وكل إنسان يتذكر حمى الاستعمار التي أصيبت بها إنكلترا في العشر سنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان سببها أن إنكلترا اكتشفت أنها ليست الدولة الوحيدة بين الدول؛ بل إن لها أندادا يسابقونها إلى فخار الاستعمار وبين هؤلاء الأمة العظيمة والدولة الضخمة ألمانيا، ففزعت إنكلترا لذلك لعلمها بأن ألمانيا لم تتخذ الاستعمار فنا للتلذذ به؛ بل هو لديها ابن الضرورة والاحتياج.
وفي هذا الوقت أشرقت شمس الرودسيزم (مذهب سيسيل رودس) فقام أصحاب مذهب الاستعمار من الإنكليز كشمبرلين وغيره وتعلقوا بأهداب هذا المذهب وناصروه.
ولما تم الفوز لإنكلترا في أم درمان تحققت من أن آمالها سريعة النوال وتحمس الإنكليز تحمسا فوق العادة وجاءت هزيمة الدراويش التي تمت على أيدي كتشنر وحملته التي شهدت بفضل قائدها وذكائه، فأنالها الإنكليز أكثر مما تستحق من المدح والثناء، وقال المرجفون إن بريطانيا قد أصبحت دولة رومانية ثانية، وفي ذلك الحين جن الإنكليز جنونا بحب الاستعمار سيما ولم يروا أحدا يقف في وجه قوتهم، وقال ساسة الإنكليز لأنفسهم إنهم إن لم ينالوا المستعمرات بالحيلة والتدبير فإنهم ينالونها بالقوة، فضاقت الدول بدولة الإنكليز ذرعا ورأين من الشؤم عليهن أن تبقى بريطانيا صاحبة الجبروت بينهن، فقام الكتاب من الغربيين غير الإنكليز يؤلفون الكتب عن بريطانيا، فلم تكن تمر بمكتبة إلا وترى كتابا مثل «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» وغيره من الكتب، ولم ينبه إنكلترا بعد أن ثملت بفوزها على ضفاف النيل إلا فشلها على ضفاف «الفال» و«الأورابخ»، فإن الحملات العظيمة التي جردت على غير طائل، والملايين الكثيرة التي أنفقت، والنفوس البشرية التي أزهقت على هيكل مناجم الذهب في جنوب أفريقيا؛ نبهت شعور الإنكليز وأعادتهم إلى حظيرة التعقل والصحو بعد الجنون والسكر، وبخسارة إنكلترا في جنوب أفريقيا عاد ميزان القوى الأوروبية إلى الاعتدال، وبدأ الناس ينظرون بعين غير التي كانوا ينظرون بها من قبل إلى إنكلترا وسياستها الخارجية، سيما وقد ظهر لهم أنه وإن كانت سياسة الاستعمار نافعة مفيدة ولكنها إذا زادت عن حدها عادت بضرر شديد وأذى، وابتدأ الناس يفهمون أنه توجد طرق شتى للوصول إلى أي غرض، وبعض هذه الطرق سليم العاقبة وبعضها يؤدي إلى الهلاك ولا يؤدي إلى الغرض، وظهر للملأ أن القوة الحيوانية لا تنجح دائما وتكلف أصحابها ما لا يطيقون، وأن اللين ينال ما لا تناله الشدة، وأن بعض الأغراض يستحق السعي والبعض لا يستحقه، وقد امتلأت عقول بعض الناس بهذه الأفكار والآراء امتلاء بدلهم تبديلا، وجعل من عرفهم قبل حرب البوير ينكرهم بعدها، ووضح لساسة الإنكليز في ذلك الحين أن تأسيس الإمبراطورية لا يكون بهضم حقوق الأعداء، وأن البيض لا يذعنون للتهديد ولا يسلمون إلا بعد حرب تشيب من هولها الولدان مهما كانت بلادهم وأوطانهم، كل ذلك جعل إنكلترا تقدر الطرق السياسية القديمة حق قدرها وجعلها تعرف أيضا أن الدولة تستطيع أن تنال من عدوها بالسياسة اللينة أكثر مما تناله برءوس الرماح وحد السيوف، وتحقق الكل صدق قول نابليون «يستطيع الإنسان أن يعمل ما يريد بالرماح ولكنه لا يستطيع أن يركبها ...»
ومن هذه اللحظة ابتدأت إنكلترا تغير خطة سيرها وعادت إلى حظيرة السياسة الأوروبية، فطلقت الوحدة المضرة التي اشتهرت بها لأنها علمت وتحققت بأنها لا تنال شيئا ما دامت تنصب نفسها لمعاداة أوروبا بأسرها، وأنها تنال فوق ما تحب لو دخلت ميدان السياسة الأوروبية وخلعت رداء الانزواء، فقام جلالة الملك إدواردو السابع بهذه السياسة الحكيمة وكان ذكاؤه الخارق للعادة ولطفه سببا في «الوفاق الودي» الذي تم بين إنكلترا وفرنسا.
