ وجلوس المعلمين ورغبتهم في التعليم إنما هو لذلك. وإذا كانت الإجارة على تعلم القرآن جائزة، والأخذ على ذلك بالشرط إنما هو إجارة لم يصلح أن يجري إلا مجاري الإجارات [73-أ ] إلا فيما اتفق على تجويزه من ترك شرط تسمية الجعل. وكذلك الجعل في ختمة القرآن على من أدى الختمة المسماة، لوجوبها عليه في عادة البلد، يكون أخف من الجعل في الختمة على من لا
68
يؤدي في الختمة المسماة شيئا. وما معنى قول سحنون: عندي أنه لا تلزم ختمة غير القرآن كله، لا نصف، ولا ثلث، ولا ربع، إلا أن يتطوعوا بذلك، إلا أنه لم يكن في عادة عامة الناس الأداء في ذلك، وإنما كان يفعله الأقل إكراما للمعلم ومسرة للصبيان، وهذا هو سبيل التكرم الذي لا يجب به حكم.
ولما كانت الختمة في تعلم القرآن كاملا إنما وجبت على من أدى منهم
69
من قبل عادة العامة، فحملت على عادتهم في ذلك على وجه الوجوب، وإن لم يشترط لها جعلا مسمى، وجب ذلك في كل ما فشا في العامة والتزمته [73-ب] حتى صار عندها في الوجوب كمن ختم جميع القرآن. وكذلك عندي قوله، إذا قيل له: فعطية العيد يقضي بها؟ قال: لا، ولا أعرف ما هي إلا أن يتطوعوا. وكذلك قول ابن حبيب: ولا يجب للمعلم الحكم بالأخطار
70
الذي يأخذونه من الصبيان في الأعياد، ذلك تطوع، من شاء منهم فعل، ومن شاء لم يفعل. وفعل ذلك حسن ممن فعله، وتكرم من آباء الصبيان لمعلميهم، ولم يزل ذلك مستحسنا فعله في أعياد المسلمين. فقول سحنون وابن حبيب عندي في هذا، إذا كان ذلك ليس في عامة الناس أداؤه، يرونه مما لا بد منه. فأما إذا فشا في عامة الناس، وصار عند العامة مما يرونه واجبا، وعلى ذلك جلس المعلمون، وإن لم يشترطوه، للعادة المنتشرة في عامة الناس في المعاوضات، واجبة،
71
كالهبة للمكافآت [74-أ] إذا نال الموهوب الهبة وأفاتها وجب عليه قيمتها، وذلك ما أفات منها، وجب عليه العوض منه. وكذلك المعلمون عندي في هذه العادات، إذا كانت مستحسنة في الخاصة، فانتشارها على ما وصفنا يوجبها.
وصواب قول ابن حبيب، ومكروه عليه أن يفعل من ذلك شيئا، في أعياد النصارى مثل النيروز والمهرجان ، لا يحل لمن فعله ولا لمن يقبله من المعلمين، بل ذلك تعظيم للشرك، وإعظام لأيام أهل الكفر بالله. قال: وحدثني أسد بن موسى عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري، أنه كان يكره أن يعطى المعلم في النيروز
72
والمهرجان.
73
وقال: كان المسلمون يعرفون حق معلميهم، إذا جاء العيدان، أو دخل رمضان، أو قدم غائب من سفره، أعطوه. قال أبو الحسن: ما انتشر في عامة الناس، ولا قصد المعلمون إلى الجلوس عليه، من هذا الذي [74-ب] سماه الحسن رحمه الله، إلا العيدين. فأما رمضان، والقدوم من السفر، فهو باق لفعل الخاصة، وعاشوراء مثل ذلك.
وكذلك المذموم أن يؤخذ في أعياد أهل الكفر، يدخل فيها أيضا الميلاد، والفصح، والانبداس عندنا، والغبطة بالأندلس، والغطاس بمصر، كل هذا من أعياد الكفرة، لا يجب أن يطلب معلم المسلمين فيه شيئا، وإن أتي إليه بشيء في ذلك لا يقبله وإن أطاعوا له به. ولا ينبغي للمسلمين أن يتطوعوا بذلك ولا يتزينوا له بشيء من الزي، ولا يتهيئوا له بشيء من التهيئة، ولا يفرح الصبيان كعمل القباب في الانبداس، والقصوفات
74
في الميلاد. كل ذلك لا يصلح من عمل المسلمين، وينهون عنه، ويأبى المعلم من قبول الإكرام منهم فيه، ليعلم جاهلهم أن هذا خطأ فينتهي، ويخجل مستخفهم له فيترك ذلك؛ والمؤمن للمؤمن كالبنيان [75-أ] يشد بعضه بعضا، كذا قال الرسول عليه السلام.
وأما قول سحنون فيمن أخرج ولده من عند المعلم، وقال له: لا يحضر ولدي عندك وقد قارب الختمة، وكانت الإجارة كل شهر. فقال: أقضي عليه بالختمة، ثم لا أبالي به أخرجه أو تركه. ومقاربة الختمة عند سحنون، إذا بلغ الثلثين أو جاوز ذلك. وقيل عنه: والثلاثة أرباع أبين. وعنده إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس، أنه لا يقضي له بشيء. وقال ابن حبيب: وإذا لم يشترطها المعلم، ولم يشترط أبو الغلام سقوطها عنه، فأراد أن يخرجه قبل فراغه منها، كأن كانت الختمة قد تدانت بالأمر اليسير مثل السور القليلة تكون بقيت عليه، فالحذقة واجبة للمعلم كلها إذا كان الغلام يحفظ كما وصفت لك. وإن كان الذي بقي من الحذقة الشيء الذي له بال [75-ب] مثل السدس وأقل من ذلك، أخرجه إذا شاء، ولم يكن عليه من الحذقة شيء لا جميعها، ولا على حسابها. قال أبو الحسن: أما حكمها للمعلم بجميع الختمة على من قاربها، فهو يعتدل فيمن حذق، وتم حذقه في المعرفة والنفاذ، واستغنى مما عنده من الخط والهجاء والإجادة والإعراب، حتى صار لا يحتاج فيما بقي عليه إلى المعلم، فهذا إذا خرج عند مقاربة الختمة، فلم يبق من استكماله إياها ما على المعلم فيه عناء، بل تماديه مع المعلم نفع للمعلم. وأما إسقاطهما الجعل عمن لم يبلغ مقاربة الختمة، وقد حذق وفهم، ولا عنت في تعليمه، فما أعرف له وجها، ولا من أين أخذه. إنما ذكر سحنون أن المغيرة وابن دينار اجتمعا على أن الصبي إذا أخذ عند المعلم من الثلث إلى سورة البقرة، أن الختمة واجبة إذا عرف أن يقرأه كما وصفت لك، ولا يسأل [76-أ] عن غير ذلك مما لم يكن أخذه عنده؛ وقول المغيرة وابن دينار في مبتدئ انتهى إلى الثلث يحسن، من قبل أن المبتدئ لا يحقق مما علم النفاذ المرفق في مقدار بلوغ الثلث، هو يعد في تعلم الصغير البعيد من الميز، فصار من علمه الثلثين الباقيين، هو الذي لقي التعب به ولم تضع عنه عناية الأول من العناء ما يرفقه، هذا الغالب في عامة الناس. وإنما العمل في هذه الأشياء على الغالب المستفيض في وصف الناس. ولم يذكر عن المغيرة وابن دينار في الذي علمه الثلث الأول شيئا. وقد قال: تنازع المغيرة وابن دينار - وكلاهما من علماء أهل الحجاز - في الصبي يختم القرآن عند المعلم، فيقول الأب إنه لا يحفظ، فقال المغيرة: إذا كان أخذ القرآن عنده كله، وقرأه الصبي كله نظرا في المصحف، وأقام [76-ب] حروفه، وإن أخطأ منه اليسير الذي لا بد منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبت للمعلم الختمة؛ وهي على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، وهو الذي أحفظ من قول مالك. وقال ابن دينار: قد سمعت مالكا يقول: تجب للمعلم الختمة على قدر يسر الرجل وعسره، يجتهد في ذلك ولي النظر للمسلمين. وأرى أنه إذا تنازع المعلم والأب في الصبي: أنه لا يعلم القرآن، فإذا قرأ منه نظرا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مفردا وجبت له الختمة قضيت له بها، ولا أبالي ألا يقرأ غير ذلك، لأنه لو لم يأخذه عنده لم يسأل هذا المعلم. قال أبو الحسن: فهذا سحنون ذكر ما تنازع فيه المغيرة وابن دينار فوصف أن المغيرة جعل للمعلم الختمة إذا لم يبق على الصبي إلا الحروف اليسيرة. ولم يصف عنه فيه إن بقيت عليه حروف كثيرة [77-أ] ما يكون الحكم فيه. ووصف ما رآه ابن دينار إذا قرأ الصبي، نظرا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مفردا وجبت له الختمة، قضى له بها، ولا يبالي ألا يقرأ غير ذلك، قال: لأنه لو لم يأخذه عنده لم يسأل هذا المعلم. فأين تصريح التنازع بينهما ها هنا؟ إذا كانا وصفا ما يجب به الجعل للمعلم، ولم يصفا ما يسقط به جهل المعلم، ولا وصفه واحد منهما. وقد اتفق المغيرة وابن دينار في هذا الوصف أن مالكا جعل للمعلم الختمة على قدر يسر الأب وعسره، ولم يصف عنهما سحنون أنهما قالا عن مالك فيمن علم ما دون الختمة شيئا. وإن كان قول المغيرة في الذي يبقى عليه الحروف اليسيرة يدخل فيما حفظ عن مالك فهو حسن، إنما الطلب أن يوجد لمالك إسقاط جعل المعلم فيما دون الختمة. وقال سحنون أيضا: قال [77-ب] أصحابنا جميعا، مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمعلم الختمة، وإن استؤجر شهرا شهرا، أو على تعليم القرآن بأجر معلوم، ولا يجب له غير ذلك. قال أبو الحسن: وليس يظهر في قولهم ولا يجب له غير ذلك، إلا أنه إنما يجب له جعله في الختمة، ليس له مع ذلك إلا ما خورج عليه في المشاهرة، إذا كان المعروف في ذلك الوقت وعليه يقعد المعلم، إلا من أكرمه في الأعياد، وما أشبه ذلك من الأرفاق، التي لا يقضي بها، إذ ليست معتادة فيعمل عليها، ومن حمل هذه الكلفة على أنهم أرادوا أنه ليس له فيما دون الختمة شيء، فما لقوله هذا بيان.
وقال ابن حبيب: الحذقة على الحفظ لازمة لأبيه، إلا أن يكون أبوه اشترط على المعلم ألا حذقة عليه سوى إخراجه، فيسقطها الشرط عنه، فأما إذا سكتا [78-أ] عنهما، فهي تجب كما فسرت لك، اشترطها المعلم أو لم يشترطها؛ وإنما يختلف الحكم في اشتراطها أو غير اشتراطها، إذا أراد الرجل أن يخرج ولده قبل الحذقة. فإنه إذا اشترطها المعلم، مثل أن يقول: أعلمه على درهم في كل شهر، أو في كل شهرين، وعلى أن لي في الحذقة كذا وكذا، كان للأب أن يخرجه إن شاء، وكان عليه من الحذقة على قدر ما قرأ منها، ولو لم يقرأ منها إلا الثلث أو الربع، كان عليه منها بحساب ذلك، لاشتراطه فيها ما سمي مع خراجه؛ ولو كان شارطه على أن يحذقه ولو كذا وكذا، لم يكن لأب الغلام أن يخرجه حتى يتم حذقته.
