Tafsir Al-Uthaymeen: Ar-Rum
تفسير العثيمين: الروم
प्रकाशक
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٣٦ هـ
प्रकाशक स्थान
المملكة العربية السعودية
शैलियों
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أثناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقات فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى - لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحِ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة الروم
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
وبَعد: قال المُفَسِّر (^١) ﵀: [مَكِّيَّة إلا آيَة ١٧، فمدنيَّةٌ، وآياتها ستون] اهـ.
المكَّيُّ هو الَّذي نزل قبْلَ الهجرة، والمدَنِيُّ ما نزل بعدها سواءٌ نزل في مكَّة أم لا، وعلى هَذا فإن قوْلُه تَعالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، هو من المدنيِّ، رغم أنه نزلَ بعرفَة يومَ حجة الوداع، أي قَد نزلَ بمكة.
وقوله: [وآياتها ستون]: أو تِسعٌ وخمسُونَ آيةً، إِنْ جعلنا ﴿الم﴾ آيةً مستقلَّةً صارتْ سِتِّينَ آيةً، وإِلَّا فتِسعٌ وخَمْسونَ.
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ اللهُ ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
تقدَّم (^١) أنَّ البسملةَ آيَةٌ مستقلَّة يُؤْتَى بِها فِي ابتداءِ السّوَرِ، وليست تابِعَةً لما بعدَها لَا فِي الفاتِحَةِ ولا في غيرِها؛ خِلافًا لِبعضِ العلَماء الَّذِين يقُولونَ هِي آية مِن الفاتحةِ، فيحْسِبُونَ الفاتِحَةَ سبع آياتٍ منْهَا البسملة، ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾ [الفاتحة: ١ - ٧]، هَذِهِ سبْعٌ بالبسملةِ، والصّحِيحُ أنَّ البسملةَ ليست آيةً مِن الفاتِحَةِ ولَا مِنْ غيرِها، فأوَّلُ آياتِ الفاتحة هِي: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
فإن قِيلَ: لكنها سبعُ آياتٍ بالِاتِّفاق، فأَيْنَ الآيَةُ السّابِعَةُ؟
قُلْنَا: قوْله تَعالَى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ آيتَان، فقوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هو الآيَة السَّادِسة، و﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هو الآيَةُ السّابعةُ، وفي المصحَفِ المنتشر بينَ النّاس نجدُ أن البسملةَ مِن الفاتحةِ آيةً، ومنْ غيرِها ليسَتْ آيةً، ولكِنَّ الصّحِيحَ أَنَّه لا فرقَ.
_________
(^١) انظر الكلام على البسملة في (تفسير سورة الفاتحة) لفضيلة الشّيخ ﵀.
1 / 9
الآية (١)
قَالَ اللهُ ﷿: ﴿الم﴾.
* * *
قال المُفَسِّر ﵀: ﴿الم﴾ الله أَعْلَم بِمُرَادِهِ فِي ذَلِكَ] اهـ.
نعم، إذا لم نعلم شيئًا فالواجبُ أن نقولَ: "الله أعلمُ بما أرادَ"، وَهَذا قدْ قِيل أنَّه نِصْفُ العلْمِ (^١)، لأَنَّ الإنسان إمَّا عالمٌ وإِمّا جَاهِلٌ، فإِذَا قَال فِيما يعْلَمُ بما عَلِم وفيما يجْهَل: "الله أعلم" صارَ نِصْف العلْمِ، ولَا شَكَّ أنَّ قولَ الإنسان: "الله أعْلَمُ" فيما لم يعلَمْه هُو الواجِبُ، فَلا تقُلْ: إِذا قلْتُ: "لا أَدْري" نقَص قدْرِي عندَ النّاسِ، فإنَّ قدْرَك عِنْد النّاس لنْ ينْقُص بل سيزْدَاد عنْدَهم، فكَمَا أنَّه لا ينْقُص عنْدَ الله فإِنَّهُ لَا ينْقُص عنْدَ النّاس؛ لأَنَّ النّبيّ ﵊ يقول: "مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إلا رَفَعَهُ الله" (^٢)، وَهَذا مِن بَاب التّواضُع للهِ أنَّك تقُولُ فِيما لا تعلَمُ: "لا أعلم"، وهُوَ نظِيرُ العفْوِ لا يَزِيدُ الإنسان إلا عِزًّا، ونَظِيرُ الصّدقَةِ لا ينْقُص بِها المالُ (^٣)، فكَذَلِك قولُ: "لا أدري" لا ينْقُص بِه قدْرُ الإنسان في العِلْم، بَلْ يزْدَادُ لأَنَّ النّاس إِذا رَأَوْا هَذا
_________
(^١) أخرجه الدّارمي (١/ ٦٣) والفقيه المتفقه (٢/ ٣٦٩) عن الشّعبي في قولة: (لا أدري).
(^٢) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (٢٥٨٨).
(^٣) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (٢٥٨٨)، ونصه: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لله إِلَّا رَفَعَهُ الله".
1 / 11
الرّجُلَ محتَرِزًا يقُولُ فِيما يعْلَمُ ويتَوقَّفُ عمَّا لا يَعْلَمُ وثِقُوا بِه، وعرَفُوا أنَّه لا يتكلَّمُ إلا بما عَلِم.
فقول المُفَسِّر ﵀: [الله أعلم بمراده بذلك]، هَذا هُو الوَاجِبُ عَلَى كلِّ إِنْسَانٍ لا يَدْرِي مَا أرادَ الله.
