[مقدمة التحقيق]
ما أظننى في حاجة الى التعريف بمؤلف هذا الكتاب، فقد وقف العلماء من مؤلفه القيم «مروج الذهب» على رجل الدنيا وعلامتها وإن في مروج الذهب لغناء للناس عن أن يتساءلوا عن فضل الرجل وعلمه الواسع، وإحاطته التي لا حد لها، مع فقهه وأمانته فيما ينقل من أخبار ولن نصل من استعراض كتابيه «مروج الذهب» و«التنبيه والاشراف» على أقل من أنه: عالم، فلكي، حاسب، جغرافى، ففيه، محدث، جدلى، نظار، دياني، مؤرخ، ناسب، أخبارى، فيلسوف، أديب. راوية وأنه كان ملمًا بعدة لغات كثيرة كالفارسية والهندية واليونانية والروميّة والسريانية، وكان ذا حظ وافر من مختلف الثقافات التي وصل إليها علم الإنسان منذ بدأ الله الخلق إلى عصر المسعودي وهو غريب فيما ينقل، مبدع فيما يصف، قصاص بارع، ذو أسلوب جذاب، وعبارة ممتعة، وقد تتلمذ له كثير من العلماء والمؤرخين، وأكثروا من النقل عنه والتوفيق له.
وهو كثير التنقل بالقارئ من تاريخ إلى علم إلى فقه إلى أدب وشعر إلى فلسفة إلى نقد، الى غير ذلك، مما يدل على أنه ذو ثروة علمية فذة ويظهر أن الثروة العلمية التي امتاز المسعودي بها لم يدونها كلا في كتابيه هذين، فحسب بل بعثرها في كتبه، وفرقها بين مصنفاته، تفرقة عادلة، وقسمة راعى بها أن يكون في كل مؤلف منها ما يحببه الى القراء، ويرفع قدره ومنزلته بين العلماء.
مقدمة / 1
فكثيرا ما يرى الباحث في كتب المسعودي أنه يعرض إلى إجمال بعض الموضوعات الطريفة، والأحاديث الغريبة، في مختلف العلوم والفنون في هذين الكتابين، يلم به إلمامة سريعة، ثم يذكر أنه بسطه مفصلا، وذكره بتمامه في كتاب من كتبه، فلا يزال الباحث يبحث عن ذلك الكتاب ضمن ما طبع أو ما لم يطبع، وربما دعاء الشوق إلى البحث في مكاتب أروبا والمكاتب العامة والخاصة ثم لا تكون نتيجة هذا البحث إلا الخيبة والفشل والتحسر الدائم على ما فقد وضاع من تراث الآباء ذلك كان موقفي حين قرأت مروج الذهب للمسعوديّ لأول مرة، ولطالما أمضيت الأيام في البحث، وأضنيت النفس في التنقيب عن كتبه ولا سيما عن كتاب أخبار الزمان الّذي هام به العلماء، لإفراط المسعودي في تقريظه، وإلماعه بما تضمنه من علوم وأبحاث مفيدة- اعتقدت أن في العثور عليه أشباعا لرغباتى العلمية، بل ظننت أن سعادة العالم رهينة بما قد ضمنه ذلك الكتاب من حلول لمسائل علمية معقدة، ومشكلات لم يصل العلم الى حلها، ولا سيما مسائله الفلسفية، وما وراء الطبيعة، وأخباره الظريفة ولم أكن فريدا في الشعور بتلك الحالة، بل ذلك شأن كل من يقرأ كتب المسعودي، أو يلم بها بعض الإلمام ولقد حدثت أن مستشرقا استهواه علم المسعودي، وأسلوبه الجذاب، وفتنته إحالاته العجيبة، فبحث أولا بنفسه، ثم لجأ الى حكومته فأمدته بالمال، وظل يبحث ويتابع البحث، حتى عثر على نسخة من كتاب أخبار الزمان في بلاد شنقيط بصحراء إفريقية، فرام شراءها، وبذل فيها ثمنا عاليا، فما سمحت أنفس الشناقطة ببيعها، ولا رضوا أن يستبدلوها بالذهب الوفير
مقدمة / 2
فلما أعياه شراؤها عرض عليهم أن يصورها بالفتوغرافيا نظير مبلغ من المال جسيم، فما أعاروا عرضه ذلك التفاتا، بل منعوه النظر اليها والاستمتاع بها فرحل عنهم، حقبة من الدهر، ولما استيقن أن القوم قد أنسوا شخصه، وما كان قد جاء لأجله، عاد اليهم خائفا يترقب، وقد عزم على استنساخها فاكترى رجلا منهم عهد اليه باستنساخها.
