فقد ارتفعت إلى مصاف الديانات بعد موت مؤسسها أو بعد اختفائه الأسطوري، واشتبكت في صراع دائم مع الكونفوشية ثم الكونفوشية الجديدة أشبه بالصراع بين قطبي الجدل الصيني المشهور، وهو الين (السلب) واليانج (الإيجاب).
وانهارت الطاوية بعد القرن الثاني الميلادي، وتردت في مستنقعات الدجل والسحر والشعوذة والتنجيم والعرافة وطرد الأرواح الشريرة من البيوت والأجساد وإطالة العمر والطيران في الهواء، ثم اندمجت بعد القرن الخامس الميلادي أو أدمجت فيها البوذية الهندية الأصل التي استقرت في الصين، وعرفت ب «التشان»، ثم انتقلت منها إلى اليابان، حيث تحولت إلى بوذية «الزن»، وازدهرت مدارسها المتنوعة إلى يومنا الحاضر. ولقيت - أي الطاوية - العنت والاضطهاد من الكونفوشية عندما أصبحت هذه هي الديانة والفلسفة الرسمية لأكثر من ألف عام، وانقلب الاضطهاد إلى الإهانة البشعة (لها ولسائر دكاكين العاديات القديمة!) في ظل الثورة الثقافية الفاشلة على أيام «ماو-تسي-تونج»، ولكنها بقيت على الرغم من كل هذا القهر الطويل كما بقي كتابها المقدس منبع إلهام لا ينفد معينه لأجيال من المتأملين الثائرين، وعباقرة فن الرسم الصيني الدقيق الرقيق، وملايين الفقراء البسطاء من الفلاحين والصيادين، ومئات الباحثين والدارسين والمترجمين، الذين ما زالت نصوصه الغامضة الغنية بالإيحاءات تجذبهم كالفراشات حول أنوارها وتجلياتها وألغازها الحافلة بالأسرار.
ويبدو أن المعلم الصيني العجوز نفسه قد أحس ببصيرته الملهمة أنه سيساء فهمه في عصره وبعد عصره؛ لذلك نسمع صوته خلال الكتاب وهو يبلغ كلمته، ويجردها ويجرد نفسه من الوقوع في أي وهم: «كلماتي سهلة جدا على الفهم، سهلة جدا على التنفيذ، لكن لا أحد في المملكة كلها يقدر على فهمها، وما من أحد في المملكة كلها يقدر على تنفيذها.» وربما استطعنا أن نقول عنه - بالرغم من ظلمات الخرافة التي أحاطت باسمه وحياته - إنه لم يكتف طوال عمره بالدعوة للطريق والاتحاد به، بل اتحد كذلك بأسلافه من الحكام والحكماء الذين لم يسأم الرجوع إليهم والإشادة بذكرهم. لقد كانوا مثله - كما يقول في المقطوعة الخامسة عشر - دقيقي الفكر، نافذي البصيرة، أغنياء بالأسرار، ولكنهم كانوا أيضا من العمق بحيث استعصى على الناس أن يفهموهم أو يستجيبوا لهم. والغريب أننا نجده يصف سلوك الحكيم القديم وكأنه يصف سلوكه هو نفسه: «متردد كأنه يعبر نهرا في الشتاء، خائف كأنه يخشى الجيران من حوله، متزن كأنه يجلس في حضرة مضيفه، متسامح كأنه الثلج عندما يذوب، أصيل كأنه الخشب لم تمسه يد، واسع الصدر كأنه وادي النهر، مضطرب كأنه دوامة من الماء العكر.»
