تمهيد ... كتاب التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة ما عني به الشيخ الإمام العالم العلامة صلاح الدين العلائي (٦٩٤- ٧٦١هـ) دراسة وتحقيق الدكتور مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني أستاذ المساعد بقسم الدراسات العليا الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

1 / 9

تمهيد الحمد لله حمدًا كثيرا لا يحصى عدده، ولا يدرك منتهاه، وأشهد أن الله إله فرد صمد، تنزه عن مشابهة خلقه، واستوى على عرشه، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وسع كرسيه السموات والأرض، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، أرسله بالهدى ودين الحق، ولهداية البشرية اجتباه. أما بعد: فإن المتتبع لجهود علماء الأمة الإسلامية منذ عهد الصحابة- ﵃ إلى يومنا هذا يجد من صبرهم على البحث والتتبع لفرائد العلم وفوائده، والغوص في بحور العلم والمعرفة، ما يشيب له الولدان، وتحار العقول في الموازنة بين ذلك الإنتاج الهائل - الذي تجلى في أدق صفاته، من حيث الكيف والكثرة- وبين الوقت المنجز فيه، إنها أزمنة قياسية لن تحطم، تقف العقول مشدوهة أمام تلك الصلابة الحسية المتمثلة في الصبر على عناء البحث، ومشقة التتبع العلميين، والمعنوية المتمثلة في ذلك السد المنيع الواقف أمام التيارات المعادية لشريعة الإسلام بقضها وقضيضها، تلك العداوة المستمرة التي لا تفتأ ترسل حملاتها الشعواء على السنة وأهلها الحملة تلو الحملة، ولكنها تبوء بالفشل، وإن كانت تثير بعض الجدل، لكن سرعان ما يظهر الحق ويعود الكيد إلى نحور أهله. ولو أخذنا مثلا على هذا، جهود العلماء لخدمة السنة النبوية، لرأينا العجب العجاب من أولئك الجهابذة الذين جندوا أفكارهم، وجردوا أقلامهم لصيد كل فائدة من كنوز هذا الدين، فكان من جهودهم، حفظ النصوص، وشرح الألفاظ، وتذليل كل ما يحول دون الفهم، من أجل بيان الحق لطالبيه، والذود عن حرم السنة المقدسة، كي تبقى سيدة الموقف في كل زمان ومكان، ولا غرابة، فالسنة مصدر التشريع الثاني، وهي موضحة لما في كتاب الله من الإجمال، ومفصلة له بأوضح المعاني، فكان الإعداد لحملتها منحة من الله ﷿ لهذه الأمة، فهيأهم لحمل هذا المنصب الجليل، وأمدهم بكل المقومات، النفسية، والفكرية، والعقلية، فكان من ذكائهم ما لا يوصف، ومن حفظهم ما يشبه الخيال، ومن صبرهم ما يثقل الجبال، ومن إيمانهم بشريعة الله وصفاء عقيدتهم، ما يجعلهم يدفعون النفس والنفيس في سبيل إظهار الحق، وقمع الباطل، وهذا ما يلمسه المتتبع لأخبارهم العارف بصفاتهم وأحوالهم، أفكارهم تجوب ميادين العلم والمعرفة دون كلل أو

1 / 11

ملل، فكانت الثمرة إثراء المكتبة الإسلامية بالنفائس في مختلف الموضوعات، الجمع الشامل، التصنيف النوعي، أو الجزئي، أو تتبع النكت، والبحث عن المضايق العلمية، وإيجاد الحلول المناسبة لكل إشكال. ولقد كان العلائي ﵀ أحد العلماء النابهين الأفذاذ، متمتعا بقدر كبير من الحذق والذكاء، استغل هذه المواهب في خدمة العلم الشرعي في مجالاته الواسعة، وأعطى كل جانب علمي عناية خاصة، وصفة من البحث محددة، مقدما بذلك عصارة أفكاره خدمة للشريعة الإسلامية وكانت جهوده ثمرة لا تقدر بثمن، ومن تلك الجهود المشكورة كتابه الذي نقدمه اليوم إسهاما في تزويد المكتبة الإسلامية بالنافع المفيد، وهو عمل لم تظهر ضخامته في الكم، لكنها برزت من حيث الكيف، فتتبع تلك المواضع المشكلة، وإيجاد الحلول العلمية لها، ليس بالأمر السهل، وطرق مثل هذه المضايق لا يقدم عليه إلا الفحول من العلماء فقد تتبع العلائي ﵀ مواضع أشكلت على العلماء في الصحيحين، والسنن الأربعة ولا أراه إلا أجاد وأفاد، وأنبأ عمله عن حذق وقوة ملاحظته، ورأيت من المناسب عدم تحديد تلك المواضع في المقدمة، خشية الإطالة، ورغبة في كون الإبهام دافعًا للقارئ الكريم إلى قراءة هذا المؤلف النفيس، والوقوف على مواطن الإشكال لتمام الفائدة، وليسعد بالمزيد من الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ عند قراءة المؤلف، وهذا في حد ذاته فضل عظيم، يندب إليه القارئ الكريم. وتجدر الإشارة إلى أنني جعلت العمل بعد هذا التمهيد على النحو التالي: ثلاثة أقسام، وخاتمة، وفهارس. القسم الأول: وفيه فصلان: الفصل الأول: ترجمة العلائي. في مباحث. الفصل الثاني: معلومات موجزة عن الكتب التي أورد عليقا التنبيهات ومؤلفيها. القسم الثاني: وفيه فصلان: الفصل الأول: بيان عملي في الكتاب. الفصل الثاني: تسمية الكتاب ووصف نسخته الخطية. القسم الثالث: تحقيق نصوص الكتاب. ثم الخاتمة، والفهارس.

