Tafsir Al-Uthaymeen: Luqman
تفسير العثيمين: لقمان
प्रकाशक
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٣٦ هـ
प्रकाशक स्थान
المملكة العربية السعودية
शैलियों
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ للَّه، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ باللَّه مِن شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوُله، أرسلَه اللَّهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في اللَّه حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أثناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَي الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما اللَّه بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللَّهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللَّهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة لقمان
الحمدُ للَّهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللَّهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
يَقول المُفَسِّر (^١) ﵀: [وهي مَكِّيَّة] المَكِّيُّ أَرجَحُ الأقوال -والذي عليه الجُمهور-: أن ما نزَل بعد وصول الرسول ﷺ إلى المدينةَ فهو مدَنيٌّ، ولو نزَل بمَكَّةَ، وما نزَل قبل وصوله إلى المدينة فهو مَكِّيٌّ، هذا هو القول الراجِح، فعلى هذا المُعتَبَرُ هو الزمَن لا المكان، وهذا أَريَحُ أيضًا للإنسان.
يَقول ﵀: [مكِّيَّة، إلَّا: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ [لقمان: ٢٧]]، وفي نُسخة [أو إلَّا] وبينهما فَرْق؛ لأن قول المُفَسِّر ﵀: [إلَّا ﴿وَلَوْ﴾] أن هذا اقتِصار على قول واحِد وجزَم به، أمَّا على النُّسخة الثانية [أو إلَّا] فهو إشارة إلى أن في المَسأَلة قولين، وأنه لم يُجزَم بأحَدِهما.
والصحيح ما سبَقَ لنا أن السورة إذا كانت مَكِّيَّة فإننا لا نَستَثْنِي منها شيئًا إلَّا بنَصٍّ صريح واضِح، وإذا كانت مدَنية فإننا لا نَستَثنِي منها شيئًا إلَّا بنَصٍّ صريح واضِح؛ لأن الأصل أنَّ السورة تَكون مُتَتاليةً، وأن الرسول ﵊ يَضَع كل آية في مكانها، أو يَأمُر بوَضْعها.
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
وعلى هذا فنَقول: إن جاء مَن أَثبَتَ أن قوله ﷾: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾، نزَلَت بعد الهِجرة، وأَثبَت ذلك بنَصٍّ فعَلَى العَيْن والرأس، وإلَّا فالأَصْل أن السورة كامِلة مكِّيَّة.
* * *
1 / 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* * *
[بسم اللَّه الرحمن الرحيم] تَقدَّم الكلام على البَسمَلة إعرابًا ومَعنًى وحُكمًا:
أما إعرابها فإنها جارٌّ ومجَرور مُتعَلِّق بمَحذوف، فِعْل مُؤخَّر مُناسِب للمَقام، الآنَ نُريد أن نَقرَأ هذه السورةَ فنَقول: بسم اللَّه الرحمن الرحيم أَقرَأُ. أو نُريد أن نُفسِّر نَقول: بسم اللَّه الرحمن الرحيم أُفسِّرُ. ويُريد الإنسان أن يَتَوضَّأ يَقول: بسم اللَّه أَتَوضَّأ، وقدَّرناه فِعْلًا؛ لأن الأَصْل في العامِل أن يَكون فِعْلًا، لا سيَّما وأنه مَحذوف.
وقدَّرْناه خاصًّا، لم نَقُلْ مثَلًا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم أَبتَدِئ. بل قُلْنا: كُنَّا إن كنت تُريد أن تَقرَأ قَدِّر: أَقرَأُ، تُريد أن تَأكُل قَدِّر: آكُلُ، تُريد أن تَشرَب قَدِّر: أَشرَبُ، فاختَرْنا أن يَكون تقديرُه خاصًّا لأَجْل أن يُناسِب كل حال بعَيْنه؛ ولأن الرسول ﵊ قال: "مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ" (^١) فهو إشارة إلى أنه يُقدَّر الفعل المَحذوف بما يُناسِب الفِعْل المُبتَدَأ به.
