तराजिम मिसरिया वा गर्बिया
تراجم مصرية وغربية
शैलियों
كيف صور إسماعيل لنفسه برنامج الإصلاحات العامة؟ وما هي الطريقة التي أراد أن ينقل بها مصر من بلد شرقي بعيد عن مظاهر الحضارة الأوربية إلا القليل الذي جاء مع نابليون والبعثة الفرنسية، والذي دخل إلى مصر سدا لحاجات محمد علي الحربية؟ هي صورة غاية في البساطة، يجب أن نقيم مدنا أوربية النظام في طرقها وفي عمارتها وفي بساتينها، فما يلبث المقيمون بها أن يصطبغوا بالحضارة الأوربية.
ويجب أن ندخل أحدث المخترعات والنظم كالسكك الحديدية والبريد والتلغراف، فما يلبث الناس أن يفهموا هذه الاختراعات والنظم وأن يصيروا كأصحابها، ويجب أن نعلم جماعة من النشء ليكونوا واسطة احتفاظ بمظاهر الحضارة هذه، أما الشعب فلم يكن إسماعيل يأبه له كثيرا لأنه كان كغيره من الحكام الشرقيين إلى يومئذ، وككثير من الحكام الغربيين إلى زمن غير بعيد قبله، يعتبر مصر كما اعتبرها جده من قبل مزرعة له، مركز الشعب فيها مركز العبد أو الخادم، وقد أراد إسماعيل أن يصل لتحقيق فكرته من الحضارة والإصلاح في سنوات مما لم تصل أوربا لتحقيقه إلا في قرون، فبدأ تنظيم القاهرة على نظام باريس وغير باريس من مدائن أوربا الكبرى يخطط فيها الشوارع ويقيم القصور وينشئ الدواوين ودور الحكومة ويغرس البساتين، وجعل من جانبه يعيش عيشة بذخ لم يتهيأ لخيال شاعر ولا قصاص من قبل، وطبيعي أن اقتضى القيام بذلك كله من النفقات ما تلاشى معه قرض سنة 1864 أسرع التلاشي وما كثرت معه الديون السائرة التي كان يقترضها من المرابين الأجانب المقيمين بمصر كثرة اضطرته للتفكير من جديد في الالتجاء إلى أوربا كي يعقد قرضا آخر.
ولم يكفه قرض واحد، بل كان وزيره نوبار باشا يتفاوض له مع كل البيوتات المالية وعقد له في ثلاث سنوات ثلاثة قروض: قرض سنة 1865 وقدره 3387000 جنيه، وقرض سنة 1866 وقدره ثلاثة ملايين من الجنيهات، وقرض سنة 1867 وقدره 2080000 جنيه، لكن هذه الملايين كلها لم تكن شيئا مذكورا إلى جانب النفقات الباهظة التي كان يقوم بها إسماعيل باشا.
وماذا تريد من رجل أقل أطماعه أن يصل ليكون ملكا على بلاد مستقلة استقلالا داخليا على الأقل؟! وكم كلفه ذلك من باهظ الرشوة يدفعها للكثيرين من رجال الباب العالي بالأستانة! ولقد كانت أول خطوة خطاها في هذا السبيل أن حصل في سنة 1866 على فرمان من جلالة السلطان بجعل الوراثة في أبنائه بدلا من جعلها في أكبر العائلة كما كانت من قبل، ثم حصل كذلك على ضم سواكن ومصوع لمصر بعدما سلخا عنها من بعد حكم محمد علي.
ثم إنه من بعد أن حكم نابليون الثالث إمبراطور فرنسا في الخلاف بينه وبين شركة قناة السويس أصبح صديقا حميما للشركة، وأصبح ينتظر اليوم الذي يعلن فيه افتتاح القناة، ليدعو العالم كله كي يشهد هذا التحوير البديع لنظام الطبيعة تحويرا من شأنه أن يغير سير الوجود الاقتصادي والتجاري تغييرا خطيرا، وكانت سنة 1869 هي السنة التي حددت لهذا الافتتاح، وكانت قروض السنوات الثلاث السالفة الذكر قد نفدت كلها، وتزايد الدين السائر مع ذلك تزايدا جعل إسماعيل يفكر في الحصول على المال للظهور بالمظهر اللازم في حفلة الافتتاح تفكيرا جديا استغرق كل مواهبه وكل ذكائه.
وفي هذا السبيل سافر في سنة 1867 إلى أوربا وزار باريس ولندره واستضافه نابليون الثالث والملكة فكتوريا، وكان معه في هذه السياحة وزيره نوبار باشا المطلع على دخائل مفاوضات البيوتات المالية والقدير بدهائه وخبثه على القيام بأعمال في السياسة جسام، وفي هذه الزيارة بدئ الحديث في مسألة تعديل نظام الامتيازات الأجنبية، فقد كان إلى يومئذ كما كان إلى يوم إلغائه في تركيا قائما على القاعدة القانونية التي تقرر أن المدعي يقاضي المدعى عليه أمام قضاته، وكان من أثر ذلك أن شعر الأجانب أنفسهم بالارتباك في مقاضاة بعضهم بعضا، فاستقر رأي إسماعيل ووزيره على إقامة نظام المحاكم المختلطة في مصر، على أن يشمل اختصاص هذه المحاكم الشئون الجنائية كذلك، ومنذ هذه الزيارة التي قام بها إسماعيل لأوربا في سنة 1867 فتحت مسألة تعديل النظام القضائي في شأن الأجانب، وظلت المفاوضات فيها مستمرة بعد ذلك ثماني سنوات حتى كللت بالنجاح في سنة 1875، لكن هذه المسألة لم تكن الجوهرية يومئذ، إنما المسألة الجوهرية كانت الحصول على المال لسداد الديون السائرة فيما أعلنه إسماعيل باشا المفتش وزير مالية إسماعيل، ولتحضير حفلة افتتاح القناة في رأي المستر كيف الذي حقق أسباب ديون إسماعيل في سنة 1870 كما سنرى، وقد نجح إسماعيل في عقد قرض تم توقيعه سنة 1868 قيمته الاسمية مبلغ 11890000 جنيه والمتحصل الحقيقي منه مبلغ 7193334 جنيه، وقد قبل إسماعيل ضمن شروط هذا القرض أن يمتنع عن الاستدانة لمدة خمس سنوات مقبلة، مما يدل على أنه كان في أشد الحاجة إلى المال، وكان افتتاح القناة في ذلك الظرف هو شاغل إسماعيل الأكبر.
