مقدمة ابن الجزري
الحمد لله الذي جعل القرآن العظيم مفتاح آلائه، ومصباح قلوب أوليائه، وربيعهم الذي يهيم به كل منهم في رياض برحائه، أحمده على توالي نعمائه، وأشكره على تتابع كرم لا أمد لانتهائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تقضي لقائلها باعتلائه، ويعدها المؤمن جنةً عند لقائه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أرسله بكتاب أوضحه، فوعته القلوب على اشتباه آيه، وشرع شرحه فاتسع به مجال الحق حين ضاق بالباطل متسع فنائه، ودين أوضحه فأشرقت نجومه إشراق البدر في أفق سمائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما أتى الليل بظلامه، وولى النهار بضيائه.
ورضي الله عن السادة الأتقياء، ومشايخ الإقتداء، ونجوم الإهتداء، خير الأمة وأهل الأداء، ما أشرق معهد تلاوة بضيائه، وأنار كوكب عباده بلألائه.
1 / 39
وبعد فإن أولى العلوم ذكرا وفكرا، وأشرفها منزلة وقدرا، وأعظمها ذخرا وفخرا، كلام من خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، فهو العلم الذي لا يخشى معه جهالة، ولا يغشى به ضلالة، وإن أولى ما قدم من علومه معرفة تجويده، وإقامة ألفاظه.
وقد سئل علي ﵁ عن معنى قوله تعالى ﴿ورتل القرآن ترتيلا﴾، فقال: الترتيل تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف.
وسيأتي الكلام على هذه الآية.
ولما رأيت الناشئين من قراء هذا الزمان وكثيرا من منتهيهم قد غفلوا عن تجويد ألفاظهم، وأهملوا تصفيتها من كدره، وتخليصها من درنه، رأيت الحاجة داعية إلى تأليف مختصر أبتكر فيه مقالا يهز عطف الفاتر، ويضمن غرض الماهر، ويسعف أمل الراغب، ويؤنس وسادة العالم، أذكر فيه علوما جليلة، تتعلق بالقرآن العظيم، يحتاج القارئ والمقرئ إليها، ومباحث دقيقه، ومسائل غريبة، وأقوالا عجيبة، لم أر أحدا ذكرها، ولا نبه عليها، وسميته (كتاب التمهيد في علم التجويد) .
جعله الله خالصا لوجهه الكريم، ونفع به إنه السميع العليم.
وجعلته عشرة أبواب:
1 / 40
الباب الأول: أذكر فيه صفة قراءة أهل زماننا، وأتبعه بفصل بالحض على ما نحن بسببه.
الباب الثاني: في معنى التجويد والتحقيق والترتيل، وفيه فصول.
الباب الثالث: في أصول القراءة الدائرة على اختلاف القراءات.
الباب الرابع: في ذكر معنى اللحن وأقسامه والحض على اجتنابه وفيه فصلان.
الباب الخامس: في ذكر ألفات الوصل والقطع.
الباب السادس: في الكلام على الحروف والحركات.
الباب السابع: في ذكر ألقاب الحروف وعللها.
الباب الثامن: في ذكر مخارج الحروف مجملة والكلام على كل حرف بما يختص به من التجويد وغيره.
الباب التاسع: في أحكام النون الساكنه والتنوين، ثم أتبعه بالمد والقصر.
الباب العاشر: في ذكر الوقف والابتداء، ثم أتبعه بالكلام على حكم المشدد ومراتبه، وأحببت أن أختم الكتاب بفصل أذكر فيه الضاد والظاء ووقوعهما في القرآن.
1 / 41
الباب الأول في ذكر قراءة هؤلاء القراء في هذا الزمان
إن مما ابتدع الناس في قراءة القران أصوات الغناء، وهي التي أخبر بها رسول الله ﷺ أنها ستكون بعده، ونهى عنها ويقال إن أول ما غني به من القرآن قوله ﷿ ﴿أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر﴾، نقلوا ذلك من تغنيهم بقول الشاعر
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتًا يوافق عندي بعض ما فيها
وقد قال رسول الله -؟ - في هؤلاء: «مفتونه قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم» .
