Tafsir Al-Uthaymeen: Saba
تفسير العثيمين: سبأ
प्रकाशक
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٣٦ هـ
प्रकाशक स्थान
المملكة العربية السعودية
शैलियों
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحقِّ، فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ القينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنيزة صَباحَ كُلِّ يومٍ أثناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة، حَلقات فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرَّيةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيع قَرِيب مُجيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المتَقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة سبأ
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قال المُفَسِّر (^١) ﵀: [مَكِّيَّة إِلَّا ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، وَهِيَ أَرْبَع أَوْ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ آيةً].
قوله ﵀: [مَكِّيَّة] المكِّيُّ على المشهور: هو الذي نزَل قبل الهِجرة، والمَدنيُّ ما نزَل بعد الهِجْرة، فيَعتَبِر الجمهور المَكِّيَّ والمَدنيَّ بالزمَن لا بالمَكان، فما كان بعدَ الهِجْرة فهو مَدني، وما كان قبلَها فهو مكِّيٌّ.
وقوله ﵀: [إِلَّا ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾]؛ لا يُقبَل استِثْناءُ شيءٍ منَ السُّور المَكِّيَّة والمَدنيَّة إلَّا بدليل، أي أنه إذا كانت السُّورة مَكّيَّة فجميع آياتها مَكِّيَّة إلَّا بدليل، وإذا كانت مَدنيَّة فجميع آياتها مَدنيَّة إلَّا بدليل، فاستِثْناء المُفَسّر ﵀ هذه الآية نَنظُر في مَوضِعها، إذا كان هناك دليلٌ يَدُلُّ على أنها نزَلَت في المدينة قبِلْناه وإلَاَّ فلا.
* * *
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
* * *
* قالَ الله ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* * *
وقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. البَسمَلة: آيةٌ مُستَقِلَّة من كِتاب الله ﷿، يُؤتَى بها للفَصْل، أو يُؤتَى بها لبَدء السُّورة، إلَّا في (براءَةَ) فإنه ليس فيها بَسمَلةٌ؛ لأنها لم تَنزِلْ بَسمَلةٌ بينها وبين الأَنفال فتُرِكَت، والجارُّ والمَجرور مُتعلِّقٌ بمَحذوف؛ لأنَّ كل جارٍّ ومَجرور لا بُدَّ أنْ يَتعَلَّق بشيءٍ؛ إذ إنَّ الجارَّ والمَجرور مَعمول، وكل مَعمولٍ فلا بُدَّ له من عامِلٍ، وعليه فكلُّ جار ومجَرورٍ فإنَّه لا بُدَّ له من مُتعلَّقٍ؛ أي: مِن شيء يَتعلَّق به، وكذلك الظَّرْفُ، والمُتعَلَّق: إمَّا أن يَكون فِعلًا أو ما بمَعنَى الفِعْل، وهنا نُقدِّر المُتعَلِّق فِعْلًا؛ لأنه الأصل في العمَل؛ ولذلك لا يَعمَل غيرُ الفِعْل عمَل الفِعْل إلَّا بشُروط، وكلُّ شيءٍ لا يَتمُّ عمَله إلَّا بشروط فإنَّ ذلك لأنَّ الأصل عدَمُ العَمل.
ولهذا غيرُ الأفعالِ كالأسماء والمَصادِر وشَبَهها لا تَعمَل عمَل الفِعْل إلَّا بشُروط، أمَّا الفِعْل فيَعمَل بدون شُروط ونُقدِّره -أيِ: الفِعْل- مُتَأخِّرًا عن الجارِّ والمَجرور لفائِدَتَيْن:
الفائِدةُ الأُوْلَى: التَّيمُّن بالابتِداء بذِكْر اسْمِ الله ﷿.
الفائِدةُ الثَّانِيَةُ: الدَّلالة على الحَصْر.
1 / 9
فنُقدِّر العامِل مُتأخِّرًا نظَرًا لهاتين الفائِدتَيْن.
ونُقدِّره فِعْلًا خاصًّا، فنَقول مثَلًا عند ابتِداء القِراءة: التَّقديرُ: بسم الله أَقرَأُ، وعند الوضوء: التَّقديرُ: بسْمِ الله أتوضَّأ، وعند الأكل: بِسْم الله آكُلُ، وهكذا، وإنما نُقدِّره خاصًّا لأنه أدَلُّ على المَقصود، وَيصِحُّ أن نُقدِّره عامًّا ونَقول: التَّقدير بِسْم الله أَبتَدِئُ أو بِسْم الله أَبدَأُ؛ ولكن الخاصَّ أَوْلى.
فصار عندنا ثلاثة أمور: لا بُدَّ مِنْ مُتعَلَّق مُتأَخِّر خاصٍّ، وتَقدَّم التعليل.
وقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ مُفرَد مُضاف فيَعُمُّ، وَيكون المَعنى: بكُلِّ اسْمٍ من أسماء الله تعالى أَبتَدِئ، وناسَب ذِكْر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ دون غيرهما من الأَسْماء لأنها -أيِ: البَسمَلة- يُؤتَى بها للاستِعانة، وأَنسَبُ ما يَكون للاستِعانة هي الرحمة؛ فلهذا أُتبعَ لفظُ الجلالةِ بهذَيْن الاسْمَيْن الكريمين.
