سلسلة النصوص المحققة
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد في حديث رسول اللَّه ﷺ
لأبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي
(٣٦٨ - ٤٦٣ هـ/ ٩٧٨ - ١٠٧١ م)
مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي
مركز دراسات المخطوطات الإسلامية
حققه وعلق عليه: بشار عواد معروف، وآخرون، هم
جـ ١، ٣، ٤، ١٣ - ١٦: سليم محمد عامر - محمد بشار عواد
جـ ٢: معاذ سمير الخالدي - محمد بشار عواد
جـ ٥: محمد كامل قُرّه بلّلي - سليم محمد عامر
جـ ٦: لطفي محمد الصغير - سليم محمد عامر
جـ ٧ - ١١: حسن عبد المنعم شلبي - محمد بشار عواد
1 / 1
تقديم معالي الشيخ أحمد زكي يماني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، والتحية لأهل بيته، ورضي اللَّه عن صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التراث مرآة الأمة وخزانة تجاربها على أنحاء شتى من المعارف الإنسانية، يتقدمها ما أبدعه العَقْل المسلم من تآليف ماتعة نافعة في فقه كتاب اللَّه العزيز وسنة رسوله المبعوث رحمة للعالمين بما يهدف إلى إسعاد البشرية وتقدمها ورقيها والنهوض بحقوق عباد اللَّه الذين أعمرهم أرضه وأمرهم أن ينتشروا فيها ويبتغوا من فضله، فأثروا الحضارة الإنسانية ببديع تلكم التآليف التي طار صيتها في مشارق الأرض ومغاربها.
ويسعدني باسم مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي أن أقدم اليوم كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" لحافظ عصره الإمام العلامة الجهبذ ابن عبد البر النمري القرطبي دَرّة من درر هذا التراث الخالد، ولعلنا لا نبالغ إذ قلنا: إنه يعدل ألوفًا في جلالة القدر وخلود الذكر، فهو من أعظم شروح موطأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي وأشهرها ذكرًا وأعلاها قدرًا وأغزرها فائدة حين أبان فيه عن نكت أغفلها الفقهاء، ففتح أقفالها وقيودها وأغلالها بما آتاه اللَّه من فكر نيّر وعقل نَصِيح، فصار كتابه هذا من أمهات كتب الفقه المقارن، بحرًا لا تكدره الدلاء اتسعت أبعاده وتعددت جوانبه، بحيث قال فيه الإمام العلامة أبو محمد بن حزم الظاهري: "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه"، وقال عنه العلامة أبو علي الجياني: "هو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله"، وقال القاضي عياض:
1 / 5
"ألّف أبو عمر كتاب التمهيد. . . وهو كتاب لم يصنع أحد مثله في طريقته"، وقال ابن بشكوال: "لم يتقدمه أحد إلى مثله".
ومؤلف هذا الأثر النفيس أبو عمر ابن عبد البر غني عن التعريف إذ طارت شهرته في الآفاق وسارت بتآليفه الركبان وخضع لعلمه علماء الزمان حين أصلح الفاسد وأقام المائد وقوّم الحائد بما آتاه اللَّه من بسطة في العلم أهلته بأن يكون سداد هذا الأمر وعماده، فهو ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين له القدح المعلى في "سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن" على حد تعبير إمام المؤرخين شمس الدين الذهبي، فلم يقم في زمانه ببلاد الأندلس أحد مقامه في العلم مع الكفاية والأمانة والصرامة في إظهار الحق؛ إن أبصر زيغًا عَدَّله، وإن صادف ميلًا قوّمه لا يحابي في ذلك أحدًا، وكثيرًا ما خالف أئمة مذهبه المالكي حينما وجد الحق مع غيرهم.
وأنا على يقين بأن أهل العلم سيتلقون هذا الأثر النفيس بما هو أهله من إحسان الذكر وإيفاء الشكر، بعد أن أجاد مؤلفه في تحضير فصوله ونهج فيه منهجًا حميدًا في تمهيد مباحثه والعلم بمصادره وموارده مما عاد بنُجْح مطلبه.
لقد قضى ابن عبد البر أكثر من ثلاثين عامًا في تنقيح هذا الكتاب حتى ظهر بهذه الهيئة الرائقة والصفة البارعة النافعة التي قل نظيرها.
ومثلما هيأ اللَّه تعالى لموطأ الإمام مالك مَن يظهر نكته الفقهية والعلمية ويبين عن إشاراته وإثاراته، فقد هيأ اللَّه له شيخ محققي العصر العلامة الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف ليحققه تحقيقًا علميًا نقديًا قائمًا على خبرة عميقة شاملة أنتجت أكثر من ثلاث مئة مجلد، شهد له أساطين أهل العلم بجودة التحقيق والأمانة والدقة المتناهية في إتقان هذا الفن والعناية به.
جمع المحقق نسخ الكتاب الخطية وتتبعها في خزائن الكتب بالخافقين، فوقف على جُل ما عرف لهذا الكتاب من مجلدات مخطوطة في بلاد المغرب، والشام،
1 / 6
ومصر، والعراق، وتركيا، وجزيرة العرب وغيرها، فدرسها وصَنّفها وأبان عن مزاياها واكتشف دون غيره أنَّ النسخ الخطية المتوفرة من هذا الكتاب تمثل إبرازتين: إبرازة أولى كانت المسوّدة، ثم إبرازة أخرى هي المبيضة، فعمل بما توفر له من خبرة في هذا الشأن امتدت على أكثر من نصف قرن على تمييز الإبرازة الأخيرة التي ارتضاها ابن عبد البر في آخر الأمر بعد أن حذف ما رآه حريًا بالحذف، وزاد ما فاته من نصوص وآراء نضيجة في الإبرازة الأولى، فأفاد وأجاد.