واختَرْنا أن يَكون تَقديرُه مُتأخِّرًا؛ لأَجْل البَداءة بـ (بسم اللَّه)، ولإفادة الحَصْر والاختِصاص؛ لأن تَقديم المَعموم يُفيد الحَصْر والاختِصاص، فكأنك تَقول:
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، رقم (٩٨٥)، ومسلم: كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (١٩٦٠)، من حديث جندب بن سفيان ﵁.
1 / 9
لا أَبتَدِئ إلَّا بسم اللَّه، هذا هو السبَب في أن نُقدِّره مُتأخِّرًا.
فهي (اسم) مُضاف، ولفظ الجَلالة مُضاف إليه، و(الرحمن) صِفة للَّه تعالى، و(الرحيم) صِفة للَّه تعالى أيضًا.
وأمَّا حُكْمها: فإنها آية من كِتاب اللَّه تعالى تَكلَّم اللَّه تعالى بها، وأَنزَلها على الرسول ﷺ، لكنها ليسَتْ آيةً من السورة، إنما جُعِلت علامةً على ابتِداء السورة فقَطْ، وليسَتْ منها، وتَجِد في المَصاحِف أنه لم يُكتَب عليها رقمٌ إلَّا في الفاتِحة، فإنها رُقِّمت، والسبَب أنَّ الفاتِحة ذهَب كثير من أهل العِلْم ﵏ إلى أن البَسمَلة منها، والصواب أنَّها ليسَتْ منها، بل كغيرها، وأن أوَّل آية في سورة الفاتِحة هي قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٢ - ٦]، هؤلاء خمسُ آيات والفاتِحة سبعُ آياتٍ، إذن السابِعة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، هذه السابِعة، هذا هو الصحيح، مع أنك تَجِد في المَصاحِف ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ آية واحِدة بِناءً على أن البَسمَلة هي الآية الأُولى. أي: أن حُكْمها باعتِبار تِلاوتها في الصلاة.
فإن قُلنا: إنها من الفاتِحة فهي آية منها، ولا بُدَّ من قِراءتها، وتُقرَأُ جَهْرًا كما يُجهَر بالفاتِحة، وإذا قُلْنا: ليسَت منها فإنه لا تَجِب قِراءَتُها ولا يُجهَر بها.
* * *
1 / 10
الآية (١)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿الم﴾ [لقمان: ١].
* * *
قال ﵀: [﴿الم﴾ اللَّهُ أَعلَمُ بمُراده به] قوله تعالى: ﴿الم﴾ ثلاثة حُروف هِجائية، يَقول المُفَسِّر ﵀: [اللَّهُ أَعلَمُ بمُراده به]، وفي هذا إثباتٌ، لأن اللَّه تعالى أَراد به شيئًا، لكنه لا يُعلَم، فنَأخُذ من كلام المُفَسِّر ﵀ أنه يَرَى أن لهذه الحُروفِ مَعنًى، ولكن اللَّه أَعلَمُ به، وقال بعضُ أهلِ العِلْم ﵏: إن لها مَعنًى، وجعَلوا يَتَخبَّطون بهذا المَعنَى، ويَجعَلونها رُموزًا لمَّا جعَلوها له، وقال مجُاهِد: إنه لا مَعنَى لها (^١)، فنَقول: لا مَعنَى لها.
ولا نَقول: اللَّهُ أَعلَمُ بما أَراد؛ وذلك لأن القُرآن نزَل باللغة العربية كما قال تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥]، وقال ﷾: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: ٢] وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣]، واللغة العرَبية ليس لهذه الحُروفِ فيها مَعنًى، وعلى هذا فنَقول: إنه لا مَعنَى لها، ونَقول ذلك لأن هذا هو مُقتَضى اللُّغة العرَبية التي نزَل بها القُرآن.
فإذا قال قائِل: إذا قلت: لا مَعنَى لها. كيف يَسوغ لك أن تَجزِم بنَفي المَعنَى؟
فالجَوابُ: نعَمْ، يَسوغ لنا ذلك؛ لأن القُرآن باللغة العربية، وهذه الحُروفُ
_________
(^١) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٢٠٩)، وانظر: تفسير ابن كثير (١/ ٧٠).
1 / 11
الِهجائية بمُقتَضى اللغة العربية ليس لها مَعنًى، فأَجزِم بذلك؛ لأن القُرآن باللغة العربية.
