بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله تلخيص المقالة الأولى من الخطابة قال: إِن صناعة الخطابة تناسب صناعة الجدل، وذلك إِن كليهما يؤمان غاية واحدة: وهي المخاطبة؛ إذ كانت هاتان الصناعتان ليس يستعملها الإنسان بينه وبين نفسه كالحال في صناعة البرهان، بل إنما يستعملها مع الغير؛ وتشتركان بنحو من الأَنحاءِ في موضوع واحد، إذ كان كلاهما يتعاطى النظر في جميع الأشياءِ، ويوجد استعمالها مشتركا للجميع: أعني إِن كل واحد من الناس يستعمل بالطبع الأَقاويل الجدلية والأَقاويل الخطبية. وإِنما كان ذلك كذلك، لأَنه ليست واحدة منهما علما من العلوم منفردا بذاته. وذلك إِن العلوم لها موضوعات خاصة، ويستعملها أَصناف من الناس خاصة. ولكن من جهة إِن هذين ينظران في جميع الموجودات وجميع العلوم تنظر في جميع الموجودات، فقد توجد جميع العلوم مشاركة لهما بنحو ما. وإذا كانت هاتان الصناعتان مشتركتين، فقد يجب إِن يكون النظر فيهما لصناعة واحدة: وهي صناعة المنطق. وكل واحد من الناس يوجد مستعملا لنحو ما من أنحاءِ البلاغة ومنتهيا منها إِلى مقدار ما وذلك في صنفي الأَقاويل اللذين أحدهما المناظرة، والثاني التعليم والإِرشاد. وأكثر ذلك في الموضوعات الخاصة بهذه الصناعة، وهي مثل الشكاية والاعتذار وسائر الأَقاويل التي في الأُمور الجزئية. ويوجد كثير منهم يبلغون مقصودهم بهذا الفعل. فمن الناس من يفعل ذلك بالاتفاق؛ ومنهم من يفعله بالاعتياد وبملكة ثابتة. ومعلوم إِن الذي يفعل هذه الصناعة بملكة ثابتة أفضل من الذي يفعلها بالاتفاق. وإِذا كان ذلك كذلك، فالذي يفعلها بملكة ثابتة وعلم بالسبب الذي به يفعل فعله أتم وأفضل. وهذا أمر يعرفه الجمهور فضلا عن الخواص. ولذلك كان واجبا إِن تُثبت أجزاءُ هذه الصناعة في كتاب، ولا يقتصر على ما يوجد من ذلك بالطبع فقط، ولا بالاعتياد، كالحال في كثير من الصنائع القياسية. قال: وكل من تكلم في هذه الصناعة ممن تقدمنا، فلم يتكلم في شيء يجرى من هذه الصناعة مجرى الجزء الضروري، والأَمر الذي هو أحرى إِن يكون صناعيا: وتلك هي الأُمور التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تسمى في هذه الصناعة الضمائر، وهي عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة، أعني الذي يكون عنها أولًا وبالذات. وهؤلاءِ فلم يتكلموا في الأَشياءِ التي توقع التصديق الخطبي بالجملة، ولا في الضمائر التي هي أحرى بذلك؛ وإِنما تكلموا فأكثروا في أشياء خارجة عن التصديق، وإِنما تجرى مجرى الأَشياءِ المعينة في وقوع التصديق، مثل التكلم في الخوف والرحمة والغضب وما أشبه ذلك من الانفعالات النفسانية التي ليست معدة نحو الأَمر المقصود تبيينه أولًا وبالذات، وإنما هي معدة نحو استمالة الحكام والمناظرين ولذلك كانت كأنها موطئة للتصديق، لا فاعلة له. قال: فلو كان إِنما يوجد من أجزاءِ الخطابة الشيء الذي هو موجود الآن منها في بعض المدن، لما كان لما تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة جدوى ولا منفعة، وإن كان قد تكلموا فيها تكلما جيدا، وهي المدن التي لا تبيح السنة فيها التكلم بين يدي الحكام بالأَشياءِ التي تمُيل الحكام وتستعطفهم إِلى أحد المتكلمين، بل إِنما تباح فيها الأُمور التي توقع التصديق فقط. وذلك إِن أهل المدن يلفون في هذا الوقت فريقين: فمنهم من يرى أنه ينبغي إِن تُثبَّت السنن التي يؤدب بها أهل المدينة في نفوس المدنيين بجميع الأُمور التي لها تأْثير في التصديق، كانت أشياء توقع التصديق أو أُمور خارجة، ومنهم من يمنع إِن يذكر شيء من الأُمور التي من خارج، وبخاصة عند الحكام على ما كان عليه الأَمر في موضع الحكومة في أثينيا وفي بلاد اليونانيين. قال: ورأْيُ من رَأى إِن استعمال جميع الأَشياءِ التي لها تأْثير في التصديق في تثبيت الأَشياءِ التي يراد تثبيتها بطريق الخطابة هو الصواب. وخليق إِن استعمل أحد هذا القانون إِن يكون باستعماله يصير في هذه الصناعة لبيبا أديبا.