بذل المحقق الدكتور بشار عواد معروف جهدًا متميزًا في تحقيق هذا الكتاب امتد على أكثر من عشرين عامًا، وهو ينعم النظر في هذا النص ويبديه، لأنه يعده أمانة وديانة يعينه في ذلك كله، بعض تلامذته النّجب ومنهم ولده الدكتور محمد بشار، فيعيد المقابلة بين النسخ أكثر من مرة، وينظم مادة النص، ويضبطه بما يدفع عنه اللبس وسوء الفهم ويؤدي إلى قراءة سليمة تعين المستفيد منه في قابل الأيام، ويرجح بين الروايات بعد تعليلها، ويشير إلى مناجمه ويقابل النص بها وينبّه إلى أي خُلْف قد يقع عند الاقتباس، ويعيد الآراء الفقهية إلى مظانها، كل مذهب من موارده المعتبرة، وموارد الفقه المقارن، والأصول التي اعتمدها المؤلف عند الاقتباس.
وعني المحقق عناية خاصة بتخريج الأحاديث التي اعتمدها المؤلف وأبان عن قوتها وضعفها وعللها الظاهرة والخفية؛ لأن الأحكام إنما تتأتى استنادًا إلى ثبوتها عن النبي ﷺ من عدمه، وهو فارس هذا الميدان الخطير الذي استشف بواطنه وعرف خفاياه، فتراه يصول فيه ويجول يبين المبهم ويوضح الخفي ويكشف عما خفي من علل الأحاديث ويظهر وجه الصواب فيها.
إن المقدمة العلمية النقدية الوسيعة التي صدر بها المحقق عمله تنبئ عن الجهد المحمود الذي بُذل في إخراج هذا الكتاب بهذه الهيئة التي آمل أن تسر كل محب للتراث حريص عليه، وتكون أُنموذجًا يحتذى في جودة إخراج النصوص والعناية بها.
1 / 7
ورأى المحقق أن لا بد من تيسير الإفادة من هذا النص بعمل الكشافات التي يتوصل بها المستفيد من الباحثين والدارسين إلى المعلومات والبيانات المطلوبة بأسرع وقت وأقل جهد، فعمل فهارس للأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين والخالفين، وأعاد في الفهرس الفقهي ترتيب كتاب التمهيد القائم على شيوخ الإمام مالك بن أنس إلى أبواب الموطأ الفقهية كما جاءت في نشرته المتميزة لموطأ مالك برواية الليثي تيسيرًا منه للمعنيين بالدراسات الفقهية في الوقوف على مسائل الفقه والقواعد الفقهية والفقه المقارن في كل باب من أبوابه، ثم عمل كشافًا لشيوخ المؤلف، وآخر للمواضع والبلدان، وفهرسًا للقوافي، وختمه بجريدة المصادر والمراجع المعتمدة في تحقيقه.
لقد تكافأت الأحوال بين محققه ومؤسستنا على إظهار هذا الأثر المتميز والتنبيه على موقعه وتيسيره للباحثين والدارسين ما بين مشرق للشمس ومغيب.
نسأل اللَّه ﵎ أن يجزي الدكتور بشار عواد معروف ومساعديه خيرًا على ما بذلوه من جهد كبير في تحقيق هذا الكتاب القيم، كما أسأله تعالى أن يجعل عملنا كله خالصًا لوجهه، وأن يرزقنا التوفيق في المقاصد كلها إلى طاعته ومرضاته ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.
أحمد زكي يماني
رئيس مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي
1 / 8
مقدِّمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للَّه الذي هدانا لهذا وما كُنّا لنَهتَديَ لولا أنْ هدانا اللَّه، الحمدُ للَّه نَحْمَدُه ونَسْتَعينُهُ ونَسْتَغْفرُه، ونعوذُ باللَّه من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ له إلهًا صَمَدًا، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا وإمامَنا وقُدْوَتَنا وأُسوتَنا وشَفيعَنا وحَبيبَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُه، بعثَهُ اللَّهُ بالهُدَى ودينِ الحَقِّ ليُظهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّه ولو كَرِهَ المشركون.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد:
فيُشرِّفُني ويُسعدني أن أقدِّم لعُشّاق التراث الفقهي العربي الإسلامي هذه النشرة المتميّزة من كتاب "التمهيد" للعلّامة الأندلُسيّ أبي عُمر ابن عبد البر الذي حَثَّني على العناية به منذ أكثر من عشرين عامًا صديقي الصَّدُوق عاشقُ التراث الأصيل العارف بحقه وحُرمته الحاج حبيب اللَّمْسيّ أبلّه اللَّه من مَرَضه وأطال عُمره، ثم حَقَّقَ هذه الأمنية الشيخ المُبارك العالم معالي الأستاذ أحمد زكي يَماني حفظه اللَّه تعالى صاحبُ العناية القُصوى بتراث الأمة مخزن تجاربها، الباذلُ الأموالَ النَّفيسةَ خدمةً له، فحقيقٌ بنا أن نُوَشِّحَ معاليه حُلَلَ الثَّناءِ ونُطوِّقَهُ قلائدَ الشُّكر والدُّعاء، فهو أقل ما يُكافأ به على إحسانه، وأدْعَى له إلى تجديد هباتِه وعَطاياه، والاستمرار في استحضار الوسائل المؤدّية إلى بُلوغ البُغية وإدراك المطلب في الذَّب عن بَيْضةِ الإسلام وتُراثه.
1 / 9
ابن عبد البر:
ولد أبو عمر يوسُف (^١) بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَريُّ في يوم الجُمعة والإمام يخطب لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاث مئة (٢٩ تشرين الثاني/ نوفمبر سنة ٩٧٨ م) بقُرطبة من بلاد الأندَلُس من أسرة عربية صَلِيبة تنتمي إلى تَيْم اللَّه بن النَّمِر بن قاسِط استوطنت قُرطبة.
وقد ترجمَ ابنُ الأبار لجده محمد بن عبد البر فقال: "كان من العُبّاد المُنقطعين المعروفين بالتهجُّد المُبرزين فيه، من أصحاب يحيى بن مُجاهد، وتوفي قبل ابنه عبد اللَّه بسبعة أشهر وهو ابن ثمانين سنة، وكانت وفاة عبد اللَّه -فيما قرأتُ بخط أبي عُمر- سنة ثمانين وثلاث مئة" (^٢).