قوله تعالى: ﴿اللَّهِ﴾ أَصلُه الإِلهُ، هذا أَصَحُّ ما قيل فيه، وحُذِفت الهمْزة لكَثْرة الاستِعمال؛ كما حُذِفَت الهَمزة من (الناس) وأصلُها (أُناس) وحُذِفت الهَمزة من (شَر) ومن (خَيْر) وأصلُها (أشَرُّ) و(أَخْيَر).
وقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ اسْمٌ مِن أَسماء الله تعالى دالٌّ على سَعة رَحْمته ﷿؛ لأنَّ ﴿الرَّحْمَنِ﴾ فَعْلان يَدُلُّ على السَّعة والامتِلاء؛ وانظُرْ ذلك في كلِمة (غَضبان) و(نَدمان) و(سَكران) و(عَطشان) و(رَيَّان) وما أَشبَهَها؛ تَجِدْ أنَّ هذه الصِّيغةَ دالَّةٌ على السَّعة والامتِلاء.
ولهذا قال بعضُ السلَف ﵏: إنَّ ﴿الرَّحْمَنِ﴾ رحمة عامَّة لجميع الخَلْق، وأمَّا ﴿الرَّحِيمِ﴾ فهي: دالَّة على الفِعْل أي: أنه ﷾ يَرحَم برَحْمته الواسِعة.
1 / 10
فـ ﴿الرَّحِيمِ﴾ دالٌّ على الفِعْل وهو إيصال الرحمة إلى المَرْحوم.
و﴿الرَّحْمَنِ﴾ دالٌّ على الصِّفة وهي اتّصاف الله ﷾ بهذه الرَّحمةِ الواسِعة.
* * *
1 / 11
الآية (١)
* * *
* قالَ الله ﷿: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [سبأ: ١].
* * *
قال المُفَسِّر ﵀: [﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ حَمِدَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَالمُرَادُ بِهِ الثَناءُ بِمَضْمُونِهِ مِنْ ثُبُوتِ الحْمْدِ، وَهُوَ الْوَصْفُ بِالجْمِيلِ للهِ تَعالَى].
وقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: (أل) يَقول العُلَماءُ ﵏: إنها للاسْتِغراق؛ أي: كلُّ حَمْدٍ، و(أل) الَّتي للاستِغراق هي التي محل محَلَّها (كلٌّ) مِثْل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] أي: كلُّ إنسان لَفِي خُسْر، وقوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨]، أي: كلُّ إنسان، فمَعناها: أنَّ كلَّ حَمْدٍ فهو لله تعالى، واللَّام هنا للاستِحْقاق والاختِصاص؛ للاستِحْقاق لأنَّه لا أحَدَ يَستَحِقُّ أن يُحمَد لِذاته إلَّا الله ﷿، والاختِصاص لأنَّ الحَمْد المُستَغرِق لكُلِّ المَحامِد لا يَكون إلَّا لله ﷿.
يَقول المُفَسِّر ﵀: [حَمِدَ تَعالى نَفْسَه بِذَلِكَ] يَعنِي: حَمِدَ الله تعالى نَفْسَه بهذا الوصفِ الذي هو الحَمْد [والمُراد به الثَّناء بمَضمونه من ثبوت الحَمْد]؛ يَعنِي: ليس هذا تَجديدًا لحَمْد الله ﷾، ولكنه ثَناءٌ على الله تعالى بمَضمون الحَمْد [وَهُوَ الوَصْفُ بِالجمِيلِ للهِ تَعَالَى]، ولو قال المُفَسِّر ﵀: الوَصْف بالكَمال لكان أعَمَّ، فالحمْدُ وَصْفُ المَحمود بالكَمال. هذا الحَمدُ، فإن كُرِّر وَصْفه بالكَمال صار ثَناءً؛
1 / 13
قال الله ﷿: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] فيُجيب الله: حمِدني عَبْدي. فإذا قال العبدُ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] يُجيب الله تعالى: أَثنَى علىَّ عبدي (^١). والله ﷾ يُحمَد على ما لَه من الكَمال الذاتيِّ، والكَمال المُتعدِّي للغير، أي: على كَماله بذاته وعلى كماله بفِعْله وإحسانه ﷿ فيُحمَد على الأَمْرين جميعًا، أمَّا غيره فلا يُحمَد إلَّا على فِعْله إِنْ كان فِعْله ممَّا يُحمَد عليه، أمَّا حَمْدٌ للذات نفسِها فهذا لا يَكون إلَّا لله تعالى.
فمثَلًا إذا حَمِدْنا الله ﷾ على ما لَه من صِفات الكَمال؛ كالسَّمْع والبصَر والعِلْم والقُدْرة والعظَمة وما أَشبَهها، فهذا حَمْدٌ على الكمال الذاتيِّ، وإذا حَمِدْنا الله تعالى على ما لَه من الإحسان والإنعام فهو حَمْدٌ على الكَمال المُتعدِّي، فإذا حَمِدْناه ﷿ على إنزال الغَيْث وإنزال الكُتُب وإرسال الرُّسُل ودَفْع الضَّرَر فهذا حَمْد على الكَمال المُتعدِّي.