وإذا كان الأَمْر هكذا؛ فما الفائِدة من وُجودها في القُرآن؟
الجَوابُ: هذه هي التي قد نَقول: اللَّهُ أَعلَمُ بذلك، ولكن بعض أهل العِلْم التَمَس لهذا حِكْمة، بأنه إشارةٌ إلى أن هذا القُرآنَ الذي أَعجَزَكم ما أَتَى بحُروف جديدة حتى تَقول: واللَّهِ هذه ليسَتْ من حُروفنا، وإنما هو من الحُروف التي يَتَركَّب منها الكلام العرَبيُّ، ومع ذلك أَعجَزَكم.
قالوا: ولهذا لا يَأتي الابتِداء بهذه الحُروفِ الِهجائية إلَّا وبعده ذِكْر القُرآن، أو ما هو من خَصائِص القرآن: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، وهناك بعضُ السُّوَر مِثْل: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾، ليس فيها ذِكْر القرآن، لكن فيها ذِكْر ما هو من خَصائِصه، فـ ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ هذا من أمور الغَيْب، ولا يُعلَم إلَّا بالوَحْي، كذلك ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ هذا فيه إخبار عمَّن سبَق، وهو من أُمور الغَيْب أيضًا، ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٣].
وعلى كل حال: هذا الذي ذكَرْناه أخيرًا هو ما ذهَبَ إليه شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ (^١) ﵀ وسبَقه إليه الزَّمخشَريُّ في كِتابه (الكَشَّاف) (^٢).
* * *
_________
(^١) انظر تفسير ابن كثير (١/ ٧١).
(^٢) الكشاف (١/ ٢٦).
1 / 12
الآية (٢)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [لقمان: ٢].
* * *
قال ﵀: [﴿تِلْكَ﴾ أي: هذه الآياتُ ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ القُرآن ﴿الْحَكِيمِ﴾ ذي الحِكْمة، والإضافة بمَعنَى مِن] قوله تعالى: ﴿تِلْكَ﴾: المُشار إليه آيات القُرآن، وتَجِد أن الإشارة هنا بصيغة البَعيد، والقرآن ليس بَعيدًا؛ لأنه بين أَيدينا، ولكنه عالِي المَرتَبة؛ فلهذا أُشير إليه بإشارة البعيد.
وقوله تعالى: ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ أي: المَكتوب وهو القُرآن، وذكَرْنا فيما سبَق أنه مَكتوب في ثلاثة مَواضِع: في اللوح المَحفوظ، وفي الصُّحُف التي بين يدَي المَلائِكة، وفي الصُّحُف التي بين أَيْدينا.
وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ الإضافة هنا يَقول المُفَسِّر ﵀: إنها على تَقدير (مِن) يَعنِي: آيات مِن الكِتاب، والآياتُ كما تَقدَّم كونيةٌ وشرعيةٌ، وآيات الكِتاب من الشَّرْعية.
وقوله تعالى: ﴿الْحَكِيمِ﴾ قال المُفَسِّر ﵀: [ذي الحِكْمة]، ولكن يُمكِن أن يُقال: ذي الحِكْمة والحُكْم أيضًا؛ لأنه مَرجِع الناس في الحُكْم؛ ولأنه يَشتَمِل على الحِكْمة، وهو أيضًا صالِح لأَنْ يُجعَل بمَعنَى المُحكِم، فيَكون فَعيل بمعنى مُفعِل.
1 / 13
فالقُرآن إذَنْ: حَكيم لاشتِماله على الحِكْمة وعلى الحُكْم بين الناس؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥].
