[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه وإحسانه في الدين والدنيا وصلواته على محمد وآله الطيبين (أما بعد) فان أولى ما يتكلفه المرء في أثارة العلوم ما يعظم النفع به في دينه ودنياه فيعرف كيف يعبد ربه في الصلاة والصيام وغيرهما (وذلك) بقراءة القرآن وبالانقطاع إلى الله، وكل ذلك لا يتم الا بمعرفة معاني ما يقرؤه وما يورده في ادعيته من الأسماء الحسنى إما مفصلا وإما على الجملة فانه تعالى قد أودع القرآن من المواعظ والزواجر وغيرهما ما اذا تأمله المرء وقعت به الكفاية: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام وقد حذره عن اختلاف الأمة بعده: عليكم بكتاب الله فان فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ما يدعه من جبار إلا قصمه الله ومن يتبع الهدى في غيره اضله الله وهو حبل الله المتين وأمره الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لما سمعه الجن لم يتناءوا أن قالوا (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد) هو الذي لا تختلف به الألسنة ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه: ومعلوم انه لا ينتفع به إلا بعد الوقوف على معاني ما فيه وبعد الفصل بين محكمه ومتشابهه فكثير من الناس قد ضل بأن تمسك بالمتشابه حتى اعتقد ان قوله تعالى (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) حقيقة في الحجر والمدر والطير والنعم وربما رأوا في ذلك تسبيح كل شيء من ذلك ومن اعتقد ذلك لم ينتفع بما يقرؤه ولذلك قال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن) وكذلك وصفه تعالى بأنه (يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين) وقد أملينا في ذلك كتابا يفصل بين المحكم والمتشابه عرضنا فيه سور القرآن على ترتيبها وبينا معاني ما تشابه من آياتها مع بيان وجه خطأ فريق من الناس في تأويلها ليكون النفع به أعظم ونسأل الله التوفيق للصواب ان شاء الله.
पृष्ठ 7
(بسم الله الرحمن الرحيم)
معنى بسم الله الابتداء به تبركا والاستعانة في كل امر مهم: ومعنى الله ان العبادة به تليق دون غيره لأنه الخالق والمنعم بسائر النعم: ومعنى الرحمن المبالغة في الانعام العظيم الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى: ومعنى الرحيم المبالغة في الاكثار من الرحمة والنعمة وقد يوصف بذلك غيره أيضا.
[مسألة]
قالوا ما وجه الابتداء ببسم الله وهلا قيل بالله الرحمن الرحيم فالاستعانة بالله تقع لا باسمه. وجوابنا ان الأمر كما قالوا لكنه ذكر اسمه وأريد هو على وجه الاعظام وهذا كقوله تعالى (سبح اسم ربك) فأمر بتنزيه اسمه وأراد تنزيهه عما لا يليق به لكنه ذكر الاسم تعظيما له وهذا كما يقال صلوات الله على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
[مسألة]
قالوا فما وجه ذكر هذه الاسماء الثلاثة دون غيرها. قيل له ذكر الله لأن المكلف قد اختص بأن لزمته عبادته وهو الذي يعرف أنواع نعمه وذكر الرحمن الرحيم لأنه لأجل ذلك استحق العبادة.
पृष्ठ 8
سورة الحمد
معنى الحمد لله الشكر لله وكيف نشكره فعلمنا تعالى ذلك.
[مسألة]
قالوا الحمد لله خبر فان كان حمد نفسه فلا فائدة لنا فيه وان أمرنا بذلك فكان يجب أن يقول قولوا الحمد لله. وجوابنا عن ذلك ان المراد به الامر بالشكر والتعليم لكي نشكره لكنه وان حذف الامر فقد دل عليه بقوله (إياك نعبد وإياك نستعين) لأنه لا يليق بالله تعالى وإنما يليق بالعباد فاذا كان معناه قولوا (إياك نعبد) فكذلك قوله (الحمد لله) وهذا كقوله (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) معناه ويقولون (سلام عليكم) ومثله كثير في القرآن.
[مسألة]
وربما قالوا لما ذا أعاد (الرحمن الرحيم) وقد تقدم من قبل.
وجوابنا ان ذلك ليس بتكرار لأن المراد بالأول توكيد الاستعانة والمراد بالثاني توكيد الشكر له فلذلك كرر.
[مسألة]
पृष्ठ 9
قالوا ما معنى قوله (مالك يوم الدين) ويوم الدين ليس بموجود حالا وكيف يملك المعدوم وما فائدة ذلك. وجوابنا ان المراد القادر على (ذلك اليوم) الذي فيه الجنة على عظم شأنها والنار على عظم امرها وفيه المحاسبة والمساءلة فنبه تعالى بذلك على انكم ان شكرتم وقمتم بالواجب فلكم من الفوز في الآخرة بالثواب نهاية ما تتمنون فصار ذلك ترغيبا في الشكر والعبادة وزجرا عن خلافه واذا قرئ «مالك» فالمراد به القدرة على يوم الدين واذا قرئ «ملك» فالمراد به القدرة على العباد الذين يتصرف تعالى فيهم بما يوجب الانقياد له.
