وسكت الرجل لحظة ثم انفجر ضاحكا بأعلى صوت له، ووجدتني أقول: ولكنني لا أمزح يا مرجان بك.
وازداد ضحك الرجل، حتى إذا هدأ به الضحك قال: العجيبة أن هذه هي الحقيقة، ولكنني أسمعها لأول مرة، وقد كنت أفكر ماذا أنا صانع إذا جابهني بها أحد.
ولم أجد شيئا أقوله، وكان الرجل غاية في الذكاء، فقد سرعان ما استرد وجهه ملامح الجد. - إن الحكومة التي تسرق الأفراد لا بد أن يسرقها الأفراد. - الحكومة شخصية معنوية تمثل الشعب أجمع، وأموالها أموال عامة لا يجوز لأحد أن يسرقها، والذين تتكلم عنهم يمثلون أنفسهم ولا يمثلون مصر. وعلينا نحن أن نؤدي واجبنا نحو بلدنا حتى لو كان هناك من لا يؤدي هذا الواجب. - إذن فأنت ترفض الدفاتر. - أنا شخصيا لن أكون مسئولا عنها، أما رفضها أو قبولها فمن حق صاحب المكتب الدكتور فكري وحده. - أنا أعرف مكانتك عنده، وما دمت أنت رفضتها فهو أيضا سيرفضها، فدعني آخذها ويا دار ما دخلك شر. - هذا إليك. - أتصدقني إن قلت لك شيئا؟ - هذا يتوقف على ما ستقوله. - أنا معجب بك غاية الإعجاب. - ألف شكر. - ولكني لا أتمنى أن تعمل معي ولا أن تعمل لي. - الآن صدقتك.
ولم أعجب من الدكتور فكري حين رد على رسالتي التي قصصت له فيها ما كان من أمر مرجان، ووجدته سعيدا بموقفي كل السعادة، ولكن الدكتور فكري في الكويت. فكيف أعيش أنا في مصر. ومع من أستطيع أن أعمل؟ بل مع من أتكلم؟ كلام الناس في مصر همس، بل لقد انقطع الهمس خشية أن تشي النفس بالنفس. مع من أعيش؟ مع زوجتي، وابني وأمي، ولكن الحياة لا تستقيم إلا مع الحياة. إذا لم أر إلى الناس وأجلس إليهم وأعيش حياتي كما ينبغي لإنسان في مجتمع أن يعيش فما الحياة، هذه مصري أنا وهي مصر كل إنسان فيها، فكيف تنحسر ملكيتها وتصبح مقصورة على عمي حفني ومن يذهب إلى شقته في خوافي الظلام الذي لا يخفي شيئا؟
كيف أعيش في مصر؟ وإذا أنا استطعت فما مصير حلمي؟ إنه الآن في العاشرة من عمره وستلقفه في غد هذه الحياة، فأي الطريقين سيسير فيه؟ وأي النجدين سيهتدي إليه؟ أهو سائر في طريقي وطريق جده أم هو آخذ سمته إلى طريق عمي؟ إن الدماء التي في عروق حفني هي الدماء التي في عروقي، وهي نفسها التي في عروق ابني حلمي، ففي نفسه فجورها وتقواها.
إن البيت الذي نشأ أبي ونشأني هو البيت الذي نشأ حفني وهو نفسه الذي سينشأ في أجوائه وتعاليمه حلمي الحفيد فما مصيره؟
وإذا كان عمي حفني قد اختار طريقه والحياة في مصر فيها الجانبان، فما مصير حلمي وهو لن يجد إلا جانبا واحدا، هو جانب عمي حفني ورواد لياليه؟ •••
جاءني عدلي وعرض علي حيرته تلك ووجد عندي الصمت المطبق؛ فقوله كله حق. والله وحده يعلم مصائر الناس، ولا أستطيع أنا ولا أعتقد أن غيري يستطيع أن يطمئنه. ولم أجد شيئا أجيب به حيرته إلا أن أسأله: ماذا تتوقع؟ - في أي شأن؟ - في شأن مصر.
وصمت قليلا وقال: لم يبق إلا الكارثة.
وذهلت وأكمل: لكل أمر مستقر، ولكل فورة نهاية. وما دامت الأمور قد بلغت هذا المدى فلا بد أن تنكشف عن قمة الهاوية إذا جاز هذا التعبير. - أهذا ما تتوقعه؟ - لا بد للسائر أن يقف، ولا بد للصاعد أن يبلغ القمة أو يهوي، ونحن صاعدون قدما على جبل من أوهام وفساد، وليس للفساد قمة إلا الهاوية.
अज्ञात पृष्ठ