والظاهر أيضا أنه لقي الأمرين من حاكم ولاية تشو التي عمل فيها أمينا للوثائق - كما سبق القول - وربما من غيره من الحكام وأمراء بعض الولايات الأخرى، الذين اعتاد حكماء الصين المصلحون أن يتوافدوا عليهم للنصح والتعليم والتهذيب، فيرحب بهم البعض، ويذلهم البعض الآخر ويطردونهم بعد أن يعاقبوهم أقسى عقاب. ولا نريد أن نسترسل في التخمينات التي تسبح كسحب الدخان في سموات العصور، وتلاحق كذرات الغبار مواكب الأجيال، ولكن ربما يشفع لنا الترفع الحزين الذي يسري في سطور الكتاب أن نقول إن المعلم لم يخدع نفسه أبدا عن المصير المحتوم الذي يلقاه المثقف الحقيقي الذي يرفض الواقع القائم، وينبض قلبه وقلمه بالحب الغامر لأهله الذين لا يلقى منهم إلا التجاهل والإهمال، وربما لا يبخلون عليه - كما هي العادة! - بالغدر والازدراء والإهانة. والحقيقة أن المقطوعة العشرين تنطوي - إذا صح حدسي الذي لا يدعي الصواب، ولا يجرؤ على الاقتراب من عتبة اليقين! - على ما يشبه أن يكون ترجمة ذاتية استطاع فيها المعلم العجوز أن يخترق حجب التحفظ والكتمان، وأن يهتف صارخا مع علمه بأن صوته سيضيع في البرية:
آه! ما أبعد الفجر! الناس جميعهم فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة التضحية، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع. أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير لم يبتسم مرة واحدة في حياته. أترنح وأتمايل، كأنني أضعت وطني. الناس جميعا عندهم فوق ما يكفيهم. أنا وحدي تعريت من كل شيء (أو فقدت كل شيء). حقا! إن قلبي أحمق ومعتم ومضطرب. عامة الناس لامعون، وأنا وحدي مظلم. عامة الناس جادون واثقون من أنفسهم، وأنا وحدي متعب حزين الفؤاد، ثائر ثورة البحر، مضيع كأني بلا هدف. الناس جميعهم يتطلعون إلى المنفعة، وأنا وحدي عنيد كأني ابن الوحوش. أنا وحدي غير الآخرين، وأنا الذي لا يقدر شيئا لا يأتي من ثدي الأم المرضع.
هل يجوز لنا أن نفهم من هذه السطور المتأججة بجمرات الثورة والمرارة والألم، أن الناسك المصلح ينفس فيها عن غضبه المقدس على عصره ومعاصريه؟ هل يصح أن نستخلص منها الإيمان العظيم بالثقافة الحقيقية، التي تغير ولا تكتفي بالثرثرة النرجسية والزفات الكلامية التي طغى عليهما الإعلام والإعلان والادعاء والاستعراض؟
أسئلة أتركها للقارئ الذي «يتمسك بالطريق»، ويعلي من شأن الكلمة الراضعة من ثدي الأم.
وأخيرا، فقد طوفت بقدر ما استطعت بين عدد من عيون التراث الإنساني، من بابل والصين وحضارة الإغريق إلى أدب الغرب الحديث والمعاصر وفلسفته، مع الإلمام بعدد آخر - ربما يكون أقل - من عيون تراثنا الأدبي والفكري. ولقد تحيرت حيرة شديدة عندما فكرت في الكتابة عن هذا الكتاب، الذي أعترف بأنه كان وما زال أقرب الكتب إلى قلبي، وذلك منذ أن عشت نصوصه قبل أكثر من أربعين عاما، وتعاطفت مع مؤلفه المعلوم-المجهول، الذي آثر في نهاية المطاف أن يلجأ إلى منفاه الخارجي أو منفاه الداخلي. ومع أن قصتي مع هذا الكتاب لم تنته بترجمتي له، إذ ما زلت أقلب فيه الطرف من وقت لآخر، وأجمع ما يتيسر لي العثور عليه من ترجماته الجديدة في اللغات الأوروبية، وما أقع عليه من دراسات للفكر الصيني بوجه عام، وللطاوية بوجه خاص، وما زلت أرجو أن يتسع الوقت لي أو لغيري لإلقاء المزيد من الضوء على صورة الحكيم والناسك الصيني المصلح الثائر الذي اتحد بالطريق الأبدي، وحمل في قلبه هموم البسطاء والفقراء، وكافح بجهده في سبيل التغيير والإنقاذ، حتى ليبدو لعيني وكأنه طيف رقيق وشجاع يعيش ويتجول بيننا، ويحمل همومنا، ويشجعنا ويواسينا أيضا.
هوامش
عالم صوفيا
अज्ञात पृष्ठ