[مسألة]
قالوا ما معنى (اهدنا الصراط المستقيم) وعندكم ان الله تعالى قد هدى الخلق بالادلة والبيان فما وجه هذا الطلب والدعاء. وجوابنا على ذلك انه تعالى وان مكن وأقدر المكلف ففي قدرته تعالى من زيادة البيان والادلة والالطاف والعصمة ما ينتفع به العبد اذا أمده بها والعبد يجوز ذلك فيطلبه وهذا كما قال تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى) فأمر تعالى العبد أن ينقطع الى الله تعالى فيقول (إياك نعبد) وان لا يكذب في ذلك فيكون مراده بالصلاة الرياء والسمعة وأن لا يستعين الا بالله تعالى وأن يستمد من جهته الالطاف والمعونة على الصراط المستقيم الذي هو دينه وطريقة من أنعم الله عليه لا طريقة الكفار الذين ضلوا فغضب الله عليهم.
पृष्ठ 10
سورة البقرة
[مسألة]
قالوا ما الفائدة في قوله تعالى (الم) ولا يعقل من ذلك في اللغة فائدة وكيف يجوز ذلك والقرآن عربي والعرب لا تعرف ذلك. وجوابنا ان الله تعالى جعل ذلك اسما للسورة وعلى هذا الوجه يقال سورة (ق) (وحم) السجدة وسورة (طه) ولله تعالى ان يجعل لهذه السورة اسما وهذا مروي عن الحسن البصري وغيره ومتى قيل فقد حصل في ذلك اشتراك ولا بد من ضم زائدة اليه فلا فائدة إذا في ذلك. فجوابنا أن الألقاب كزيد وعمرو يقع فيها أيضا الاشتراك ثم تمييزها بزيادة وقيل أيضا في جوابه ان فائدة ذلك أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التي تقدرون عليها «ومع» ذلك يتعذر عليكم هذا النظم بفضل رتبته فاعلموا انه معجز.
[مسألة]
ومتى قيل ولما ذا قال تعالى (ذلك الكتاب) ولم يقل هذا الكتاب. فجوابنا أنه جل وعز وعد رسوله إنزال كتاب عليه لا يمحوه الماء فلما أنزل ذلك قال (ذلك الكتاب) والمراد ما وعدتك ولو قال هذا الكتاب لم يفد هذه الفائدة.
[مسألة]
पृष्ठ 11
قالوا ما معنى (لا ريب فيه) وقد علمتم أن خلقا يشكون في ذلك فكيف يصح ذلك وان أراد لا ريب فيه عندي وعند من يعلم فلا فائدة في ذلك. فجوابنا ان المراد انه حق يجب أن لا يرتاب فيه وهذا كما يبين المرء الشيء لخصمه فيحسن منه بعد البيان أن يقول هذا كالشمس واضح وهذا لا يشك فيه أحد وهذا كما يقال عند اظهار الشهادتين ان ذلك حق وصدق وان كان في الناس من يكذب بذلك.
[مسألة]
قالوا لما ذا قال تعالى (هدى للمتقين) والهدى عندكم الدلالة وهو دلالة لكل فلما ذا خص المتقين دون غيرهم هلا دل ذلك على ان الهدى هو نفس الايمان. فجوابنا أنه تعالى قد بين في غير موضع ان القرآن هدى للناس فعم الكل وإنما خص المتقين هاهنا من حيث اختصوا بقبوله وهذا كقوله تعالى (إنما أنت منذر من يخشاها) فخصهم من حيث يخشون عند الانذار وان كان صلى الله عليه وسلم كان منذرا للكل كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) وقد ثبت ان ذكر الواحد لا يدل على ان غيره بخلافه.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (الذين يؤمنون بالغيب) ما الغيب الذي مدحهم بالايمان به أولستم تقولون (لا يعلم الغيب إلا الله). وجوابنا ان هذا الغيب يراد به الغائبات التي قام الدليل على صحتها كأمر الآخرة والجنة والنار والملائكة والحساب فمدح المتقين ووصفهم بأنهم يؤمنون بذلك (ويقيمون الصلاة) أي يدومون عليها ويؤدونها بحقها (ومما رزقناهم ينفقون) على وجه البر ولا ينفقون من الحرام الذي جعله الله رزقا لغيرهم فغصبوه ثم قال (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) حتى يؤمنون بكل الرسل ولا يفرقون بينهم (وبالآخرة هم يوقنون) فلا يدخلهم شبهة في ذلك: ثم بين ان هؤلاء هم المفلحون الظافرون بثواب الله فدل بذلك على ان الثواب انما يكون بهذه الطريقة ورغب في التمسك بها وزجر عن خلافها وقد قيل ان في جوابه أن المراد أنهم يؤمنون بظهر الغيب باطنا كما يؤمنون ظاهرا وهذا أيضا حسن.
[مسألة]
पृष्ठ 12
يقال ما معنى قوله (أولئك على هدى من ربهم) ومعلوم ان الهدى ان كان دلالة فكل المكلفين فيه سواء فهلا دل ذلك على انه نفس الايمان. فجوابنا ان المراد انهم على بصيرة مما تعبدهم به وتقبل الهدى يسمى هدى كما ان الجزاء على الامتثال للدلالة يسمى هدى وهذا كقوله تعالى في أهل النار انهم قالوا (لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا) وارادوا بذلك النعيم والثواب.
