بسم الله الرحمن الرحيم
والله المستعان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسول الله محمد وآله أجمعين وبعد:
فإن الأصل عقم عن الإنجاب إلا ما شاء الله تعالى، وحكم النسل بالإعجاب، وحكموا بالظن، وخصموا بالطعن، ولم يبق لمن أصاب بتوفيق ربه شيئًا من الإفاقة عن عجبه متعلق غير الكتاب المتلو بلا شك، والخبر المروي بلا إفك، ولا مقتدى غير السلف الذين أخفاهم التراب، ولا مهتدى غير العقول والألباب، ما له من أقرانه إلا ريبة على التلاق، وعيبة لدى الفراق، وما العبد بموفق لسلوك هذا الصراط إلا بعد علمه بالطبقات، ليقرب من الهادية بقدوةٍ، ويبعد من النابية بنبوة، فلن يصل العبد إلى الهدى سابقًا، وقد عرف نفسه فيه لاحقًا.
فنقول وبالله التوفيق: إن الله تعالى جمع في الإنسان بين روح وعقل، وهوى ونفس، تحقيقًا للبلوى، على ما مر شرحه في كتاب "الأمد الأقصى" فالنفس بهواها تدعوه إلى الحاضرة جهلًا، والروح بعقلها تدعوه إلى العاقبة علمًا، فتفرق الناس عن ذلك طبقات أربعًا:
ضال بالهوى غافل عن نفسه، عامه في طغيانه بجهله.
وضال بنفسه ظان أن الأمر كذلك إلى جنسه.
ومهتد إلى ربه بدلائل عقله متأيد بنصوص شرعه.
ومهتد بالروح القدس في أنوار العقل والشرع.
وهؤلاء الطبقة من بينهم إمامهم. فنور الروح أصلي، ونور العقل فرعي على ما بينا في كتاب "الأمد الأقصى" وكتاب "خزانة الهدى".
ثم تفرق هؤلاء الطبقة أحزابًا أربعةً:
- عارف لربه على جهل بتأويل الكتاب والسنة والفقه والحكمة، وأنه لعلى شفا العبث والبدعة.
- وعارف لربه عالم بتأويل الكتاب والسنة بلا فقه واستمداد من الألباب، وأنه لعلى شفاه الضلال والارتياب، فالحوادث ممدودة والنصوص معدودة، فلا يأمن الابتلاء بما لم ينل فيرتاب أو يضل.
- وعارف لربه متفقه برأي قلبه غائب عن طرق الفقه في نصوص شرعه، وأنه لعلى
1 / 9
شفا الهلاك بهواه وعجبه، فما بالعقل وحده هداية إلى حدود الهدى، وما بعد العقل ولا شرع معه إلا الهوى.
- وعارف لربه عالم بنصوص شرعه تفسيرًا وتأويلًا وطرق الفقه في أصل الشرع تعليلًا، وهذا الرجل من بينهم إمامهم لكنه على شفا الفسق، فالعلم صالح لكسب الدنيا والآخرة وطلب المولى والورى، ما ينجو عن المحظور بالمأمور إلا بالنظر في المستور من أقسام أعماله وأحواله.
وأنها أقسام أربعة:
- قسم لهو عن العمل بالعلم.
- وقسم شغل بالعمل عن العلم.
واللاهي قسمان:
- قسم اتخذ العلم مكسبه للدنيا.
- وقسم اكتفى بالعلم حظًا يبتغي.
وهما على ضلال، فما العلم إلا للعمل به، وما العمل إلا ترك العاجلة بالآخرة على مخالفة الهوى في إشارته إلى كسب الحاضرة.
والعامل قسمان:
- عامل على قرار وعزلة.
- وعامل على قرار ودعوة، وأنه من بينهم إمامهم، وإليه نهاية الطبقات.
فأقصى مراتب العبد في الدعوة إلى الله تعالى فإنها رتبة الأنبياء ﵈، وتركوها ميراثًا للعلماء، ولأن الداعي إلى الحق هو الله تعالى بآياته، والعبد عامل له فيها بأمره.
وأما العبادة فحق الله تعالى على عبده، والعبد مؤدٍ عن نفسه ما عليها، فلن يصير العبد بالعمل عاملًا لله حتى يدعو، قال الله تعالى: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا﴾، وقوله: ﴿ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا﴾، وقال الله تعالى في شأن الرسول ﵇: ﴿إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا﴾، ﴿وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا﴾.
فأبان الله تعالى شرف الرسول بالدعوة والهداية دون العزلة والعبادة، وقال الله تعالى في شأن الأمة: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض﴾ يعني يثبت لهم ولاية الأرض وأهلها وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأه من الهدى ثم العمل به.
وقال الله تعالى: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾. فالخلافة
1 / 10
بالولاية من أقصى المراتب، وأنها تقوى بالنبوة وتزداد قوة بالرسالة، وتضعف بالاستنباط والدلالة، وتزداد ضعفًا بالقنوع بظواهر المسموع.
واليوم قد انقطعت النبوة فكان ما ذكرنا نهاية في القوة، ولأن نفع العبادة خاص ونفع الدعوة عام.