ووالده عبد اللَّه (^٣) بن محمد كان من فُقهاء المالكية، ولد سنة ٣٣٠ هـ وسمع
_________
(^١) ترجمته في: جمهرة أنساب العرب لابن حزم ٣٠٢، وجذوة المقتبس للحميدي، ص ٥٤٤ (٨٧٥) بتحقيقنا، وترتيب المدارك للقاضي عياض ٨/ ١٢٧، والصلة لابن بشكوال ٢/ ٣٢٦ - ٣٢٨ (١٥٠١) بتحقيقنا، وبغية الملتمس للضبي (١٤٤٢)، ووفيات الأعيان لابن خلكان ٧/ ٦٦، والذهبي في كتبه: تاريخ الإسلام ١٠/ ١٩٩، وسير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٣، والعبر ٣/ ٢٥٥، والمشتبه ١١٧، وتذكرة الحفاظ ٣/ ١١٢٨، ودول الإسلام ١/ ٢٧٣، ومرآة الجنان لليافعي ٣/ ٨٩، والبداية والنهاية لابن كثير ١٢/ ١٠٤، والديباج المذهب لابن فرحون ٢/ ٣٦٧، وطبقات الحفاظ للسيوطي ٤٣٢، وشذرات الذهب لابن العماد ٣/ ٣١٤. وكتب الدكتور ليث سعود الجاسم "ابن عبد البر وجهوده في التاريخ "طبع في مصر (ط ٢) سنة ١٩٨٨ م، ولصديقنا العالم التونسي المجوّد الدكتور طه بن علي بوسريح رسالة دكتوراه في "المنهج النقدي عند الحافظ ابن عبد البر من خلال التمهيد" أجاد فيها، نشرتها دار ابن حزم سنة ٢٠٠٨ م، وله أيضًا: "مصادر الحافظ ابن عبد البر الأندلسي" نشرته دار المدار الإسلامي بليبيا سنة ٢٠٠٧ م أجاد فيه وأفاد.
(^٢) التكملة لكتاب الصلة ٢/ ٢٨ (١٠٣٠) بتحقيقنا.
(^٣) ترجمته في: جذوة المقتبس للحميدي، ص ٣٦٨ (٥٣٩)، وترتيب المدارك للقاضي عياض ٦/ ٢٩٩، والصلة لابن بشكوال (٥٤٧)، وبغية الملتمس للضبي (٨٨٩)، وتاريخ الإسلام للذهبي ٨/ ٤٨٠، والوافي للصفدي ١٧/ ٤٨٩، والشذرات لابن العماد ٣/ ٣١٦.
1 / 10
الحديث وهو لمّا يَزَل في الثامنة من عُمره من أحمد بن دُحَيْم بن خليل بن عبد الجبار بن حرب المتوفى بطاعون سنة ٣٣٨ هـ، وكان أحمد هذا ممن رحلَ إلى المشرق سنة ٣١٥ هـ ودخل العراقَ وسمع من شيوخه (^١). كما سمع من أحمد من مُطرِّف بن عبد الرحمن بن قاسم المعروف بابن المَشّاط المتوفى سنة ٣٥٢ هـ (^٢)، وأحمد بن سعيد بن حزم بن يونس الصَّدَفي المتوفى سنة ٣٥٠ هـ (^٣)، وغيرهم. ولزم الفقيه أبا إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مَسَرَّة المتوفى سنة ٣٥٢ هـ "وكان حافظًا للفقه على مذهب مالك وأصحابه متقدمًا فيه، مشاورًا في الأحكام صدرًا في الفتيا" (^٤)، وتوفي عبد اللَّه سنة ٣٨٠ هـ عن خمسين سنة، ومع ذلك لم يسمع أبو عُمر بن عبد البر من أبيه شيئًا.
على أنه بدأ بطلب العلم قبل التِّسْعين وثلاث مئة (^٥)، أي وهو في العشرين من عمره تقريبًا، فأدرك كبار المشايخ، فسمع من أبي محمد عبد اللَّه بن محمد بن عبد المؤمن بن يحمى التُّجِيبي المعروف بابن الزَّيّات (٣١٤ - ٣٩٠ هـ) (^٦) الذي كان قد رحل إلى المشرق رحلتين دخل فيهما العراق فسمع ببغداد على جلة من المشايخ، وأخذَ بالبصرة "سُنَن" أبي داود عن أبي بكر محمد بن بكر بن محمد البصري التَّمَّار المعروف بابن داسةَ المتوفى سنة ٣٤٦ هـ، فأخذ عنه ابنُ عبد البر هذه الرِّواية. كما حدثه ابن الزَّيّات عن إسماعيل بن
_________
(^١) ترجمته في أخبار الفقهاء للخشني (٣١)، وتاريخ ابن الفرضي ١/ ٧٨ (١١٠)، وترتيب المدارك للقاضي عياض ٦/ ١٢٠، وتاريخ الإسلام ٧/ ٧١٢، والديباج المذهب لابن فرحون ١/ ١٧١.
(^٢) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي ١/ ٨٩ (١٤١)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٤١.
(^٣) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي ١/ ٨٨ (١٤٠)، ومعجم الأدباء لياقوت ١/ ٢٦٨، وتاريخ الإسلام ٧/ ٨٨٣، وسير أعلام النبلاء ١٦/ ١٠٤، والوافي للصفدي ٦/ ٣٨٩.
(^٤) تاريخ ابن الفرضي ١/ ١٢٥ (٢٣٣)، وله ترجمة في ترتيب المدارك ٦/ ١٢٦، وبغية الملتمس (٥٥١)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٤١، وسير أعلام النبلاء ١٦/ ٨٠، ١٠٧، والديباج المذهب ١/ ٢٩٦.
(^٥) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٤ وفيه أنه بدأ بطلب العلم بعد التسعين، ولا يستقيم إذ توفي شيخه عبد اللَّه بن محمد بن عبد المؤمن سنة ٣٩٥ هـ، وذكر تحملًا عن شيخه عيسى بن سعيد بن سعدان سنة ٣٨٨ هـ (التمهيد ٥/ ٦٠٩).
(^٦) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي ١/ ٣٣٢ (٧٥٥)، وبغية الملتمس للضبي (٨٨٢)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٦٦٣.
1 / 11
محمد الصَّفّار، وحَدَّثه بـ "الناسخ والمنسوخ" لأبي داود عن أبي بكر النجاد، وناولَهُ "مسند" الإمام أحمد بن حنبل بروايته عن ابن مالك القطيعي (^١).