[مسألة]
يقال ما معنى قوله (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ومعلوم ان في الكفار من قرأه وآمن. فجوابنا أنه أراد قوما من الكفار مخصوصين في أيامه صلى الله عليه وسلم علم الله تعالى ان الصالح ان يخبر الرسول بأمرهم لكيلا يتشدد في استدعائهم ولا يغتم ببقائهم على الكفر وذلك كقوله تعالى (لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر) وهذا من العموم الذي يراد به الخصوص. وربما سألوا فقالوا اذا كان قد أخبرنا بأنهم لا يؤمنون فكيف كلفهم وكيف يقدرون على الايمان الذي لو فعلوه لكان تكذيبا لخبر الله تعالى. فجوابنا ان ذلك انما يدل على انهم لا يؤمنون اختيارا وان قدروا عليه فلذلك ذمهم وقد يقدر القادر على ما لا يختاره كما أنه تعالى يقدر على افناء الدنيا في هذا الوقت وان كان لا يختاره ولو كان ايمانهم اذا قدروا عليه قدرة على تكذيب الله لكان الله تعالى اذا قدر على اقامة القيامة الآن وقد أخبر بأنه لا يقيمها الا بعد علامات أوجب أن يكون قادرا على تكذيب الله وكان يجب اذا قدر على الضدين وإنما يفعل أحدهما أن يكون قادرا على تجهيل نفسه وهذا كلام من لا يعرف التكذيب والتجهيل وذلك ان التجهيل ما يصير به المرء جاهلا دون غيره والتكذيب ما يصير به كاذبا أو يتبين ذلك من حاله دون غيره.
[مسألة]
पृष्ठ 13
في ذلك أيضا يقال اذا كان قد علم أنهم يكفرون فلما ذا حسن أن يكلفهم مع علمه بأنهم لا يختارون الا ما يؤديهم إلى النار. وجوابنا انه انما علم انهم لا يختارون الايمان مع تمكنهم من اختياره وتسهيله سبيلهم إلى اختياره بكل وجه فانهم انما يؤتون من قبل أنفسهم وأنهم لو اختاروا الوصول الى ثواب عظيم لصح ذلك منهم ويفارق حالهم حال من منع من الايمان وانما يقبح ذلك على مذهب من يقول انه تعالى يخلق فيهم هذه الأفعال من المجبرة.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) وهذا يدل على أنه قد منعهم من الايمان ومذهبكم بخلافه وكيف تأويل الآية. وجوابنا ان للعلماء في ذلك جوابين، أحدهما أنه تعالى شبه حالهم بحال الممنوع الذي على بصره غشاوة من حيث أزاح كل عللهم فلم يقبلوا كما قد تعين للواحد الحق فتوضحه فاذا لم يقبل صح أن تقول انه حمار قد طبع الله على قلبه وربما تقول انه ميت وقد قال تعالى للرسول (إنك لا تسمع الموتى) وكانوا أحياء فلما لم يقبلوا شبههم بالموتى وهو كقول الشاعر.
لقد اسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ويبين ذلك انه تعالى ذمهم ولو كان هو المانع لهم لما ذمهم وانه ذكر في جملة ذلك الغشاوة على سمعهم وبصرهم وذلك لو كان ثابتا لم يؤثر في كونهم عقلاء مكلفين. والجواب الثاني ان الختم علامة يفعلها تعالى في قلبهم لتعرف الملائكة كفرهم وانهم لا يؤمنون فتجتمع على ذمهم ويكون ذلك لطفا لهم ولطفا لمن يعرف ذلك من الكفار أو يظنه فيكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر وهذا جواب الحسن رحمه الله ولذلك قال تعالى (ولهم عذاب عظيم).
[مسألة]
पृष्ठ 14
يقال كيف يجوز أن يقول (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) وذلك يدل على الماضي ثم ينفي بعد ذلك بقوله (وما هم بمؤمنين) فجوابنا انه أراد تعالى المنافقين الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر وقص تعالى خبرهم لعظم مضرتهم في ثلاث عشرة آية كما أنه ذكر صفة المؤمنين في أربع آيات وصفة الكفار في آيتين فقد كانت مضرتهم أعظم في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم فكشف تعالى بذلك حالهم لئلا يغتر بهم ولكي يتحرز من مخالطتهم ودل ذلك على ان اظهار الايمان ليس بايمان وان المعتمد على ما في القلب من المعرفة وعلى هذا الوجه قال صلى الله عليه وسلم الايمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح.
[مسألة]
يقال كيف قال تعالى (يخادعون الله والذين آمنوا) ومعلوم ان الخداع منهم وان جاز على المؤمنين الذين لا يعرفون باطنهم فلا جائز على الله تعالى فكيف جاز أن يقول ذلك. وجوابنا ان فعلهم لما كان فعل المخادع قال تعالى ذلك وان لم يكن خداعا لله في الحقيقة ولذلك قال تعالى بعده (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) لأن الذي فعلوه عاد بأعظم الضرر عليهم من حيث ينالهم ذلك بغتة وهم لا يشعرون.
