تلك - إذن - هي الأسس النظرية لنموذج الإنسان الكامل عند المفكر العربي القديم: تحليل للنفس على نحو ما حللها به اليونان الأقدمون، وهو تحليل مؤداه أن تكون القيادة للعقل، هو الذي ينظم الرغبة والانفعال، دون أن تطمس رغبة أو أن يطفأ انفعال. لكن الفكر العربي لم يترك الأمر عند هذا الحد النظري المجرد، بل تناوله بصورة تفصيلية تصلح لهداية الناس في سلوكهم الفعلي. ونسوق مثلا لهذا التناول المفصل ما كتبه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي فيما أطلق عليه اسم «الطب الروحي» أو «طب النفوس»، والذي أوحى له بهذا العنوان هو كتابه الذي كان قد ألفه في الطب الجسماني، فما لبث أن رأى أن الصورة لا تكمل إلا بكتاب آخر يؤلفه في طب النفوس ليصح الإنسان بالكتابين جسدا وروحا.
والذي قصد إليه الرازي بطب النفوس هذا هو أن يتعقب مصادر النقص الخلقي عند الإنسان، ليبين لقارئه كيف يكون أسعد حالا وأهنأ حياة إذا هو ملك زمام فطرته ووجهها على النحو الذي يهيئ له حياة متزنة معتزلة مأمونة العواقب. وهو يصف كتابه هذا في فاتحته بقوله: «هذه مقالة عملتها في إصلاح الأخلاق» - قاصدا «بالأخلاق» ذلك السلوك السوي السليم، وهو باتجاهه هذا إنما يذكرنا بجانب هام من جوانب الطب النفسي الذي شاع في عصرنا هذا وذاع وأصبحت له «عيادات» وتصدر عنه مئات المؤلفات، مع اختلاف في طريقة التناول تتناسب مع اختلاف العصرين.
ولقد فصل الرازي كتابه عشرين فصلا، كان أولها فصل في فضل «العقل» ومدحه، وها هنا نضع أصابعنا على مفتاح رئيسي من مفاتيح الشخصية العربية كما صورها تراثنا، إلا تكن هي الشخصية العربية كما وقعت بالفعل في مجرى التاريخ، فهي الشخصية التي تعلق بها النموذج والمثال، فنموذج الإنسان كما رسموه هو الإنسان الذي كان محكوما بعقله، لا بشهوته وغريزته، بل ولا بوجدانه وعاطفته، ولماذا تركوا الزمام للعقل لا للهوى؟ الإجابة عند الرازي - وغيره - أن ذلك أجلب «للمنافع» آخر الأمر، فقد تعود علينا الأهواء بإشباع لرغباتنا سريع، لا يلبث أن ينقلب علينا هما وغما، وأما فعل «نبنيه» على وزن نتائجه القريبة والبعيدة - وهذا هو نفسه العقل ومعناه - فالأرجح أن يكون مأمون العاقبة، فالعقل - كما يقول الرازي - هو «الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة البهائم والأطفال والمجانين»، «وبالعقل نتصور أفعالنا العقلية قبل ظهورها للحس، فنراها كأن قد أحسسناها.» وما دام أمره كذلك فقد «حق علينا ألا نجعله وهو الحاكم محكوما عليه، ولا وهو الزمام مزموما، ولا وهو المتبوع تابعا، بل نرجع في الأمور إليه ... ولا نسلط عليه الهوى الذي هو آفته.» وأنا أترك للقارئ العربي المعاصر أن ينظر لنفسه ويحكم: إلى أي حد يكون زمامنا في أيدي عقلائنا، وإلى أي حد نترك هذا الزمام لأصحاب النزوة والهوى؟
وإذا كان الاحتكام إلى العقل هو أحد وجهي العملة - كما يقال - فلا بد أن يكون الوجه الآخر هو في قمع الهوى وردعه؛ لأن هذا مكمل ضروري لذاك؛ ومن ثم جعله الرازي موضوعا للفصل الثاني من كتابه، فلئن كان الإنسان بعقله مدركا للأمور إدراكا صحيحا، فهو بقمعه لهواه صاحب «إرادة»، والعقل من جهة، والإرادة من جهة أخرى، هما - كما نعلم - جانبان متلازمان: أحدهما له النظر والآخر عليه التنفيذ. وليس الأمر بالهين اليسير إلا على من تناول إرادته بالتدريب المتصل الدءوب؛ وذلك لأن ما سوف يقاومه الإنسان بإرادته تلك إنما هو طبع مغروز في جبلته. فانظر كم هو عسير على الكائن الحي أن يسير ضد طبيعته، فلعل هذه أن تكون هي «الأمانة» التي عرضت على الجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان (والكلام هنا من عندي لا من عند الرازي)، فلقد آثرت الجبال، ومعها سائر الطبيعة من جماد ونبات وحيوان أن تترك نفسها لقوانين ليست من صنعها، فهي تسير ولكنها لا تعرف: لماذا؟ ولا إلى أين؟ إلا الإنسان! يقول الرازي: البهائم واقفة عندما يدعوها إليه الطباع، على خلاف الإنسان الذي يسلك السلوك بعد روية عقلية فيخالف به ما يدعو إليه الطباع، «فإنك لا تجد بهيمة تمسك عن أن تروث أو تتناول ما تغتذي به، مع حضوره وحاجتها إليه، كما تجد الإنسان يترك ذلك ويقهر طباعه عليه، لمعان عقلية تدعوه إلى ذلك.»
بعد أن يفرغ الرازي من كلام طويل يوازن فيه بين لذة عاجلة يرضاها الهوى ولذة آجلة يفضلها العقل، تقرؤه فتحسب أنك إنما تطالع فصلا عند «بنتام»
Bentham
أو عند «جون ستيوارت مل»
Stewart Mill (من مفكري القرن الماضي في إنجلترا) ينتقل بك إلى أولى الصفات النوعية الخاصة التي لا تكون أبدا من صفات الرجال ذوي الهمم الشماء، ألا وهي العشق، أو الحب - بلغة يومنا - لأنه بلية يكفي فيها أنها تدعو العاشق إلى تذلل وخشوع، «فأما الخنثون من الرجال والغزلون والفراغ، والمترفون، والمؤثرون للشهوات ... فلا يكادون يتخلصون من هذه البلية.» وكأنهم بها يرتدون إلى حالة الطبيعة العمياء، فاقرأ هذا وأمام عينيك صورة لشباب «الهيبز» في عصرنا!
ولا نطيل الوقوف هنا لننتقل إلى نقيصة نفسية لا نبرأ منها إلا بتسليط العقل على الهوى، وتلك هي «العجب»، فكل إنسان هو بطبيعته محب لنفسه، وذلك يدعوه إلى «استحسان الحسن منها فوق حقه، واستقباح القبيح منها دون حقه ... فإذا كانت للإنسان أدنى فضيلة، عظمت عند نفسه، وأحب أن يمدح عليها فوق استحقاقه، وإذا تأكدت فيه هذه الحالة صار عجبا، ولا سيما إن وجد قوما يساعدونه على ذلك» ...
ومن بلايا «العجب» - كما يقول الرازي - أنه يؤدي إلى النقص في الأمر الذي يقع به العجب، لأن المعجب لا يروم التزيد في الباب الذي منه يعجب بنفسه ... فالمعجب بعمله لا يتزيد منه، لأنه لا يرى أن فيه مزيدا، ومن لم يستزد من شيء ما نقص لا محالة وتخلف عن رتبة نظرائه.
अज्ञात पृष्ठ