أما بيت أخيه فلم يكن يرحب به كل الترحيب وإن كان لا يصد عنه، فهو يذهب ليقضي واجب الأخوة ثم سريعا ما ينصرف إلى هواء آخر يحب أن يستنشقه، وهو بالتأكيد ليس الهواء الذي في بيت حلمي.
ولم يكن هواء البيت عند عبد الفتاح مشوبا بما يحب أن يستنشق حفني في مألوف حياته، ولكنه أيضا كان خاليا من التزمت الذي كان يواجهه في بيت حلمي وزوجه وأخيها وأمها التي لا تترك سجادة الصلاة إذا تصادف ووجدهما عند زيارته.
وحفني لم يحصل على الأسرة منذ وعى الحياة، والأسرة جزء من دمائنا نحن الشرقيين. وقد كان حلمي هو أسرة حفني جميعا. أما أقاربه الكثيرون فكانوا أصدقاء ولم يعاشرهم وما عاشروه، فهو إذن واجد في بيت عبد الفتاح كل ما تتوق له نفسه من شعور الأسرة، ومن ترحيب في اللقاء، ومن سماحة في المعاملة من بين ضحكات منطلقة لا يحبسها شيء في رنينها، فهي صفاء القلب الخالي والاطمئنان والإقبال على الحياة.
الفصل السادس
صدر تصريح 28 فبراير وأصبحت البلاد تتهيأ لدستور جديد وانتخابات برلمانية، وأصبح من المضحك أن يبقي الإنجليز على معتقلين من المصريين وهم يعترفون لهم في نفس الوقت بحقهم في الحياة البرلمانية الديمقراطية.
وخرج حلمي دون أن تتم محاكمته، فالقضية سقطت بصدور التصريح. - ماذا فعلت بأرضك يا حفني؟
ويجيبه صمت وإطراق. - أجب. - لقد عرفت. - ولكن أحب أن أسمع الإجابة، فلست وحدي الذي سيسألك هذا السؤال، وسنسمعه من أقاربنا جميعا، وسنسمعه من أصدقائك الذين يحترمونك اليوم ظانين أنك صاحب الضياع والأرض والمال ... سنسمعه دائما. فماذا أنت قائل: أجب. ماذا أنت قائل؟ - أنا لم أمس من مالك مليما. - ومتى كان لي مال ولك مال؟ - احتجت للنقود. - فالبيع أقرب شيء إليك؟ - لم تكن بجانبي ماذا كنت أفعل؟ - بسيطة تبيع الأرض. أقدرت أنني سأموت في السجن؟ ألم تنتظر أن تقف مني هذا الموقف؟ - كنت في حالة يائسة. - توقف عن القمار. - كنت خسرت كثيرا وأريد أن أعوض. - وتدور العجلة فتخسر كل شيء. - لم أقدر هذا. - لأنك لا تقدر شيئا على الإطلاق. أنت ابن لحظتك، وليكن بعد ذلك ما يكون. - أرجوك يا سي حلمي كفى. - ألم تقل لنفسك كفى وأنت تبيع كل هذه الأرض؟ أظننتها أرضك؟ - أليست أرضي؟ - إنها أمانة في أعناقنا ولها أصحاب. - أمانة! أصحاب! من أصحابها؟ - أصحابها أولادنا. - قد يبيعونها هم من يدري. - نؤدي نحن أمانتنا والباقي نتركه على الله، فالأرض كلها ملكه، وما نحن إلا خلائف له عليها. - ماذا؟ - أنا آسف. كان يجب أن أقدر أن هذا الحديث لا يلقى إليك. - أكافر أنا؟ - لا. مقامر فقط. - سأتوقف. - أرجو ... كم بقي معك من ثمن الأرض؟ - ماذا؟ - لا شك أنك سمعتني. - وماذا تريد من الباقي؟ - أريده. - أنت؟ - نعم أنا. - أنا لا أعصي لك أمرا. - أعرف ذلك. - خمسة آلاف جنيه. - هاتها. - أمرك.
وخرج حفني ذاهلا، وابتسم السياسي المحترف حلمي وهو يرى الدهشة على كل نأمة جسمه حتى على قفاه الذي كان آخر ما اختفى من الباب.
بقي حلمي لحظات وحده، لم يفقد كل الخير الذي فيه، قلت هات قال حاضر، وهو حتى لا يعلم لماذا إلا أنني أريد فقط.