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَة الأُولَى: حِكْمة اللَّه ﷾ في إنزال هذه الحُروفِ الهِجائية، وهي ﴿الم﴾ وما أَشبَهها.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن اللَّه ﷿ يَتكَلَّم بحَرْف، وكذلك بصَوْت؛ لأن ﴿الم﴾ من كَلام اللَّه تعالى، وهي حُروف، وهذا هو مَذهَب أهل السُّنَّة والجَماعة، وقد تَقدَّم لنا البحث فيه مِرارًا، وأن أهل السُّنَّة والجماعة يَقولون: إن كلام اللَّه ﷾ حَرْف وصَوْت.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: عُلوُّ شَأْن هذا القُرآنِ؛ لقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن القُرآن آية وعلامة على مُنزِلِه، لقوله ﷾: ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾، والإضافة على تَقدير (مِن) فهي إضافة جِنْسية، وهو آية على مُنزِلِه جَلَّ وَعَلَا:
من حيث صِدْق أَخباره ومُطابَقَتها لهذا الواقِعِ، ومن حُسْن قِصصه وحُبِّها للنُّفوس، وعدَم مَلَلها منها؛ لأن ما من كلام يُردَّد إلَّا ويُمَلُّ إلَّا القرآن.
وكذلك من حيث الأحكام: حيث إنها أَحكام عادِلة نافِعة للعِباد في مَعاشِهم ومَعادِهم؛ ولهذا قال اللَّه ﷿: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥].
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن القُرآن مَكتوب كما هو مَقروء، لقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾.
1 / 14
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الثَّناء على هذا القُرآنِ بهذا الوَصْفِ العَظيم وهو: ﴿الْحَكِيمِ﴾.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنه لا يُوجَد في القُرآن خبَر سِيق عبَثًا، ولا حُكمٌ أُثبِتَ عبَثًا، يُؤخَذ ذلك من قوله تعالى: ﴿الْحَكِيمِ﴾؛ لأن العبَث يُنافِي الحِكْمة، ولا يُمكِن أن يَكون في القُرآن شيءٌ عبَثًا، لا خبَرًا ولا حُكْمًا.
* * *
1 / 15
الآية (٣)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [لقمان: ٣].
* * *
قوله ﵀: [(هُدًى وَرَحْمَةٌ) بالرَّفْع] هذه محَلُّها من الإعراب خبَر لمُبتَدَأ محَذوف، قدَّرَه المُفَسِّر ﵀ بقوله: [هو (هُدًى وَرَحْمَةٌ)، هُدى: بمَعنَى: دَلالة، ورحمةٌ: بمَعنَى: أن اللَّه رحِم به الخَلْق حيث أَنزَله عليهم، فالقُرآن هِداية ورحمة، مَن تمَسَّك به نجا واهتَدَى، فلا يَضِلُّ مَن تمَسَّك بهذا القُرآنِ ولا يَشقَى، لأنه هُدًى ورَحمة.
وعلى هذا فنَقول لكل إنسان أَراد العِلْم: عليك بالقرآن، لأنه هُدًى، ولكل إنسان أَراد الرحمة: عليك بالقُرآن، لأنه هُدًى، فهو (هُدًى وَرَحْمَةٌ)، ولكن ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ الذين أَحسَنوا في عِبادة اللَّه تعالى وأَحسَنوا إلى عِباد اللَّه ﷾، والإحسان ضِدُّ الإساءة، والإساءة إمَّا أن تَكون بتَرْك الواجِب أو بفِعْل المُحرَّم، فمَن ترَكَ ما أَوْجَب اللَّه تعالى عليه لنفسه من الصلاة وغيرها فليس بمُحسِن، ومَن فعَلَ ما حرَّمَ اللَّه تعالى عليه فليس بمُحسِن، ومَن ترَكَ ما يَجِب للناس من صِلة الرَّحِم وبِرِّ الوالِدين والإحسان إليهم فليس بمُحسِن، ومَنِ اعتَدَى عليهم فليس بمُحسِن.
1 / 16
وقوله تعالى: ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ يُستَفاد منه أنه كلَّما ازداد الإنسان إحسانًا ازداد انتِفاعًا بالقُرآن بالهِداية والرحمة، بِناءً على القاعِدة: أنَّ الحُكْم إذا عُلِّق بوَصْف كان يَقوَى بحسَب وجود ذلك الوَصْفِ.
وقوله ﷾: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾ فهل غير المُحسِنين لا يَهتَدون به ولا يُرحَمون؟
الجَوابُ: نعَمْ؛ لأن المُحسِنين هم الذين يَنتَفِعون بذلك، وإلَّا فهو هُدًى للناس كلِّهم مَصدَر هِداية للجَميع، لكن لا يَنتَفِع به إلَّا الذين أَحسَنوا.
