ताराजिम मशहीर
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
शैलियों
وبعيد الواقعة سار الخديوي السابق في بعض رجال معيته لتفقد أحوال الحدود، فركب إلى مكان تلك الواقعة، ووقف أمام قبر شهدائها يتأمل ما أظهره جنده من البسالة في ذلك القتال، وقد نشرنا رسمه رحمه الله واقفا أمام ذلك القبر وقد أسند رأسه على كفه متأملا (انظر الشكل
6-2 ). (9-2) قحط عظيم
وكان خبر ذلك الانكسار صدمة قوية على الدراويش في أم درمان، فعرفوا قدرهم ووقفوا عند حدهم ، ولكنهم لم يكادوا يتخلصون من عواقب تلك الكسرة حتى داهمهم قحط غلت فيه أثمان الحنطة، وقل الزاد واشتدت وطأة الجوع على الفقراء حتى أكلوا سيور الجلد التي يشدون بها مقاعدهم، فكثر النهب وازداد الضغط، وقد بالغ سلاتين باشا في وصف هذا الجوع وحال الجائعين، ومما حكاه قوله: «خرجت في ليلة مقمرة، وبينما أنا عائد إلى منزلي في منتصف الليل اقتربت من الأمانة (مخازن الأسلحة والذخيرة) فآنست عن بعد شبحا يتحرك على الأرض، فدنوت منه فرأيت ثلاث نسوة عاريات (تقريبا) وقد أرخين شعورهن مجعدة على أكتافهن وجلسن القرفصاء حول جحش صغير ملقى على الأرض ولعله مولود حديثا لم يكد يخرج من جوف أمه حتى سرقنه وجئن به إلى حيث لا يراهن أحد، فشققن جوفه وأخذن يلتهمن أحشاءه، والجحش المسكين لا يزال حيا يتنفس فلما رأيت ذلك المنظر المريع صحت بهن فنظرن إلي وقد حملقن بأعينهن كأنهن أصبن بجنة، وكان بعض الجاعة المتسولين من الفقراء قد لحقوا بي يلتمسون حسنة، فتركوني وهموا باختطاف الفريسة منهن فتركتهم وسرت في طريقي آسفا لتلك الحال.»
وكانت وطأة الجوع في الغالب أشد على المارين بأم درمان والقادمين إليها مما بأهلها حتى اتصلت الحاجة ببعضهم إلى بيع أولادهم بيع الرقيق إنقاذا لهم من الموت جوعا. قال سلاتين: وكانت الجثث ملقاة في الشوارع والمنازل مئات وليس من يدفنها، فأصدر التعايشي منشورا قال فيه: إن كل صاحب منزل مسئول بدفن الجثث التي تشاهد ملقاة قرب منزله، فقلت الجثث عن الشوارع ولكن بعضهم كانوا يحفرون حفرا بقرب المنازل يدفنونها بها تخلصا من مشقة الحمل إلى المدافن، وكانت مياه النيلين الأزرق والأبيض تجري أمام أم درمان حاملة مئات من الجثث فارق أصحابها الحياة على ضفاف النيل أو بالقرب منها، فألقوها أهلهم أو أصحابهم فيه، وخلاصة القول أن الجوع أهلك من الدراويش أضعاف ما أبادته الحروب منذ ظهور المهدي إلى ذلك اليوم، ورافق هذا الضيق جراد جارف أكل ما بقي من الزرع.
على أن التعايشي ما زال يبث دعاته في سائر الأنحاء لتأييد دعوته، وكانت بقية من خط الاستواء لا تزال على ولاء الحكومة بقيادة أمين باشا، فأنفذت ألمانيا حملة بقيادة ستانلي الرحالة الشهير لإنقاذ أمين باشا، فقاست في ذلك مشقات جسيمة تمكنت بعدها من الخروج به وببعض الحامية، فدخلت مديرية خط الاستواء بحوزة الدراويش، ولم يبق للحكومة من السودان المصري إلا سواكن وطوكر. (9-3) خصام بين خلفاء المهدي
أشرنا غير مرة إلى النفور الواقع بين التعايشي ومحمد الشريف؛ لتناظرهما على الخلافة، فالتعايشي تولاها بإرادة المهدي، ويرى الشريف أنه أولى بها بحق القرابة، على أن هذا لولا استبداد التعايشي واحتقاره الأشراف (أقرباء المهدي) ما حدثته نفسه بسوء، ولكنه رآه لا يدع فرصة لا يحط بها من شأنه، فحقد عليه وما انفك ساعيا في ذلك سرا بمساعدة ابني المهدي؛ وهما شابان لا يتجاوز عمر أحدهما عشرين سنة، وكثيرين من الأشراف، فاتحدوا سنة 1889 وعقدوا الخناصر على خلع التعايشي والقبض على أزمة الحكومة، فألفوا لذلك جمعية سرية في أم درمان ضموا إليها جماعة من القائلين بقولهم، وكاتبوا إخوانهم الدناقلة المقيمين في الجزيرة (بين النيلين الأبيض والأزرق) يدعونهم إلى أم درمان للتضافر على ذلك العمل، فجاء منهم جمع كبير، إلا أن أحد أمراء الجعالين وشى بهم إلى التعايشي، وكان قد أقسم الأيمان المعظمة أن لا يبوح بسرهم لأحد غير إخوته وأعز أصدقائه، فأفتى لخيانته هذه بأنه يعتبر التعايشي من أعز أصدقائه، فأخذ هذا في تدبير الوسائل الفعالة لعرقلة مساعي الأشراف، وعلم هؤلاء أيضا أن سرهم قد انكشف فأسرعوا في تنفيذ مشروعهم قبل أن يستعد التعايشي لدفعهم، فاجتمعوا في المنازل المجاورة لقبة المهدي وعاضدهم البحارة وغيرهم ممن اعتبروا تصرف التعايشي في أحكامه مخالفا للشريعة الغراء.