بيد أن السياسة الخارجية القوية تحتاج إلى تقدير الأغراض حق قدرها وإلى العلم بأن مذهب الحصول على أي شيء بأي ثمن ليس من الحكمة والصواب، وأن الاستعمار يتم بثلاث طرق الفتح أو السياسة أو التقهقر، وأما سياسة «هنا أنا وهنا أبقى» فهي سياسة عقيمة تعود على أصحابها بالضرر الشديد وسنأتي للقارئ بأدلة قاطعة وبراهين حاسمة تدل على أن إنكلترا تحققت من أن كثيرا ينال بالتساهل والتسامح.
ونحن لا نود أن نتعب القارئ بالإتيان بالحوادث العديدة التي تقهقرت فيها إنكلترا من أملاك لها لعلمها بأن بقاءها ليس من السياسة والحكمة في شيء، ونكتفي هنا بمثالين شهيرين أولهما أن إنكلترا تخلت عن جزيرة كورسيكا للفرنسويين وسلمت جزر «ايونيون» لليونانيين، وكلتا هاتين الحادثتين محتاجة إلى نظرة تاريخية لأهميتها، فنقول: لقد خمدت النيران التي كانت متأججة في صدور الإنكليز بعد أن تنازلوا عن كورسيكا ونسيها كلهم وتناساها من لم ينسها، حتى أصبح أغلبهم في شك من أنها حقيقة كانت جزءا من الإمبراطورية البريطانية، ولكن لا يحفظ التاريخ ذكرى براعة سياسية مثل البراعة التي أظهرتها إنكلترا بتسليمها هذه الجزيرة لأصحابها.
فإن إنكلترا بامتلاكها هذه الجزيرة التي تكاد تمس شواطئ فرنسا الجنوبية. كانت تستطيع دائما أن تهدد أعظم مركز بحري لفرنسا وكانت إنكلترا تقدر أيضا أن تتلف تجارة فرنسا في البحر الأبيض أو تجرد حملة حربية تفزع بها فرنسا والفرنسويين.
ولكن احتلال إنكلترا للجزيرة الذي لم يطل أمده أكثر من سنتين وثلثي سنة - أي من نوفمبر سنة 1893 إلى يوليو سنة 1896 - أقنع إنكلترا بأن مركزها في هذه الجزيرة يكون أبدا في خطر رغما عن رضاء أهالي الجزيرة وطاعتهم لها، أضف لذلك أن إنكلترا رأت أنها ما دامت تملك هذه الجزيرة فإنها لا تأمل أن يصفو ما تكدر بينها وبين فرنسا، ورأت إنكلترا أيضا أنها ستنفق على فتح هذه الجزيرة وإخضاع أهلها أكثر مما تطيق ماليتها وجنديتها مع علمها بأنها لن تجني بعد التعب والنفقة إلا ما لا تحب، فلم تر إنكلترا لها بدا من إخلاء الجزيرة وتسليمها لأصحابها فأخلتها وسلمتها.
هذا ومن ينظر إلى خريطة البحر الأبيض لا يستطيع أن يتغافل عن الأهمية الحربية التي لجزر «ايونيون» لا سيما جزيرة كورفو، فإن هذه الجزيرة واقعة إلى غرب الشواطئ اليونانية تجاه «كعب» شبه جزيرة إيطاليا فكأنها حارس يحرس البحر الإدرياتيكي أو رقيب يرقب جنوب إيطاليا، ومن يضع يده على هذه الجزر يستطيع أن يسد باب البحر الأبيض في وجه النمسا بأن يحصر مخرجها الوحيد، وزد على ذلك أنه يقدر أيضا أن يهدد شواطئ إيطاليا الشرقية على الدوام، ولم تكن أهمية جزيرة «زانتي» «وكورفو» لتخفى على أهل فينسنا أيام عزها فوضعوا أيديهم عليهما، ولو ضربنا صفحا عن كل ذلك فإن أمامنا دليلا واحدا هو أهم الأدلة وهذا الدليل هو شهادة نابوليون بونابرت نفسه الذي لا يشك أحد في قدرته النادرة على الحكم على مركز حربي حكما لا يوجد أصدق منه، فإن من يقلب صفحات الكتاب الذي جمعت فيه مكاتيب نابوليون ورسائله التي بعث بها إلى أصحابه في سنة 1796 يرى نابليون يقول في كتاب: «لا بد لي من احتلال كورفو مهما كلفني ذلك الاحتلال»، ويقول في آخر: «إنه من الهين علي أن أضحي فينسيا وشمال إيطاليا بأسره لأجل كورفو فإنها مفتاح الأدرياتيك.»
على أن لكورفو مزايا غير التي ذكرت فإن قربها من ألبانيا يجعلها لمن له يد في مسائل الشرق الأدنى من الأهمية بأعظم مكان لأن مالك كورفو يقدر أن يصنع في البلقان ما يريد بدون أن ينال منه عدوه ما ينال هو منه.
अज्ञात पृष्ठ