على أن مائدة الغداء هذه نفسها قليلا ما كانت تجمع بينهما، فكثيرا ما كان يتغذى كلاهما خارج البيت أو يتغذى أحدهما على الأقل في الخارج مع صديق له.
وعلى مائدة الغداء قال حلمي: حفني تستطيع أن تذهب غدا إلى الأستاذ فايز وهبي. - صاحب مجلة الفن؟ - أتعرفه. - أعرف المجلة. - من أين تعرفها؟! - أكان لا بد أن أحصل على الابتدائية حتى أعرف مجلة الفن. - كنت أحسب أن ليس لك صلة بأي قراءة. - ولا حتى مجلة الفن! - حسنا، هل تستطيع أن تكتب شيئا عن المسارح والغناء والتمثيل وما إلى ذلك؟ - طبعا، أنا لي أصدقاء كثيرون بينهم. - كيف؟ - طول المعاشرة للمدرسة جعل لي أصدقاء في كل مكان. - حتى بين أهل الفن؟ - خصوصا بين أهل الفن. - لك حق فكلهم ... - لا تكمل، أعرف ما ستقول. - أنت تعرف أني أقدر الفنون. - ولكن هذا لن يمنعك أن تقول إن كلهم خائب مثلي. - أنا لم أقل. - قلت ولكنك لم تنطق. - يا خسارة يا حفني! - نعم لك حق. - وفهمت هذه أيضا. - إن لم أفهم أخي الذي في مكان أبي فمن أفهم؟ - لو كنت أكملت تعليمك لاخترقت كل الصفوف لتصبح النابغة الأول في أي ميدان تختاره. - وهل يدري أحد يا سي حلمي أين يكمن نجاحه؟ - لك حق، فعلا لك حق، إن شاء الله توفق في عملك الجديد. - بفضلك، إن شاء الله.
ولعلك قرأت كلمة يا سي حلمي وأنت بين مصدق ومكذب، فما هكذا ينادي الأخ أخاه الأكبر، فإن حرفي سي اللذين يمثلان اختصارا لكلمة سيدي لم يعودا يتخذان نفس القيمة في زماني وزمانك إلا في بعض البلاد العربية غير مصر، ولكن هذين الحرفين في ذلك الزمان كانا عنوان احترام شديد وتوقير، وكان الأخ الأصغر ينادي بهما الأخ الأكبر إذا كان فارق السن بعيدا كما كان أي شاب في أسرة ينادي من هم أكبر منه بأسمائهم مسبوقة بهذين الحرفين. وما دمت قد أخذت نفسي أن أقص عليك ما كان من شأن هذين الأخوين، فحتم علي أن أقص أيضا ما يعرض له الحديث من عادات العصر الذي نشأ فيه، فإن لم أفعل وجدت نفسك متعجبا حينا ورافضا أيضا، وأنا حريص أن أمنع عنك التعجب وأشد حرصا ألا ترفض. •••
وبدأ حفني مستقبلا جديدا كأنما الوسط الفني لم يخلق إلا ليعيش فيه حفني، أو كأن حفني لم يخلق إلا ليعيش في هذا الوسط.
انداح فيه كأنه مولود على خشبة مسرح. وحاول بعض المخرجين أن يستغل جمال وجهه، ولكن انعدام الموهبة تماما عنده، وربما أيضا خشيته من أخيه، كانت حائلا بينه وبين أن يكون ممثلا؛ فقد يقبل حلمي أن ينقد أخوه الفن، ولكنه لا يسمح أبدا أن يصبح أخوه فنانا.
لم يكن المسرح في ذلك الحين هو ذلك الفن الرفيع الذي نعرفه اليوم، ولم يكن مستقلا كل الاستقلال عن مواخير الليل وكباريهات الرقص وبائعات الجنس.
وهكذا راح حفني يتنقل بين أولئك النسوة في زهو الشباب، وعلى موائد المواخير عرف حفني مصر كلها، كبراءها وشبابها، عظماءها والمتسلقين حول عظمائها، وعرف الناس من كل النحل والمهن. عرف الأطباء والمحامين والكتاب والمهندسين وكبار الموظفين وصغارهم وضباط البوليس وضباط الجيش، وما أكثر ضباط الجيش الذين عرفهم هناك!
وعرف أيضا ... عرف القمار.
وعلى هذه المائدة يجتمع عالم آخر غير عالم الناس، وتعيش بجانب الحياة حياة أخرى.
وعرف الزجاجة ولم يحبها، ولكنه كان يشرب ليجاري الجلسة.
अज्ञात पृष्ठ