قال العبد ﵁: إني لما رأيت كل هذا الشرف للعلم ونوره كامن في قلوب البشر، كمون النار في الشجر، ما يقدحها إلا أيدي الهمم العالية، بفكر في الحجج الهادية، وأكثر الناس قبسوه بحواسهم ففقدوه في اقتباسهم، رأيت اتباع السلف في إثارة هذا النور ببيان الحجج فرضًا، ثم إنارته بوقود المداد في صحائف الكتب حقًا، رجاء أن أكون من الأشباه، واستعنت بالله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله على قصد مني تقويم كتاب "الهداية" الذي ذل خاطري [في بعضه] بحكم البداية، فرارًا عن التمادي في الباطل، وتخريجًا على الأصول الأربعة التي بها يتعلق الابتلاء في الحاصل، وبيانًا للحدود التي بها يمتاز البعض عن البعض على وجه خرس دونه ألسنة الأكثر من أولي هذه الصناعة، والله ولي التوفيق لتتميم هذه البضاعة.
1 / 11
وصف النسخ المخطوطة للكتاب
اعتمدنا في إخراج الكتاب على ثلاثة نسخ مخطوطة للكتاب، اثنتان كاملتان وواحدة فيها نقص، عملنا على مقارنتها ببعضها وإخراج النص الحالي بهذا الشكل. والنسخ هي:
أولًا: مصورة نسخة خطية من المكتبة السليمانية باستنبول، تحت رقم (٦٩٠)، تم نسخها في الليلة التاسعة من شعبان سنة سبع عشرة وسبعمائة هجرية (٧١٧هـ).
تقع في ٢٦٠ لوحة، في الصفحة الواحدة ٢٢ سطرًا.
وقد كتبت بخط النسخ الواضح، وعليها كثير من التعليقات والهوامش والتصحيحات المهمة.
ناسخها: هو ابن العميد قوام الدين أمير كاتب الاتقاني. وجاء عنوان الكتاب في بدايتها: "كتاب التقويم في أصول الفقه".
ثانيًا: مصورة نسخة خطية من الكتبخانة المصرية (دار الكتب المصرية) بالقاهرة تحت رقم (٢٥٥). وهي موجودة في مكتب الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم (١٨٢٢)، تم نسخها في السابع والعشرين من صفر الخير سنة ألف وثلاثمائة وعشرين هجرية (١٣٢٠هـ).
تقع في ٩٥٦ لوحة، في الصفحة الواحدة ١٥ سطرًا.
وقد كتبت بخط واضح مقروء.
ناسخها: اسمه محمد أمين الدنف الأنصاري، وجاء عنوان الكتاب في أولها: "تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع".
ثالثًا: مصورة نسخة موجودة بمكتبة سماحة الشيخ خليل الميس من مجموعة مصورات المخطوطات التي يملكها، فيها بعض النقص والطمس في صفحاتها وأسطرها. تم نسخها سنة أربع وسبعين وتسعمائة (٩٧٤هـ).
تقع في ٤٣٢ لوحة، في كل صفحة ٢١ سطرًا. خطها واضح مقروء.
ناسخها: هو سيد محمد بن سيد عبد القادر، وجاء عنوان الكتاب في بدايتها: "تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي في علم أصول الفقه".
وبالجملة فقد حفظ لنا التاريخ هذا الأثر العلمي النفيس كاملًا غير منقوص، وفي حالة جيدة.
1 / 12
القول في أسماء أنواع الحجج
التي بها ابتلينا بعلم ما شرع الله تعالى من أحكامه ولزمنا العمل بها، وبها يمتاز البعض عن البعض بعرف لسان الفقهاء، وهذه الأسماء أربعة: الآية، والدليل، والعلة، والحال.
فأما الحجة: فاسم يعم الكل، وكذلك البينة والبرهان.
وتفسير الحجة: أنها اسم من حج إذا غلب، يقال: لج فحج أي غلب، وحاججته فحججته أي: غلبته ألزمته بالحجة حتى صار مغلوبًا.
فسميت الحجة حجة لأن حق الله تعالى يلزمنا بها، ويجعلنا مغلوبين في المناظرة مع الله تعالى بانقطاع العذر بها.
ويحتمل أن يقال بأن الاسم مأخوذ من معنى وجوب الرجوع إليه عملًا به من قول الشاعر:
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي يرجعون إليه معظمين إياه، ومنه: "حج البيت".
ألا يرى أن الله تعالى سمى البيت مثابة للناس كما يسمى من الحج محجة، والمثابة المرجع، وسواء أوجبت علم اليقين أو دونه لأن العمل يلزمنا بنوعي العلم على ما يأتيك بيانه من بعد في باب خبر الواحد والقياس.
وكذلك البينة: وهي من البيان قال الله تعالى: ﴿فيه آيات بينات﴾ أي ظاهرات، وهذا لأن الحجة إنما يجب العمل بها إذا ظهر للقلب وجه الإلزام منها، وسواء ظهر ظهورًا أوجب علم اليقين وما دونه لأن العمل يجب بها على ما قلناه.
وكذلك البرهان: اسم للحجة على العموم لغة، وأنواعه أربعة على ما قلنا.
أما الآية: فاسم على الإطلاق لما يوجب علم اليقين، ولذلك سميت معجزات الرسل آيات، قال الله تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات﴾، وقال تعالى: ﴿فاذهبا بآياتنا﴾ وهي المعجزات لأن المعجزة توجب علم اليقين بنبوة الرسل. وتفسيرها لغة: العلامة، قال الشاعر:
1 / 13
درست وغيرت أيها العصر
وقال الله تعالى: ﴿فيه آيات بينات مقام إبراهيم﴾ أي: علامات.