1 / 43
وابتدعوا أيضًا شيئًا سموه الترقيص، وهو أن يروم السكت على الساكن ثم ينفر مع الحركة في عدو وهرولة.
وآخر سموه الترعيد، وهو أن يرعد صوته كالذي يرعد من برد وألم، وقد يخلط بشيء من ألحان الغناء.
وآخر يسمى التطريب، وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به، فيمد في غير مواضع المد، ويزيد في المد على ما ينبغي لأجل التطريب، فيأتي بما لا تجيزه العربية.
كثر هذا الضرب في قراء القرآن.
وآخر يسمى التحزين، وهو أن يترك طباعه وعادته في التلاوة، ويأتي بالتلاوة على وجه آخر، كأنه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ولا يأخذ الشيوخ بذلك، لما فيه من الرياء.
وآخر أحدثه هؤلاء الذين يجتمعون فيقرأون كلهم بصوت واحد، فيقولون في نحو قوله: ﴿أفلا يعقلون﴾، ﴿أو لا يعلمون﴾: أفل يعقلون، أول يعلمون، فيحذفون الألف، وكذلك يحذفون الواو فيقولون: قال' آمنا، والياء فيقولون: يوم الدن في ﴿يوم الدين﴾ .
ويمدون ما لا يمد، ويحركون السواكن التي لم يجز تحريكها، ليستقيم لهم الطريق التي سلكوها، وينبغي أن يسمى هذا التحريف.
1 / 44
وأما قراءتنا التي نقرأ ونأخذ بها، فهي القراءة السهله المرتله العذبه الألفاظ، التي لا تخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء، على وجه من وجوه القراءات، فنقرأ لكل إمام بما نقل عنه، من مد أو قصر أوهمز أو تخفيف همز أو تشديد أو تخفيف أو إماله أوفتح أو إشباع أو نحو ذلك.
فصل فيما يستفاد بتهذيب الألفاظ وما تكون الثمرة الحاصلة عند تقويم اللسان
اعلم أن المستفاد بذلك حصول التدبر لمعاني كتاب الله تعالى، والتفكر في غوامضه، والتبحر في مقاصده، وتحقيق مراده - جل اسمه - من ذلك.
فانه تعالى قال: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾، وذلك أن الألفاظ إذا أجليت على الأسماع في أحسن معارضها، وأحلى جهات النطق بها، حسب ما حث عليه رسول الله ﷺ بقوله: «زينوا القرآن بأصواتكم» - كان تلقي القلوب وإقبال النفوس عليها بمقتضى زيادتها في الحلاوة والحسن، على ما لم يبلغ ذلك المبلغ منها، فيحصل حينئذ الامتثال لأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والرغبة في وعده، والرهبة من وعيده، والطمع في ترغيبه، والارتجاء بتخويفه، والتصديق بخبره، والحذر من إهماله، ومعرفة الحلال والحرام.
وتلك فائدة جسيمة، ونعمه لايهمل ارتباطها إلا محروم، ولهذا المعنى شرع الإنصات إلى قراءة القرآن في الصلاة وغيرها،
1 / 45
وندب الإصغاء إلى الخطبة في يوم الجمعة، وسقطت القراءة عن المأموم ما عدا الفاتحة، ومن أجل ذلك دأب الأئمة في السكوت على التام من الكلام، أو ما يستحسن الوقف عليه، لما في ذلك من سرعة وصول المعاني إلى الأفهام، واشتمالها عليها، بغير مقارعة للفكر، ولا احتمال مشقة لا فائدة فيها غير ما ذكرناه.
وبالله التوفيق.