ولَكِنْ إِذا رجَعْنَا إِلَى قوْله تَعالَى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣]، عَلِمْنا أنَّ هَذا القرآنَ بمُقْتَضى اللُّغَةِ العرَبِيَّةِ، وأنَّه لا تُوجَدُ فِيهِ كلِمَةٌ إلا وَهِي معْقُولَةٌ، وإلّا لَكانَ الله أنزَلَ شيْئًا لا نَعْرِفُ معْنَاهُ، فإذَا طبَّقْنَا هَذِهِ الحرُوفَ الهجَائِيَّةَ عَلَى هَذه القاعِدَةِ، والقاعِدَةُ هِي قوْله تَعالَى: ﴿جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وجَدْنا أنَّ مَثل هَذا التّركيبِ في اللُّغَةِ العرَبِيَّةِ ﴿الم﴾ لَيْس له معْنًى فيها، إِنَّما هِيَ مجمُوعَةُ حُروفٍ هجَائِيَّةٍ: (ألف، ولَامٌ، وميمٌ)، وَلِهَذا أنْتَ لا تنْطِقُ بِها فتَقُول: (ألم)، بَلْ تقُول: (ألف، لام، ميم).
إِذَنْ: فهِيَ بمقْتَضى اللِّسَانِ العرَبِيِّ الَّذي نزَل بِهِ القرآنُ لِنَعْقِلَهُ لَيْسَ لها معْنًى، وإِنَّما هِي حُروفٌ هِجائِيَّةٌ ليْس لها معْنًى في ذاتِها، وحِينَئِذٍ نَكونُ قَدْ علِمْنَا.
لَكِن مَا مُرَادُ الله بِها؟
ذَكَر شيخُ الإسْلام وكَثيرٌ مِنْ أهْلِ العلْمِ أنَّ الغرضَ منْهَا بَيان أنَّ القرآنَ مُعجِزٌ معَ كونِه مِنْ هَذهِ الحرُوفِ الهجَائِيَّة التّي يتكَلَّمُ النّاسُ بِها، فَلَمْ يَأْتِ بحُروفٍ غريبةٍ جديدةٍ حتَّى نقُولَ أنَّه أَعْجَز النّاسَ لأنَّهُ أَتَى بحُروفٍ لا يفْهَمُونَها وَلا ينْطِقُونَ بِها، بلْ هِي حُروفٌ يتَركَّبُ منْهَا كلَامُهُمْ.
إِذَنْ: فالإِعْجازُ ليس مِنْ حيْثُ الحُروفُ، يعني ليسَ أنَّه أَتى بحرُوفٍ جديدةٍ،
1 / 12
بَلْ مِن حيْثُ التّركِيبُ والسّيَاقُ والمعَانِي الجليلَةُ النّافِعَةُ، وَهَذا الَّذي ذَهَب إِلَيْهِ شَيْخُ الإسْلام لَا شَكَّ أنَّه قَوِيٌّ وأنَّ هَذه الحروفَ الهجَائِيَّةَ فِي حدِّ ذاتِها ليْسَ لهَا معْنًى، لَكِنْ لها مغْزًى ومُرَادٌ، وهُوَ أنَّ هَذا القرآنَ الَّذي أعْجَزَ كُلَّ الخلْقِ لمْ يَأْتِ بجَدِيدٍ في الحرُوفِ، وَإِنَّما هُوَ مِنَ الحرُوفِ الّتي يتكلَّمُونَ بِهَا.
وَذَهبَ بعْضُ المعَاصِرينَ إِلَى أنَّ هَذهِ الحروفَ كالمِفتَاح لِلسُّورَةِ الّتي هِيَ فِيها بمَعْنَى أنَّكَ إِذا وجَدْت (لَام، وَمِيم) مُصَدَّرًا بِها سُورَةٌ مِنَ القرآنِ فَما ذَاكَ إلا لِكَثْرَةِ (الَّلامِ والميم) فِيها، فتكُونُ كَالمِفتَاح لهَا، وَكَذلِكَ إِذَا وجدْتَ (نون) فهُوَ لكَثْرَةِ النّونِ فِيها، وَإِذا وَجدتَ فِيها (اللَّام، والرّاء) فَهِي لكَثْرَةِ اللَّامِ والرّاءِ، لكِنَّ هَذا مُنتقِضٌ، وَإِلَّا لَو اطَّردَ هَذا لَكانَ أيضًا لَهُ وَجْهٌ.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ: نحْنُ نعْلَمُ بمقْتَضَى كَوْنِ القرآنِ بِاللِّسانِ العرَبِيِّ لنَعْقِلَه أنَّ هَذهِ الحرُوفَ الهجَائِيَّةَ فِي حدِّ ذاتِها ليْسَ لها معْنًى.
1 / 13
الآية (٢)
قَالَ اللهُ ﷿: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ٢].
قال المُفَسِّر ﵀: [﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، وَهُمْ أَهْل الكتَاب، غَلَبَتْهَا فَارِسُ وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، بَلْ يَعْبُدُونَ الأوْثَانَ، فَفَرِحَ كُفَّار مكَّة بِذَلِكَ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَغْلِبكُمْ كَمَا غَلَبَتْ فَارِس الرّومَ] اهـ.
قوْله تَعالَى: ﴿غُلِبَتِ﴾: فعلٌ مبني للمجهول، و﴿الرُّومُ﴾ نائبُ فاعِلٍ، وأنَّثها فقال: ﴿غُلِبَتِ﴾، لم يقل غُلِب الرّوم معَ أن الَّذي يحارِبُهم هُمُ الرّجالُ، لكِنَّهُ أَنَّثَها باعتبارِ القبِيلَةِ، والَّذي غَلَبَها الفرْسُ، والحكْمَةُ - واللهُ أعْلَمُ - في حَذْفِ الفاعِلِ لِسَبَبَيْنِ:
السّبَبُ الأوَّلُ: لِيَكُونَ ذَلِك أعْظَمَ إِهَانَةً للْفُرْسِ، وَأنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلذِّكْرِ.