وأكثر ابنُ عبد البر من الرواية عن شيخه أبي القاسم خَلَف بن القاسم بن سَهْل بن محمد بن يونس الأزدي المعروف بابن الدَّبّاغ (٣٢٥ - ٣٩٣ هـ) (^٢)، وهو ممن سمع ببلده، ثم رحل إلى المشرق سنة ٣٤٥ هـ فتردد هناك نحو خمس عشرة سنة، فسمع بمصر والشام ومكة، قال الحُميدي: "روى عنه شيخنا أبو عمر بن عبد اللَّه الحافظ فأكثر، وكان لا يقدِّم عليه من شيوخه أحدًا، وذكره لنا فقال: أما خلف بن سَهْل الحافظ فشيخٌ لنا وشيخٌ لشيوخنا أبي الوليد ابن الفَرَضي وغيره، كتبَ بالمشرق عن نحو ثلاث مئة رجل، وكان من أعلم الناس برجال الحديث واكتبِهم له وأجمعِهِم لذلك، وللتواريخ والتفاسير، ولم يكن له بصرٌ بالرأي، يُعرف بابن الدَّبّاغ، وهو محدِّث الأندلس في وقته" (^٣).
وممن أكثر عنهم ابن عبد البر شيخه عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الجُهَنيّ (٣١٠ - ٣٩٥ هـ) (^٤)، وهو ممن رحل إلى المشرق سنة ٣٤٢ هـ فسمع من مجموعة من علمائه، فأخذَ ابن عبد البر عنه تصنيف عبد اللَّه بن عبد الحكم (^٥)، وغيره، قال ابن بَشْكُوال: "حدث عنه من كبار العلماء: أبو الوليد ابن الفَرَضي، والقاضي أبو المطرف بن فُطَيْس، وأبو عُمر بن عبد البر، وأبو عُمر ابن الحَذّاء، والخولانيُّ، والقُبَّشيُّ، وغيرُهم كثير" (^٦).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٤.
(^٢) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي ١/ ١٩٧ (٤١٥)، وجذوة المقتبس للحميدي (٤٢٣)، وتاريخ دمشق لابن عساكر ١٧/ ١٣ - ١٥، وبغية الملتمس (٧١٧)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٢٦.
(^٣) جذوة المقتبس، ص ٣٠٥.
(^٤) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي ١/ ٣٣٤ (٧٥٧) وهي ترجمة مختصرة، وجذوة المقتبس، ص ٥٣١، وترتيب المدارك ٧/ ٢٠٩، والصلة لابن بشكوال ١/ ٣٣١ (٥٥٧)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٥١.
(^٥) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٥.
(^٦) الصلة ١/ ٣٣٣.
1 / 12
ومن شيوخه الذين أكثر عنهم: شيخه عبد الوارث بن سفيان بن جَبْرون بن سُليمان (٣١٧ - ٣٩٥ هـ) (^١)، وقد أخذ عنه ابن عبد البر علم قاسم بن أصبغ البيّاني، إذ كان هذا الشيخ قد بدأ بطلب العلم على قاسم بن أصبغ منذ سنة ٣٣٣ هـ وسمعَ منه أكثر رواياته، فكان أوثق الناس فيه وأكثرهم مُلازمة له، قال الحُميدي: "روى عنه أبو عُمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر النَّمَري الحافظ وأثنى عليه، وقال: كان من ألزم النّاس لأبي محمد قاسم بن أصبغ ومن أشهر أهل قُرطبة بصُحبته حتى يقال: إنَّه قلّما فاته شيءٌ مما قُرئ عليه. . . قال أبو عُمر: ورأيتُ كثيرًا من أصول قاسم بن أصبغ، فرأيتُ سماعَهُ في جميعها، وحَدَّث بعلم جم" (^٢).
وذكر الحُميدي عن ابن عبد البر أنَّهُ قرأ عليه "مصنف" أبي محمد قاسم بن أصبغ في السُّنَن، وقرأ عليه "المعارف" لابن قُتيبة و"شرح غريب الحديث" له (^٣).
وأكثر ابن عبد البر الرواية عن شيخه أبي عُمر أحمد بن عبد اللَّه بن محمد بن علي بن شريعة اللَّخْمي المعروف بابن الباجي (٣٣٢ - ٣٩٦ هـ) (^٤) فقد أخذ عنه جُملة من المصنَّفات من أشهرها "مصنف" أبي بكر بن أبي شيبة، فقد قال: "قرأتُه من أوله إلى آخره على أبي عمر أحمد بن عبد اللَّه الباجي، وحدثني به عن أبيه الراوية أبي محمد الباجي" (^٥)، وقال: "كان من أهل العلم والفَضْل، وله رحلة إلى المشرق لقي فيها جلة من أهل العلم كتب عنهم" (^٦). وقال الحُميدي: "أخبرنا أبو عمر بن عبد البر
_________
(^١) ترجمته في جذوة المقتبس (٦٧٠)، والصلة لابن بشكوال ١/ ٤٨٢ (٨١٧)، وبغية الملتمس (١١٣٢)، وإكمال الإكمال لابن نقطة ٢/ ٤٥٦، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٥٢، والسير ١٧/ ٨٤، والعبر ٣/ ٥٩.
(^٢) جذوة المقتبس ٤٢٨.
(^٣) المصدر نفسه، ٤٢٩.
(^٤) ترجمته في: إكمال ابن ماكولا ١/ ٤٦٧، وجذوة المقتبس، ص ١٨٦، وترتيب المدارك ٧/ ١٠٧، والصلة لابن بشكوال (١٥)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٦٠، والسير ١٧/ ٧٤، وتذكرة الحفاظ ٣/ ١٠٥٨، والديباج المذهب ١/ ٢٣٤ وغيرها.
(^٥) فهرسة ابن خير الإشبيلي، ص ١٧٢ (بتحقيقنا).
(^٦) المصدر السابق، ص ١٧٣.