[مسألة]
ان قيل ما معنى قوله تعالى (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) والمراد في قلوبهم كفر ونفاق فزادهم الله ذلك أو ما يدل على ان الكفر من خلق الله ومن قبله. فجوابنا أنه تعالى ذكر المرض ولم يذكر الكفر فحمله على ان المراد به الكفر غلط والمراد بذلك أن في قلوبهم غما أو حسدا على ما يخص الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمهم ثم قال تعالى (فزادهم الله مرضا) أي غما بما يفعله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالا بعد حال فقول من قال بحمله على الكفر غلط عظيم ولذلك قال (ولهم عذاب أليم) فان كان الله تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم فأي ذنب لهم حتى يعذبهم وكيف يضيف اليهم فيقول (بما كانوا يكذبون) وعلى هذا وصفهم تعالى بأنهم مفسدون في الارض وانهم السفهاء بعد ذلك وانهم (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم).
[مسألة]
पृष्ठ 15
قالوا كيف وصف تعالى نفسه بالاستهزاء فقال (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون). فجوابنا أن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى لأنه فعل مخصوص يفعله من لا يمكنه التوصل الى مراده إلا بهذا الجنس فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما أراد بذلك أنه يعاقبهم ويجازيهم على استهزائهم كما قال تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) وما يفعله الله تعالى لا يكون سيئة ولا اعتداء ويقول العرب الجزاء بالجزاء والاول ليس بالجزاء وقال صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وانما أجرى اللفظ على جزاء الاستهزاء مجازا واتساعا. فان قيل ما معنى قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) أفتجوزون على الله تعالى ان يمدهم في كفرهم وان يريد ذلك. وجوابنا أنه تعالى أراد بمدهم في جزاء طغيانهم لا نفس طغيانهم ويحتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم في ذلك لقلة قبولهم ويكون ذلك مآل أمرهم وعلى هذا الوجه ذمهم بقوله (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) فالمراد بقوله (ويمدهم) أنه يبقيهم وهذا حالهم ويبين تعالى ذلك بأن (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) فان ظلمة المكان وقد كان فيه الضياء ثم فقد أعظم من الظلمة الدائمة.
[مسألة]
ان قيل كيف يصح أن يقول تعالى (صم بكم عمي) ولم يكونوا كذلك في الحقيقة. فجوابنا انه تعالى شبه حالهم من حيث لم ينتفعوا بما يسمعون ويبصرون ويقولون بحال من هذا وصفه وذلك بين في اللغة فيمن لم يقبل ولا ينتفع والبيان انه يوصف بذلك على ما قدمنا من انه ربما يوصف بأنه ميت وبأنه بهيمة وبأنه حمار وقد تقدم ذكر ذلك وعلى هذا الوجه يقال حبك للشيء يعمي ويصم والمراد يصيره الى رتبة الأعمى والأصم في انه لا ينتفع ويتعدى وجه الصواب.
[مسألة]
पृष्ठ 16
فان قيل كيف يقول تعالى (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) ولفظة أو يستعملها من شك في الامور دون العالم ويتعالى الله عن هذا الوصف: (فجوابنا) انه تعالى كما يجوز أن يمثلهم بشيء يجوز أن يمثلهم بشيء آخر في باب الضلالة وليس المراد الا الجمع بين الامرين وقد يقال لفظة أو فيما طريقة الجمع في ذلك كقوله تعالى (لا جناح عليكم إن) (تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) أراد الجمع وكذلك قوله (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن) أراد الجمع وقد يقال جالس الحسن أو ابن سيرين والمراد الجمع واذا جاز في الواو أن يراد به معنى أو كقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) فكذلك يجوز أن يذكر أو ويراد به الجمع.
[فصل] ثم انه تعالى بعد وصف المنافقين بعث المكلفين على عبادته فقال (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) ولا يصح أن يقول ذلك الا مع الامر بمعرفة الله تعالى ليصح أن يعبد ومع اقامة الدلالة التي يصل بالنظر فيها الى معرفة الله تعالى وذلك ما نبه عليه بقوله (الذي خلقكم والذين من قبلكم) ونبه بذلك على ان العبادة انما تليق به لانه خالقنا والمنعم علينا ونبه بذلك على بطلان التقليدي لأنه لا يصح أن يكون طريقا لمعرفته ونبه بذلك على انه ليس بجسم وأنه انما يعرف بفعله وخلقه.
[مسألة]
पृष्ठ 17
ان قيل فما معنى قوله تعالى (لعلكم تتقون) ولعل انما يستعمله المتكلم بمعنى الشك: فجوابنا ان المروى عن ابن عباس والحسن ان لعل وعسى من الله واجب فالمراد لكي تتقوا ولكي تشكروا وتفلحوا وذلك أحد ما يدلنا على انه تعالى لا يريد من المكلف الا الطاعة التي هي التقوى والشكر وما شاكل ذلك وعلى هذا الوجه قال الله تعالى لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) لانه أراد بذلك تذكره وخشيته وهو الذي يفهم في اللغة واذا ذكر في غير ذلك فهو مجاز. وقد أجاب بعض العلماء بان المخاطب اذا كان لا يعلم هل يختار ذلك أو لا يختاره صح من المخاطب ان يخاطبه بذلك ليترجاه فمن حيث كان المخاطب مترجيا غير قاطع جاز ان يخاطب بذلك فامر تعالى بعبادته ثم قال في آخره (فلا تجعلوا لله أندادا) وهذا هو معنى الاخلاص أي اعبدوه ووحدوه ثم نبه تنزيه القرآن (2) على وجوب الاعتراف بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) فقد أوتيتم الفصاحة التامة فان كان غير صادق ولكم الحمية والآنفة وقد الزمكم طاعة الله والانقياد فما الذي يقعدكم عن ان تأتوا بمثله وهلا دل قعودكم عن ذلك على ان القرآن معجز يدل على صدقه في النبوة وبين انهم كما لم يأتون بمثله فكذلك حالهم أبدا بقوله (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا).