فإن قيل: ومن الناس من لم يعلم بالنبوة بعد ظهور الآيات فكيف يكون تفسيرها ما يوجب العلم؟
قلنا: إن هذه الحجج التي نتكلم فيها مما لا توجب العلم جبرًا بل بالتأمل فيها توجب، وإنما جهل من جهل بعد الآيات بالرسل بترك التأمل لكنه لم يعذر لأن العاقل مما يلزمه التأمل فيها فلم يعذر بالترك، ولو كانت الحجج موجبة للعلم جبرًا لما تعلق بها ثواب ولا عقاب.
وأما الدليل: فهو اسم لحجة منطق، لأنه في اللغة؛ فعيل بمعنى فاعل، فكان اسمًا لفاعل الدلالة كالدال. وعنه قيل: يا دليل المتحيرين أي: هاديهم إلى ما يزول به حيرته، وكذلك دليل القافلة، ثم سمي كلامه باسمه دليلًا، ولما كان حجة نطق كان غير الاسم الموضوع لما لا نطق له. فإن قيل: إن الدخان دليل على النار، والبناء دليل على الباني ولا نطق هناك!. قلنا: إنه اسم مجاز لوجود معنى دلالة النطق منهما، كما قال الله تعالى: ﴿جدارًا يريد أن ينقض فأقامه﴾.
وقال تعالى: ﴿قالتا أتينا طائعين﴾ وكقول الشاعر:
وعظتك أجداث صمت
ثم الدليل مجازًا كان أو حقيقة: اسم لما يبين أمرًا كامن، وسائر الحجج أسماء لما يبين أو يوجب حكمًا مبتدأ فصار الدليل اسمًا خاصًا لما هو مبين.
والشهادة مثل الدليل، لأنها حجة منطق في الأصل كالدلالة، إلا أنه أخص من الدلالة وهما سواء أوجبا علم اليقين أو دونه، فالشهادات في مجلس القضاة تسمى بينات، وهي لا توجب العلم يقينًا.
وأما العلة: فتفسيرها لغة: اسم لحال تغير بحلوله حكم الحال، أو اسم لما أحدث أمرًا بحلوله لا عن اختيار كالمرض يسمى علة لتغير حكم حال الإنسان بحلوله لا عن اختيار للمريض فيه، وكذلك الجرح علة الموت إذا سرى إليه لهذا الحد، ولا يسمى الجارح علة لأنه مختار غير حال بالمجروح، ولهذا لم يجز وصف القديم -عز ذكره- "بالعلة" لأن الله تعالى أنشأ عن اختيار، ولا يوصف بالحلول، فكانت العلة على هذا السبيل نوعًا ثالثًا غير الآية والدليل لأنهما يوجبان الحكم بلا حلول.
والمراد بالعلة بعرف لسان الشرع: المعاني المستنبطة من النصوص التي تعلقت بها الأحكام شرعًا فيها، وتعدت بتعديها إلى الفروع، لأن تلك المعاني بحكم حلولها في
1 / 14
المنصوص عليها غيرت أحكامها لا عن اختيار إلى العموم عن الخصوص.
فإن قوله ﷺ: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا" غير حال بالحنطة.
ولكن قولنا: إنه مكيل أو مطعوم حال بها.
وهذه العلل تسمى مقاييس لأنها قد تستنبط بالمقايسة فسميت باسم سببها وتسمى نظرًا لهذا المعنى.
وأما حكمها: فالعلم على شبهة متى أريد بها هذه العلل التي هي مقاييس اجتهاد، وقد توجب حكم العلة بلا شبهة إذا أثبتت عللًا بطريق بلا شبهة.
وقد يجوز أن تسمى هذه العلل الشرعية أدلة لأن هذه المعاني دلتنا على حكم الله تعالى في الفروع.
وعلل الشرع أعلام وآيات في الحقيقة على الأحكام والموجب هو الله تعالى.
ولا يجوز أن تسمى الأدلة عللًا لأن في العلة معنى الإيجاب، وما في الدليل ذلك كالدخان نسميه دليلًا على النار ولا نسميه علة.
وكل دليل على شيء علة في حق علمك لأن العلم وجب لك به.
وأما الحال: فعبارة عن الحكم الثابت عن دليل غير متعرض لبقائه ولا لزواله محتمل للزوال بدليله لكنه ملتبس عليك حاله لأن ما ثبت دام حتى يقوم دليل البطلان، على ما نبينه في موضعه.
ثم كل نوع مما ذكرنا من أنواع الحجج ينقسم إلى قسمين: ظاهر وباطن.
فالظاهر: ما عقل بالبديهة.
والباطن: ما لم يعقل إلا بتأمل. فعصا موسى كانت آية ظاهرة، إذ تلقفت عصي آل فرعون فعلمتها السحرة آية ببديهة عقولهم، وكذلك انفلاق البحر وانفجار الصخرة.
والقرآن لمحمد ﷺ آية باطنة ما يعرف معجزة إلا بعد تأمل ونظر ومعارضة بسائر أنواع كلام البشر، وما للظاهر رجحان بظهوره، ولا للباطن رجحان ببطونه، بل الرجحان موقوف على قدر الأثر في مضمونه.
ألا ترى أن الله تعالى خلق الدنيا ظاهرة والآخرة باطنة، ثم لم يكن الرجحان بظهور ولا بطون بل كانت الراجحة منهما ما كانت باقية.