وكان الأشراف قد أعدوا الأسلحة وخبئوها في مكان، فأخرجوها ذات ليلة من مخابئها وفرقوها في رجالهم، ولكنها لم تكن تزيد على 100 بندقية «رمنتون» وشيء من الذخيرة وبعض المدافع، وكان زعيم تلك الحركة أحمد ولد سليمان، فقال للقوم: إن المهدي ظهر له في الرؤيا وأنبأه بفوز الأشراف، ولم يبق من الأشراف أحد إلا تقلد الحسام أو البندقية واستعد للقتال حتى أرامل المهدي أنفسهن؛ فقد كن إلى ذلك العهد محجوزات في منازلهن لا يخرجن ولا يرين أحدا، فخرجن تلك الليلة في جملة المطالبين، وخصوصا «أم المؤمنين» فإنها تقلدت الحسام وتهيأت للحرب.
كل ذلك والخليفة عبد الله في منزله، وقد أوصى ملازميه باليقظة وفرق فيهم العدة والذخيرة، وأمر أن يلازموا بابه لا يبرحوه مطلقا، وبعث ملازميه من الجهادية السود فبثهم في الأسواق ليمنعوا المدد عن الأشراف، ثم أمر برجاله التعايشية ففرق فيهم ما يزيد على ألف بندقية، وأوقفهم في الساحة بين قبة المهدي ومنزله ليكونوا حاجزا بين الأشراف وبينه، وأقام العساكر السود في وسط الجامع ينتظرون أوامر أخرى، وهناك كانت الرماحة والخيالة أيضا تحت قيادة أخيه يعقوب. أما الخليفة علي ولد الحلو فأشيع أنه على دعوة الأشراف قلبيا، فأمره التعايشي أن يقيم في أقصى أم درمان شمالا وقطع كل مواصلة بينه وبينهم، كل ذلك أجراه التعايشي مساء الإثنين، وفي صباح الثلاثاء أحاط بالأشراف إحاطة السوار بالمعصم، وبعث إليهم قاضيه يدعوهم إلى الإذعان ويذكر أولاد المهدي بمنشور والدهم وبما قاله وهو يحتضر، وأنهم إذا كانوا يشكون أمرا فهو يتعهد بدفع كل ضيم عنهم، فأجابوه أنهم يريدون القتال، فرأى من الحكمة أن يجتنب الخصام بقدر الإمكان؛ لاعتقاده أن الحرب إذا بدأت لا تنتهي إلا بخراب أم درمان؛ إذ يغتنم الدراويش تلك الفرصة للسلب والنهب، فبعث إليهم ثانية أن يرجعوا عن عزمهم، فأبوا إلا القتال، ثم أطلقوا بعض الطلقات فأجابهم رجال التعايشي بمثلها، فرأى أن يوسط الخليفة علي ولد حلو في الأمر، فبعث إليه فلما جاء دفع إليه منشورا للأشراف يطلب إليهم الصلح والكف عن العدوان، فكان جوابهم هذه المرة أقرب إلى المسالمة، فقالوا: نريد أن نعرف ما هي شروط الصلح، فأجابهم التعايشي: «ضعوا الشروط أنتم»، وما زالت المخابرة جارية بقية ذلك اليوم وطول ليله إلى الصباح التالي، فانقضت الأزمة وتم الصلح على شروط أهمها: (1)
أن يعفو التعايشي عفوا عاما عن كل المشتركين في تلك الثورة. (2)
أن يجعل لمحمد الشريف عملا يليق بمقامه ويخلي له كرسيا في مجلسه. (3)
अज्ञात पृष्ठ