[مسألة]
يقال لم قال تعالى (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) وكيف تكون الحجارة وقودا وكيف يصح في الناس ان يكونوا وقودا لها وهم لا يحترقون. فجوابنا انه تعالى نبه على عظمها وانها لذلك تحترق بالحجارة وليس اذا كان الناس وقودها وجب ان يفنوا لانه تعالى يمنع وصول النار الى المقاتل وانما تحترق ظواهرهم كما قال عز وجل (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) أعاذنا الله منها بالتقوى.
[مسألة]
قالوا فقد قال تعالى في هذه النار (أعدت للكافرين) فهلا دل على ان غير الكفار لا يدخلونها. فجوابنا ان للنيران دركات فهذا صفة واحدة منها وبعد فليس اذا ذكر الله تعالى انها معدة للكافرين دل على نفي غيرهم وعقب ذلك بقوله (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) وبين ان لهم فيها أزواجا مطهرة من الامور التي ربما تنفر في دار الدنيا من ضروب ما يتأذى به.
[مسألة]
पृष्ठ 18
ان قيل فما معنى قوله تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها). فجوابنا أنه تعالى لما ضرب مثل آلهتهم بالذباب (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) وضرب أيضا مثلهم بالعنكبوت وضعف نساجته قال الكفار طعنا في ذلك كيف يضرب تعالى مثل آلهتنا بهذه المحقرات فأنزل الله تعالى هذه الآية وأراد أنه انما يضرب المثل بما هو أليق بالقصة وأصلح في التشبيه فاذا ضرب مثلهم في باب الضعف كان ذكر الحقير في المنظر من الحيوان أحسن موقعا ومعنى قوله (بعوضة فما فوقها) أي في الصغر والضعف وعجائب الحكمة في البعوضة وصغار الحيوان أزيد من عجائبهما في كبار الحيوان لمن تأمل.
[مسألة]
पृष्ठ 19
قالوا فقد قال تعالى (وأما الذين كفروا فيقولون ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) وذلك يدل على أنه تعالى يضل ويهدي لا كما تقولون بأنه تعالى لا يجوز عليه ذلك «قلنا» انا انما ننكر أن يضل تعالى عن الدين بخلق الكفر والمعاصي وارادتها كما ننكر أن يأمر بها ويرغب فيها ولا ننكر أن يضل من استحق الضلال بكفره وفسقه وقد نص الله تعالى على ما نقوله في تفسير هذه الآية ودل عليه لانه قال (وما يضل به إلا الفاسقين) فنبه بذلك على أن قوله «يضل به كثيرا» أريد به يضل بالكفر به كثيرا والا كان لا يكون لقوله (وما يضل به إلا الفاسقين) معنى لان غير الفاسقين يضلهم على قول القوم ثم انه تعالى وصف من يضله فقال «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون» فبين تعالى أنه يضلهم بهذه الخصال لا أنه يبدؤهم بالضلالة وعلى هذا الوجه قال «فريقا هدى» أي الى الثواب «وفريقا حق عليهم الضلالة» بين كيف حق ذلك فقال «إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله» وعلى هذا الوجه قال «ويضل الله الظالمين» فخصهم بذلك وقال «ومن يؤمن بالله يهد قلبه» أي الى الثواب وقال (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم) (ربهم بإيمانهم) وقال (والذين اهتدوا زادهم هدى) وقال (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) أي بالالطاف والتأييد وقال تعالى (إن علينا للهدى) أي بالادلة وقال (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) أي بالأدلة وقال (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) وقال تعالى (ومن يهد الله فهو المهتد) أي بقبوله لذلك وقال (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا) وذم تعالى الشيطان وفرعون والسامري بما كان منهم من الضلال فالاضلال من الله تعالى مخالف لإضلالهم لا كما يقوله المجبرة والقدرية الذين يضيفون تقدير الفواحش إلى ربهم فنقول إنه تعالى هدى الخلق بالأدلة والبيان ويهدي من آمن بالثواب خاصة ويهديهم أيضا بالالطاف ونقول انه يضل من استحق العقاب بالمعاقبة وبأن يعدلهم عن طريق الجنة وبأن لا يفعل بهم من الألطاف ما ينفعهم ولا نقول انه يضل عن الدين بأن يخلق الضلال فيهم ولا انه يريده ولا انه يدعوهم اليه لان ذلك هو الذي يليق بالشياطين والفراعنة وانما قال تعالى (يضل به كثيرا) وأراد يعاقب بالكفر به (ويهدي به كثيرا) أي يثيب بالايمان به كثيرا ويجوز إضافة هذا الضلال إلى نفسه وقد قيل أيضا انهم لما ضلوا عنده جاز أن يضاف إلى نفسه كما قال تعالى (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) ثم قال من بعد (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) فأضاف ايمانهم وكفرهم إلى السورة لما آمن بعضهم عند نزولها وكفر بعضهم فكذلك أضاف هذا الضلال إلى نفسه لما كفروا بالمثل عند نزوله ثم بين تعالى بقوله (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) على أن الكفر من قبلهم وانهم قد كفروا نعمة ربهم وعدد نعمه عليهم معظما لذنبهم وكفرهم لأن عظم النعمة تعظم معصية المنعم ونعم الله علينا لا يدانيها نعم فلذلك يكون اليسير من المعاصي عظيما كما يكون اليسير من عقوق الوالد البار عظيما ودل بذلك على بطلان قول من يقول خلق الله فريقا للكفر وفريقا للايمان لان ذلك لو صح لكان لا نعمة له على من خلقه للكفر والنار.