وقول المُفَسِّر ﵀: [﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ مُلْكًا وخَلْقًا] ﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ هذا كالتَّعليل للحَمْد؛ لأنَّ هذا الوَصْفَ يَدُلُّ على العِلِّيَّة؛ أي: يَحمَد الله تعالى نَفْسَه؛ لأنه مالِك لما في السَّمَوات وما في الأرض.
وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يَشمَل العُقَلاء وغيرَ العُقَلاء؛ ولهذا أَتَى بـ ﴿مَا﴾ لأَجْل أن يَشمَل هؤلاءِ وهؤلاءِ؛ وإنما غُلِّبَ غيرُ العُقَلاء؛ لأنَّهم أكثَرُ من حيثُ النَّوْع، أمَّا مِن حيث العَدَد فإنَّ في ذلك شَكًّا؛ لأنَّ الملائِكة عليهم الصلاة والسلام لا شَكَّ أنهم من العُقَلاء، وهم لا يُحصيهم إلَّا الله ﷿؛ "مَا مِنْ
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (٣٩٥)، من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 14
مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابعَ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ" (^١).
وقوله تعالى: ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ جَمْع سماءٍ، وجُمِعت لأنها مُتعَدِّدة، فهي سَبعْ سمَواتٍ، كلُّ واحِدةٍ فوق الأُخرى، وهي مَأخوذة من السُّمُوِّ، وهو العُلُوُّ والرِّفْعة.
وقوله تعالى: ﴿الْأَرْضِ﴾ أُفرِدَت، لكنَّ المُراد بها الجِنْس فتَشمَل الأرَضين السَّبْعَ؛ لأن الأرَضين سَبْع بصريح السُّنَّة، وسَبْع بظاهِر القُرآن، فهي سَبْع بصريح السُّنَّة؛ لقول النبيِّ ﷺ: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ الله إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أرضين" (^٢)، وبظاهِر القرآن؛ لقوله ﷾: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢]، فإن المِثْليَّة هنا قطعًا ليست بالصِّفة فتكون بالعَدَد.
وقول المُفَسِّر ﵀: [مُلْكًا وَخَلْقًا]، يَعنِي: أنه هو الذي خلَقَها ﷾ وهو المالِكُ لها المُدبِّر، ولو قال المُفَسِّر ﵀: (وتَدبيرًا) لكان أَبْينَ، وإن كانت كلِمة [مُلْكًا] تَتضَمَّن التدبير.
فالله ﷾ له ما في السَّمَوات والأرض خَلْقًا فلم يَخلُقْها إلَّا الله ﷿، ومُلْكًا فلا مالِكَ لها إلَّا الله ﷿، وتَدبيرًا فلا تَدبيرَ لأَحَدٍ فيها على وجه الإطلاق إلَّا لله ﷾.
وقول المُفَسِّر ﵀: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾ كالدُّنْيا يَحمَده أَوْلياؤُه إذا دخَلوا الجنَّة].
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد (٥/ ١٧٣)، والترمذي: كتاب الزهد، باب في قول النبي ﷺ: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا"، رقم (٢٣١٢)، من حديث أبي ذر الغفاري ﵀.
(^٢) أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (٢٤٥٢)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (١٦١٠)، من حديث سعيد ابن زيد ﵁.
1 / 15
قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾ هنا خَصَّ الحَمْد في الآخِرة مع أنه محمودٌ في الدُّنيا والآخِرة؛ كما قال الله ﷾ في آيةٍ ثانية: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ [القصص: ٧٠]، لكنَّه ذَكَر ذلك؛ لأنَّ ظُهور حَمْده في الآخِرة أَبيَنُ وأَوْضَحُ، فإنَّ في الدُّنيا مَن يُنكِر حَمْد الله ﷾، وَيكفُر به، ولا يَرَى إلَّا أنَّ هذه الدُّنيا طبيعة تَتَفاعَل بذاتها وليس لها مُدبِّر، ومَنِ اعتَقَد هذا الاعتِقادَ فهل يُمكِن أن يَحمَد الله ﷿؟ أبدًا! لا يُمكِن حتى لو رَأَى الجيْر واندِفاع الشَّرِّ فانَّه لا يَحمَد الله ﷿؛ لأنَه لا يُقِرُّ به، لكِن في الآخِرة لا يُمكِن لأحَدٍ إلَّا أن يَحمَد الله ﷿، فالحَمْد في الآخِرة لله ﷿، كما أنّه أيضًا في الآخِرة لا أحَدَ يُحْمَد إلَّا النادِر، قال الله تعالى للنبيِّ ﷺ: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩]،، أمَّا بقية الناس ممَّن لم يَحمَدهم الله ﷾ فإنهم ليس لهم حَمْد في الآخِرة، فأنت في الدُّنيا تَحمَد من يُحسِن إليك لكن في الآخِرة لا تَحمَد صديقَكَ ولا صاحِبكَ، اللهمَّ إلَّا أن يَكون ذلك بعد دُخول الجَنَّة فرُبَّما.