قال أبو الحسن: ففرق في وصف هذا بين ما جمع الشرط فيه بشرط الحذقة وتسمية الجعل عليها، أو المخارجة في كل شهر وبين شهر الحذقة [78-ب] وتسمية الجعل عليها. ولم يكن مع ذلك خراج مشاهرة فيما إذا أراد أبو الصبي إخراجه قبل تمام الحذقة، ولم يذكر حجة لتفرقته، ولم يكن لمن شرط وسمى لها جعلا وزاد مع الجعل درهما في كل شهر، إلى أن يتم الحذقة أن يخرج ابنه قبل تمامها، ويسقط للمعلم بقية شرطه مما سمي له من الجعل في جميع الحذقة، وهو لو لم يسم الخراج في كل شهر لمنع أبو الصبي أن يخرجه قبل تمام الحذقة؛ لأن العقد قد أوجب على المعلم قبل تمام الحذقة، وأوجب على أبي الصبي الجعل المسمى، فليس له أن ينقصه منه بإخراجه ابنه قبل التمام. فإن كان زيادة الخراج في المشاهرة بشرط إلزام شرط الحذقة رجع ذلك إلى حكم من لم يشترط الحذقة. فهذا الذي أردت بيانه إذ جعل على أبي الصبي حصة من جعل الحذقة ، إذا أخرجه قبل [79-أ] تمامها، وهو صواب من القول. فلم جعل لمن يشترط الحذقة فأخرج ابنه قبل مقاربتها، أنه لا يغرم شيئا من جعل الحذقة؟ فإن قيل لأنها لم تشترط، ولم يسم لها جعلا مسمى، قلت: فإذا كمل هذا الختمة، ولم تكن اشترطت، ولا سمي لها جعل، وقد كان يؤدي مشاهرة أو مساناة خراجا فلم جعل عليه حق الختمة وهو لم يسم ولم يشترط؟ ولم يكتفيا من ذلك بما كان يؤدى من المشاهرة؟ فإن قيل: لأن العادة قد جرت في الناس بأداء الختمة إذا كملت وتجعل بالاجتهاد على قدر أحوال أبي الصبي، وقدر ما انتهى إليه حذق الصبي من معرفة ما حفظ، قيل
75
فهذا الذي يوجبه الحكم، ولا كراهية فيه، ولا إباء منه، مقامه ومقام شرط التسمية سواء. إذا أخرج الصبي أبوه قبل تمام الختمة، يجب عليه ما يوجبه الاجتهاد في الختمة، لو كانت حصته بقدر ما تعلم من الختمة، كما يجب في التسمية التي له أن يخرج إليه قبل تمامها. [79-ب] هذا وجه القياس فيما عندي والله أعلم. وكذلك قول ابن حبيب أيضا: ولا يجوز للمعلم إذا اشترط الحذقة مع الخراج إلا أن يسمي لها شيئا معلوما. فأما أن يقول أعلمه كل شهر بدرهم، على أن الحذقة لي واجبة، وسكت عن تسميتها، فلا يجوز ذلك إذا اشترطها، فلا بد لها من تسمية. قال أبو الحسن: هو يجعل لأبي الصبي في هذه المسألة يخرجه متى شاء قبل الختمة، كأنه لم يلتزم الحذقة، ثم يمنع من أن يشترط حتى يسمى لها جعل مسمى. وإذا كان لأبي الصبي أن يسقط ما سمى له جعلا من هذا، لم لم يكن إدخال هذا الشرط فيها من التغرير بالمعلم؟ وإذا جاز هذا بالغرر
76
الذي فيه لم لم يجز، إذا لم يسم الخراج، ما هو حتى يبينه الاجتهاد فيه، عند الحاجة إليه : التغرير فيهما واحد [80-أ] والله أعلم. واعلم أني ما ذهبت إلى أن يجعل للمعلم حصة مما يوجب الاجتهاد في الختمة إذا كملت، إذا أخرج الصبي أبوه، ولم يستكملها وقد تعلم منها شيئا؛ لأني رأيته من وجه الإجارة التي لم يشترط لها غاية، فما نيل منها كان عليه الواجب فيه، ولم يبطل عناء الأجير، وكذلك المجاعلة على الشيء الذي لم يشترط كماله إلزاما، فعمل فيه العامل ما شاء ثم ترك. فإن كان لرب العمل فيما عمل منفعة ينتفع بها، وأدى حصتها من الجعالة، فلم لا يكون لمعلم الصبي لم يستكمل تعليم الختمة هكذا؟ وهو لو علم سورة واحدة لانتفع بها المتعلم، والمعلم لم يعلمه حسبة، وإني لأرى رأيي بمنصوص قول مالك. قلت: في ذلك قال مالك في الذي يعلم الصبيان إنه إذا اشترط سنة أو سنتين فذلك له لازم، وإن لم يكن شرط مسمى، فأراد أن [80-أ] يخرج أو يخرج عنه الصبي فله بقدره ما علم. وكذا روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك في سماعيهما، وفي موطأ ابن وهب. وقال ابن حبيب: سمعت مطرفا يقول: قال مالك وجميع علمائنا بالمدينة: لا بأس بأخذ الأجر على تعليم الصبيان الكتاب والقرآن، والاشتراط على ذلك سنة أو سنتين. فإذا كان ذلك، لم يكن لأب الغلام أن يخرجه حتى يستوفي الشرط، وإذا لم يكن شرط مسمى، فلا بأس أن يخرجه إذا شاء، وعليه قدر ما علمه. فهذه الروايات قد اجتمعت على أن للمعلم حصته بمقدار ما علم. وما ذكر في هذه الروايات من شرط تمام حذقة، ولا تسمية جعلها، وإنما منع أبو الصبي من إخراجه في هذه الروايات إذا كانت الإجارة فيه أجلا معلوما، بشرط سنة أو سنتين [81-أ] فإذا لم يكن شرط أجل مسمى، لم يكن لإخراج الصبي مانع. وكذلك المعلم إن أراد الترك. هذا ما في هذه الروايات عن مالك بين لا إشكال فيه. والذي قدمناه من رواية مطرف هو عند ابن حبيب، ولكنه لم يستعمله في جميع وجوه المسألة. قال: ونحن نوجب للمعلم الحذقة، ونرى أن يحكم له بها في النظر والظاهر على قدر الغلام، وقدر درايته، وقدر حفظه في حذقة الظاهر، وقدر معرفته بالهجاء والخط في حذقة النظر؛ وليس لها قدر معلوم، وليس كل الناس فيها سواء، وليس ذو الفقر من الآباء كغيره من الغني، وإنما رأينا أن يحكم بها لأنها مكارمة جرى الناس عليها فيما بينهم وبين معلمي صبيانهم بمنزلة هدية العرس. ونحن نرى أن يحكم بها على قدر الرجل، وقدر المرأة، وليس لها قدر معلوم. وكذلك الحذقة. وقد كاشفت [81-ب] عن ذلك أصبغ بن الفرج وغيره من أهل العلم والفقه، فأوضحوا لي من ذلك ما أوضحت لك، وأسقطوا ذلك عن المعلم في حذقة الظاهر، إذا لم يستظهر الغلام فيها شيئا، أو يستظهر فيها اليسير وفاته الكبير. فأما أن يخطئ في السورة الحرف والأحرف اليسيرة وهو مستمر في القراءة، إلا أنه يخطئ، ويعثر، فليلقن،
77
فهو عندي حفظ يجب للمعلم به أن يكافأ. وليس الذي يخطئ كالذي لا يخطئ في قدر ما يعطي. فانتظر كيف جعل جعل المعلم في الحذقة، إنما هو مكافأة على وجه التكارم. وكذلك قال في حذقة النظر إنما يجب للمعلم فيها أن يكارم ويكافأ، إذا كان الغلام يتهجى تهجيا حسنا، ويخط خطا جميلا، ويكتب ما يملى عليه، ويقرأ نظرا ما أمر بقراءته. فأما إذا لم يحسن الهجاء ولم يحكم الخط، ولم يقرأ شيئا نظرا [82-أ] فلا يجب للمعلم في ذلك شيء، بل يجب عليه ما وصفنا فوق هذا من التأنيب والتعنيف.
قال أبو الحسن: أما صبي هذا وصف ما تعلم، فما تعلم شيئا، وقد قدمنا أن هذا لا يجب للمعلم فيما علمه جعل، وفسرنا الواجب عليه قبل هذا عند العلماء.
وأما قول ابن حبيب: إن الحكم بها عنده بمنزلة هدية العرس، قال: ونحن نرى أن يحكم بها، فاعلم أن هدية العرس قد قيل لمالك: فهدية العرس إذا طلبتها المرأة وأبى الزوج، قال مالك: لا أرى لها فيه حقا، ثم قال: قال الله عز وجل:
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة (النساء: 4) فليس الهدية من الصداق، ولا أرى فيه حقا، ولا أرى ما نحلها عند اختلائه يلزمه. فقيل لمالك: فإن الذي عندنا في هدية العرس، مما يعمل به جل الناس، حتى إنه ليكون في ذلك الخصومات، أفترى أن يقضي به؟ فقال: إذا كان [82-ب] قد عرف من شأنهم وهو عملهم، لم أر أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرا قد جروا عليه. قال ابن القاسم: وقد قال مالك مثل هذا: لا أرى لهم ذلك إلا أن يشترطوه، وهو أحب قوليه إلي. قال أبو الحسن: فانظر كيف وقع جواب مالك رحمه الله، أولا في هدية العرس واحتجاجه على ذلك بما في كتاب الله، فلما وصفوا له ما جرى في أكثر الناس قال: إذا كان قد عرف ذلك من شأنهم، وهو عملهم، لم أر أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرا قد جروا عليه؛ فبين مالك رحمة الله عليه أن ما اشتهر الناس وجروا عليه من ذلك، أن الزوج مأخوذ به، لأنه عليه قدم. وهكذا يجب أن يكون العمل في المعلمين، ما جرى في الناس سنة لهم جائزة، أن آباء الصبيان [83-أ] مأخوذون به لهم، إذا على ذلك جاء الآباء بأبنائهم، وعليه قعد المعلمون لصبيانهم؛ على أن هدية العرس إنما هي شيء يقدم للمرأة عند الدخول بها، لتدخل به، فالانتفاع بالمرأة مستقبل، وانتفاع الصبيان بالمعلم قد نالوه في القدر الذي علمهم إياه، فبأي وجه يطرح ذلك عن آباء الصبيان، وهم مأخوذون بجميعه، إذا استكملوا الختمة على شرطهم من ظاهر أو نظر؟ إنما استحب ابن القاسم الأخذ في هدية العرس بالأول من قول مالك، من قبل أن عقد النكاح قد وجب، واستحلال الفرج قد ثبت بالصداق المسمى، لا خيار للمرأة بعد في التمادي على ذلك. والمعلم ما لزمه ذلك، إذا لم يشترط عليه. وكذلك آباء الصبيان إذا لم يكن عليهم شرط يمنعهم من إخراج أبنائهم، لم يلزمهم التمادي، فليس لهم من ذلك مثل ما للزوج [83-ب] والزوج أيضا لو اختار الفراق قبل البناء، وجب عليه نصف الصداق، وهو ما انتفع منها بشيء، وإن كان لم يفرض لها شيئا قبل الطلاق، لم يفرض لها بالطلاق شيء، وصار أمرها إلى المتعة التي لا يحكم بها، إذ هي حق على المحسنين، وعلى المتقين، فيمن دخل بها، فلأن اسم التكارم مما لا يحكم به. فأما ما يوجب الحكم، فالتكارم فيه لمن يريد، على الواجب عليه، وإنما المتعة عوض للزوجات من أشياء منه كن يؤملنها. وأخذ المعلم إنما هو عن شيء عمله، فهو بما شبهناه من الجعالة، ومن مكافأة الهبة للثواب أشبه، وفي بابها أدخل. وقد أجروا مسائل منه على معاني البيوع.