وكذلك الرأس ظاهر والقلب باطن ولكل واحد منهما ضرب درك، وكان الرجحان للقلب لوقوفه على العاقبة.
1 / 15
والنص حجة ظاهرة من الرسول ﷺ.
والعلة حجة باطنة لا تنال إلا بتأمل من العقول.
وكذلك الشمس ضياء ظاهر والعقل ضياء باطن.
والأغذية علل ظاهرة لمصالح عاجلة، والأدوية علل باطنة لمصالح في العاقبة.
وكذلك علل الشرع بعضها أظهر من بعض حتى سمى علماؤنا الظاهر منها؛ قياسًا، والباطن استحسانًا، ثم أخذوا بالقياس مرة وبالاستحسان أخرى ليعلم أن الرجحان بقدر قوة المعنى.
وكذلك الدليل قد تكون دلالته ظاهرة كالدخان على النار، وقد تكون دلالته باطنة كالنجم على الطريق، فإنه لا يهتدى به إلا بضرب تأمل فصار حد الآية ما يفيد العلم يقينًا إذا أبصرها القلب على اضطرار كما إذا رأى شخصًا بالعين بلا ستار، والآية آية سواء نظر العبد فيها فأبصر، أو لم ينظر وقصر. وصار حد الحجة ما يغلب الهوى، فإن للقلب نظرًا بموجب الهوى ونظرًا بموجب العقل فإذا قامت الحجة عليه غلبت جهة العقل جهة الهوى، وسواء في ذلك اضطر القلب إلى العلم بارتفاع الشبهة أو لم يضطر، ووقعت الغلبة بالنظر أو تكاسل فلم يبصر.
وصار حد الدليل ما أتى منه فعل الدلالة بحيث لو تأمله ذو البصيرة لاستدلال به واهتدى، وسواء فيه تأمل أو لا، فأوجب العلم قطعًا أو كان دونه حدًا، وصار حد العلة ما تعلق به الإحداث والإيجاد بلا اختيار بقدر الحلول بمحل الحكم ولكن في علل الشرع يراد بها ما تعلق بحلولها وجوب الأحكام في حقنا لا حدوثها في أنفسها بذوات تلك العلل.
فالعلل الشرعية صارت عللًا بجعل الشرع إياها عللًا لا بذواتها، فصارت بذواتها أعلامًا لما لم تكن موجبة.
غير أنا سمينا هذه المعاني المستنبطة من النصوص عللًا مجازًا لتعلق وجوب الأحكام بها في حقنا شرعًا لا في حق الله، وهي حالة بمحل الأحكام لا وجوب في حقنا قبل الشرع، ولا وجود بعد الشرع قبلها فكانت هذه العلل بمنزلة شرط الطلاق في اليمين بالطلاق في حق المرأة.
فالشرط علم على الطلاق في حق الزوج وفي حق الطلاق، فإنه وجب معه بتطليق الزوج، ولكنه علة في حق الوجوب للمرأة حتى إن الطلاق لا يعمل فيها إلا إذا كانت بمحل الإيقاع ابتداءً حال وجود الشرط، ويعمل وإن لم يكن الرجل من أهله حين الشرط.
لأن العلة في حق الطلاق نفسه لفظ الزوج فيعتبر شرط صحته حال تلفظه.
1 / 16
والدليل عليه أن هذه المعاني كانت موجودة قبل الشرع ولم تكن موجبة لهذه الأحكام، ولو كانت موجبة لذواتها لم تنفك عن معلولاتها كشرط الطلاق يوجد من المرأة قبل تعليق الزوج الطلاق به ولا يوجب طلاقًا.
وصار حد الحال ما يوجب البقاء على الثابت من الحكم لجهلك بالدليل المغير لا لعلمك بالدليل المبقي.
1 / 17
القول في أنواع الحجج نفسها
الحجج نوعان: عقلية وشرعية.
وكل نوع قسمان: موجبة للعلم ومجوزة.
فالموجبة: ما أوجبت العلم قطعًا بموجبها ولم تجوز خلافه.
والمجوزة: ما جوزت إطلاق اسم العلم على موجبها وإن جوزت خلافه.
ثم العقلية: ما عرفت حججًا بالاستدلال بمجرد العقول.
والشرعية: ما لم تعرف حججًا إلا بوحي الله تعالى وسنة الرسول ﷺ، وهذه جملة لا نعرف فيها خلافًا فإن من بنى على السماع علمه ما اهتدى إليه حتى يحكم عقله.
فالمسموع في نفسه خبر يحتمل الصدق والكذب، وقائله رجل مثله من الخلق فلا يجوز له اتباع مثله ولا الحكم بقوله حتى تزول عنه جهة كذبه، ولن تزول إلا بمعجزة، ولا معجزة نعرفها إلا بتأمل عن عقله.
ولأنا نرى من لا يعرف الشرع أصلًا يستدل بالبناء على الباني، ويهتدي إلى المصالح الدنيوية ويصل إليها بالدلالات العقلية بنوعي علم: علم بلا شك، وعلم بغالب الرأي مع ضرب ارتياب بحيث جاز أن يتبين له في ضده الصواب.
وكذلك الشرعية فكتاب الله تعالى حجة يوجب العلم قطعًا بلا ريب.