لكنهم إذ فطنوا إلى الأمر، لم يجدوا جزاء لهذا المستشرق- الّذي أحب العلم، وضحى بوقته وراحته ولذاته في سبيله، واستمات في تحقيق فكرة يصل نفعها إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها- إلا القتل، فذهب ضحية إحالات المسعودي والبحث عن كتبه! وكتابا المسعودي يمثلان العصر الذهبي للإسلام، والثقافات العالية، التي وصل إليها العلماء، وهما جديران بأن يستصحبا وأن لا يملا، وأن يحرص عليهما العلماء والمتأدبون ولقد حرصت الحرص كله على أن أكون سباقا الى طبع هذا الكتاب، برا بالمسعودى وغيرة على كتابه هذا! وقد أحصيت كتبه التي ذكرها في كتاب مروج الذهب، وكتاب التنبيه والاشراف وأحال عليها وأنا أثبتها فيما يلي:
(كتبه التي أشار اليها في كتابه التنبيه والاشراف) ١ كتاب أخبار الزمان، ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية، والأجيال الخالية، والممالك الداثرة ٢ الكتاب الأوسط ٣ كتاب مروج الذهب، ومعادن الجوهر، في تحف الاشراف من الملوك وأهل الديارات
مقدمة / 3
٤ كتاب فنون المعارف، وما جرى في الدهور السوالف ٥ كتاب ذخائر العلوم، وما كان في سالف الدهور ٦ كتاب نظم الجواهر، في تدبير الممالك والعساكر ٧ كتاب الاستذكار، لما جرى في سالف الأعصار ٨ كتاب التنبيه والاشراف، وهو هذا ٩ كتاب نظم الأعلام، في أصول الأحكام ١٠ كتاب نظم الأدلة، في أصول الملة ١١ كتاب المسائل والعلل، في المذاهب والملل ١٢ كتاب خزائن الدين، وسر العالمين ١٣ كتاب المقالات، في أصول الديانات ١٤ كتاب سر الحياة ١٥ رسالة البيان في أسماء الأئمة ١٦ الأخبار المسعوديات ١٧ كتاب وصل المجالس ١٨ كتاب تقلب الدول، وتغيير الآراء والملل ١٩ كتاب الابانة، في أصول الديانة ٢٠ كتاب مقاتل فرسان العجم ٢١ كتاب الصفوة في الإمامة ٢٢ كتاب الاستبصار في الإمامة كتبه التي انفرد بذكرها في كتاب مروج الذهب والاحالة اليها ٢٣ كتاب المبادئ والتراكيب ٢٤ كتاب الرءوس السبعة
مقدمة / 4
٢٥ الزاهي ٢٦ كتاب الدعاوي ٢٧ كتاب الاسترجاع ٢٨ كتاب مزاهر الاخبار، وظرائف الآثار ٢٩ كتاب الرؤيا والكمال ٣٠ كتاب طب النفوس ٣١ كتاب حدائق الأذهان، في اخبار الرسول ٣٢ كتاب القضايا والتجارب ٣٣ كتاب الواجب، في الفروض اللوازم ٣٤ كتاب الزلف ويظهر أن كتبه هذه كلها قد ضاعت ولم يقف العلماء على شيء منها سوى:
(١) مروج الذهب وقد طبع عدة مرات في جزءين، وطبع أخيرا في أربعة أجزاء باشر مراجعتها الأستاذ العلامة الشيخ محمد محيي الدين المدرس بكلية اللغة العربية، فاللَّه يتولى جزاءه وحسن مكافأته وعنى المستشرق باربيه دى مينا بنقله الى اللغة الفرنسية وطبع في باريس سنة ١٨٧٢ في تسعة أجزاء وفي مجلة الضياء (السنة الثانية) مقال للاستاذ عبد الله المراشى ينقد فيه هذه الترجمة كما نقله الى الانكليزية العلامة المستشرق سبرنجر (٢) كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، من الأمم الماضية والممالك الداثرة- يقرب من ثلاثين مجلدا، والمسعودي يكثر من الإشارة اليه، وهذا الكتاب لا يوجد منه الا جزء واحد في مكتبة فينا وفي المكتبة الملكية بالقاهرة كتاب بهذا الاسم، مصور عن نسخة في
مقدمة / 5
المكتبة الأهلية، بباريس في جزء واحد تام وهو كتاب يحوى كثيرا من غرائب العالم وعجائب المخلوقات، وطرائف الأخبار عن سالف الأمم من آدم والأنبياء من ولده والملوك والكهان والحكماء والطلسمات والهياكل والبرابي والسحرة والجن وما حدث من الكوائن العظام كالطوفان وغيره مع ذكره عجائب الجزائر والبحار منذ أنشأ الله الخلق (٣) كتاب التنبيه والاشراف وهو هذا، وقد طبع قبل ذلك في ليدن سنة ١٨٩٤ وهو الجزء الثامن من المكتبة الجغرافية التي عنى بنشرها العلامة المستشرق «دى جوجي» وقد علق عليها وذيلها بملاحظات كثيرة واقتصرت على النافع منها وهو يذكر في مقدمته أن المستشرق ساكى كان قد علق عليها قبل ذلك في عام ١٨١٠ وراجعها وهو يحوى لمعا من ذكر الأفلاك وهيئاتها، والنجوم وتأثيراتها والعناصر وتراكيبها وأقسام الأزمنة وفصول السنة ومنازلها والرياح ومهابها والأرض وشكلها ومساحتها والنواحي والآفاق وتأثيرها على السكان وحدود الأقاليم السبعة والعروض والأطوال ومصاب الأنهار وذكر الأمم السبع القديمة ولغاتها ومساكنها ثم ملوك الفرس على طبقاتهم والروم وأخبارهم وجوامع تاريخ العالم والأنبياء ومعرفة السنين القمرية والشمسية وسيرة الرسول ﷺ وغزواته وسنى هجرته وسير الخلفاء الراشدين والخلفاء من بعدهم، مع التعرض إلى ذكر من كان في عهدهم من ملوك الروم والأفدية التي حدثت في أيامهم في عهد الراشدين والأمويين والعباسيين وتكلم على الخلفاء جميعا إلى سنة ٣٤٥ وهي السنة التي مات فيها وقد تعرض الى ذكر طرف عن ملوك الأندلس (٤) الكتاب الأوسط، ويوجد في مكتبة أكسفورد نسخة يظن أنها هو كما يظن بعض الباحثين أنه وقف على أجزاء منه في بعض مكاتب دمشق