قال سحنون: وقد سئل بعض علماء أهل الحجاز منهم ابن دينار وغيره، أن يستأجر المعلم جماعة، وأن يقرض على كل واحد ما ينوبه [84-أ] فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة، ولا بد للناس منه، وهو أشبه. وقال: هو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدين من رجلين، لكل واحد عبد، وإنما ذلك بمنزلة البيع، في كتاب ابن سحنون؛ وابن القاسم لا يجيز هذه الإجارة؛ لأنه لا يجيز ذلك في البيع، والله أعلم.
قال أبو الحسن: نعم قد منع ابن القاسم من جوازه في البيع، وفي الإجارات، إذا لم يكن معلوما؛ ومنع أيضا أن يجمع في النكاح بعقد واحد وصداق واحد، على امرأتين أو أكثر، إذا لم يسم لكل واحدة صداقها على حدته. وما عقد هذا المعلم على الصبيان الذين آباؤهم شتى، إلا من هذا الباب، يجري فيه كله الاختلاف؛ وليس هذا موضع التكارم الذي بنى عليه ابن حبيب، وذكر أنه كاشف عن ذلك أصبغ وغيره من أهل العلم والفقه، ونكب عن اسم مطرف وابن الماجشون. ولو كان عنده منهما لبدأ بهما وبمن عنده عنه [84-ب] من ذلك شيء منهما، أو بعبد الله بن عبد الحكم لو كان عنده منه شيء. وقد تقدم ما عنده من رواية مطرف، عن مالك وغيره من علماء أهل المدينة، وهو مخالف لما بنى عليه حسب ما بينا. والله أعلم، وهو ولي المتقين.
وما أرى سحنون قصد لما قاله: فمن لم يقارب الختمة ، ممن لم يشترط، فأخرجه أبوه، أنه لا شيء عليه، إلا أنه كان هو المفهوم عنده من قول المغيرة وابن دينار الذي قد تقدم، والله أعلم. وقد قدمت البيان عن ذلك وجواب مسائلك في هذا المعنى، قد أتى عليه جميع ما وصفنا، واضح لا إشكال فيه عليك ولا على غيرك، إن شاء الله.
ومسألتك في الذي علمه معلم بعض القرآن، ثم خرج من عنده إلى معلم آخر استكمل عنده الختمة، يجري على ما بينت لك: يكون للمعلم الأول بمقدار ما علم نصفا ونصفا، أو ثلثا وثلثين، أو ربعا وثلاثة أرباع، ينظر الحاكم فيما يجب [85-أ] على أبي هذا الصبي في الختمة كلها، على قدر يسره وعسره، وما انتهى إليه ولده من الفهم فيما تعلم. فإذا عرف منتهى ذلك الجعل، غرمه أبو الصبي، واقتسمه المعلمان، على قدر عناء كل واحد منهما، وما وصل إلى الصبي من نفع تعليمه، يجتهد في ذلك. وربما جعل للأول جميع ذلك، أو ينقص منه قليل، فيعطي للثاني، وذلك إذا كان الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرا أو استظهارا، حتى بلغ من الحذق في ذلك إلى الاستغناء عن المعلم، فكان خروجه إلى الثاني لا يزيد علما في تعليمه، فأي شيء يكون لهذا؟ إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فذلك ليس على الأول منه شيء، وقد يكون له في كتابة ما بقي عليه، وإن كانت سورة البقرة، زيادة قوة غرض ينتفع به، فهذا يجتهد له فيما يعطي من ذلك الجعل؛ وقد يكون الجعل يجب للثاني كله، وقل ما ينال منه الأول، وذلك أن يبتدئ في تعليم الصبي، فقل ما لبث عنده، حتى أخرج عنه ولم [85-ب] ينل من التعلم شيئا له فيه منفعة، لعوج قراءته في سور يسيرة تعلمها، ولا خط ولا هجاء، فأي شيء يستأهل هذا في التعليم؟ ولو كان قد نال الصبي من فهم ما علم شيئا، وعرف ما هو، لأخذ المعلم بمقدار ذلك. فإن كان فيه مرفق للمعلم الثاني بما نبه منه المعلم الأول، وخروجه فيه، نقص ما يصيب ذلك القدر من جعل الختمة، فيأخذ الأول، ويدفع سائر الجعل إلى الثاني. وإن تبين أن ليس للثاني مرفق على حال بما علمه الأول، لم ينقص من الجعل شيئا، وكان ذلك على أبي الصبي؛ لأنه باختياره نزعه من عند الأول. وكل هذا مفاد قول مالك الذي ذهب إليه.
وأما سحنون فقال: إن علمه الأول إلى يونس، فالختمة للثاني. وإن جاوز الأول ذلك إلى ثلثين أو زاد على ثلثين في معنى ما قال، لم يقض للثاني بشيء. قال: وأستحسن أن يرضخ له بشيء استحسانا، وليس بالقياس. وهذا على أصل الذي قدمت لك وصفه، وعرفتك [86-أ] وجه مذهبي فيه.
وأما سؤالك عن معلم قوم نزل بهم ما اضطرهم إلى الرحيل، فرحلوا: بعضهم إلى مكان وبعضهم إلى مكان آخر، أو رحل بعضهم، وثبت بعضهم في البلدة. ما يصنع هذا المعلم؟ فالجواب أن ينظر إلى ما عاقدهم هذا المعلم عليه، فإن كان إنما جلس على المشاهرة شهرا بشهر، أو سنة بسنة، فالحكم فيه أن يترك تعليمهم متى شاء، ويتركوه متى شاءوا، والحكم بينهم فيما قد علم لهم، على ما قد بينا قبل هذا، في الذي له أن يخرج ولده. ولا يلتفت في هذا العقد إلى خروجهم كان بغلبة أو بغير غلبة. إنما للمعلم بقدر ما علم، رحلوا عنه، أو رحل عنهم. ولو كان عقد معهم على سنة بعينها، أو أشهر بأعيانها، نظر فيما نزل بالقوم، فإن كان ما لا يجدون معه ثباتا، ولا بد لهم من الرحيل عنه، لما نزل بهم من بلاء لا يطيقونه بفتنة أو مجاعة، فهم في رحيلهم معذورون، وليس عليه أن يتبعهم في الأسفار، لم يستأجروا على [86-ب] ذلك. فإن رجعوا في بقية من المدة، رجع إليهم في تلك البقية، وسقط عنهم من الأجر بحساب الأيام التي حيل فيها بينه وبينهم؛ لأنهم لم يمنعوه من السير معهم، ولا مسكوا أولادهم عنه طوعا، وليس عليهم أن يستكملوا له الأجر، وهو لم يستكمل عمل الأجل، ولو كان قد حاسبهم عند رحيلهم وفاسخهم، لم يلزمه إن رجعوا بقية من المدة، أن يرجع إليهم؛ وإن كان رحيلهم طوعا، فليس لهم أن ينقصوا إجارته. فإن أحبوا الرحيل بأولادهم دفعوا إليه أجره كاملا، وصنعوا ما شاءوا. فإن رحل بعضهم مقطوعين، وثبت بعضهم، فالحكم بينه وبين الراحلين كما تقدم في رحيل جميعهم متطوعين، ويلزمه وفاء الأجل للثابتين، ولو لم يثبت منهم إلا واحد؛ لأنه يأخذ أجره كاملا، وتخف عنه مئونة من غاب عنه ما دام غائبا. وأما إن كان رحيل من رحل عن قهرة غلبته على ذلك فذهب بولده، فهو عندي عذر تنفسخ به الإجارة بينه وبين الراحلين، ويحاسبهم، ثم ينظر فيمن بقي ممن لم يرحل، فإن كانوا هم الأكثر، ولم ينتقص عليه ما يضربه، فهو يوفي الثابتين أجلهم. وإن وجد من يعلمهم مكان الراحلين كان له ذلك، إذ لا مضرة على المقيمين في ذلك. وأما إن كان الراحلون هم الأكثر ولم يبق من المقيمين إلا من عليه في الثبات معهم المضرة البينة، فهو عندي عذر له، إن شاء أن يفاسخهم فعل، وإن شاء أن يثبت معهم فعل، وله إن وجد عوضا من الراحلين فيعلمهم، ولا يمنع من ذلك أيضا.
وأما سؤالك عن معلم أراد أن يحول كتابه من موضع إلى موضع قريب أو بعيد، فأبى بعضهم، ورضي بعض، فهذا أيضا إنما ينظر فيه [87-أ] إذا كان شرط المعلم لازما ليس له أن يخرج منه، فإذا كان كذلك، فإن كان
78
المكان الذي صار إليه لا مضرة فيه على الآتين منه، ولا مشقة، ولا خوف، وقد يكون الصغير من الصبيان أن يعنته ذلك أو يكلف أهله مئونة تضر بهم وتشغلهم، فإن لم يكن من ذلك، لم يمنعوا من انتقال من هذه صفته، فإن كان فيه مضرة على واحد منهم ممن أبى منه، لم يكن له التحول عن مكان على التعليم فيه وقعت الإجارة، يرفق من كان له الرفق فيه واجبا، وإلى مكان يضر به وهو ...
79
وأما إن مات المعلم فالإجارة منفسخة، لا يستأجر من ماله من يعلم مكانه، وله من الإجارة بحساب ما علم من الأجل، ومن جعل الختمة بمقدار ما علم من القرآن حسب ما تقدم [87-ب] تفسيره؛ وكذلك إذا مات الصبي سواء، إنما للمعلم من الإجارة بحساب ما علم، وكذلك من جعل الختمة.
وأما إذا مات أبو الصبي فلا تنفسخ الإجارة، ولكن إن كان لم يقبض المعلم شيئا فهو يأخذ من تركة الميت حساب ما مضى، وما بقي من الأجل فيما ينوبه، يؤخذ من مال الصبي إن كان له مال ورثه من أبيه، أو من غير ذلك، وإن كان لم يكن للصبي مال، فللمعلم أن يفسخ الإجارة، إلا أن يشاء أن يتطوع للصبي بذلك، ولا يتبعه بشيء رجاء أن يتيسر. هذا لا يلزم الصبي، وإن أبى المعلم من التطوع، فتطوع غيره من أولياء الصبي، أو من غيرهم، بأن يدفع ذلك للمعلم، ثبتت الإجارة ولم تفسخ، والله ولي التوفيق.