1 / 46
الباب الثاني: في معنى التجويد، وفيه فصول الفصل الأول في التجويد والتحقيق والترتيل
أما التجويد فهو مصدر من جود تجويدا إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الجور في النطق بها.
ومعناه انتهاء الغاية في إتقانه، وبلوغ النهاية في تحسينه، ولهذا يقال جود فلان في كذا إذا فعل ذلك جيدًا، والاسم منه الجودة.
فالتجويد هو حلية التلاوة، وزينة القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتلطيف النطق به، على حال صيغته وهيئته، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف، قال الداني: ليس بين التجويد وتركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه.
1 / 47
وأما التحقيق فهو مصدر من حقق تحقيقًا، إذا أتى بالشيء على حقه، وجانب الباطل فيه، والعرب تقول: بلغت حقيقة هذا الأمر، أي بلغت يقين شأنه، والاسم منه الحق.
ومعناه أن يؤتى بالشيء على حقه، من غير زيادة فيه ولا نقصان منه.
وأما الترتيل فهو مصدر من رتل فلان كلامه، إذا أتبع بعضه بعضًا على مكث، والاسم منه الرتل، والعرب تقول: ثغر رتل، إذا كان مفرقًا لم يركب بعضه بعضًا، قال صاحب العين: رتلت الكلام تمهلت فيه.
وقال الأصمعي: في الأسنان الرتل، وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لايركب بعضها بعضًا.
وحده: ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها، بتلبث فيها.
الفصل الثاني في معنى قوله تعالى: " ورتل القرآن ترتيلًا "
سئل علي بن أبي طالب ﵁ عن هذه الآية، فقال: الترتيل هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف.
وروى ابن جريج، عن مجاهد، أنه قال: أي ترسل فيه ترسلًا.
وروى جبير عن الضحاك: أي أنبذه حرفًا حرفًا.
وروى مقسم عن
1 / 48
ابن عباس: أي بينه تبيينا.
وقال علماؤنا: أي تلبث في قراءته، وأفصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فتدخل بعض الحروف في بعض.
ولم يقتصر ﷾ على الأمر بالفعل حتى أكده بمصدره، تعظيما لشأنه، وترغيبا في ثوابه.
وقال تعالى ﴿ورتلناه ترتيلًا﴾ أي أنزلناه على الترسل، وهو المكث، وهو ضد العجلة، وقال تعالى: ﴿وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث﴾ أي على ترسل.
الفصل الثالث الفرق بين التحقيق والترتيل
الترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط.
والتحقيق يكون لرياضة الألسن، وترقيق الألفاظ الغليظة، وإقامة القراءة، وإعطاء كل حرف حقه، من المد والهمز والإشباع والتفكيك، ويؤمن معه تحريك ساكن واختلاس حركه.
وتفكيك الحروف وفكها بيانها وإخراج بعضها من بعض بيسر وترسل، ومن ذلك فك الرقبة، وفك الأسير، لأنه إخراجهما من الرق والأسر، وكذا فك الرهن هو إخراجه من الارتهان، وفك الكتاب هو استخراج ما فيه، وفك الأعضاء هو إخراجها من مواضعها.
قال الداني: الفرق بين الترتيل والتحقيق أن الترتيل يكون بالهمز وتركه والقصر لحرف المد والتخفيف والاختلاس، وليس ذلك في التحقيق.
وكذا قال أبو بكر الشذائي.
1 / 49
الفصل الرابع: في كيفية التلاوة
كتاب الله تعالى يقرأ بالترتيل والتحقيق، وبالحدر والتخفيف وبالهمز وتركه، وبالمد وقصره، وبالبيان والإدغام، وبالإمالة والتفخيم.
وإنما يستعمل الحدر والهدرمة، وهما سرعة [القراءة] .
مع تقويم الألفاظ، وتمكين الحروف، لتكثر حسناته، إذ كان له بكل حرف عشر حسنات.