مقدمة / 6
ذكر الغرض من هذا الكتاب
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد للَّه رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين قال أبو الحسن على بن الحسين بن على المسعودي (أما بعد) فانا لما صنفنا كتابنا الأكبر في (أخبار الزمان ومن أباده الحدثان) من الأمم الماضية والأجيال الحالية والممالك والداثرة، وشفعناه بالكتاب الأوسط في معناه ثم قفوناه بكتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) في تحف الأشراف من الملوك وأهل الدرايات ثم أتلينا ذلك بكتاب (فنون المعارف، وما جرى في الدهور السوالف) وأتبعناه بكتاب (ذخائر العلوم، وما كان في سالف الدهور) وأردفناه بكتاب (الاستذكار لما جرى في سالف الاعصار) ذكرنا في هذه الكتب الأخبار عن بدء العالم والخلق وتفرقهم على الأرض والممالك والبر والبحر والقرون البائدة، والأمم الخالية الداثرة الأكابر كالهند والصين والكلدانيين- وهم السريانيون- والعرب والفرس واليونانيين والروم وغيرهم، وتاريخ الأزمان الماضية والأجيال الخالية والأنبياء وذكر قصصهم وسير الملوك وسياساتهم ومساكن الأمم وتباينها في عبادتها، واختلافها في آرائها وصفة بحار العالم وابتدائها وانتهائها واتصال بعضها ببعض وما لا يتصل منها وما يظهر فيه المد والجزر وما لا يظهر، ومقاديرها في الطول والعرض وما يتشعب من كل بحر من الخلجان ويصب إليه من كبار الأنهار وما فيها من الجزائر العظام وما كان من الأرض برا فصار بحرا، وبحرا فصار برًا على مرور الأزمان وكرور الدهور، وما قاله حكماء الأمم في كيفية شبابها وهرمها وعلل جميع ذلك، والأنهار الكبار ومبادئها ومصابها ومقادير
1 / 1
مسافاتها على وجه الأرض من ابتدائها إلى انتهائها، والاخبار عن شكل الأرض وهيئتها وما قالته حكماء الأمم من الفلاسفة وغيرهم في قسمتها، والربع المسكون منها وحدبها وأنجادها وأغوارها وتنازع الناس في كيفية ثباتها وتأثيرات الكواكب في سكانها، واختلاف صورهم وألوانهم وأخلاقهم. ووصف الأقاليم السبعة وأطوالها وعروضها وعامرها وغامرها ومقادير ذلك، ومجاري الأفلاك وهيئاتها واختلاف حركتها، وابعاد الكواكب وجرامها واتصالها وانفصالها وكيفية مسيرها وتنقلها في أفلاكها ومضاداتها إياها في حركاتها ووجوه تأثيراتها في عالم الكون والفساد التي بها قوام الأكوان، وهل أفعالها على المماسة أم على المباينة عن ارادة وقصد أم غير ذلك وكيف ذلك وما سببه؟ وهل حركات الأفلاك والنجوم جميعا طباع أم اختيار؟ وهل للفلك علة طبيعية فاعلة في الأشياء المعلولة التي هو مشتمل عليها ومحيط بها والنواحي والآفاق من الشرق والغرب والشمال والجنوب. وما على ظهر الأرض من عجيب البنيان، وما قاله الناس في مقدار عمر العالم ومبدئه وغايته ومنتهاه، وعلة طول الأعمار وقصرها وآداب الرئاسة وضروب أقسام السياسة المدنية، الملوكية منها والعامية، مما يلزم الملك في سياسة نفسه ورعيته. ووجوه أقسام السياسة الديانية، وعدد أجزائها، ولأية علة لا بد للملك من دين، كما لا بدّ للدين من ملك. ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، ولم وجب ذلك وما سببه؟ وكيف تدخل الآفات على الملك، وتزول الدول، وتبيد الشرائع والملل؟ والآفات التي تحدث في نفس الملك والدين، والآفات الخارجة المعترضة لذلك وتحصين الدين والملك، وكيف يعالج كل واحد منهما بصاحبه إذا اعتل من نفسه أو من عارض يعرض له، وماهية ذلك العلاج، وكيفيته وأمارات إقبال الدول. وسياسة البلدان والأديان والجيوش على طبقاتهم ووجوه
1 / 2
الحيل والمكايد في الحروب ظاهرا وباطنا، وغير ذلك من أخبار العالم وعجائبه وأخبار نبينا ﷺ ومولده. وما ظهر في العالم من الآيات والكوائن والأحداث المنذرات بظهوره قبل مولده، من أخبار الكهان وغيرهم وما أظهر الله سبحانه على يديه من الدلائل والعلامات، وجوامع [١] المعجزات.