وأما سؤالك عن صبي أدخله أبوه الكتاب بغير شرط، هل يلزمه ما يلزم صبيان الكتاب؟ وربما [88-أ] كان الشرط يختلف؛ وعن يتيم رمى نفسه في الكتاب، فهل يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من غيره؟ قال أبو الحسن: إن كان لليتيم مال لزمه في ماله مثل ما يؤدي من هو مثله، وكذلك الأب يؤدي عن ابنه مثل ما يؤدي مثله، وذلك هو إجارة المثل، اختلف الشرط أو لم يختلف. إنما يحتاج إلى ذكر اختلاف الشرط عن إسلام الصبي للكتاب، فيقال له: نؤدي إليك كما تأخذ من غيرنا في الشهر. فهنالك ينبغي ألا يعقد على هذا الإجارة، حتى يبين كيف أخذه من الصبيان على اختلافه. وأما إن كان ليس لليتيم مال، فعلمه المعلم، فليس له عليه أجر، هو متطوع في ذلك، ليس له أن يتبعه به. وأما إن أتت بالصبي أمه إلى المعلم أو غيرها من الناس ، فسأله تعليمه، فهو المطلوب [88-ب] بإجارة التعليم إن كان ليس لليتيم مال، إلا أن يبين الذي جاء به المعلم أنه ليس له مال، ولا له من يؤدي عنه، فحينئذ ليس للمعلم أن يطلب منهم إجارة.
وأما قولك في المعلم: كيف يشارطهم؟ فقد تقدم في نصوص المسائل شرح ذلك عن مالك وعن غيره؛ وشرطكم الذي ذكرت أنه يقع على الغنم، فإذا كانت الغنم مؤجرة لم يجز إلا أن تكون مضمونة، على صفة معلومة، إلى أجل معلوم، يجوز في مثله السلم، مثل ما إذا أوجر نفسه بها في خدمة، وشرع في العمل؛ وكذلك المعلم إذا شرع في التعليم، أو كانت إجارته أجلا معلوما، فإذا حل أجل الغنم، جاز أن يقبض من المعز ضأنا، ومن الضأن معزا، وأما إذا لم يحل الأجل، لم يصلح أن يأخذ غير شرطه، كما لا يصلح في البيوع. وكذلك لو استأجر [89-أ] نفسه بطعام مضمون، أو بطعام بعينه على الكيل، لم يجز له أن يبيع شيئا من ذلك حتى يستوفيه.
وأما سؤالك عما يتعدى به المعلم في ضرب الصبي، فترقى إلى ما هو أكثر من الضربة، فهذا إنما يقع من المعلم الجافي الجاهل، وقد قدمت لك نهي المعلم عن ضرب الصبي وهو غضبان. والضرب على التعليم إنما هو لخطأ الصبيان، فما يصلح أن يضربهم به إنما هي الدرة، وتكون أيضا رطبة مأمونة، لئلا تؤثر أثر سوء. وقد أعلمت أنه يجتنب ضرب الرأس والوجه، فما لهذا يضرب بالعصا واللوح. قال في كتاب ابن سحنون: سئل مالك عن معلم لو ضرب صبيا ففقأ عينه، أو كسر يده، فقال: إن ضربه بالدرة على الأدب، وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدية على العاقلة،
80
إذا فعل ما يجوز. [89-ب] فإن مات الصبي فالدية على العاقلة بالقسامة، وعليه الكفارة. فإن ضربه باللوح أو بعصا فقتله، فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذن له أن يضربه بعصا، ولا بلوح. قال أبو الحسن: إنما كانت الدية على العاقلة في الذي أصاب الصبي بعود الدرة، من قبل أن ضربه بالدرة للصبي جائز، فمصادفة عود الدرة الصبي لم يقصد إليه المعلم، وكان خطأ، وكانت فيه القسامة إن مات، من قبل أنه إنما يعلم بإقرار المعلم على أحد الأقاويل، ولو حضره شاهدان، ومات في مقامه، ما كانت فيه قسامة، وكانت الدية على العاقلة. وأما العصا واللوح فقصد إلى ضرب الصبي بهما تعد منه فليس له عذر أكثر من أنه غضب فتعدى الواجب، فاستأهل القود، وهو مأخوذ بإقراره في ذلك [90-أ] فلا قسامة فيه. وقد قال سحنون: إذا ضرب المعلم الصبي ما يجوز له أن يضربه، إذا كان مثله يقوى على مثل ذلك، فمات أو أصابه منه بلاء، لم يكن على المعلم شيء غير الكفارة إن مات؛ وإن جاوز، ضمن الدية في ماله مع الأدب؛ وقد قيل على العاقلة مع الكفارة. فإن جاوز الأدب فمرض الصبي من ذلك فمات، فإن كان جاوز بما يعلم أنه أراد به القتل أقسموا، وقتلوه به الأولياء. وإن كان لم يجاوز بما يرى أنه أراد به إلا على وجه الأدب، إلا أنه جهل الأدب أقسم الأولياء، واستحقوا الدية قبل العاقلة، وعليه هو الكفارة. قال أبو الحسن: تفسير حسن. وقوله فيما يصيب الصبي مما للمعلم أن يوجبه به: لا شيء على المعلم غير الكفارة إن مات، [90-ب] معناه أن المعلم ضرب الصبي ثلاثا بالدرة، أو أكثر من ذلك، لاستئهاله إياه، وطاقته عليه، ولم يتجاوز الواجب في صفة الضرب. فمن أجل ذلك لم يكن فيه غرم، كالذي يموت من جلد وجب عليه في حد فهو هدر قتيل الحق. وأما إذا جاوز أدبه الواجب من الأدب عن غلط بين، كان هو الذي تحمله العاقلة. وإن كان في مجاوزته إشكال، فالدية في ماله، ويحتمل أن تكون على العاقلة، إذ كل شيء يستطاع القود
81
منه، فيمنع منه مانع، وهو حاظر في الفاعل، فالدية فيه على العاقلة، كالمأمومة والجائفة إذا تعمدتا. وما الوجه فيما أشكل من زيادة المعلم إلا أن يكون في ماله. والله أعلم.
قال سحنون: وإن كان المعلم لم يل الفعل [91-أ] وإنما وليه
82
غيره بأمره، كان الأمر على المعلم كما فسرت لك، ولا شيء على المأمور. فإن كان - يعني المأمور - بالغا، فمن أصحابنا من رأى الدية على عاقلة الفاعل، وعليه
83
الكفارة، يعني على الفاعل. ومنهم من رأى الدية على عاقلة المعلم، وعلى الفاعل الكفارة. والله أعلم.
وأما سؤالك عما وجب في ذلك من الدية على العاقلة كيف الأمر فيها، وليس بجارية عندنا، ولم تبين لم لم تكن جارية عندكم، فإن كنت ترى أنه ليس لكم عواقل مضبوطة، ولا تقدرون أن تحيطوا بذلك، ولا تعرفوه، فإن القول فيمن لا عاقلة له، أن جنايته في بيت مال المسلمين، وعلى الجاني في قتل الخطأ عتق رقبة.
وإن كنت تريد أن الحكم بها ضيع عندكم، وأما العواقل فمعروفة، فاعلم أن المعاقلة إنما كان أصلها في العرب [91-ب] لحملها فخذ الجاني إن أطاقوا ذلك، وإن لم يطيقوه ضم إليهم أقرب الأفخاذ إليهم، ثم الأقرب إليه، فإن فرغت القبيلة، ولم تطق حمل الدية فتضم إلى القبيلة أقرب القبائل منها. وكذلك جرى في الإسلام أمرهم. وإنما تضم إلى هذه العاقلة من يحمل معها ممن وصفنا، من كان إقليمه الإقليم الذي فيه الجاني لأن ديوانهم واحد، ليس بضم المصري إلى الشامي، ولا إلى الإفريقي. فإن ضبطتم عواقلكم، وصحت عندكم، وثبتت لديكم، فهكذا يكون انضمام الأفخاذ والقبائل في حمل العاقل، ليس بضم إلى فخذ الجاني ولا إلى قبيلته من هو في جواره، إذا كان نسبه غير نسبه. وكذلك لا يضم إليه من كان من نسبه إذا كان إقليمه من غير إقليمه. فافهم ما وصفت لك، واستعن بالله.
وأما قولك: [92-أ] وهل ينبغي للرجل أن يؤدي ما وجب عليه، يعني من الدية إلى أولياء المقتول، ويكون بها بريئا في الدنيا والآخرة، فإن الرجل الذي يفعل هذا منصف من نفسه، ولا يلزمه إلا ذلك، لو ودت
84
العاقلة. ولزومه أيضا إياه مع العاقلة مؤجلا في ثلاث سنين. فإذا نجزه وجعله ذهبا إن كان من أهل الذهب، أو ورقا إن كان من أهل الورق، أو عرضا من العروض يفي بالذي عليه أو أكثر منه قيمة أو أقل، فذلك جائز إذا عجل العروض ولم يؤخرها. فإن قبل ذلك منه برئ، وإن أبى من له قبوله، فإن أراد تركه له، وتخيلته منه، فلا بأس إذا أسقط قدره عن بقية العاقلة؛ وإن كان إباؤه من قبوله جهلا يريد أن يأخذ منه ما على غيره، فليس على هذا المتطوع أكثر من بذل ما عليه، فإن لم يؤخذ منه، أوقف الواجب عليه عند أمين. وإن أحب ألا يخرجه إلى أمين، أو يضره إمساكه [92-ب] لأنه إن تلف عند الأمين لم يبرأ منه، ولكن لو أوقفه حاكم من حكام المسلمين أمين مأمون عند عدل مأمون، فإن كان دفع ذلك إلى العدل كما وجب عليه العين نفسها، على ثلاث نجوم،
85
كلما حل نجم دفع ثلث الواجب عليه، فهو يراه له. وإن أبى من هذا كله، بأن أحب أن يتصدق بالواجب عليه من الذي يستأهله بالميراث، وإن أحب صنع به ما شاء. فإن هو قبله متى ما طلب به أخذ منه. وهذا كله إذا استوى أن للجاني عواقل على ما وصفنا تحتمل ذلك، فإن لم يثبت ذلك، وصار وجوب هذه الدية على بيت المال، فليس على هذا الرجل شيء، ولا على غيره، من قرابة الجاني. فافهم. فقد فسرت لك جميع ما سألت عنه حسب ما أمكنني، لضيق الوقت.
وسألت هل يؤدب الرجل امرأته؟ فاعلم: أن أدبه إياها [93-أ] مأخوذ من كتاب الله. وذلك قوله عز وجل
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (النساء: 34). فكذلك كل شيء يجب عليها أن تطيعه فيه، إذا كان هو مؤديا إليها حقوقها، وسالما من ظلمها، فله أن يؤدبها عليه. وأدبه إياها يكون بقدر استئهالها. وكذلك قال فيه العلماء. فإن ضربها على وجه التأديب لها ففقأ عينها، أو أعنتها، إن ذلك من الخطأ، تحمل العاقلة ما بلغ الثلث منه فصاعدا، وإن أنكرته ما ادعاه قبلها من خلافه، فهذا لا ينتهي منها إلى ما يوجب من ضربها وإلا ولا بد أن يسمع في الأهلين والجيران؛ لأن أدبه إياها ليس يقع في أول مرة، فإن ادعى عليها ما لم يسمع منها، وما لم يعرف به عند أحد من الأهلين ولا الجيران [93-ب] وظاهرها الصحة والسلامة، لم يقبل قوله عليها. وينبغي له إذا كانت هذه صفتها، أن يطلع - على ما ينسبه إليها - من يوثق به من الأهل والجيران، قبل أن يظهر عليه بسط يده إليها. فإن لم يمكنه أن يظهر عليها ما ينسبه إليها، فقد ابتلى، فإن شاء تماسك بها على ما يرى، ويؤدبها إن حق له أدب مأمورا عليها، ولا يتجاوز فيه أدبه لها، كأدب المعلم لصبيانه، سالما من العطب والحمية، لأنه إنما يؤدبها لمصلحها له ولنفسها.