وأن ينطق القارئ بالهمز من غير لكز، والمد من غير تمطيط، والتشديد من غير تمضيغ، والإشباع من غير تكلف.
هذه القراءة التي يقرأ بها كتاب الله تعالى.
الفصل الخامس في ذكر قراءة الأئمة
عن أبي جعفر أحمد بن هلال، قال: حدثني محمد بن سلمة العثماني، قال: إني قلت لورش: كيف كان يقرأ نافع؟ فقال: كان لا مشددًا ولا مرسلًا، بينا حسنًا.
وقال ابن مجاهد: كان أبو عمرو سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل.
1 / 50
ووصف الشذائي قراءة أئمة القراءة السبعة، فقال: أما صفة قراءة ابن كثير فحسنة مجهورة، بتمكين بين.
وأما صفة قراءة نافع فسلسلة، لها أدنى تمديد.
وأما صفة قراءة عاصم فمترسلة جريشة ذات ترتيل، وكان عاصم نفسه موصوفًا بحسن الصوت وتجويد القراءة.
وأما صفة قراءة حمزة فأكثر من رأينا منهم لا ينبغي أن تحكى قراءته لفسادها، ولأنها مصنوعة من تلقاء أنفسهم، وأما من كان منهم يعدل في قراءته حدرًا وتحقيقًا فصفتها المد العدل والقصر والهمز المقوم والتشديد المجود، بلا تمطيط ولا تشديق، ولا تعلية صوت، ولا ترعيد، فهذه صفة التحقيق.
وأما الحدر فسهل كاف، في أدنى ترتيل وأيسر تقطيع.
وأما وصف قراءة الكسائي فبين الوصفين في اعتدال.
وأما قراءة أصحاب ابن عامر فيضطربون في التقويم، ويخرجون عن الاعتدال.
وأما صفة قراءة أبي عمرو بن العلاء فالتوسط والتدوير، همزها سليم من اللكز، وتشديدها خارج عن التمضيغ، بترسل جزل بين سهل، يتلو بعضها بعضًا.
قال: وإلى هذا كان يذهب أبو بكر بن مجاهد في هذه القراءة وغيرها، وبه قرأنا عليه، وله كان يختار، وبمثله كان يأخذ ابن المنادى، رحمة الله عليهما.
1 / 51
الباب الثالث في أصول القراءة الدائرة على اختلاف القراءات
وهي التسمية والبسملة، والمد، واللين، والمط والقصر، والاعتبار، والتمكين، والإشباع، والإدغام، والإظهار، والبيان، والإخفاء، والقلب، والتسهيل والتخفيف، والتشديد، والتثقيل، والتتميم، والنقل، والتحقيق، والفتح، والفغر، والإرسال، والإمالة، والبطح والإضجاع، والتغليظ، والترقيق، والروم، والإشمام، والاختلاس.
البسملة عبارة عن قول القارئ ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ وهي
1 / 53
اسم مركب، يقال بسمل الرجل بسملةً، فهو مبسمل، كما قالوا حوقل الرجل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل إذا قال: حي على الصلاة.
والتسمية هي البسملة نفسها، يقال: سمى يسمى تسمية فهو مسم، ويعبر عنها بالفصل.
والفصل أيضا عبارة عن مجال الإلف بين الهمزتين التقتا، لمن له الفصل بينهما.
وأما المد فهو عبارة عن أصوات حروف المد واللين، وهو نوعان: طبيعي وعرضي.
فالطبيعي هو الذي لا تقوم ذات حرف المد دونه.
والعرضي هو الذي يعرض زيادة على الطبيعي، لموجب يوجبه، يجيء في مكانه، إن شاء الله تعالى.
وأما المط فهو المد نفسه، لغة ثانية فيه.
وأما اللين فهو عبارة عما يجري من الصوت في حرف المد، ممزوجا بالمد طبيعة وارتباطا، لا ينفصل أحدهما في ذلك عن الآخر، وهو أجرى في الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما، كما أن المد أجرى فيهما إذا انكسر ما قبل الياء، وانضم ما قبل الواو.
