ताराजिम मशहीर
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
शैलियों
ومما يدلك على شدة احترامه للعلم ورغبته في نشره وتنشيطه أنه لما أنبأه الخواجا رفلة عبيد - المتقدم ذكره - بوصول أدوات المطبعة إلى الإسكندرية، وكان البطريرك في الدير بالجبل بعث إلى وكيل البطركخانة بمصر يأمره باستقبال تلك الأدوات عند وصولها القاهرة باحتفال رسمي يقوم فيه الشمامسة بالملابس الرسمية المختصة بالخدمة الكنائسية يرتلون التراتيل الروحية، وكان لاستقبال تلك المطبعة احتفال تحدث الناس به زمنا لغرابته، غير أن التقادير لم تفسح له بالأجل حتى يتم المعدات ويباشر العمل بنفسه، فتولى أمرها بعده المرحوم رزق بك جرجس وطبع فيها عدة كتب دينية وأدبية، ثم صارت المطبعة تحت يد أخيه الخواجه إبراهيم جرجس وعرفت بمطبعة الوطن.
وفي أواخر شهر مسرى سنة 1572 قبطية 1856م بعثه المغفور له سعيد باشا بمهمة سياسية إلى الحبشة فذهب وقلبه عالق بالمدارس، فأوصى المرحوم المعلم برسوم واصف بإدارة البطركخانة والمدارس، وطالت مدة غيابه في الحبشة فقلق الناس خوفا عليه، ثم سمعوا أنه قام من جهة الخرطوم مع اثنين من خاصة ثيودور ملك الحبشة، فاطمأن الناس واستبشروا بنجاح مهمته، وفي 7 أمشير سنة 1574 وصل القاهرة فاستقبلوه باحتفال يليق به حتى غصت الشوارع بالناس، ولا سيما جهات الأزبكية، وما وصل البطركخانة حتى تهافت الناس عليه يقبلون يديه ويتبركون به، وأعدوا له زينة فاخرة في المدرسة والبطركخانة، ولما انتهت الزينة عاد هو إلى مباشرة أعماله في بناء الكنيسة واحتفل بتأسيسها احتفالا عظيما جدا، حضره جميع رؤساء الطوائف وأعيان البلاد ورجال الحكومة يوم الخميس 29 برمودة سنة 1575 (22 أفريل (نيسان) سنة 1859).
وفي ليلة الأربعاء 23 طوبة سنة 1577 قبطية 1851م توفي إلى رحمة الله، وحزن لفقده كل من عرفه أو سمع عنه، ولا سيما الطائفة القبطية لأنها خسرت بفقده خسارة جسيمة جدا، وكانت مدة توليه البطريركية سبع سنوات.
وكان البطريرك كرلس الرابع طويل القامة، ممتلئ الجسم، قوي البنية، صحيح الأعضاء، أسمر اللون، حاد النظر والذهن، كبير الرأس عريض الجبهة، كثيف اللحية أسودها، طلق الوجه واللسان، سريع الإقدام على ما ينويه، كثير الأمثال في حديثه، فقلما يلقي عبارة لا يسندها إلى مثل، وكان عالي الهمة، وديعا فطنا، سديد الرأي، قريب الرضا سريع العفو، لا يشرب الخمر، كثير الاحترام للرهبنة، محافظا على أصولها، وكان شديد الكره لمقابلة النساء وجمع المال، لا يحب الاستبداد في رأيه ولو كان مصيبا، وكان كلفا بمخالطة العلماء ومجالسة الفضلاء ومكالمتهم ومناظرتهم، ولم يكن يستنكف من الإقرار بغلطه إذا اتضح له. ومن أفضل ما اتصف به رحمه الله حبه لرعيته، وسهره على مصلحتهم، ورفع كل ما يوجب النفرة بينهم، والسعي في كل ما فيه تهذيب الشبان بإنشاء المدارس وتسهيل طرق التعليم.
ومن أعماله الحميدة أن القسس كانوا قبل زمانه يعيشون على حسنات الطائفة وصدقاتها، فرتب هو لهم رواتب شهرية تصرف لهم من البطركخانة، ورغبة في رفعة منزلتهم وحفظ مقاماتهم أصدر منشورا يقضي بأن الراتب لا يصرف إلا لمن يعرف خدمة القداس باللغة القبطية معرفة جيدة.
وعند عودته من الحبشة رتب للقسس ميقاتا يجتمعون فيه كل سبت في المدرسة يتباحثون في أمور دينية، وكان هو يحضر معهم يناقشهم ويشرح لهم واجبات القسوس وآدابهم وما يكسبهم مقاما رفيعا بين الناس، وكان في نيته أن يعقب ذلك بتأسيس مدرسة إكليريكية فلم تمهله منيته، وفتح في آخر أيامه مدارس للبنات ولكنها لم تثبت.
وكان كثير التيقظ لإصلاح ما يقع من النفور بين أولاده أو بين الرجال ونسائهم، على أنه كان يكره مواجهة النساء حتى إنه لم يكن يقابل والدته إلا نادرا.
وكانت العادة في الزيجة أن يعقد القسيس بين الشاب والشابة عقدا يدعونه «عقد تمليك» قبل الإكليل بمدة، غير أن هذا العقد لا يقبل الحل أو هو بمنزلة عقد الزيجة، فأصدر البطريرك منشورا بجعل ذلك العقد «عقد صلح وسلام»، حتى إذا عرض لأحد الطرفين ما يمنع إتمام الاقتران يمكن حله، وهذا لا يزال جاريا في الطائفة إلى الآن، وكانت العادة أن يزوجوا البنات صغيرات جدا فأمر أن لا يتم عقد الزواج على الفتاة إلا إذا تجاوزت الأربع عشرة سنة من العمر، وجعل الاعتراف قبل الإكليل فرضا واجبا على العروسين؛ حتى لا يحصل ما يكره أحد الفريقين بسبب ما كان من التحجب بين الرجال والنساء في تلك الأيام، وأمر أن لا يعقد القسس إكليلا إلا بعد استئذان البطركخانة حتى يسجل ذلك في دفاترها، والبطركخانة لا تؤذن بالإكليل إلا بعد الاطلاع على محضر الاتفاق بحيث لا يكون ما يمنع الاقتران.
ولشدة رغبته في تعليم أبناء طائفته ورفعة منزلتهم استأذن المغفور له سعيد باشا أن يدخل تلامذة مدرسته في مدرسة الطب وغيرها من المدارس الأميرية بصفة رسمية.
وخلاصة القول أنه كان قدوة البطاركة، وعنوان رجال الفضل، ولو أمهلته المنية بضع سنين أخرى لجاء من الأعمال العظيمة بأضعاف ما جاءه، ولكنها عاجلته فلم يتول كرسي الكرازة المرقسية إلا سبع سنين، عمل في أثنائها أعمالا لا يعملها غيره بأضعاف تلك المدة.
अज्ञात पृष्ठ