وقد يصعب علينا كثيرا أن نهتدي إلى كل المنافذ التي نفذت إليها المدنية الفرنسوية في مصر، فإنا لا نجد مجالا في مصر ماديا كان أو أدبيا إلا ونرى للفرنسويين فيه جولة، ونخص بالذكر العلماء الفرنسويين الذين تركوا في كل واد أثرا من آثارهم.
وأعظم الآثار النافعة التي تركها الفرنسويون في مصر تلك المدرسة الكبرى المسماة ب «متحف الآثار» الذي يديره الرجل الفاضل المسيو ماسبرو العالم (الأجيبتولوجيست) الشهير ومؤلف كتاب «تاريخ مصر القديم» الذي هو من أمهات الكتب التي يرجع إليها في تاريخ مصر.
وحسب القائلين بأن الفرنسويين لا يحسنون إدارة المستعمرات لأنهم ليسوا مستعمرين بطبيعتهم ما ذكرناه من أعمال فرنسا وأبنائها في أرض الفراعنة دليلا واضحا وبرهانا بينا، فمن الجهل أن يعترض على المصريين لأنهم أحبوا فرنسا والفرنسويين بعد أن تشبعوا بأفكارهم وآرائهم، وبعد أن امتزجوا بهم امتزاج الماء بالراح.
ويكفينا أن نقول إن حب المصريين لفرنسا هو أكبر دليل على قوة فرنسا والفرنسويين على الاستعمار وتوثيق عرى الوداد بينهم وبين أهل البلاد التي يستعمرونها.
لقد رأينا الآن تأثير فرنسا في مصر ونحن نرى أن ما ذكرناه عن تأثير فرنسا في مصر كاف لغرضنا الذي نسعى إليه، فنحن لا نحتاج بعد ما تقدم لي تتبع أدوار السياسة الفرنسوية في مصر أو إلى البحث في السياسة التي اتبعها كل وزير فرنسوي في أثناء نفوذ هذه الدولة في وادي النيل، ولا نرى للقارئ نفعا فيما إذا كانت سياسة دي فريسينه سابقة لأوانها أو أنها سياسة رجل متراخ كسول أو سياسة مجنون متهور، فإن لدينا ما هو أهم من مثل تلك الأبحاث وهو أن ننظر في سياسة فرنسا مراعين سياسة إنكلترا، فنقول: إذا استطعنا أن نقرأ قصة احتلال إنكلترا لمصر كما كتبها من امتلأت قلوبهم حقدا من الكتاب على إنكلترا وانطوت جوانبهم على بغضها دون أن نقرأ ما يتخلل السطور؛ بل إذا استطعنا أن ننسى كل ما عرفناه عن الاحتلال وأسبابه وقرأنا هذه القصة على نحو ما يقرأ التلميذ درسه، أي بلا ريب في صدقها ولا احتراس من الوقوع في الأحبولة التي نصبها لنا مؤلفوها، فإننا نقوم لا محالة بعد قراءتها ونحن نسب الأرض والسماء قائلين: «ما أظلم الإنسان وما أشد قسوته على أخيه وما أبشع جوره عليه.»
أجل إننا لو قرأنا قصة احتلال إنكلترا لمصر كما يكتبها هؤلاء الكتاب الناقمون الحاقدون لدهشنا من تلك الجزيرة الصغيرة التي أخرجت ذلك العدد الكبير من السياسيين الذين قاموا بأعمال ودبروا مكايد سياسية يعجز عن أمثالها «ماكيافيلي» على ما اشتهر به من التفنن في أساليب الخداع والبراعة في أنواع الغدر بالأمم لمصلحة الملوك.
نعم إن «ماكيافيلي» نفسه لو بعث حيا لخجل من أعمال هؤلاء الساسة؛ بل إن خجله ينقلب حقدا وحسدا لهؤلاء الساسة الإنكليز الذين فاقوه في المكر وأربوا عليه في ميدان الغدر.
هذا ما يخطر ببالنا بعد أن نقرأ القصة ولكننا نعود فلا نتمالك من الدهشة، وقد نرى أن هؤلاء الساسة أنفسهم لم يتجاوز غدرهم وخيانتهم الحد المحدود في السياسة في كل معاملاتهم الأخرى مع أمم العالم وممالكه كافة، فكأن خداعهم لم يكن إلا لاحتلال مصر وكأن غدرهم ومكرهم لم يخلقا فيهم إلا لينالوا بهما مآربهم في وادي النيل!
عند ذلك يبلغ الدهش والاستغراب من القارئ حدا كبيرا.
على أن عددا عظيما من الناس في أوروبا لا يزالون يعتقدون صدق هذه القصة، ولا يزالون يقرءون هذه الكتب الكاذبة التي يتهم فيها كتابها الأبرياء بما ليس فيهم، والأغرب من هذا هو أن هؤلاء القراء لا يدور في خلدهم أن تلك الكتب لم تكتب إلا لتشعل نار غضب العقلاء وتسيل دموع ضعاف القلوب ممن لا يرون سلب حرية شعب من العدل في شيء، ولئلا نتهم بما اتهم به كتاب هذه الكتب فقد قصدنا في هذا السفر أن نبتعد جهد طاقتنا عن أي قول تشتم منه رائحة الملام أو الاتهام.
अज्ञात पृष्ठ