قال الأصمعي: هذا خطأ إنما ينفر الناس لثلاث عشرة لأنهم يرمون يوم الأضحى ثم الثاني ثم الثالث، ولا يبقى ليلة الثالث عشر بمنىً أحد. ولما لم يجد سبيلًا إلى تغليطه أكثر فضوله في الاعتراض عليه في نفره، وحدده وشرطه، هَبْهُ أحبَّ أن يقيم سنة، فما فضوله قد وسع الله عليه في ذلك ولم يحرم عليه أن ينفر قبل ذلك أو أن يجاوز. قال الله عزمن قائل: (فمَنْ تَعَجَّلَ في يومين فلا إثمَ عليه لمنِ اتَّقى. واتَّقوا الله) . أي لمن اتقى قتل الصيد. وقالوا لمن اتقى التفريط في كل حدود الحج فموسع عليه في التعجيل في نفره.
فضيّق عليه الأصمعي ما وسعه الله له؛ وخطّأه في إقامة ليلة، فلو أقام فضل ليلتين أو ثلاث بمنىً خلت انه يكفّره. واعتراضه عليه في نفره كاعتراضه عليه في تشبيهاته الصحاح ومعانيه الصِّباح، روى الناس عنه أنه قال في قوله:
إذا غرّقت أرباضُها ثِنيَ بكرةٍ ... بتيهاءَ لم تُصبح رؤومًا سَلوبُها
إنما أراد قول ابن فسوة:
إذا قَلَصت عن سخنةٍ بمفازةٍ ... فليس بمرؤومٍ ولا بمُجلّدِ
فاختنق حتى جاء بهذا البيت، والعصبية في هذا الكلام ظاهرة، وهي أيضًا مسوطة بالكذب، ولو أختنق لمات، ولم يكن ذو الرمة أراد معنى اختنق له قبل أن يأتي به، ومع هذا فقد جهل من أين أخذ قوله:
إذا غرّقت أرباضها ثِنى بكرة
ولو عرفه لم يعدل إلى ما لا يشبهه، وإنما إخذه من قول لبيد:
وامتسائي والثريّا دَنَفٌ ... بشفا الموت ولما تقتحمْ
٤٧ - وقال أبو عمرو في قول أبي النجم في صفة راع:
صُلْبُ العصا جافٍ على التغزُّل ... كالصَّقرِ يجفو عن طِراد الدُّخَلِ
أخطأ في وصفه، وخير مما قال قول الراعي:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
وتبعه الأصمعي في ذلك.
وقد غلطا جميعًا، وأصاب أبو النجم ولا حجة في بيت لأنَّ الراعي، لم يرد أنَّ معه عصا ضعيفة، وإنما أراد ألاّ يضربها بعصا لوجه، ولا يمنعها من وجه تريده، ولا يردّها عن هوى، وقد تبين ذلك بقوله:
حذى إبلٍ أنْ تتبعَ الريح مَرّةً ... يَدَعها ويخفِ الصوتَ حتى تريّعا
وبقوله:
إذا سَرّحت من منزل نام خلفها ... بميثاءَ مِيطان الضحى غيرَ أروعا
فإذا كان يُخفي صوته ولا يزجرها، وإذا سرّحت نام وتركها فأي عصًا تهمُّ، وإنما وجهه: فإنه يتركها ويسرحها، ولذلك قال:
لها أمرُها حتى إذا ما تبوّأت ... بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا
وهذا الذي قصده الراعي هو مذهب العرب في صفة حذاق الرعاة، ولذلك قال الراجز:
إذا الرِّكاب عرفت أبا مطرْ ... مشت رويدًا وأسفّتْ في الشَّجَرْ
وذلك أن أبا مطر لا يندهُها عن الرعي، ولا يزجرها عما تريد، فهي تمشي رويدًا وترعى.
والذى قصده أبو النجم، هو صفة الراعي الجلد المختار لرعي الإبل وحفظها لأنه أراد أنه ذو قوة في بدنه، وإن لم يكن كذلك هلكت إبله وضاعت وعبثت بها الوحوش والسابلة. وقال بعض أهل اللغة: أراد بقوله صُلْب العصا صلب البدن، كما تقول: إنه لصلب القناة. وأنشد للعجاج:
أنْ شابَ رأسي ورأين أني ... حنا قناتي الكِبَرُ المُحنّي
وأنشد:
كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساءُ
وهذا معنى حسن. وإلى الذي قلناه نرجع: والراعي إذا كان جَلْدا صارمًا اختار عصاه من أصلب ما يقدر عليه ونقّحها وشذّبها وحسنها، ولذلك سموا فرسًا من خيلهم بهراوة الأعزاب، والأعزاب: جمع عَزَب، وهو الراعي يَعْزُب بإبله عن الحي أي يتباعد، ولذلك قال الشاعر:
فألقى عصا طلح ونعلًا كأنها ... جَناحُ السُّماني ريشها قد تخدّما
والراعي لا يستجيد العصا لضرب الإبل: وإنما يستجيدها لأشياء من المنافع له فيها، ولذلك قال الحطيئة - لضيف نزل به - وقد قال له: ما عندك يا راعي الإبل؟ قال: عجراء من سَلَم فقال؟ إني ضيف فقال له: وللأضياف أعددتها.
وقد أبان الله تقدسّت أسماؤه عن ذلك بقوله عزَّ من قائل: (وما تِلْكَ بيمينكَ يا مُوسى قال: هِيَ عصايَ أَتَوَكَّأُ عليها وأهُشُّ بها على غَنَمي وليَ فيه مَآرِبُ أُخرى) .
ومما جاه في صلابة عصا الراعي، قول الراجز:
1 / 18