يَقول المُفَسِّر ﵀: [﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾ كَالدُّنْيَا]، يَعنِي: كما أنَّ له الحَمْدَ في الدنيا، وكأنَّ المُفَسِّر ﵀ بهذا التَّقديرِ يَقول: إنه حُذِف الشِّقُّ الآخَر لدَلالة السِّياقِ عليه، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١]، يَعنِي: والبَرْدَ.
وقوله ﵀: [يَحْمَدُهُ أَوْليَاؤُهُ إِذَا دَخَلُوا الجنَّةَ]؛ قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾ [الزمر: ٧٤]، ولكِنَّ الصحيحَ أنه يَحمَد حتى على جزائه الكافِرين؛ فإنَّ الله ﷾ قال في آخِر سورة الزُّمَر لما ذكَر سَوْق أهل النار إلى النار وأهل الجَنَّة إلى الجنَّة، قال تعالى: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ
1 / 16
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر: ٧٥]، فإن الله تعالى يُحْمَد على كَمال عَدْله وكَمال فَضْله، ومجُازاته لأهل النار من بابِ العَدْل فيُحمَد عليه.
وقول المُفَسِّر ﵀:؟ [﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ فِي فِعْلِهِ]، وهذا فيه قُصور، لأنَّه حَكيمٌ في شَرْعه وفِعْله أيضًا؛ الذي هو القَدَر، فليسَتِ الحِكْمة خاصَّةً بالفِعْل، بل حتى في الشَّرْع الذي يَكون بكلامه فإن الشَّرْع هو الوحيُ وهو كلامُ الله ﷾، وليس فِعْلًا له، بل هو كلامه، وكذلك فِعْله وهو حَكيم فيه، والحِكْمة مَأخوذة من الإِحْكام وهو الإِتْقان، ولهذا يُقال في تَفسيرها: إنَّها وَضْع الشيءِ مَوضِعَه، وهذا هو الإِتْقان، ولكِنْ ﴿الْحَكِيمُ﴾ له مَعْنيان: الحاكمِ والمُحكِم؛ لأنَّها مَأخوذةٌ مِنَ الحُكْم ومن الإِحْكام، وأنَّ حُكْم الله تعالى نَوْعان: حُكْم شَرْعيّ وحُكْم كَوْنيٌّ، وأنَّ الحِكْمة نوعان أيضًا: صُورية وغائِيَّة.
فالصُّورية: بمَعنى أن كون هذا الشيءِ على هذا الصُّور المُعيَّنة مُوافِق للحِكْمة.
والغائِيَّة: بأن الغاية من هذا الشيءِ حِكْمةٌ يُحمَد الله تعالى عليها.
فمَثَلًا كونُ الصلاة على هذا الوجهِ والصيامِ على هذا الوجهِ والوضوءِ على هذا الوجهِ، هذه في الأُمور الشَّرْعية، وكذلك في الأُمور الكَوْنيَّة؛ كون خِلْقة الإنسان على هذا الوجهِ والشمسِ والقمَرِ وما أَشبَه ذلك؛ هذه حِكْمة صُورَّية، بمَعنَى: كونُ الشَّيْءِ على هذه الصورةِ المُعيَّنة هذا لا شَكَّ أنه مُوافِقٌ للحِكْمة، ثُمَّ الغاية من ذلك الشيءِ حِكْمةٌ أُخرى.
وتكون هذه الحِكْمةُ الصُّوريةُ والغائِيَّة في الشَّرْع وفي القَدَر، وإذا ضَرَبت اثنَيْنِ في اثنَيْنِ تَكون أربعةً:
١ - حِكْمة غائِيَّة في الشَّرْع.
٢ - حِكْمة صُورية في الشَّرْع.
1 / 17
٣ - حِكْمةٌ غائِيَّةٌ في القَدَر.
٤ - حِكْمة صُورية في القَدَر.
وكُلُّ ذلك ثابِت لله ﷿، وإذا آمَن الإنسان بهذا اطمَأَنَّ إلى أحكام الله تعالى الكَوْنية والشَّرْعية، ولم يَنقَدِح في ذِهْنه أيُّ اعتِراض؛ لأَنَّه يَعلَم أنَّ هذا صادِرٌ عن حِكْمة، وإذا عَلِم أنَّه صادِرُ عن حِكْمة فإنه لا يَبقَى في قلبه شَكٌّ من أنَّ هذا هو عيْنُ الصواب، وهو الذي تَقتَضيه الحِكْمة؛ وبهذا يَطمَئِنُّ الإنسان إلى شريعة الله تعالى، وَيطمَئِنُّ الإنسان أيضًا إلى قدَرِ الله ﷿، وَيعلَم أن هذا هو الصوابُ الذي لا يَجوز غيرُه.
