ولو تيسر لفرنسا أن تعثر بمستعمرات لا تكلفها كثيرا ولا تسبب لها انزعاجا فإنها بلا ريب تضع يدها عليها وتحرص عليها ما دام الشرطان السابقان متوفرين، ولو شئنا على ذلك برهانا فإننا لا نجد أقرب لنا من أن ننظر في مستعمراتها الحاضرة، فإن «تونكين» التي يبلغ عدد سكانها أكثر من سبعة ملايين من النفوس ليس فيها إلا عدد صغير جدا من الفرنسويين المستعمرين فلو نهض الأهالي للعصيان فإنهم لا محالة ينالون ما يرغبون، وليست التونكين فقط هي التي تحكمها فرنسا بلا نفقة أو قلق، فإن أملاكها في أواسط أفريقا كثيرة الشبه بتونكين؛ لأن أهل هذه البلاد لو مالوا يوما إلى شق عصا الطاعة فبضع مئين من جنود الفرنسويين يكبحون جماحهم في يوم وليلة.
إذا تقرر ذلك فنحن نطلب من القارئ عندما نتكلم عن سياسة فرنسا أن يصرف عن ذهنه الظن الفاسد الشائع، وهو أن كل حركات فرنسا وسكناتها ليست إلا لتسابق إنكلترا في سياسة الاستعمار، وفوق كل ذلك فيليق بمصر أن تصرف ظنها بأن فرنسا تدافع عن حقوق مصر والمصريين بشدة وقوة.
ولو أن الإنكليز احتلوا مصر ظلما رغم أنف المصريين فإن المصريين يخطئون لو انتظروا من فرنسا خلاصا أو نجاة؛ لأن فرنسا لا إرادة لها ولا قدرة لديها لأخذ مصر لنفسها، فهل جنت جنونا بحب مصر حتى تنفق ما تنفق من ثروتها لتحرير مصر والمصريين؟ ولو أن المصريين رأوا بريق آمالهم في فرنسا فلقد خدعوا أنفسهم إن لم يكن هذا البريق الذي رأوه قد غرهم، وإن كانت شمس فرنسا قد أشرقت على مصر برهة، فلتعلم مصر أن تلك الشمس قد أغربت وغابت إلى الأبد.
على أن مصر لا يحق لها أن تيأس لأنها لو كانت آمالها ترمي إلى الاستقلال، فإن ميدان هذه الآمال لا يزال واسعا كما كان من قبل، وكل ما أردنا تقريره هو أن تلك الآمال لو كانت قد وضعت في فرنسا فقد ضاعت. لقد مضى الزمن الذي كانت الأمم تعمل فيه لأجل الأفكار الخيالية. اليوم يوم المنافع الذاتية والمطامع الشخصية، إن هذا الزمن هو زمن الأنانية والأثره، وقد ولى وانقضى عهد الغيرية، ولو قدر لمصر أن تصير في المستقبل دولة حرة مستقلة فإنها لا تنال ذلك إلا إذا رأت كل دول أوروبا في منحها تلك الحرية وهذا الاستغلال نفعا لذاتها.
ولنعد ثانية إلى فرنسا وسياستها في مصر، فنقول إن الناظر إلى سياسة فرنسا بمنظار الحكمة والتبصر يرى أنها بريئة من كل التهم التي تنسبها لها الصحف التي تردد صدى صوت الأحزاب؛ لأن نظرة واحدة في سياستها الخارجية تقنع الإنسان بأن سياسة فرنسا الاستعمارية لم تشمل مصر، وأن مجال الاستعمار لا يزال واسعا في وجه فرنسا في البلاد المجاورة لها؛ ولذلك لا يخطر ببال عاقل أن فرنسا تترك البلاد القريبة وتمد يدها إلى بلاد بعيدة مثل مصر مع علمها بما يكلفها وضع يدها على هذه البلاد.