وأما القصر فهو عبارة عن صيغة حرف المد واللين، وهو المد الطبيعي.
وأما الاعتبار فهو عبارة عنه في بعض القراءات، وذلك أن بعضهم يعتبر المد واللين مع الهمزة، فإن كانا منفصلين لم يزد شيئا على الصيغة.
وأما التمكين فهو عبارة عن الصيغة (أيضا وقد) يعبر به عن المد العرضي، يقال منه مكن، إذا أريدت الزيادة.
1 / 54
وأما الإشباع فهو عبارة عن إتمام الحكم المطلوب من تضعيف الصيغة لمن له ذلك، ويستعمل أيضا ويراد به أداء الحركات كوامل غير منقوصات ولا مختلسات.
وأما الإدغام فهو عبارة عن خلط الحرفين وتصييرها حرفا واحدا مشددا وكيفية ذلك أن يصير الحرف الذي يراد إدغامه حرفا على صورة الحرف الذي يدغم فيه، فإذا تصير مثله حصل حينئذ مثلان، وإذا حصل مثلان وجب الإدغام حكما إجماعيا، فإن جاء نص بإبقاء نعت من نعوت الحرف المدغم فليس ذلك الإدغام بإدغام صحيح، لأن شروطه لم تكمل، وهو بالإخفاء أشبه، قال أبو الأصبغ: وقد أطلق عليه هذا الاسم بعض علمائنا، وهو قول شيخنا أبي العباس ﵀.
وأما الإظهار فهو ضد الإدغام، وهو أن يؤتى بالحرفين المصيرين جسما واحدا منطوقا بكل واحد منهما على صورته، موفىً جميع صفته، مخلصًا إلى كمال بنيته.
وأما البيان فهو عبارة أخرى بمعنى الإظهار.
وأما الإخفاء فهو عبارة عن إخفاء النون الساكنة والتنوين عند أحرفهما، وسيأتي الكلام عليه، وحقيقته أن يبطل عند النطق به الجزء المعمل، فلا يسمع إلا صوت مركب على الخيشوم.
ويستعمل أيضًا عبارة عن إخفاء الحركة، وهو نقصان تمطيطها.
1 / 55
وأما القلب فهو عبارة عن الحكم المشهور من الأحكام الأربعة المختصة بالنون الساكنة والتنوين، وهو إبدالهما عند لقائهما الباء ميمًا خالصة، تعويضًا صحيحًا لا يبقى للنون والتنوين أثر، ويتصرف القلب عبارة عن بعض أحكام التسهيل.
وأما التسهيل فهو عبارة عن تغيير يدخل الهمزة، وهو على أربعة أقسام: بين بين، وبدل، وحذف، وتخفيف.
فأما بين بين فهو نشوء حرف بين همزة وبين حرف مد.
وأما البدل فهو إقامة الألف والياء والواو مقام الهمزة عوضًا منها.
وأما الحذف فهو إعدامها، دون أن يبقى لها صورة.
وأما التخفيف فهو عبارة عن معنى التسهيل، وعن حذف الصلات من الهاءات، وعن فك الحرف المشدد القائم عن مثلين، ليكون النطق بحرف واحد من الضعفين، خفيف الوزن، عاريًا من الضغط، عاطلًا في صناعة الخط من علامة الشد، التي لها صورتان في النقط.
وأما التشديد فهو ضد هذا التخفيف الذي صيغ بالفك، فيكون النطق بحرف لز بموضعه، فاندرج لتضعيف صيغته شديد الفك.
وأما التثقيل فهو عبارة عن رد الصلات إلى الهاءات.
وأما التتميم فهو عبارة عن حكم يتصرف عند الحذف أحد الأقسام في التسهيل، وهو تعطيل الحرف المتقدم للهمزة من شكله وتحليته بشكل الهمزة، في حالتي الأداء في الوقف والوصل.