1 / 13
قال: قرأتُ على أبي عُمر أحمد بن عبد اللَّه الباجي كتاب "المنتقى" لأبي محمد بن الجارود، أخبرني به عن أبيه، عن الحسن بن عبد اللَّه الزُّبَيْدي، عن ابن الجارود، وكتاب "الضعفاء والمتروكين" لابن الجارود، وكتاب "أبي حنيفة" لابن الجارود، وكتاب "الآحاد" لابن الجارود، وكلها بهذا الإسناد" (^١).
وأخذ ابن عبد البر عن شيخه أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الملك بن ضيفون بن مروان اللَّخْمي الحَدَّاد القُرطبي الرُّصافي (٣٠٢ - ٣٩٤ هـ) (^٢) أحاديث الزَّعْفراني بسماعه من ابن الأعرابي، عنه. وقرأ عليه "تفسير" محمد بن سنجر وهو مجلدات كثيرة (^٣).
كما أكثر الرواية عن شيخه أبي عُثمان سعيد بن نَصْر بن أبي الفَتْح (٣١٥ - ٣٩٥ هـ) (^٤) قال الحُميدي: روى عنه. . . والفقيه الحافظ أبو عُمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر، فذكره وأثنى عليه، وقال: سعيد بن نصر يُعرف بابن أبي الفتح، كان أبوه من كبار موالي عبد الرحمن الناصر المقدمين عنده. . . أخبرنا أبو عثمان سعيد بن نصر بكتاب "المُجْتبَى" لقاسم بن أصبغ، عن قاسم" (^٥).
وأخذ ابن عبد البر عن جملة كبيرة من الشيوخ في بلاد الأندلس، لكنه لم يرحل خارجها في طلب العلم، واكتفى بإجازات حصل عليها من بعض متعيني الرواة منهم (^٦): عُبيد اللَّه بن محمد بن أحمد بن جعفر، أبو القاسم السَّقَطي (ت ٤٠٦ هـ) (^٧)،
_________
(^١) جذوة المقتبس، ص ١٨٧.
(^٢) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي ٢/ ١٤٢ (١٣٩١)، وجذوة المقتبس، ص ١٠٦ (٩٩)، وبغية الملتمس (١٩٩)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٤٢، وسير أعلام النبلاء ١٧/ ٥٦، والعبر ٣/ ٥٧، ونفح الطيب للمقري ٢/ ٢٣٧، وشذرات الذهب ٣/ ١٤٤.
(^٣) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٤.
(^٤) ترجمته في جذوة المقتبس ٣٣٨ (٤٨٦)، والصلة لابن بشكوال (٤٦٧ ب)، وبغية الملتمس (٨٠٣)، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٥٠، وسير أعلام النبلاء ١٧/ ٨٠.
(^٥) جذوة المقتبس، ص ٣٣٨ - ٣٣٩.
(^٦) الصلة ٢/ ٣٢٦ (١٥٠١).
(^٧) ترجمته في التاريخ المجدد لابن النجار ٢/ الترجمة ٣٥٥، وتاريخ الإسلام ٦/ ١٠٦.
1 / 14
وعبد الغني بن سعيد المصري (ت ٤٠٩ هـ) (^١)، وأبو الفتح إبراهيم بن عليّ بن إبراهيم بن الحسين بن سَيْبُخت البغدادي الكاتب (ت ٣٩٤ هـ) (^٢)، وأبو جعفر أحمد بن نصر الأزدي الداودي المالكي الفقيه نزيل تِلِمْسان (ت ٤٠٢ هـ) (^٣)، وأبو ذر عبد بن أحمد الهَرَوي (ت ٤٣٤ هـ) راوي صحيح البخاري عن ابن حَمُّوية والمُسْتملي والكُشْميهَني (^٤)، وأبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد التُّجِيبي المصريّ المعروف بابن النَّحاس (ت ٤١٦ هـ) (^٥).
وإنَّ الفهرس الذي صنعناه لشيوخه في المجلد السابع عشر هو المُبَيّن عن شيوخه الذين أكثر عنهم في "التمهيد"، والمقل عنهم، فلا حاجة إلى أكثر مما ذكرناه في هذه الترجمة المختصرة.
وقد بيّن صديقنا العالم التونسي الشيخ الدكتور طه بن علي بوسريح في دراسته الماتعة عن "المنهج النقدي عند الحافظ ابن عبد البر من خلال التمهيد" أبرز أسانيد ابن عبد البر المشهورة فيه (^٦)، كما تناول في دراسةٍ له أخرى أبرز مصادره (^٧)، مما لا يحتاج بعد هذا الجهد المحمود من إعادة ذكر لمثل هذه الأمور.
وأرى من المفيد في نهاية هذه الترجمة المختصرة المعتصرة أن أنقل آراء العُلماء في ابن عبد البر وكتابه "التمهيد" على مدى العصور فهي المنبئة عن منزلته التي احتلها بين عُلماء عصره، والمكانة المتميزة التي حَظِي بها كتابه "التمهيد".
_________
(^١) تنظر مصادر ترجمته في مقدمة كتابه "المؤتلف والمختلف" الذي حققه تلميذاي مثنى الشمري وقيس التميمي، ونشرته دار الغرب الإسلامي.
(^٢) ترجمته في تاريخ الخطيب ٧/ ٥٤، وتاريخ الإسلام ٨/ ٧٣٧.
(^٣) ترجمته في تاريخ الإسلام ٩/ ٤١، والديباج المذهب ١/ ١٦٥ - ١٦٦.
(^٤) ترجمته مشهورة، فينظر تاريخ الخطيب ١٢/ ٤٥٦، وتاريخ الإسلام ٩/ ٥٤٠، وسير أعلام النبلاء ١٧/ ٥٥٤.
(^٥) ترجمته في تاريخ الإسلام ٩/ ٢٧٠.
(^٦) ينظر كتابه المذكور، ص ٣٢ - ٤٤.
(^٧) ينظر كتابه: "مصادر الحافظ ابن عبد البر الأندلسي".