و(حَكِيمٌ) بمعنى حاكم فهو إذا صيغة مبالغة (فعيل)، وإذا كان (حكيم) من أحكم فهو بمعنى محكم وفعيل تأتي بمعنى مفعل ومنه قول الشاعر (^١):
أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُني وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
وقول المُفَسّر ﵀: [﴿الْخَبِيرُ﴾ بِخَلْقِهِ]، و(الخبير) معناها: ذو الخِبْرة وهي العِلْم ببواطِن الأُمور، ومنه سُمِّي الزارع خبيرًا؛ لأَنّه يَستُر الحبَّ بالحَرْث، وهل يُنافي ذلك العِلْمَ بظواهِر الأُمور؟ لا، بل إنَّه يُؤيِّده لأنَّ الذي يَعلَم ببواطن الأُمور من بابِ أَوْلى أن يَعلَم بظواهِرِها، والحِكْمة دائِمًا يَقرُنها الله ﷿ بالعِزة وبالعِلْم، وهنا قُرِنت بالعِلْم الذي يَتضمَّنه الخِبْرة وإنما يَقرُنها الله ﷿ بذلك ليَتبيَّن أنَّ حِكْمته ﷾ مَبنيَّة على عِلْمه وأنه إذا تَراءَى لك أن هذا الشيءَ ليس بحِكْمة فذلك لنُقْصان عِلْمك، وإلَّا ولو كان عندك عِلْمٌ وفَهْمٌ لعَرَفت أنَّ الحِكْمة فيما شرَعَه الله ﷿ وفيما قدَّره.
_________
(^١) البيت لعمرو بن معدي كرب، انظر: الأصمعيات (ص: ١٧٢)، الشعر والشعراء لابن قتيبة (١/ ٣٦٠).
1 / 18
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدةُ الأُوْلَى: ثُبوتُ الحمد الكامِل لله ﷿ في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إلى آخِرِه.
الفائِدةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ هذا الحَمْدَ الذي ثبَت له هو أَهْل له؛ لقوله تعالى: ﴿لِلَّهِ﴾؛ لأنَّ اللَّام -كما تَقدَّم- للاستِحْقاق والاختِصاص.
الفائِدةُ الثَّالِثَةُ: ثناء الله ﷾ على نَفْسه لأَجْل مَصلَحة العِباد؛ لأننا نحن لا نَستَطيع أنَّ نُثنيَ على الله أو نُحصيَ ثَناءً عليه؛ فإذا حَمِد الله نَفْسَه فهذا من مَصلَحَتِنا؛ لأَنه يُعلِّمنا ﷿ كيف نَحمَده، وكيف نُثنِي عليه؛ وهو أهلٌ لأن يَمدَح نَفْسَه ﷿ ويُثنِيَ عليها لمَصلَحة عِباده، وإلَّا فهو في غِنَى عن كونه يُظْهِر لنا من صِفات الكَمال ما يُظْهِر، ولكن هذا من أَجْل مَصلَحَتنا.
وهذه الفائِدةُ قد تكون مَبنِيَّة على سُؤال مُقدَّر: كيف يُثنِي الله تعالى على نَفْسه؟ وهل مَدْح الشَّخْص نَفْسَه يُعتبَر مَنقَبةً أم لا؟
فالجوابُ: أن يُقال: إنَّ الله تعالى يَمدَح نَفْسَه لا لحاجته إلى أن نُثنِيَ عليه أو أَنْ نَعرِف كماله؛ لأَنَّه الكامِلُ، لكن من أَجْل مَصلَحَتِنا، إذ إننا لا نُحصي ثَناءً عليه، ولا نَعرِف ماذا نُثنِي به عليه إلَّا عن طريق وَحْيه.
الفائِدةُ الرَّابِعَةُ: عموم مُلْك الله تعالى؛ في قوله ﷿: ﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وهنا حَمِد نَفْسَه على عُموم مُلْكه، وقد يَحمَد نَفْسَه على فِعْله مِثْل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: ١]، وقد يَحمَد نَفْسه على شَرْعه، مِثْل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ... ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١]، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى
1 / 19
عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١].
الفائِدةُ الخَامِسَةُ: أنَّ السَّمواتِ جَمْعٌ؛ يَعنِي: أَكثَرُ من واحِدة؛ لقَوْله تعالى: ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ومن أَدِلَّة أُخْرى قد ثَبَت أنها سَبْع، وكذلك الأَرْضُ.
الفائِدةُ السَّادِسةُ: ظهور كَمال الله ﷿ يوم القِيامة؛ أَظهَرَ ممَّا يَكون في الدُّنيا؛ لقوله ﷾: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾، فالمُلْك عامٌّ، وظهور الحمْد جَلِيًّا واضِحًا يَكون في الآخِرة.
الفائِدةُ السَّابِعَةُ: ثُبوت البَعْث؛ لقوله تَعالى: ﴿الْآخِرَةِ﴾.
الفائِدةُ الثَّامِنةُ: عُموم عِلْم الله ﷾؛ يُؤخَذ مِن قَوْله تعالى: ﴿الْخَبِير﴾ وما جاء مِن التَّفصيل بعدها؛ لأنَّ الجبير هو العالم بالبَواطِن، والعالم بالبَواطِن عالم بالظَّواهِر.
الفائِدةُ التَّاسِعَةُ: إثبات هَذَيْن الِاسْمَين الكَريمين لله ﷿، وهُما: ﴿الْحَكِيمُ الْخَبِيرٌ﴾.