ومنشئه ومبعثه وهجرته ومغازيه وسراياه وسوار به ومناسره إلى وفاته، والخلفاء بعده والملوك والغرر من أخبارهم.
وما كان من الكوائن والاحداث والفتوح في أيامهم، وأخبار وزرائهم وكتابهم إلى الخلافة المطيع وذكرنا من كان في كل عصر من حملة الأخبار، ونقلة السير والآثار، وطبقاتهم من عصر الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وغيرهم من ذوى الآراء والنحل والمذاهب والجدل بين فرق أهل الصلاة ومن مات منهم في سنة سنة إلى هذا الوقت المؤرخ.
وذكرنا في كتاب (نظم الأعلام في أصول الأحكام) وكتاب (نظم الأدلة، في أصول الملة) وكتاب (المسائل والملل. في المذاهب والملل) تنازع المتفقهين في مقدمات أصول الدين والحوادث التي اختلفت فيها آراؤهم وما يذهب اليه من القول بالظاهر وإبطال للقياس والرأى والاستحسان في الأحكام إذ كان الله جل وعز قد أكمل الدين وأوضح السبيل وبين للمكلفين ما يتقون في آياته المنزلة وسنن رسوله المفصلة التي زجرهم بها عن التقليد ونهاهم عن تجاوز ما فيها من التحديد، وما اتصل بذلك من الكلام في أصول الفتوى والأحكام، العقليات منها والسمعيات وغير ذلك من فنون العلوم، وضروب الأخبار، مما لم تأت الترجمة على وصفه،
_________
[١] في الاروبية والجرائح المعجزات
1 / 3
ولا انتظمت ذكره رأينا أن نتبع ذلك بكتاب سابع مختصر نترجمه بكتاب (التنبيه والاشراف) وهو التالي لكتاب (الاستذكار، لما جرى في سالف الأعصار) نودعه لمعا من ذكر الأفلاك وهيئاتها والنجوم وتأثيراتها والعناصر وتراكيبها، وكيفية أفعالها، والبيان عن قسمة الازمنة وفصول السنة، وما لكل فصل من المنازل والتنازع في المبتدإ به منها. والاصطقصات وغير ذلك والرياح ومهابها وافعالها وتأثيراتها.
والأرض وشكلها وما قبل في مقدار مساحتها وعامرها وغامرها والنواحي والآفاق وما يغلب عليها وتأثيراتها في سكانها، وما اتصل بذلك وذكر الأقاليم السبعة وقسمتها وحدودها وما قيل في طولها وعرضها، وقسمة الأقاليم على الكواكب السبعة- الخمسة والنيرين- ووصف الإقليم الرابع وتفضيله على سائر الأقاليم: وما خص به ساكنوه من الفضائل التي باينوا بها سكان غيره منها، وما اتصل بذلك من الكلام في عروض البلدان وأطوالها، والأدوية وتأثيراتها وغير ذلك وذكر البحار وأعدادها وما قيل في أطوالها وأعراضها واتصالها وانفصالها ومصبات عظام الأنهار اليها وما يحيط بها من الممالك وغير ذلك من أحوالها وذكر الأمم السبع في سالف الأزمان، ولغاتهم وآرائهم، ومواضع مساكنهم وما بانت به كل أمة من غيرها. وما اتصل بذلك ثم نتبع ذلك بتسمية ملوك الفرس الأول، والطوائف، والساسانية على طبقاتهم وأعدادهم ومقدار ما ملكوا من السنين وملوك اليونانيين وأعدادهم، ومقدار ملكهم، وملوك الروم على طبقاتهم من الحنفاء، وهم الصابئون والمتنصرة، وعدتهم
1 / 4
وجملة ما ملكوا من السنين. وما كان من الكوائن والاحداث العظام الديانية والملوكية في أيامهم وصفة بنودهم وحدودها ومقاديرها وما يتصل منها بالخليج وبحري الروم والخزر وما اتصل بذلك من اللمع المنبهة على ما تقدم من تأليفنا فيما سلف من كتبنا وذكر الأفدية بين المسلمين والروم إلى هذا الوقت وتواريخ الأمم، وجامع تأريخ العالم والأنبياء والملوك من آدم الى نبينا محمد ﷺ. وحصر ذلك وما اتصل به ومعرفة سنى الأمم الشمسية والقمرية وشهورها، وكبسها ونسيئها، وغير ذلك من أحوالها وما اتصل بذلك من التنبيهات على ما تقدم جمعه وتأليفه، وذكر مولد النبي ﷺ ومبعثه وهجرته وعدد غزواته وسراياه وسواربه وكتابه ووفاته والخلفاء بعده والملوك وأخلاقهم وكتابهم ووزرائهم وقضاتهم وحجابهم ونقوش خواتيمهم وما كان من الحوادث العظيمة الديانية والملوكية في أيامهم وحصر تواريخهم إلى وقتنا هذا وهو سنة ٣٤٥ للهجرة في خلافة المطيع منبهين بذلك على ما قدمنا ذكره من كتبنا وانما اقتصرنا في كتابنا هذا على ذكر هذه الممالك لعظم ملك ملوك الفرس وتقادم أمرهم، واتصال ملكهم، وما كانوا عليه من حسن السياسة وانتظام التدبير، وعمارة البلاد، والرأفة بالعباد، وانقياد كثير من ملوك العالم إلى طاعتهم وحملهم اليهم الإتاوة والخراج، وانهم ملكوا الإقليم الرابع، وهو إقليم بابل أوسط الأرض وأشرف الأقاليم. وأن مملكتي اليونانيين والروم تتلوان مملكة فارس في العظم والعز، ولما خصوا به من أنواع الحكم والفلسفة والمهن العجيبة، والصنائع البديعة ولأن مملكة الروم الى وقتنا هذا ثابتة الرسوم متسقة التدبير، وان كان اليونانيون قد دخلوا في جملة الروم منذ احتووا على ملكهم كدخول