وأي دليل أوضح على ما قدمنا من المحالفة الفرنسوية الإنكليزية التي عقدت في 8 أبريل من عام 1904، ولا نحتاج إلا لأن نقرأ صورة تلك المحالفة ضاربين صفحا عما قاله عنها المتقولون والمرجفون، فنراها حينئذ علامة من علامات الاتفاق الودي بين الدولتين، ولكن لا يصح أن يقال عنها إنها نتيجة من نتائج ذلك الاتفاق، ولا يصح أيضا أن نقول عنها إنها ثمرة أتعاب الملك إدوارد السابع الذي لم يأل جهدا في تقريب إنكلترا من فرنسا، إنما يصح أن نقول إن فرنسا لم تعقد هذه المحالفة إلا بناء على سياستها التي رسمتها لنفسها نحو مصر، والدليل على قولنا هذا أن فرنسا قالت في هذه المحالفة إنها لن تتداخل في المستقبل في سياسة بريطانيا العظمى في مصر بما يؤخر أعمال إنكلترا في وادي النيل، ولكنها لم تتبرأ من سياستها الماضية في مصر، فكأن هذه المحالفة لم تكلف فرنسا إلا التصريح بقاعدة ثابتة من قواعد سياستها الخارجية ونالت مقابل ذلك حرية تامة في شمال أفريقا، وهاك المادة الأولى من تلك المحالفة:
إن حكومة جلالة الملك تعلن أن ليس لها إرب في تغيير الحال السياسية في مصر، وتصرح الحكومة الفرنسوية أنها لا تعوق أعمال إنكلترا في هذه البلاد بطلب تحديد أجل للاحتلال البريطاني أو بما شاكل ذلك، وأنها ترضى بمشروع الدكريتو الخديوي الملحق بالاتفاقية المذكورة المحتوي على الضمانات الضرورية لحماية مصالح أصحاب الديون المصرية على شرط أنه ينفذ ولا يتم فيه أقل تحوير بدون رضى الحكومات التي وقعت على معاهدة لندن سنة 1885.
فيظهر من ذلك أن سياسة فرنسا الخارجية قد عادت إلى الانكماش كأن ساستها علموا أنها لا تستطيع أن تمارس مهنة الاستعمار بالبراعة والدقة اللتين تمارس بريطانيا بهما ذلك الفن، ومن عادة الفرنسويين أنهم إذا عملوا لتحقيق أحلام استعمارية ووجدوا معارضة ومقاومة فهم يفضلون أن ينسحبوا على أن يستمروا على مقاومة المعارضين لهم.
ومما يعوق فرنسا عن التوسع في الاستعمار هو كونها غير مضطرة كغيرها من الدول الأوروبية لإيجاد المستعمرات الواسعة لأبنائها الذين تضيق عنهم بلادهم؛ لأن عدد سكانها لا يزيد سنة فسنة كما يزيد عدد سكان سواها من الممالك الغربية، فلا تقوم فرنسا بحروب خارجية إلا إذا كانت هذه الحروب للحصول على بلاد واسعة تضيف إلى اسم فرنسا شهرة وصيتا، فإذا هي خابت وفشلت في حروبها الخارجية فلا تغتم ولا تحزن كما تغتم وتحزن الدول الأخرى التي لا تسع بلادها أبناءها، ويحدث من ذلك فيها من الفقر والفاقة والشقاء ما لا تحمد عاقبته، وكثيرا ما يكون فشل فرنسا في حروبها الخارجية سببا لنفع عظيم تجنيه في داخليتها؛ لأنها تتمكن من إصلاح أمورها وتستطيع أن تضيف إلى قوتها قوة.
وعندما ننظر إلى هذه المسائل من هذه الجهة يمكننا أن نعلم ظلم وجهل الذين صبوا على رأس «الموسيو دي فرسيتيه» وغيره من وزراء فرنسا أمطار الذم والتأنيب والسب؛ لأن الحقيقة تنجلي لنا تمام الانجلاء، ويظهر لنا هؤلاء الوزراء بمظهر الرجال العقلاء الذين فهموا مركز دولتهم فهما حقيقيا، وعلموا مقدرتها حق العلم ووقفوا على مطالبها وحاجاتها، ووجدوا في نفوسهم شجاعة أدبية استطاعوا بها أن يقودوا أمتهم، ناظرين إلى الحقائق الثابتة والظروف السياسية التي تؤدي إلى النجاح المطلوب رغم أنف الأعداء الحاقدين الكاذبين، على أن هؤلاء الوزراء لو رأوا أن في السياسة الاستعمارية لبلادهم خيرا لما تأخروا عنها لحظة واحدة، ولكنهم علموا أنهم إن اتخذوا سياسة الاستعمار، فإن هذه السياسة تفشل في أقرب زمن.
अज्ञात पृष्ठ