فلقد حرص على أن يدعو إلى هذه الحفلة كل الرءوس المتوجة في أوربا وأكبر عدد من ذوي المقام والمكانة في العالم، وكان أكبر همه من هذا أن يشهد هؤلاء جميعا كيف نقل مصر من بلاد شرقية أفريقية فجعل منها بلادا غربية متحضرة، وفي الحق أنه أعد لهذا المظهر خير عدته، فقد بنى في القاهرة قصورا تضارع أفخم قصور المدائن الأوربية العظمى: بنى قصر الجيزة الذي انقلب في العهد الأخير حديقة للحيوانات، ووصل بينه وبين القاهرة بكوبري قصر النيل، وبنى قصر الجزيرة الذي آل أخيرا إلى الأمراء آل لطف الله، وبنى غير هذين من القصور الشاهقة ومن دواوين الحكومة ما تعتز بمثله مدائن أوربا، ثم أعد مسرح الأوبرا وكلف الموسيقي الإيطالي الكبير فردي فوضع أوبرا عايدة لتمثل في أثناء حفلات الافتتاح، وأنشأ حديقة الأزبكية في وسط القاهرة أسوة بالحدائق العامة في العواصم الكبرى.
وليتيسر للزائرين وبخاصة الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث زيارة آثار الفراعنة اختط طريق الأهرام في أشهر معدودة، هذا إلى ما مد من خطوط السكة الحديدية، وإلى ما شيد من مدينة الإسماعيلية على ضفة القناة، كما أنه كان قد أنشأ في مختلف أنحاء القاهرة كثيرا من المدارس الجديدة، كما أعاد المدارس التي كانت قد أنشئت في عهد جده محمد علي باشا واضمحلت من بعده: فأنشأ مدارس المبتديان والتجهيزية والمهندسخانة والمساحة والألسن والعمليات والإدارة واللسان القديم والتجارة ومدرسة للبنات ومدارس كثيرة أخرى في القاهرة والإسكندرية والأرياف، وكذلك كان من حقه أن يفخر بهذه المنشآت العظيمة وأن يريها لملوك أوربا ليعلموا أنه أكثر حضارة من متبوعه الأعظم سلطان تركيا ، وأنه إذا طلب يوما أن يستقل بحكم مصر فطلبه لا شيء من المبالغة فيه.
وسافر من جديد إلى أوربا سنة 1869 وعاد بعد ما دعا كل الرءوس المتوجة إلى حضور الاحتفال بافتتاح القناة، وقد أجاب الدعوة منهم عدد غير قليل، ثم تم افتتاح القناة في خمسة أيام، ففي 16 نوفمبر سنة 1869 ركب المدعوون بواخرهم وعددها ثمان وستون ترفرف فوقها أعلام مختلفة ويتقدمها (النسر) سفين الإمبراطورة أوجيني زوج نابليون الثالث التي جاءت بالنيابة عن زوجها، وقطعوا المسافة من بورسعيد إلى الإسماعيلية في ذلك اليوم، وبعد أن أقيمت في الإسماعيلية أعياد استمرت يومي 17 و18 نوفمبر ركب المدعوون من جديد بواخرهم يوم 19 وبلغوا السويس يوم 20 نوفمبر، ولم يكتف إسماعيل بهذا بل طاف بضيوفه العظام أنحاء مصر يظهرهم على ما جدد فيها من حضارة تضارع حضارة أوربا، وقد كلفته هذه الأعياد الباهرة - حسب التقديرات الرسمية - أربعة ملايين من الجنيهات.
وانتهت الأعياد وأضواؤها الباهرة وابتساماتها الخلابة وأجال إسماعيل بصره يريد متابعة أعماله فإذا خزانة الدولة قفر، وإذا هو في أشد الحاجة إلى المال، ولم يكن يستطيع أن يقترض وهو مقيد في عقد سنة 1868 بألا يعقد قرضا جديدا قبل مضي سنوات خمس، فلجأ إلى المرابين من جديد ولجأ إلى وسيلة تشبه ما يسميه الفلاحون اليوم (البيع على الوجه)، فكان يبيع آلاف الأرادب من الغلال قبل زرعها ويقبض ثمنها، فإذا جاء موعد التسليم أعطى ما يجبى من الضرائب غلالا ثم اشترى الباقي بأسعار أعلى بكثير من الأسعار التي باع بها، ولجأ إلى غير ذلك من الوسائل المخربة حتى اضطر جلالة سلطان تركيا برغم ما أصاب وزراؤه من أموال إسماعيل أن يبعث له يحظر عليه الاقتراض بغير تصريح سابق منه.
अज्ञात पृष्ठ