وخبر الواحد يوجب علمًا مع ضرب شك فعلمت أن هذه جملة لا خلاف فيها، وإنما الخلاف في حق أحكام الله تعالى على ما يأتيك شرحها.
1 / 18
القول في أنواع الحجج الشرعية الموجبة للعلم
قال العبد ﵁: إن الحجج العقلية وإن كانت قبل الشرعية وجودًا في الذوات، فإني قدمت الشرعية فهي أظهر منها بدرجات.
فالشرع على مثال ضوء النهار.
والعقل على مثال نور النار.
والقلب على مثال العين، فكم من عين لم تر في ضوء السراج، رأت إذا بزغ الضياء الوهاج، لا نظره الجلي فيرغب به في الخفي.
فأقول وبالله التوفيق: إن الحجج الشرعية الموجبة للعلم أربع: كتاب الله تعالى، وخبر الرسول المسموع منه، والمروى بالتواتر عنه، والإجماع.
وطريق ذلك كله واحد، وهو خبر الرسول لأنا لم نعرف الكتاب -كتاب الله تعالى- إلا بخبر رسول الله ﵊.
وكذا الإجماع ما ثبت حجة قاطعة إلا بكتاب الله والسنة.
والمروي عن النبي ﷺ بالتواتر كالمسموع منه على ما يأتيك بيان كل قسم في بابه.
فثبت أن المدار على خبر الرسول، وخبر الرسول صدق وحق لدلالة قامت على أن رسول الله لا يكون رسولًا حتى يكون معصومًا عن الكذب وبالله التوفيق.
1 / 19
القول في بيان حد الكتاب وكونه حجة
كتاب الله تعالى: ما نقل إلينا بين دفتي المصاحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلًا متواترًا، لأن ما دون المتواتر من الأخبار لا يبلغ مرتبة العيان على ما يأتيك البيان، فلا يوجب الإيقان، وكتاب الله تعالى ما علم يقينًا، وأوجب علم اليقين إلا لأنه أصل الدين وبه ثبتت الرسالة وقامت الحجة على بطلان الضلالة.
فإن قيل: كون كتاب الله تعالى معجزًا دليل على أنه من الله تعالى من غير نقل متواتر.
قلنا: إن كل آية منه ليست بمعجزة، وهي حجة قطعًا فلا تثبت إلا بعد السماع من الرسول ﷺ. أو نقل عنه بالتواتر.
على أن كونه معجزًا آية على صدق صاحبه في دعواه، وليست بآية على أنه كلام الله، فإنه كان جائزًا أن يقدر الله تعالى رسوله على كلام يعجز عنه الأنام فيكون آية على صدق رسالته، كما أقدر عيسى ﵇ على إحياء الموتى، ولهذا قالت الأئمة فيمن قرأ في صلاته بكلمات تفرد بها عبد الله بن مسعود ﵁: أن صلاته لا تجوز، كما لو قرأ خبرًا من أخبار الرسول.
فإن قيل: فإذا الدليل على القرآن النقل المتواتر لا دفات المصاحف؟
قلنا: إن الصحابة ﵃ ما أثبتوا القرآن في المصاحف بعد حفظ القلوب إلا ليصونوه بها عن الزيادة والنقصان، حتى كرهوا التعاشير وكتابة رأس السورة وأمروا بالتجريد فأثبتوا فيها ما تواتر إليهم نقله وأطبق عليه أهله وشهدت به نسخة رسول الله ﷺ ونظمه.
فإن قيل: إن التسمية نقلت إلينا مكتوبة بقلم الوحي بين دفات المصاحف لمبدأ كل سورة ثم لم يعدوها آية منها.
قلنا: إن أصحابنا قالوا في المصلي؛ ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم. ففصلوها عن الثناء، ووصلوها بقراءة القرآن فدل هذا الإطلاق على أنها من القرآن عندهم، لكنهم قالوا: ويخفي. كما قالوا بإخفاء القراءة في الأخريين ليعلم أنها ليست بآية من الفاتحة وإنما قرئت تبركًا بها لا أداءً لفرض القراءة، فإن الفاتحة عينت لذلك شرعًا.
وقد روي عن محمد بن الحسن أن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور
1 / 20
وللبدء تبركًا بها فكتبت بقلم الوحي لأنها آية من الكتاب، وكتبت بخط على حدة غير موصولة بالسورة لأنها ليست من تلك السورة، وكيف تثبت التسمية آية من كل سورة مع اختلاف الناس والأخبار، وأدون أحوال الاختلاف المعتبر إيراد شبهة، والقرآن لا يثبت مع الشبهة.
فإن قيل: إنكم أخذتم بقراءة عبد الله بن مسعود ﵁ في كفارة اليمين: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" فشرطتم التتابع لجواز الكفارة.
قلنا: أخذنا بها عملًا بها كما لو روي خبر عن الرسول ﵇ لأنه ما قرأها إلا نقلًا عن رسول الله ﷺ، فلما لم يثبت قرآنًا لفوات شرطه بقي خبرًا.
فإن قيل: فهلا أخذتم بأخبار التسمية الدالة على أنها من الفاتحة عملًا بها من حيث الجهر بها في الصلاة، وحرمة القراءة على الحائض والجنب التي هي من حكم القرآن.
قلنا: لأنا متى صرفناها إلى أن التسمية في حكم الفاتحة لم تكن حكمًا لها بظاهر ما توجبه التسمية لغة بل كان عملًا بمقتضى أنها من القرآن، ولا عموم للمقتضى عندنا، وإنما يوجب العمل به بأدنى ما لا بد منه.