السّبَبُ الثّانِي: لِيَكُونَ هَذا أخْفَى بِالنّسْبَةِ لِذُلِّ الرّوم وخِذْلانِها، أَيْ: تَهْوينًا للأَمْرِ عَلَى الرّومِ؛ لأَنَّهُ إِذا قِيلَ لَلإنْسَانِ: أنْتَ غُلِبْتَ، أَهْونُ مِن أَنْ يُقالَ لَه: غَلبَكَ فُلانٌ؛ فإِنَّهُ إِذا قِيل لَهُ: غَلبَك فُلان صارَ معْنَاه أنَّه ذَلِيلٌ لهذَا الرّجُلِ المذْكُورِ.
وقوْلهُ ﵀: [﴿الرُّومُ﴾ هُمْ أهْلُ الكتَابِ]: ولوْ قال المُفَسِّر ﵀: (أهلُ كتابٍ) لكَانَ أحْسَنَ؛ لأَنَّ الرّوم نَصارَى، وأَهْلُ الكتَابِ يَشْمَلُ اليَهُودَ والنّصَارَى.
1 / 14
قوْلهُ ﵀: [غَلَبَتْهَا فارسُ، وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، بَلْ يَعْبُدُونَ الأوْثَانَ]؛ لأنَّهم مجوسٌ يعبدونَ النّارَ، [فَفَرِحَ كُفَّارُ مكَّة بِذَلِكَ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَغْلِبُكُمْ كَمَا غَلَبَتْ فارسُ الرّومَ]، يعني أنَّ كُفَّارَ مكَّة تفاءَلُوا بِهَذا الشّيْءِ، وقَالُوا: إِذا كان الرّوم أهلَ كتابٍ وغلبَتْهم الفرْسُ وهُمْ أهْلُ أوْثَانٍ فهَذا مِفتَاح نصْرٍ لَنا أَنْ نغْلِبَ المسْلِمِينَ الَّذِين هُمْ أهْلُ كِتَابٍ ونَحْنُ أهْلُ أوْثَانٍ.
1 / 15
الآية (٣)
قَالَ اللهُ ﷿: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ٣].
قالَ المُفَسّر ﵀: [﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾: أَيْ أَقْرَبَ أَرْضِ الرّوم إِلَى فَارِسٍ بِالجزِيرَةِ التّقَى فِيهَا الجيْشَانِ، وَالبادِي بِالغزْوِ الفرْسُ، ﴿وَهُمْ﴾ أَيْ الرّوم، ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أُضِيفَ المصْدَرُ إِلَى المفْعُولِ، أَيْ غَلَبَة فَارِسٍ إيَّاهُمْ ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ فَارِسَ] اهـ.
قوْله تَعالَى: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ قِيلَ: المعْنَى أقربَ الأرْض إِلَى فارسَ، وأنَّ فارِسَ اعتَدَوْا عَلَى الرّومِ، فحَصل القتَالُ بَيْنَهُما، وقِيلَ: إِنَّ معْنَى قوْله تَعالَى: ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ أيْ فِي أقْرَبِها إِلَى أَرْض العرَبِ، وَهَذا يرْجعُ إِلَى التّاريخِ الَّذي يحدّد موقعَ هَذِهِ المعْرَكَةِ حتَّى نعرِفَ أدْنَى الأرْض، إِنَّما لا شَكَّ أنَّ (أدْنَى) بمعْنَى أقْرَب.
قوله ﵀: [﴿وَهُمْ﴾ أي الرّوم ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أضيف المصدر إِلَى المفعول أي غلبة فارس إياهم ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ فارس]، انظر تأكيدَ هَذا الوعدِ، حيْثُ صُدِّر بالاسْمِ ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ﴾؛ لأنَّهُ إذا صُدّر بالاسْمِ صارَ جمْلَةً اسْمِيَّةً دالَّةً عَلَى الدّوامِ والثّبوتِ، وأكَّد مِنْ وَجْهٍ آخَر بقُرْبِه حيْثُ كانَ الخبَرُ مقرونًا بالسّين الدّالَّةِ عَلَى القرْب، ثمَّ أكَّدَه أيضًا بمؤكّد ثالِث وهُوَ قولُه: ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾؛
1 / 16
لِتَحَقُّق الغلَبَةِ، وأنَّ هَذا أَمْرٌ لا بُدَّ أنْ يقَعَ وَلَوْ كَانُوا مغلُوبِينَ؛ لأَنَّهُ لو حُذِف قوُله ﷾: ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ فقال: (وهم سيغلبون) لقِيلَ: سَيَغْلِبُون، ولَوْ غُلِبُوا: لقَال البعْضُ: إِذَا كَانُوا قَدْ غُلِبوا فإنَّهُم لا يَغْلِبُون، فلَمّا قَال: ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ صَارَ فِي ذَلِك تأكيدٌ للْغَلَبَةِ، فصَارَ تأكِيدُ غَلَبَةِ هَؤُلاءِ مِنْ وُجوهٍ ثلاثَةٍ.
1 / 17
الآيتان (٤، ٥)
قَالَ اللهُ ﷿: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: ٤ - ٥].