ويدخل أحمد الحجرة ويصيح به حلمي: أهلا أحمد باشا. - باشا مرة واحدة. - الباشوية مضمونة لك يا سعادة القاضي، كل القضاة يصبحون مستشارين فباشاوات ... - وأين أنا من مستشار هذه؟ - أنت عينت في النيابة منذ تخرجك ورقيت إلى القضاء وأنت صغير، فإن لم تصبح أنت مستشارا فمن يكون؟ المهم أنا لا أعرف كيف أشكرك على ما صنعت مع وصفية ومع حفني، أما فضل السيدة العظيمة والدتك فهو أكبر من أن يذكر. - أما عجيبة يا أخي! أولا من وصفية هذه، أليست أختي؟! وهل أشكر لأني أؤدي واجبي نحو أختي؟! وثانيا حفني أنا صنعت ما صنعته معه لأنني تصورت أنك لو كنت خارج السجن لما فكر هو فيما أقدم عليه، وأن لك علينا واجبا أكبر من واجب الصهر على أصهاره. - أي واجب يا سعادة الباشا؟ - واجب الوطني على مواطنيه. أتسجن من أجل مصر ولا نقدم كل ما نملك لك؟! ألسنا بشرا مصريين؟! - خطبة وطنية رائعة. - تنفعك في الانتخابات. - لا يا عم، لا شأن لك أنت بالانتخابات، فأنت رجل قضاء. - من سيرشح أمامك؟ - اثنان حتى الآن، أعتقد أن أحدهما سيتنازل. - والآخر؟ - مرشح الوفد. - ولماذا لا تنضم إلى الوفد، أنت من مؤسسي لجان الشباب فيه، وكنت من أعظم أبطال منظماته السرية؟ - العمل في السياسة عندي ليس تجارة أدفع مقدما لأربح مؤخرا. أنا عملت مع الوفد لأنه كان مصر كلها، وكنت واحدا من الذين يستطيعون أن يقدموا شيئا لوطنهم. - وقد قدمت بقلمك ولسانك ومالك وحريتك. - ولكني لم أعد معجبا بسياسة الوفد التي ينتهجها، فقد أصبحت سياسة شخصية بعد أن كانت قومية. - ولكنه قوة خطيرة في الانتخابات. - هذا صحيح، ولكني حتى إذا لم أنجح فإن هذا لن يجعلني أغير رأيي في سياسة الوفد الآن. المهم هناك موضوع أحب أن أكلمك فيه. - انتظر حتى أفتح باب المرافعة. - وهل حجزت القضية للحكم. - وماذا أعمل لك وأنت تستأذنني في الكلام! نحن إخوة يا حلمي. - وأكثر والحمد لله. حين راجعت الحسابات وجدت أنك أعطيت كل الريع لحفني ثمنا لأرضه، ومعنى هذا أن مصاريف البيت كنت تقوم بها أنت! - وما له! بيتي. - وبيتي أيضا. - كنت في السجن. - ولكن أرضي لم تكن في السجن معي. - أرضك ريعها ذهب لحاجة أهم. - ليس أهم من المعيشة. - قمت أنا بها، ماذا في هذا! - لا شيء، ولكن قدر ظروفي. - حين تقدر أنت ظروفي. - ظروفك؟ - أيرضيك أن أحس أنا وأمي أننا انتقلنا إلى بيتك لنعيش على حسابك؟ - وأنت هل يرضيك أن أتزوج أختك ونعيش على حسابكم؟ - كان ظرفا استثنائيا. - لو لم يصنع حفني ما صنع ماذا كنت ستفعل؟ - كنت سأعطي أختي ما تحتاجه يدها من مالك، وأنفق أنا على البيت الذي أصبحت رجله حتى يخرج رجله من السجن الشريف. - هذا ظلم. - هذه كلمة يقولها الناس في مألوف حياتهم ولا تعني شيئا، ولكنها إذا قيلت لقاض فهي كبيرة. - والقاضي يكون في بعض الأحيان ظالما لنفسه، ولا بد أن يجد من يواجهه بهذا ما دام بعيدا عن منصة القضاء. أنت في هذا ظالم. - ظلما أحبه. - وهذا أظلم. - لمن؟ - لي أنا. - وما شأنك أنت؟ - لا يقع الظلم إلا على مظلوم. وأنت لا يرضيك أن تظلمني. - لقد طال الحوار في أمر لا يحتاجه. - وهذا ظلم آخر، فإن المظلوم وحده هو الذي يعرف أين ينتهي الدفاع. - اسمع، أنت خريج حقوق معي فقل ما تراه. - أدفع ما كنت أدفعه في البيت وأنا فيه. - اسمع، لقد فوضت المحكمة الأمر إليك فكن عادلا، واخصم ثلثه مقابل غيبتك، فقد كنت تعيش على حساب الحكومة في السجن. - موافق. - وأنا موافق وأمري إلى الله، ولو أن الأمر لا يستاهل كل هذا. - إن راحة النفس لا يماثلها شيء في العالم. - أعرف ذلك. - وأعرف أنك تعرفه.
अज्ञात पृष्ठ