وأدبه لابنه الصغير هو مأمور فيه حتى يظهر منه الجفاء وسوء الخلق، فيزجر عنه. إنما السبيل في أدب من يريد صلاحه، أن يؤدبه في غير عطب ولا حمية، إذ هو ليس على باب العداوة. وكذلك عبده وأمته، إليه أدبهما [94-أ] فيؤدب كل واحد منهما على قدر جرمه أدبا عدلا ليس لعدده حد يقتصر عليه، حتى يظهر منه الظلم لعبده والعتو عليه فيرد عنه وينهى، كما جاء «إن الله يحب الرفق في الأمر كله.»
86
قال الرسول عليه السلام: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم.»
87
وسألت عن الوالد يشكو ولده الكبير، ويذكر عنه أنه يعقه، ويعق أمه، فاعلم - رحمك الله - أن الولد إذا احتلم، وملك أمره، فقد ارتفع عنه نظر والده، وبقي على الولد حق الوالدين، فعليه أن يوفيهما أو من كان معه منهما ما ألزمه الله عز وجل منهما. فإنه عز وجل يقول:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [94-ب] إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (الإسراء: 23-24). فإذا رأيت والدا يشكو ولده، فاقرأ على ولده القرآن وفهمه ما عليه لوالده، في لين ورفق، لعله يتذكر أو يخشى، وحذره عقوق والديه، فإن الرسول عليه السلام عد عقوق الوالدين مع الكبائر التي تدخل النار. فأما أن يؤخذ بقول والده، أو يحكم بذلك عليه، فلا. ولكن إن كان والده من أهل الصلاح، ويؤمن منه أن يكون فيه انحراف لولد غيره، أو إلى زوجة له غير أمه، فيعرف الولد أن أباه لا يتهم عندنا بالكذب، ولا سبيل إلى سوء الظن به فيك. وهو إن لم تجر عليك الأحكام [95-أ] بقوله، فإن قوله فيك السوء يزري بك، ويمقتك، وينفر عنك القلوب، وترى بعين الجهالة والسفه. فإن كان هذا الولد من أهل المروءة والقناعة، فيستنهى ويتأبخ ويستشعر الصبر على والديه. وإن كان من أهل السفه والجهالة والمرادة، نظر فيه حاكم المسلمين العدل بحسن النظر، وزجره عما لم تقم به عليه بينة، إلا شكوى الأب، بعض الزجر. ورب والد يكون السفه صفته وله الولد الحليم، فيعتو عليه والده بسفهه، فلا يقبل منه، ولا يطاع فيه، ويزجر عنه حتى يكف أذاه. ولك في هذا الوصف مقنع مما سألت عنه إن شاء الله.
ذكر سؤاله عن قول الرسول عليه السلام نزل القرآن على سبعة أحرف
88
وسألت عن تفسير: أنزل القرآن على سبعة أحرف. فاعلم أن المراد منه مفهوم في نصه، كما جاء عن عمر بن الخطاب [95-ب] رضي الله عنه، قال سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها عليه، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : اقرأ. فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال
صلى الله عليه وسلم
هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ ، فقرأت. فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه. فبين
صلى الله عليه وسلم
بقوله، فاقرءوا ما تيسر منه أنها [96-أ] سبع قراءات، في كل واحدة منها ألفاظ مخالفة لما في الأخرى، فليقرأ كل امرئ بما تيسر منه من هذه السبعة. وقد تختلف الألفاظ في القراءة في كلمة والمعنى فيها واحد. وقد تختلف المعاني فيها باختلاف الألفاظ في قراءتها. والقراءتان المشهورتان الثابتتان عن من نسبتا إليه، ممن وجبت إمامته، وصحت ثقته، بمنزلة الآيتين عند حذاق المقرئين، تفسر إحداهما الأخرى، أو يخالف معناها فتكون إحداهما ناسخة للأخرى؛ فلينشرح صدرك إلى ما قرأ به أئمة المسلمين المشهورون، الذين سلم لهم أهل الأمصار الجامعة ما تقلدوه، ووثقوا بهم فيما رووه، فما منهم إلا من قراءته حسنة [69-ب] مسلم بها ويحتج بها، ونكب عن غيرهم، فإنه ليس لما جاء به قوة كقوتهم. وهؤلاء الأئمة هم: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، إمام القراء بالمدينة؛ وعبد الله بن كثير إمام القراء بمكة؛ وعبد الله بن عامر إمام القراء بالشام؛ وأبو عمرو بن العلاء إمام القراء بالبصرة. وثلاثة منهم بالكوفة، وهم عاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي؛ وليس هو حمزة المقرئ. فقد عرفتك بأسمائهم وبلدانهم لئلا يشتكل عليهم غيرهم بهم، ومع هذا فأنت بطرف بعيد فلا تقبلن غير ما تعرف إلا من المأمونين. وقد قال مالك رحمه الله: قراءة نافع حسنة ولم يضيق غيرها [97-أ] ولا كره خلافها، إلا ما شذ، وخرج على المتواطأ عليه. وقد قدمت لك ما في كتاب سحنون من استحسان قراءة نافع، والتوسعة في غيرها، ما لم يكن مستبشعا. فافهم. واستمسك بهدي المتقين. عصمنا الله وإياك من الفتنة في الدين، وأعاذنا من شر الفاتنين والمفتونين، وختم لنا بما يرضيه عنا، ليميتنا عليه، فيدخلنا برحمته في عباده الصالحين آمين رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، بتاريخ ثامن عشر ذي القعدة سنة ست وسبعمائة.
تم الجزء الأول والثاني والثالث من المفصلة لأحوال المعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين، [لأبي الحسن القابسي] رحمه الله، ودعا لصاحبه بالمغفرة ولجميع المسلمين.
ذكر لنا بعض أصحابنا أنه سئل الفقيه أبو عمران الفاسي رحمه الله عن حذقات القرآن. فأجاب في ذلك بأن قال: لولا أنه أمر لم يسبقني إليه أحد لجعلت في آخر كل سورة حذقة. (2) آداب المعلمين لابن سحنون
ما جاء في تعليم القرآن العزيز
قال أبو عبد الله محمد بن سحنون: حدثني أبي سحنون، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه.
محمد عن أبي طاهر، عن يحيى بن حسان، عن عبد الواحد بن زيادة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
محمد عن يعقوب بن كاسب عن يوسف بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن عبد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: يرفع الله بالقرآن أقواما.
عن سحنون، عن عبد الله بن عبد الله بن نافع قال: حدثني حسين، عن عبد الله بن حمزة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: عليكم بالقرآن فإنه ينفي النفاق كما تنفي النار خبث الحديد.
موسى عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن لله أهلين من الناس. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم حملة القرآن، هم أهل الله وخاصته.
عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه.
قال حدثني موسى بن معاوية الصمادحي، عن سفيان، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن حذيفة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد.
وحدثني عن الزهري أحمد بن أبي بكر، عن محمد بن طلحة، عن سعيد بن سعيد المغربي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : من تعلم القرآن في شبيبته اختلط القرآن بلحمه ودمه، ومن تعلم في كبره وهو يتفلت منه ولا يتركه، فله أجره مرتين.
وحدثني أبو موسى، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أسد ابن وداعة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في قول الله تبارك وتعالى:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (فاطر: 32) قال: كل من تعلم القرآن وعلمه فهو ممن اصطفاه الله من بني آدم.
وحدثونا عن سفيان الثوري، عن العلاء بن السائب قال: قال ابن مسعود: ثلاث لا بد للناس منهم، لا بد للناس من أمير يحكم بينهم ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضا؛ ولا بد للناس من شراء المصاحف وبيعها ولولا ذلك لقل كتاب الله؛ ولا بد للناس من معلم يعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرا ولولا ذلك لكان الناس أميين.
ابن وهب عن عمر بن قيس، عن عطاء: أنه كان يعلم الكتاب على عهد معاوية ويشترط. ابن وهب عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أآخذ الأجر على تعليم الكتاب؟ قال: أعلمت أن أحدا كرهه؟ قال: لا. ابن وهب عن حفص بن ميسرة، عن يونس، عن ابن شهاب: أن سعدا بن أبي وقاص قدم برجل من العراق يعلم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. قال ابن وهب، وقال مالك: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئا كان حلالا جائزا؛ ولا بأس بالاشتراط في ذلك وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا في المعلمين.
ما جاء في العدل بين الصبيان
حدثني محمد بن عبد الكريم البرقي، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم العمري، قال: حدثنا آدم بن بهرام بن إياس، عن الربيع، عن صبيح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية، فقيرهم مع غنيهم، وغنيهم مع فقيرهم، حشر يوم القيامة مع الخائنين.
عن موسى، عن فضيل بن عياض، عن ليث، عن الحسن قال: إذا قوطع المعلم على الأجرة فلم يعدل بينهم - يعني الصبيان - كتب من الظلمة.
باب ما يكره محوه من ذكر الله تعالى وما ينبغي أن يفعل من ذلك
حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، عن زيد بن ربيع، عن بشر بن حكيم، عن سعيد بن هارون، عن أنس بن مالك قال: إذا محت صبية الكتاب
تنزيل من رب العالمين (الواقعة: 80) من ألواحهم بأرجلهم، نبذ المعلم إسلامه خلف ظهره، ثم لم يبال حين يلقى الله على ما يلقاه عليه.
قيل لأنس: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم؟ قال أنس: كان المؤدب له إجانة، وكل صبي يأتي كل يوم بنوبته ماء طاهرا فيصبونه فيها، فيمحون به ألواحهم؛ قال أنس: ثم يحفرون حفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فيها فينشف.
قلت: أفترى أن يلعط؟ قال: لا بأس به، ولا يمسح بالرجل، ويمسح بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكتاب من المسائل؟ قال: أما ما كان من ذكر الله فلا يمحه برجله، ولا بأس أن يمحى غير ذلك مما ليس من القرآن.
وحدثنا عن موسى عن جويبر بن منصور قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفته مداد؛ قال: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعطه، يعني يلعقه.
ما جاء في الأدب وما يجوز من ذلك وما لا يجوز
قال: وحدثنا عن عبد الرحمن: عن عبيد بن إسحاق، عن يوسف بن محمد، قال: كنت جالسا عند سعد الخفاف فجاءه ابنه يبكي فقال : يا بني ما يبكيك؟ قال: ضربني المعلم. قال: أما والله لأحدثنكم اليوم: حدثني عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : شرار أمتي معلمو صبيانهم، أقلهم رحمة لليتيم وأغلظهم على المسكين.