1 / 12

القسم الأول (الفصل الأول) ترجمة العلائي لم يطل المتقدمون البحث في نسب العلائي، فأوائل المترجمين له من أمثال الذهبي ١والحافظ ابن حجر، والسبكي ٢، لم يزيدوا على أن ذكروا اسمه، واسم أبيه، والنسبة، وزاد ابن العماد ٣ اسم الجد. اسمه ونسبه: هو صلاح الدين، أبو سعيد، خليل بن كيكَلدي بن عبد الله، العلائي ٤، الشافعي ٥. ولادته: ولد سنة أربع وتسعين وستمائة (٦٩٤هـ) من الهجرة في دمشق ٦. نشأته: نشأ في مدينة دمشق، وتلقى العلم على علمائها وخطبائها، فختم القرآن العظيم، وسمع الحديث الشريف، وابتدأ قراءة العربية، وغيرها من العلوم ٧. أسرته: لم تفصح المصادر بشيء عن أسرة العلائي، وكل ما تيسر الوقوف عليه في هذا الشّأن، _________ ١ المعجم المختص ص٩٣. ٢ الدرر الكامنة ٢/١٧٩. ٣ طبقات الشافعية ١٠/٣٦. ٤ شذرات الذهب ٦/١٩٠. ٥ نسبه إلى البلدة الأصل لأسرته، والعلاية بلد بالروم، منها الصلاح خليل بن كيكلدي، العلائي، حافظ بيت المقدس (شرح القاموس ١٠/٢٥٣) . ٦ نسبة إلى المذهب. ٧ المعجم المختص ص٩٣، وطبقات الشافعية ١٠/٣٦، والدرر الكامنة ٢/١٧٩، وشذرات الذهب ٦/١٩٠، وغيرها كثير من كتب التراجم.

1 / 13

هو أن العلائي تركي الأصل، وأن أباه كان جنديا ١ وقد نسبه الدكتور زهير الناصر، فقال: "ابن الأمير سيف الدين كيكلدي " ٢ " وهذا يعني أن العلائي من أسرة ذات شأن، لكن يعكر على هذه المعلومة أمران: الأول: عدم الوقوف على المصدر الذي أورد هذه المعلومة. الثاني: أن الأسنوي قال عن العلائي: "منسوبا إلى بعض الأمراء" ٣. وهذا يعني عكس ما تقدم. لكن ثبت أن جده لأمه كان عالمًا ٤، أسهم في تعليم حفيده العلائي ٥. سعيه في طلب العلم: الذي أراه أن العلائي توجه إلى العلم بعناية جده لأمه، وكان الجد عالمًا يحفظ متونًا ويذاكر بفوائد، وما من شك في أنه دفع حفيده لأخذ الرواية والسماع، حتى أصبح على قدر من الوعي والعلم، واستيعاب المعلقات، وسنه لم يجاوز التاسعة، أي أنه بلغ هذه الرتبة العلمية وهو في عمر طالب في السنة الثالثة الابتدائية في زماننا هذا، ولا عجب، فالفارق كبير، فإن الذاكرة غير الذاكرة، والهمة غير الهمة، والتربية غير التربية. إن العلائي في هذا السن كان يتعامل مع صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ففي سنة ثلاث وسبعمائة (٧٠٣هـ) سمع صحيح مسلم على شرف الدين الفزاري، وعمره يومذاك تسع سنوات، وفي سنة أربع وسبعمائة (٧٠٤هـ) سمع صحيح البخاري على علي بن مشرف ٦، وفيها ابتدأ بقراءة العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكوي ٧ كل هذا ولم يجاوز عشر سنوات، وهو يحظى برعاية جده لأمه، وبعد هذا بدأ العلائي استقلاله العلمي في سنة إحدى عشرة وسبعمائة (٧١١هـ) . أي: في السابعة عشرة من عمره، فاشتغل بالفقه والعربية، وطلب الحديث بنفسه، وقرأ فأكثر ٨. _________ ١ المستدرك على معجم المؤلفين ص٢٣٥، ولعل النسبة ليست إلى العلاية من بلاد الروم، بل إلى سكة العلاء ببخارى، والأتراك أصولهم بخارية، انظر معجم البلدان ٤/١٤٤. ٢ انظر دراسته لكتاب: جامع التحصيل. ٣ طبقات الأسنوي ٢/٨٥٨. ٤ الدرر الكامنة ١/٤١. ٥ الدرر الكامنة ٢/١٨٠. ٦ الدرر الكامنة ٢/١٨٠. ٧ الدارس ١/٦٠. ٨ الدرر الكامنة ٢/١٨٠.

1 / 14