قال المُفَسِّر ﵀: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ هُوَ مَا بَيْن الثّلَاث إِلَى التّسْع أَوْ العشْر فَالتقَى الجيْشَانِ فِي السّنَة السّابِعَة مِنْ الالتقَاء الأوَّل وَغَلَبَتْ الرّوم فَارِس ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد﴾ أَيْ مِنْ قَبْل غَلْب الرّوم وَمنْ بَعْده المعْنَى أَنَّ غَلَبَة فَارِس أَوَّلًا وَغَلَبَة الرّوم ثَانِيًا بِاَمْرِ الله أَيْ إرَادَته ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ أَيْ يوم تغلب الرّوم ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ إيَّاهُمْ عَلَى فَارِس وَقَدْ فَرِحُوا بِذَلِكَ وَعَلِمُوا بِهِ يَوْم وُقُوعه أَيْ يَوْم بَدْر بِنزولِ جِبْرِيل بِذَلِكَ مَعَ فَرَحهمْ بِنَصْرِهِمْ عَلَى المشْرِكِينَ فِيهِ ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب ﴿الرَّحِيمُ﴾ بِالمؤْمِنِينَ] اهـ.
قوْله تَعالَى: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ متعلِّق بقوْله تَعالَى: ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ أي في خِلالِ هَذا البضْع، والبضْعُ هُوَ مَا بَيْن الثّلاثِ إِلَى التّسْعِ، أَوْ مَا بَيْن الثّلاثِ إِلَى العشْر، يَعْني إمَّا خمْسُ سنَواتٍ وإمّا لِستّ سنواتٍ هَذا البضْعُ، فَإِذا قُلْنا إنَّه مَا بَيْن الثّلاثِ إِلَى العشْر، فهي: (أَرْبعٌ وخمْسٌ ولِستٌّ وسَبْع وثَمانٍ وتِسْعٌ)، فَهَذِه سِتٌّ، وإِذَا قُلنَا إنَّه مَا بَيْنَ الثّلاثِ إِلَى التّسْعِ يكونُ: (أَرْبَعٌ وخَمْسٌ ولِستٌّ وسَبْعٌ وثَمَانٍ)،
1 / 18
فهذهِ خمْسُ سنَواتٍ، يَعْني الثّلاثُ غيْرُ داخِلَةٍ، لأَنَّ مَا بَيْن الشّيءِ والشّيْءِ لَا يدْخُلُ فِيه الجانِبَانِ.
قولُه ﵀: [فالتقى الجيْشَانِ فِي السّنَةِ السّابِعَةِ مِن الالتقَاء الأوَّل وغَلَبَتِ الرّوم فَارِس]: يعْنِي حَصَل بَيْنَهُما حَرْب أُخْرَى فغَلبَتِ الرّوم فارِسَ، فصَدَق بذَلِك خَبَرُ الله ﷾ بأنَّهُمْ سيَغْلِبُونَ في بِضْع سِنينَ؛ لأَنَّ الأمْر لم يتَجَاوَزْ سبْعَ سَنَواتٍ حتَّى كانَتِ الغلبَةُ لِلرُّومِ عَلَى الفرْسِ، فَصدَقَ الله وَعْدَهُ.
قوْله تَعالَى: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ المعْنَى أنَّ الغلَبَةَ تتِمُّ في خِلَالِ بِضْع سِنِينَ، ولَيْس المعْنَى أنَّ الغلبَةَ تحْصُل بعْدَ سَبعْ سَنوَاتٍ.
قوْله تَعالَى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ﴾: هَذِهِ الجملة اسميَّة قُدِّم فِيها الخبَرُ لإفَادَةِ الاخْتِصَاصِ للهِ وحْدَه، و(أل) هُنَا للاسْتِغْرَاقِ، يَعْني كُلُّ الأمْرِ، أيْ لاسْتِغرَاق الجنْس، و(أل) التي للاسْتِغْراقِ هِي التي يحِلُّ محلَّها (كُلُّ) فَإِنْ كانَتْ لاسْتِغْراقِ المعْنَى فَهِي لاسْتِغْراقِ المعْنَى، وإِنْ كَانَت لاسْتِغْراقِ الأفْرادِ فَهِي لاسْتِغْراقِ الجِنْس، فَفِي قوْلِه تَعالَى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨]، (أل) لاسْتِغراق الجِنْس؛ لأَنَّهُ يَصِحُّ أنْ يَحِلَّ محلَّها (كُلُّ)، فيُقَالُ: وَخُلِق كُلُّ إِنْسَانٍ ضَعيفًا، وَفي قوْلِه تَعالَى: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢]، هَذِهِ أيضًا لاسْتِغْراقِ الجِنْس، أيْ كُلُّ إنسانٍ، وإِنْ كانَت لاسْتِغْراقِ المعْنَى فَهِي لاسْتِغْراقِ المعْنَى، ومثَّلوا لِذَلِكَ بقَوْلهِم: (زيدٌ نِعْم الرّجُلُ)، أَي: نِعْم الشّخْصُ الجامِعُ لِصِفَات الرّجُولَةِ.
وَهِلِ المرَادُ بالأمْر هُنا الأمْرُ الكوْنِيُّ أو الأمْرُ الشّرْعِيُّ؟
والجوابُ: الأمْرُ الكوْنِيُّ، أَي أنَّ جَمِيعَ الأمورِ تَرْجِعُ إِلَى الله ﷿، المتعَلِّقَة
1 / 19
بأفْعَالِ العبادِ والمتعَلِّقَة بأفْعَالِ الله ﷾ فإِنَّها راجِعَةٌ إلَيْهِ، والأمْرُ الإلهيُّ ينْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَمْرٌ كَوْنِيٌّ وأَمْرٌ شَرْعِيٌّ.
