وليكن التفسير ما يكون، فإن مصر؛ مصر التي تشكلت على هذا النحو المفاجئ المثير، قد سيطرت هي أيضا على مصائر أبنائها، واقتضتهم ثمن بقائها على الشكل الذي صنعوه.
هذا هو موضوعنا.
الاستمرار والتغيير في تاريخ مصر
«إن التفاعل الحادث بين المبدأين المتقابلين - مبدأ الاستمرار ومبدأ التغيير - يكون مادة التاريخ، فما يبدو في التاريخ مستمرا لا يخلو أبدا من تغيير خفي دقيق، وما من انقلاب - مهما كان فجائيا، ومهما كان عنيفا - استطاع أن يقطع تماما صلة الاستمرار بين الماضي والحاضر.» هذه فقرة مقتبسة من بحث للأستاذ «كار» في تقدير صلة الثورة الروسية بالتاريخ الروسي.
وإنا لنجد تأييدا لما ذهب إليه الأستاذ «كار» في بحثه هذا إذا ما ألقينا نظرة فاحصة سريعة على تفاعل هذين المبدأين في تاريخ مصر.
والتغيرات التي سنعرض لها في حديثنا الحالي كانت - في أغلب الأمر - اجتماعية وثقافية، وبما أننا سندرسها في مجتمع معين - هو مصر - فلسنا في حاجة إلى أن ندخل في نطاق البحث ما تصوره بعض فلاسفة العصور القديمة والوسطى والحديثة من أطوار كبرى مرت فيها البشرية، من قبيل تصوير «هسيود» لعصور الذهب والفضة والحديد، أو ذاك النسق الذي رسمه «أوجست كونت» لتقدم الجنس البشري من طور إلى آخر، أو أكوار الكون والفساد المشهورة التي تخيلها المفكرون اليونان، تلك التصورات والتخيلات لها قيمتها من حيث كونها وسائل لترتيب الحقائق والظواهر في شكل منظم، ولكنها لا تعين كثيرا على إيضاح المشكلات المتعلقة بمجتمع معين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن أتخذ من الاستمرار والتحول مرادفا لارتقاء المدنية أو السلطان وتدهورهما، أو كما عبر «شبنجلر» بقوله: «مولد المدنية ثم نموها، فنضوجها، وأخيرا انحلالها فزوالها». وقد سما الأستاذ «توينبي» بدراسته التغير ومظاهره إلى أرفع مراتب المجاهدة الروحية، ولكنه لا يقبل أن يكون ما سماه «دول العصبيات المحلية» مجالات صالحة لعمل المؤرخ، ولكن هل نستطيع حقا أن نغفلها على هذا النحو السهل؟ وبعد، هل يوجد ماض يعتد به شعب من الشعوب سوى ماضيه، ماضي وطنه، ماضي عصبيته المحلية مهما كان شأنه ضئيلا بالنسبة إلى ماضي الإنسانية، ومهما كان أفقه محدودا ضيقا؟
أما عن منهجي فلا أرى بأسا في ألا أستخدم مفتاحا واحدا ألج به عالم التغير في التاريخ، وإليك بعض ما قالوه في هذا:
من ذلك ما لاحظ الأستاذ «سبروت» حديثا عن اتجاه بعض المفكرين إلى اعتبار التقدم الإنساني ظواهر حتمية لعملية باطنة؛ عملية تتخذ طريقها، وتسير فيه مستقلة عما يريده الناس، ولو أنها تتأثر به. هذا بينما يربط الأستاذ «باريتو» ما بين التغير الاجتماعي والتغير في نوع الصفوة التي تقود الجماعة. أما النظرية الماركسية فتبرز التغير في أساليب الإنتاج وطرائقه، والصراع بين الطبقات، وما إلى ذلك.
ومن الخير أن نعرف ما ذهب إليه أولئك الاجتماعيون وغيرهم، على أن ننهج منهجا آخر لفهم التفاعل بين الاستمرار والتغير في تاريخ مصر، نهجا يصح أن أسميه «ملازمة الوقائع» وهو يقوم على السعي إلى عزل أو فصل النواة الأساسية للثقافة المصرية، ثم ملاحظة تأثر تلك النواة بما طرأ من مؤثرات في الحياة المصرية، ترتبت على وصل مصر طوعا وكرها بالمدنيات والجماعات المتعاقبة غير المصرية، ودرجة هذا التأثر هي مقياس التفاعل بين الاستمرار والتغير.
अज्ञात पृष्ठ