أوليس من العجيب أن تنال إنكلترا جماع أمانيها وتبلغ من أعدائها ما تبلغ دون أن تظهر سرعة أو تهورا ودون أن يشعر أحد بأعمالها؟
يرى القارئ مما تقدم أن النصر والنجاح كانا حليفي إنكلترا في أعمالها وحركاتها كافة، فلماذا لم تحذ جميع دول أوروبا حذوها وتتخذ سياستها نموذجا تجري عليه، هل أحجمت تلك الدول لما في أخلاقها من الكمال ولأنها رأت أعمال إنكلترا تدل على الخبث والغدر؟ كلا، فإن دول أوروبا لا تتأخر طرفة عين عن إيصال الأذى إلى أي عدو من أعدائها إذا سنحت لها فرصة ورأت أن ذلك يعود عليها بالخير؛ إذن الجواب عن هذا السؤال هو أن إنكلترا اكتسبت مركزا ساميا خاصا بها دون سواها من الدول، وقد عرف ساسة الإنكليز كلهم قدر ذلك المركز واستعملوه فيما عاد على إنكلترا بالخير العميم، ومن هؤلاء الساسة ديزرائيلي (بيكو نسفيلد) الذي صرح في محال كثيرة من روايته «سيبيل» بذكر المنافع الجمة والقوة العظيمة التي اكتسبتها إنكلترا من وضع «الكنيسة والتاج» «على الرف »، وقد يظن بعض الناس أن استشهادنا برواية يكون استشهادا لا قيمة له؛ سيما ونحن نكتب في موضوع جدي كهذا، فنقول لهم إن رواية من قلم وزير كبير وسياسي خطير ك «بيكو نسفيلد» ليست كأية رواية أخرى يكتبها أي رجل آخر، على أن بيكو نسفيلد لم يقل غير الحق، فإن المتتبع لتاريخ إنكلترا يرى أنها بقيت أربعة قرون بلا شقاق داخلي، ومنذ طردت الأمة الإنكليزية أسرة ستيوارت الكاثوليكية في سنة 1688 لم تحس البلاد بشبه ثورة داخلية، ولولا بعض الشغب الذي لا يهم أمره لبقيت سياسة إنكلترا الداخلية أنقى من مرآة الحسناء، على أننا لا ننكر أن بعض المتاعب نشأت من حين إلى آخر، ولكن كانت نار هذه المشاغب الطفيفة بأسرها لا تلبث أن تشتعل حتى تخمد.
ومنذ اتفاق إنكلترا مع اسكوتلندا (إيقوسيا) في سنة 1707 اطمأنت إنكلترا من جهة الحدود التي كانت تهددها من حين إلى آخر، وقد زاد ذلك الاطمئنان أن إنكلترا وإيقوسيا اتفقتا اتفاق التوءمتين والتاريخ لا يحفظ ذكر اتفاق بين دولتين أمتن من اتفاق إنكلترا واسكوتلندا، فإنهما اتفقتا اتفاقا لا تفصم عروته ولا تحل عقدته، والذي زاد هدوء إنكلترا وساعدها على استتباب الأمن في داخليتها عدم وجود أشراف وأمراء منقسمين يطالبون بالملك أو يحاربون بعضهم بعضا، وبالإجمال فإن تاريخ إنكلترا في كل ذلك الزمن الطويل لا يحفظ إلا ذكر ثورة أهلية بسيطة ثارها العمال مطالبين ببعض حقوق لهم حسبوها مهضومة، فهي أشبه بحركة اجتماعية منها بثورة داخلية، ولكن تلك الحركة ما كادت تتنفس حتى قضي عليها في ليلة ويوم.
ومن المعلوم أن المشاغل الداخلية هي العقبة الكئود التي تقف أبدا في طريق سياسة الدول الأوروبية، وكثيرا ما يعترض كبار الساسة في أعظم فرصة لديهم فتتلف عليهم في لحظة واحدة ما أخذوا في تدبيره سنين طويلة، ومن حسن حظ إنكلترا أنها كانت آمنة مثل تلك المشاكل التي تعرقل مساعي السياسة الخارجية، ومن يعرف دخائل السياسة الإنكليزية يعلم أن من كان من ساستها يرمي إلى غرض في سياسة بلاده الخارجية وكأن هذا الغرض بعيدا، كان يدبر له من يريد تدبيره بصبر وعزم لعلمه بأن تلك التدابير ستنال فوق ما يرغب، فكان يتفرغ لهذا الغرض كل التفرغ ضاربا صفحا عن كل ما سواه؛ لأنه يرى نفسه في مأمن من المشاكل الداخلية والمشاغب الأهلية التي تعوقه عن تنفيذ مشروعه وإتمام عمله.
فيظهر من هذا أن إنكلترا لم تضع سياستها الخارجية لأجل مشاكلها الداخلية لأنها كانت آمنة شر تلك المشاغب التي تحصل في كل مملكة بدون علم وانتظار، فتقلب نظام السياسة الخارجية رأسا على عقب، وهذا هو السبب الوحيد في نجاح سياسة بريطانيا الخارجية.