[مسألة]
قالوا ما معنى قوله تعالى (ثم استوى إلى السماء).
وجوابنا ان المراد ثم قصد خلق السماء لأن الاستواء عليه تعالى على الحد الذي يجوز على أشخاص لا يجوز ولذلك قال تعالى بعده (فسواهن سبع سماوات).
[مسألة]
ان قيل أنتم تنزهون الملائكة عن المعاصي فكيف قال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) أفليس هذا القول منهم كالاعتراض على ربهم.
وجوابنا انه تعالى أعلمهم طريقهم في العبادة وانه سيسكن الارض من يقع من بعضهم الفساد والقتل فلما قال تعالى وقد صور آدم وخلقه (إني جاعل في الأرض خليفة) قالوا على وجه المسألة والتعرف (أتجعل فيها من يفسد فيها) وعلى هذا الوجه يحسن ذلك ولذلك جعل تعالى جوابهم (إني أعلم ما لا تعلمون) فبين سبحانه وتعالى انه العالم بالمصالح المستقبلة فاذا كان في معلومها ما يظهر من الفضل والعلم من الانبياء والمؤمنين كان ذلك أصلح في الحكم.
[مسألة]
पृष्ठ 21
قالوا أفما يدل قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) على ان الامر بما لا يطاق يحسن لأن الملائكة لم تقدر على هذه الأسماء ولذلك قالت (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا). وجوابنا ان ذلك جعله الله تعالى معجزة لآدم ودلالة على نبوته من حيث عرفه أسماء المسميات جميعا فعرفت الملائكة بذلك انه نبي وعظمته وجعل الله تعالى ذلك مقدمة الى ما أمرهم به من تعظيمه بقوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) والمراد عظموه بتوجيه السجود اليه وان كنتم تعبدون الله تعالى بذلك ولذلك قال تعالى (فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) وانه تعالى قد عرف الملائكة بما كتب في أم الكتاب من الآجال والأرزاق وغيرهما إنه عالم بذاته بكل شيء فقال لهم (ألم أقل لكم) ألم أدلكم منبها على ان الذي خص به آدم من الاسماء لم يخصهم به ارادة لاظهار نبوته وتعظيمه وقوله (أنبئوني) هو على وجه التحدي وتقدير عجزهم ولذلك كان جوابهم (لا علم لنا إلا ما علمتنا) ولذلك قال (إن كنتم صادقين) ومن لا علم له لا سبيل له الى العلم بانه صادق في الاخبار عما لا يعلم ومعلوم انهم لو أخبروا لجاز أن يكونوا كذبة ولا يجوز أن يأمر تعالى بما هذا حاله.
[مسألة]
قالوا كيف استثنى تعالى ابليس من الملائكة وهو من الجن في قوله (فسجدوا إلا إبليس) وجوابنا انه لما دخل معهم في الأمر له بأن يسجد لآدم وأريد منه ذلك بهذا القول فصح الاستثناء لأن الاستثناء من جهة المعنى لا يكون الا كذلك وذم الله تعالى له بأنه لم يسجد وتكفيره اياه يدل على قدرته على السجود بخلاف قول القدرية انه تعالى يأمر بما لا يقدر العبد عليه وقوله تعالى في وصف ابليس (أبى) يدل أيضا على بطلان قولهم لانه لا يقال أبى الا اذا قدر على الشيء ثم امتنع منه اذ أبى فعل نفسه.