الفائِدةُ الْعَاشِرَةُ: إثبات حُكْم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَت الكَونيِّ والشَّرْعيِّ، وإثباتُ حِكْمته المُتعَلِّقة بالكون والمُتعَلِّقة بالشَّرْع.
وَيتفَرَّع على هذه القاعِدةِ وجوبُ التَّسليمِ لقَضائه الكونيِّ والشَّرْعيِّ بحيثُ لا نُورِد أيَّ اعتِراضٍ؛ حتى وإن جاء على ما ظاهِرُه خِلافُ الحِكْمة فإنَّه يَجِب أن نَتَّهِم عُقولَنا؛ لأنَّه إذا ثبَت أنه ﷿ حكيم في الحُكْمين الكونيِّ والشَّرْعيِّ لزِمَ من ذلك التَّسليمُ للقَضاء الكونيِّ والشرْعيّ؛ لأنَّه صادِرٌ عن حِكْمة، لكِنَّ هذه الحِكْمةَ قد تَخفَى علينا.
* * *
1 / 20
الآية (٢)
* * *
ثُمَّ فصَّل شيئًا من عِلْمه:
* قالَ الله ﷿: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ [سبأ: ٢].
* * *
قول المُفَسِّر ﵀: [﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ﴾ يَدْخُلُ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كماءِ وَغَيره ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ كَنبَاتٍ وَغَيرِهِ ﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ مِنْ رِزْق وَغَيرهِ ﴿وَمَا يَعْرُجُ﴾ يَصْعَدُ ﴿فِيهَا﴾ مِنْ عَمَلِ وَغَيرهِ ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ﴾ بِأَوْليَائِهِ ﴿الْغَفُور﴾ لهمْ] هذا من باب التَّفصيل.
وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾: ﴿مَا﴾ اسم مَوصول يُفيد العُموم، و﴿يَلِجُ﴾ بمَعنى: يَدخُل، فكُلُّ ما يَدخل في الأرض فالله ﷾ يَعلَمه.
وقول المُفَسِّر ﵀: [كماءٍ] الماء يَدخُل إلى الأَرْض ويَخرُج منها، فإذا أَنزَل الله ﷿ الماء من السَّماء أَدخَله في الأرض يَنابيعَ، وإذا أَراد الله ﷾ أن يَخرُج خرَج بآلة أو بغير آلة.
وقوله ﵀: [وَغَيره] كالأموات وغيرهم؛ كالأَشياء التي لها جُحور في الأرض، والنَّبات أيضًا وبُذورها أيضًا، كلُّها داخِلة في الأرض.
المُهِمُّ: أن ما يَلِج في الأرض لا يُحصىَ أَصنافه فضلًا عن أفراده وهو واسعٌ
1 / 21
جِدًّا، والله ﷿ يَعلَمه حتى الذَّرَّة التي تَدخُل في جُحْرها يَعلَمها الله ﷾.
وقول المُفَسِّر ﵀: ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ كَنبَاتٍ وَغَيرهِ] فالنَّباتُ واضِح؛ و[غَيره] كالماء والمعادِن والحيوانات التي تَنتَشِر في الأرض، ومن ذلك الإنسانُ؛ لقوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: ٥٥] إِخْراج وإِدْخال، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [نوح: ١٧ - ١٨].
وقول المُفَسِّر ﵀: [﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ مِنْ رِزْقٍ وَغَيرهِ] كيف يَنزِل من السماء الرِّزْق؟ هل تَبقَى في البيت كلَّ يَوْم وَيأتيك التَّمْر والثِّياب وَينزِل من السماء؟
الجوابُ: لا ولكن الرِّزْق يَكون بالمَطَر مثَلًا، يُنزِل الله ﷾ المَطَر فتُنبِت الأرضُ؛ ويَخرُج منها الماء والمَرعَى، قال تعالى: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٢)﴾ [عبس: ٣٢]، وغير ذلك أيضًا: يَنزِل أَمْرُ الله ﷾: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [السجدة: ٥]، وتَنزِل أيضًا الملائِكة، وتَنزِل الشُّهُب تُرمَى بها الشياطينُ، وأشياءُ كثيرةٌ من هذا، الله ﷿ يَعلَمها.
وقول المُفَسِّر ﵀: [﴿وَمَا يَعْرُجُ﴾ يَصْعَدُ ﴿وفِيهَا﴾ مِنْ عَمَلٍ وَغَيْره]؛ هنا (يعْرُج) بمَعنى يَصعَد و(يَعرُج) تُعدىَّ بـ (إلى) كما قال تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤]، وقال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السجدة: ٥]، وهنا قال: (يَعرُجُ فيها) والنَّحويُّون اختَلَفوا في مِثْل هذا؛ فمِنهم مَن قال: إنَّ الحرْف بمَعنًى يُناسب الفِعْل؛ يَعنِي: أَنْ يُجعَل حرفٌ بمَعنَى حرفٍ آخَرَ يُناسب الفِعْل؛ فمَثَلًا يَقول: (في) بمَعنَى (إلى)، ومنهم مَن يَقول: بلِ الحَرْف باقٍ على
1 / 22
مَعناه الأصل، ويُضَمَّنُ الفِعْلُ مَعنًى يُناسب ذلك الحرْفَ، وهذا مَذهَب البصريين فيقولُ: ﴿يَعْرُجُ﴾ مُضَمَّنٌ مع مَعناه الظاهِر -وهو العُروج- معنى الدُّخول؛ يَعنِي: يَعرُج فيَدخُل فيها، ليس المُرادُ ما يَعرُج فقط ولا يَدخُل، وسَبَق لنا في مُقدِّمة التفسير لشيخ الإسلام ابنِ تيميَّةَ ﵀ أنَّ هذا المَذهَبَ هو المَذهَبُ الصحيح المحقَّقُ؛ وهو أن نُضمِّن الفِعْل معنًى يُناسب الحرف؛ لأنَّ هذا التَّضمين يَجعَل للفِعْل مَعنيَيْنِ: أحدُهما: المعنى الظاهِرُ من اللَّفْظ، والثاني: المَعنَى الذي تَضمَّنه؛ ليُناسب الحرْف الذي تَعلَّق به.