مِثالُ الأمْرِ الكوْنِيِّ: قولُهُ تَعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢].
ومثالُ الأمْرِ الشّرْعِيِّ: قوله تَعالَى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: ٦٣]، أَي عَنْ أَمْرِه الشّرْعِيِّ، ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣]، ومِثْلُ قوْلِه تَعالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ﴾ [النساء: ٥٨]، هَذا أَمْرٌ شَرْعِيٌّ.
وعَلَيْهِ فإنَّ قوْلَه تَعالَى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦]، مِنَ الأمْرِ الكوْنِيِّ، وهَذا هُوَ المتَعَيَّنُ، فَيَأمُرُهُم الله أمرًا كونِيّا بالفسْقِ فيَفْسُقُونَ، وأمَّا مَن قَال: إِنَّ المرادَ بِالأمْر في الآيَة هُو الأمْر الشّرْعِيُّ وأنَّ الله يأْمُرُهم بالطّاعَةِ فيَفْسُقونَ ثمَّ يأْخُذُهم بِالعذابِ، فَهذا القول بَاطِلٌ لأنَّهُ يقْتَضِي أنْ يكُونَ المعْنَى أنَّ الله يُرْسِلُ الرّسُلَ فيَأْمُرونَ النّاسَ بِطَاعَةِ الله؛ لأَجْلِ أنْ يَفْسُقوا فَيِحلَّ بِهم العقابُ، وَهَذا يَرْجعُ إِلَى أنَّ المعْنَى أنَّ الله بعَثَ الرّسُلَ نِقْمَة عَلَى العبَادِ، وهُوَ أَمْرٌ لا يُمْكِنُ، ثمَّ إنَّنا نقُوُل: إنَّ الأمرَ الشّرْعِيَّ لَا يخْتَصُّ بالمتْرَفِينَ، بَلْ هُوَ عامٌّ لهُمْ ولغَيْرهمْ.
المُهِمُّ: أنَّ هَذا القوْلَ ضعيفٌ وبَاطِلٌ ويُنافي حكْمةَ الله ﷿ بإرسالِ الرّسُلِ.
فقوْلُه تَعالَى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ﴾ يُرَادُ بِه الأمرُ الكوْنِيُّ.
وقوْله تَعالَى: ﴿قَبْلُ﴾: ضُمَّتْ مَع أنَّ قبْلَها حَرْفَ الجرّ ﴿مِنْ﴾؛ لأَنَّ ﴿قَبْلُ﴾ و﴿بَعْدُ﴾ إِذَا حُذِف المضَافُ إِلَيْهِ ونُوِي مَعْنَاهُ بُنِيا عَلَى الضَّمِّ، هَذا السّبَبُ فَإِنْ
1 / 20
وُجِد المضَافُ صَارا مُعْرَبَيْنِ فتَقُول: (أَتيتُ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِي زْيدٌ) فتَجُرَّها، وَكَذلِكَ إِذا حُذِف المضَافُ إِلَيْهِ ولم يُنْوَ لَا لفْظًا ولَا معْنًى، فإِنَّها تُعْرَبُ كَقَوْل الشّاعِر (^١):
فَسَاغَ لِي الشّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا ... أَكَادُ أَغَصُّ بِالماءِ الفرَاتِ
وَكَذلِكَ إِذَا حُذِف المضَافُ إِلَيْهِ وَنُوِي لفْظُهُ فَإِنَّها تُعْرَبُ، لكِنَّها لا تُنَوَّنُ فيُقَالُ مَثلًا: (كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الدّرْسِ، فأَتَيْتُ مِنْ قَبْلِ)، أَي: مِنْ قَبْلِ ابْتِدَاءِ الدّرْس، فهُنا حُذِف المضَافُ ونُوِي لفْظُهُ، وَالَّذي دلَّنا عَلَى أنَّه نُوِي لفْظُه أَوْ نُوِي مَعْناهُ الإعْرَاب نفْسُه، فَإِذا كَانَتْ مبْنِيَّةً عَلَى الضّمِّ عَلِمْنا أنَّه قَدْ حُذِف وَأُرِيد المعْنَى، وَإِذا لَم يمُنْ كَذَلِكَ عَلِمنا أنَّهُ قدْ حُذِف وَأُرِيد اللَّفْظُ، فَإِنْ نُوِّنَتْ علِمْنا أنَّه ما أُرِيد اللَّفْظُ ولَا المعْنَى.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَو حُذِف المضاف إِلَيْهِ في كلام الله ﷿ فهل يصح أن نقول: أنَّه منوي؟
قُلْنَا: لا، لا نقول ذَلِك، لكن يصِحُّ أن نقولَ: هو المُراد، أي أنَّ الله أراد بالنّسبة للمضاف إِلَيْهِ؛ لأَنَّ الإرادَة في جنابِ الله ﷿ بمعنى النّية للخَلْق.
_________
(^١) اخْتُلِفَ في نسبة البيت، كما اخْتُلِفَ في عجزه. فنسبه العيني في المقاصد النّحوية (٣/ ٤٣٥)، إلى عبد الله بن يعرب، وعجزه: (أكاد أغص بالماء الحميم). ووافقه في النّسبة والعجز: الجرجاوي في شرح شواهد ابن عقيل (ص: ١٦٦)، والعدوي في فتح الجليل (ص: ١٦٦). ووافقه في النسبة دون العجز: الشنقيطي في الدّرر اللوامع (٣/ ١١٢)، وعجزه: (أكاد أغص بالماء الفرات)، وابن حمدون في حاشيته على شرح المكودي (١/ ٣٤٥)، وعجزه: (أكاد أغص بالماء الزّلال). ونسبه البغدادي في خزانة الأدب (١/ ٢٠٤) ليزيد بن الضعق، وعجزه: (أغص بنقطة الماء الحميم). والرّواية المحفوظة: (الحميم)، ولكن رواية: (الفرات) هي المشهورة، كما قال ابن يعيش في شرح المفصل (٤/ ٨٨)، وهي الّتي رجحها العيني، والجرجاوي، والعدوي. ويرى ابن حمدون أن رواية: (بالماء الزّلال) مناسبة لمعناها.