1 / 15
وأول ما نستشهدُ به رأي رفيقه ومُحِبّه العلامة أبي محمد عليّ بن أحمد بن حَزْم الأندلسي الظاهري (ت ٤٥٦ هـ)، والذي توثقت عُرى الأُلفة والصداقة والمحبة بينه وبين ابن عبد البر الذي بدأ حياته أثريًا ظاهريَّ الهَوَى، ثم تحوّل مالكيًا مع ميل ظاهر إلى فقه الإمام الشافعي في مسائل (^١)، ومع ذلك لم تتأثر هذه العلاقة الحميمة، فكان ابن حَزْم ينقل عن ابن عبد البر في كتابه العظيم "المحلى" على الرغم من أنه توفي قبله (^٢)، وقال عنه في رسالته في "فَضْل الأندلس وذكر رجالها" التي نقلها المَقّرِي في "نفح الطيب"، قال: "ومنها كتاب التَّمهيد لصاحبنا أبي عُمر يوسف بن عبد البر، وهو الآن بعدُ في الحياة لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلمُ في الكلام على فقه الحديث مثله أصلًا فكيف أحسن منه؟! ومنها كتاب الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور. ولصاحبنا أبي عُمر بن عبد البر المذكور كُتُب لا مثيل لها: منها كتابه المسمى "الكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه"، خمسة عَشَر كتابًا اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه، وبَوَّبه، وقَرَّبه، فصار مُغنيًا عن التصنيفات الطوال في معناه. ومنها: كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنَّفوا في ذلك. . . إلخ" (^٣).
وقال أبو عبد اللَّه محمد بن فُتُوح الحُميدي (ت ٤٨٨ هـ): "فقيه حافظ مُكثر، عالم بالقراءات، وبالخلاف في الفقه، وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، كثير الشيوخ. . . وألَّف مما جمع تواليف نافعة سارت عنه. . . ومن مجموعاته كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" سبعون جزءًا، قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسَنَ منه! " (^٤).
وقال الحافظ الكبير أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغسَّانيّ الجَيّانيّ (ت ٤٩٨ هـ): "لم يكن أحدٌ ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد وأحمد بن خالد
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٧.
(^٢) ينظر: المحلى ٤/ ٣٨٨، ٤٤٩ و٦/ ١٢، ٢٢١، ٤٨٢ و٧/ ٥٥، ٣١٩ و٨/ ١٦٣، ٤٨٠، ٥٨٩، ٦٠٥ و٩/ ١١٧،٣٥٧ و١٠/ ٨٨، ٨٩، ٢٤٧ و١٢/ ٤٨٢، ٥٠١ و١٤/ ٢٥. . . إلخ (بتحقيقنا).
(^٣) نفح الطيب ٣/ ١٦٩ - ١٧٠.
(^٤) جذوة المقتبس (ص ٥٤٤ - ٥٤٥).
1 / 16
الجَبّاب". ثم قال أبو علي: "ولم يكن ابنُ عبد البر بدونهما، ولا متخلفًا عنهما، وكان من النَّمِرِ بن قاسط، طلبَ وتقدّم، ولزم أبا عمر أحمدَ بنَ عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد ابن الفَرَضي، ودأب في طلب الحديث، وافْتَنَّ به، وبرعَ براعة فاقَ بها من تَقَدَّمه من رجال الأندلس، وكان مع تَقَدُّمه في علم الأثر وَبَصرِهِ بالفقه والمعاني له بَسطةٌ كبيرةٌ في علم النَّسَب والأخبار" (^١).
وذكر ابن بشكوال أنه قرأ بخط صاحبه أبي الوليد يوسف بن عبد العزيز المعروف بابن الدَّبّاغ الأُنْدي (ت ٥٤٦ هـ) أَنَّه سمعَ القاضي الصدفي أبا علي الحُسين بن محمد بن فيرُّه (ت ٥١٤ هـ) شيخَهُ يقول: إنه سَمِعَ القاضي الإمام أبا الوليد سُليمان بن خَلَف الباجيّ الأندلسيّ (ت ٤٧٤ هـ) يقول: "لم يكن بالأندلس مثل أبي عُمر بن عبد البر في الحديث" (^٢).
وذكر ابن بشكوال أيضًا أنَّ أبا بكر محمد بن خَلَف بن سُليمان بن فَتْحون (ت ٥٢٠ هـ) كتبَ إليه بخطِّه أنَّه سمعَ أبا عليّ الصَّدَفيَّ يقول: "سمعتُ القاضي أبا الوليد الباجي وقد جَرَى ذكر أبي عمر بن عبد البر عنده فقال: أبو عُمر أحفظ أهل المغرب" (^٣).
وقال القاضي عياض (ت ٥٤٤ هـ): "شيخ علماء الأندلس وكبير محدثيها في وقته، وأحفظ من كان بها لسُنّةٍ مَشْهورة" (^٤).
وقال أيضًا: "ألّف أبو عُمر ﵀ على الموطأ كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وهو عشرون مجلدًا، وهو كتاب لم يصنع أحدٌ مثله في طريقته" (^٥).
وقال ابن بشكوال (ت ٥٧٨ هـ): "إمام عصره، وواحد دهره. . . ألّف في الموطأ كتبًا مفيدة منها كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ورتبه على
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٦.
(^٢) الصلة ٢/ ٣٢٦ - ٣٢٧.
(^٣) المصدر السابق ٢/ ٣٢٧.
(^٤) ترتيب المدارك ٨/ ١٢٧.
(^٥) المصدر السابق ٨/ ١٢٩.
1 / 17
أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءًا" (^١).
وذى ابن خَلِّكان (ت ٦٨١ هـ) أنَّه كان: "إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما" (^٢).
وقال الإمام شمس الدين الذهبي (ت ٧٤٨ هـ): "الإمام العلّامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام. . . صاحب التصانيف الفائقة. . . كان إمامًا دَيِّنًا، ثِقة، مُتْقِنًا، علامةً، مُتبَحِّرًا، صاحِبَ سُنة واتباع، وكان أولًا أثريًّا ظاهريًّا فيما قيل، ثم تحول مالكيًّا مَعَ مَيْلٍ بَيِّنٍ إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا يُنكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رُتبة الأئمة المجتهدين، ومن نَظَرَ في مُصَنَّفاته، بانَ له مَنزِلَتُهُ من سعة العلم، وقُوةِ الفهم، وسَيلان الذهن، وكُلُّ أحدٍ يُؤخذ من قوله ويتركُ إلا رسول اللَّه ﷺ، ولكن إذا أخطأ إمامٌ في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن نَنْسى محاسنه، ونُغطي معارفه، بل نستغفرُ له، ونَعتَذِرُ عنه" (^٣).
