तराजिम मिसरिया वा गर्बिया
تراجم مصرية وغربية
शैलियों
على أن هذا العسف من جانب أوربا لم يوهن عزيمة مصر، وقد ظل شعبها طوال القرن التاسع عشر كله متوثبا يريد تحقيق استقلاله على النحو الذي يستشفه القارئ من تراجم من ترجمنا لهم في هذا الكتاب، وهو هو ذا اليوم قد بلغ من مجهوداته في هذه السبيل مقاما محمودا، وهو لا ريب سيكون في المستقبل كما كان في الماضي عاملا من أقوى عوامل العرفان والحضارة والسلام.
القسم الأول
تراجم مصرية
كليوباترة
صورة تمثال لها في متحف الفن الحديث بروما.
كليوباترة اسم ساحر خلع عليه التاريخ وخلعت عليه الأساطير من ألوان الفتنة بهاء باهرا تضاءلت إلى جانبه أسماء الزهرة وأفروديت وسميراميس وسائر آلهة الجمال، وهاتاسو ونيفرت وسائر الملكات، بل تضاءلت إلى جانبه أسماء الملوك، والشعراء، والكتاب؛ فهي ليست جميلة وكفى، وليست مليكة وكفى، وليست ساحرة الحديث وكفى، وليست ذكية وكفى، وليست أديبة وكفى، بل هي ذلك كله وهي أكثر من ذلك كله، هي الفتنة والسحر والذكاء والأدب والنشاط وقوة الإرادة في أسمى ما تصوره معاني هذه العبارات، وهي مع ذلك آخر البطالسة الذين حكموا مصر عصورا طويلة كانت مصر فيها مهبط وحي الحكمة والشعر والجمال؛ لذلك لم يفت مؤرخ ولا قصاص ولا شاعر أن يتحدث عن كليوباترة وأن يتغنى بحياتها، وأن يصور هذه الحياة على النحو الذي يجب أن تكون؛ ولذلك كان ما أريق من مداد وما سود من صحف في الكلام عن هذه الملكة أكثر من مثله مما يمكن لأية إلهة أو ملكة أخرى أن تفخر به.
وكان حظ كليوباترة أن ولدت بالإسكندرية في عصر بلغ فيه نجم روما غاية سموه، وبدأت مصر فيه دور الترف الذي يسبق الانحلال، وكانت الإسكندرية في ذلك الحين عاصمة الدنيا ومستقر كل ما في الحياة من متاع ونعمة، فكان الناس يتكلمون فيها كل اللغات المعروفة، كما كانت الفلسفة فيها ناضرة مستقرة بكل نظرياتها المتضاربة استقرار جوار حسن ليس فيه شيء من الكفاح أو القسوة، فإلى جانب الأبيقورية الناظرة للحياة نظرة سرور بها وحرص عليها واستمتاع بكل ما فيها، المبتسمة سخرا منها وازدراء لها وإشفاقا على أهلها، كان الرواقيون ينادون بالزهد في الحياة والأخذ بأسباب التقشف واحتقار عرض الدنيا الزائل، وبلغ بعضهم من ذلك حد الدعوة إلى تعذيب الجسد لطهارة الروح، وإلى جانب مكتبة الإسكندرية العامرة الحاوية ثمانمائة ألف مجلد فيها ما شئت من ألوان الحكمة والعلم والتفكير والفن، كانت تقوم المراقص والملاهي، يهرع الناس إليها لينسوا أنفسهم في لهوها ولينهمكوا في ملذاتها وليمتعوا أبصارهم بجمال ساحراتها الراقصات والمغنيات.
وكانت هذه الحياة المتفجرة بينابيع الحكمة واللهو جميعا تموج في محيط بلغ كمال العمارة التي قامت خلال ثلاثمائة سنة كانت منذ أنشأ الإسكندر الأكبر المدينة عام ثلاثين وثلاثمائة قبل الميلاد سني نشاط وعظمة لمصر وفلسفتها وعمارتها، فقد اتصل ما بين هذا الثغر البديع الموقع في امتداده على شاطئ بحر الروم وجزيرة فاروس القائمة وسط البحر ترقب غدواته وروحاته بجسر هفتا البالغ غاية العظمة والجمال، والذي انتهى بالجزيرة إلى أن أصبحت جزءا من المدينة، واتصل بالنيل بقناة كانوب (ترعة المحمودية الحاضرة) التي لم تكن مجرد مجرى للماء والتجارة، بل كانت كذلك مجرى للمسرة والنعيم بما أحاط بها على مدى طولها من حدائق وأعناب ونخيل قامت في أثنائها منازل اللهو ودور المتاع تحيط بها جنات فيحاء جمعت كل أسباب النعمة من زهر عطر وفاكهة نضرة، فأما أهل هذه المدينة فكانوا أهل ذكاء وظرف، وكانوا حريصين على المتاع بكل ما في حياة مدينتهم الزاهرة متاعا عريضا، يتهالكون في ذلك على اللهو وعلى المسرة في مختلف صورهما وألوانهما، فكما كانت فراعنتها تفتن في الترف بما يعجز خيال كل مترف في عصرنا الحاضر، كان الشعب - رجالا ونساء - منغمسا في حمأة اللذائذ الدنيا مسلما نفسه إليها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكنهم كانوا مع ذلك أميل للاستخفاف بالحياة وما فيها ولو بلغوا من الحياة أعظم مكان، وأي استخفاف أشد من استخفافهم بالفراعنة الآلهة حتى لقد دعوا جد كليوباترة البطين ودعوا أباها بطليموس أوليتا أي العازف بالناي.
وكانت كليوباترة شديدة الولع منذ صباها بالتجول في أنحاء الإسكندرية والوقوف على كل ما في هذا العالم العامر بكل ما في العالم من حياة وحضارة، وفي تجوالها هذا عرفت وتعلمت كثيرا، عرفت كل ما وقعت عليه عيناها الواسعتان الجذاب دعجهما الساحر، وكل ما أحاط به ذهنها الحاد، وتعلمت اللغات والآداب وطرائق التعبير العزيزة على مدرسة الإسكندرية يومئذ، والتي تمتاز بالتورية والرقة والقوة، وكان لها بالكتب ولع وغرام ليس مثلهما ولع ولا غرام، وكانت أميل للشعر وأشد لذلك تفضيلا للأوديسي على التوراة وعلى كثير من كتب الحكمة.
وفي هذا الصبا الناعم عرفت وارثة عرش بطليموس الثاني عشر من ألوان الترف وتذوقت من صوره ما لم يعرفه ولم يتذوقه غيرها ممن لم يؤت ذكاءها ولا علمها باللغات والآداب، فقد كان أبوها الفرعون العازف بالناي المستغرق في ملاذ الحياة بما استحق معه لقب إله الخمر ديونيزوس يدللها بكل ما يلهمه ملك مترف معجب بابنة ليس لها في بنات حواء مثيل، فكان يطوف وإياها مدائن مصر ويركب وإياها النيل من الإسكندرية إلى طيبة ذات الأبواب المائة، يقفان عند ما يحلو لهما الوقوف عنده من المدائن العامرة بآثار مصر القديمة، فإذا تركا طيبة إلى أنس الوجود أقاما فيه من الحفلات ما يجل عن الوصف، وما ليس له مثال إلا فيما أقامته كليوباترة من المآدب لأنطونيو حين غرامه بها ودلها عليه.
अज्ञात पृष्ठ