1 / 21
قوْلهُ ﵀ [بِأَمْرِ الله إرادته]: هَذا في الحقيقةِ تحرِيفٌ، بَلِ الصّوابُ أنَّه (بأمرِه)، أيْ بقَوْلِه، قَال تَعالَى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]، فإنَّ الله تَعالَى لَا يُقَدِّر شَيْئًا إلا بالقوْلِ، و﴿شَيْئًا﴾ نَكِرَةٌ في سِيَاق الشّرطِ فتَعُمُّ كُلَّ شَئٍ أَرادَهُ الله، فإِنما ﴿يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فالصّوابُ أنَّ المرادَ بالأمْرِ هُنا هُو القوْلُ.
وَالإرَادَةُ ليْسَت هِيَ القوْلُ فإنَّ الإرَادَةَ صِفَةٌ لا تسْتَلْزم القوْلَ إِذْ إِنَّ المرِيدَ قَدْ يفْعَلُ مَا أَرادَ، أَوْ قَدْ يقُولُهُ، وأمَّا القوْلُ فإِنَّهُ أخَصُّ مِنَ الإرَادَةِ، كُلُّ قَوْلٍ فهُوَ متضَمِّن لِلإرَادَةِ، وليْسَت كُلُّ إرادَةٍ متضمِّنَة للقوْلِ.
قوْله تَعالَى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ﴾: (يومَ) ظرفٌ متعلِّق بـ (يفرح)، وهِي مُضافَةٌ إِلَى (إِذْ)، ونُوِّنَت (إِذْ) تنْوِينَ عِوَضٍ عَن جُمْلَةٍ؛ وَلِهَذا قَال: (أَيْ يَوْمَ تَغْلِبُ الرّومُ) فالمحْذُوفُ جُمْلَةٌ، وَالفرَحُ لا يُمكن لِلإِنْسَانِ أن يُعَبِّر عنْهُ، لذا قد نقول: الفرح خِفَّةُ النّفْسِ وسُرُورُ النّفْسِ، أَوْ نَقُولُ: الفرَحُ معْلُومٌ؛ وَلِهَذا نَجِدُ صاحِبَ القامُوسِ إِذا عرَّف مثْلَ هَذِهِ الأشْيَاء قَال: (م) (^١)، يعْنِي أنَّه مَعْرُوفٌ وَلا حاجَةَ لأنْ يُبَيَّن.
وقوْله تَعالَى: ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾: المرَادُ بِهم النّبيّ ﷺ وأصحَابُهُ.
وقوْله تَعالَى: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾: متعلِّق بـ (يفْرَحُ) وهُو مصْدَر مُضَافٌ إِلَى فاعِلِه، أمَّا مفعولُه فمَحْذوفٌ، وتقْدِيرُه (بِنَصْر الله الرّوم عَلَى الفرْسِ)، وَلِهَذا قَال المُفَسِّر ﵀: [بِنَصْرِ الله إِيَّاهُمْ عَلَى فَارِسَ]، والنّصُر معْناهُ العوْنُ والظّهورُ، أَيْ أنَّ الله يُعِينُهُم حتَّى يَظْهَرُوا عَلَى أعْدَائِهم.
_________
(^١) هو الفيروزآبادي في القاموس المحيط، ومن ذلك قوله في (ص: ٣٧): "الحدَأَةُ، كَعِنَبَةِ: طَائِرٌ م، ج: حِدَأٌ وحِدَاءٌ وحِدْآنٌ بالكسْرِ".
1 / 22
وسُمِّي ذَلِك نَصْرًا مَع أنَّه لِكُفَّارٍ عَلَى كُفَّارٍ لأنَّ النّصْر هُو العوْنُ والظّهُورُ، وهُوَ لا فَرْق بَيْن أنْ يكُونَ بَيْن مُؤْمِنٍ وكَافِرٍ، أَوْ بَيْن كافِرٍ وكافِرٍ، ثمَّ إِنَّ أهْلَ الكتَابِ أقْرَبُ مِن الفرْسِ؛ وَلِهَذا لهمْ أحْكَامٌ خاصَّةٌ تُقرِّبُهم مِنَ المسْلِمِينَ.
قولُه ﵀: [فَرِحُوا بِذَلِكَ وعلِمُوا بِهِ يَوْمَ وُقوعِهِ يَوْمَ بَدْرٍ بِنُزولِ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ مَع فَرَحِهم بِنَصْرِهِمْ عَلَى المشْرِكِينَ فِيهِ]، يعْنِي أنَّ الواقِعَة حصَلَتْ بَيْن فارِسَ والرّومِ في الزّمَن الَّذي حَصلَتْ فِيه الواقِعَةُ بيْنَ الكفَّار وَالمؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ في بَدْرٍ، وَعَلى هَذا فتكُونُ هَذِهِ الآيَة نَازِلَةً قبْلَ الهجْرَةِ بخَمْسِ سَنَواتٍ؛ لأنَّهُ إِذا كانَتِ المدَّةُ التي حصَلتْ فِيها الغلَبَة سبْعَ سنَواتٍ، وبَدْرٌ كانَتْ فِي السّنَةِ الثّانِيَةِ لَزِم أنْ يكُونَ نُزولُ الآيَة وغَلَبَةُ فَارِسَ لِلرُّومِ قبْلَ الهجْرَةِ بخَمْسِ سَنوَاتٍ.