وقال أيضًا: "وكان موفقًا في التأليف، مُعانًا عليه، ونفعَ اللَّهُ بتواليفه، وكانَ مع تقدّمه في عِلْم الأثر وبَصَره في الفقه ومعاني الحديث له بَسْطة كبيرة في علم النَّسَب والخبر. . . كان حافظ المغرب في زمانه" (^٤).
وفاته:
رحل ابن عبد البر عن وطنه قُرطبة فكان في غرب الأندلس مدة، ثم تحوّل إلى شرقها وسكنَ دانية وبَلَنْسية وشاطِبَةَ، وبها كانت وفاتُه في آخر ربيع الآخر، ودفن يوم الجمعة لصلاة العصر من سنة ثلاث وستين وأربع مئة (الموافق لليوم الرابع من شهر آذار/ مارس سنة ١٠٧١ م) فعُمِّرَ خمسًا وتسعين سنة هجرية أو ثلاثًا وتسعين سنة شمسية، رحمه اللَّه تعالى وأسكنه فسيحَ جنانه جراء ما قدّم من خدمات جُلّى لأمة الإسلام.
_________
(^١) الصلة ٢/ ٣٢٧.
(^٢) وفيات الأعيان ٧/ ٦٦ (ط. إحسان عباس).
(^٣) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٥٣ - ١٥٧.
(^٤) المصدر السابق ١٨/ ١٥٨ - ١٥٩.
1 / 18
نهج العمل في التحقيق
وصف النسخ الخطية:
لقد توفرت لنا -بحمد اللَّه ومَنِّه- أكثر النسخ الخطية المعروفة في خزائن الكتب بالخافقين من "التمهيد"، من البلاد المغربية، والمصرية، والشامية، والعراق، وتركيا، وغيرها.
وتَبيَّنَ لنا -من غير شك- بعد دراسة النُّسخ المذكورة أنها تمثل نشرتين للكتاب، الإبرازة الأولى، وهي المسوّدة، وأكثر النسخ منسوخة عنها -كما سيأتي بيانه- والإبرازة الثانية، وهي الأخيرة، ممثلة بالنسخة المحفوظة في خزانة كتب كوبريلي بإستانبول والتي وصل إلينا منها ثمانية مجلدات من أصل أحد عَشَر مجلدًا، وبعض المجلدات المحفوظة في دار الكتب المصرية.
والإبرازةُ الأولى لا تمثل الكتاب الذي ارتضاه مؤلفه فيما بعد في إبرازته الأخيرة، فهي كثيرةُ النقص والاختلاف في صياغة العبارات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر نسخة فيض اللَّه ذات الرقم (٢٩٥) والتي رمزنا لها (ي ١)، ومنها بعض مجلدات دار الكتب المصرية التي رمزنا لها (د)، ومنها نسخة القادرية ببغداد التي رمزنا لها بالحرف (ق) والنسخة التيمورية الملحقة بدار الكتب المصرية التي رمزنا لها (ت)، ومنها النسخ المحفوظة بالقرويين بفاس المحفوظة بالأرقام (٤٥١٧) و(٣٠٦٣) و(٩٩١) المرموز لها بالحرف (ف)، ومنها نسخة الظاهرية (٣٣٩٤) (ظا) وغيرها من النسخ التي سيأتي وصفها لاحقًا.
ومن الغريب أنَّ القائمين على الطبعة المغربية وجميع من نشر الكتاب بعدهم لم يَنْتَبهوا إلى هذه الحقيقة، فذهبوا إلى التلفيق بين هذه النُّسخ، ومنها عبارات أو فقرات مكررة أعاد المؤلف صياغتها، وهو صنيعٌ غير محمود في التحقيق القائم على دراسة النسخ المعتمدة فيه.
وفيما يأتي وصف لأبرز النسخ التي قامت عليها نشرتنا هذه:
1 / 19
نسخة كوبريلي:
وهي نسخة من الإبرازة الأخيرة للكتاب ينقصها المجلدات الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس وأرقامها في المكتبة المذكورة (٣٤٣) و(٣٤٧) و(٣٤٨) و(٣٤٩) و(٣٥٠) و(٣٥١)، كتبت بخط مغربي مقروء سنة ٥٧٠ هـ، وقوبلت المجلدات الأول والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر على الأصل المنتسخ منه وعلى نسختين أخريين، فقد جاء في طرة المجلد الأول منها: "ابتدئ بمقابلته على بركة اللَّه ﷿ يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة على نسختين صحيحتين بمدينة شاطبة حرسها اللَّه وحفظها، واللَّه يعين على طاعته".
وكتبت بلاغات المقابلة في الحواشي، وأشرنا إليها في مواضعها وأضيف إلى هذه النسخة مجلدان هما: الرابع والسادس من نسخة أخرى حملا الرقمين (٣٤٥) و(٣٤٦)، وهما مجلدان لم يقابلا، فكثر فيهما التصحيف والتحريف والسقط، لكنهما من الإبرازة الأخيرة.
ومع كل ذلك فإن هذه النسخة من أفضل النسخ التي وصلت إلينا من التمهيد، لذلك اتخذناها أصلًا، وأفدنا من النسخ الأخرى في إصلاح ما اعتورها من تصحيف وتحريف وسقط، وهي المرموز لها بالأصل.
المجلد الأول:
وهو الذي يحمل الرقم (٣٤٣).
جاء في طرته التي لصق أحدهم شريطًا فوقها أذهب بعض الكلمات: "السفر الأول من كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد في حديث رسول اللَّه ﷺ. تأليف أبي عمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر النمري رحمة اللَّه عليه".
وفي الطرة ترجمة لمؤلفه ابن عبد البر نصها:
1 / 20
"ولد أبو عمر بن عبد البر مؤلف هذا الديوان في الساعة (^١). . . من يوم الجمعة لخمس بقين من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وستين وثلاث مئة. وتوفي ﵀ وبرد ضريحه في يوم الخميس مستهل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وأربع مئة، ودفن يوم الجمعة بعده بمدينة شاطبة حرسها اللَّه، تجاوز اللَّه عنه. . . ووفقنا وإياه بالصالحين من عباده المؤمنين، وصلى اللَّه على النبي المصطفى. . . وعلى آله وصحبه الأبرار وعترته الأخيار وسلم تسليمًا".