[مسألة]
पृष्ठ 22
يقال كيف أسكن تعالى آدم وحواء الجنة وكيف أذلهما الشيطان عنها وكيف نفذ قول ابليس عليهما فخالفا أمر الله تعالى وكيف فعلا ما عوقبا عنده على الاخراج من الجنة. وجوابنا انه لا يمتنع في سكنى تلك الجنة أن يكون صلاحا اذا لم يفعلا أمرا من الأمور وغير صلاح اذا فعلا ذلك فلما وقع منهما أكل الشجرة التي هي من جنس ما نهى الله تعالى عنه ويقال انها العنب ويقال التين ويقال الحنطة والأول أقرب أخرجهما تعالى من تلك الجنة ولم يخرجهما عقوبة لان معاصي الانبياء لا تكون الا صغائر ولو فعلوا كبائر لحسن ذمهم ولعنهم والنبوة تمنع من ذلك فلما عصيا كان الصلاح اخراجهما الى الارض لما في المعلوم من العواقب الحميدة وكان ابليس يظهر لهما فوسوس اليهما وكان عندهما أن الله تعالى انما نهى عن شجرة بعينها وأراد الله تعالى ذلك الجنس كله فذهلا عن هذا التأويل ولذلك قال تعالى (فنسي ولم نجد له عزما) ولو علما ان النهي عام في ذلك الجنس لم يقدما على اكل ذلك ثم من بعد تاب الله عليهما فزال تأثير تلك المعصية فلذلك قال تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وكان الله تعالى يعظم محل الانبياء لعلمهم كيف يتوبون وما الذي يؤدون من الكلمات ثم انه تعالى ذكر من يعد نعمه على بني اسرائيل وذكر أولادهم نعمة على الآباء لأن النعمة على الآباء بحيث تخلصوا من قتل الأعداء اياهم نعمة على الاولاد الذين لو لا ذلك الخلاص لم يوجدوا فعلى هذا الوجه خاطبهم بهذه النعم وأمرهم بالوفاء بعهده لقوله تعالى (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) وهو المجازاة (وإياي فارهبون) أي يجب أن تخافوا معصيتي فان ذلك يوقعكم في العقاب وآمنوا بما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فقد كانوا يطمعون في الضعفاء فيضلونهم ويصرفونهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) ثم قال (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) فدل بذلك على وجوب اظهار الحق بالدعاء اليه ودل به على ان من لبس الحق بالتشبيه فقد أقدم على عظيم وبين ان المرء كما يجب أن يدعو الى الخير يجب أن يتمسك به ومن لم يتمسك به لم يؤثر دعاؤه للغير فقال (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا) (بالصبر والصلاة) فجمع بذكر الصبر جميع ما منع تعالى منه وبذكر الصلاة جميع ما أمر به وبين ان الصلاة كبيرة (إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي ثواب ربهم فيعلمون المجازاة فيعظم خوفهم ويعلمون انهم اليه راجعون. وبين لبني اسرائيل ولنا بقوله (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) ان من حكم ذلك اليوم ان المرء ينتفع بعمله دون هذه الامور وان أهل العقاب لا يتخلصون الا بما يكون منهم في الدنيا من التوبة وتلافي المعصية ثم قال عز وجل (وإذ نجيناكم من آل فرعون) فمن عليهم بما كان منه تعالى من نجاة آبائهم على ما ذكرنا وذكر نعمه حالا بعد حال إلى قوله (إن الذين آمنوا والذين هادوا) وقوله في خلال هذه الآيات (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) يدل على أن الرؤية على الله تعالى لا تجوز وقوله (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) يدل على قدرة الله تعالى على الأمور العجيبة وان عصا موسى كانت من الآيات العظام فمرة كانت تصير بيده ثعبانا فيتلقف إفك السحرة ومرة كان يضرب بها على الحجر فينفجر منه من الماء ما يحتاجون اليه ومرة كان يضرب بها على البحر فينفلق ويصير لهم طريقا يبسا ولما ذكر قوله (وأني فضلتكم على العالمين) ظن بعضهم ان بني اسرائيل أفضل من سائر الانبياء وليس الامر كذلك وانما أراد به فضلهم على عالمي زمانهم وكذلك كانوا في أيام موسى صلى الله عليه وسلم دينا ودنيا.
[مسألة]
وربما قالوا في قوله تعالى (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) كيف يدخل قتل النفس في التوبة. وجوابنا انه تعالى أوجب أن يقتل بعضهم بعضا لعلمه بأن ذلك صلاحهم لا ان ذلك من شروط التوبة لان التوبة مقبولة اذا صحت بدون غيرها.
पृष्ठ 24
[مسألة]
وسألوا عن معنى قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله) فقالوا كأنه قال ان الذين آمنوا من آمن منهم وهذا كالمتناقض. وجوابنا ان المراد في الذين آمنوا الاستمرار على ايمانهم وفي الذين هادوا الانتقال الى الايمان وذلك صحيح وقد قيل ان المراد بأن الذين آمنوا من أظهر الاسلام والمراد بمن آمن منهم كمال الايمان وذلك مستقيم.
[مسألة]
وقد قيل كيف قال (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ونحن نعلم ان المؤمنين قد يخافون ويحزنون. وجوابنا انه تعالى أراد ذلك في الآخرة كما قال تعالى (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) وقال (لا يحزنهم الفزع الأكبر) وكل ذلك ترغيب في التمسك بالايمان والطاعة.
[مسألة]
पृष्ठ 25
قالوا في قوله تعالى (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) كيف يأمر بذبح بقرة لها صفة ثم باخرى لها صفة أو ليس ذلك يدل على البداء «وجوابنا» أنه أمر أولا بذبح بقرة على أي صفة كانت فلما عصوا كان الصلاح التشديد عليهم ثم كذلك حالا بعد حال الى أن أمرهم آخرا بذبح بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها فيقال طلبوها فاشتروها بمال عظيم لأنه لم يوجد بتلك الصفة سواها وكان السبب في ذلك ما بينه بقوله (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى) وكان هناك قتيل وكتموا القاتل فأخفوه فأراد الله تعالى اظهاره باحياء القتيل عند ضربه ببعض البقرة ليذكر ذلك المقتول قاتله فيقام عليه حد الله تعالى والله تعالى وان كان قادرا على احياء ذلك القتيل من دون أن يضرب ببعض البقرة فقد كان لطفا لهم لان عادتهم كانت التقرب بذبح البقرة كما تعبدنا الله تعالى بذبحها في الاضحية وكان ذلك من معجزات موسى عليه السلام.