1 / 5
الكلدانيين- وهم السريانيون سكان العراق- في جملة الفرس الأولى لغلبتهم عليهم.
فأحببنا أن لا نخلي كتابنا هذا من ذكرهم، وإن كنا قد ذكرنا سائر الممالك التي على وجه الأرض وما أزيل منها ودثر، وما هو باق إلى هذا الوقت وأخبار ملوكهم وسياساتهم وسائر أحوالهم فيما سميناه من كتبنا على أنا نعتذر من سهو إن عرض في تصنيفنا مما لا يسلّم منه من لحقته غفلة الانسانية، وسهوة البشرية، ثم ما دفعنا اليه من طول الغربة وبعد الدار، وتواتر الاسفار طورا مشرقين وطورا مغربين كما قال أبو تمام
خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني
بالشأم قومي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقتين وبالفسطاط إخواني
وكقوله أيضا
فغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حتى قد نسيت المغاربا
خطوب إذا لاقيتهن رددنني ... جريحا كأنى قد لقيت الكتائبا
ونحن آخذون فيما به وعدنا، وله قصدنا. وباللَّه نستعين، وإياه نسأل التوفيق والتسديد.
ذكر الأفلاك وهيئاتها والنجوم وتأثيراتها والعناصر وتراكيبها وكيفية أفعالها
فلنبدأ بذكر الفلك الّذي نبهنا الله سبحانه عليه، وأشار في نص الكتاب اليه لما فيه من عجائب حكمته ولطائف قدرته وخصائص التدبير وبدائع التركيب التي
1 / 6
تدل بعجائب نظمها وغرائب تأليفها على وحدانية مبدعها وأزلية منشئها قال الله جل وعز (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ٣٦: ٤٠ اى في دائرة منها يكونون- إذ اسم الفلك يدل على الاستدارة في لغة العرب، والفلك السماء قال الله ﷿ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ٤٠: ٥٧ قال المسعودي: وقد تنازع الناس في الفلك ممن سلف وخلف فقال أفلاطون وثامسطيوس والرواقيون وعدة ممن تقدم عصر أفلاطون وتأخر عنه من الفلاسفة إنه من الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة إلا أن الغالب عليه النارية وليست ناريته محرقة إنما هي مثل النار الغريزية في الأبدان، وقال آخرون إنه من النار والهواء والماء دون الأرض وذهب أرسطاطاليس وأكثر الفلاسفة ممن تقدم عصره وتأخر عنه وغيرهم من حكماء الهند والفرس والكلدانيين الى أنه طبيعة خامسة خارجة عن الطبائع الأربع ليست فيه حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة وانه جسم مدور كرى أجوف يدور على محورين وهما القطبان أحدهما رأس السرطان ومنتهى بنات نعش، من تلقاء نقطة الجنوب، والآخر رأس الجدي وفيه كواكب مثل بنات نعش من تلقاء نقطة الشمال وخط الاستواء في وسط الفلك وهو خط ما بين الشمال والجنوب وأوسع موضع فيه من نقطة المشرق الى نقطة المغرب وهو منقسم بأربعة أرباع كل ربع منها تسعون درجة على خطين يتقاطعان على مركزه وهو موضع الأرض منه أحد الربعين وهو أحد القطبين نقطة الشمال وبإزائه نقطة الجنوب والربع الثالث نقطة المشرق وبإزائها نقطة المغرب، وهو يدور دورانا طبيعيا دائما وبدورانه ودوران الكواكب التي فيه تنفعل الكيفيات وانبسطت الأركان
1 / 7
الأربعة وهي النار والماء والهواء والأرض فيتصل ركنان منها وهما النار والهواء بالعلو وركنان منها وهما الماء والأرض بالسفل ثم تتحرك هذه الكيفيات بتحرك الجواهر العلوية والأجسام السمائية على حسب مداراتها ومسيرها وحركاتها وتأثيراتها فيتحرك الركنان الاعليان بتحرك الكيفيات والركنان الأسفلان بتحرك الركنين الأعليين وتهب بذلك الرياح الاثنتا عشرة، فتنشأ السحائب وينزل القطر ويتصل بذلك الآثار العلوية ويتصل بالآثار العلوية الآثار السفلية الموجودة في الحيوان والنبات البري والبحري. وفي الجواهر والمعادن حتى يكون التدبير في جميع هذه العوالم متسقا مطردا، متصلا بعضه ببعض بالفعل، كامنا بعضه في بعض بالقوة.