وَيظهَر لك ذلك جَلِيًّا في قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦]، ومَعلومٌ أننا لا نَشرَب بالعَيْن إذ ليست بآلة للشُّرْب، ويَرَى بعض العُلَماء ﵏ أن نَجعَل الباء بمَعنى (مِنْ) أي: يَشرب منها، وَيرَى آخَرون أننا نُضمِّن (يَشرَب) مَعنى (يَروَى) فإذا ضمَّنَّا نَستَفيد فائِدتَيْن:
الأُولي: الشُّرْب.
والثانية: والرِّيُّ.
ولكن إذا قُلْنا: إنَّ الباء بمَعنى (مِنْ) لم نَستَفِد هذه الفائِدةَ.
فالمُهِمُّ: أن المَذهَب الصحيح هو أننا نُضمِّن الفِعْل مَعنى يُناسبُ الحرْف، ولا نَجْعَل الحرْف بمَعنَى حَرْفٍ آخَرَ.
وقوله ﵀: [﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ﴾ بِأَوْليَائِهِ ﴿الْغَفُورُ﴾ لهمْ] وهذا أيضًا من التَّخصيص بلا دليلٍ.
وقوله تعالى: ﴿الرَّحِيمُ﴾ لم يَذكُر مُتعلَّقها، والمُفَسِّر ﵀ يَقول: [بِأَوْلِيَائِهِ]
1 / 23
فعليه يَكون أعداؤُه لا رحمةَ لهم على كلام المُفَسِّر ﵀، و﴿الْغَفُور﴾ أيضًا لأَوْليائه، فأَعداؤُه لا مَغفِرةَ لهم، ولكنَّ الصحيح: العُموم، لأنَّ هذين الِاسْمَيْن مُطلَقان فيَبقَيان على إطلاقهما؛ فهو رحيم حتى بأعدائه، فالكافِر قد أَعطاه الله تعالى صِحَّة ورِزْقًا من اللِّباس والطَّعام والشَّراب والمَسكَن والزوجة والأَهْل، وكل هذا رحمةٌ، لكنها رحمةٌ عامَّةٌ، يَعنِي: أنها لا تَكون خاصَّةً كرَحْمة المُؤمِنين.
والمَغفِرة أيضًا يَستَحِقُّها مَن تاب من عَداوته لله ﷿، وإذا تاب فهو وَلِيٌّ من أَوْلياء الله ﷿، ولكن قد يَكون في الإنسان عَداوة ووِلايةٌ، كما في قوله تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: ١٠٢]، وهم مُستَحِقُّون لمَغفِرة الله ﷿.
إِذَنْ: فكَلِمة ﴿الرَّحِيمُ﴾ عامَّةٌ، لأنَّها تَختَصُّ بالفِعْل وهو إيصال الرحمة إلى المَرحوم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدةُ الأُوْلَى: أن من الأساليب البلاغية: الإجمالَ ثُمَّ التَّفصيلَ؛ لقوله تعالى: ﴿الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ﴾ إلى آخِره، وفائِدة هذه الطريقةِ البَلاغية هي: أن الشيءَ إذا جاء مجُمَلًا تَشوَّفَتِ النُّفوس إلى تَفصيله، فجاء التَّفصيلُ وارِدًا على نُفوسٍ تَتطَلَّع إليه، فإذا ورَد التَّفصيلُ إلى نُفوس تَتطَلَّع إليه كان أَوْقعَ في النَفْس وأَرسَخَ في القَلْب.
فلو قُلْتُ لكَ: حدَث البارِحةَ شيءٌ عَظيم ما دَريتَ؟ البارِحة الساعة الواحِدة من الليل حدَث أمر عظيم؛ ما عَلِمْت؟ ! فتَتَشَوَّف إلى هذا وتَتَطَلَّع إلى هذا الشيءِ العَظيم.
لكن لو قُلْتُ لكَ: حدَث البارِحة مثلًا أن رُميَ بنَجْم فاستَنار نورًا عظيمًا، على
1 / 24
كلِّ حال تَقبَل هذا الخبَرَ، لكن ليس كالأوَّل؛ لأنك في الأوَّل ستَقول: ما هذا الشيءُ العظيمُ؟ تَقول: شيء عظيم، ما هذا الشيءُ؟ ! أَخبِرْني ما هذا الشيءَ؟ حتى يَرِدَ على قَلْبك وقد تَشَوَّفْت إليه كثيرًا.