1 / 1

وقد يدل على إِن الأُمور التي من خارج ليس لها كبير جدوى في هذه الصناعة إِن الذي يروم إِن يثبت شيئا بين يدي الحكام فهو إِما إِن يثبت إِن الشيء موجود أو غير موجود فقط، أعني أنه كان أو لم يكن، وذلك إِذا كان قد حدد صاحب الشريعة إِن ذلك الشيءَ الذي فيه الشكوى عظيم أو يسير، وأنه عدل أو جور، وإِما إِن يثبت الأَمرين، وذلك إِذا لم تحدد الشريعة ذلك الشيء الذي فيه الكلام فأما استعمال الانفعالات في تثبيت إِن الأَمر عدل أو جور فغير ممكن، وذلك إِن الانفعال بالرحمة أو البغضة إِنما يكون لشيءٍ جزئي، والعدل والجور أُمور كلية. وأما استعمالها في إِن الأَمر كان أو لم يكن فله في ذلك تأْثير لكنه ليس يوجب إِن الأَمر كان أو لم يكن بالذات، بل إِنما يُميل الحكام إِلى إِن يقولوا إِنه صدَق فيما ادعى أو لم يصدق، من غير إِن يحدث للحاكم أو المناظر بذلك تصديق زائدا بالشيء الذي فيه الكلام. قال: وقد يجب إِن تكون السنن هي التي تحدد إِن الأَمر جور أو عدل، وتفوض إِن الأَمر وجد من هذا الشخص أو لم يوجد إِلى الحكام. وبالجملة: فتفوض إِليهم الأُمور اليسيرة. وذلك لسببين: أما أولا فإِنه قل ما يوجد حاكم يقدر إِن يميز الأُمور على كنهها، فيضع إِن هذا الأَمر جور وهذا عدل في الأَقل من الزمان. وأكثر الحكام الموجودين في المدن في أكثر الزمان ليس لهم هذه القدرة. وأما ثانيا فلأَن الوقوف على إِن الشيء عدل أو جور يحتاج واضع السنن فيه إِلى زمان طويل، وذلك لا يمكن في الزمان اليسير الذي يقع فيه التناظر في الشيء بين يدي الحكام. فلمكان هذين الأَمرين يصعب إِن يُفَوض إِلى الحكام إِن هذا الأَمر عدل أو جور أو نافع أو ضار، بل إِنما يُفَوض إِليهم إِن الأَمر وقع من هذا الشخص أو لم يقع، وذلك لبيانه، ولأَنه أمر لا يمكن إِن يضعه صاحب السنة. قال: وإِذا كان الأَمر هكذا، فمعلوم إِن هؤلاءِ الذين تكلموا في الأَشياءِ التي من خارج، أني في صدور الخطب وفي الاقتصاص وفي الانفعالات وما يجري هذا المجرى، لم يتكلموا في شيءٍ يجري من الخطابة مجرى الجزء، وإِنما تكلموا في أشياء تجري مجرى اللواحق. فأما الأَشياءُ التي تكون بها التصدبقات الصناعية - وهي أول ذلك الضمائر - فلم يتكلموا فيها بشيءٍ. ومن أجل أنا نحن نرى إِن الضمائر عمدة هذه الصناعة، نعتقد إِن المخاطبة التي تكون على جهة التشاجر والتنازع بين يدي الحكام والمخاطبة التي تكون على جهة الإِرشاد والتعليم هي لصناعة واحدة، وهي هذه الصناعة، وأما هؤُلاءِ الذين تكلموا في هذا الجزء من الخطابة فقد يلزمهم ألا ينسبوا من الكلام في هذه الصناعة إِلى هذه الصناعة إِلا ما كان منه على جهة التنازع والتشاجر وليس في كل الأَصناف التي يتشاجر فيها، بل في الصنف الخسيس منها، وهي الأًمور السوقية التي يتشاجر فيها بين يدي الحكام. وأما التشاجر الذي يكون في وضع السنن فليس ينتفع فيه بالجزءِ الذي تكلم هؤلاءِ فيه من الخطابة. إِذ كان هؤلاءِ لم يتكلموا في الضمائر بشيءٍ. لكن لما تكلموا في الأَشياءِ التي بها يخسس الشيء أو يفخم، ظنوا أنهم قد تكلموا في جميع الأَشياءِ التي تستعمل فيها الأَقاويل الخطبية. واستعمال الأَشياء التي من خارج في الخطابة، دون استعمال الأَشياء التي هي من نفس الأَقاويل الخطبية، فعل خسيس.