[مسألة]
يقال وقد قال تعالى (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) كيف يجوز أن يفضل قلبهم في القسوة على الحجارة والحجارة لا قسوة فيها أصلا وكيف قال (وإن منها لما يهبط من خشية الله) وذلك لا يصح على الحجارة. وجوابنا ان ذلك على وجه المثل ضربه الله تعالى لقلبهم في القسوة لان الظاهر ان القسوة تكون لصلابة القلب فكذلك القول في الخشية أورده على وجه المثل وقد قيل أن المراد ولو جعل الحجز حيا لكان يحصل فيه من الخشية ما ليس في قلبهم والاول أقوى لأن الحجارة اذا جعلت حية لا تكون حجارة.
[مسألة]
पृष्ठ 26
قالوا كيف يقول تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) يعني اليهود ثم يقولون من بعد (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) فنفى في الاول وأثبت في الثاني وذلك تناقض. وجوابنا ان المراد (أفتطمعون أن يؤمنوا) ايمانا ظاهرا وباطنا والذي عناه في قوله (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) ما أوردوه ظاهرا على وجه النفاق فالكلام مستقيم ولذلك قال (وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) فذمهم بذلك على هذه الطريقة التي هي النفاق وبين انهم يحرفون التوراة ويشترون بها ثمنا قليلا وانهم كانوا يفعلون ذلك ليستأكلوا ضعفائهم فقال تعالى (فويل لهم مما كتبت أيديهم) ودل بذلك على ان كتمان الحق في الدين يوجب الويل وقوله تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) زجر عظيم لمن يعصى ربه كما ان قوله تعالى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ترغيب عظيم في التمسك بطاعته. ثم ذكر انه أخذ ميثاق بني اسرائيل في أن لا يعبدوا الا الله وفي أن يتمسكوا بسائر ما ذكر بعد ذلك وانهم خالفوا وتولوا الا قليلا وانهم سفكوا الدماء. وبين تعالى ان جزاء ذلك الخزي في الحياة الدنيا وان يردوا الى أشد العذاب وزجر بذلك عن مثل فعلهم وذمهم على التكذيب بالقرآن بقوله (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه) كل ذلك رجز عن فعل مثلهم.
[مسألة]
وقالوا قال تعالى (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) فقالوا كيف يجوز تعليله لإنزاله القرآن بأنهم أعداؤه. وجوابنا انه أراد توكيد ذمهم بانه بالمحل الذي ينزل به الوحي والقرآن لاجله على الرسل وزجرهم بذلك عن عداوتهم ثم بين ان من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فالله عدوه بقوله (فإن الله عدو للكافرين).
[مسألة]
पृष्ठ 27
وسألوا عن قوله (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) وقالوا الآية تدل على ان السحر من عند الله وان الملائكة أنزلت به وعلى انه اذا أدى الى مضرة فبإذن الله. وجوابنا انه تعالى حكى عن اليهود انهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وانهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين والمراد بذلك ما تخبر به الشياطين على ملك سليمان ويكذبون عليه فانهم يتبرءون من نبوته أعني اليهود وينسبوه الى السحر كما حكت الشياطين فقال تعالى (وما كفر سليمان) نزهه عن السحر الذي نسبوه اليه ثم قال (ولكن الشياطين كفروا) بان نسبوا السحر الى سليمان على وجه الكذب وجحدوا نبوته ثم قال تعالى في وصفه الشياطين (يعلمون الناس السحر) على وجه الاضرار ثم قال تعالى (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فبين انه تعالى أنزل ببابل السحر عليهما ليعرفا الناس فيتحرزوا من ضرره لان تعريف الشر حسن ومعه يصح الاحتراز ولذلك قال تعالى (وما يعلمان من أحد) يعني الملكين (حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) فبين ان مرادهم بتعليم السحر لا أن يعمل به ثم قوله تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وهو ذم لمن يتعلم من الملكين فلا يتحرز بل يعمل به فهو بمنزلة أن يعرف من الرسول الزنا وغيره من الفواحش فبعضهم يعمل بذلك فلا يخرج بيان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك من أن يكون حسنا فكأنه قال (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) واتبعوا (ما أنزل على الملكين) فيما يعملون على وجه الذم لهم. وقد روي عن الحسن انه كان يقرأ (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) ويقول كانا علجين أقلفين يأمران بالسحر ويتمسكان به والقراءة المشهورة خلاف ذلك وقد قيل في تأويله ان المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين أي تحكي وتخبر على ملك سليمان وما أنزل على الملكين ببابل فكأنهم كما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين لا أنهما أنزلا ليعلما السحر ويكون قوله (فيتعلمون منهما) أي من السحر والكفر والوجه الأول أقوى.
पृष्ठ 28