قال ﵀: [وفي قِراءة العامة بالنَّصْب حالًا من الآيات] غَريبٌ هذا التَّعبيرُ من المُفَسِّر ﵀ فقوله: [وفي قِراءة العامَّة] يَفهَم منه مَن لا يَعرِف الاصطِلاح أن المُراد بالعامَّة عامَّة الناس، ما سِوى العُلَماء، وهذا ليس كذلك، إنما المُراد بالعامَّة عامَّة القُرَّاء ما عدا قارِئًا واحِدًا الذي قرَأَ بالرَّفْع؛ فقال: [بالنَّصْب حالًا من الآيات، العامِل فيها ما في ﴿تِلْكَ﴾ ومِن مَعنَى الإشارة].
فقوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ حالَ كونها ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾، فإذا قال قائِل: الحال تَحتاج إلى عامِل مثل: الظَّرْف والجارِّ والمَجرور والمَفعول به، فما هو العامِل؟
فالجَوابُ: العامِل فيها ما في ﴿تِلْكَ﴾ من مَعنَى الإشارة؛ فـ ﴿تِلْكَ﴾ اسمٌ جامِد غير مُشتَرَط، لكنه بمَعنَى: أُشير، فإذا قلت: هذا زيدٌ. المَعنَى: أُشيرُ إليه، فـ ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾ بمَعنَى: أُشير إلى هذه الآياتِ، فلمَّا كانت مُتضَمِّنة لمَعنَى الفِعْل صارت صالحِة لأَنْ تَكون عامِلًا في الحال.
1 / 17
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: التَّرْغيب في هذا القُرآنِ؛ لقوله تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾، وكل أحَدٍ منَّا يَطلُب الهُدى والرحمة، فهو هدًى في العِلْم ورحمة في العمَل، إذ إن العامِل به يَنال رحمة اللَّه تعالى، والمُهتَدِي به على هدًى وبصيرة.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن القُرآن الكريم جمَع الخيرَ كلَّه، فهو عِلْم نافِع؛ لقوله تعالى: ﴿هُدًى﴾، وعمَل صالِح؛ لقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَةً﴾؛ لأن الرحمة لا تُنال إلَّا بالعمَل الصالِح.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الحثُّ على الإحسان؛ لقوله تعالى: ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن الإحسان سبَب لنَيْل العِلْم والعمَل الصالِح، لما جعَله هُدًى ورحمةً للمُحسِنين.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنه كلَّما ازداد إحسان العبد ازداد عِلْمه وعمَله الصالِح؛ لأن الحُكْم إذا عُلِّق على وَصْف ازداد بزيادته ونقَص بنَقْصه كما تَقدَّم.
* * *
1 / 18
الآية (٤)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [لقمان: ٤].
* * *
قوله ﵀: [﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ بَيان للمُحسِنين] وعلى هذا فلا تَكون نعتًا، بل تَكون بيانًا أي: عَطْفَ بيان؛ والمُحسِنون هم: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ يَعنِي: يَأتون بها قويمة تامَّة، وقوله ﷾: ﴿الصَّلَاةَ﴾ يَشمَل الفريضة والتَّطوُّع، فإقامتها بفِعْل الواجِبات، وتَرْك المُفسِدات، وكذلك تَتِمُّ الإقامة بفِعْل المُكمِّلات والمُستَحبَّات.
قوله تعالى: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ أي: يُعطونها، والزكاة هي جُزْء مُقدَّر شرعًا في مال خاصٍّ لطائِفة مخَصوصة، ومَفعول ﴿وَيُؤْتُونَ﴾ الثاني مَحذوف تَقديرُه: ويُؤتون الزكاة أهلَها. وإنما جاز حَذْفه، لأنه فَضْلة، وقد سبَق أن جميع المَفاعيل الفَضْلة يَجوز حَذْفها.
وقوله تعالى: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ سُمِّيَ هذا المالُ المُؤدَّى زكاةً؛ لأنها تَزكو بها أخلاق المُزكِّي، ويَزكو بها المال أيضًا ويَزيدُ، لأن الزكاة في اللغة النَّماء والزِّيادة.