1 / 2

وليس لقائل إِن يقول: إِن الأَقاويل التي تكون في التشاجر قد يستغنى فيها بالأُمور التي من خارج عن الشيءِ الذي هو من نفس الأَمر، إِذ كانت السنن في أكثر المدن هي التي ترسم ما هو جور وما هو عدل وعظيم أو صغير، فليس يحتاج في هذا النوع من الخطابة إِلا لما يُميل الحكام فقط، وذلك بخلاف الأَمر في الأَقاويل التي تستعمل في الأُمور المشاورية. فإِن الأَقاويل المشيرة بما يفعل بذوي الجنايات مما هو نافع أو ضار أيسر على الخطيب من الأَقاويل المشاجرية فيهم، أعني التي تثبت فيهم أنهم جاروا أو عدلوا. وليس هذا في ذوي الجنايات فقط. وهذه حال التكلم في الأَشياءِ المشاورية مع التكلم في الأَشياءِ المشاجرية. وذلك إِن الحكام إِنما يحكمون في الأَشياءِ التي يشار بها بأُمور معروفة عند الجمهور، وهو إِن هذا الشيء الذي يشار به نافع أو ضار، فلا يخاف من الحكام إِن يحيفوا فيه. وإِذا كان الأَمر على هذا، فليس يحتاج المتكلم بين أيديهم إِن يثبت أكثر من إِن الأَمر نافع أو ضار، فيوافقه الحكام على ذلك، ولا يمكن إِن يخالفوه لاستواءِ معرفة الجمهور مع الحاكم في النافع والضار. وأما المتكلم بين يدي الحاكم في الأُمور المشاجرية فقد ينبغي له إِن يتحفظ من الحكام في قضائهم إِن هذا عدل أو هذا جور، لأَن معرفة العدل والجور هو شيء غريب عند الجمهور، وإِنما يعرفه القوام بالشريعة. فلذلك يمكن إِن يسلم الحاكم للمتكلم الشيء الذي رام تثبيته، ولا يفضى له بما فيه من الجور أو العدل، فيحتاج المتكلم بين أيديهم إِن يعرف الأَشياء التي هي جور والتي هي عدل، والأَشياء التي يثبت بها أنها عدل أو جور. ولمكان هذا تمنع السنة في مدن كثيرة إِن يتكلم بين يدي الحاكم في الأشياء التي تمُيلهم وتستعطفهم عن أحد المتنازعين. وإِنما يباح لهم التكلم بين أيديهم بأشياء محدودة مما رسمها واضع السنة. وأما المتكلم في الأُمور المشورية فليس يحتاج إِلى مثل هذا التحرز. فإِن الحكام يبالغون في التحفظ من إِن يقولوا في الشيء النافع إِنه ليس بنافع أو في الضار إِنه ليس بضار، إِذ كان ذلك مما يحط منزلتهم عند الجمهور لاستواءِ علمهم به وعلم الحكام. وإِذا كان الأَمر هكذا، فإِذن ما يحتاج إِليه الخطيب في الأُمور المشاجرية من معرفة الأَشياءِ التي توقع التصديق أكثر مما يحتاج إِليه الخطيب في الأُمور المشاورية. قال: ومن أجل أنه معلوم إِن الأَشياء المنسوبة إِلى هذه الصناعة إِنما يقصد بها التصديق والاعتراف من المخاطب بالشيء الذي فيه الدعوى، وذلك لا يكون إِلا بتثبيت الشيء عنده المعترف به، وذلك أنا إِنما نعترف بالشيءِ إِذا رأينا أنه قد ثبت عندنا. والشيء الذي نثبت به الأَشياء على طريق الخطابة هو الضمير، لأن هذا هو أصل التصديق وعموده في الأُمور التي توقع هذا النحو من التصديق، أعني التصديق البلاغي.