وكتب في يسار الحاشية السُّفلى من الطرة: "شرح الموطأ. هذا الجزء وعشرة معه من كتب الفقير الحقير أبي البركات محمد ابن الكيال الشافعي (^٢) لطف اللَّه به آمين. سنة ٨٨٩".
وجاء في الورقة الأولى منه: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. صلى اللَّه على محمد وعلى آله وسلم. عونك اللهم. قال أبو عمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ ﵁: الحمد للَّه الأول الآخر الظاهر الباطن القادر القاهر. . . ".
وينتهي المجلد بآخر تمهيد الحديث الثالث لحميد بن قيس المرسل، وجاء في آخره: "تم السفر الأول من كتاب التمهيد بحمد اللَّه وعونه يتلوه إن شاء اللَّه تعالى حديث رابع لحميد بن قيس منقطع، واللَّه المعين برحمته".
وفي أسفل الورقة من الجهة اليسرى: "قابلته بالأصل المنتسخ منه وبنسخة أخرى والحمد للَّه". وفي حاشية الورقة: "بلغت المقابلة بحمد اللَّه وحسن عونه".
كتب هذا المجلد والمجلدات السابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر كاتب واحد لم يذكر اسمه بخط مغربي من نحو نقط الفاء من تحت والقاف بنقطة واحدة،
_________
(^١) بعدها كلمة مطموسة، وفي الصلة البشكوالية ٢/ ٣٢٨ (بتحقيقنا) من قوله: "ولدتُ يوم الجمعة والإمام يخطب لخمس. . . ".
(^٢) هو صاحب كتاب "الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات"، أبو البركات محمد بن أحمد بن محمد الخطيب الشافعي الشهير بابن الكيال المتوفى سنة ٩٢٩ هـ.
1 / 21
ومسطرتها جميعًا (٢٥) سطرًا في الصفحة، في كل سطر بحدود ١٢ - ١٤ كلمة، وهذا المجلد في (١٨٢) ورقة.
المجلد الرابع:
وهو الذي يحمل الرقم (٣٤٥)، كتب بخط أندلسي مغاير لما كتبت به المجلدات الأول والسابع إلى الحادي عشر، عدد أوراقه (١٣٥) ورقة، مسطرته (٢٥) سطرًا، في كل سطر بين ١٦ - ١٨ كلمة.
أوله: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. صلى اللَّه على محمد، عونك اللهم فامنُن به.
حديث ثالث لابن شهاب عن حميد يستند من وجوه".
وآخره هو آخر حديث ثان لابن شهاب عن سالم، "وقال أبو سعيد الخدري: كان رسول اللَّه ﷺ أشد حياءً من عذراءَ في خدرها".
وهذا المجلد لم يقابل على الأصل المنتسخ منه، ولا علاقة له بالمجلدات الأول، والسابع إلى الحادي عشر، لا من حيث الكاتب ولا من حديث الجودة. لكنه من النشرة الأخيرة قطعًا.
المجلد السادس:
وهو الذي يحمل الرقم (٣٤٦) في المكتبة المذكورة، كاتبه هو كاتب المجلد الرابع ومسطرته وعدد الكلمات في السطر وخطه كما في المجلد الرابع وعدد أوراقه (١٤١) ورقة، فهو من النسخة نفسها جُمِعَ مع النسخة التي وصل إلينا منها المجلدات الأول والسابع إلى الحادي عشر، أوله: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. صلى اللَّه على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل محمد وسلم. حديثٌ ثان لمحمد بن المنكدر".
وآخره آخر الحديث الرابع والأربعين لنافع عن ابن عمر.
ولعل هذه النسخة التي وصل إلينا منها المجلدان الرابع والسادس قد نسخت من النسخة المكتوبة سنة ٥٧٠ هـ أو من النسخة التي نسخت عنها تلك النسخة لتوافق نهاية هذا المجلد مع بداية المجلد السابع من نسخة ٥٧٠ هـ المقابلة، ولاتفاق
1 / 22
الدعاء في أول المجلد الرابع مع ما جاء في المجلد السابع في قوله: "صلى اللَّه على محمد وعلى آله وسلم عونك اللهم فامنن به".
المجلد السابع:
وهو الذي يحمل الرقم (٣٤٧) في المكتبة المذكورة، وهو والمجلدات الآتية: الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر من النسخة التي وصفناها في المجلد الأول، عدد أوراقه (١٧٨) ورقة جاء في أعلى طرة المجلد بالخط الأحمر: "ملك لسليمان بن عبد اللَّه بن" ثم محي الذي بعده.
ثم: "السفر السابع من التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد في حديث رسول اللَّه ﷺ. تأليف الفقيه أبي عمر يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر رحمة اللَّه عليه".
تم تحتها بخط أحمر: "ارغب إلى الرحمن يا من رأى خطي أن يعفو عن كاتبه".
وفي ظهر الورقة الأولى منه بداية المجلد وهو: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم. صلى اللَّه على محمد وعلى آله وسلم عونك اللهم فامنن به. حديث خامس أربعين لنافع عن ابن عمر".
وآخره آخر تمهيد الحديث الرابع والعشرين لمالك عن عبد اللَّه بن دينار، وجاء في آخره: "تم السفر السابع بحمد اللَّه وعونه وتأييده ونصره، وصلى اللَّه على محمد نبيه وعبده، يتلوه في أول الثامن حديث خامس عشرين لمالك عن عبد اللَّه بن دينار، واللَّه المعين برحمته لا شريك له".
المجلد الثامن:
وهو الذي يحمل الرقم (٣٤٨) في المكتبة المذكورة، ويقع في (١٩٠) ورقة.
جاء في طرته: "السِّفر الثامن من التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد في حديث رسول اللَّه ﷺ، تأليف الفقيه أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري رحمة اللَّه عليه". وكتب أحدهم في بقية الصفحة محتويات المجلد.
1 / 23