وقولُهُ ﵀: [مَع فَرَحِهِمْ بِنَصْرِهِمْ عَلَى المشْرِكِينَ فِيهِ]، فيَكُونُ فِي هَذا الزمَنِ اجْتَمعَ نصرُ أهْلِ الكتابِ عَلَى المجُوسِ ونَصْرُ المسْلِمينَ عَلَى المشْرِكِينَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل قولُ المُفَسّر ﵀ علَيْه دَليلٌ نقْلِيٌّ؟
فالظّاهِرُ أنَّه تابعٌ للتَّارِيخِ فقَطْ، أمَّا عَنِ الرَّسُولِ ﵊ فَلا يُوجَدُ دَلِيلٌ، لكنَّ التّارِيخَ يقُولُ هَذا.
قوْله تَعالَى: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾: هَذِهِ عامَّةٌ تعُمُّ كلَّ منْصُورٍ، سواءٌ كانَ المنْصُورُ كافِرًا أوْ مؤمِنًا؛ لأَنَ الأمْرَ بيَدِ الله ﷾، وكُل شيْءٍ مقيَّدٌ بالمشِيئَةِ فإِنَّهُ يتضَمَّنُ الحكْمَةَ؛ لأَنَّ الله تَعالَى لا يَشَاءُ شيْئًا إلا لحِكْمَةٍ، فينْصُرُ مَنْ يشَاءُ نصْرَه لحكْمَةٍ اقتْضَتْ ذلِكَ.
قوْله ﵀: [﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب]: هَذا أحَدُ مَعانِي العزَّةِ؛ لأَنَّ العزَّةَ
1 / 23
تنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَة أقْسَامٍ: عِزَّةُ القدْر، وعِزَّةُ القهْر، وعِزَّةُ الامتِنَاعِ.
عِزَّةُ القدْر: بمعْنَى أنَّه ﷾ عظِيمُ القدْر، وكُلَّما كانَ الشّيْءُ عظِيمَ القدْرِ كان عزيزًا، أيْ قَلِيلَ الوُجُودِ، وَاللهُ ﷾ لَا مِثل لَهُ، عَظِيم لا نَظِيرَ لَهُ في قدْرِه وعظَمَتِهِ.
وعِزَّةُ القهْر: بمعْنَى الغلَبَةِ والظّهُورِ، بمعْنَى أنَّه قاهِرٌ وَغَالب لكُلِّ شيْء.
وعِزَّةُ الامتِنَاعِ: معْنَاها امْتِنَاعُ جَمِيع النّقْصِ علَيْه ﷾، أيْ أنَّه يمتَنِعُ علَيْه كُلُّ نقْصٍ، ومِنْ هَذا المعْنَى قولُهُم: (أَرْض عَزَازٌ) (^١)، أي الصّلْبَةُ التي يمتَنِعُ أن يُؤثِّر فِيها شيْءٌ.
فالله ﷿ متَّصِفٌ بالعزَّةِ مِن جَمِيعِ هَذِهِ الوُجُوهِ الثّلَاثةِ.
وقوْله ﵀: [﴿الرَّحِيمُ﴾ بالمؤمنين]: استدلَالٌ بقوْلِه تَعالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣]، والصّوابُ أنَّ رحمَةَ الله تَعالَى تكُونُ عامَّةً وخاصَّةً، فإنَّ كُلَّ مَن في السّموَات وَالأرْض فَهُم في رَحْمَةِ الله العامَّةِ، ولَوْلا هذِهِ الرّحْمَةُ العامَّةُ لما بَقِي أحدٌ مِن الكفَّارِ، فكَوْنُ الله يُدِرُّ عليْهِمُ الأرْزَاقَ والعافِيةَ وَالنّشاطَ والعقْل ومَا أشْبَه ذَلِك لا شَكَّ أنَّه مِن رحْمَةِ الله، ولكِنَّ الرّحْمةَ التي تَكُونُ بِها رَحمَةُ الدّنيا والآخرةِ خَاصَة بالمؤمِنِينَ.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أنَّ كَلامَ الله ﷿ بالحروفِ، يَعْني ﴿الم﴾ حُرُوفٌ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الأشْعَرِيَّةِ الَّذِين يقُولونَ إِنَّ كَلامَ الله هُو المعْنَى القائِمُ بالنّفْسِ ولَيْسَ الحرُوفَ،
_________
(^١) تاج العروس من جواهر القاموس (١٥/ ٢٢٢)، ولسان العرب (٥/ ٣٧٤).