1 / 3

والضمير هو نوع من القياس. ومعرفة القياس هو جزء من صناعة المنطق. فقد يجب إِن يكون صاحب المنطق هو الذي ينظر في هذه الصناعة: إِما في كلها، وإِما في أجزاءٍ منها. وبينّ إِن الذي يعرف القياس من كم شيء يلتئمُ ويكون، ومتى يكون، فهو أقدر على عمل الضمير ممن يعرف الضمير فقط دون إِن يعرف القياس الذي هو جنسه. والذي يزيد على هذا فيعلم لماذا تعمل الضمائر والفصول التي بين الضمير وبين سائر المقاييس التي تستعمل في الصنائع الأُخر فهو أقدر من ذينك. والمعرفة بهذا كله إِنما هو لصناعة المنطق. فإِن للقوة الواحدة بعينها، أعني للصناعة الواحدة بعينها، إِن تعرف الشيء الذي هو حق والذي هو شبيه بالحق. والتصديقات الخطبية، وإِن لم تكن حقا، فهي شبيهة بالحق. وأيضا فإِن الناس متهيئون بطبيعتهم كل التهيئة نحو الوقوف على الحق نفسه، وهم أكثر ذلك يؤمونه ويفعلون عنه. والمحمودات وهي التي تكون منها الضمائر شبيهة بالحق من قبل أنها نائبة عند الجمهور مناب الحق، والشبيه بالحق قد يدخل في علم الحق الذي هو علم المنطق. وإِذا كان الأَمر هكذا، فقد استبان إِن قصور هؤلاءِ فيما تكلموا فيه من أمر الخطابة إِنما كان من أجل أنه لم يكن عندهم علم بالمنطق، وأن سائر من تكلم في الخطابة ومن يستعمل الأَقاويل الخطبية فقط من غير إِن يتقدموا فيعرفوا هذه الأَشياء التي هي عمود البلاغة، إِنهم إِنما يتكلمون في أشياء تجري من البلاغة مجرى التزيين والتنميق الذي يكون في ظاهر الشيء وصفحته لا في الأَشياءِ التي تتنزل منها منزلة ما به قوام الشيء ووجوده، وإِن كان قد يظن بما فعلوا من ذلك أنهم قد بلغوا الغاية من الأَقاويل الإِقناعية وجروا في ذلك على طريق الصواب والعدل. قال: وللخطابة منفعتان: إِحداهما إِن بها يحث المدنيين على الأَعمال الفاضلة، وذلك إِن الناس بالطبع يميلون إِلى ضد الفضائل العادلة. فإِذا لم يضبطوا بالأَقاويل الخطبية، غلبت عليهم أضداد الأَفعال العادلة، وذلك شيء مذموم يستحق فاعله التأنيب والتوبيخ، أعني الذي يميل إِلى ضد الأَفعال العادلة أو المدبر الذي لا يضبط المدنيين بالأقَاويل الخطبية على الفضائل العادلة. وأعني بالفضائل العادلة التي هي فضائل بين الإِنسان وبين غيره، أعني بينه وبين المشارك له في أي شيء كانت الشركة، لا بينه وبين نفسه. والمنفعة الثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي إِن يستعمل معه البرهان في الأَشياءِ النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إِما لأَن الإِنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإِذا سلك به نحو الأَشياء التي نشأ عليها سهل إِقناعه، وإِما لأَن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلا، وإِما لأَنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه. فلهذا قد نضطر إِلى إِن نجعل التصديق بالمقدمات المشتركة بيننا وبين المخاطب، أعني بالمحمودات. وهذه المنفعة تشارك هذه الصناعة فيها صناعةَ الجدل، كما ذكرنا ذلك في كتاب الجدل عند قولنا في الأَشياء التي يمكننا بها إِن نبين مطلوبات مختلفة.