والحرمة على الحائض لا بد منها، ولم يرو عن أصحابنا شيء في إباحة القراءة لها.
فأما الجهر بها في الصلاة فمما لا يجب لا محالة بحكم أنها من الفاتحة على ما بينا أنه لا يجهر بها في الأخريين.
ولأن متى لم تثبت التسمية آية من القرآن على قول بعضهم بقيت خبرًا عن رسول الله ﷺ.
ولو كانت خبرًا لم يكن من حكمه الجهر بقراءته ولا حرمته على الجنب لغة.
فإما الكلام في أن القرآن حجة:
فإنه كلام الله تعالى، وقد ثبت ان الله تعالى لا يتكلم بالباطل، وبالله التوفيق.
1 / 21
القول في تحديد المتواتر وكونه حجة موجبة
اختلفت العبارات في حد المتواتر، والمختار عندنا؛ ما تواتر نقله أي: اتصل بك من النبي ﷺ بتتابع النقل.
يقال: تواترت الكتب أي: اتصل بعضها ببعض بتتابع الورود.
ولا تثبت حقيقة الاتصال إلا بعد ارتفاع شبهة الانفصال ومتى ارتفعت الشبهة ضاهى المتصل منه بك بحاسة سمعك.
فطريق هذا الاتصال أن ينقله إليك قوم لا يتوهم في العادات تواطؤهم على الكذب لكثرتهم، لأن الناس على همم شتى تبعثهم على العمل بموافقتها ما يرجعون عنها إلى سنن واحد، إلا عن أصل آخر جامع مانع وذلك سماع اتبعوه أو اتفاق صنعوه، فمتى بطل وهم الاجتماع تعين لهم السماع.
ألا ترى أنك علمت بكون السماء فوقنا، كذلك قبلنا بالسماع كما علمتها للحال بالرؤية.
وعلمت أباك سماعًا حسب ما علمك أبوك عيانًا.
ثم إنه حجة بمنزلة آية من كتاب الله تعالى لأنه قد ثبت بالدلائل أن النبي ﷺ معصوم عن الكذب والكلام بالباطل، ولأن كتاب الله تعالى ما ثبت إلا بخبره، وعلى هذا أسئلة ذكرناها في باب "مراتب الأخبار" من بعد.
1 / 22
القول في بيان أن الإجماع من هذه الأمة حجة
إجماع هذه الأمة حجة موجبة للعلم شرعًا، كرامة لهذا الدين، لدلالة أن المجوس اجتمعت على أشياء كانت باطلة، وكذلك النصارى واليهود وسائر الكفرة، وهم أكثر منا عددًا.
ولأن الإجماع جائز من الخلق اتباعًا للآباء من غير حجة بطباعهم كما فعلت الكفرة، فلا يصير عينه حجة فثبت أن إجماعنا جعل حجة شرعًا وذلك بقوله تعالى: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾.
أخبر أنه يخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والباطل إلى نور الإيمان والحق، ولو جاز إجماعهم على الباطل لكانوا في ظلمة فكيف يكون خلاف ما أخبر الله تعالى وأنه لا يجوز.
وقال الله تعالى: ﴿هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور﴾.
وقال: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ وكلمة خير بمعنى أفعل فيدل على نهاية الخيرية ونفس الخيرية في كينونة العبد مع الحق، والنهاية في كينونته مع الحق على الحقيقة، فدل صفة الخير وهو بمعنى أفعل على أنهم مصيبون لا محالة الحق الذي هو حق عند الله تعالى إذا أجمعوا على شيء، وإن ذلك الحق لا يعدوهم إذا اختلفوا.
وكذلك قال الله تعالى: ﴿تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾ والمعروف والمنكر على الإطلاق ما كان معروفًا ومنكرًا عند الله.
فأما الذي يؤدي إليه رأي المجتهد من غير إصابة ما عند الله تعالى فمعروف ومنكر في حقه ورأيه لا أن يكون معروفًا ومنكرًا مطلقًا، فكان هذا بيانًا لصدر الآية في أن كانوا خير أمة بهذا السبب وهو إصابة المعروف المطلق.
فإن قيل: معنى قوله "تأمرون" أي: يأمر كل واحد منكم كقولك: لبس القوم ثيابهم، وقول كل واحد ليس بحجة.
قلنا: نعم، فيجب إذا أمر كل واحد منهم بمعروف أن يكون المعروف المطلق في جملة ما أمروا.
وقال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطًا﴾ والوسط في اللغة: من يرتضى قوله.
وقال الله تعالى: ﴿قال أوسطهم ألم أقل لكم﴾ أي أرضاهم قولًا، ومطلق
1 / 23
الارتضاء في إصابة الحق عند الله تعالى لأن الخطأ في الأصل مردود ومنهي عنه، إلا أن المخطئ ربما يعذر بسبب عجزه ويؤجر على قدر طلبه للحق بطريقه لا أن يكون الخطأ بعينه مرضيًا عند الله تعالى.
وقال تعالى: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ والشاهد: اسم لمن ينطق عن علم ولمن قوله حجة.
فدل النص على أن لهم علمًا بما على الناس من الأحكام، وأن أقوالهم حجة على الناس في حق الله تعالى.