1 / 56
وأما التحقيق فهو عبارة عن ضد التسهيل، وهو الإتيان بالهمزة أو بالهمزتين خارجات من مخارجهن، مندفعات عنهن، كاملات في صفاتهن.
وأما الفتح فهو عبارة عن النطق بالألف مركبة على فتحة خالصة غير ممالة، وحده أن يؤتى به على مقدار انفتاح الفم، مثاله (قال) تركب صوت الألف على فتحة القاف، وهي فتحة خالصة لا حظ للكسر فيها، معترضة على مخرج القاف اعتراضًا، وحقيقته أن ينفتح الفم بالنطق بـ (قال) ونظير.
كانفتاح الفم في (كان) ونظيره.
وأما الفغر فهو بالغين المعجمة، وهو بفتح الفاء وإسكان الغين، وهو عبارة قديمة بمعنى الفتح، قال أبو الأصبغ: وهو يقع في كتب الأوائل من علمائنا، وهو عبارة عن التغليظ.
وأما الإرسال فهو عبارة عن تحريك ياء الإضافة بحركة الألف، ويعبر عنه أيضًا بالفتح.
وأما الإمالة فهي عبارة عن ضد الفتح، وهي نوعان: إمالة كبرى وإمالة صغرى.
فالإمالة الكبرى عدها أن ينطق بالألف مركبة على فتحة تصرف إلى [الكسر كثيرًا.
والإمالة الصغرى حدها أن ينطق بالألف مركبة على فتحة تصرف
1 / 57
إلى] الكسرة قليلًا.
والعبارة المشهورة في هذا بين اللفظين، أعني بين الفتح الذي حددناه، وبين الإمالة الكبرى.
والبطح والإضجاع عبارتان بمعنى الإمالة الكبرى.
وأما التغليظ فهو عبارة عن ضد التغليظ، وهو نحول يدخل على جسم الحرف فلا يملأ صداه الفم ولا يغلقه، وهو نوعان: ترقيق مفتوح، وترقيق غير مفتوح، وهو الإمالة على نوعيها، فكل فتح ترقيق، وليس كل ترقيق فتحًا، وكل إمالة ترقيق، وليس كل ترقيق إمالة.
وأما الروم فهو عبارة عن النطق ببعض الحركات، حتى يذهب معظم صوتها، فتسمع لها صويتًا خفيًا، يدركه الأعمى بحاسة سمعه دون الأصم.
وأما الإشمام فهو عبارة عن ضم الشفتين بعد سكون الحرف من غير صوت، ويدرك ذلك الأصم دون الأعمى.
ويعبر عنه ويراد به
1 / 58
خلط حرف بحرف في نحو (الصراط) و(أصدق) .
وأما الاختلاس فهو عبارة عن الإسراع بالحركة، إسراعًا يحكم السامع له أن الحركة قد ذهبت، وهي كاملة في الوزن.
1 / 59
الباب الرابع في ذكر معنى اللحن وأقسامه وفيه فصلان الفصل الأول في بيان اللحن في موضوع اللغة
إعلم أن اللحن يستعمل في الكلام على معان.
يستعمل بمعنى اللغة، ومن ذلك: لحن الرجل بلحنه، إذا تكلم بلغته.
ولحنت أنا له ألحن، إذا قلت له ما يفهمه عني ويخفى على غيره، وقد لحنه عني يلحنه لحنًا إذا فهمه، وألحنت أنا إياه إلحانًا.
واللحن الفطنة ويقال منه: رجل لحن أي فطن.
وقد لحن يلحن إذا صرف الكلام عن وجهه، ويقال منه: عرفت ذاك في لحن قوله، أي في ما دل عليه كلامه، ومنه قوله تعالى ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ .
والله أعلم أن رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية كان يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم، يستدل على أحدهم بما ظهر له من لحنه، أي من ميله في كلامه.
ومنه
1 / 61