حتى تظهر آثار الصنعة، وأمارات الحكمة، ودلائل الربوبية، وترتبط المعلولات بعللها، وتشهد للصانع بصنعته، وبدائع حكمته.
وجعل ﷿ الفلك الأعلى، وهو فلك الاستواء، وما يشتمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر ويحبط بفلك القمر فلك عطارد، وبفلك عطارد فلك الزهرة، وبفلك الزهرة فلك الشمس، وبفلك الشمس فلك المريخ، وبفلك المريخ فلك المشترى، وبفلك المشترى فلك زحل وبفلك زحل فلك الكواكب الثابتة، وبفلك الكواكب الثابتة فلك البروج وبفلك البروج فلك الاستواء وهو المحيط بها والمحرك لها.
ومن ذوى المعرفة بعلم الأفلاك والنجوم من يعد فلك الاستواء، وفلك البروج الثابتة فلكا واحدا، لما يرى من تجاذبهما، واتفاق أقطارهما ومراكزهما والأرض في وسط الجميع مركز له كالنقطة في وسط الدائرة والفلك متجاف
1 / 8
عنها من حيث ما أحاط بها بميل ما نحو [١] وجهها الّذي يكون عليها حيثما كانت وهو أعلى الفلك على سمت رأسك فذلك نصف قطر الفلك الأعلى [٢] أخذ منه نصف قطر الأرض، وهو يدور عليها من المشرق إلى المغرب، على أوسع موضع فيه على نقطتين وهميتين متقابلتين في جنبي كرته.
إحداهما القطب الشمالي وهو على شمال مستقبل المشرق، والثانية القطب الجنوبي، وهو على يمين مستدبر المغرب، ويسميان المحورين تشبيها بقطب الرحى ولهذا الفلك نطاق يفصل كرته في متوسط ما بين قطبيه، ويفصل محاذاته كرة الأرض بنصفين. وهذا النطاق يسمي فلك معدل النهار، لاستواء الليل والنهار فيه، ويسمى الفلك المستقيم لاستواء مطالعه ومغاربه، واستقامة مدرجة في أرباع الفلك وما بينها على نظام واحد، وكل جزء من أجزاء هذا النطاق وإن اتسع فإنه كيفما انحدر في بسيطى الكرة إلى المحورين قل عرضه ودق حتى تجتمع أجزاء الفلك كلها من فوق الأرض وتحتها في نقطة المحور.
ومن كان تحت هذا النطاق فإنه ينظر المحورين يطوفان على أفق المواضع والفلك يدور منتصبا فوق رأسه.
وأكثر هذه الأفلاك مسيرها من المشرق إلى المغرب موافقة في مسيرها لمسير الفلك الأعلى. ومنها ما يكون مسيره موافقا لمسير الكواكب من المغرب إلى المشرق، فما كان من الفلك آخذا من الشمال إلى الجنوب سمي العرض، وما كان آخذا من المغرب إلى المشرق سمى الطول.
والأرض من الفلك بمنزلة النقطة من الدائرة بعدها من كل نقطة من النقط
_________
[١] في الاروبية بمثل ما كان وجهها، والتصحيح بحسب المعنى.