والله تعالى عالم بحقائق الأمور فلا تثبت الحجة حجة في حقه على حكمه إلا ما أوجب العلم يقينًا قطعًا.
بخلاف حجج العباد لأنا لا نقف على حقوقنا إلا من طريق الظاهر فكانت حجتنا ثابتة وفاق حقوقنا.
وكذلك خبر الله تعالى عن علمهم لا يقع إلا حقيقة. ألا ترى أن الله تعالى شبه شهادتنا على الناس بشهادة الرسول علينا فقال الله تعالى: ﴿ويكون الرسول عليكم شهيدًا﴾ وشهادة الرسول موجبة للعلم قطعًا فكذلك شهادتنا.
ولأن شهادة جماعتنا لو لم تكن موجبة علمًا كالوحي لصارت معارضة بشهادة غيرنا بآرائهم فلا تبقى حجة.
فإن قيل إن الآية وردت في أمور الآخرة!.
قلنا: لا تفصيل في الآية، ولأن شهادة أداء في مجلس القضاء بما علمنا في الدنيا.
فلو لم تكن شهادتنا حجة موجبة للعلم قطعًا لما طلب أداؤها في مجلس الحكم للقضاء بها، والقاضي علام الغيوب لا يقضي إلا بالثابت حقًا على الحقيقة.
ومتى احتمل علمنا للحال الخطأ لم تكن شهادتنا موجبة علمًا لا يحتمل الخطأ.
ولن الله تعالى حيث نص على الآخرة خص الرسول ﵇ بالشهادة فقال: ﴿وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا﴾ وقال: ﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم﴾ ولم يقل شهيدًا من أمتك فلت هاتان الآيتان على أن المراد بشهادة الأمة الشهادة في الدنيا.
فإن قيل: إن المراد بها في نقل القرآن والأخبار.
قلنا: لا تفصيل في الآية، ولأنه لا ذكر للمشهود به فتعين المشهود به لتعليق الحكم به زيادة على كتاب الله تعالى وذلك يجري مجرى النسخ على ما يأتيك بيانه فلا يكون تأويلًا.
1 / 24
ولأن نقل المتواتر لا يثبت إلا بقوم لا يجوز تواطؤهم على الكذب في العادات لكثرتهم، والإجماع من علماء الأمة حجة وإن كانوا ثلاثة أو خمسة أو عشرة، وجاز تواطؤهم على الكذب عادة.
فإن قيل: إن جعلهم الله تعالى وسطًا ليكونوا حجة لا يدل على امتناع إجماعهم على الضلالة كما قال الله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ أخبر أنه خلقهم ليعبدوه ثم لم يمتنع إجماعهم على ترك العبادة.
قلنا: لأن معنى قوله تعالى: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ بجعل الله تعالى وإكرامه إياهم بأن جعلهم وسطًا، واصطفاهم حتى كانوا وسطًا فصاروا شهداء عن علم بإصابتهم الحق بهذه الصفة، كما خلقهم الله أحرارًا ليكونوا من أهل ملك ما سواهم، فكانت اللام لبيان حكم صفة الوساطة التي من الله تعالى بها عليهم فحقيقتها تقتضي ثبوت الحكم إذا ثبتت العلة كما تثبت أهلية الملك إذا ثبتت الحرية، على هذا موجب اللغة.
وكما خلق الله الأنبياء ﵈ معصومين عن الكذب والباطل، وكذلك الملائكة حتى كان قولهم موجبًا علم اليقين إلا أن الحقيقة تركت في قوله: ﴿ليعبدون﴾ إذ لو عمل بها لاقتضت وقوع العبادة على سبيل الجبر حكًا للتخليق.
والمطلوب منا عبادة يوصف العبد بالاختيار في فعلها فبهذه الدلالة علمنا ان المراد بها: وما خلقت الجن والإنس إلا وعليهم عبادتي، وما منا أحد غلا وعليه أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان على ما يأتيك سلاحه على التفصيل.
ونظير قوله: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ قوله: ﴿ويكون الرسول عليكم شهيدًا﴾ فإن قيل: خبر الواحد حجة في حق الله تعالى وكذا القياس ولا يوجبان العلم قطعًا!.
قلنا: أصل الحجة خبر الرسول، وخبره يوجب العلم قطعًا، والشبهة وقعت في النقل وتحمل ذلك لضرورة.
وأما القياس فليس بحجة لنصب الحكم ولكن لتعديه حكم ثبت بنص أصله موجب للعلم إلى محل لم يتناوله النص.
والكلام في الأصل والإجماع من قبلهم حجة لحكم لا نص فيه كرامة لهم على ما قال: ﴿كنتم خير امة اخرجت للناس﴾، وقال: ﴿لتكونوا شهداء﴾ أثبت تلك الصفة لهم من قبله لا من قبلهم على ما مر.
على أنا لم نجعلهما حجة في حق العلم بما عند الله تعالى بل في حق العمل الذي يلزمنا بهما.
1 / 25
ويجوز ذلك في حق ما عندنا لأنا لم نؤت في كل شيء علم الحقيقة كما نعمل بالشهادات، وهي لا توجب العلم قطعًا وقال: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى﴾ الآية ولو جاز إجماعهم على الضلالة لما كان مخالفتهم نظيرًا لمشاقة الرسول.
فلما جعل مخالفتهم أحد شطري استيجاب النار علم أنها مثل الشطر الآخر.