قال محمد: وإنما ذلك لأنه يضربهم إذا غضب، وليس على منافعهم؛ ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يجاوز بالأدب ثلاثا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدا. ويؤدبهم على اللعب والبطالة ولا يجاوز بالأدب عشرا، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثا.
قلت: لم وقت عشرا في أكثر الأدب في غير القرآن، وفي القرآن ثلاثة؟ فقال: لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعت مالكا يقول: وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حد.
قال محمد: وحدثنا يعقوب بن حميد، عن وكيع، عن هشام بن أبي عبد الله بن أبي بكر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد.
حدثنا رباح، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: بلغني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: أدب الصبي ثلاث درر، فما زاد عليه قوصص به يوم القيامة؛ وأدب المسلم في غير الحد عشرة إلى خمس عشرة فما زاد عنه إلى العشرين يضرب به يوم القيامة.
قال محمد: وكذلك أرى ألا يضرب أحد عبده أكثر من عشرة، فما زاد على ذلك قوصص به يوم القيامة إلا في حد، إلا إذا تكاثرت عليه الذنوب، فلا بأس أن تضربه أكثر من عشرة، وذلك إذا كان لم يعف عما تقدم؛ وقد أذن النبي
صلى الله عليه وسلم
في أدب النساء. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما ضرب امرأته. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق. وقد قال بعض أهل العلم: إن الأدب على قدر الذنب، وربما جاوز الأدب الحد، منهم سعيد بن المسيب وغيره.
ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلم
وسألته متى تجب الختمة فقال: إذا قاربها وجاوز الثلثين؛ فسألته عن ختمة النصف، فقال: لا أرى ذلك يلزم. قال سحنون: ولا يلزم ختمة غير القرآن كله لا نصف ولا ثلث ولا ربع، إلا أن يتطوعوا بذلك.
قال محمد: وحضرت لسحنون قضى بالختمة على رجل؛ وإنما ذلك على قدر يسر الرجل وعسره. وقيل له: أترى للمعلم سعة في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم.
قلت: وما أهدى الصبي للمعلم أو أعطاه شيئا فيأذن له في ذلك؟ فقال: لا، إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز له إلا بإذن الآباء، قال: ومن هنا سقطت شهادة أكثر المعلمين؛ لأنهم غير مؤدين لما يجب عليهم، إلا من عصم الله.
قال لي: هذا إذا كان المعلم يعلم بأجر معلوم كل شهر أو كل سنة، وأما إن كان على غير شرط فما أعطي قبل، وما لم يعط لم يسأل شيئا، فله أن يفعل ما شاء، إذا كان أولياء الصبيان يعلمون تضييعه فإن شاءوا أعطوه على ذلك، وإن شاءوا لم يعطوه.
ما جاء في القضاء بعطية العيد
قلت: فعطية العيد يقضي بها؟ قال: لا، ولا أعرف ما هي إلا أن يتطوعوا بها. قال: ولا يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرته شيئا من هدية وغير ذلك، ولا يسألهم في ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف، فإن لم يفعلوا فلا يضربهم في ذلك، وأما إن كان يهددهم في ذلك ، فلا يحل له ذلك؛ أو يخليهم إذا أهدوا له، فلا يحل له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية، وهو مكروه.
ما ينبغي أن يخلي الصبيان فيه
قلت له: فكم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ قال: الفطر يوما واحدا ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام، والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذن لهم خمسة أيام.
قلت: أفيرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ قال: لا أرى ذلك يجوز له إلا أن يأذن له آباؤهم أو أولياء الصبيان في ذلك، أو تكون المواضع قريبة لا يشتغل الصبي في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب الصبيان ويخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا.
قال: وأحب للمعلم ألا يولي أحدا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفا منهم إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعرف القرآن، وهو مستغن عن التعليم، فلا بأس بذلك، وأن يعينه فإن ذلك منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك، وليل هو ذلك بنفسه، أو يستأجر من يعينه، إذا كان في مثل كفايته.
ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان
ولا يحل للمعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكون في وقت لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدث وهو في ذلك ينظر إليهم ويتفقدهم.
قلت: فما يعمل الناس من «الأفلام»
89
عند الختم، ومن الفاكهة يرمى بها على الناس هل يحل؟ قال: لا يحل لأنه نهبة، وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن أكل طعام النهبة.
قال وليلزم المعلم الاجتهاد وليتفرغ لهم، ولا يجوز له الصلاة على الجنائز، إلا فيما لا بد له منه ممن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عمله ولا يتبع الجنائز ولا عيادة المرضى.
وينبغي له أن يجعل لهم وقتا يعلمهم فيه الكتاب، ويجعلهم يتجاوزون
90
لأن ذلك مما يصلحهم ويخرجهم؛ ويبيح لهم أدب بعضهم بعضا، ولا يجاوز ثلاثا، ولا يجوز له أن يضرب رأس الصبي ولا وجهه، ولا يجوز له أن يمنعه من طعامه وشرابه إذا أرسل وراءه .
قلت: فهل ترى للمعلم أن يكتب لنفسه كتب الفقه أو لغيره؟ قال: أما في وقت فراغه من الصبيان فلا بأس أن يكتب لنفسه وللناس ، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب، وأما ما داموا حوله فلا، ولا يجوز له ذلك؛ وكيف يجوز له أن يخرج مما يلزمه النظر فيه لما لا يلزمه؟ ألا ترى أنه لا يجوز له أن يوكل تعليم بعضهم إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم؟
قلت: فيأذن للصبي أن يكتب إلى أحد كتابا؟ قال: لا بأس به، وهذا مما يخرج الصبي إذا كتب الرسائل. وينبغي أن يعلمهم الحساب، وليس ذلك بلازم له إلا أن يشترط ذلك عليه، وكذلك الشعر، والغريب، والعربية، والخط وجميع النحو؛ وهو في ذلك متطوع.
وينبغي له أن يعلمهم إعراب القرآن وذلك لازم له، والشكل، والهجاء والخط الحسن، والقراءة الحسنة، والتوقيف، والترتيل، يلزمه ذلك. ولا بأس أن يعلمهم الشعر مما لا يكون فيه فحش من كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجب عليه.
ويلزمه أن يعلمهم ما علم من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إن أقرأهم لغيره إذا لم يكن مستبشعا مثل «يبشرك» و«ولده» و«حزم على قرية» ولكن يقرئها «يبشرك» و«ولده» و«حرام على قرية» وما أشبه هذا، وكل ما قرأ به أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وعلى المعلم أن يكسب الدرة والفلقة، وليس ذلك على الصبيان. وعليه كراء الحانوت وليس ذلك على الصبيان. وعليه أن يتفقدهم بالتعليم والعرض ويجعل لعرض القرآن وقتا معلوما مثل يوم الخميس وعشية الأربعاء، ويأذن لهم في يوم الجمعة، وذلك سنة المعلمين منذ كانوا لم يعب ذلك عليهم.
ولا بأس أن يعلمهم الخطب إن أرادوا، ولا أرى أن يعلمهم ألحان القرآن؛ لأن مالكا قال: لا يجوز أن يقرأ القرآن بالألحان، ولا أرى أن يعلمهم التحبير؛
91
لأن ذلك داعية إلى الغناء وهو مكروه وأن ينهى عن ذلك بأشد النهي. قال: وقال سحنون: ولقد سئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمع فيها للقراءة، فقال بدعة، وأرى للوالي أن يناههم عن ذلك ويحسن أدبهم.
وليعلمهم الأدب فإنه من الواجب لله عليه النصيحة وحفظهم ورعايتهم.
وليجعل الكتاب من الضحى إلى وقت الانقلاب. ولا بأس أن يجعلهم يملي بعضهم على بعض؛ لأن ذلك منفعة لهم، وليتفقد إملاءهم. ولا يجوز أن ينقلهم من سورة إلى سورة، حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها، إلا أن يسهل له الآباء. فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصي، فإن كان دفع أجر المعلم من غير مال الصبي إنما هو من عنده، فله أن يسهل للمعلم كما للأب، وإن كان من مال الصبي يعطي الأجرة، لم يجز أن يسهل للمعلم أن يخرجه من السورة حتى يحفظها كما علمت، وكذلك إن كان الأب يعطي من مال الصبي؛ قال وأرى ما يلزم الصبي من مؤنة المعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته.
قلت: فالصبي يدخل عند المعلم وقد قارب الختمة هل له أن يقضي له بالختمة وقد ترك الأول أن يطالبه؟ فقال: إن كان أخذ عنه من الموضع الذي لا يلزمه الختمة للأول أو لو قام مثل أكثر من الثلث من «يونس» و«هود» ونحو ذلك فالختمة لازمة له؛ لأن الأول حينئذ لو قام لم يقض له بشيء، وأما إن كان دخوله عنده في وقت لو قام عليه الأول لزمته الختمة لم يقض للداخل عنده بشيء؛ لأن الأول كأنه إنما تركها لأبيه أو للصبي إلا أن يتطوع لهذا بشيء، وأستحسن إن تطوع لهذا بشيء استحسانا، وليس بقياس.
قلت: أرأيت لو أن والده أخرجه وقال: لا يختم عندك وقد قارب الختمة، وإنما كانت الأجرة على شهر؟ فقال: أقضي عليه بالختمة ثم لا أبالي أأخرجه أم تركه. قلت: فما يقول إن قال: ابني لا يعلم القرآن، هل تجب عليه الختمة؟ فقال: إن قرأ الصبي القرآن في المصحف وعرف حروفه وأقام إعرابه، وجبت للمعلم الختمة، وإن لم يقرأه ظاهرا، لأنه قل صبي يستظهر القرآن أول مرة. قلت: فإن كان أخطأ في قراءة المصحف؟ فقال: إن كان الشيء اليسير، والغالب عليه المعرفة، فلا بأس.
قال سحنون: ولا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في حوائجه، وينبغي للمعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك: حدثنا عنه عبد الرحمن قال: قال مالك: يضربون عليها بنو عشر ويفرق بينهم في المضاجع؛ قلت: الذكور والإناث؟ قال: نعم.
قال سحنون: ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينهم، وعدد ركوعها وسجودها والقراءة فيها والتكبير وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في الصلاة والتشهد والقنوت في الصبح، فإن من سنة الصلاة ومن واجب حقها الذي لم يزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عليها، حتى قبضه الله تعالى صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم الأئمة بعده على ذلك لم يعلم أحد منهم ترك القنوت في الفجر رغبة عنه، وهم الراشدون والمهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم على ذلك، ومن تبعهم رضي الله عنهم أجمعين.
وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويعرفهم عظمته، وجلاله، ليكبروا على ذلك. وإذا أجدب الناس واستسقى بهم الإمام، فأحب للمعلم أن يخرج بهم من يعرف الصلاة منهم، وليبتهلوا إلى الله بالدعاء، ويرغبوا إليه، فإنه بلغني أن قوم يونس صلى الله على نبينا وعليه، لما عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم فتضرعوا إلى الله بهم.
وينبغي أن يعلمهم سنن الصلاة مثل ركعتي الفجر والوتر وصلاة العيدين والاستسقاء والخسوف، حتى يعلمهم دينهم الذي تعبد الله به، وسنة نبيهم
صلى الله عليه وسلم . قال: ولا يجوز للمعلم أن يعلم أولاد النصارى القرآن ولا الكتاب.