[٢] في الاروبية إلا ما، وهو غير واضح
1 / 9
الأربع التي ينقسم الفلك عليها بعد واحد، ومن مركزها إلى كل نقطة تسعون درجة، وقطر الدائرة مائة وثمانون درجة وهي تنقسم في نفسها مثل هذه الأربع نقط من الشمال والجنوب والمشرق والمغرب، إلا أنها غير ذات نسبة من الفلك كما أن الفلك لا نسبة له من الدائرة والجرم الّذي من نهاية حضيض فلك القمر إلى نهاية العالم في العلو طبيعة خامسة ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة ولا يابسة ولا مركبة من شيء من هذه الطبائع الأربع. وهذا الجسم هو الجسم الفلكي، ونهايته مما يلينا أعنى كصورة باطن كرة والعناصر أربعة نار وهواء وماء وأرض، فاثنان من هذه العناصر حاران وهما النار والهواء، وهما يتحركان بطبعهما صعدا إلا أن أسبقهما إلى العلو النار، فهي طافية على الهواء، والنار يابسة والهواء رطب واثنان باردان وهما الماء والأرض وهما يتحركان بطبعهما سفلا عند حركتهما، إلا أن أسبقهما إلى السفل الأرض، والأرض يابسة، والماء رطب.
فقد حصل بما ذكرنا أن الحرارة تفعل الحركة صعدا، وأن البرد يفعل الحركة سفلا، وأن اليبس يفعل السبق إلى الموضع الأخص بكل واحد منهما وأن الرطوبة تفعل الثقل في الحركة، فما كانت حركته صعدا سموه خفيفا، وما كانت حركته سفلا سموه ثقيلا.
وأنه لا فراغ في جرم العالم، وأن الأجسام إذا حميت احتاجت إلى مواضع أوسع من المواضع التي كانت فيها، فما تحدثه الحرارة فيها من تباعد نهاياتها عن مركزها، وأنها إذا بردت صارت بضد ذلك لأن البرد يفعل تقارب نهايات الأجسام من مركزها، فتحتاج الى مواضع أصغر من مواضعها وأن الحرارة والبرودة تتبادل المواضع فإذا كان ظاهر الأرض حارا كان
1 / 10
باطنها باردا، على ما تكون عليه السراديب وغيرها من أعماق الأرض وأعوارها في نهار الصيف من البرد، وإذا كان ظاهرها باردا كان باطنها حارا على ما عليه السراديب وغيرها في ليالي الشتاء، وأن الحرارة ترفع من كل جسم رطب لطيفه ولا أولا حتى تجف أرضيته فيتحجر أو تفنى جملته وأن الشمس إذا كان مسيرها في الميل الشمالي عن معدل النهار حمى الهواء في ناحية الشمال وبرد الهواء الجنوبي، فيجب من ذلك أن ينقبض الهواء الجنوبي ويحتاج الى موضع أصغر، ويتسع الهواء الشمالي، ويحتاج الى موضع أوسع، إذ لا فراغ في العالم، فبالواجب ان يكون أكثر رياح الصيف عند من هو في ناحية الشمال شمالية لأن الهواء من عندهم يتحرك إلى ناحية الجنوب، إذ ليس الريح شيئا غير حركة الهواء وتموجه، وكذلك يجب أن يكون أكثر رياح الشتاء جنوبية لتحرك الهواء إلى ناحية الشمال لمسير الشمس في الشتاء في الميل الجنوبي وما أبين للحس من مسير الشمس في الشتاء في الجنوب وفي الصيف في الشمال، لما نراه في الشتاء من طول ظلال المظلات، وبعد جرم الشمس في سمت رءوسنا من خط نصف النهار قال المسعودي: وفيما ذكرنا من قسمة الأفلاك وتراكيبها وما يلينا من الكواكب- النيرين والخمسة- تنازع بين الاسلاف والأخلاف.
من ذلك ما ذكره ابطلميوس القلوذى في كتاب المجسطي، وفي كتابه في الهيئة أنه لم يظهر له أن الزهرة وعطارد فوق الشمس أو دونها.
وحكى يحيى النحويّ وهو المعروف بالحريص الإسكندراني في كتابه الّذي دل فيه على أن العالم محدث ونقضه لكتاب پرقلس في قدمه ورده على أفلاطون وأرسطاطاليس وأفلوطرخس وغيرهم من القائلين بقدمه أن أفلاطون كان يزعم أن
1 / 11
فلك القمر أدنى الأفلاك إلينا وفلك الشمس يليه ثم فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم كذلك على ما رتبها الباقون.
وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا السالفة تنازع الفلاسفة وغيرهم من حكماء الأمم في هيئة الأفلاك وتراكيبها والنجوم وتأثيراتها في هذا العالم الأرضى وما يمين العالم وما شماله، وما خلفه وأمامه وتحته وفوقه.
وما ذكره أرسطاطاليس في المقالة الثانية من كتاب السماء والعالم عن شيعة فيثاغورث في ذلك وما ذهب إليه من أن للسماء يمينا وشمالا، وأماما وخلفا، وفوقا وأسفل.
فيمنة السماء الجهة المشرقية، ويسرتها المغربية، وأعلاها القطب الجنوبي وهو فوق القطب الشمالي وهو أسفل وما اتصل بذلك.