الفائِدةُ الثَّانِيَةُ: تمَام تَصرَّف الله ﷿ في مخَلوقاته؛ هذا يَلج، وهذا يَدخُل، وهذا يَنزِل، وهذا يَعرُج؛ قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾.
الفائِدةُ الثَّالِثَةُ: من فَوائِدها -وهي فائِدة بَلاغِيّة-: البَداءةُ بما يُماسُّ الإنسانَ وإن كان غيرُه أشرَفَ منه؛ لأنه تَحدَّث عما يَلِجُ في الأرض وما يَخرُج منها قبل التَحدُّث عما يَنزِل من السَّماء وما يَعرُج فيها، وهذه الفائِدةُ بِناءً على أن السّماء أَشرَفُ من الأرض، وهل هذا مُسلّمٌ؟
الجوابُ: هذا فيه خِلاف بين العُلَماء ﵏، وفيه جدَلٌ كثير، منهم مَن يَرَى أنَ السماء أَشرَفُ وَيقول: إنَّ السماءَ لو لم يَكُن فيها إلا المَلائِكةُ المُقرَّبون، وهي جهة عُلُوّ والسّماء فيها أيضًا الله ﷿ فَوقَها، ومنهم مَن يَرَى أن الأرض أَشرَفُ وَيقول: لأنَها خُلِق منها أَفضَلُ المَخلوقات وهمُ الأَنبياءُ والرُّسُل، فهي أشرَفُ.
وهذا النِّزاعُ وإن كان نِزاعًا قد يُقال: إنه مِنْ فُضول العِلْم، لكنه على كلِّ حال في أوّلِ وَهْلة يَرَى الإنسان أن السَّماء أَشرَفُ من الأرض، ولكن ذُكِرَتِ الأرضُ هنا لأنها تمُاسُّنا أكثَرَ ونَعرِف عنها أكثَرَ.
الفائِدةُ الرَّابِعَةُ: إثبات الرحمة والمَغفِرة لله ﷿، في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾، وهنا قدَّم (الرَّحيم) على (الغَفور)، وإن كان الأكثرُ في القرآن تَقديمَ (الغَفور) على (الرَّحيم)؛ لمِا يَكون في السماء والأرض مِنَ المَصالِح والمَنافِع، والمَصالِح
1 / 25
والمَنافِع من آثار الرحمة، ودفعُ المَصائِب من آثار المَغفِرة؛ لأنَ المَغفِرة: مَحْوُ الذنْب الذي تَزول فيه المَكروهات، والرحمة: حُصول الخير.
والرحمة عند أهل السُّنَة والجماعة: صِفة من صِفات الله ﷿، حقيقة ثابِتةٌ له، وعند الأَشاعِرة يَقولون: الرحمة هي الإحسان أو إرادة الإِحْسان، فيُفسِّرونها بالشيء المَفعول لله ﷾؛ يَعنِي: بالنَعَم أو بإِرادة النِّعَم؛ لأنهم يُقِرُّون بصِفة الإرادة؛ فيُفسرون الرحمة بإرادة الاِنْعام والإحسان، أو بالإِنْعام والإحسان نَفْسه.
ولكِنَّ القَوْل الصوابَ المَقطوع به هو أنْ تُجرَى نُصوص الكِتاب والسُّنُّة فيما يَتعَلَّق بأسماء الله تعالى وصِفاته على ظاهِرها، فلا نَحتاج أن نَقول: (اللائِق بالله) إلا على سبيل الإيضاح فَقَطْ؛ لأننا نَعلَم عِلْم اليقين أنَ ظاهِرها لائِقٌ بالله تعالى، وليس ظاهِرُها كما يَقول أهل التعطيل: التشبيهُ! لأَنه لو كان ظاهِرُ نُصوص الكِتاب والسُّنَّة في أسماء الله تعالى وصِفاته التَّشبيهَ أو التَّمثيلَ لكان ظاهِرُ القُرآن والسُّنَّة في هذا البابِ هو الكُفْرَ؛ لأنَّ من شبَّهَ الله تعالى بخَلْقه فقد كفَرَ، حيث كذَّب قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، ومحالٌ أن يَكون ظاهِرُ الحَقِّ باطِلًا وكُفْرًا.
ولهذا إذا قُلْنا: إنَّ نُصوص الكِتاب والسُّنَّة في أسماء الله تعالى وصفاته تُجرَى على ظاهِرها اللائِق بالله تعالى؛ فهذا مِن باب الإيضاح، وإلا فإننا نَعلَم عِلْم اليَقين -الذي هو عندنا أَيقَنُ من الشمس-: أنَّ ظاهِرَها هو ما يَليق بالله تعالى، فلا حاجةَ إلى التَّقييد به، لكنَّنا قد نُقيّده على سبيل الإيضاح فَقَطْ.
و(الرَّحمة) هل هي صِفةُ كَمالِ من حيث هي؟ بقَطْع النَّظَر عن مَوصُوفها أو صِفةُ نَقْص؟
1 / 26