ولم يَذكُرِ اللَّه من الأفعال إلَّا الصلاة والزكاة، وقرَن بينهما في القرآن كثيرًا، وذلك لأنهما آكَدُ أركان الإسلام بعد الشَّهادتين، وتَرْكهما جميعًا مُوجِب للكُفْر،
1 / 19
وأمَّا تَرْك واحِدة منهما؛ فالصلاةُ: الصحيح أنه يَكفُر، والزكاةُ: الصحيح أنه لا يَكفُر.
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾: ﴿هُمْ﴾ مُبتَدَأ و﴿بِالْآخِرَةِ﴾ جارٌّ ومجَرور مُتعلِّق بـ ﴿يُوقِنُونَ﴾، و﴿هُمْ﴾ الثانية يَقول المُفَسِّر ﵀: [﴿هُمْ﴾ الثانية تَأكيد] تَأكيد لفظيٌّ لـ ﴿هُمْ﴾ الأُولى.
قال ابنُ مالِك ﵀:
وَمَا مِنَ التَّوْكيدِ لَفْظِيٌّ يَجِي ... مُكَرَّرًا كَقَوْلكَ: ادْرُجِي ادْرُجِي (^١)
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ المُراد بالآخِرة يوم القِيامة، وسُمِّيَ آخِرة؛ لأنه آخِرُ ما يَكون، فالإنسان له أَربَع مَراحِلَ:
المَرحَلة الأُولى: في بَطْن أُمِّه.
والمَرحَلة الثانِية: في الدنيا.
والمَرحَلة الثالِثة: في البَرزَخ.
والمَرحَلة الرابِعة والأخيرة: يَوم القِيامة.
وقوله تعالى: ﴿بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ الإيمان بالآخِرة ليس مَعناه أن تُؤمِن بأن القيامة ستَقوم فقَطْ، قال شيخ الإسلام ابن تَيميَّةَ ﵀ في العَقيدة الواسِطية (^٢): "وقد دَخَل في الإيمان باليوم الآخِر: الإيمان بكلِّ ما أَخبَر به النبيُّ ﷺ ممَّا يَكون بعد الموت"، فيَشمَل فِتْنة القَبْر، وعذاب القَبْر، ونعيم القَبْر، والصِّراط، والحِساب، والميزان، والكُتُب التي تُنشَر يوم القيامة، وغير ذلك.
_________
(^١) الألفية (ص ٤٦).
(^٢) العقيدة الواسطية (ص ٩٥).
1 / 20
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن إقامة الصلاة من الإحسان؛ لأن ما بعدَها بيانٌ لها: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن الصلاة أَحبُّ الأعمال إلى اللَّه تعالى؛ لأن اللَّه تعالى قدَّمها على إيتاء الزكاة مع أن إيتاء الزكاة فيه نَفْع فتَعدٍّ للغير، ولكن الصلاة أحَبُّ إلى اللَّه تعالى منها وأفضَلُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الحثُّ على إقامة الصلاة، يُؤخَذ ذلك من: ثَناء اللَّه تعالى على المُقيمين لها، والثَّناء لا يَكون إلَّا على فِعْل شيء مَحبوب مَرغوب من اللَّه تعالى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فَضْل إيتاء الزكاة، وأنها تَلي الصلاةَ في الفضيلة؛ لقوله تعالى: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: الثناء على مَن أَيْقَن بالآخِرة؛ لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: إثبات البَعْث.
* * *
1 / 21
الآية (٥)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [لقمان: ٥].
* * *
القرآن الكريم أحيانًا يُكرِّر الآياتِ بعَيْنها، فهذه الآيةُ مُكرَّرة في سورة البقَرة، وإن كان فيها اختِلاف يَسيرٌ في الآية الأُولى التي قبلها، أمَّا قوله ﷿: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فهي آية واحِدة.
قوله تعالى: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أَتَى بـ ﴿عَلَى﴾ الدالَّة على الاستِعْلاء، يَعنِي: أنهم على هُدًى يَسيرون عليه، وهم به عالون مُرتَفِعون؛ لارتفاع مَرتَبَتهم.
وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هذه الجُملةُ جُملة اسمِيَّة مُؤكَّد خبَرها بضمير الفصل، وهو قوله ﷾: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فإنَّ ﴿هُمُ﴾ ضمير فَصْل، وضَمير الفَصْل يُفيد ثلاث فَوائِدَ:
الفائِدةُ الأُولى: الفَصْل بين الصِّفة والخبَر.