وليس من الصعب على من يقارن بين التاريخ السياسي لبريطانيا والتواريخ السياسية عند سائر الدول الأوروبية في القرنين الماضيين أن يرى لأول وهلة حقيقة واحدة واضحة كل الوضوح وهي أن السلام الدائم في أي مملكة هو الشرط الوحيد للنجاح خارجا؛ لأنه لا توجد دولة في قارة أوروبا يمكنها أن تنظر بهدوء إلى حدودها وتقول إنها تبقى آمنة طوارق الحدث زمنا محدودا من السنين، فإذا لم تكن كل دولة على جانب عظيم من التيقظ والحذر فإنها تكون دائما معرضة للخطر، وهذه الحقيقة السياسية الواضحة تقلل عدد الجند والقوة الحربية التي تكون في يد أية دولة إذا أرادت أن تقيم حربا خارجيا؛ لأن قواها الحربية يجب دائما أن تكون على استعداد تام لتتقي بها ضربات العدو المهاجم لها في بلادها، ولا نظن أن ألمانيا أو فرنسا تستطيعان إرسال 200000 من جنودهما أو أقل من ذلك إلى خارج بلادهما بدون أن يختل ميزان قوتهما في داخليتهما؛ لأن تغيب مثل هذا العدد من جنود أية دولة يدعو إلى ضعفها ويسبب عجزها في داخلية البلاد ويضطرها إلى الإذعان لجاراتها القوية، وقد أثبت التاريخ ذلك، فإن فرنسا بعد تجريد حملة نابوليون على مصر أحست بضعف شديد في أوروبا، فاضطر نابوليون إلى العودة إلى بلاده لحمايتها وتخلى عن أعماله الحربية، وترك السياسة الاستعمارية التي كان قد بنى أساسها في مصر.
وكأن فرنسا لم تكتف بهذا الدرس فأعادت الكرة ، فبعثت بحملة المكسيك المشهورة في أواسط القرن التاسع عشر ففازت في أمريكا وانهزمت شر هزيمة في حرب السبعين بواقعتي «متز» و«سيدان»، على أن فرنسا لو استطاعت أن تقاوم أعداءها في أوروبا سنة 1866 فنحن لا نشك في أنها ربما كانت ألغت حرب السبعين، ولو لم تقع حرب السبعين لكانت السياسة الأوروبية كلها تغيرت، ولكن من سوء حظ فرنسا أنها وجدت نفسها في أزمة ولم تجد لنفسها منها مخرجا، وعندما كانت جنودها المظفرة تتغلب على أعدائها في المكسيك كانت حدودها الشرقية مهددة بجيوش ألمانيا في أوروبا.
هذا وأضر شيء بسياسة الدول الخارجية بعد ما ذكرناه هو كون الدولة منقسمة في داخليتها، وهذه فرنسا لم تنجح في سياستها الخارجية يوما لأن داخليتها أبدا في شقاق وانقسام، وهذا مسبب من مزاحمة سلطة الكنيسة لسلطة الحكومة، فلو نجحت فرنسا كما نجحت إنكلترا في وضع «الكنيسة على الرف» لما فشلت في سياستها الخارجية ذلك الفشل الذي جعلها مثلا بين الدول.
ونحن لا نود أن نطيل هذا البحث الذي يخرجنا عن الموضوع الأصلي على ما فيه من اللذة، بيد أننا لا نتمالك من أن نشير إلى أن لكل دولة آفة، فآفة ألمانيا حزب الاشتراكيين، وآفة النمسا خوف الانقسام الذي يعقبه الانحلال، وآفة فرنسا الكنيسة، وآفة إيطاليا فقر أهلها، وآفة روسيا اتساع سلطانها واستبداد حكومتها، ولكن إنكلترا لا آفة لها؛ ولذلك نرى سياستها الخارجية سائرة على الدوام في طريق النجاح والفوز، فهذه الدول جمعاء تحسد بريطانيا وترميها بالمكر والخداع والغدر والمخاتلة، وما أبعد هذا القول عن الصواب!
إن إنكلترا عمدت إلى سياسة بسيطة سهلة، هي سياسة التأني والانتظار لانتهاز فرصة ضعف عدوها وعجزه، وكثيرا ما يحدث أن ترى إنكلترا دولة أخرى قد وقفت في طريقها فتسكت إنكلترا وتربض كما يربض الأسد وتتحين فرصة تقع فيها هذه الدولة المعاكسة في أزمة تلجئها إلى المعاونة أو تضعفها عن العمل فتتقدم إنكلترا وتضطرها للتخلي عن طريقها فتتخلى تلك الدولة مختارة أو مضطرة، وتستمر إنكلترا في طريقها، فإذا رأت الدول استمرار إنكلترا في طريقها عادت تسلقها بألسنة حداد وترميها بالظلم والغدر والخداع، وهذا هو الذي دعا بعض المتقولين أن يتقولوا على بريطانيا بأنها كانت تضمر لمصر سوءا من زمن بعيد، فلو سلمنا جدلا لهؤلاء المتقولين بصحة زعمهم فما الذي عاق إنكلترا عن وضع يدها على مصر عقيب نصرها الباهر في واقعة أبي قير؟ يقول المتقولون إن مركز إنكلترا السياسي في ذلك الحين لم يكن ليسمح لها بإضافة مصر إلى مستعمراتها، نقول قبلنا فأجيبونا عن سبب تخلي إنكلترا عن مصر في سنة 1840؟ تقولون إن محمدا علي كان واقفا في وجه إنكلترا وخلفه فرنسا تشد أزره. كل هذا حسن ولكن قولوا لنا سبب تخلي إنكلترا عن مصر سنة 1870 عندما سنحت لها فرصة لا تسنح في العمر إلا مرة. وكلنا يعلم أن إنكلترا كانت في هذه السنة مطلقة الأيدي وكان الجو لها خاليا، ولم يكن أمامها من يحرك لسانه أو يرفع يده. يقول المتقولون إن نتيجة حرب السبعين كانت لا تزال مجهولة فخشيت إنكلترا إن هي وضعت يدها على مصر أن يعقد النصر لفرنسا فتنتقم هذه الدولة الظافرة من إنكلترا انتقاما رهيبا.
अज्ञात पृष्ठ