1 / 24
وَأنَّ هَذِهِ الحرُوفَ مخلُوقَةٌ لِتعبِّر عَن هَذا المعنى القائِم بنفسِهِ، ثمَّ يقُولونَ أيضًا: إِنَّ هَذا المعْنَى القائِمَ بالنّفْسِ لا يتَغَيَّرُ ولَا يخْتَلِفُ، فهُوَ واحِدٌ سوَاءً كانَ اسْتِفْهامًا أوْ خبَرًا أو أمْرًا أو نَهْيًا أو قُرآنا أوْ زَبُورًا أو تَوْرَاةً أو إِنْجِيلًا، فالتوْارَةُ هِي الإنْجِيلُ وهِي القرآنُ وهِي الزّبُورُ وهِي صُحُفُ إِبْراهِيمَ وصُحُف مُوسَى، ويقُولونَ أنَّها اخْتَلفَتْ في التّعْبيرِ، فَإِن عَبَّر عَن هَذا الكلامِ بالعرَبِيَّةِ صارَ قُرآنًا، او بالعبْرَّيةِ صَار تَوْرَاةً، أوْ بالسُّرْيانِيَّة صارَ إِنجيلًا، أوْ بلُغَةِ داوُدَ صَار زَبُورًا ... وهَكذا، وتصُوُّرُ هَذا غْيرُ ممكنٍ، وَهُو معْنًى غْيرُ معقولٍ، ثمَّ يقُولونَ أيضًا: إنَّ الاسْتِفْهام وَالخبْر معنَاهُما واحِدٌ، فإِذا جَاء اسْتِفْهام مِنَ الله ﷿ فَهُو كالخبَرِ عنْهُ ومعناهما واحدٌ، وَلا شك أن مجرَّد تصورِ هذَا القولِ كافٍ في رَدِّه وإبْطَاله.
الفائدة الثانية: إثْبَات عِلْمِ الله بِالغيْبِ؛ لقوْلِه تَعالَى: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.
الفائدة الثالثة: إثْبَات رِسالَةِ النبيّ ﵊؛ لأَنَّ الإخبارَ عَنِ الغيْبِ لَا يكُونُ إلا بِوَحْيٍ.
الفائدة الرابعة: أنَّ الله ﷾ كَامِلُ السّلْطانِ والتّدْبيرِ؛ لقوْلِه تَعالَى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾.
الفائدة الخامسة: أنَّ كُل الأشْيَاء لَا تَكونُ إلا بِأَمْرِ الله؛ لأَنَّهُ لما قَالَ: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾، قَال: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد﴾.
إِذَنْ: فكوْنُهُمْ غلِبوا فَبِأَمْرِ الله، وكَذِلك انْتِصارُهم بِأمْرِ الله، فكُلُّ الأمُورِ بتَقْديرِ الله تَعالَى وأمْرِه، فكُلُّ الأشْيَاء بِأَمْرِه ﷾.
1 / 25
الفائدة السّادسَة: الرّدُّ عَلَى القدَرِّيةِ الَّذِين يقُولونَ باسْتِقْلالِ العبْد بفِعْلِه، فَهُم يقُولونَ: إِنَّ العبْدَ مسْتَقِلٌّ بفعْلِه ولَيْس للهِ تَعالَى فِيه تقْدِيرٌ ولَا أَمْرٌ ولَا إِنْشاءٌ ولَا مَشِيئَةٌ.
الفائدة السابعة: جَوازُ التّعْبيرِ بمَا يُدْخِلُ الخوفَ وَالحزْنَ عَلَى العدُوِّ؛ لأَنَّ قوْلَه تَعالَى: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ وهِي مِن ثَلاثَةٍ إِلَى عَشْرٍ، أَو إِلَى تِسْعٍ، معْنَاه أنَّه سيَبْقَى هَؤُلاءِ الفرْسُ في ذُعْرٍ وخَوْفٍ، كُلَّ سنَةٍ تَأْتِي يقُولونَ: هَذِهِ سَنَةُ الغلَبَةِ، ولَا شَكَّ أنَّ هَذا مما يَزِيدُهم ذُعرٍ وخوفًا؛ لأنَّهُم لَو غُلِبوا في أوَّلِ سنَةٍ انْتَهى الأمْرُ، لكِنَّ كوْنَهُم يتوَعَّدُون بأَمْرٍ لا يُدْرَى في خِلالِ سَبع سِنِينَ لَا شكَّ أنَّهُ أشَدُّ علَيْهِم مِنْ أنْ يَأْتِي الأمْرُ وَيَنْتِهي.
الفائِدَةُ الثّامِنةُ: أنَّ مِن البلاغَةِ حذْفَ الفاعِلِ إِذْلالًا لَهُ وإِهانَةً؛ لقوْلِه تَعالَى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، فلَمْ يَذْكُر الغالب إِذلالًا لهم، وَرِفْقًا بِالرّومِ.
الفائدة التاسعة: جَوازُ فَرَحِ المؤْمِنينَ بانْتِصَارِ بعْضِ الكفَّار بعضِهم عَلَى بعْضٍ، إِذا كَان في ذَلِك مصلَحَة للإِسْلَامِ، لقوْلِه تَعالَى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ﴾، ما انْتَصر مُسلِمُون عَلَى كُفَّار، بَلِ انْتَصر كُفَّار عَلَى كُفَّارٍ، لكنَّ هَذا في مصلحَةِ الإسْلام؛ فلَا بأْسَ أنْ نفْرَح بانْتِصارِ بعضِهم عَلَى بعْضٍ إِذا كانَ المنتَصِرُ فِيه نفْعٌ للإسلامِ، ثمَّ يُساعِدُون المسْلِمينَ بِالمالِ والسّلاحِ، أَوْ عَلَى الأقَلِّ قدْ كَفَّ شرَّهُ مَع أنَّ الثّانِيَ فيه شرٌّ لكِنَّهُ أقَلُّ شرًّا مِن هؤُلاءِ.
فعَلى هَذا إذا اقتَتَلَتْ دوْلَتانِ مِنْ دُوَلِ الكفَّار وكانَتْ إِحْداهُما أَقْربَ إِلَى نفْعِ المسْلِمين مِنَ الأخرى، فهلْ فرَحُنا بانتصارِها جَائِزٌ، أم نقولُ: كيفَ نَفْرَح بانْتِصارِ كَافِرٍ عَلَى كَافِرٍ، فهو حرامٌ؟
1 / 26