1 / 4

وهذه الصناعة يمكنها الإِقناع في المتضادين جميعا، كما يمكن ذلك في القياس الجدلي. وذلك أنا قد نقنع في ذي الجاني أنه أساءَ وأنه لم يسيء، ولست أعني أنا نفعل الأَمرين جميعا في وقت واحد، بل نفعل هذا في وقت، وهذا في وقت بحسب الأَنفع، وذلك أنه كثيرا ما يكون الشيءُ نافعا في وقت، وضده نافعا في وقت آخر. وأيضا فإِنه إِذا كانت الأَشياءُ التي تثبت الشيءَ وضده عندنا عتيدة، وسمعنا متكلما قد أقنع في الضد الذي ليس بعدل، أمكننا بهذه القوة إِن ننقض عليه قوله. فهاتان المنفعتان موجودتان في القدرة التي في هذه الصناعة على الإِقناع في الشيءِ وضده. وليس توجد هذه القوة في شيء من الصنائع القياسية إِلا في هاتين الصناعتين، أعني صناعة الخطابة وصناعة الجدل. وكلا هاتين الصناعتين هما مهيئتان بالطبع وعلى السواءِ للإِقناع في كلا المتقابلين، أعني أ، هـ ليس واحدة منهما توجد أشد استعدادا للإِقناع في أحد المتقابلين منها في الآخر، بل الاستعداد الموجود فيها على الإِقناع في المتقابلين هو على السواء. فأمما الأَشياءُ الموضوعة لهاتين الصناعتين، أعني الأَشياء التي فيها تقنع وبها تقنع، فليس استعدادها لقبول الإِقناع على السواءِ، ولا جدوى الإِقناع فيها على السواء. لكن إِذا كانت الأُمور التي تقنع فيها صادقة، كانت الأَقاويل الخطبية والجدلية التي تستعمل فيها أفضل وأبلغ. قال: وليس واجبا إِن نرى أنه قبيح بالإِنسان إِن يعجز عن إِن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإِنسان، أعني إِن يعجز عن إِن يضر بلسانه الضرر العظيم، لا الضرر الذي هو عدل فقط، بل والضرر الذي هو جور. فإِنه يظن إِن هذا شيء يوجد عامَّا في جميع الفضائل التي هذه الصناعة واحدة منها، ما عدى الفضيلة النظرية والخلقية، ولا سيما في الأُمور العظام النافعة مثل الجلَد والصحة واليسار والسلطان وما أشبه هذه الأَشياء من الأُمور النافعة، أعني إِن كل واحد من هذه الخيرات هي معدة لأن ينفع بها المقتنى لها غيره منفعة عظيمة إِذا استعمل العدل، ويضر بها ضررا عظيما وذلك إِذا استعمل الجور. فإِن الصحة والجلَد والسلطان قد يستعملها المرءُ في الضرر والنفع، وكذلك الحال في الخطابة. فقد استبان من هذا إِن هذه الصناعة ليس تنظر في أحد المتقابلين، ولكنها تنظر فيهما على السواءِ، كالحال في الجدل، وأنها نافعة لهذا جدا. وليس عمل هذه الصناعة إِن تقنع ولا بد، أعني أنه ليس يتبع فعلها الإِقناع ضرورة، كما يتبع فعل النجار وجود الكرسي ضرورة، إِذا لم يكن هنالك عائق من خارج، بل عملها هو إِن تعرف جميع المقنعات في الشيءِ وتأًتى بها في ذلك الشيء، وإِن لم يقع إِقناع. والحال فيها في هذا المعنى كالحال في صناعات كثيرة مثل صناعة الطب، فإِنه ليس فعلها الإِبراء ولا بد، بل إِنما فعلها إِن تبلغ من ذلك غاية الشيء الممكن فعله في ذلك الشيء المقصود بالإِبراء. ولذلك قد يشارك في أفعال هذه الصنائع مَنْ ليس مِنْ أهلها، مثل إِن يبرئ مَن ليس بطبيب، ويقنع مَنْ ليس بخطيب. لكن الفعل الحقيقي إِنما هو لصاحب الصناعة، وذلك إِن الغاية تتبع فعل هذا على الأَكثر، وذلك على الأَقل.

1 / 5