وقد كان ذلك بداية ارتباط وثيق بين الريف والمجندين - وكانوا عادة من الأجانب - ذاك الارتباط الذي دام حتى بداية القرن التاسع عشر، وقد اتخذ ذلك الارتباط مظهرين: أحدهما: مرابطة الجند في الريف مثلا. أما المظهر الآخر فهو تخصيص دخل الدولة من الأراضي الزراعية بالذات للإنفاق على القوات المسلحة، ويجدر بنا في هذه الجولة العاجلة أن نلاحظ أن أولي الأمر في إمبراطورية الرومان، رغبة منهم في قهر مقاومة المصريين على التخلي عن قوميتهم، حولوا عواصم الولايات - تلك المدن التي كان يطلق عليها اسم: «متروبوليس» - إلى بلديات ذات حكم ذاتي، وقد تم ذلك في القرن الثالث الميلادي حينما كانت مصر تجتاز ذاك الطور من ثقافتها التي كانت مزيجا من الحضارات المصرية والهيلينية واليهودية، لتصبح ذلك المزيج الفذ: المسيحية «المصرية».
وهنا نقف لحظة لنلقي نظرة إلى الوراء، إلى ثقافة ما قبل المسيحية، وهي التي تسمى عادة حضارة الإسكندرية، وهي تسمية عملية وإن كانت لا تعطي استمرار التقاليد المصرية الخالصة في الريف حقها من الاعتبار، ولا عجب فإن تلك التقاليد خبا نورها إلى جانب ما كان للإسكندرية من بهاء وسناء.
ويمكن للباحث أن يستعرض ثقافة الإسكندرية من وجهتي نظر، هما: وجهة نظر الجماعات الثلاثة التي أسهمت في تكوينها؛ أي من ناحية ما كان لتلك الثقافة من أثر في ازدهار وتنمية التقاليد الخاصة بكل جماعة منها، كما يصح أن يستعرضها من ناحية انبثاقها وبزوغها ثقافة إنسانية عامة بالمعنى الحقيقي لذلك الوصف. ومما لا شك فيه أن كلا من التراث القومي لليهود والهيلينيين كان بفضل ما تم بينهما من اتصال في مدينة الإسكندرية.
وحسبنا أن نشير إلى ما بذل من جهود متواصلة في دراسة روائع الأدب الهيليني الكلاسيكي، وإلى ازدهار الأدب اليهودي في الإسكندرية؛ مما يبرهن على أن الحضارات القومية المتصلة اتصالا حيويا بالحضارات الأخرى تكون دائما بمنأى عن خطر الاضمحلال أو الفناء، وبينما كانت التقاليد الثقافية القومية المختلفة تتفاعل على هذا النحو تفاعلا مثمرا فيما بينها، حدث في الوقت نفسه بزوغ اتجاه عام جديد نحو معالجة الشئون الكبرى لحياة البشرية في هذا العالم، كان هذا الاتجاه في بعض الأحايين غير مباشر، ومثاله البحث العلمي الذي مارسه الإسكندريون، وكان هدفهم منه جمع الحقائق وتنسيقها، سواء التي تتعلق بالفلك، أو بالطبيعة، أو بعلوم الأحياء والجغرافيا، أو بغيرها. وكان هذا الاتجاه في أحيان أخرى يهدف إلى معالجة الشئون الكبرى باتخاذ أقصر الطرق، ومثال ذلك إنشاء إله أو معبود واحد (هوسيرابيس) تركيبا من آراء دينية مصرية وإغريقية، وفي أحيان أخرى كانت تلك الشئون تعالج من الناحية التصوفية والفلسفية. وكانت المشكلة التي تشغل بال الإغريق واليهود، ومن بعدهم المسيحيين في الإسكندرية، هي مسألة علاقة الله بالكون، وبخاصة بالإنسان.
ولم يقم المصريون بنصيبهم في صخب الحياة الروحية وغمارها وخضمها إلا بعد انتشار المسيحية، وتفتت الصخرة الصلبة صلابة الجرانيت في قلب المجتمع المصري القديم، وكانت ثمرة روحانيتهم المسيحية نظام الرهبنة، والنظام في صميمه ولبه ثورة الفلاحين المصريين، هي في ظاهرها ثورة على الحياة الدنيوية، ولكنها - في حقيقتها وواقعها - ثورة على المدينة، وكل ما ترمز له المدن وحياة المدن، وقد تردت في وهاد الجدب والعقم والعنف والرذيلة.
هذا، وقد أعاد انتشار الإسلام «للمدينة» مكانتها المسيطرة المهيمنة في المجتمع المصري، فثقافة مصر الإسلامية ثقافة حضارية، وقد شهدت القاهرة - ولمدى أقل بعض المدن في الأقاليم - ازدهار تلك الثقافة ازدهارا كاملا، وتبوأت القاهرة مكانة ممتازة بين مراكز الحضارة الإسلامية، وذلك في ميادين الفنون ونشر العلم ومرفهات الحياة، هذا وقد درج بعض علماء الغرب على أن ينكروا على المدينة الإسلامية الصفة الحقيقية التي تتسم بها المدينة، ومن رأيي أن ما حدا بهم إلى اتخاذ ذلك الرأي يرجع إلى أن المدينة الإسلامية تفتقر إلى مراسيم إنشاء الأنظمة المدنية، ولكن - مع ذلك - لا مراء في أن مدينة القاهرة الإسلامية قامت بنصيبها الأوفى في بناء مصر السياسي، وكان هذا بفضل هيئاتها المدنية، ومعاهدها الدينية، مضافا إلى ذلك - وهذا ما لا يصح إغفاله - الفتن الشعبية، فنصيب القاهرة في الأحداث لا يمكن تجاهله.
هذا وبفضل نمو الطوائف الصوفية، وتمسك الشعب عامة بالقصص الشعبي، خلقت الصلات التي كانت تربط الريف بالمدينة، تلك الصلات التي بقيت إلى يومنا هذا.
هذا وقد شهد عصرنا الاتجاه نحو إدماج المدينة والريف في فكرة المواطنة المشتركة، ونمو فكرة الدولة، ولكن ما زال أمامنا طريق طويل، علينا أن نسكله قبل أن نصل إلى موازنة صالحة بين الاثنين من وجهة النظر الثقافية.
مصر والعهد القديم
ما هي طبيعة علاقات مصر «ببني إسرائيل»، أولئك القوم الذين تحدث عنهم العهد القديم، وعن أحداث تاريخهم وجهودهم الروحية بتلك الروعة وذاك السناء؟ هل أسهموا في تكوين مصر إسهام الحضارة الهيلينية والمسيحية والإسلام والغرب فيه؟
अज्ञात पृष्ठ