والفاشلون يحبون دائما أن يعلقوا أسباب فشلهم على أقرب مشجب، وليكن المشجب فساد المجتمع أو الوساطة التي تأخذ بيد الناجحين أو هم يبالغون فيدعون أن الذين أفلحوا إنما أفلحوا بالنفاق والسفالة وبيع الضمير. ليكن المشجب أي شيء إلا أن يكون الناجح أهلا للنجاح وهم أهلا للفشل بغبائهم أو جهلهم.
وهكذا نشر صاحب المجلة مقالات حامد، وما هي إلا بضع مقالات حتى عين حامد محررا لباب المجتمع في مجلة الفن، ومن هذا الباب كتب في السياسة. وحين تقرب إلى حفني طلب إليه أن يعرفه بأخيه حلمي. ولم يجد حفني مانعا وتعرف حامد بحلمي.
ألا يطيب لك الآن أن نترك حامد قليلا لنذهب إلى زميله الذي سعى إلى حفني حين بلغه اتصاله بالأميرة. إنه حسن هنداوي.
أما أبوه فسمسار غلال تمكن من تعليمه حتى نال الابتدائية، ثم تقطعت أنفاسه وأعلنه أبوه هنداوي: الابتدائية على أيامنا كانت تجعل الحاصل عليها أفندي قد الدنيا. - ولكنها على أيامنا لا تزيد عن الآخرة في شيء. - يا ابني ألا تعرف ماذا أعمل؟ - تاجر غلال. - يا ليت! يا ابني أنا سمسار، أوصل البائع إلى المشتري أو المشتري إلى البائع وآخد العمولة والسمسرة. - ولماذا لا تكون تاجرا؟ - أولا أنا لا أملك رأس المال، وهذا وحده سبب كاف، ثم إن التاجر عرضة للخسارة، أما السمسار فلا يخسر أبدا. - ولكنك لا تملك شيئا حتى تخشى الخسارة. - حتى وإن كنت أملك المال فأنا لا أملك الجرأة. - الجرأة هي الحياة. - وهي الموت أيضا. - المهم أنا لا أستطيع إكمال تعليمك. - حاول أن تعيني في وظيفة إذن، فعملك جعلك تعرف الكثيرين.
وكان عضو النواب بالدائرة ممن يبيعون قمحهم عن طريق أبيه، فزكاه عند صاحب الجريدة فعين بها، وراح يحاول الالتصاق بالأستاذ فايز وهبي صاحب الجريدة.
وكان الأستاذ فايز يحب الليالي الحمراء، وأدرك حسن هذا فيه، فإذا هو يتقرب إليه عن طريق النساء. وأصبح هو الصلة بين الأستاذ فايز وبنات المواخير اللاتي وجد حياته تقوم على الاتصال بهن، وأصبح من أقرب المحررين إلى صاحب المجلة. ولكن حسن كان ذا طموح كبير ضخم وليس فايز بالنسبة إليه إلا أول الدرج، وربما كان حفني وحلمي هما السلمة الثانية في هذا الدرج. وهو درج من نوع عجيب يراه حسن يؤدي إلى السماء السابعة من الشهرة والمجد والجبروت، ويراه المجتمع الشريف يؤدي إلى أسفل حمأة من السفالة، ويبيع القلم والضمير والشرف وكل ما يتصل بالخلق الكريم.
ولكن حسن حين جال بعينيه فيمن حوله أدرك أنه لا سبيل له أن ينال مكانة مرموقة في الصحافة التي رمته المقادير إليها إلا بأن ينال شهادة وأن يتقن لغة أخرى. وإن كانت صلته بفايز تمكنه اليوم من نشر مقالاته وتقربه مما يظن أنه شهرة ومجد فقد كان من الذكاء بحيث يدرك أن الكتابة هي عرض عقل الإنسان على بشر كثير، وإذا لم يكن ما يعرض عميقا ذا قيمة فلا بد على الأقل أن يكون جذابا، فإذا هو ظل محصورا في دائرة الثقافة الابتدائية وما يكتبه الآخرون في شتى الصحف فلا مستقبل له. التحق حسن بمدرسة من مدارس اللغات وراح يتعلم اللغة الإنجليزية، وفي نفس الوقت راح يذاكر لينال شهادة التوجيهية أو البكالوريا من المنزل؛ فقد كان حسن يعلم أنه إذا لم يتسلح بالشهادة وباللغة فلا سلاح له في الحياة، وحين تعرف بحفني كان قد نال شهادة البكالوريا، وكانت أنفاسه قد تقطعت فاكتفى بها وانصرف عن إكمال الجامعة، واعتمد على أن إتقانه للغة الإنجليزية قد يعوضه عن الشهادة العالية، واعتمد أيضا على أن الناس مع الزمن ينسون ما حصل عليه الإنسان من شهادات، وخاصة إذا كان هذا الإنسان يعمل في الصحافة وليس في وظيفة رسمية في حكومة.
كان كل من حامد وحسن أصغر كثيرا من حفني. وهكذا استطاعا أن يلازماه ملازمة الظل، وتعرف كلاهما بحلمي الذي أصبح وزيرا، فكان مصدر معلومات سياسية لكليهما، وكانا يقسمان المعلومات بينهما، ويعرض كل منهما معلوماته ويعلق عليها كل بطريقته. أما حامد فبخبث الحاقدين، وأما حسن فبديماجوجية التجار الباحثين عن الإبهار عن طريق تضخيم الهائف وتعظيم التافه، وإكساب هين الأمور ما لا تستحقه من أهمية وخطورة.
الفصل الحادي عشر
طغى الملك واستكبر وتجمعت حوله ثلة من أصاغر الناس وحقرائهم الباحثين عن المال لأنفسهم وللملك عن أي طريق وبأي وسيلة، أما هم فوضعاء ويعلمون أن بقاء أي فرد إلى جانب السلطان أمر لا يطول أمده، وأنهم إن كانوا نجوما اليوم فهم في غد قريب مبعدون، فهم يهتبلون فرصة قربهم هذا ليشفطوا ما يتاح لهم وما لا يتاح من أموال، أما الملك فقد كان يشعر في بيته بالمهانة وحقارة الشأن، وكان يريد أن يثبت لنفسه أنه ذكي وخطير، وأنه يستطيع أن يسخر ممن يشاء، وما درى المسكين أنه يسخر أول ما يسخر من نفسه، فإن أحدا مهما يكن ذكاؤه لا يستطيع أن يسخر من شعب أي شعب، فما الخطب إن كان هذا الشعب هو الشعب المصري الذي خاض من أهوال الحياة ما لم يخضه شعب آخر، والذي اقتعد قمة التاريخ في صدر التاريخ ودوخ الطغاة ودوخوه على مر الآلاف من السنين. فليس في العالم أجمع شعب خبر الحياة وخبرته الحياة مثل الشعب المصري، فهيهات أن يسخر منه ساخر.
अज्ञात पृष्ठ