तफ़सीर मीज़ान
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
शैलियों
قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركوا العرب الراصدون لكل أمر جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهد لذلك أولا بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم وأنواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والأمة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة، ومن المعلوم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الإسلام في تحقيق أصوله ونشر معارفه وبث حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لأنهم كانوا يرون أنه يبطل واحدا من أعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على أن ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة أشد تأثيرا وأقوى من أمثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا أمة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا، إذا جاءهم حكم من أحكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم أمر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالإنكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.
وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة وعلم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم.
أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شيء من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه، واليهود ما كانت تعتقد النسخ كما تقدم في آية النسخ وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وإن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.
وأما الجواب: فهو أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام والأبنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الإنسان في أنها لا تقتضي حكما ولا يستوجب تشريعا على السواء وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفردي والنوعي، فلا يحكم إلا ليهدي به ولا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم.
قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبر عنهم بالناس وإنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع، والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي.
قوله تعالى: ما وليهم، تولية الشيء أو المكان جعله قدام الوجه وأمامه كالاستقبال، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها، الآية والتولية عن الشيء صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه، والمعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها وهو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي والمسلمون أيام إقامته بمكة وعدة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أن اليهود أقدم في الصلاة إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب وأوجب للاعتراض، وإنما قيل ما وليهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولى النبي والمسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه وكان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.
पृष्ठ 185