قال: وقال مالك: ولا بأس أن يكتب المعلم الكتاب على غير وضوء؛ ولا بأس على الصبي إذا لم يبلغ الحلم، أن يقرأ في اللوح على غير وضوء، إذا كان يتعلم، وكذلك المعلم. ولا يمس الصبي المصحف إلا على وضوء، وليأمرهم بذلك حتى يتعلموه. قال: وليتعلموا الصلاة على الجنائز والدعاء عليها فإنه من دينهم، وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائنا. وسئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد. قال : لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة ولم ينصب المسجد للتعليم. قال مالك: ولا أرى أن ينام في المسجد ولا يؤكل فيه إلا من ضرورة، ولا يجد بدا منه مثل: الغريب والمسافر والمحتاج الذي لا يجد موضعا.
قال محمد: وحدثني سحنون، عن عبد الله بن نافع، قال سمعت مالكا يقول: لا أرى لأحد أن يقرأ القرآن وهو مار على الطريق، إلا أن يكون متعلما. ولا أرى أن يقرأ في الحمام.
قال مالك: وإذا مر المعلم بسجدة وهو يقرؤها عليه الصبي، فليس عليه أن يسجد؛ لأن الصبي ليس بإمام، إلا أن يكون بالغا، فلا بأس أن يسجدها، فإن تركها فلا شيء عليه لأنها ليست بواجبة. وكذلك إذا قرأها هو، فإن شاء سجد، وإن شاء ترك: ألا ترى أن عمرا قرأها مرة على المنبر، فنزل فسجد، ثم قرأها مرة أخرى، فلم يسجد وقال: إنها لم تكتب علينا.
قال مالك: وكذلك المرأة إذا قرأت السجدة على الرجل، لم يسجد الرجل معها؛ لأنها ليست بإمام. وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
للذي قرأ عليه: كنت إماما، فلو سجدت سجدت معك.
قال سحنون: وأكره للمعلم أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهم.
وسئل سحنون عن المعلم: أيأخذ الصبيان بقول بعضهم على بعض في الأذى؟ فقال: ما أرى هذا من ناحية الحكم، وإنما على المؤدب أن يؤدبهم إذا آذى بعضهم بعضا، وذلك عندي إذا استفاض علم الأذى من الجماعة منهم، أو كان الاعتراف، إلا أن يكون صبيانا قد عرفهم بالصدق فيقبل قولهم ويعاقب على ذلك، ولا يجاوز في الأدب كما أعلمتك، ويأمرهم بالكف عن الأذى، ويرد ما أخذ بعضهم لبعض، وليس هو من ناحية القضاء. وكذلك سمعت من غير واحد من أصحابنا، وقد أجيزت شهادتهم في القتل والجراح فكيف بهذا؟ والله أعلم.
ما جاء في إجارة المعلم ومتى تجب
قال محمد: وكتب شجرة بن عيسى إلى سحنون يسأله عن المعلم يستأجر على الصبيان يعلمهم، فيمرض أحد الصبيان أو يريد أبوه أن يخرج به إلى سفر أو غيره. فقال: إذا استؤجر سنة معلومة فقد لزمت آباءهم الإجارة خرجوا أو أقاموا. وإنما تكون الإجارة ها هنا تقضي على حال الصبيان لأن منهم الخفيف والثقيل، وقد يكون الصبي له المؤنة في تعليمه ومنهم من لا مؤنة على المعلم فيه، ففي هذا ينظر.
قال: وقال سحنون: انتقض ما ينوب أباه من إجارة في باقي الشرط ولا يلزمه ذلك، وكذلك إن مات الأب انتقض ما بقي من الإجارة وكان ما بقي في مال الصبي، قال محمد: مثل الرضاع إذا استأجر الرجل لولده من يرضعه ثم مات الأب أو الصبي، فإن عبد الرحمن روى عن مالك: أن الإجارة تنتقض، ويكون ما بقي في مال الصبي إن كان له مال، ويكون ذلك موروثا عن الميت، وإن مات الصبي أخذ الأب باقي الإجارة، وروى أشهب عن مالك أن تلك العطية نفذت للصبي، فإن مات الأب كانت للصبي، وإن مات الصبي كان ما بقي موروثا عن الصبي كأنه ماله، وكذلك أجرة المعلم مثل هذا، والله أعلم. قال محمد: وهذا قولي، وهو القياس.
قال سحنون: وقد سئل بعض علماء الحجاز - منهم ابن دينار وغيره - أن يستأجر المعلم الجماعة وأن يفرض على كل ولد ما ينوبه، فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة ولا بد للناس منه، وهو أشبه. وقال: وهو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدين من رجلين، لكل واحد عبد، وإنما ذلك بمنزلة البيع؛ وعبد الرحمن لا يجوز هذه الإجارة؛ لأنه لا يجوز ذلك في البيع. والله أعلم.
قال: ولا بأس للمعلم أن يشتري لنفسه ما يصلحه من حوائجه إذا لم يجد من يكفيه. ولا بأس أن ينظر في العلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتاب وإملاء بعضهم على بعض، إذا كان ذلك منفعة لهم، فإن هذا قد سهل فيه بعض أصحابنا.
وسئل مالك عن المعلم يجعل للصبيان عريفا، فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك إذا كان للصبي في ذلك منفعة. وسمعته يقول: تنازع المغيرة بن شعبة وابن دينار - وكلاهما من علماء الحجاز - عن صبي يختم القرآن عند المعلم فيقول الأب: إنه لا يحفظ، فقال المغيرة: إذا كان أخذ القرآن كله عنده وقرأه الصبي كله نظرا في المصحف وأقام حروفه، فإن أخطأ منه اليسير الذي لا بد منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبت للمعلم الختمة، وهو على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك.
وقال ابن دينار: سمعت مالكا يقول: تجب للمعلم الختمة على قدر يسر الرجل وعسره، يجتهد في ذلك ولي النظر للمسلمين.
وأرى أنه إذا تنازع الأب والمعلم في الصبي، أنه لا يعلم القرآن، فإنه إذا قرأ منه نظرا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مفردا وجبت له الختمة، قضيت له بها، ولا أبالي ألا يقرأ غير ذلك؛ لأنه لو لم يأخذه عنده، لم يسأل هذا المعلم عنه. وأجمعوا جميعا على أنه إذا أخذ عنده الثلث إلى سورة البقرة أن الختمة واجبة، إذا عرف أن يقرأه كما وصفت لك، ولا يسأل عن غير ذلك مما لم يكن أخذه عنده.
وسئل عن المعلم يستأجر على تعليم الصبيان فيموت، فقال: إذا مات انفسخت الإجارة، وكذلك إذا مات أحد الصبيان انفسخ من الإجارة بقدر ما بقي من إجارة مثل الصبي، وقد قيل إن الإجارة لا تنفسخ وأن على المعلم فيما له مقاصة في التعليم، وعلى أبي الصبي أن يأتي بمن يعلمه تمام السنة، وإلا كانت له الإجارة كاملة.
قال محمد: الأول كلام عبد الرحمن وعليه العمل، وإنما ذلك بمنزلة الراحلة بعينها، إذا هلكت انفسخ الكراء، ولا يجوز أن يأتي بمثلها، ولا يشترط عليه ذلك. والله أعلم.
وسمعته يقول: قال أصحابنا جميعا - مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمعلم الختمة ولو استؤجر شهرا شهرا، أو على تعليم القرآن بأجر معلوم، ولا يجب له غير ذلك. وقالوا: إذا استظهر الصبي القرآن كله كان له أكثر في العطية للمعلم ممن إذا قرأه نظرا، وإذا لم يتهج الصبي ما يملى عليه، ولا يفهم حروف القرآن، لم يعط المعلم شيئا، وأدب المعلم ومنع من التعليم إذا عرف بهذا، وظهر تفريطه.
ما جاء في إجارة المصحف وكتب الفقه وما شابهها
قال سحنون: قلت لابن القاسم: أرأيت المصحف أيصح أن يستأجر ليقرأ فيه؟ فقال: لا بأس به لأن مالكا قال: لا بأس ببيعه. ابن وهب عن ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عمارة بن عرفة عن ربيعة قال: لا بأس ببيع المصحف، وإنما يباع الحبر والورق والعمل.
ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر أن ابن مصيح كان يكتب المصاحف في ذلك الزمان ويبيعها. أحسبه قال في زمان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولا ينكر عليه أحد؛ ولا رأيت أحدا بالمدينة ينكر ذلك. قال: وكلهم لا يرون به بأسا.
قال: ولا أرى أن تجوز إجارة كتب الفقه؛ لأن مالكا كره بيعها، لأن فيه اختلف العلماء؛ قوم يجيزون ما يبطل قوم. قلت: فقد أجزتم إجارة الحر وهو لا يحل بيعه، فكيف لا تجيزون إجارة كتب الفقه؟ فقال: لأن الإجارة في الحر معلومة؛ خدمته تملك. وإنما في كتب الفقه القراءة، والقراءة لا تملك.
قال محمد: لا أرى بأسا بإجارتها وبيعها إذا علم من استأجرها واشتراها.
قال محمد: لا بأس أن يستأجر الرجل المعلم على أن يعلم أولاده القرآن بأجرة إلى أجل معلوم، أو كل شهر. وكذلك نصف القرآن أو ربعه أو ما سميا منه. قال: وإذا استأجر الرجل معلما على صبيان معلومين، جاز للمعلم أن يعلم معهم غيرهم إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجر لهم. قال: وإذا استؤجر المعلم على صبيان معلومين سنة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المعلم. قال: وإذا قيل للمعلم علم هذا الوصيف ولك نصفه لم يجز ذلك. قال: وإذا أدب المعلم الصبي الذي يجوز له فأخطأ ففقأ عينه، أو أصابه فقتله، كانت على المعلم الكفارة في القتل، والدية على العاقلة إذا جاوز الأدب، وإذا لم يجاوز الأدب، وفعل ما يجوز له، فلا دية عليه، وإنما يضمن العاقلة من ذلك ما يبلغ الثلث، وما لم يبلغ الثلث ففي ماله.