والفائِدةُ الثانِية: الحَصْر.
الفائِدةُ الثالِثة: التوكيدُ.
فإذا قلت: (زَيْدٌ القائِمُ)، هذا: مُبتَدَأ وخبَر، لكن يُحتَمَل أن تَكون (القائِمُ) صِفةً لـ (زَيدٌ) وأن الخبَر مُنتَظَر: (زَيدٌ القائِمُ فاضِلٌ) مثَلًا، فإذا قلت: (زيدٌ هو القائِمُ)،
1 / 22
تَعيَّن أن تَكون (القائِمُ) خبَرًا، ففَصَلت الآن بين الصِّفة والخبَر، كذلك إذا قلت: (زَيدٌ هو القائِمُ)، فإنه يُفيد الحصر، (زيدٌ هو) يَعنِي: لا غيره هو (القائِمُ)، كذلك إذا قلت: (زيدٌ هو القائِمُ)، أَبلَغُ في التوكيد من قولك: (زيدٌ القائِمُ).
فهنا قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ يَعنِي: لا غيرهم، والمُفلِح يَقول المُفَسِّر ﵀: [هو الفائِزُ] والفائِزُ هو السَّعيد، والمُفلِح يَقولون: إنه مَن أَدرَك المَطلوب ونجا من المَرغوب، فحصَل له ما يُريد وسلِم ممَّا لا يُريد.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن المُتَّصِفين بما تَقدَّم همُ الذين على الهُدَى، فيَتَفرَّع على ذلك: أن مَن خالَف فيما تَقدَّم فليس على هُدًى، وأنه فاته من الهُدى بقَدْر ما فاته من العمَل واليَقين.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إظهار فَضْل اللَّه ﷾ على هَؤلاءِ الفُضَلاءِ؛ لقوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الإشارة إلى أن رُبوبية اللَّه ﷾ نوعان: عامَّة، وخاصَّة؛ فالعامة: لجميع الخَلْق ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، والخاصَّة: للمُؤمِنين.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن بهذه الأَعمالِ الفاضِلةِ الجليلة والاعتِقادات النافِعة يَحصُل الفَلاح؛ لقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنه لا سَبيلَ إلى الفَلاح إلَّا بذلك؛ وجهُه: الحَصْر في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
* * *
1 / 23
الآية (٦)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: ٦].
* * *
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾: (مِن) للتَّبعيض، والجارُّ والمَجرور خبَر مُقدَّم، و﴿مَنْ يَشْتَرِي﴾ مُبتَدَأ مُؤخَّر.
وقوله ﷿: ﴿مَنْ يَشْتَرِي﴾ مَعنَى الاشتِراء: الاختِيار، يَعنِي: مَن يَختار، وعبَّر عن الاختِيار بالاشتِراء إشارةَ إلى حِرْصهم على هذا الأَمرِ؛ لأن الاشتِراء إنما يَكون بالمُعاوَضة، فكأنهم لقُوَّة اختِيارهم هذا الشيءَ بذَلوا فيه أموالهم ليَنالوه.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ الفَرْق بين (يَشتَري) و(يَشْري) أن (يَشرِي) بمَعنَى: يَبيع، و(يَشتَرِي) بمَعنَى: يَبتاع، وعند الناس أن الشِّرَى هو الاشتِراء، وليس كذلك، قال اللَّه تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ يَشرِي نفسه يَعنِي: يَبيعُها، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ١١١]، اشتَرَى أَنفُسهم فهم بائِعون.
وقوله ﵀: [﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ أي: ما يُلهِي منه عمَّا يَعنِي] ﴿لَهْوَ﴾ مُضافة إلى ﴿الْحَدِيثِ﴾ من باب إضافة الشيء إلى نَوْعه، فالإضافة على تَقدير (مِنْ) كما يُقال: ثُوبُ خَزٍّ، ثوبُ صُوفٍ، خاتَمُ حَديدٍ، خاتَمُ فِضةٍ، وما أَشبَه ذلك؛ فهي على
1 / 24