तफ़सीर मीज़ान
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
शैलियों
فهذه أمور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعية، والثاني والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، ومن البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الإحاطة بتفاصيل الحوادث الخارجية والأمور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطإ قط في وقت من الأوقات، ومع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب أشدق وأي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطإ لفرض عدم اطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه أولا ولم يكن على حد كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللاحق بل ولا أوله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقة الأمر، لكن حكم التحول والتكامل عام ثانيا، وعلى هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه وجد الهزل هو القول بغير علم محيط ولا اختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا، وهو الذي يفيده القرآن بقوله: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" الآية: النساء - 82، وقوله تعالى: "والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل:" الطارق - 14. انظر إلى موضع القسم بالسماء والأرض المتغيرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيره واتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله وسيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل، وقوله تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ": البروج - 22، وقوله تعالى: "والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف - 4.
وقوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون": الواقعة - 79، فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن اتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة ولا متغير ما يتكي عليها.
إذا عرفت ما مر علمت أن استناد وضع اللغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع به، وليس ذلك إلا كالقول بأن القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون أمهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.
فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعنى ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.
أما اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
وأما المعنى فأن يكون في صحته وصدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة، وهذه المرتبة هي التي يتكي عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، وكم من كلام بليغ مبني على الجهالة لكنه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الأسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو أرقى الكلام.
وإذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الآخر ولم تكذبه فإن الحق مؤتلف الأجزاء ومتحد الأركان، لا يبطل حق حقا، ولا يكذب صدق صدقا، والباطل هو الذي ينافي الباطل وينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى: "فما ذا بعد الحق إلا الضلال": يونس - 32، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه ولا تشتت.
وانظر إلى قوله تعالى: "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم": الأنعام - 153.
فقد جعل الباطل متشتتا ومشتتا ومتفرقا ومفرقا.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف، يجر بعضه إلى بعض، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض.
पृष्ठ 38