قال: ولا بأس بالرجل يستأجر الرجل أن يعلم ولده الخط والهجاء ، وقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يفادي بالرجل يعلم الخط. قال: ولا أرى أن يجوز بيع كتب الشعر ولا النحو ولا أشباه ذلك، ولا يجوز إجارة من يعلم ذلك. قال مالك: ولا أرى إجارة من يعلم الفقه والفرائض. قال: وقال سحنون: وإذا ضرب المعلم الصبي بما يجوز له أن يضربه إذا كان مثله يقوى على مثل ذلك فمات أو أصابه بلاء، لم يكن على المعلم شيء غير الكفارة إن مات، وإن جاوز الأدب ضمن الدية في ماله مع الأدب، وقد قيل على العاقلة مع الكفارة. فإن جاوز الأدب فمرض الصبي من ذلك فمات، فإن كان جاوز ما يعلم أنه أراد به القتل أقسم وقتله به الأولياء، وإن كان لم يجاوز ما يرى أنه أراد به القتل إلا على وجه الأدب، إلا أنه جهل الأدب، أقسم واستحقوا الدية قبل العاقلة، وعليه هو الكفارة. فإن كان المعلم لم يل الفعل وإنما وليه غيره، كان الأمر على ما فسرت لك، ولا شيء على المأمور؛ وإن كان بالغا، فمن أصحابنا من رأى الدية على عاقلة الفاعل وعليه الكفارة، ومنهم من رأى الدية على عاقلة المعلم، وعلى الفاعل الكفارة، والله أعلم. قال: وسمعت سحنون يقول: لا أرى للمعلم أن يعلم أبا جاد وأرى أن يتقدم للمعلمين في ذلك؛ وقد سمعت حفص بن غياث يحدث أن أبا جاد أسماء الشياطين ألقوها على ألسنة العرب في الجاهلية فكتبوها؛ قال: وسمعت بعض أهل العلم يزعم أنها أسماء ولد سابور ملك فارس أمر العرب الذين كانوا في طاعته أن يكتبوها، فلا أرى لأحد أن يكتبها، فإن ذلك حرام. وقد أخبرني سحنون بن سعيد، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قوم ينظرون في النجوم يكتبون «أبا جاد» أولئك لا خلاق لهم.
قال: وسئل مالك عن معلم ضرب صبيا ففقأ عينه، أو كسر يده. فقال: إن ضرب بالدرة على الأدب وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدية على العاقلة إذا عمل ما يجوز له، فإن مات الصبي فالدية على العاقلة بقسامة وعليه الكفارة. وإن ضربه باللوح أو بعصا قتله فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذن له أن يضربه بعصا ولا بلوح.
قلت: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشعر والنحو وهو مثل القرآن، فقال: كره ذلك مالك وأصحابنا. وكيف يشبه القرآن والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعلم أمر قد اختلف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شك فيه. والفقه لا يستظهر مثل القرآن فهو لا يشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه.
كمل كتاب «آداب المعلمين» محمد بن سحنون عن أبيه رضي الله عنهما.
كتبه لنفسه عبيد الله، الراجي سعة فضل الله ورحمته محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البري المرادي غفر الله له ولوالديه.
المراجع والفهارس
التراجم (1)
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لشمس الدين البشاري. (2)
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك، للقاضي عياض، مخطوط رقم 2293 بدار الكتب الملكية بالقاهرة. (3)
الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون. (4)
خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، المطبعة الخيرية - الطبعة الأولى - 1322 هجرية. (5)
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، مخطوط رقم 1112 بدار الكتب الملكية بالقاهرة. (6)
عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، الطبعة الأولى، المطبعة الوهبية، الجزء الأول 328 صفحة؛ الجزء الثاني 264 صفحة. (7)
طبقات الحفاظ للسيوطي، مخطوط رقم 525 تاريخ، القاهرة. (8)
كشف الظنون، لحاجي خليفة. (9)
مسالك الأبصار، لابن فضل الله العمري، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 2568 تاريخ. (10)
معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، للشيخ عبد الرحمن عبد الله بن ناجي. (11)
معجم البلدان، لياقوت. (12)
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأبي العباس أحمد بن محمد المقري، ليدن، جزآن. (13)
نكت الهيمان في نكت العميان، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، المطبعة الجمالية. (14)
وفيات الأعيان، لابن خلكان .
فقه وحديث (15)
إنجيل متى: العهد الجديد. (16)
تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل، للزمخشري، جزآن. المطبعة الشرقية. (17)
تفسير ابن كثير: أربعة أجزاء، طبع مصطفى محمد بالقاهرة، سنة 1937م. (18)
تفسير النسفي، المطبعة الأميرية ثلاثة أجزاء الأول 1936م، الثاني 1939م، الثالث 1942م. (19)
شرح الدردير على مختصر خليل في فقه مالك. (20)
صحيح البخاري، شرح الكرماني. (21)
صحيح مسلم. (22)
المستصفى من علم الأصول، للغزالي، جزآن، المطبعة الأميرية 1322ه. (23)
مدخل الشرع الشريف على المذاهب، لأبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج، أربعة أجزاء، المطبعة المصرية بالأزهر، 1929م. (24)
موطأ مالك، مطبعة الحلبي.
علوم القرآن (25)
الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي. جزآن، الطبعة الثالثة، مطبعة حجازي سنة 1941م. (26)
أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي. جزآن، مطبعة السعادة 1331 هجرية. (27)
سراج القارئ المبتدئ وتذكار القارئ، شرح الإمام أبي القاصح على الشاطبية. (28)
نهاية القول المفيد في علم التجويد، للشيخ محمد مكي. (29)
التذكار في أفضل الأذكار، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المفسر المتوفى سنة 671ه، المطبعة الأولى 1255ه الخانجي.
تاريخ الحضارة الإسلامية (30)
تاريخ آداب اللغة العربية: جزآن، مصطفى صادق الرافعي. (31)
تاريخ التمدن الإسلامي: أربعة أجزاء، جورجي زيدان. (32)
تاريخ الفلسفة في الإسلام، تأليف دي بور، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف 1938م، القاهرة. (33)
حياة اللغة العربية: حفني بك ناصف. (34)
ضحى الإسلام: ثلاثة أجزاء، أحمد أمين بك، مطبعة لجنة التأليف. (35)
فجر الإسلام، أحمد أمين. الطبعة الثانية 1934م، مطبعة الاعتماد. (36)
العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، عبد الرحمن بن خلدون، مطبعة بولاق. (37)
المقدمة ... لكتاب العبر لابن خلدون، المطبعة البهية بالأزهر.
فتوحات ورحلات (38)
فتوح البلدان، البلاذري، المطبعة المصرية 1932م، 460 صفحة. (39)
رحلة ابن جبير، المطبعة العربية ببغداد 1937م، 292 صفحة.
الأدب (40)
البيان المغرب، لابن العذاري. (41)
المعارف، لابن قتيبة الدينوري، المطبعة الإسلامية بالأزهر، 1934م. (42)
البيان والتبيين، للجاحظ، ثلاثة أجزاء، طبع مصطفى محمد، 1932م، تحقيق السندوبي، الطبعة الثانية، أربعة أجزاء، طبع عبد السلام هارون. (43)
الكامل، للمبرد. (44)
الوزراء والكتاب، للجهشياري. مطبعة الحلبي 1938م.
فلسفة وتصوف وأخلاق (45)
إحياء علوم الدين، الغزالي، أربعة أجزاء، المطبعة العثمانية المصرية، 1933م. (46)
التعرف لمذهب أهل التصوف، للكلاباذي، الخانجي 1933م. (47)
تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، لابن مسكويه، المطبعة الخيرية 1322ه-1933م. (48)
الجواهر الغوالي من رسائل الإمام الغزالي، مطبعة السعادة مصر 1934م عشر رسائل، منها الرسالة اللدنية ورسالة أيها الولد. (49)
رسائل إخوان الصفا، أربعة أجزاء، المطبعة العربية، سنة 1928م. (50)
الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، لمحمد بن حسن، طبع الهند. (51)
الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، خمسة أجزاء، طبعة عبد الرحمن خليفة، 1347 هجرية. (52)
الملل والنحل، الشهرستاني (بهامش الفصل لابن حزم). (53)
المدخل إلى الفلسفة تأليف كوليه، ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1942م. (54)
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن قيم الجوزية، المطبعة الثانية الأزهر، 1939م. (55)
مفتاح السعادة ومصباح السيادة، طاش كبري زاده، حيدر أباد الدكن جزآن. (56)
مقالات فلسفية قديمة نشرها الأب لويس شيخو، بيروت، 1911م. (57)
ميزان العمل، الغزالي. المطبعة العربية، 1342ه. (58)
نقد العلم والعلماء أو تلبيس إبليس، للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي، مطبعة السعادة، 1340ه.
التربية (59)
آداب المعلمين مما دون محمد بن سحنون عن أبيه، نشره الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، طبع تونس، 64 صفحة، سنة 1348 هجرية. (60)
أصول التربية وفن التدريس، أمين مرسي قنديل، الجزء الأول 376 صفحة، سنة 1937م، الطبعة الرابعة، الجزء الثاني 246 صفحة، سنة 1931م، لجنة التأليف. (61)
تاريخ التربية، مصطفى أمين، مطبعة المعارف، 1925م، الطبعة الأولى. (62)
تاريخ التريبة الإسلامية، الدكتور أحمد شلبي، دار الكشاف بيروت،1954م. (63)
تحرير المقال في آداب وأحكام ما يحتاج إليه مؤدبو الأطفال، لأحمد بن حجر الهيتمي، مخطوط رقم 65 تعليم. (64)
التربية عند العرب، خليل طوطح. (65)
تعليم المتعلم طريق التعلم، الزرنوجي، المطبعة الرحمانية، سنة 1931م، 79 صفحة. (66)
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لابن عبد البر النمري القرطبي، جزآن. (67)
رسالة في التربية والتسليك، برهان الدين الأقصرائي، مخطوط بدار الكتب المصرية. (68)
فضل علم السلف على الخلف، للإمام الحافظ أبي الفرج زين الدين الشهير بابن رجب البغدادي الحنبلي، المطبعة المنيرية بالأزهر. (69)
كتاب الدراري في ذكر الذراري، لابن العديم الحلبي، طبع القسطنطينية، مطبعة الجوائب 1298ه. (70)
اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم، للأنصاري، مخطوط بدار الكتب المصرية. (71)
مبادئ التربية الإسلامية، أسماء فهمي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1947م. (1)
Adamson, A Short History of Education. (2)
Adler-Understanding Human Nature-London 1937. (3)
A. H. Fahmy, The Educational Ideas of the Muslims in the Middle Ages. (4)
Aly Akbar Mazahéri, La famille Iranienne aux temps antiislamiques. (5)
Ameer Ali, The Spirit of Islam. (6)
Betts, Social Principles of Education. (7)
Binet, Les Idées modernes sur les enfants. (8)
Carra de Vaux, Le Doctrine de l’Islam-Paris 1909. (9)
Cole, History of Education. (10)
Cubberly, History of Education. (11)
Dewey, Schools of Tomorrow. (12)
Dumas, Nouveau Traité de
(13)
Durkheim, L’évolution Pédagogique en France. 2 volumes. (14)
Durkheim, Education morale. (15)
Emile Boutroux, Morale et Religion. (16)
Goldziher, Le Dogme et la loi de l’Islam-Paris1920. (17)
Greaves, History of Education. (18)
Ibrahim Salama, Bibliographie analytique et critique touchant la question de l’enseignement en Egypte depuis les périodes des Mameluks jusqu’à nos jours. Le Caire 1938. (19)
Ibrahim Salama, L’enseignement Islamique en Egypte aux temps des mameluks jusqu’ à nos jours. (20)
Jules Payot, La Faillite de l’Eqseignement, Paris 1937. (21)
Liard, Logique. (22)
Millot, Les grandes tendances de la pédagogie contem-poraine. (23)
Mohamed Ali, the Religion of Islam-Lahore 1936. (24)
Montessori-L’enfant-Traduit ar Georgette Bernard-Paris 1933. (25)
Nunn, Education, its data and first principles. (26)
spencer-Education. (27)
Willam James-Talks on Psychology and life’s Ideals. (28)
Encyclopaedia of Islam.
अज्ञात पृष्ठ