قال المسعودي: وأكثر من نشاهده من فلكية زماننا ومنجمى عصرنا مقتصرون على معرفة الأحكام- تاركون للنظر في علم الهيئة، ذاهبون عنها- وصناعة التنجيم التي هي جزء من أجزاء الرياضات، وتسمى باليونانية (الاصطرونوميا) تنقسم قسمة أولية على قسمين (أحدهما) العلم بهيئة الأفلاك وتراكيبها ونصبها وتأليفها (والثاني) العلم بما يتأثر عن الفلك فليس العلم الثاني وهو العلم بتأثيرات الفلك وما يوجب من الأحكام بمستغن عن العلم الأول، الّذي هو علم الهيئة إذ التأثيرات واقعة بالحركات وتبدل الأحوال، وإذا وقع الجهل بالحركات وقع الجهل بالتأثيرات فاذ ذكرنا جملا وجوامع من علوم هيئة الأفلاك والنجوم، فلنذكر الآن الكلام في جمل من قسام الزمان وفصوله والسنين والشهور والأيام وطباعها والاصطقصات ومرور الشمس في فلكها، وقطعها لبروجها، وما تحدثه في كل
1 / 12
فصل، وما لحق بذلك.
ذكر البيان عن قسمة الازمنة، وفصول السنة
وما لكل فصل من المنازل، والتنازع في المبتدإ به منها والاصطقصات، وما اتصل بذلك الازمنة أربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، فالزمان الأول الربيع وهو طبيعة الدم حار رطب، مدته ثلاثة وتسعون يوما وثلاث وعشرون ساعة وربع ساعة، وذلك من عشر تبقى من أذار إلى ثلاثة وعشرين يوما تخلو من حزيران، وهو من نزول الشمس أول دقيقة من الحمل، وهو الاستواء الربيعيّ إلى دخولها أول دقيقة من السرطان، وهو المنقلب الصيفي والزمان الثاني: الصيف وهو حار يابس، سلطانه المرة الصفراء، مدته اثنان وتسعون يوما وثلاث وعشرون ساعة وثلث ساعة، وذلك من ثلاثة وعشرين يوما تمضى من حزيران الى أربعة وعشرين تمضي من أيلول، وهو من دخول الشمس أول دقيقة من السرطان إلى دخولها أول دقيقة من الميزان والزمان الثالث: الخريف، وهو بارد يابس، سلطانه المرة السوداء مدته ثمانية وثمانون يوما، وسبع عشرة ساعة، وثلث خمس ساعة. وذلك من أربعة وعشرين يوما تمضى من أيلول إلى اثنين وعشرين يوما تخلو من كانون الأول وذلك من نزول الشمس أول دقيقة من الميزان، وهو الاستواء الخريفي الى نزولها أول دقيقة من الجدي، وهو المنقلب الشتوي والزمان الرابع: الشتاء، وهو بارد رطب سلطانه البلغم، مدته تسعة وثمانون
1 / 13
يوما وأربع عشرة ساعة من تسع تبقى من كانون الأول إلى أحد وعشرين يوما تخلو من أذار، وذلك من دخول الشمس أول دقيقة من الجدي الى نزولها أول دقيقة من الحمل.
فانقسام فصول السنة بالأزمان الأربعة إنما هو بحركة الشمس في الجملة قال المسعودي: فقد تبين بما ذكرنا أن مدة زمان الربيع مسير الشمس في ثلاثة أبراج وهي الحمل والثور والجوزاء. ومدة زمان الصيف مسير الشمس في ثلاثة أبراج هي السرطان والأسد والسنبلة، ومدة زمان الخريف مسير الشمس في ثلاثة أبراج هي الميزان والعقرب والقوس، ومدة زمان الشتاء مسير الشمس في ثلاثة أبراج وهي الجدي والدلو والحوت فما أعجب واتقن اشتباك أمر العالم بعضه ببعض ونظمه! إنا إذا خرجنا من ربع الصيف الى ربع الخريف، فانا نخرج من ربع حار يابس إلى ربع بارد يابس فاختلف الربعان في الحر والبرد، واتفقا في اليبس. وإذا خرجنا من ربع الخريف الى ربع الشتاء خرجنا من ربع بارد يابس إلى ربع بارد رطب، فاختلفا في اليبس واتفقا في البرد. وإذا خرجنا من ربع الشتاء الى ربع الربيع خرجنا من ربع بارد رطب الى ربع حار رطب فاختلفا في الحر واتفقا في الرطوبة فقد تبين انا لم نخرج من ربع حار رطب الى ربع بارد يابس ولا من ربع بارد رطب الى ربع حار يابس فتأمل حكمة البارئ جل وعز في نظمه الاستقصات الأربعة في العالم السفلى اعنى الأرض والماء والهواء والنار فإنك تجدها على هذا الترتيب مؤلفة تجد الأرض وهي باردة يابسة ثم الماء وهو بارد رطب ثم الهواء وهو حار رطب ثم النار وهي حارة يابسة، فالماء الّذي يلي الأرض يوافقها في البرودة ويختلفان في
1 / 14