وقال: ﴿وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم﴾ والذي ارتضاه الله تعالى لنا هو الذي هو حق عنده دون الخطأ، وإن عذر الله المجتهد على خطئه وأثابه على قدر طلبه فإن الثواب قابل الطلب لكونه مصيبًا فيه.
والدين اسم للمطلوب وقد جاء عن الرسول ﵇ من غير واحد: "إن الله تعالى لا يجمع أمتي على الضلالة" وقد جاء الوعيد بمخالفة الجماعة وهو قوله ﵇: "من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" وقد صنف الناس في هذا الباب، وأوردوا من المشاهير ما يوجب العلم وكتابنا هذا كان يضيق عن ذكرها على الاستقصاء فاكتفينا بالكتاب وبالإشارة إلى السنة.
فإن قال قائل: إن الاختلاف وقع من إجماع انعقد عن رأي او خبر واحد وإنهما لا يوجبان العلم فكيف أوجب العلم إجماع تفرع عنهما؟
قلنا: اتصالهما بالإجماع وقد ثبت بالأدلة أن الكل عصموا عن الباطل كان بمنزلة الاتصال برسول الله ﷺ وتقريره على ذلك، او الاتصال بآية من كتاب الله تعالى وغير مستنكر أن لا يصيب الواحد الحق برأيه، ويصيب إذا قوي بآراء مثله، كما يجوز ضعفه عن حمل شيء ثقيل وقدرته عليه مع غيره.
فإن قيل: قال الله تعالى: ﴿يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله﴾ إلى قوله: ﴿وأنتم شهداء﴾.
قلنا: يحتمل أن يقال؛ أن إجماعهم كان حجة ما داموا متمسكين بالكتاب، وإنما لم نجعل اليوم إجماعهم حجة لأنهم كفروا به وإنما ينسبون إلى الكتاب بدعواهم لأن تأويل الآية: ﴿وأنتم شهداء﴾ بما فيه نبوة محمد ﷺ فلم لا تشهدون بالحق، ألا ترى أنه قال: ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس﴾ يعني الكتاب وهو الذي سبق ذكره، وابتدأ الآية بقوله: ﴿يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا وأنتم شهداء﴾ فثبت أنهم شهداء بنبوة محمد ﷺ وبنقل ما في الكتاب لا غير.
1 / 26
وقال: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور﴾ إلى قوله: ﴿وكانوا عليه شهداء﴾ وشهادتهم بما أثبت الله تعالى لهم كانت حجة موجبة قطعًا وصاروا كفارًا بمنعها ولم يجز خلوهم عن ذلك العلم.
وقال في شان هذه الأمة: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ ولم يقل على الكتاب، فدل على علمهم قطعًا بما على الناس من أحكام الله تعالى وأنهم بالإعراض عن ذلك قصدًا يكفرون ولم يجز أن يعدوهم علم الحق.
1 / 27
القول في تحديد الإجماع
حد الإجماع الذي هو حجة؛ إجماع علماء العصر من أهل العدالة والاجتهاد على حكم.
وثبوت الإجماع منهم قد يكون بنصهم عليه، وبنص بعضهم وسكوت الباقين على الرد.
والسكوت الذي هو حجة: السكوت عند عرض الفتوى عليهم أو اشتهار الفتوى في الناس من غير ظهور رد من أحد، وذلك لأنه إذا كان الحكم عنده بخلاف ما سمع لم يسعه السكوت عن ذكره فيدل حاله على سكوت يحل، وذلك إذا كان عنده الحكم كذلك، هذا إذا دام على السكوت إلى مدة تنقضي في مثلها الحاجة غلى النظر لإصابة الحق.
فنفس السكوت قد يكون لطلب الصواب ولا عبرة لقلة العلماء وكثرتهم.
ولا عبرة بالثبات على ذلك حتى يموتوا.
ولا عبرة لمخالفة العامة الذين لا رأي لهم في الباب.
ولا بالمتهمين بالهوى فيما خالفونا فيما نسبوا به إلى الهوى.
فأما خلافهم فيما عدا ذلك فمعتبر ما لم يغلو في هواهم حتى كفروا أو تسفهوا حتى صاروا ماجنين لا تقبل شهادتهم.
أما الإجماع نصًا فما فيه إشكال وأما سكوتًا فلأن السامع ما يحل له السكوت عن بيان الحق إذا كان علمه بخلافه فتدل عدالته على أن سكوته على سبيل يحل له، وهو في كون المسموع حقًا إلا أنا شرطنا مدة التأمل لدرك الحق لأن الحق لا ينال بالاجتهاد إلا بعد نظر في أشباه المحادث، وتمييز الأشبه من بين الجملة ولا بد لهذا من مدة.
ثم المدة لمثله في العادات لا يمتد إلى الموت بل إلى حين يتبين له الوجه فيه إما على الموافقة فلا يلزمه النطق به فسكوته عن الرد دليل عليه، أو على المخالفة فيرده، أو يتعارض عليه الأشباه فيلزمه الفتوى بأي الأشباه كان فيصير سكوته فتوى بما ظهر من فتوى الأول.
فإن قيل: وقد يبدو للمجتهد في عمره ما يرجع به عن الأول، فهلا شرط لصحة الإجماع الثبات على الفتوى منهم ما لم يموتوا؟
قلنا: لما ثبت أن الحق لا يعدو إجماعهم علم يقينًا بعد الإجماع إصابتهم الحق
1 / 28